الكتاب: السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير المؤلف: شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (المتوفى: 977هـ) الناشر: مطبعة بولاق (الأميرية) - القاهرة عام النشر: 1285 هـ عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير الخطيب الشربيني الكتاب: السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير المؤلف: شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (المتوفى: 977هـ) الناشر: مطبعة بولاق (الأميرية) - القاهرة عام النشر: 1285 هـ عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة الحمد لله، الملك السلام، المهيمن العلام، شارع الأحكام، ذي الجلال والإكرام، الذي أنزل القرآن بحسب المصالح منجماً، وجعله بالتحميد مفتتحاً وبالاستعاذة مختتماً، وأوحاه على قسمين: متشابهاً ومحكماً، فسبحان من استأثر بالأوّلية والقدم ووسم كل شيء سواء بالحدوث عن العدم ومنّ علينا بنبيّنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأنعم علينا بكتابه المفرّق بين الحلال والحرام، والصلاة والسلام على خير من أوحي إليه حبيب الله أبي القاسم محمد النبي الأميّ المثبّت بالعصمة المؤيّد بالحكمة، وعلى جميع الأنبياء والملائكة البررة الكرام، عدد ساعات الليالي والأيام، وعلى آله الأطهار وخلفائه وجميع المهاجرين والأنصار وعلى بقية الصحابة الأخيار، صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين آناء الليل وأطراف النهار. أما بعد: فيقول فقير رحمة ربه القريب محمد الشربيني الخطيب: إن الله جلّ ذكره أرسل رسوله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين بشيراً للمؤمنين ونذيراً للمخالفين، أكمل به تبيان النبوّة وختم به ديوان الرسالة، وأنزل عليه بفضله كتاباً ساطعاً تبيانه قاطعاً برهانه، ناطقاً ببينات وحجج، قرآناً عربياً غير ذي عوج، مفتاحاً للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقاً لما بين يديه من الكتب السماوية حسناته ظاهرة باهرة في وجه كل زمان، دائراً من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، أعجز الخليقة عن معارضته وعن الإتيان بسورة من مثله في مقابلته، ثم سهّل علة الخلق مع إعجازه تلاوته، ويسّر على الألسن قراءته، أمر فيه وزجر وبشّر وأنذر فهو كلام معجز في رقائق منطوقة ودقائق مفهومة، لا نهاية لأسرار علومه. وقد ألّف أئمة السلف كتباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 في معرفة أحكامه ونزوله كل على قدر فهمه، ومبلغ عمله، فشكر الله تعالى سعيهم ورحم كافتهم، ثم خطر لي أن أقتفي أثرهم وأسلك طريقتهم لعل الله أن يرزقني من مددهم ويعود عليّ من بركتهم فتردّدت في ذلك مدّة من الزمان خوفاً من الدخول في هذا الشأن لقوله صلى الله عليه وسلم «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وقول سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قال في القرآن برأيه» وفي رواية بغير علم: «فليتبوّأ مقعده من النار» وقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما سئل عن قوله تعالى: {وفاكهة وأبا} (عيسى، 80) فقال: «أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم» إلى أن يسر الله تعالى لي زيارة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى سائر النبيِّين والآل والصحب أجمعين في أوّل عام تسعمائة واحد وستين، فاستخرت الله تعالى في حضرته بعد أن صليت ركعتين في روضته وسألته أن ييسر لي أمري فشرح الله سبحانه وتعالى لذلك صدري فلما رجعت من سفري واستمرّ ذلك الانشراح معي، وكتمت ذلك في سرّي، حتى قال لي شخص من أصحابي: رأيت في منامي إما النبيّ صلى الله عليه وسلم أو الشافعيّ يقول لي: قل لفلان يعمل تفسيراً على القرآن فعن قليل إلا وقد قرّرت في وظيفة مشيخة تفسير في البيمارستان ثم سألني بعد ذلك جماعة من أصحابي المخلصين وعلى اقتباس العلم مقبلين بعد أن رأوني فرغت من شرح «منهاج الطالبين» أن أجعل لهم تفسيراً وسطاً بين الطويل الممل والقصير المخل، فأجبتهم إلى ذلك ممتثلاً وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنّ رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً» واقتداءً بالماضين من السلف في تدوين العلم إبقاءً على الخلف، وليس على ما فعلوه مزيد، ولكن لا بدّ في كل زمان من تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجدّ والجهد، تنبيهاً للمتوقفين، وتحريضاً للمتثبطين، وليكون ذلك عوناً لي وللقاصرين مثلي، مقتصراً فيه على أرجح الأقوال وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية وأعاريب محلها كتب العربية، وحيث ذكرت فيه شيئاً من القراءات فهو من السبع المشهورات، وقد أذكر بعض أقوال وأعاريب لقوّة مداركها أو لورودها ولكن بصيغة قيل ليعلم أن المرضي أوّلها وسميته «السراج المنير» في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير، وأسأله من فضله وإحسانه أن يجعله عملاً مقروناً بالإخلاص والقبول والإقبال وفعلاً متقبلاً مرضياً زكياً يعدّ من صالح الأعمال، وقد تلقّيت التفسير بحمد الله من تفاسير متعدّدة رواية ودراية عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم، واشتهرت وانتشرت مآثرهم، جمعني الله وإياهم والمسلمين في مستقر رحمته بمحمد وآله وصحابته. وها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول. سورة فاتحة الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وتسمّى أمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه، ولذلك تسمى أساساً أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله تعالى، والتعبّد بأمره، ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء، وسورة الكنز لأنها نزلت من كنز تحت العرش، والوافية والكافية لأنها وافية كافية في صحة الصلاة بخلاف غيرها عند القدرة عليها، والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام: «هي شفاء لكل داء» والسبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق، لكن من عدّ البسملة آية منها جعل السابعة {صراط الذين} إلى آخرها، ومن لم يعدها آية منها جعل السابع {غير المغضوب عليهم} إلى آخرها، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة أي تكرّر فيها بأن تقرأ في كل صلاة وفي كل ركعة وقول بعضهم تثنى في كل ركعة فيه تجوّز وهي مكية على قول الأكثر. وقال مجاهد: مدنية، وقيل: نزلت مرّتين مرّة بمكة حين فرضت الصلاة ومرّة بالمدينة حين حوّلت القبلة، ولذلك سميت مثاني. قال البغويّ: والأوّل أصح، وقال البيضاويّ: وقد صح: أنها مكية بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} (الحجر، 87) وهو مكيّ بالنص، انتهى. وأراد بالنص السنة فقد ثبت ذلك عن ابن عباس وقول الصحابي في القرآن خصوصاً في النزول له حكم المرفوع والقرآن العظيم والنور والراقية وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها على ذلك، وسورة المناجاة، وسورة التفويض وفاتحة القرآن وأمّ الكتاب وسورة الحمد الأولى وسورة الحمد القصوى وسورة السؤال والصلاة لخير: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى عليّ عبدي، يقول العبد: مالك يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله عز وجل: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، يقول الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» ، ولأنها جزؤها فهو من باب تسمية جزء الشيء باسم كله. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقوله تعالى: {بسم الله} أي: الملك الأعظم الذي لا نعبد إلا إياه، {الرحمن} أي: الذي عمّ بنعمتي إيجاده وبيانه جميع خلقه أسفله وأعلاه أدناه وأقصاه {الرحيم} أي: الذي خص من بينهم أهل ودّه برضاه، آية من الفاتحة وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك والشافعيّ وقيل: ليست منها وعليه قرّاء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤهما والأوزاعيّ ومالك. ويدلّ للأوّل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم «عدّ الفاتحة سبع آيات وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية منها» ، رواه البخاري في «تاريخه» ، وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» وروى ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدّ بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين إلى آخرها ست آيات» وآية من كل سورة إلا براءة لإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف بخطه أوائل السور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 سوى براءة مع المبالغة في تجريد القرآن عن الأعشار وتراجم السور والتعوّذ حتى لم تكتب آمين فلو لم تكن قرآناً لما أجازوا ذلك لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً وأيضاً هي آية من القرآن في سورة النمل قطعاً، ثم إنا نراها مكرّرة بخط القرآن فوجب أن تكون منه كما أنّا لما رأينا قوله: {فبأيّ آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن، الآيات: 13 ـ 16 ـ 18) وقوله: {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات، 27) (المطففين، 10) مكرّراً في القرآن بخط واحد وبصورة واحدة، قلنا: إن الكل من القرآن. فإن قيل: لعلها ثبتت للفصل، أجيب: بأنه يلزم عليه اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً ولثبتت في أوّل براءة ولم تثبت في أوّل الفاتحة. فإن قيل: القرآن إنما يثبت بالتواتر، أجيب: بأنّ محله فيما ثبت قرآناً قطعاً أمّا ما يثبت قرآناً حكماً فيكفي فيه الظنّ كما يكفي في كل ظنّي خلافاً للقاضي أبي بكر الباقلاني، وأيضاً إثباتها في المصحف بخطه من غير نكير في معنى التواتر، وأيضاً قد يثبت التواتر عند قوم دون آخرين. فإن قلت: لو كانت قرآناً لكفر جاحدها، أجيب: بأنها لو لم تكن قرآناً لكفر مثبتها وأيضاً التكفير لا يكون بالظنيات وقد أوضحت ذلك مع زيادة في شرحي «التنبيه» و «المنهاج» ، أما براءة فليست البسملة آية منها بإجماع. فائدة: ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه. والباء في بسم الله متعلقة بمحذوف تقديره بسم الله أقرأ لأنّ الذي يتلوه مقروء إذ كل فاعل يبدأ في فعله باسم الله يضمر ما يجعل التسمية مبدأ له كما أنّ المسافر إذا حل أو ارتحل فقال: بسم الله الرحمن الرحيم كان المعنى بسم الله أحل بسم الله أرتحل وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه، وما يدل عليه ومن أن يضمر ابتدائي لما ذكرنا. فإن قيل: المصدر لا يعمل محذوفاً، أجيب: بأنه يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما وتقديره مؤخراً كما قال الإمام الرازي أولى كما في {إياك نعبد وإياك نستعين} لأنه أهمّ وأدلّ على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإنّ اسمه تعالى مقدّم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فقدم ذكراً. فإن قيل: قال الله تعالى: {اقرأ بسم ربك} (العلق، 1) فقدم الفعل، أجيب: بأنه في مقام ابتداء القراءة وتعليمها لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهمّ باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر الله تعالى أهمّ في نفسه، وذكرت أجوبة غير ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة، والباء للاستعانة أو للمصاحبة والملابسة على جهة التبرّك، والمعنى متبرّكاً بسم الله اقرأ، والثاني أولى لما فيه من التحاشي عن جعل اسمه تعالى آلة، والأحسن أن تكون لهما إعمالاً للفظ في معنييه الحقيقيين أو الحقيقيّ والمجازي عند من يجوّزه كإمامنا الشافعيّ، والبسملة وما بعدها إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرّك باسمه ويحمد على نعمه ويسئل من فضله ويقدر في أوّل الفاتحة قولوا كما قال الجلال المحلى، ليكون ما قبل إياك نعبد مناسباً له بكونه من مقول العباد. فإن قيل: من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون نحو واو العطف وفائه، أجيب: بأنها إنما كسرت للزومها الحرفية والجرّ ولتشابه حركتها عملها وحذفت الألف من بسم خطاً كما حذفت لفظاً دون باسم ربك وإن كان وضع الخط على حكم الابتداء دون الدرج لكثرة الاستعمال، وقالوا: طوّلت الباء تعويضاً من طرح الألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وألحق بها {بسم الله مجراها ومرساها} (هود، 41) و {أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم} (النحل، 30) وإن لم تكتب في القرآن إلا مرّة واحدة لشبهها لها صورة. فإن قيل: لم حذف في بسم الله دون الله والرحمن الرحيم؟ أجيب: خطان لا يقاس عليهما: خط المصحف وخط العروضيين، ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله ولا مع غير الباء. والاسم مشتق من السموّ وهو العلوّ لأنه رفعة للمسمى وشعار له فهو من الأسماء المحذوفة الإعجاز، كيد ودم، لكثرة الاستعمال وبنيت أوائلها على السكون وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرّك ويقفوا على الساكن، وقيل من الوسم، وهو العلامة فوزنه على الأوّل أفع محذوف اللام، وعلى الثاني أعل محذوف الفاء، وفيه عشر لغات نظمها بعضهم في بيت فقال: *سم وسما واسم بتثليث أوّل ... لهنّ سماء عاشر تمت انجلي* والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات مقطعة غير قارّة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدّد تارة ويتحد أخرى، والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى، وقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى، 1) المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب، أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر: *إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر* وإن أريد به الصفة كما هو رأي أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى كالواحد والقديم وإلى ما هو غيره كالخالق والرازق وإلى ما ليس هو ولا غيره كالعلم والقدرة فإنهما زائدان على الذات وليسا غير الذات لأنّ المراد بالغير ما ينفك عن الذات وهما لا ينفكان. فإن قيل: لم بدأ ببسم الله دون بالله، أجيب: بأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه وللفرق بين اليمين والتيمن. والله علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد وأصله إله، قال الرافعي: كإمام، ثم أدخلوا عليه الألف واللام ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام فصار اللاه بلامين متحرّكين ثم سكنت الأولى وأدغمت في الثانية للتسهيل، انتهى. والإله في الأصل يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كما أنّ النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، والحق أنه أصل بنفسه غير مأخوذ من شيء بل وضع علماً ابتداءً فكما أنّ ذاته لا يحيط بها شيء ولا ترجع إلى شيء فكذا اسمه تعالى، وقيل: مأخوذ من أله إذا تحير، إذ العقول تتحير في معرفته، وقيل غير ذلك، وهو عربيّ عند الأكثر وعند المحققين أنه اسم الله الأعظم وقد ذكره الله تعالى في ألفين وثلثمائة وستين موضعاً واختار النوويّ تبعاً لجماعة أنه الحيّ القيوم قال: ولذلك لم يذكر في القرآن إلا في ثلاثة مواضع في البقرة، وآل عمران، وطه. والرحمن الرحيم صفتان مشبهتان بنيتا للمبالغة من رحم بتنزيله منزلة اللازم أو بجعله لازماً ونقله إلى فعل بالضمّ. والرحمة لغة رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان، فالتفضل غايتها. وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون إنفعالات فرحمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الله تعالى إرادة إيصال الفضل والإحسان أو نفس إيصال ذلك فهي من صفات الذات على الأوّل ومن صفات الفعل على الثاني، والرحمن أبلغ من الرحيم لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى كما في قطع بالتخفيف وقطع بالتشديد. فإن قيل: حذر أبلغ من حاذر، أجيب: بأنّ ذلك أكثري لا كليّ، وبأنّ الكلام فيما إذا كان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان لا كحذر وحاذر للاختلاف وقدم الله عليهما لأنه إسم ذات وهما إسما صفة، والرحمن على الرحيم لأنه خاص إذ لا يقال لغير الله بخلاف الرحيم، والخاص مقدّم على العامّ، وإنما قدم والقياس يقتضى الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: عالم نحرير لأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره ولذلك رجح جماعة أنه علم ولأنه لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم كالتابع والتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف فليس من باب الترقي بل من باب التعميم والتكميل وللمحافظة على رؤوس الآي، وهل الرحمن مصروف أو لا؟ فيه قولان: مال السعد التفتازاني إلى جواز الأمرين لأنّ شرط منع صرف فعلان صفة وجود فعلى وشرط صرفه وجود فعلانة وكلاهما منتف هنا لكن أظهرهما أنه ممنوع الصرف إلحاقاً له بما هو الغالب من نظائره في الزيادة والوصف، والثاني أنه مصروف إلحاقاً له بالأصل في مطلق الاسم وهو الصرف، هذا مع أنّ المختار في منع صرف ما ذكر انتفاء فعلانة لا وجود فعلى، والحاصل أنه تعارض في صرفه وعدم صرفه الأصل والغالب. فإن قيل: هذا إذا لم تدخله ال، أجيب: بأنّ المختار أنّ غير المصروف إذ دخلت عليه ال والعلتان فيه باق على منع صرفه وإن جرّ بالكسرة. فوائد: الأولى: الوقف على الله قبيح للفصل بين التابع والمتبوع وعلى الرحمن كذلك وقيل: كاف وعلى الرحيم تام. الثانية: عدد حروف البسملة الرسمية تسعة عشر حرفاً وعدد ملائكة خزنة النار تسعة عشر قال ابن مسعود: من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية فليقلها ليجعل الله تعالى له بكل حرف جنة، أي: وقاية من واحد. الثالثة: قال النسفيّ في {تفسيره} قيل: الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة: صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون وصحف موسى قبل التوراة عشرة، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وجميع كل الكتب مجموعة في الفاتحة ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة ومعانيها مجموعة في بائها ومعناها: بي كان ما كان وبي يكون ما يكون. زاد بعضهم ومعاني الباء في نقطتها وتخصيص التسمية بهذه الثلاثة التي هي الله والرحمن الرحيم ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها فيتوجه العارف بجملته حرصاً ومحبة إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره. {الحمد} الحمد اللفظي لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التبجيل، أي: التعظيم، سواء أتعلق بالفضائل وهي النعم القاصرة أم بالفواضل وهي النعم المتعدّية فدخل في الثناء الحمد وغيره وخرج باللسان الثناء بغيره كالحمد النفسي وبالجميل الثناء باللسان على غير الجميل، إن قلنا برأي ابن عبد السلام أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ، وإن قلنا برأي الجمهور وهو الظاهر أنه حقيقة في الخير فقط ففائدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ذلك تحقيق الماهية أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وبالاختياري المدح، فإنه يعمّ الاختياري وغيره، تقول: مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها، وظاهر قول الزمخشريّ: الحمد والمدح أخوان أنهما مترادفان وبه صرّح في «الفائق» لكن الأوفق ما عليه الأكثر أنهما غير مترادفين بل متشابهان معنى أو اشتقاقاً كبيراً، والاشتقاق ثلاثة أقسام: كبير، وأكبر، وأصغر، وقد يعبر عنه بالصغير، فالكبير أن يشترك اللفظان في الحروف الأصول من غير ترتيب كالحمد والمدح، والأكبر أن يشتركا في أكثر الحروف الأصول كالفلق، والفلج، والفلذ، مع اتحاد في المعنى أو تناسب، والأصغر أن يشتركا في الحروف الأصول المترتبة كضرب والضرب وبعلى قصد التبجيل ما كان على قصد الاستهزاء والسخرية نحو قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49) وتناول الظاهر والباطن إذ لو تجرّد الثناء على الجميل عن مطابقة الإعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح، لم يكن حمداً بل تهكم أو تمليح، وهذا لا يقتضي دخول الجنان والأركان في التعريف لأنّ المطابقة وعدم المخالفة اعتبرا فيه شرطاً لا شطراً وعرفاً فعل ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً ومحبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان كما قيل: *أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا* فمورد اللغويّ: هو اللسان وحده ومتعلقه يعمّ النعمة وغيرها، ومورد العرفي يعمّ اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها، فاللغويّ أعمّ باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد، والعرفي بالعكس، والشكر لغة: هو الحمد عرفاً وعرفاً صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، والمدح لغة الثناء باللسان على الجميل مطلقاً على جهة التعظيم، وعرفاً ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل، فالشكر أعمّ من الحمد والمدح من وجه لأنه لا يختص باللسان وأخص منهما من وجه آخر لأنه يختص بالثناء على الإنعام، وضدّ الحمد الذم، وضدّ الشكر الكفران، وضدّ المدح الهجو. وجملة الحمد لله خبرية لفظاً؛ إنشائية معنى، لحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها، ويجوز أن تكون موضوعة شرعاً للإنشاء وقيل: خبرية لفظاً ومعنى، قال بعضهم: وهو التحقيق إذ ليس معنى كونها إنشائية لا أنها جملة إنشاء الحامد الثناء بها وذلك لا ينافي كونها خبرية معنى. ولام لله للملك أو الاستحقاق أو الاختصاص، وقيل: للتعليل والأولى أنها للاختصاص بالمعنى الأعمّ الصادق بالملك وبالاستحقاق، لا بالمعنى الأخص المقابل لهما وعلى كل فهي متعلقة بمحذوف هو الخبر حقيقة، فالحمد مختص بالله كما أفادته الجملة الاسمية سواء أجعلت لام التعريف فيه للإستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر، أم للجنس كما عليه الزمخشري، لأنّ لام لله للإختصاص كما مرّ فلا فرد منه لغيره أم للعهد كالتي في قوله تعالى: {إذ هما في الغار} (التوبة، 40) كما نقله ابن عبد السلام وأجازه الواحديّ على معنى أن الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه مختص به والعبرة بحمد من ذكر فلا فرد منه لغيره، وأولى الثلاثة الجنس، زاد بعضهم أو للكمال كما أفاده سيبويه في الداخلة على الصفات كالرحمن الرحيم، قال البيضاويّ: إذ الحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال: {وما بكم من نعمة فمن الله} (النحل، 53) انتهى. فإن قيل: بل هو موليه مطلقاً بغير وسط، أجيب: بأن المراد بالوسط من تصل إليه النعمة أوّلاً ثم تنتقل منه إلى غيره لا أنه وسط في التأثير. فأن قيل: لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق أو نحو من بقية الصفات أجيب: بأن لا يتوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف، قال البيضاوي: وفيه إشعار بأنه تعالى حيّ قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه، {رب العالمين} أي: مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدوابّ وغيرهم، إذ كل منها يطلق عليه عالم، يقال: عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك، وسمي المالك بالرب لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله تعالى: {ارجع إلى ربك} (يوسف، 50) والعالمين اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعاً له لأنّ العالم عامّ في العقلاء وغيرهم والعالمين مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعاً لما هو أعم منه، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في «توضيحه» ، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع ثم اختلفوا في تفسير العالم الذي جمع هذا الجمع فذهب أبو الحسن إلى أنه أصناف الخلق العقلاء وغيرهم وهو ظاهر كلام الجوهريّ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه أصناف العقلاء فقط وهو الإنس والجن والملائكة وقيل: عنى به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ووجه اشتمال الصغير وهو الإنسان على نظائر ما في الكبير وهو ما سوى الله تعالى أنّ تفاصيله شبيهة بتفاصيل العالم الكبير، إذ الكبير ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعالم الملك وهو ما ظهر للحواس وتكون بقدرة الله تعالى بعضه من بعض وتضمنه التغيير وإلى باطن معقول كعالم الملكوت وهو ما أوجده سبحانه وتعالى بالأمر الأزلي بلا تدريج وبقي على حالة واحدة من غير زيادة فيه ولا نقصان منه، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة، وإلى ما هو مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن. فإن قيل: لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجميع الكثرة أجيب: بأنّ فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى. {الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أسمائه خمسة: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك، والسبب فيه كأنه يقول: خلقتك أوّلاً فأنا الله ثم ربيتك بوجود النعمة، فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك، فأنا رحمن ثم تبت عليك، فأنا رحيم، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك، فأنا مالك يوم الدين. فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية، فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى: اذكر أني إله ورب مرّة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره، قوله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} (غافر، 3) وقرأ عاصم والكسائيّ: مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بألف بعد الميم، ويعضده قوله تعالى: {لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ} (الانفطار، 19) وقرأ الباقون بغير ألف، ويعضده قوله تعالى: {ملك الناس} (الناس، 2) وبينهما عموم مطلق فكل ملك مالك ولا عكس لعموم ولاية الملك التزاماً لا مطابقة ولا يقدح فيها أن تقول مالك الدواب والأنعام والوحوش والطير دون ملكها لأنّ ذلك ليس من جهة عدم شمول حياطته لذلك، بل من جهة أنه إنما يضاف عرفاً إلى ما فيه انقياد وامتثال وينفذ فيه التصرف بالأمر والنهي، قاله السعد التفتازاني، وقيل: هما بمعنى وهو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله ويوم الدين يوم الجزاء ومنه قولهم كما تدين تدان وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلا لله تعالى {لمن الملك اليوم} (غافر، 16) . فإن قيل: إضافة اسم الفاعل غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة؟ أجيب: بأنها إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك: مالك الساعة أو غداً فأما إذا قصد به معنى الاستمرار: أي هو موصوف بذلك دائماً فتكون الإضافة حقيقية كغافر الذنب فصح وقوعه صفة للمعرفة. فإن قيل: التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحاً في الاستقبال، أجيب: بأنّ معناه الثبوت والاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين كأنه قيل: هو ثابت المالكية في يوم الدين أو المراد أنه جعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع فتستمرّ مالكيته في جميع الأزمنة. تنبيه: إجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه رباً للعالمين موجداً لهم منعماً عليهم بالنعم، كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه تعالى الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له. {س1ش5/ش7 إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّآلِّينَ} {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة، 5 7) إيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب وفيه أقوال أخر ذكرتها في «شرح القطر» . فإن قيل: لم كرر ضمير إياك؟ أجيب: بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره. فإن قيل: لم قدّمت العبادة على الاستعانة، أجيب: لتتوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأيضاً لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحاً واعترافاً منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله: {وإياك نستعين} ليدل على أنّ العبادة أيضاً مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق. فإن قيل: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ أجيب: بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تحسيناً للكلام وتنشيطاً للسامع فيكون أكثر إسغاءً للكلام فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما فهذه أقسام أربعة ذكرها البيضاوي والتحقيق كما قاله بعض المتأخرين: أنها ستة لأنّ الملتفت إليه إثنان وكل منهما إمّا غيبة أو خطاب أو تكلم، من ذلك قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} (يونس، 22) الأصل بكم فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى: {وا الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه} (الروم، 48) الأصل فساقه فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 التفات من الغيبة إلى التكلم. والاستعانة طلب معونة وهي: إمّا ضرورية أو غير ضرورية، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالباً وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية. فإن قيل: لم أطلقت الاستعانة؟ أجيب: بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال: لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض. تنبيه: الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة. فإن قيل: لم قدم المفعول؟ أجيب: بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا تحزن إنّ الله معنا} (التوبة، 40) على ما حكاه عن كليمه موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال: {إن معي ربي سيهدين} (الشعراء، 62) لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس. {اهدنا الصراط المستقيم} بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا: اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير. فإن قيل: قال الله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات، 23) أجيب: بأنه وارد على التهكم. تنبيه: هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء، 9) {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الأعراف، 175) فعومل معاملة اختار في قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا} (الأعراف، 155) وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذٍ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعاً لا يحصيها عدد كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم، 34) (النحل، 18) ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة، الأوّل: إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه أشار تعالى حيث قال: {وهديناه النجدين} (البلد، 10) أي طريق الخير والشر وقال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت، 17) والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} (الأنبياء، 73) وقوله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء، 9) والرابع: أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام، 90) وقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت، 69) . فإن قيل: ما معنى طلب الهداية وهم مهتدون؟ أجيب: بأنهم طلبوا زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه كقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} (محمد، 17) والصراط من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه، قرأ حمزة الصراط المعرف في هذه السورة بالإشمام وهو أن ينطق القارىء بحرف متولد بين الصاد والزاي، وأشمّ خلف صراط الثاني كالأوّل وكذا جميع ما في القرآن من معرف ومنكر، وقرأ قنبل جميع ما في القرآن بالسين، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة في الجميع، وهذه لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وهو مصحف سيدنا عثمان رضي الله عنه تعالى والمستقيم المستوي، والمراد به طريق الحق، وقيل: ملة الاسلام، وهذان القولان مرويان عن ابن عباس وهما متحدان صدقاً وإن اختلفا مفهوماً. {صراط الذين أنعمت عليهم} بالهداية بدل من الأوّل بدل كل من كل والعامل فيه مقدّر على رأي الجمهور، وقيل: العامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو ظاهر مذهب سيبويه، واختاره ابن لك. فإن قيل: ما فائدة ذكر صراط الذين أنعمت عليهم بدلاً تابعاً؟ وهلا اقتصر عليه مع أنه المقصود بالنسبة؟ أجيب: بأنّ فائدته التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه إنّ الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين وهذا هو الموافق لما خرّج ابن جرير عن ابن عباس، إن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والصدّيقون والشهداء ومن أطاعه وعبده وقيل: الذين أنعمت عليهم الأنبياء خاصة صلوات الله وسلامه عليهم، وقيل: أصحاب موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ. تنبيه: أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه ويبدل من الذين بصلته. {غير المغضوب عليهم} وهم اليهود، لقوله تعالى: {فيهم من لعنه الله وغضب عليه} (المائدة، 60) {ولا} أي: وغير {الضالين} وهم النصارى، لقوله تعالى: {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا} (المائدة، 77) الآية، ونكتة البدل إفادة أنّ المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى وقيل: إنّ غير صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله تعالى والضلال، وقيل: المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ في أوّل البقرة بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات ثم أتبعه بذكر الكفار وهو المراد من قوله تعالى: {إنّ الذين كفروا} (البقرة، 6) ثم أتبعهم بذكر المنافقين وهو قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا با} (البقرة، 8) إلخ.. وكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: {أنعمت عليهم} ثم أتبعهم بذكر الكفار وهو قوله {غير المغضوب عليهم} ثم أتبعهم بذكر المناففين بقوله: {ولا الضالين} . فإن قيل: كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ أجيب: بأنه يصح بأحد تأويلين؛ أحدهما: إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى باللام في قول القائل: *ولقد أمرّ على اللئيم يسبني أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لئيما يسبني إذ لا مرور على الكل، والثاني: جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد وهو المنعم عليه فليس في غير إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف. تنبيه: إنما سمى كل من اليهود والنصارى بما ذكر مع أنه مغضوب عليه وضالّ لاختصاص كل منهما بما غلب عليه، وقال صلى الله عليه وسلم «إن المغضوب عليهم اليهود وإنّ الضالين النصارى» رواه ابن حبان وصححه، وقيل: المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل، به فكان المقابل. له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً: {وغضب الله عليه} (النساء، 97) والمخل بالعمل جاهل ضال لقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32) . فإن قيل: ما معنى غضب الله لأنّ الغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام أو تغير يحصل عند ثوران دم القلب إرادة الانتقام وهو محال في حقه تعالى؟ أجيب: بأنه إذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية فمعناه إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ونسأله رضاه ورحمته. فإن قيل: أيّ فرق بين عليهم الأولى والثانية؟ أجيب: بأنّ محل مجرور الأولى النصب على المفعولية ومحل مجرور الثانية الرفع لأنه نائب مناب الفاعل. فإن قيل: لم دخلت لا في {ولا الضالين} ؟ أجيب: بأنها بمعنى غير كما قرّرته تبعاً للجلال المحلى، وأنها مزيدة كما قال الزمخشري لتأكيد ما في غير من معنى النفي، كأنه قال: لا المغضوب عليهم ولا الضالين، وللتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه. فائدة: أوّل السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذمّ للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدلّ على أنّ مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله ومطلع الآفات ورأس المخالفات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته. فإن قيل: ما فائدة {غير المغضوب} إلخ بعد ذكر {أنعمت عليهم} ؟ أجيب: بأنّ الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» فقوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} يوجب الرجاء الكامل وقوله: {غير المغضوب عليهم} إلخ يوجب الخوف الكامل وحينئذٍ يتقوّى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حدّ الكمال وقرأ حمزة عليهم: غير المغضوب عليهم بضمّ الهاء وفقاً ووصلاً، وكذا جميع ما في القرآن، وقرأ ابن كثير: عليهم بواو، بعد الميم في الوصل فإذا وقف أسقط الواو وكذا يفعل في كل ميم جمع بعدها حرف متحرّك، وأمّا قالون فهو مخير في ميم الجمع إن شاء وصلها بواو كابن كثير وإن شاء لا يصلها بواو، وأمّا ورش فإنه يصل ميم الجمع بواو وإن كان بعدها همزة قطع فيصير عنده مدّ منفصل، وفي {ولا الضالين} مدّان لازم وعارض فاللازم هو الذي على الألف بعد الضاد قبل اللام المشدّدة، والعارض هو الذي على الياء قبل النون، والسنة للقارىء أن يقول بعد فراغه من الفاتحة آمين مفصولاً عن الفاتحة بسكتة وهو اسم الفعل الذي هو استجب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه فقال: «افعل» بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاز مدّ ألفه وقصرها قال مجنون ليلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 *يا رب لا تسلبني حبها أبداً ... ويرحم الله عبداً قال آمينا* أي: بالمدّ، وقال جبير لما سأل الأسدي المسمى بفطحل: *تباعد عني فطحل إذ سألته ... آمين فزاد الله ما بيننا بعدا* فذكر مقصوراً وكان من حقه التأخير لأنّ التأمين إنما يكون بعد الدعاء ولكن قدّمه للضرورة وليس آمين من القرآن اتفاقاً بدليل أنه لم يثبت في المصاحف كما مرّت الإشارة إليه ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله صلى الله عليه وسلم «علمني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة» كما رواه البيهقيّ وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم «إنه كالختم على الكتاب» كما رواه أبو داود في «سننه» وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده، رواه الطبرانيّ وغيره لكن بسند ضعيف، يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر: «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته» . وعن الحسن لا يقوله الإمام لأنه الداعي، وعن أبي حنيفة مثله والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيه، والمأموم يؤمن مع إمامه لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول: آمين وإن الإمام يقول: آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» . زاد الجرجانيّ في «أماليه» وما تأخر. وأحسن ما فسر به هذا الخبر ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء، فإذا وافق تأمين من في الأرض تأمين من في السماء غفر للعبد، قال ابن حجر ومثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ: «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قال: بلى يا رسول الله قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» رواه الترمذيّ وقال حسن صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ناداه منادٍ فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته» وما رواه البيضاويّ عن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة» حديث موضوع. سورة البقرة مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية الم * ذَالِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} {بسم الله الرحمن الرحيم} قال الشعبي وجماعة: {ألم} وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرّ القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله سبحانه وتعالى، وفائدة ذكره طلب الإيمان بها والسبب في ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش والله تعالى استأثر بعلم لا تقدر عليه عقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الأنبياء، والأنبياء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء، والعلماء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العامّة، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: في كل كتاب سرّ وسرّ الله في القرآن أوائل السور. وقال عليّ رضي الله عنه: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، قال داود بن أبي هند: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال: يا داود إنّ لكل كتاب سرّاً وإنّ سرّ القرآن فواتح السور فدعها واسأل عما سوى ذلك، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: معنى {ألم} أنا الله أعلم ومعنى {الر} (يونس: 1) أنا الله أرى ومعنى {المر} (الرحمن، 1) أنا الله أعلم وأرى، قال الزجاج: وهذا حسن فإنّ العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم: قلت لها قفي فقالت: قاف، أي: وقفت. وقيل: هي أسماء السور وعليه إطباق أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه، سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط قدرتهم عند معارضتها، ونقضه الإمام الرازي بأنها لو كانت اسماً لها لوجب اشتهارها بها وقد اشتهرت بغيرها كسورة البقرة وآل عمران وقيل: أسماء للقرآن قاله قتادة. والحكمة في الإتيان بهذه الأحرف الثلاثة أنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفة وهي آخرها، جمع الله تعالى بينها إيماء إلى أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى ولما تكاثر وقوع الألف واللام في تراكيب الكلام جاءتا في معظم الفواتح مكرّرتين وهي فواتح سورة البقرة وأوّل آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة. فإن قيل: هلا عددت هذه الأحرف بأجمعها في أوائل القرآن ومالها جاءت مفرّقة على السور، أجيب: بأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الإسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرّة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرّر في النفوس وتقريره. فإن قيل: هلا جاءت على وتيرة واحدة ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحمعسق على خمسة أحرف؟ أجيب: بأنّ هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرّفهم فيه على طرق شتى ومذاهب عدّة، وكما أنّ أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك سلك بهذه الفواتح تلك المسالك. فإن قيل: ما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ أجيب: بأنه لما كان الغرض هو التنبيه والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً لم يقل له: لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل بذلك. فإن قيل: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ أجيب: بأنّ لها محلاً عند من جعلها أسماء لأنها عنده كسائر الأعلام محلها يحتمل ثلاثة أوجه: إمّا الرفع بأنها مبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف أي: هذه ألم، أو النصب بفعل مقدّر كاذكر أو اقرأ أو اتل ألم، أو الجرّ بتقدير حذف حرف القسم. {ذلك الكتاب} الذي تقرؤه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يا محمد على الناس {لا ريب فيه} لا شك في أنه من عند الله تعالى. فإن قيل: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ أجيب: بأن الإشارة وقعت فيه للتعظيم ولذلك قال الطيبي: أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول صاحب «المفتاح» قال ذلك الكتاب ذهاباً إلى بعده درجة وقيل: وقعت الإشارة إلى {ألم} بعدما سبق التكلم به وتقضى، والمنقضي في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا وقال تعالى: {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} (البقرة، 68) وقال نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي} (يوسف، 37) ولأنه لما وصل من المرسل سبحانه وتعالى إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً: احتفظ بذلك أي: تمسك به، وقيل: معناه ذلك الكتاب الموعود إنزاله بقوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (المزمل، 5) أو في الكتب المتقدّمة لأن سورة البقرة مدنية كما مرّ وأكثرها احتجاج على اليهود وعلى بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إن الله يرسل محمداً وينزل عليه كتاباً فقال تعالى: {ذلك الكتاب} أي: الذي أخبر الأنبياء المتقدّمون بأن الله سينزله على النبيّ المبعوث من ولد إسماعيل وقيل: إنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: وإنه في أمّ الكتاب لدينا وقد كان صلى الله عليه وسلم أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى: {ذلك الكتاب} ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. والكتاب مصدر سمي به المفعول للمبالغة أو فعال بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب، وأصل الكتب الضمّ والجمع، سمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى حرف والكتاب جاء في القرآن على وجوه؛ أحدها: الفرض قال تعالى: {كتب عليكم القصاص} (البقرة، 187) {كتب عليكم الصيام} (البقرة، 183) {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (النساء، 103) وثانيها: الحجة والبرهان قال تعالى: {فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} (الصافات، 157) أي: برهانكم، وثالثها: الأجل قال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} (الحجر، 4) أي: أجل، ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد رقيقه، قال تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم} (النور، 33) . فإن قيل: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق وكم من مرتاب فيه؟ أجيب: بأنّ الله تعالى ما نفى أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} (البقرة، 23) فإنه لم ينف عنهم الريب بل أرشدهم إلى الطريق المزيح للريب وهو أن يجتهدوا في معارضة سورة من سوره ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة وقيل: هو خبر بمعنى النهي أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة، 197) أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيه الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة، وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة والصدق طمأنينة» ، رواه الترمذي لكن بلفظ فإنّ الصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 طمأنينة والكذب ريبة وصححه، ومعناه: اترك ما فيه شك إلى ما لا شك فيه فإذا ارتابت نفسك في شيء فاتركه أو اطمأنت إليه فافعله فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة. تنبيه: جملة النفي خبر مبتدؤه ذلك و {هدى} خبر ثانٍ أي هادٍ {للمتقين} الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار. وتخصيص المتقين بالذكر تشريفاً لهم ولأنهم هم المنتفعون بالهدى كما قال تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات، 45) وقال تعالى: {إنما تنذر من اتبع الذكر} (يس، 11) وقد كان صلى الله عليه وسلم منذراً لكل الناس لأنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره. ولها ثلاث مراتب: الأولى: التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} (الفتح، 26) . والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى: {ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا} (المائدة، 65) (الأعراف، 96) وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز: التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير. والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران، 102) وقال ابن عمر: التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد. قرأ ابن كثير: فيه هدى، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو، فمثال المكسورة به أن يوصل، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل: كنت تراباً أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّناً مثل: سميع عليم أو مشدّداً مثل: فتمّ ميقات ربه. ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب} أي: يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان، والإيمان لغة التصديق وشرعاً قيل: التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال: {كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة، 22) وقال: {وقلبه مطمئن بالإيمان} (النحل، 106) وقال: {ولم تؤمن قلوبهم} (المائدة، 41) وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات، 9) {يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة، 178) فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين. فإن قيل: قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وغيره: إنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، أجيب: بأن ذلك محمول على الإيمان الكامل. وقرأ ورش والسوسي بإبدال الهمزة الساكنة في يؤمنون واواً وكذا يقرأ حمزة في الوقف {ويقيمون الصلاة} أي يديمونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهاتها يقال: قام بالأمر وأقامه إذا أتى به يعطي حقوقه لأنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولذلك ذكر في سياق المدح {والمقيمين الصلاة} (النساء، 162) وفي معرض الذمّ {فويل للمصلين} (الماعون، 4) والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الوحدان كقوله تعالى: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق} (البقرة، 213) يعني: الكتب، والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: {وصل عليهم} (التوبة، 103) أي: ادع لهم، وفي الشرع إسم لأفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. وقرأ ورش بتغليظ اللام في الصلاة حيث جاء {ومما رزقناهم} أي: أعطيناهم {ينفقون} يخرجون المال في طاعة الله فرضاً كان أو نفلاً، ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانها بالصلاة لأنهما يذكران معاً في القرآن ويحتمل أن يراد به الانفاق مما منحهم الله من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده ما رواه الطبرانيّ في «الأوسط» مرفوعاً: «مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه» وإلى هذا ذهب من قال: ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. والرزق بالكسر في اللغة: الحظ، قال الله تعالى: {وتجعلون رزقكم} ـ أي: حظكم ونصيبكم ـ من القرآن أنكم تكذبون (النحل، 75) وأمّا بالفتح فهو مصدر بمعنى إعطاء الحظ كما أنه بالكسر يكون مصدراً أيضاً كما قيل به في قوله تعالى: {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} () وفي العرف اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والرقيق، والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام لأنه تعالى منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا: الرزق لا يتناول الحرام ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال الصرف الطيب وأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً} (يونس، 59) وأجاب أهل السنة عما ذكر بأن الإسناد التعظيم والتحريض على الإنفاق والذم بتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق له بما رواه ابن ماجة وغيره من حديث صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه عمرو بن قرّة فقال: يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال: لا آذن لك ولا كرامة، كذبت أي عدوّ الله لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله» وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً وليس كذلك لقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود، 6) . تنبيه: تقديم رزقناهم على ينفقون للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه في حق من لم يصبر على الإضاقة وإلا فليس بإسراف فقد تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أولئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} أي القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد فيكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 مجازاً باعتبار تسمية الكل باسم البعض أو تنزيلاً للمنتظر منزلة الواقع فيكون استعارة باعتبار تشبيه غير المتحقق بالمتحقق، وفي كل من هذين الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز عند الإمام الشافعي رضي الله عنه {وما أنزل من قبلك} أي: التوراة والانجيل وغيرهما من سائر الكتب السابقة على القرآن والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين وبالأوّل دون الثاني تفصيلاً من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ولكن على الكفاية لأنّ وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش، وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله. فائدة: الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب أنزل على السيد شيث ستون صحيفة وعلى السيد إبراهيم ثلاثون وعلى السيد موسى قبل التوراة عشر فهذه مائة والأربعة الأخرى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، واختلف القرّاء في مدّ وقصر ما أنزل فقالون والدوري عن أبي عمر يمدّان ويقصران، وابن كثير والسوسي يقصران بلا خلاف وباقي القرّاء وهم ورش وعاصم وحمزة والكسائي يمدُّون بلا خلاف ويتفاوتون في طول المدّ فأطولهم مدّاً ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكسائي وهكذا كل مدّ منفصل {وبالآخرة هم يوقنون} أي: يعلمون أنها كائنة لأنّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه قاله الإمام الرازي، ولذلك لا يوصف به العلم القديم ولا العلوم الضرورية فلا يقال تيقن الله كذا ولا تيقنت أنّ الكل أكبر من الجزء. فائدة: سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا وهي تأنيث الآخر صفة الدار وبدليل قوله تعالى: {تلك الدار الآخرة} (القصص، 83) قرأ ورش الآخرة بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث جاء وكذا الأرض، وقد أفلح، ومن آمن، وما أشبه ذلك. {أولئك} الموصوفون بما ذكر {على هدى} أي: رشد {من ربهم} ونكر هدى للتعظيم فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره وأكد تعظيمه بأنّ الله مانحه والموفق له. تنبيه: جميع القرّاء يمدّون أولئك بلا خلاف لأنه متصل لكن مرتبة ابن كثير وأبي عمرو دون مرتبة ابن عامر والكسائي في المتصل والمنفصل، وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة والكاف للخطاب كما في حرف ذلك {وأولئك هم المفلحون} أي: الفائزون بالجنة والناجون من النار كرّر فيه اسم الإشارة تنبيهاً على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحد من الاختصاصين وأن كلاً منهما كافٍ في تمييزهم بها عن غيرهم فلا يحتاجون فيه إلى مجموعهما. فإن قيل: لم وسط العاطف بين هاتين الجملتين دون قوله تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون} (الأعراف، 179) ؟ أجيب: بأن الجملتين هنا مختلفتان باختلاف المسندين فيهما إذ على هدى من ربهم والمفلحون وإن تناسبتا تعلقاً مختلفتان مفهوماً ووجوداً ومقصوداً لأن الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى وإثبات كل منهما مقصود في نفسه بخلاف كالأنعام والغافلون فإنهما وإن اختلفا مفهوماً قد اتحدا مقصوداً ووجوداً إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة في الدنيا فناسب العطف في الأوّل دون الثاني.F تنبيه: تأمّل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتى بناء الكلام على اسم الإشارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتضاء أثرهم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. ولما ذكر الله تعالى خاصة عباده وخاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بذكر أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر بقوله تعالى: {إن الذين كفروا} الكفر لغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر ولكمام الثمر كافور، وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، وينقسم إلى أربعة أقسام: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقرّ بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة، 89) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول: *ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا* *لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا* وأمّا كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب وجيع هذه الأقسام من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} (النساء، 48 ـ 116) . تنبيه: احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي نحو: {إن الذين كفروا} (البقرة، 6) {إنا نحن نزلنا الذكر} (الحجر، 9) {إنا أرسلنا نوحاً} (نوح، 1) على حدوث القرآن لاستدعاء ما جاء فيه بلفظ الماضي سابقية المخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره فأجاب أهل السنة: بأن ما جاء فيه بلفظ الماضي مقتضى تعلق الحكم بالخبر عنه وحدوث مقتضى التعلق لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله كما في عمله تعالى فإنه قديم ومقتضى تعلقه بغيره حادث والحاصل أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق وهو الكلام اللفظيّ حدوث الكلام النفسيّ. {سواء عليهم} أي متساوٍ لديهم {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} أي: خوّفتهم وحذرتهم أم لا والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيراً في النفس من حيث أن دفع الضرر أهمّ من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم الإنذار كانت البشارة بعدم النفع أولى {لا يؤمنون} بما جئت به وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله تعالى كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما فلا تطمع في إيمانهم، واحتجّ بهذه الآية من جوّز تكليف ما لا يطاق فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا وقع الخلف في كلامه تعالى وهو محال والحق أن التكليف بالممتنع لذاته جائز عقلاً غير واقع بخلاف التكليف بالممتنع لغيره كالذي تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فإنه جائز وواقع اتفاقاً. تنبيه: هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمة فقالون وأبو عمرو يسهلان الثانية ويدخلان بينهما ألفاً وكذا ورش وابن كثير إلا أنهما لم يدخلا ألفاً بينهما ولورش وجه آخر وهو أن يبدل الثانية حرف مدّ، وهشام له وجهان: تسهيل الهمزة الثانية وتحقيقها مع إدخال ألف بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والباقون بالتحقيق والقصر وجميع القرّاء يحققون الأولى. {س2ش7/ش9 خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ? وَعَلَى? أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ? وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ ا?خِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَءَامَنُوا? وَمَا يَخْدَعُونَ إِ? أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} أي: طبع واستوثق فلا يدخلها إيمان ولا خير، والختم: الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له {وعلى سمعهم} أي: مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق، وقوله تعالى: {وعلى أبصارهم} أي: أعينهم {غشاوة} مبتدأ وخبر أي: على أعينهم غطاءً من عند الله تعالى فلا يبصرون الحق وعبر الله تعالى عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} (النحل، 108) وبالإغفال في قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} (الكهف، 28) وبالإقساء في قوله تعالى: {وجعلنا قلوبهم قاسية} (المائدة، 13) وهذه الهيئة من حيث أنّ الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث أنها مسببة عما اقترفوه بدليل قوله تعالى: {بل طبع الله عليها بكفرهم} (النساء، 155) وقوله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} (المنافقون، 3) وردت الآية مظهرة عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم. فإن قيل: لم وحد السمع دون القلوب والأبصار؟ أجيب: بأنه على حذف مضاف مثل وعلى حواس سمعهم كمواضعه كما مرّ تقديره أو باعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تثنى ولا تجمع والأبصار جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازاً على القوّة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع، قال البيضاويّ: ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق القلب ويراد به العقل والمعرفة، كما قال الله تعالى: {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} (ق، 37) أي: عقل، وأمال أبو عمرو ألف أبصارهم وكذا كل ألف بعدها راء مكسورة متطرّفة وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير {ولهم عذاب عظيم} أي: قوي دائم في الآخرة وهذا وعيد وبيان لما يستحقونه، والعذاب كلّ ما يعيي الانسان ويشق عليه، وقال الخليل: العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش وإنما وصف العذاب بالعظيم دون الكبير لأن العظيم فوقه، لأنّ العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير، وإذا كان الحقير مقابلاً للعظيم والصغير، للكبير كان العظيم فوق الكبير لأنّ العظيم لا يكون حقيراً والكبير قد يكون حقيراً كما أنّ الصغير قد يكون عظيماً، وتنكير الغشاوة والعذاب للتنويع لأنهما لما قرنا بالختم على القلوب كان المعنى نوعاً عظيماً منه أي: على أبصارهم غشاوة ليس وما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله. ونزل في المنافقين حكاية لحالهم قوله تعالى: {ومن الناس} أمال أبو عمرو الألف قبل السين المكسورة إمالة محضة، وهكذا كل ألف مثلها والباقون بالفتح {من يقول آمنا با وباليوم الآخر} أجمع المفسرون على أنّ ذلك وصف المنافقين، قالوا: صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً وثلث بالصنف الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للتقسيم، وهذا الصنف أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 تعالى لأنهم مع مشاركتهم للكفار الأصليين في أنهم جاهلون بالقلب كاذبون باللسان من حيث أنهم ينسبون إلى الله تعالى ما هو بريء منه كالولد، والزوجة، والشريك زادوا عليهم بأمور منكرة منها أنهم قصدوا التلبيس ورضوا لأنفسهم بسمة الكذب ولبسوا الكفر على المسلمين فخلطوا به خداعاً واستهزاءً ولذلك طوّل الله في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم أنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار. واللام في الناس للجنس ومن موصوفة لا للعهد وكأنه قال تعالى: ومن الناس ناس يقولون، وقيل: للعهد والمعهود، هم الذين كفروا، ومن موصولة مراد بها ابن أبيّ وأصحابه ونظراؤه فإنهم من حيث أنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس. فإن قيل: خصت من بالموصوفة على تقدير الجنس، وبالموصولة على تقدير العهد، أجيب: بأنّ الجنس لإبهامه يناسب الموصوفة لتنكيرها، والعهد لتعيينه يناسب الموصولة لتعريفها واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادّعاء بأنهم اختاروا الإيمان من المبدأ والمعاد وإئذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق وهو عدم التصديق بالقلب لأنّ القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وأنّ الجنة لا يدخلها غيرهم، وأنّ النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغير ذلك، ويرون المسلمين أنهم آمنوا مثل إيمانهم، وفي تكرير الباء ادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام، والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة بطرفين {وما هم بمؤمنين} لإبطانهم الكفر، وهذا إنكار لما ادّعوا إثباته، ووحد الضمير في يقول نظراً إلى لفظة من لأنها صالحة للتثنية والجمع والواحد وجمع فيما بعدها نظراً إلى معناها. فإن قيل: كيف طابق قوله وما هم بمؤمنين قولهم: آمنا بالله فإنّ الأوّل في ذكر شأن الفعل لا الفاعل والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل فكان المطابق له وما آمنوا، أجيب: بأنه إنما عدل إلى ذلك لردّ كلامهم بأبلغ وجه وآكده لأنّ إخراج ذواتهم عن عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء ونظيره قوله تعالى: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} (المائدة، 37) هو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها، وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به وهو قوله تعالى: {وباليوم الآخر} لأنّ وما هم بمؤمنين جوابه، والآية تدل على أنّ من ادّعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً لأنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً. {يخدعون الله والذين آمنوا} إذ أظهروا خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية ويحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم، وأصل الخدع في اللغة الاخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع، فالمخادع أظهر خلاف ما يضمر والمخادعة تكون بين اثنين وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية ولأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 لم يقصدوا خديعته بل المراد إمّا مخادعة رسوله أو أوليائه على حذف المضاف لأنهم لم يعتقدوا أنّ الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى فعلم أنّ خداعهم مع الله ليس المراد ظاهره كما في قوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف، 82) أي: أهلها أو على أنّ معاملة الرسول معاملة الله تعالى من حيث أنه خليفته كما قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء، 80) {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} (الفتح، 10) وأمّا أنّ صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر وصنيع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجاً لهم وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين، ويحتمل أن يراد بيخادعون يخدعون لأنه بيان ليقول أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة فإن الزنة لما كانت للمغالبة والفعل متى غولب فيه كان أبلغ منه إذا جاء بلا مغابلة معارض استصحبت الزنة ما ذكر من المبالغة وقال الجلال المحلى: والمخادعة هنا من واحد كعاقبت اللص وذكر الله فيها تحسين. {وما يخدعون إلا أنفسهم} لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم فيفتضحون في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة والنفس ذات الشيء وحقيقته. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال، وقرأ الباقون وهم عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وما يخدعون بفتح الياء وسكون الخاء ولا ألف بعدها وفتح الدال ولا خلاف بين القرّاء في الكلمة الأولى وهي يخادعون الله فالجميع قرؤوا بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال وأمّا الرسم في الموضعين فبغير ألف {وما يشعرون} أي: لا يحسون بمعنى لا يعلمون أنّ خداعهم لأنفسهم لتمادي غفلتهم جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤف الحواس وهو المصاب بآفة. {س2ش10/ش13 فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا? وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ? بِمَا كَانُوا? يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تُفْسِدُوا? فِى ا?رْضِ قَالُو?ا? إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَ? إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن s يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُوا? كَمَآءَامَنَ النَّاسُ قَالُو?ا? أَنُؤْمِنُ كَمَآءَامَنَ السُّفَهَآءُ? أَ? إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن s يَعْلَمُونَ} {في قلوبهم مرض} (سورة: الآيتان 10، 13) أي: شك ونفاق لأن ذلك يمرض قلوبهم أي: يضعفها، والمرض حقيقة هو فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمال أفعالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والبغض وحب المعاصي لأنها مانعة من نيل الفضائل أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، والآية تحتمل الحقيقة والمجاز وعلى المجاز اقتصر أكثر المفسرين لأنه أبلغ من الحقيقة {فزادهم الله مرضاً} بما أنزل من القرآن لأنه كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا شكاً ونفاقاً وإسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث أنه خلقها وأوجدها وإلى السورة في قوله تعالى: {فزادتهم رجساً} (التوبة، 125) لكونها سبباً، وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف التي بعد الزاي محضة، والباقون بالفتح {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم بفتح اللام وصف به العذاب للمبالغة إذ الألم إنما هو للمعذب حقيقة لا للعذاب فنسبة الألم إلى العذاب مجاز ويجوز كسر لام مؤلم كسميع بمعنى مسمع وعليه فنسبة الأليم إلى العذاب حقيقة {بما كانوا يكذبون} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمّ الياء وفتح الكاف وتشديد الذال أي: بتكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون الكاف وتخفيف الذال أي: بكذبهم في قولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 آمنا لأنّ الإيمان التصديق بالقلب والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، قال البيضاويّ تبعاً للزمخشري: وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب على الكذب وما روي أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات أي: لما روى البخاريّ ومسلم في حديث الشفاعة «فيقول إبراهيم: إني كذبت ثلاث كذبات» وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم، فالمراد التعريض أي: وهو اللفظ المشار به إلى جانب والغرض جانب آخر، وقيل: هو خلاف التصريح وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر وسمي تعريضاً لما فيه من التعريض عن المطلوب، ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به، انتهى. وهذا ليس على إطلاقه فإن من الكذب ما هو مباح وما هو مندوب وما هو واجب وما هو حرام لأن الكلام وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق، فالكذب فيه حرام، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحاً، ومندوب إن كان المقصود مندوباً، وواجب إن كان المقصود واجباً، وفي حديث الطبرانيّ في «الكبير» «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثاً، الرجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما» ، وفي حديث في «الأوسط» «الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دينه» . {وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء فهو عطف تفسير على يكذبون فمحله نصب لكونه معطوفاً على خبر كان، فيكون جزءاً من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم، أو على يقول، فلا محلّ له من الإعراب لكونه معطوفاً على صلة من فلا يكون جزءاً من السبب، والقائل هو الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو بعض المؤمنين، {لا تفسدوا في الأرض} بالكفر والتعويق عن الإيمان، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال، والصلاح ضدّه، والفساد يعمّ كل ضارّ، والصلاح يعمّ كل نافع، وكان من إفسادهم في الأرض إثارة الحروب والفتن بمخادعة المسلمين، ومعاونة الكفار المتمحض كفرهم على المسلمين فإن ما ذكر يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها وما يوجب القتل والاختلاط ويخل بنظام العالم لا أن ذلك إفساد لأن الإفساد جعل الشيء فاسداً وصنيعهم لم يكن كذلك، فقوله تعالى: {لا تفسدوا في الأرض} مجاز باعتبار المآل أي: لا تفعلوا ما يؤدّي إلى الفساد وليس معنى الإفساد هنا الإتيان بالفساد ليصح حمل الكلام على الحقيقة، نبه على ذلك السعد التفتازاني {قالوا إنما نحن مصلحون} جواب لإذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالتنا متمحضة عن شوائب الفساد لأن إنما تفيد قصر ما دخله على ما بعده مثل إنما زيد منطلق وإنما ينطلق زيد، وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} (فاطر، 8) . قال الله تعالى يردّ عليهم أبلغ ردّ: {ألا إنهم هم المفسدون} أي: بما ذكر {ولكن لا يشعرون} أي: لا يفطنون بمعنى لا يعلمون أنهم هم المفسدون بذلك أي: لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح، وقيل: لا يعلمون ما أعدّ الله لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 من العذاب ووجه الأبلغية في ذلك تصديره بألا المنبهة على تحقيق ما بعدها فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقاً وبأنّ المقرّرة للنسبة وتعريف الخبر وتوسط ضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون. {وإذا قيل لهم آمنوا} هذا من تمام النصح والإرشاد فإنّ كمال الإيمان بمجموع أمرين: الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله: لا تفسدوا والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله: {آمنوا} . {كما آمن الناس} أي: كإيمان الناس الكاملين في الإنسانية الموافق باطنهم فيه لظاهرهم العاملين بقضية العقل، فاللام في الناس للجنس فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقاً يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، أو للعهد، والمراد به الرسول ومن معه، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. وقرأ هشام والكسائي: قيل، بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الباء، ولورش في الهمزة من آمنوا وآمن المدّ والتوسط والقصر {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} أي: الجهال، فاللام في السفهاء للعهد وهم من تقدّم، أو لجنس السفهاء بأسرهم وإنما سفهوهم لاعتقاد فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. قال الله تعالى رداً عليهم أبلغ رد: {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} أنهم سفهاء بما فعلوه من إبطان غير ما أظهروه، ووجه الأبلغية في تجهيلهم أنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر. فإن قيل: كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ أجيب: بأنّ هذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك والسفه خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل والعلم يقابله. فإن قيل: لم عبر في هذه الآية بلا يعلمون وفي التي قبلها بلا يشعرون؟ أجيب: بأنّ التعبير بلا يعلمون أكثر مطابقة لذكر السفه لأن السفه جهل فطابقه العلم ولأنّ أمر الإيمان أخروي يحتاج إلى دقة نظر، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يعلمون، وأمر البغي والفساد دنيوي فهو كالمحسوس لا يحتاج إلى دقة نظر، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يشعرون، ويشعر مضارع شعر، يقال: شعرت كذا، أي: حسست به أو أدركته، أي: فطنت له، وقد استعمل بالمعنى الأوّل في قوله: {وما يشعرون} وفي الثاني بقوله: {لا يشعرون} كما يعلم مما به قررته في الآيتين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: السفهاء ألا، بتحقيق الهمزتين، وكذا كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وبإبدال الثانية واواً خالصة. {س2ش14/ش17 وَإِذَا لَقُوا? الَّذِينَءَامَنُوا? قَالُو?ا? ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا? إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُو?ا? إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُو?لَا??ـ?ِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا? الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا? مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ? ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ s يُبْصِرُونَ} {وإذا لقوا الذين آمنوا} اللقاء المصادقة وهي الإجتماع من غير مواعدة يقال: لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته، وأصل لقوا لقيوا حذف الضمة للاستثقال ثم الياء لالتقائها ساكنة مع الواو {قالوا آمنا} أي: كإيمانكم {وإذا خلوا} منهم ورجعوا {إلى شياطينهم} أي: الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم المظهرون كفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر، أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم {قالوا إنا معكم} أي: في الدين والاعتقاد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية ومماثلي الشياطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، وقصدوا بالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق ورغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ولا توقع رواج ادّعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار {إنما نحن مستهزئون} بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أي: نسخر بهم بإظهارنا الإسلام لأنّ المستهزىء بالشيء المستخف به مصرّ على خلافه فهذا تأكيد لما قبله أو بدل منه لأنّ من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف فكأنّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا: إنا معكم، إن صح ذلك: فما بالكم توافقون المؤمنين وتدّعون الإيمان فأجابوا بذلك. تنبيه: بين سبحانه وتعالى بهذه الآية معاملة المنافقين مع المؤمنين والكفار، روى الواحديّ وغيره ولكن بسند ضعيف «أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة فقال لقومه: انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال: مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: مرحباً بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عليّ رضي الله تعالى عنه فقال: مرحباً بابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه» أي: ـ زوج بنته عند العامّة وعند العرب كل من كان من قبل المرأة ـ وكل منهما صحيح هنا، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وما صدّر به قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا} فمسوق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير. {الله يستهزىء بهم} أي: يجازيهم على استهزائهم، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة بسيئة، إما لمقابلة اللفظ باللفظ أو لكونه مماثلاً له في القدر ومثل هذا يسمى مشاكلة أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم أو يعاملهم معاملة المستهزىء، أما في الدنيا فبإجراء أحكام الإسلام عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة مع التمادي في الطغيان، وأمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} (المصطففين، 34) وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أنه تعالى تولى مجازاتهم ولم يحوج المؤمنين أن يعارضوهم وأنّ استهزاءهم لا يبالي به لحقارتهم {ويمدّهم في طغيانهم} أي: في ضلالاتهم {يعمهون} يتردّدون متحيرين، والطغيان بالضم والكسر تجاوز الحدّ في العصيان والغلوّ في الكفر، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه، قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم} (الحاقة، 11) قال البيضاوي: والعمه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير في الأمر يقال: رجل عامه وعمه وأرض عمهاء لا منار لها اه. وظاهر كلامه اختصاص العمه بالبصيرة والعمى بالبصر وهو ما ذكره ابن عطية فبينهما تباين، وقال الإمام وغيره: العمه في البصيرة والعمى عام فيها وفي البصر، فبينهما عموم مطلق وأمال الدوري عن الكسائي ألف طغيانهم إمالة محضة وفتحها الباقون. {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي: اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصل الشراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 من الأعيان فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث أنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء وإلا فالثمن ما دخلت عليه الباء فباذله مشتر وآخذه بائع ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى، وأمال ألف الهدى حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح {فما ربحت تجارتهم} أي: ما ربحوا فيها. والتجارة: التصرف بالبيع والشراء، والربح الفضل على رأس المال، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على سبيل الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث أنها سبب للربح والخسران واتفق القرّاء على إدغام التاء في التاء وكذا كل مثلين الأوّل منهما ساكن {وما كانوا مهتدين} لطرق التجارة فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعداهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى إدراك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل. {مثلهم} أي: شبههم وصفتهم في نفاقهم {كمثل الذي} بمعنى الذين بدليل سياق الآية ونظيره {والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون} (الزمر، 33) ، وقوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} (التوبة، 69) أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج الذي {استوقد} أي: أوقد {ناراً} في ظلمة لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل وهو بيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم، قال البيضاوي: والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. اه. والأكثر على أنّ استوقد هنا بمعنى أوقد كما قدرته لا بمعنى طلب الوقود {فلما أضاءت} أي: أنارت النار، وأضاء لازم ومتعدّ، يقال: أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره {ما حوله} أي: المستوقد فأبصر واستدفأ وأمن ما يخافه {ذهب الله بنورهم} أي: أطفأه وهذا جواب لما وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى، إما لأن الكل بفعله أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك، يقال: ذهب السلطان بماله إذا أخذه وأمسكه وما أخذه الله تعالى وأمسكه فلا مرسل له ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور فإنه لو قيل: ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكده بقوله تعالى: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية، وكيف جمع الظلمة، وكيف نكرها، وكيف أتبعها بما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله: {لا يبصرون} وظلماتهم: ظلمة الكفر؛ وظلمة النفاق؛ وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم، أو ظلمة الضلال؛ وظلمة سخط الله؛ وظلمة العقاب السرمدي، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة، والآية وهي قوله: {مثلهم} إلخ مثل ضربه الله لإيمان المنافقين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 حيث أنه يعود عليهم بحقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد ومشاركة المسلمين في المغانم والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، هذا هو الوارد، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، وقيل: مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهدى وأضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيراً متحسراً تقريراً وتوبيخاً لما تضمنه قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} إلخ.. ويدخل تحت عموم ما تضمنته الآية هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتدّ عن دينه بعدما آمن. وقرأ ورش بترقيق راء يبصرون. {س2ش18/ش20 صُمُّ? بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى? ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ? وَاللَّهُ مُحِيطُ? بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ? كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا? فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا?? وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ? إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} هم {صم} عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول، وأصل الصمم صلابة من اجتماع الأجزاء ومنه قيل: حجر أصم وقناة صماء وصمام القارورة سمي به فقدان حاسة السمع لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مجتمعاً لا تجويف فيه يشتمل على هواء يسمع الصوت بتموّجه {بكم} خرس عن الخير فلا يقولونه، والخرس في الأصل عدم القدرة على النطق {عمي} عن طريق الهدى فلا يرونه، والعمى في الأصل عدم البصر عما من شأن أن يبصر، وقد يقال لعدم البصيرة {فهم لا يرجعون} أي: لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه أو عن الضلالة التي اشتروها. {أو} مثلهم {كصيب} فهو معطوف على الذي استوقد أي: كمثل أصحاب صيب لقوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وأوفى الأصل للتساوي للشك، ثم اتسع فيها فأطلق للتساوي من غير شك مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان، 24) فإنه يفيد التساوي في حسن المجالسة في المثال الأول ووجوب العصيان في الثاني ومن ذلك قوله: {أو كصيب من السماء} ومعناه بقرينة السياق أنّ قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيتهما شئت وإن كان الثاني أبلغ كما قاله الزمخشري، قال: لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته، والصيب أصله صيوب من صاب يصوب وهو النزول، يقال للمطر وللسحاب، والآية تحتملهما، أي ينزل {من السماء} ذلك فإن قدّرت الصيب بالمطر فالمراد بالسماء السحاب وإنّ قدرته بالسحاب فالمراد السماء بعينها والسماء كل ما علاك وأظلك وهي من أسماء الأجناس فيكون واحداً وجمعاً {فيه} أي: الصيب، وقيل: السماء {ظلمات} جمع ظلمة فإن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وإن أريد به السحاب فظلماته سواده وتكاثفه مع ظلمة الليل {ورعد} وهو صوت يسمع من السحاب قال البيضاوي: والمشهور أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد {وبرق} وهو ما يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً، هذا ما جرى عليه الجوهري وغيره، وهو المناسب هنا وإن أطلق الرعد على الملك أيضاً فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث، ففي بعضها: أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب بسوقه إلى حيث شاء الله وصوته ما يسمع، وفي بعضها: أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وفي بعضها: أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفي بعضها: أنه ملك مسمى به وهو الذي تسمعون صوته {يجعلون} أي: أصحاب الصيب {أصابعهم} أي: أناملها وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة لما في ذلك من الإشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فراراً من شدّة الصوت {في آذانهم} وقوله: {من الصواعق} متعلق بيجعلون أي: من أجلها يجعلون وهو جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه ويقال لكل عذاب مهلك: صاعقة وقيل: الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء. روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. وأمال الدوريّ عن الكسائي الألف التي بعد الذال في آذانهم إمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {حذر الموت} نصب على العلة كقول الشاعر: * وأغفر (أي: أستر) عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئم تكرما* قال البيضاوي: والموت زوال الحياة، زاد في «الطوالع» : عما من شأنه الحياة وفيه تساهل إذ يلزم منه أن يكون الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتاً، والأظهر كما في «شرح المواقف» أن يقال: عدم الحياة عما اتصف بها بالفعل فبينهما تقابل العدم والملكة على التفسيرين، وقيل: عرض يضادّها فبينهما تقابل التضاد لقوله تعالى: {خلق الموت والحياة} (الملك، 2) فجعل الموت مخلوقاً والعدم لا يخلق وردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإعدام مقدّرة ولو سلم بأنه بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة وبذلك علم أنّ القول الأوّل هو المعتمد وكلام أئمة اللغة طافح به وحاصله أنّ الموت مفارقة الروح الجسد وما ورد في الأحاديث من أنه جسم؛ حيث قيل في بعضها: إنه كبش، وفي بعضها: إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤوّل بأنه لم يقصد بالموت فيها حقيقته بل قصد أنه يصوّر بصورة كبش كما في خبر الشيخين وغيرهما «أنه يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار» إلخ ... {وا محيط بالكافرين} علماً وقدرة فلا يفوتونه كما لا يفوت المحاط، به المحيط لا يخلصهم الخداع والحيل، وقيل: مهلكم دليله قوله تعالى: {إلا أن يحاط بكم} (يوسف، 66) أي: تهلكوا، والجملة اعتراضية لا محل لها، قال أبو حيان: لأنها دخلت بين هاتين الجملتين، وهما يجعلون أصابعهم ويكاد البرق وهما من قصة واحدة، ويميل ورش الألف بعد الكاف بين بين وكذا الكافرين حيث جاء، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة المحضة فيهما حيث جاء، والباقون بالفتح. {يكاد البرق} يقرب لأن كاد من أفعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لحصول سببه لكنه لم يوجد إما لفقد شرط أو لعروض مانع وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب {يخطف أبصارهم} يختلسها، والخطف: الأخذ بسرعة {كلما أضاء لهم مشوا فيه} أي: ضوئه {وإذا أظلم عليهم قاموا} أي: وقفوا متحيّرين فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفاتها أنّ الساري لا يمكنه المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم في آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدّة توقده، فهذا مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ضربه الله تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر: القرآن، لأنه حياة القلوب كما أنّ المطر حياة الأبدان، والظلمات: ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك، والرعد: ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار، والبرق: ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة، والكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه ولإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم، وإنما قال الله تعالى مع الإضاءة: كلما ومع الإظلام: إذا، لأنهم حرّاس على المشي كلما صادفوا منه فرصة مما يحبون انتهزوها ولا كذلك التوقف فيما يكرهون. ومعنى قاموا: وقفوا، كما مرّ، ومنه قامت السوق إذا ركدت، أي: سكنت، ويقال: قامت السوق بمعنى: نفقت، فهو من الأضداد. {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} بمعنى: أسماعهم {وأبصارهم} الظاهرة كما ذهب بالباطنة، أي: ولو شاء أن يذهب بسمعهم بشدّة صوت الرعد وأبصارهم بلمعان البرق لذهب بهما فحذف المفعول وهو أن يذهب لدلالة الجواب وهو لذهب عليه، ولقد تكاثر حذف المفعول في شاء وأراد إذا وقعا في حيز الشك كما هنا لدلالة الجواب على ذلك المحذوف حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب، كقول القائل: *فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع* وأتى فيه بالمفعول لأنّ بكاء الدم مستغرب ونصب دماً لتضمنه معنى الصب ولو من حروف الشرط، قال البيضاوي: وظاهرها الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. اه. وهذا مذهب ابن الحاجب، وأمّا مذهب الجمهور وهو الأصح فإنها في الأصل لانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل، فمعنى لو جئتني أكرمتك أن انتفاء الاكرام لانتفاء المجيء، وقيل: إنها لمجرّد الربط كان ومن ثم قال التفتازاني أنّ لو هنا لمجرّد الشرط بمنزلة أن لا بمعناها الأصلي وفائدة هذه الجملة الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه وهو أنه تعالى أمهل المنافقين فيما هم فيه ليتمادوا في الغيّ والفساد ليكون عذابهم أشدّ وللتنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى، وقوله تعالى: {إن الله على كل شيء} أي: يشاؤه، {قدير} كالتصريح بما ذكر والتقرير له والشيء يختص بالموجود فلا يطلق على المعدوم. فإن قيل: لو اختص الشيء بالموجود لما تعلقت به القدرة لأنها الصفة المؤثرة على وفق الإرادة وتأثيرها الإيجاد وإيجاد الموجود محال فالذي تعلقت به القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء، أجيب: بأن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق وهو غير لازم، واللازم إيجاد موجود هو أثر ذلك الإيجاد وليس بمحال، والقدرة هو التمكن من إيجاد الشيء، وقيل: صفة مقتضى التمكن، وقيل: قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عنه، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، والقدير الفعال لما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى، واشتقاق القدير من القدرة لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدرار قوّته أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، وفي ذلك دليل على أنّ الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران، وأنّ مقدور العبد مقدور الله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 هاشم لأنه شيء وكل شيء مقدور، واحتج بعض الفرق بأن هذه الآية تدل على أن الله تعالى ليس بشيء، قال: لأنها تدل على أنّ كل شيء مقدور لله تعالى والله سبحانه وتعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئاً، واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} (الشورى، 11) قال: لو كان هو تعالى شيئاً فهو تعالى مثل مثل نفسه فكان يكذب قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا يناقض هذه الآية. واعلم أنّ هذا الخلاف في الاسم لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، واحتج أصحابنا بوجهين: الأوّل قوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} (الأنعام، 19) والثاني قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص، 88) والمستثنى داخل في المستثنى منه فوجب أن يكون شيئاً، وأجيب عن قوله: إنّ هذه الآية تدل على أن الله تعالى قادر على نفسه بأنّ تخصيص العام جائز في الجملة وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل. فإن قيل: إذا كان اللفظ موضوعاً للكل ثم إنه تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً وذلك يوجب الطعن في القرآن، أجيب: بأنّ لفظ الكل كما أنه مستعمل في المجموع فقد يستعمل مجازاً في الأكثر فإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً. ورقق ورش الراء من قدير وصلاً ووقفاً، وباقي القراء بالترقيق وقفاً لا وصلاً. ولما عدّ سبحانه وتعالى فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل تعالى عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات بقوله تعالى: {يأيها الناس اعبدوا ربكم} تحريكاً للسامع وتنشيطاً له واهتماماً بأمرالعبادة وتفخيماً لشأنها وجبراً لمشقة العبادة بلذة المخاطبة ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلاً له منزلة البعيد، إمّا لعظمته كقول الداعي: يا رب ويا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد، أو لغفلته وقلة فهمه، أو للاعتناء بالمدعوّ له وزيادة الحث عليه، ولفظ الناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل وإن قال الإمام الرازي: الأقرب أنه لا يتناوله لأن {يا أيها الناس} صرف خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وتناوله له لدليل منفصل وهو ما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة.H فإن قيل: روي عن عقبة والحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن كل شيء نزل فيه {يا أيها الناس} فمكي و {يا أيها الذين آمنوا} فمدني، فكيف تكون هذه السورة مكية وقد نزلت بالمدينة؟ أجيب: بأنّ المراد بقولهم: السورة مكية أو مدنية أنّ غالبها ذلك والأولى أن يقال إنّ ذلك أكثري لا كلي وأن سورة البقرة والنساء والحجرات مدنيات باتفاق وقد قال تعالى في كل منها: {يا أيها الناس} وسورة الحج مكية سوى ما استثنى وفيها من غيره {يا أيها الذين آمنوا اركعوا} ولا يختص ذلك الخطاب بالكفار ولا بأمرهم بالعبادة فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإيمان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفع الكفر والاشتغال بالعبادة ومن المؤمنين ازديادهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وثباتهم عليها وإنما قال الله تعالى: {ربكم} تنبيهاً على أنّ الموجب للعبادة هي الربوبية، وقوله تعالى: {الذي خلقكم} أي: أنشأكم ولم تكونوا شيئاً صفة جرت عليه للتعظيم والتعليل، ويحتمل التقييد إن خص الخطاب بالمشركين، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق: إيجاد الشيء على تقدير واستواء، وأصله التقدير، يقال: خلق النعل، إذا قدّرها وسوّاها بالقياس. وقرأ أبو عمرو خلقكم بإدغام القاف في الكاف بخلف عنه {و} خلق {الذين من قبلكم} وهذا متناول لكل ما يتقدّم الانسان بالذات أو الزمان كتقدّم الجزء على الكل والواحد على الاثنين، وهو منصوب عطف على الضمير المنصوب في خلقكم كما علم من التقدير والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف، 87) {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (الزمر، 38) أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر، وقوله تعالى: {لعلكم تتقون} إما حال من الضمير في اعبدوا كأنه قال: اعبدوا، ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى نبه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبرّي من كل شيء سوى الله إلى الله وأنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء، كما قال تعالى: {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً يرجون رحمته ويخافون عذابه} (الإسراء، 57) ، وإمّا من مفعول خلقكم والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من ترجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه وغلب تعالى المخاطبين بقوله: {لعلكم} على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ولعل في الأصل للترجي وفي كلامه تعالى للتحقيق، والآية تدل على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته والعلم باستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله، وأنّ العبد لا يستحق بعبادته عليه تعالى ثواباً فإنها لما وجبت عليه شكراً لما عدّده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل وقوله تعالى: {الذي جعل} أي: خلق {لكم الأرض فراشاً} أي: بساطاً تفرش صفة ثانية، أو منصوب بتقدير أمدح، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف، ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوابنها بارزاً عن الماء مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط وذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنّ كرية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الفراش عليها فليس في ذلك إلا أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفاريش، وسواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة {و} جعل لكم {السماء بناء} أي: قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد وعلى المتعدد كالدينار والدرهم وقيل: جمع سماءة. والبناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ومنه: بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديداً، وقوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء} معطوف على {جعل} والمراد بها، إمّا السحاب فإنّ ما علاك سماء، وإمّا الفلك فإنّ المطر يبتدىء إمّا من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض كما دلت عليه الظواهر من الآيات كقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء} (لقمان، 10) وقوله تعالى: {أنزل من السماء ماءً فسلّكه ينابيع في الأرض} (الزمر، 21) ، وعن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً. {فأخرج به من} أنواع {الثمرات رزقاً لكم} تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشائها مرتقياً من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبراً وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة. تنبيه: من الأولى للابتداء ومن الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى: {فأخرجنا به ثمرات} (فاطر، 27) لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقاً كأنه تعالى قال: وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق، ويصح أن تكون من الثانية للتبيين ورزقاً مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل: أنفقت من الدراهم ألفاً، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفاً. فإن قيل: المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة؟ أجيب: بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى: {كم تركوا من جنات} (الدخان، 25) وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة، 238) فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة {فلا تجعلوا أنداداً} أي: شركاء في العبادة. فإن قيل: لم سمي ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله؟ أجيب: بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه: *أرباً واحداً أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور* أدين أي: أطيع، من دان أي: انقاد، إذا تقسمت أي: تفرّقت: *تركت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الرجل البصير* *ألم تعلم بأن الله أفنى ... رجالاً كان شأنهم الفجور* *وأبقى آخرين ببرّ قوم ... فيربو منهم الطفل الصغير* وقوله تعالى: {وأنتم تعلمون} حال من ضمير {فلا تجعلوا} ومفعول تعلمون متروك، أي: وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، كقوله تعالى: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 كون {وأنتم تعلمون} حالاً فالمقصود منه التوبيخ سواء أجعل مفعول تعلمون متروكاً أو مقدراً وإن كان التوبيخ في الأوّل آكد كما صرّح به «الكشاف» لا تقييد الحكم وقصره وهو النهي عن جعلهم لله أنداداً بحال علمهم فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف. تنبيه: قال البيضاوي: واعلم أنّ مضمون الآيتين أي {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} و {الذي جعل لكم} إلى آخرهما هو الأمر بعبادة الله والنهي عن الاشراك به تعالى والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى، وبيانه أنه تعالى رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنها العلة لوجوبها ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معايشهم من المقلة والمظلة أي: الأرض والسماء والمطاعم والملابس فإن الثمرة أعمّ من المطعوم أي: فتعم الثمرات الملابس كالمطاعم والرزق أعمّ من المأكول والمشروب ثم لما كانت هذه أموراً لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته رتب عليها النهي عن الإشراك به. ولعله سبحانه وتعالى أراد من الآية الأخيرة مع ما دلّ عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الانسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل فمثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بوساطة استعمال العقل للحواس وازدواج أي: اقتران القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج أي: اقتران القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار فإنّ لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حدّ مطلعاً. اه. هذا روي عن الحسن مرفوعاً مرسلاً، وظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم الظاهر، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها الخواص، وقيل: ظاهرها تلاوتها، وباطنها فهمها، والحدّ أحكام الحلال والحرام، والمطلع الإشراف على معرفتها. ولما قرّر سبحانه وتعالى وحدانيته وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقبه ما هو الحجة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كل بليغ مع كثرتهم وإفراطهم في المضادّة وتهالكهم على المغالبة بقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب} أي: شك {مما نزلنا على عبدنا} محمد من القرآن أنه من عند الله {فأتوا بسورة} وإنما قال تعالى: {مما نزلنا} لأنّ نزوله نجماً فنجماً بحسب الوقائع على ما يرى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} (الفرقان، 22) فكان الواجب تحدّيهم على هذا الوجه إزالة للشبهة وإلزاماً للحجة، فإن أهل الشعر والخطابة يأتون بأشعارهم وخطبهم على قدر الحاجة شيئاً فشيئاً ولما كان القرآن منزلاً كذلك طعنوا فيه بأنه مثل كلامهم فقيل لهم: إن ارتبتم في نزوله منجماً فأتوا بنجم منه لأنهم إذا عجزوا عن نجم منه فعجزهم عن كله أولى. وأضاف العبد إلى نفسه تنويهاً بذكره وتنبيهاً على أنه مختص به منقاد لحكمه. والسورة من القرآن الطائفة منه المترجمة التي لها أوّل وآخر أقلها ثلاث آيات. والحكمة في تقطيع القرآن سوراً إفراد الأنواع وتلاحق الأشكال وتجاوب النظم وتنشيط القارىء وتسهيل الحفظ والترغيب فيه، فإنّ القارىء إذا ختم سورة فرّج ذلك عنه بعض كربه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى بريداً، أو الحافظ إذا حفظ سورة اعتقد أنه أخذ من القرآن حظاً تامّاً وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غيرها من الفوائد، وقوله تعالى: {من مثله} صفة سورة أي: بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا ومن للتبعيض، أو للتبيين، وزائدة عند الأخفش، أي: بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم، وقيل: الضمير لعبدنا، ومن للإبتداء أي: بسورة كائنة ممن هو على حاله من كونه بشراً أميّاً لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم، والوجه الأول أولى لأنه المطابق لقوله تعالى في سورة يونس: {فأتوا بسورة مثله} (يونس، 38) ولسائر آيات التحدي، ولأنّ الكلام في المنزل لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم إذ المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فأتوا بقرآن من مثله ولأنّ مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جنسهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم: ليأت بنحو ما أتى به عبدنا آخر مثله ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} (الإسراء، 88) ولأن عود الضمير إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ولا يلائمه قوله تعالى: {وادعوا شهداءكم من دون الله} فإنه تعالى أمر أن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم سواء كان مثله أم لا والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، ومنه قيل للمقتول في سبيل الله: شهيد، لأنه حضر ما كان يرجوه أو الملائكة حضروه، ومعنى دون: أدنى مكان من الشيء، ومنه تدوين الكتب لأنه أدنى البعض، من البعض ودونك هذا أي: خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للرتب فقيل: عمرو دون زيد، أي: في الشرف، ومنه الشيء الدون، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى آخر وتخطي أمر إلى آخر وإن خلى عن الرتبة قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} (آل عمران، 28) أي: لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين، ومن متعلقة بادعوا فهي لابتداء الغاية، والمعنى: وادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وادعوا آلهتكم التي تعبدونها غير الله وتزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة، أي: استعينوا بهم في الإتيان بما ذكر {إن كنتم صادقين} في أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه، وأن آلهتكم تشهد لكم بذلك، وجواب هذا الشرط محذوف تقديره فافعلوا أي: ما ذكر من الإتيان بسورة دل عليه قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا} ذلك والصدق الإخبار المطابق وقيل: مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو إمارة لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم: {إنك لرسول الله} (المنافقون، 1) لما لم يعتقدوا مطابقته، ورد هذا القول بصرف التكذيب إلى قولهم: نشهد لأنّ الشهادة إخبار عما عمله وهم ما كانوا عالمين به، وقوله تعالى: {ولن تفعلوا} جملة معترضة أي: لا يقع منكم ذلك أبداً لإعجاز القرآن {فاتقوا النار التي وقودها} أي: ما تتقد به {الناس والحجارة} التي نحتوها واتخذوها أرباباً من دون الله طمعاً في شفاعتها والانتفاع بها ويدل لذلك قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء، 98) عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكانزون بما كنزوه أو حجارة الكبريت، كما رواه الطبراني عن ابن مسعود، والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 عنهما وعليه أكثر المفسرين، وإن قال البيضاوي: إنه تخصيص بغير دليل لأنّ مثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم المرفوع وأيضاً حجارة الكبريت أشدّ حرّاً وأكثر التهاباً وتزيد على غيرها من الأحجار سرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدّة الالتصاق بالأبدان وقيل: جميع الحجارة. تنبيه: تفعلوا مجزوم بلم لا بإن لأن لم واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول، ولأنها لما صيرته ماضياً صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع وكأنه قال: فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما وحاصله أن إن تقتضي الاستقبال ولم تقتضي المضيّ فرجحت لم لما ذكر فيكون المعنى على المضيّ دون الاستقبال وقيل: إنّ إن بمعنى إذ ولا إشكال حينئذٍ، وقيل: كل منهما على حقيقته، والمعنى إن تبيّن في المستقبل عدم فعلكم في الماضي ولن تفعلوا في المستقبل فاتقوا النار، ولن كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف بسيط ثنائي الوضع، وقيل: أصله لا إن حذفت الهمزة منها لكثرتها في الكلام ثم ألف لا لالتقاء الساكنين. ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم: {ناراً وقودها الناس والحجارة} (التحريم، 6) وسمعوه صح تعريف النار ووقوع الجملة صلة فإن الصلة يجب أن تكون معلومة وهي معلومة هنا من سورة التحريم حيث وقعت صفة. فإن قيل: الصفة أيضاً يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة وإلا لكانت خبراً ولهذا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف فيأتي في الصفة في آية التحريم ما ذكر في الصلة أجيب: بأنّ الصلة والصفة يجب كونهما معلومين للمخاطب لا لكل سامع وما في التحريم خطاب للمؤمنين وقد علموا ذلك لسماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه ناراً موصوفة بتلك الجملة فجعلت فيما خوطبوا به {أعدّت} أي: هيئت {للكافرين} وجعلت عدّة لعذابهم، وفي ذلك دليل على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن، والجملة استئناف أو حال من النار بإضمار قد، والعامل في الحال اتقوا وهي حال لازمة فلا يشكل بأنّ النار أعدّت للكافرين اتقوها أم لا. تنبيه: قال البيضاوي: في الآيتين أي: آية {إن كنتم في ريب} وآية {فإن لم تفعلوا} (البقرة، 24) ما يدل على النبوّة من وجوه: الأوّل: ما فيهما أي: في مجموعهما من التحدي والتحريض على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإيتان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن العزيز ثم أنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم يتصدّوا لمعارضته والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج لأنّ قوله من التحدي راجع للآية الأولى والباقي راجع إلى الثانية، والثاني: تضمنهما أي: مجموعهما الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر لأنّ ذلك راجع للآية الثانية، والثالث: أنه عليه الصلاة والسلام لو شك في أمره ـ أي: نفسه ـ لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتذهب حجته، وهذا راجع إلى الآية الأولى. ثم عطف سبحانه وتعالى حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفية عقابه على عادة ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بالترهيب تنشيطاً لاكتساب ما ينجي وتثبيطاً عن اقتراف ما يردي بقوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي: الطاعات {أن لهم جنات} أي: حدائق ذات شجر ومساكن، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عالم كل عصر، أو كل أحد يقدر على البشارة أن يبشر الذين آمنوا ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنؤوا بما أعد لهم، والبشارة: الخبر الصدق السار أوّلاً فإنه يظهر أثر السرور في البشرة لأن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة ولذلك قال الفقهاء: البشارة هو الخبر الأوّل حتى لو قال الرجل لعبيده: من يبشرني بقدوم ولدي فهو حرّ فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ولو قال: من أخبرني عتقوا جميعاً. فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} ؟ أجيب: بأنّ ذلك ورد على سبيل التهكم كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49) وعطف سبحانه وتعالى العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما إشعاراً بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التيقن والتصديق أس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا نفع تام بأس لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا مفردين وفي عطف العمل على الإيمان دليل على أنّ الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان إذ الأصل أنّ الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه، وجمع سبحانه وتعالى الجنة لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عباس سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعلييون، وفي كل واحدة من هذه السبع مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال.l واللام في الصالحات للجنس لا للاستغراق إذ لا يكاد المؤمن أن يعمل جميع الصالحات، واللام في لهم تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فإنه لا يكافىء النعم السابقة فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاءً فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ عليه حتى يموت وهو يؤمن لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (البقرة، 217) ولعله سبحانه وتعالى لم يقيدها هنا استغناء بهذه الآية وأشباهها {تجري من تحتها} أي: من تحت أشجارها ومساكنها {الأنهار} كما تراها جارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها، وعن مسروق: أنهار الجنة تجري في غير أخدود، قال الجوهري: الأخدود شق مستطيل في الأرض واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري، قال البيضاوي: أو للعهد والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: {أنهار من ماء غير آسن} (محمد، 15) الآية. اه. قال التفتازاني: إنما يصح هذا لو ثبت سبق قوله تعالى: {أنهار من ماء غير آسن} في الذكر. اه. والنهر بالفتح والسكون: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات، والمراد بالأنهار ماؤها على حذف مضاف أو تسمية للماء باسم مجراه مجازاً وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة، 2) {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً} أي: أطعموا من تلك الجنات ثمرة، ومن صلة {قالوا هذا الذي رزقناكم} أي: أطعمنا {من قبل} أي: من قبل هذا في الدنيا جعل الله تعالى ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أوّل ما يرى فإنّ الطبائع مائلة إلى المألوف مستنفرة من غيره أي: هذا من نوعه لتشابه ما يؤتون به في الصورة كما قال تعالى: {وأتوا به متشابهاً} أي: في اللون والصورة مختلفاً في الطعم وذلك أبلغ في باب الاعجاز، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وافتخارهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة، وقيل: في الجنة لأن طعامها متشابه الصورة كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل كل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فتقول الملائكة: كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده إنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها» وعن مسروق: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى والعنقود اثنا عشر ذراعاً. فإن قيل: على الأوّل التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس: ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. أجيب: بأن التشابه، بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم وهو كاف في إطلاق التشابه، وللآية كما قال البيضاوي محمل آخر وهو أنّ مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها فيحتمل أن يكون المراد من هذا الذي رزقنا أنه ثوابه ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والرتبة وعلوّ الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله تعالى: {ذوقوا ما كنتم تعملون} (العنكبوت، 55) في الوعيد {ولهم فيها} أي: الجنات {أزواج} من الحور العين والآدميات {مطهرة} مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهنّ كالحيض والدرن أي: الوسخ ودنس الطبع وسوء الخلق فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال ومعنى تطهيرهنّ مما ذكر كما قال التفتازاني: إنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهنّ لا التطهر الشرعي بمعنى إزالة النجس الحسي أو الحكمي، كما في الغسل عن الحيض والزوج يقال: للذكر والأنثى، قال تعالى: وأصلحنا له زوجه، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف. فإن قيل: فائدة المطعوم هو التقوى ودفع ضرر الجوع وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع وهذه الفوائد مستغنى عنها في الجنة. أجيب: بأن مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها {وهم فيها خالدون} أي: دائمون أحياء، لا يموتون ولا يخرجون، والأصل في الخلود الثبات المديد دام أو لم يدم إذ لو كان وضعه للدوام لكان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى: {خالدين فيها أبداً} تأكيداً لا تأسيساً والأصل خلافه لكن المراد به الدوام في الآية عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن. فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادّة الكيفية معرضة للاستحالات المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنات؟ أجيب: بأنه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية متساوية في القوّة لا يقوى شيء منها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن، ولما كان معظم اللذات الحسية مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح على ما دلّ عليه الاستقراء وكان مآل ذلك كله الثبات والدوام وأنّ كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بالمساكن والمطاعم والمناكح فبشر بالأوّل بقوله تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار} وبالثاني بقوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً} الآية وبالثالث بقوله تعالى: {ولهم فيها أزواج مطهرة} ومثل ما أعدّ لهم في الآخرة بأحسن ما يستلذ منها، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور. ولما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى: {وإن يسلبهم الذباب} (الحج، 73) وقوله تعالى: {كمثل العنكبوت} (العنكبوت، 41) قالت اليهود: ضرب المثل بذلك مما يستحيا منه لخسته فليس من عند الله تعالى فنزل ردّاً عليهم. {إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئك هُمُ الْخَاسِرُونَ * كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {إن الله لا يستحيي} أي: لا يترك {أن يضرب مثلاً مّا بعوضة} وهي صغيرة البق ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذف من عند سيبويه، ويجوز كما في «الكشاف» نصبه بإفضاء الفعل إليه بنفسه فإن استحيا يتعدّى بنفسه أيضاً، يقال: استحييت منه واستحييته، وما إمّا إبهامية تزيد النكرة قبلها إبهاماً وإمّا مزيدة لتأكيد معنى مضمون الجملة قبلها كالتي في قوله تعالى: {فبما رحمة من الله} (آل عمران، 159) ولا يراد بالمزيد اللغو الضائع فإن القرآن كله هدى وبيان بل المراد بالمزيد ما لم يوضع لمعنى يراد منه وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيده وثاقة وقوّة وهو زيادة في الهدى غير قادح في القرآن، وبعوضة عطف بيان أو بدل من مثلاً أو مفعول ثان ليضرب بمعنى يجعل، والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً فإذا وصف به الباري سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث «إنّ الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه» «إنّ الله حييّ كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً» فالمراد به الترك كما قدّرته اللازم للانقباض كما أنّ المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيء الحياء فيها للمشاكلة وهو أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته ولو تقديراً كما هنا وهو قول الكفرة: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت. ولما كان التمثيل ويصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإنّ المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأنّ من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل سبحانه وتعالى في الإنجيل غلّ الصدر بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة ومخالطة السفهاء بإثارة الزنابير ونصه على ما حكاه الفخر الرازي في الأوّل: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 في صدوركم. وفي الثاني: قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الريح. وفي الثالث: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم، وجاء في كلام العرب أسمع من قراد لأنّ العرب تزعم أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرّك لها، وقيل: من مسيرة سبع ليال وأعز من مخ البعوض يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة {فما فوقها} أي: ما زاد على البعوضة في الجثة كالذباب والعنكبوت، والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه، أو المعنى الذي جعلت فيه مثلاً وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضرب جناحها مثلاً للدنيا بقوله في خبر الترمذي: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» ونظيره في احتمال الفوقية للجثة وللمعنى ما روى البخاري وغيره: أنّ رجلاً بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في الألم كالسقوط على الطنب وما زاد عليها في القلة كقرصة النملة، والطنب حبل الخباء، والفسطاط بيت من شعر. {فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه} أي: ضرب المثل بذلك {الحق} أي: الواقع موقعه {من ربهم} لأن الحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. وهم يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم: حق إذا ثبت ومنه ثوب محقق، أي: محكم النسج، وأمّا حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء، قال سيبويه: أمّا زيد فذاهب معناه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب أي: هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لا الخبر لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الفاء على الخبر وعوضوا المبتدأ عن جملة الشرط لفظاً {وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا} يحتمل وجهين: أن تكون ما استفهامية وذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما، وأن تكون ما مع ذا اسماً واحداً بمعنى أيّ شيء {أراد الله بهذا} فهو منصوب المحل على المفعولية لأراد فما وذا كما في «الكشاف» في حكم ما وحده لو قلت ما أراد الله وكان من حقه، وأمّا الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه وهو الذين آمنوا ويقابل قسيمه وهو يعلمون أنه الحق، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية عن عدم علمهم ليكون كالبرهان عليه والإرادة صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم ترجح أحد مقدوريه على الآخر وتخصصه بوجه دون وجه بخلاف القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقاً وقوله تعالى: {مثلاً} نصب على الحال من اسم الإشارة والعامل فيه اسم الإشارة أو التمييز والمعنى أي فائدة في ذلك فقال تعالى: {يضلّ به كثيراً} بأن يكذبوا به {ويهدي به كثيراً} بأن يصدقوا به وكثرة كل واحد من القبيلين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس أي: لا بالنظر إلى مقابليهم فإنّ المهتدين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ، 13) ويحتمل أن تكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف كما قال المتنبي في مدح علي بن يسار: * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد* *ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ... قليل إذا عدّوا كثيراً إذا شدوا* وقال: إن الكرام كثير (أي: كرماً) في البلاد وإن قلوا (أي: عدداً) ، كما غيرهم (قل بضم القاف وكسرها أي: قليل كرماً) وإن كثروا. أي: عدداً {وما يضلّ به إلا الفاسقين} أي: الخارجين عن حدّ الإيمان بالكفر كقوله تعالى: {إنّ المنافقين هم الفاسقون} (التوبة، 67) وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال بالمثل وسبب ضلالتهم به أن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت به ضلالتهم فأنكروا المثل واستهزؤوا به، وأمّا الفاسق في الشرع فهو الخارج عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ولم تغلب طاعاته على معاصيه ولا يخرجه ذلك عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء أكانت كبيرة أم صغيرة قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات، 9) والمعتزلة جعلوا الفاسق قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام. ثم بين سبحانه وتعالى صفة الفاسقين بقوله: {الذين ينقضون عهد الله} وهو إمّا المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسله وعليه يدلّ قوله تعالى: {وأشهدهم على أنفسهم} (الأعراف، 172) وإمّا المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه وعليه يدل قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} (آل عمران، 187) الآية وقيل: عهود الله ثلاثة: عهد أخذه بواسطة العقل على جميع ذرّية آدم بأن يقروا بربوبيته، وعهد أخذه بواسطة الملك على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، وعهد أخذه بواسطة الرسل على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه، وقوله تعالى: {من بعد ميثاقه} أي: توكيده، يحتمل عود الضمير للعهد فهو من إضافة المصدر إلى المفعول أو لله فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، قال البيضاويّ: ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر واعترض: بأنّ النحويين لم يذكروا مفعالاً في صيغ المصادر، وأصله أن يكون وصفاً كمطعام ومسقام. وأجيب: بحمل ذلك على أنه اسم واقع موقع المصدر كما يشير إليه قوله بمعنى المصدر: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} وهو الرحم لأنهم قطعوا رحم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمعاداة معه، ويحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطع الرحم والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكتب في التصديق وترك الجماعات وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل، وقيل: مع العلوّ، وقيل: مع الاستعلاء، وأن يوصل بدل من الهاء، وقرأ ورش بتغليظ اللام وصلاً وإذا وقف رقق وغلظ وأدغم خلف النون في الياء بغير غنة {ويفسدون في الأرض} بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه {أولئك هم الخاسرون} بفوات التوبة والمصير إلى العقوبة بإهمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها، واشتروا النقض بالوفاء؛ والفساد بالصلاة؛ والعقاب بالثواب. ثم وبخ سبحانه وتعالى الكفار بقوله: {كيف تكفرون با} أي: أخبروني على أي حال تكفرون {وكنتم أمواتاً} أي: نطفاً في أصلاب آبائكم لا إحساس لكم {فأحياكم} في الأرحام ثم في الدنيا بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي، وقرأ الكسائي بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. {ثم يميتكم} عند انقضاء آجالكم {ثم يحييكم} للبعث يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور. قال التفتازاني: ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور، ولا بعد فيه لشدّة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا {ثم إليه ترجعون} تردّون بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع عملكم بحالكم هذه. فإن قيل: إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون أجيب: بأن تمكنهم من العلم بما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما في الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته. فإن قيل: كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ أجيب: بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} (العنكبوت، 64) يعني: الحياة، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي: جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث أنه كمالها وغايتها والموت بإزائها، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى: {قل الله يحييكم ثم يميتكم} (الجاثية، 26) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى: {اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها} (الحديد، 17) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} (الأنعام، 122) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أو معنى قائم بذاته تعالى، ثم أومأ إلى مشيئته وقدرته فقال: {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ا?رْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى? إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّ?ـاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ? وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَا??ـ?ِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى ا?رْضِ خَلِيفَةً? قَالُو?ا? أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ? قَالَ إِنِّي? أَعْلَمُ مَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَءَادَمَ ا?سْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَا?ئِكَةِ فَقَالَ أَن?بِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَا?ؤُ?ءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا? سُبْحَانَكَ عِلْمَ لَنَآ إِs مَا عَلَّمْتَنَآ? إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} {هو الذي خلق لكم ما في الأرض} أي: لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط كالأدوية المركبة، أو غير وسط كالثمرة والأدوية المفردة، وفي دينكم بالاستدلال على موجدكم ففي ذلك نعمة على عباده سبحانه وتعالى وما نعم كل ما في الأرض لا الأرض إلا إن أريد بالأرض جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو وقوله تعالى: {جميعاً} حال من الموصول الثاني وهو ما وهي حال مؤكدة لما لاتحادهما في العموم وهذا أقرب من جعله حالاً من ضمير لكم لأنّ سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم لا في تعداد المنعم عليهم، ولأنّ المنة بتعداد النعم أظهر من المنة بتعداد المنعم عليهم لأنّ مقدار النعم يصل إلى كل أحد {ثم استوى إلى السماء} أي: قصد إلى خلقها بإرادته، وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله على الله تعالى لأنه من خوّاص الأجسام وقيل: استوى استولى كما قيل: *قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق* والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو ليطابق قوله تعالى: {فسوّاهنّ سبع سموات} فجمع الضمير العائد إلى السماء لإرادة الجنس، وقيل: لأنّ السماء جمع سماءة أي: جعلهنّ مستويات لا شقوق فيهنّ ولا تفاوت، قال البيضاويّ: وثم لعله لتفاوت ما بين الخلقين أي: في القدر والعظم وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} (البلد، 17) لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات، 30) فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدّم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها. اه، وأجيب: بأنه لا يدل على ذلك لأن تقدّم خلق جرم الأرض على خلق جرم السماء لا ينافي تأخر دحوها عنه وهو بسطها، وردّه التفتازانيّ بأنه ليس على ما ينبغي لأن ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض من عجائب الصنع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام لا عن مجرّد خلق جرم الأرض قال: وسنذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر خلق السماء عن خلق الأرض ودحوها جميعاً حتى قيل: إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين وكثر ذلك في الروايات فلا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة، اه. والأوجه كما قاله بعض المفسرين الموافق لظاهر ما هنا وما سيأتي في فصلت تأويله مع الإيضاح أن يقال: إنّ خلق جرم الأرض مقدّم على خلق جرم السماء، وخلق وصفها ـ أعني: دحوها ـ مقدّم على خلق وصف السماء أعني تسويتها سبعاً، فمرجع الإشارة في قوله تعالى بعد ذلك جرم السماء لا وصفها وبذلك علم أن جعل ثم للتراخي في الوقت لا يخالف ما ذكر خلافاً لما زعمه البيضاويّ. فإن قيل: أليس أنّ أصحاب الأرصاد أثبتوا بالبراهين تسعة أفلاك وهي كرة القمر، فكرة عطارد، فكرة الزهرة، فكرة الشمس، فكرة المريخ، فكرة المشتري، فكرة زحل، فالفلك الذي فيه الكواكب الثابتة، فالفلك الأعظم وهو متحرّك كل يوم وليلة على التقرب دورة واحدة؟ أجيب: بأنّ ما ذكروه ليس مستنداً إلى دليل شرعي فلا ينبغي اعتباره. قال البيضاويّ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضمّ إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف وقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} أي: مجملاً ومفصلاً فيه تعليل كأنه قال: ولكونه عالماً بكيفية الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليماً فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلا من عالم حكيم رحيم أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداءً وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم. وقرأ حمزة والكسائي ثم استوى وفسوّاهنّ بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ وهو بسكون الهاء، والباقون بضمها، {و} اذكر يا محمد {إذ قال ربك للملائكة} وقيل: إذ زائدة أي: وقال ربك: وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وهو إلا إما يقدّر اذكر وهو الأولى أو تكون إذ مزيدة وإذ وإذا ظرفا توقيت إلا أنّ إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر، قال المبرد: إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى: {وإذ يمكر} (الأنفال، 30) يعني: وإذ مكروا، وإذا جاء إذا مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله تعالى: {إذا جاء نصر الله} (الفتح، 1) أي: سيجيء، وقرأ أبو عمرو بإدغام اللام في الراء بخلاف عنه، والباقون بالإظهار، والملائكة جمع ملك أصله ملاك والتاء لتأنيث الجمع وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة لأنهم وسايط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسل الله أو كالرسل إليهم لتوسط الأنبياء بينهم وبين الناس واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة شفافة ويعبرون عنها بنورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والجنّ قادرة على ذلك واستدلوا على ذلك بأنّ الرسل كانوا يرونهم أجساماً لطيفة متشكلة بأشكال مختلفة وزعم الحكماء ـ يعني الفلاسفة ـ أنهم جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة أي: المتصفة بفضائل العلم والعمل، بخلاف الشرّيرة فإنها عندهم: الشياطين البشرية الناطفة. قوله: البشرية وما بعده صفة للنفوس المفارقة للأبدان يعني: ما دامت في الأبدان تسمى النفوس، فإذا فارقتها كانت الملائكة، والمقول له الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وقيل: ملائكة الأرض وذلك أنّ الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجنّ فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجنّ في الأرض فمكثوا فيها دهراً طويلاً ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا فيها فبعث الله تعالى إليهم جنداً من الملائكة يقال له: الجنّ وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومن أشدّهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجنّ إلى شعوب الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى الله تعالى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال: ما أعطاني الله تعالى هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 تعالى له ولجنده: {إني جاعل في الأرض خليفة} وجاعل من جعل الذي له مفعولان وهما في الأرض خليفة أعمل فيهما لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق فيتعدّى لمفعول واحد وهو خليفة والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه، أي: جاعله بدلاً منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، والهاء فيه للمبالغة والمراد به لآدم صلى الله عليه وسلم لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذا كل نبيّ استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فبضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبىء ملكاً كما قال تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} (الأنعام، 9) أي: في صورة رجل ألا ترى أنّ الأنبياء لما فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان من الأنبياء أعلى رتبة كلمه بلا واسطة كما كلم موسى صلاة الله وسلامه عليه في الميقات ومحمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقيل: إنه خليفة من سكن الأرض قبله، وقيل: المراد آدم وذرّيته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضاً وإفراد اللفظ إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه أو على تأويل من يخلف، وفائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر تعالى بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} بالمعاصي {ويسفك الدماء} أي: يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان تعجبوا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد وقصدهم استكشاف ما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى: {بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء، 26) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أنّ العصمة من خواصهم أو قياس لأحد الثقلين على الآخر وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب {ونحن نسبح} متلبسين {بحمدك} أي: نقول سبحان الله وبحمده وهذه صلاة ما عدا الآدميين وعليها يرزقون قال تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء، 44) أي: يقول: سبحان الله وبحمده. روي عن أبي ذرّ: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله ملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» وقيل: ونحن نصلي بأمرك، قال ابن عباس: كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة {ونقدّس لك} ننزهك عما لا يليق بك، فاللام صلة والجملة حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج، والمعنى: أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر، وقيل: نقدّس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهر النفس عن الآثام {قال} تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} من المصلحة في استخلاف آدم وأنّ ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم، وقيل: إني أعلم أنّ فيكم من يعصيني وهو إبليس وجنوده، وقيل: إني أعلم أنهم مذنبون وأنا أغفر لهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الباء، والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ. {وعلم آدم الأسماء} أي أسماء المسميات {كلها} حتى القصعة والمغرفة، وقيل: علمه اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وقيل: صيغة كل شيء. قال أهل التأويل: إنّ الله عز وجل علم آدم جميع اللغات ثم كل واحد من أولاده بلغة فتفرّقوا في البلدان واختص كل فرقة منهم بلغة وذلك إمّا بخلق علم ضروري بها فيه أو ألقى في قلبه علمها أو بإرسال ملك أو بخطاب الله له أو بخلق الأصوات في الأجسام المسميات، والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالباً، ولذلك يقال: علمته فلم يتعلم. وآدم اسم أعجمي كسائر الأنبياء إلا صالحاً وشعيباً ولوطاً ومحمداً بل قيل: إنّ آدم أيضاً عربي وعلى هذا فاشتقاقه من الأدمة بضم الهمزة وسكون الدال بمعنى السمرة، أو الأدمة بفتح الهمزة والدال بمعنى الأسوة أي: القدوة أو من أديم الأرض أي: ظاهر وجهها. روى الحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها» ـ وهو بفتح الحاء المهملة ما غلظ من الأرض وصلب أي: وعجنت بالمياه المختلفة ـ فخلق منها آدم ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً فلذلك يأتي بنوه مختلفين في الألوان والأخلاق والهيئات، وأمّا على الأوّل فلا اشتقاق له لأنّ ذلك إنما يأتي في الأسماء العربية والأعجمي لا اشتقاق له، وكنيته أبو محمد وأبو البشر والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباعدة مستعدّاً لإدراك أنواع المدركات والمعقولات والمحسوسات والمخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها. وقرأ ورش في الهمزة من آدم بالمدّ والتوسط والقصر حيث جاء، وقوله تعالى: {ثم عرضهم على الملائكة} الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمناً في قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء} إذ التقدير أسماء المسميات كما مرّ تقريره فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام في الأسماء كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شيباً} (مريم، 4) لأنّ العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأسماء إذ العرض لا يصح فيها لأنها من المسموعات والعرض يختص بالمحسوسات بالعين تقول: عرضت الجند عرض العين إذا مررتهم عليك ونظرت ما حالهم. فإن قيل: لم قال عرضهم ولم يقل عرضها؟ أجيب: بأنّ الأسماء إذا جمعت جمع من يعقل ومن لا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور، وقال مقاتل: خلق الله كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة، والكناية راجعة إلى الشخوص فلذلك قال: {عرضهم على الملائكة} {فقال} لهم سبحانه وتعالى تبكيتاً لهم وتنبيهاً على عجزهم عن أمر الخلافة {أنبئوني} أي: أخبروني {بأسماء هؤلاء} المسميات {إن كنتم صادقين} أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل وأعلم منه وذلك أنّ الملائكة قالوا لما قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} : ليخلق ربنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ما يشاء فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم، وجواب الشرط دل عليه ما قبله. {قالوا} أي: الملائكة إقراراً بالعجز وإشعاراً بأنّ سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه وإظهاراً لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما التبس عليهم {سبحانك} تنزيهاً عن الاعتراض عليك {لا علم لنا إلا ما علمتنا} إياه وفي هذا مراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه سبحانه وتعالى وتصدير الكلام بسبحان إعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال فإنه تعالى منزه عن أن يفعل ما يخرج عن الحكمة، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه الصلاة والسلام: {سبحانك تبت إليك} (الأعراف، 143) وقال يونس عليه الصلاة والسلام: {سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء، 87) . تنبيه: اجتمع في قوله تعالى: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أربع مدّات، الأولى: أنبئوني، والثانية بأسماء، والثالثة والرابعة هؤلاء إن، فالأول مدّ بدل، والثاني مدّ متصل، والثالث مدّ منفصل، والرابع مخير لا متصل قطعاً ولا منفصل قطعاً عند من يقول بإسقاط إحدى الهمزتين، فأمّا الأوّل فلورش فيه المدّ والتوسط والقصر، وأمّا الثاني فبالمدّ للجميع لأنه متصل، وأمّا الثالث ففيه المدّ والقصر كما تقدّم لأنه منفصل، وأمّا الرابع وهو أولاء إن ففيه همزتان مكسورتان من كلمتين فقالون والبزي يسهلان الأولى مع المدّ والقصر، وورش وقنبل يسهلان الثانية ويجعلانها حرف مدّ، وأبو عمرو يسقط الأولى والثانية فمن قال بإسقاط الأولى مدّ وقصر، ومن قال بإسقاط الثانية فبالمدّ فقط، وباقي القرّاء يحققون الهمزتين وهم على مراتبهم في المدّ {إنك أنت العليم} الذي لا يخفى عليه خافية {الحكيم} المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة، وأنت ضمير فصل، وقيل: تأكيد للكاف كما في قولك: مررت بك أنت وإن لم يجز مررت بأنت إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع، وقيل: مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن. {قَالَ يَاَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَاَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَتَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} {قال} تعالى: {يا آدم أنبئهم} أي: أخبر الملائكة {بأسمائهم} أي: المسميات فسمى آدم كل شيء باسمه وذكر الحكمة التي لأجلها خلق {فلما أنبأهم بأسمائهم قال} الله تعالى لهم موبخاً {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض} أي: ما غاب فيها {وأعلم ما تبدون} أي تظهرون من قولكم: {أتجعل فيها} إلخ: {وما كنتم تكتمون} أي: تسرون من قولكم: لن يخلق أكرم عليه منا ولا أعلم، وقيل: ما أظهروا من الطاعة وأسره إبليس من المعصية، والهمزة في {ألم أقل} للإنكار بمعنى النفي دخلت على حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير. تنبيه: هذه الآيات وهي آية {وعلم آدم} وآية {سبحانك} وآية {قال يا آدم} تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة وإلا لأظهر فضل آدم بها، وأن العلم بما يستخلف فيه شرط في الخلافة بل العمدة فيها، وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به وأنّ اللغات توقيفية، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيها وذلك يستدعي سابقة وضع، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم من الملائكة والجنّ فيكون من الله وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 العلم لتغاير المتعاطفين وإلا لتكرر قوله: {إنك أنت العليم الحكيم} ، وأنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وأنّ آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر، 9) وأن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها لأنه أخبر عن علمه تعالى بأسماء المسميات جميعها ولم تكن موجودة قبل الإخبار. {و} اذكر {إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} لما أنبأهم بالأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له واعترافاً بفضله وأداء لحقه واعتذاراً عما قالوا فيه أو أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر، 29) (ص، 72) امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله، وقضية الأوّل تأخير الأمر به عن تسوية خلقه بدليل تأخيره عن أنبائهم وتعليمهم المستلزمين لتسوية خلقه، وعلى الثاني اقتصر بعض المفسرين وهو الظاهر، وأجيب عن دليل الأوّل بأنّ الواو في قوله: وإذ قلنا لا تقتضي الترتيب والسجود في الأصل تذلل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة، والمأمور به إمّا المعنى الشرعي فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة لله فمعنى اسجدوا له أي: إليه وكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون أنموذجاً أي: مثالاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ومجمعاً لما في العالم الروحاني والجثماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدّر لهم من الكمالات ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته، وأما المعنى اللغويّ وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى: {وخروا له سجداً} (يوسف، 100) ولم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض إنما كان الانحناء فلما جاء الإسلام بطل ذلك بالسلام والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلهم أو طائفة منهم مثل ما مرّ {فسجدوا} أي: الملائكة {إلا إبليس أبى واستكبر} أي: امتنع عما أمر به استكباراً من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه أو يعظمه أو يتلقاه بالتحية أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه، وقال: أنا خير منه، والإباء امتناع واختيار، والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكبر مما عنده يتكبر بذلك ويتزين بالباطل {وكان من الكافرين} أي: في علم الله أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله تعالى: {أنا خير منه} جواباً لقوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين} (ص، 75) لا بترك الواجب وهو السجود وحده، والآية تدل على أنّ آدم أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له وأنّ إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولم يصح استثناؤه منهم ولا يرد على ذلك قوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجنّ} (الكهف، 50) لجواز أن يقال: كان من الجنّ فعلاً ومن الملائكة نوعاً. فإن قيل: له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب: بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعاً يتوالدون يقال لهم: الجن ومنهم إبليس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقيل: إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه} (الكهف، 50) وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، قال البغوي: والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى: {كان من الجنّ} أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة، وقال قوم: من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلى الجنة وقيل: إنّ الجنّ أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضاً أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضاً والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال: فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس. تنبيه: من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمناً. {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} أي: اتخذ الجنة مسكناً لتستقر فيها لأنها استقرار ولبث ولفظة أنت تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه وإنما لم يخاطبهما أوّلاً بأن يقول اسكنا تنبيهاً على أنه المقصود بالحكم وهو الأمر بالسكنى التي هي الأصل بالنسبة إلى ما عطف عليها من الأكل وغيره والمعطوف عليه تبع له حتى في الوجود إذ لم يكن له من يؤنسه في الجنة فخلقت حوّاء ـ بالمدّ ـ من ضلعه الأقصر من جانبه الأيسر وهو نائم فلما استيقظ من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال: من أنت؟ قالت: زوجتك خلقني الله لك أسكن إليك وتسكن إليّ. وسميت حوّاء لأنها خلقت من حيّ خلقها الله من غير أن يحس بها آدم ولا وجد لخلقها ألماً ولو وجد له ألماً لما عطف رجل على امرأة قط، وإنما صح العطف على المستكن مع أنّ المعطوف لا يباشر فعل الأمر لأنه وقع تابعاً ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، والجنة دار الثواب لأنّ اللام للعهد ولا معهود غيرها، ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال: إنّ الجنة بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحاناً لآدم وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى: {اهبطوا مصراً} {فكلا منها} أكلاً {رغداً} أي: واسعاً لذيذاً لا حجر فيه فرغداً صفة مصدر محذوف وقيل: مصدر في موضع الحال {حيث} أي: أي مكان من الجنة {شئتما} وسع الأمر عليهما إزالة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا تنحصر. وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الشين بخلاف عنه وأبدل السوسي الهمزة وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط {ولا تقربا هذه الشجرة} بالأكل منها وهي شجرة الحنطة أو الكافور أو شجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 العنب والتين شجرة من أكل منها أحدث والأولى كما قال البيضاوي: أن لا تعين من غير دليل قاطع أو ظاهر كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود على التعيين {فتكونا} أي: فتصيرا {من الظالمين} أي: العاصين. تنبيه: في هذه الآية مبالغتان: الأولى: تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ووجوب الاجتناب عنه وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع كما روى أبو داود: حبك الشيء يعمى ويصم أي: يخفى عليك معانيه ويصم أذنيك عن سماع مساويه فينبغي أن لا يحول ما حول ما حرّم عليهما مخافة أن يقعا فيه. الثانية: جعل قربانهما إلى الشجرة سبباً لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي {فأزلهما الشيطان} أي: إبليس سمي به لبعده عن الخير والرحمة وقرأ حمزة بألف بعد الزاي وتخفيف اللام أي: نحاهما والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد اللام أي: أذهبهما {عنها} أي: الجنة وإزلاله قوله: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته إياهما بقوله: إني لكما لمن الناصحين واختلف في أنه تمثّل لهما فقال لهما ذلك أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة وكيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له: اخرج منها فإنك رجيم فقيل: إنه منع من الدخول بعد خروجه. الأول: على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ولم يمنع أن يدخل لوسوسة ابتلاء لآدم وحواء فلما دخل وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة، وكان آدم لما رأى ما في الجنة من النعيم قال: لو أن خلدا فاغتنم الشيطان ذلك منه فإتاه الشيطان من قبل الخلد فوقع قوله في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين فاغترّا وما قلنا أن أحداً يحلف بالله كاذباً فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت حواء آدم حتى أكلها وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر فأدّته إليه فأكل وقيل: قام عند الباب فناداهما وقيل: تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة وقيل: دخل في فم الحية حتى دخلت به وكانت صديقاً لإبليس وكانت من أحسن الدواب، لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسألها إبليس أن تدخله الجنة في فمها فأدخلته ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة وقيل: أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم في ذلك كما قال البيضاوي عند الله {فأخرجهما مما كانا فيه} من الكراخة والنعيم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قال الله تعالى لآدم: أليس فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كداً، فأهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغداً فعلم من صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم درسه ثم ذرّاه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ما شاء الله. قال إبراهيم بن أدهم أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عز وجل: يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب زينته لي حوّاء، قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حوّاء عند ذلك، فقيل: عليك الرنة وعلى بناتك فلما أكلا منها سقطت عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأُخرجا من الجنة فذلك قوله تعالى: {وقلنا اهبطوا} خطاب لآدم وحوّاء لقوله تعالى: {قال اهبطا منها جميعاً} (طه، 123) وجمع الضمير لأنهما أصل الإنس فكأنهما الإنس كلهم أو هما وإبليس أخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة أو دخلها مسارقة أو من السماء لا من الباب على الخلاف المتقدّم، وقيل: هما وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب بأرض الهند على جبل يقال له: نود وحوّاء بجدّة وإبليس بالإبلة وقيل: ببيسان بالبصرة على أميال والحية بأصبهان، وقوله تعالى: {بعضكم لبعض عدوّ} حال استغنى فيها عن الواو بالضمير والمعنى متعادين، فإن كان الخطاب لآدم وحوّاء فقط فالمراد ببعضكم: بعض الذرّية أي: بعض ذرّيتكم لبعض عدوّ من ظلم بعضهم بعضاً، وإن كان الخطاب لهما ولإبليس والحية فالمراد العداوة بين المؤمنين من ذرّية آدم والحية وبين إبليس، قال الله عز وجل: {إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين} (الأعراف، 22) ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال: من تركهنّ خشية أو مخافة تأثر فليس منا، وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ، وروي أنه نهى عن ذوات البيوت. وروي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ بالمدينة جناً قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» {ولكم في الأرض مستقرّ} أي: موضع قرار {ومتاع} ما تتمتعون به من نباتها {إلى حين} أي: وقت إنقضاء آجالكم {فتلقى آدم من ربه كلمات} أي: استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها وهي {ربنا ظلمنا أنفسنا} (الأعراف، 23) الآية، وقيل: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «قال آدم: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: يا رب ألم تنفخ فيّ الروح من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم» ، رواه الحاكم وصححه. وقول آدم أراجعي بتخفيف الياء اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعل لاعتماده على الاستفهام، أو مبتدأ خبره ما قبله، وقرأ ابن كثير بنصب الميم من آدم ورفع التاء من كلمات على أنها تلقته، والباقون برفع الميم وكسر التاء والكسر هذا علامة النصب لأنه جمع مؤنث سالم فينصب بالكسرة {فتاب عليه} أي: قبل توبته وإنما رتب تاب عليه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمن تلقي الكلمات معنى التوبة وهو الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه وردّ المظالم إن كانت واكتفى بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعاً له في الحكم، ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن {إنه هو التوّاب} الرجاع على عباده بالمغفرة، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة، وإذا وصف بها البارىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أريد بها الرجوع من العقوبة إلى المغفرة {الرحيم} البالغ في الرحمة، وفي الجمع بين التوبة والرحمة وعد للتائب بالإحسان مع العفو. {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا? وَكَذَّبُوا? بِ?َايَاتِنَآ أُو?لَا?ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ? هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَابَنِى? إِسْرَا?ءِيلَ اذْكُرُوا? نِعْمَتِيَ الَّتِى? أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا? بِعَهْدِى? أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ * وَءَامِنُوا? بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَتَكُونُو?ا? أَوَّلَ كَافِر? بِهِ?? وَتَشْتَرُوا? بِ?َايَاتِى ثَمَنًا قَلِي? وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ} {قلنا اهبطوا منها} أي: من الجنة {جميعاً} كرّر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فإنّ الأوّل دل على هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى لهذا نجا ومن ضله هلك، وقيل: الهبوط الأوّل من الجنة إلى السماء الدنيا، والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض {فإمّا} فيه إدغام إنّ الشرطية في ما المزيدة {يأتينكم} يا ذرّية آدم {مني هدى} أي: رشد وبيان شريعة، وقيل: كتاب ورسول {فمن تبع هداي} بأن آمن بي وعمل بطاعتي وكرّر لفظ الهدى ولم يضمر إمّا لإظهار شأنه وفخامته خصوصاً مع إضافته إليه، أو لأنه أراد بالثاني أعمّ من الأوّل وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل أي: فمن تبع ما أتاه راعياً فيه ما يشهد به العقل {فلا خوف عليهم} فضلاً من أن يحل بهم مكروه {ولا هم يحزنون} بفوات محبوب عنهم وهو النظر إلى وجهه تعالى فيحزنوا عليه بل يتنعمون بالنظر إلى وجهه تعالى فإنه المقصود الأعظم فالخوف على الواقع نفى عنهم العقاب فأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه، وقيل: لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة. وأمال الدوري عن الكسائي ألف هداي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وإنما جيء بحرف الشك وإتيان الهدى واقع كائن لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلاً. {والذين كفروا} أي: جحدوا {وكذبوا بآياتنا} أي: كتبنا {أولئك أصحاب النار} يوم القيامة {هم فيها خالدون} ماكثون فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، والآية في الأصل العلامة الظاهرة وتقال للمصنوعات من حيث أنها تدل على الصانع وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل. تنبيه: في هذه الآيات دلالة على أنّ الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية، وأنّ التوبة مقبولة، وأنّ متبع الهدى مأمون العاقبة، وأن عذاب النار دائم، وأن الكافر فيه مخلد، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى: {هم فيها خالدون} (المجادلة، 17) واستدلّ بعض الخوارج كالحشوية وهم قوم جوّزوا الخطاب بما لا يفهم بها على عدم عصمة الأنبياء بوجوه: الأوّل: أنّ آدم عليه السلام كان نبياً وارتكب المنهي والمرتكب له عاص، والثاني: أنه جعله بارتكابه من الظالمين، والظالم ملعون لقوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} (هود، 18) ، والثالث: أنه أسند إليه العصيان وألغي وقال: {وعصى آدم ربه فغوى} (طه، 121) ، والرابع: أنه تعالى لقنه التوبة وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه، والخامس: اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله له بقوله: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} (الأعراف، 23) والخاسر من يكون ذا كبيرة، والسادس: أنه لو لم يذنب ما جرى عليه ما جرى. وأجيب عن ذلك بوجوه: الأوّل: أنه لم يكن نبياً حينئذٍ والمدّعي مطالب بالدليل ولا دليل. الثاني: أن النهي للتنزيه، وإنما سمي ظالماً وخاسراً لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى وإنما أجرى الله تعالى ما جرى معاتبة على ترك الأولى ووفاء بما قاله تعالى للملائكة قبل خلق آدم: {إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة، 30) ولا يكون خليفة في الأرض إلا بالإهباط إليها، وأمر بالتوبة تلافياً لما فاته. الثالث: أنه فعله ناسياً لقوله تعالى: {فنسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ولم نجد له عزماً} (طه، 115) ولكن عوقب بترك التحفظ عن أسباب النسيان إذ رفع الإثم بالنسيان من خصائص هذه الأمّة كما ثبت في الأخبار الصحيحة كخبر الشيخين: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» . وروى الترمذيّ وصححه: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» رواه الحاكم بلفظ «أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون. الرابع: أنه عليه الصلاة والسلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه فإنه ظنّ أن النهي للتنزيه أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها، وكان المراد بالإشارة الإشارة إلى النوع لا إلى شجرة معينة كما روى أبو داود وغيره «أنه عليه الصلاة والسلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال: هذان حرام على ذكور أمّتي حلّ لإناثها» . فإن قيل: المجتهد إن أخطأ لا يؤاخذ. أجيب: بأنه إنما عوتب على ذلك تعظيماً لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده. وقرأ ورش بإمالة ألف النار بين بين، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالامالة المحضة، والباقون بالفتح. {يا بني إسرائيل} أي: أولاد يعقوب وإسرائيل لقبه، ومعنى إسرا بالعبرانية عبد وإيل الله فمعناه: عبد الله، وقيل: صفوة الله صلى الله عليه وسلم {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي: بالتكثر فيها والقيام بشكرها، والذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط وإن نظر إلى ما أنعم به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر لله، وقيل: أراد بها ما أنعم على آبائهم من فلق البحر وإنجائهم من فرعون بإغراقه وتظليل الغمام عليهم في التيه وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك من النعم التي لا تحصى قال الله تعالى: {وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم، 34) (النحل، 18) {وأوفوا بعهدي} أي: بامتثال أمري ومنه ما عهدت إليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {أوف بعهدكم} أي: الذي عهدته إليكم من الثواب عليه بدخول الجنة. تنبيه: للوفاء بالعهد درجات كثيرة: فأوّل مراتبه منا هو الإتيان بكلمتي الشهادتين، ومن الله تعالى حقن الدماء والمال، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره، ومن الله تعالى الفوز بالغنى الدائم، وأمّا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن {أوفوا بعهدي} في اتباع محمد {أوف بعهدكم} في رفع الآصار أي: الأثقال والأغلال، وعن غير ابن عباس: أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيمم المقيم فبالنظر إلى الوسايط {وإياي فارهبون} فيما تأتون وتذرون وخصوصاً في نقض العهد، والرهبة خوف مع تحرز. تنبيه: الآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأنّ المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله. {وآمنوا بما أنزلت} من القرآن، وقوله تعالى: {مصدّقاً} حال مؤكدة مما أنزلت أو من ضميره المحذوف {لما معكم} من التوراة بموافقته له ولغيره من الكتب الإلهية في القصص ونعت النبيّ صلى الله عليه وسلم والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث أن كل واحد منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حق بالاضافة إلى زمانها مراعى فيها صلاح من خوطب بها حتى لو نزل المتقدّم في أيام المتأخر لنزل على وفقه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد وغيره: «لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي» وفي ذلك تنبيه على أن اتباع تلك الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه ولذلك عرّض بقوله: {ولا تكونوا أوّل كافر به} أي: بالقرآن بل يجب أن تكونوا أوّل مؤمن به لأنكم أهل نظر في معجزاته والعلم بشأنه. فإن قيل: كيف نهوا عن التقدّم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب أجيب: بأن المراد به التعريض بما يجب عليهم لمقتضى حالهم لا الدلالة على ما نطق الظاهر، كقولك لمن أساء: أمّا أنا فلست بجاهل، أو ولا تكونوا أوّل كافر من أهل الكتاب لأن خلفكم تبع لكم فإثمهم عليكم أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركي مكة. تنبيه: أوّل كافر به وقع خبراً عن ضمير الجمع بتقدير أوّل فريق أو فوج أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقولك: كسانا حلة أي: كل واحد منا {ولا تشتروا} تستبدلوا {بآياتي} التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {ثمناً قليلاً} أي: عوضاً يسيراً من الدنيا أي: لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم وذلك أنّ رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل سنة شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا أنهم إن بينوا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن يفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة فنهوا عن ذلك فإنّ حظوظ الدنيا وإن جلت قليلة مسترذلة بالاضافة إلى ما يفوت من حظوظ الآخرة {وإياي فاتقون} خافون في ذلك دون غيري. {س2ش42/ش46 وَتَلْبِسُوا? الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا? الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا? الصلاةَ وَءَاتُوا? الزكاةَ وَارْكَعُوا? مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ? أَفَ تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا? بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ? وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِs عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا? رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} {ولا تلبسوا} أي: تخلطوا {الحق} الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم {بالباطل} الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم من تغيير صفته {و} لا {تكتموا الحق} أي: تكتموا نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم {وأنتم تعلمون} أنكم لابسون الحق بالباطل كاتمون فإنه أقبح إذ الجاهل يعذر. {وأقيموا الصلاة} أي: الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها {وآتوا الزكاة} أي: أدوا زكاة أموالكم المفروضة. أمرهم بفروع الإسلام بعدما أمرهم بأصوله وفيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بها والزكاة مأخوذة من زكا الزرع إذا نما وكثر أو من الزكاة بمعنى الطهارة وكلا المعنيين موجود في الزكاة فإنّ إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم ويطهر المال من الخبث والنفس من البخل {واركعوا مع الراكعين} أي: صلوا مع المصلين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جماعتهم فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ أي: الفرد بسبع وعشرين لما فيها من تظاهر أي: تعاون النفوس، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود لأنّ صلاتهم لم يكن فيها ركوع أي: صلوا مع الذين في صلاتهم ركوع، وقيل: الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع، قال الشاعر: لا تذلّ الضعيف (وروي لا تهين الفقير) علك (أي: لعلك) أن تركع يوماً والدهر قد رفعه. فتركع من الركوع بمعنى الانحناء والميل وأراد به الانحطاط من الرتبة. ونزل في علماء اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين سراً: اثبتوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق ولا يتبعونه. {أتأمرون الناس بالبرّ} أي: بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك تقريع مع توبيخ وتعجيب، والبرّ شرعاً التوسع في الخير من البرّ بالفتح وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ولذلك قيل: البر ثلاثة: برّ في عبادة الله، وبر في معاملة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب {وتنسون أنفسكم} أي: تتركونها من البرّ كالمنسيات، وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون {وأنتم تتلون الكتاب} أي: التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البرّ ومخالفة القول العمل {أفلا تعقلون} سوء فعلكم فيصدّكم عنه، أو فلا عقل لكم يمنعكم عما تعملون من عدم موافقة عاقبته لكم والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه بسوء صنيعه وخبث نفسه وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل فإنّ الجامع بين العلم والعقل يأبى عن كونه واعظاً غير متعظ نفسه، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لها ليقوّم نفسه ثم يقوم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر، ولكن روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب» وعن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه أي: فتنقطع أمعاؤه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» وقال شعبة عن الأعمش: فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه {واستعينوا} أي: اطلبوا المعونة على أموركم {بالصبر} أي: الحبس للنفس على ما تكره {والصلاة} أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين وهما الأكل والجماع. روى الإمام أحمد وغيره «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة» أي: لجأ إليها، وحز به ـ بالحاء المهملة وزاي وباء موحدة: أهمه ونزل به، وقيل: الخطاب لليهود فهو متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال أمروا بالصبر وهو الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر لأنه يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة، وقيل: الواو بمعنى على أي: واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} (طه، 132) ويحتمل أن يراد بالصلاة: الدعاء {وإنها} أي: الصلاة ردّ الكناية إليها لأنّ الصبر داخل فيها لاستجماعها ضروباً من الصبر كما قال تعالى: {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة، 62) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله عز وجل أو لأنها أعم، كما في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} (التوبة، 34) ردّ الكناية إلى الفضة لأنها أعم وقيل: ردّ الكناية إلى كل منهما وأن كل خصلة منهما كما قال تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها} (الكهف، 33) أي: كل واحدة منهما، وقيل: معناه: واستعينوا بالصبر وإنه لكبير والصلاة وإنها لكبيرة فحذف أحدهما اختصاراً، وقال الحسين بن الفضل: ردّ الكناية إلى الاستعانة {لكبيرة} أي: ثقيلة شاقة كقوله تعالى: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} (الشورى، 13) {إلا على الخاشعين} أي: الساكنين إلى الطاعة، والخشوع: السكون، قال تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن} (طه، 108) والخضوع: اللين والانقياد، ولذا يقال: الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب. {الذين يظنون} أي: يستيقنون وأطلق الظنّ على العلم لتضمنه معنى التوقع {أنهم ملاقو ربهم} بالبعث {وأنهم إليه راجعون} في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم، وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم لأنّ نفوسهم مرتاضة بأمثالها متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجل مشاقها وتستلذ بسببه متاعبها ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» . {س2ش47/ش50 يَابَنِى? إِسْرَا?ءِيلَ اذْكُرُوا? نِعْمَتِىَ الَّتِى? أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا? يَوْمًا s تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَيُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَهُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُو?ءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ? وَفِى ذَالِكُم بَ?ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَآءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} بالشكر عليها بطاعتي، كرره للتوكيد وتذكير التفضل الذي هو أجل النعم خصوصاً، وربطه بالوعيد الشديد تخويفاً لمن غفل عنها وأخلّ بحقوقها وعطف على نعمتي {وأني فضلتكم} أي: آباءكم الذين كانوا في عصر موسى صلى الله عليه وسلم وبعده قبل أن يغيروا {على العالمين} أي: عالمي زمانهم بما منحهم الله من العلم والإيمان والعمل وجعلهم أنبياء وملوكاً مقسطين وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف في الأبناء. واستدل بذلك على أن الأصلح لا يجب على الله لأنّ تفضيلهم لو وجب عليه لم يجز جعله منة عليهم لأنّ من أتى بما وجب عليه لا منة له به على أحد. {واتقوا} خافوا {يوماً} أي: ما فيه من الحساب والعقاب وهو يوم القيامة {لا تجزى} أي: لا تقضى {نفس عن نفس} فيه {شيئاً} أي: حقاً لزمها. تنبيه: قول البيضاوي وإيراده أي: شيئاً منكراً مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي تبع فيه صاحب «الكشاف» وهو جار على مذهب المعتزلة من أنهم ينكرون الشفاعة للعصاة وسيأتي الجواب عن مذهبهم {ولا تقبل} بالتاء على التأنيث كما قرأ به ابن كثير وأبو عمرو بالياء على التذكير كما قرأ به الباقون {منها شفاعة} أي: من النفس الثانية لقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} أي: فداء {ولا هم ينصرون} أي: يمنعون من عذاب الله إذ الضمير في الجملتين للنفوس العاصية ويصح رجوعه للنفس الأولى لأنها المحدّث عنها في قوله تعالى: {لا تجزى نفس عن نفس} والثانية مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة وتذكير ضمير ولا هم ينصرون مع أنّ الضمير راجع للنفوس، وكان المناسب هنّ بالتأنيث لأنه بمعنى العباد أو الأناس كما تقول ثلاثة أنفس بالتاء مع تأنيث النفس لتأويل النفوس بالأشخاص أو الرجال والنصرة أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضرر وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة منها: أن الآية مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة ويؤيد هذا أنّ الخطاب معهم وعلى هذا يتمشى قول البيضاوي المارّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ويكون المراد حينئذٍ أنه ليس لها شفاعة فتقبل كما قال تعالى حاكياً عنهم {فما لنا من شافعين} . ومنها: أنّ الآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم. ومنها: أنها لا تشفع إلا بإذن الله. {و} اذكروا {إذ نجيناكم} أي: آباءكم الخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله ليؤمنوا {من آل فرعون} أي: أتباعه وأهل دينه، والمشهور أن أصل آل: أهل، لأن تصغيره أهيل، وقال الكسائيّ وغيره: أصله أول من آل يؤل أي: رجع، قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وتصغيره أويل. فإن قيل: يردّ الأوّل اختلاف أهل وآل معنى إذ الأهل القرابة والآل من يؤل إليك بقرابة أو رأي أو مذهب ولأن الألف يثبت إبدالها من الهاء. أجيب: بأن القائل بالأول جرى على القول بأن اللفظتين بمعنى، أو أراد بالأهل أحد معاني آل وأبدل الواو من الهاء لتقاربهما مخرجاً، وخص بالاضافة إلى أولي القدر والشرف كالأنبياء والملوك، وإنما قيل آل فرعون لتصوره بصورة الأشراف أو لشرفه في قومه عندهم، وفرعون هو الوليد ابن مصعب بن ريان وكان من القبط من العمالقة وعمر أكثر من أربعمائة سنة {يسومونكم} يولونكم ويذيقونكم {سوء العذاب} أي: أشدّه، والجملة حال من الضمير في نجيناكم، أو من آل فرعون، أو منهما جميعاً لأنّ فيها ضمير كل واحد منهم {يذبحون أبناءكم} المولودين {ويستحيون نساءكم} أي: يتركونهنّ أحياء، هذا بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف وذلك أنّ فرعون لعنه الله رأى في منامه كأنّ ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرّض لبني إسرائيل فهاله ذلك، وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا: يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن: لا يسقطنّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل بالقوابل فكنّ يفعلن ذلك حتى قيل: إنه قتل في طلب موسى اثني عشر ألف صبيّ، وقال وهب: بلغني أنه ذبح في طلب موسى تسعين ألفاً، قالوا: وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا: إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها {وفي ذلكم بلاء} إن أشير به إلى صنيعهم فهو محنة أو إلى الإنجاء فهو نعمة فإنّ البلاء يكون بمعنى الشدّة وبمعنى النعمة ويجوز أن يشار بذلكم إلى الأمرين فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وعلى الشدّة بالصبر قال تعالى: {ونبلوكم} (الأنبياء، 35) أي: نختبركم بالشرّ والخير فتنة {من ربكم} أي: بتسليطهم عليكم، أو ببعثة موسى وتوفيقه لتخليصكم، أو بهما، وقوله تعالى: {عظيم} صفة بلاء. وفي الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ إختبار من الله تعالى فعليه أن يشكر عند مسارّه ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين. {و} اذكروا {إذ فرقنا} فلقنا {بكم} أي: بسببكم {البحر} حتى دخلتموه هاربين من عدوّكم وذلك أنّ فرعون لما دنا هلاكه أمر الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب عليه الصلاة والسلام اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم ثم علم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فوالله ما صاح ديك في تلك الليلة ثم خرج فرعون في طلبهم وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم سبعون ألفاً من دهم الخيل سوى سائر الشيات، قال محمد بن كعب: وكان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات وكان فرعون في الدهم، وقيل: كان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ناشب ومائة ألف أصحاب حراب ومائة ألف أصحاب الأعمدة فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر والماء في غاية الزيادة ونظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين وقالوا: يا موسى كيف نصنع وأين ما وعدتنا هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا، قال الله تعالى: {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إنّ معي ربي سيهدين} (الشعراء، 61) فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله تعالى إليه أن كنه فضربه وقال: انفلق يا أبا خالد بإذن الله، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، فظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً، فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً فخافوا وقال كل سبط: قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى جبال الماء أن تشبكي فصارت شبكاً كالطاقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى: {فأنجيناكم} أي: من آل فرعون {وأغرقنا آل فرعون} وذلك أنّ فرعون لما وصل البحر فرآه منفلقاً قال لقومه: انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوه، وقيل: قالوا له: إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل ـ يعني: موسى ـ وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى فتقدّمهم وخاض البحر فلما شمّ أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر، في أثرها وهم لا يرونه ولا يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لا يرى فرس جبريل واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم ويقول لهم: الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم البحر وخرج جبريل من البحر وهمّ أوّلهم بالخروج فأمر الله البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم وفرّقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو بحر قلزم طرف من بحر فارس. قال قتادة: بحر من وراء مصر يقال له: أسان وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى: {وأنتم تنظرون} إلى مصارعهم، أو إطباق البحر عليهم، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل، أو ينظر بعضكم بعضاً، واعلم أنّ هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى الكليم، ثم إنهم اتخذوا العجل وقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} (البقرة، 55) فهم بمعزل من الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل القرآن والتحدّي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة يدركها الأذكياء. {وإذ وعدنا موسى} بغير ألف بين الواو والعين، كما قرأ به أبو عمرو، والباقون بألف بين الواو والعين لأنه تعالى وعد موسى الوحي ووعد موسى ربه المجيء للميقات إلى الطور، وقيل: هذا من المفاعلة التي تكون من الواحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. وأمال حمزة ألف موسى محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين {أربعين ليلة} أن يعطيه عند انقضائها التوراة ليتعلموا بها وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور، وقيل: لأنّ الظلمة أقدم من الضوء وخلق الله تعالى الليل قبل النهار قال الله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس، 37) وقول البيضاوي: إنّ ذلك الوعد لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون تبع في ذلك «الكشاف» ولم يعرف ذلك لغيرهما وإنما كانوا بالشام لأن إتيان موسى للمقيات كان بطور سينا وهو بالشام لا بمصر وقد قال البهاء بن عقيل في «تفسيره» : لم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرّخين بأنهم دخلوا مصر بعد خروجهم منها. فإن قيل: قوله تعالى: {فأخرجناهم من جنات} إلى قوله تعالى: {وأورثناها بني إسرائيل} يقتضي أنهم عادوا إليها. أجيب: بأن المعنى أن الله تعالى أورثهم وملكهم إياها ولم يردّهم إليها وجعل مساكنهم الشام. {ثم اتخذتم} قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم اتخذتم بإظهار الذال قبل التاء، والباقون بإدغام الذال في التاء. {العجل} الذي صاغه لكم السامريّ إلهاً ومعبوداً {من بعده} أي: بعد ذهابه إلى ميقاتنا، وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوّهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتمون إليها فوعد الله تعالى موسى أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه: إني ذاهب لميقات ربي آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون واستخلف أخاه هارون فلما أتاه الوعد جاءه جبريل على فرس يقال له: فرس الحياة، لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه، فلما رآه السامريّ وكان رجلاً صائغاً من قبيلة يقال لها: سامرة، ورأى موضع قدم الفرس يخضر من ذلك وكان منافقاً يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر ألقى في روعه أنه إذا ألقى في شيء غيره وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيراً من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعمل عرس لهم فأهلك الله تعالى فرعون وقومه فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل قال السديّ: فأمرهم هارون أن يلقوها في حفرة حتى يرجع موسى ففعلوا فلما اجتمعت الحلي صاغها السامريّ عجلاً من ذهب في ثلاثة أيام مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون ثم ألقى فيه القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبريل فصار يخور ويمشي فقال السامريّ: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أي: فتركه ههنا، وخرج يطلبه وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدّوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوماً ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة، وقيل: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} (الأعراف، 142) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في محله فكانت فتنتهم في تلك العشرة، فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ورأوا العجل وسمعوا قول السامريّ عكف منهم ثمانية آلاف رجل على العجل يعبدونه، وقيل: كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل، قال البغويّ: وهو الأصح، وقال الحسن: كلهم عبدوه إلا هارون، ولذلك قال تعالى: {وأنتم ظالمون} أي: باتخاذه لوضعكم العبادة في غير محلها. {ثم عفونا} محونا {عنكم} ذنوبكم حين تبتم، والعفو محو الجريمة من عفى إذا درس {من بعد ذلك} أي: الاتخاذ {لعلكم تشكرون} أي: لكي تشكروا نعمتنا عليكم. تنبيه: إنما قدرت لعل بكي أخذاً مما قيل: إن لعل في القرآن بمعنى كي غير قوله تعالى في الشعراء: {لعلكم تخلدون} (الشعراء، 129) فإنها بمعنى كأنّ أي: كأنكم تخلدون. {و} اذكروا {إذ آتينا موسى الكتاب} أي: التوراة، وقوله تعالى: {والفرقان} عطف تفسير أي: الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وقيل: أراد بالفرقان معجزات موسى كانفلاق البحر الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى وبين الكفر والإيمان {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات من الضلال. {و} اذكروا {إذ قال موسى لقومه} الذين عبدوا العجل {يا قوم إنكم ظلمتم} قرأ ورش بتغليظ اللام والباقون بالترقيق {أنفسكم باتخاذكم العجل} إلهاً قالوا: فأيّ شيء نصنع؟ قال: {فتوبوا} أي: ارجعوا عن عبادة العجل {إلى بارئكم} أي: خالقكم، وقرأ أبو عمرو بإسكان الهمزة، وروي عن الدوري باختلاس الحركة، وروي عن السوسي إبدالها ياء ساكنة، وأمال الدوري عن الكسائي الألف بعد الباء الموحدة، وإذا وقف حمزة على بارئكم سهل الهمزة بين بين، قالوا: كيف نتوب؟ قال: {فاقتلوا أنفسكم} أي: ليقتل منكم البريء من عبادة العجل من عبده، وقيل: المراد بالقتل قطع الشهوة كما قيل: من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها، وردّ هذا جماعة بإجماع المفسرين على أنّ المراد هنا القتل الحقيقيّ {ذلكم} أي: القتل {خير لكم عند بارئكم} من حيث أنه طهرة عن الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا: نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم: من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته وأسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه فلم يمكنه المضيّ لأمر الله فقالوا: يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله عليهم ضبابة تشبه سحابة تغشى الأرض كالدخان وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وبكيا وتضرّعا وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله تعالى السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل فكشفت عن ألوف من القتلى. روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: عدد القتلى سبعون ألفاً فاشتدّ ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة؟ فكان من قتل منهم شهيداً ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى: {فتاب عليكم} أي فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم أي: فتجاوز عنكم وقبل توبتكم. تنبيه: ذكر البارىء في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 {فتوبوا إلى بارئكم} وترتيب الأمر بالقتل عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثلهم في الغباوة وأنّ من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن يستردّ منه ما أنعم به عليه ولذلك أمروا بفك تركيب ذواتهم بالقتل {إنه هو التوّاب} أي الذي يكثر قبول التوبة من المذنبين {الرحيم} أي: البالغ في الإنعام على خلقه. {س2ش55/ش58 وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن? بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى? كُلُوا? مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُو?ا? أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا? هَاذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا? مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا? الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا? حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ? وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين رجلاً من خيار قومه وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا ذلك فخرج موسى إلى طور سينا لميقات ربه فقالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال لهم: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام فغشي الجبل كله فدخل في الغمام وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام وخرّوا سجداً وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم الله تعالى: إني أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل عليهم فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة عياناً وذلك أنّ العرب تجعل العلم بالقلب رؤية فقالوا جهرة: ليعلم أنّ المراد منه العيان، روي عن السوسي إمالة الألف بعد الراء في نرى وترقيق اللام من اسم الله، وروي عنه تفخيم اللام مع الإمالة وله وجه ثالث كالجماعة وهو عدم الإمالة مع تفخيم اللام. فإن قيل: كيف تمال الألف وهي تسقط عند التقاء الساكنين؟ أجيب: بأنه لولا إمالتها ما أميلت الراء لأنّ القارىء إذا أراد أن يميل الألف لا يتمكن من الإمالة إلا بإمالة ما قبله {فأخذتكم الصاعقة} أي: الصيحة فمتم، وقيل: جاءت نار من السماء فأحرقتهم وذلك لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي وهي محال بل المراد أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا {وأنتم تنظرون} أي: ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت، وقيل: تعلمون ويكون النظر بمعنى العلم فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرّع ويقول: ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلاً بعد رجل بعدما ماتوا ليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون كما قال تعالى: {ثم بعثناكم} أي: أحييناكم والبعث إثارة الشيء عن محله يقال: بعثت البعير فانبعث وبعثت النائم فانبعث {من بعد موتكم} بسبب الصاعقة. قال قتادة: أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا، وقيد البعث بعد الموت لأنه قد يكون عن إغماء أو نوم كقوله تعالى: {فضربنا على آذانهم في الكهف} (الكهف، 11) إلى أن قال: {ثم بعثناهم} أي: من النوم {لعلكم تشكرون} نعمة لبعث أو ما كفرتموه من النعم المتتابعة. {وظللنا عليكم الغمام} في التيه يقيكم حرّ الشمس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كنّ يسترهم فشكوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم عليه فأرسل الله غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن قمر يسيرون في ضوئه وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلي وغلظ ورش اللام المفتوحة بعد الظاء {وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى} في التيه، والأكثرون على أنّ المنّ هو الترنجبين، قال مجاهد: هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد وكان يقع كل ليلة على أشجارهم مثل الثلج لكل إنسان منهم صاع فقالوا: يا موسى قتلنا هذا المنّ بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم، فأنزل الله عليهم السلوى جمع سلواة وهو الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جمع سماناة وهو الطير المعروف، وقيل: هو طائر يشبهه بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض فكان الله تعالى ينزل عليهم المنّ والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فكان كل واحد منهم يأخذ ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت. وقرأ السلوى حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين. فإن قيل: لم قدّم في الآية المنّ على السلوى مع أنها غذاء والمنّ حلواء والعادة تقديم الغذاء على الحلواء؟ أجيب: بأنّ نزول المنّ من السماء أمر مخالف للعادة فقدم لاستعظامه بخلاف الطيور المأكولة وأيضاً هو مقدّم في النزول عليهم {كلوا} على إرادة القول أي: قلنا لهم كلوا {من طيبات} حلالات {ما رزقناكم} ولا تدخروا لغد فكفروا النعمة وادّخروا فقطع الله ذلك عنهم ودوّد وفسد ما ادّخروه وقوله تعالى: {وما ظلمونا} أي: بذلك فيه اختصار وأصله فظلموا بأن كفروا بهذه النعم وما ظلمونا {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} لأنّ وباله عليهم. روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها الدهر» . {وإذ قلنا} لهم بعد خروجهم من التيه {ادخلوا هذه القرية} أي: بيت المقدس كما قاله مجاهد، أو أريحاء بفتح الهمزة وكسر الراء وبالحاء المهملة كما قاله ابن عباس وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم: العمالقة ورأسهم عوج بن عتق، قال ابن الأثير وهي قرية بالغور قريبة من بيت المقدس، وقيل: البلقاء، وقيل: الرملة والأردن وفلسطين، وقيل: الشام سميت القرية قرية لأنها تجمع أهلها ومنه المقرّة للحوض لأنها تجمع الماء {فكلوا منها حيث شئتم رغداً} أي: واسعاً لا حجر فيه {وادخلوا الباب} أي: باب من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب {سجداً} أي: متطامنين منحنين أو ساجدين السجود الشرعيّ لله شكراً على إخراجكم من التيه {وقولوا} مسألتنا {حطة} أي: أن تحط عنا خطايانا، قال قتادة: أمروا بالاستغفار، وقال ابن عباس: بلا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب، وقيل: معناه أمرنا حطة أي: شأننا أن نحط في هذه القرية ونقيم فيها حتى ندخل الباب سجداً مع التواضع {نغفر لكم خطاياكم} بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بباء مضمومة على التذكير مع فتح الفاء، وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 على التأنيث مع فتح الفاء أيضاً، وقرأ الباقون بالنون مفتوحة مع كسر الفاء، وقرأ الكسائي خطاياكم بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح {وسنزيد المحسنين} بالطاعة ثواباً جعل الله تعالى امتثال قوله: {قولوا حطة} توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسنين. فإن قيل: كيف عطف وسنزيد مع أنه مرفوع على نغفر مع أنه مجزوم جواباً للأمر؟ أجيب: بأنه أخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأنّ المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وإنه يفعل لا محالة، وسبب إخراج ما ذكر عن صورة الجواب إلى الوعد أنّ الزيادة إذا كانت من وعد الله كانت أعظم مما إذا كانت مسببة عن فعلهم. {فبدّل الذين ظلموا} منهم {قولاً غير الذي قيل لهم} فقالوا: حبة من شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم مخالفة في الفعل كما بدلوا القول. روى معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة» وفي رواية: في شعيرة. وقوله تعالى: {فأنزلنا على الذين ظلموا} فيه وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعاراً بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه أو على أنفسهم بأنهم تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها {رجزاً} أي: عذاباً مقدراً {من السماء} وقيل: أرسل الله عليهم طاعوناً فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً، وقيل: أربعة وعشرون ألفاً {بما كانوا يفسقون} أي: بسبب فسقهم، أي: خروجهم عن الطاعة. {وإذ استسقى موسى} طلب السقيا {لقومه} وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى الله إليه كما قال: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} وكانت من آس الجنة بالمدّ أي: شجرها وهو المرسين. وروي عن ابن عباس أنها كانت من عوسج طولها عشرة أذرع على طول موسى وكان لها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً واسمها عليق، وقال مقاتل: اسمها بنفة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى. واللام في الحجر للعهد على ما روي أنه كان حجراً طورياً مكعباً حمله معه كان له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألف وسعة العسكر اثنا عشر ميلاً أو حجراً أهبطه آدم من الجنة ودفع إلى شعيب فأعطاه لموسى مع العصا أو الحجر الذي فرّ بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل ومرّ به على ملأ من بني إسرائيل وهو حجر خفيف مربع كرأس الرجل رخام أو كذان وبرأه الله تعالى به عما رموه به من الأدرة وهي بضمّ الهمزة كبر الأنثيين فلما وقف أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: إنّ الله تعالى يقول: ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة أو للجنس. قال البيضاويّ: وهذا أظهر في الحجة ويدل له قول وهب: لم يكن حجراً معيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان فينفجر عيوناً لكل سبط عين ثم تسيل كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً ولكن لما قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها حمل حجراً في مخلاته وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ويضربه بها إذا ارتحل فييبس فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله تعالى إليه لا تقرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون وقوله تعالى: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً} متعلق بمحذوف أي: فضربه فانفجرت أي: سالت، قال أبو عمرو بن العلاء: انبجست: عرقت وانفجرت: سالت، وقال عطاء: كان يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على كل موضع ضربة مثل ثدي المرأة فيعرق ثم تنفجر الأنهار ثم تسيل {قد علم كل أناس} أي: سبط منهم {مشربهم} أي: عينهم التي يشربون منها لا يدخل سبط على غيره في شربه وقلنا لهم: {كلوا واشربوا من رزق الله} أي: كلوا من المنّ والسلوى واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة {ولا تعثوا} أي: لا تعتدوا {في الأرض مفسدين} أي: حال إفسادكم وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ومنه ما يتضمّن صلاحاً راجحاً على الفساد كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة. تنبيه: من أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله تعالى وقلة تدبره في عجائب صنعه فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر كالنورة ويجذب الحديد كالمغناطيس وينفر الخل كالكهربان فإنه إذا وضع في إناء لا يحصل الخل في ذلك الإناء لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض أو لجذب الهواء من الجوانب الأربعة ويصيره ماء بقوّة التدبير ونحو ذلك. فإن قيل: له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب: بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعاً يتوالدون يقال لهم: الجن ومنهم إبليس، وقيل: إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه} (الكهف، 50) وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، قال البغوي: والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى: {كان من الجنّ} أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة، وقال قوم: من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلى الجنة وقيل: إنّ الجنّ أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضاً أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضاً والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال: فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس. تنبيه: من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمناً. {مصراً} من الأمصار، والمصر البلد العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لا العلم بفتح اللام، وقيل: أراد به العلم وهي مصر موسى وفرعون، قال البيضاويّ: ويؤيده ـ أي: القول ـ بأن المراد بمصر العلم أنه غير منوّن في مصحف ابن مسعود أي: وهي قراءة شاذة وإنما صرفه على هذا مع أنّ فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في هند ودعد لمعادلة أحد سببي منع الصرف بخفة الاسم لسكون وسطه أو على تأويل مصر بالمكان فذكره فيبقى فيه سبب واحد فانصرف {فإنّ لكم} فيه {ما سألتم} من نبات الأرض {وضربت عليهم} أي: أحيطت إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط {الذلة} أي: الذل والهوان، وقيل: الجزية، {والمسكنة} أي: الفقر وسمي الفقير مسكيناً لأنّ الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة وفعل بهم ذلك مجازاة لهم على كفران النعمة ولذلك تجد اليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين إمّا على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم، وقيل: الذلة فقر القلب فلا ترى في أهل الملل أذل وأحرص على المال من اليهود. وقرأ حمزة والكسائي: عليهم بضمّ الهاء والميم وصلاً، وفي الوقف حمزة على أصله، والكسائي بكسرها، وأبو عمرو بكسر الهاء والميم وقفاً ووصلاً، وباقي القرّاء بكسر الهاء وضم الميم وصلاً وفي الوقف بكسر الهاء وسكون الميم {وباؤوا} رجعوا {بغضب من الله} ولا يقال باء إلا بشر، وأصل البوء المساواة، وقال أبو عبيدة: احتملوه وأقروا به ومنه الدعاء: «أبوء بنعمتك وأبوء بذنبي» أي: أقرّ، وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما مرّ من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كانوا يكفرون بآبات الله} بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ويكفرون بالانجيل والقرآن وبالمعجزات التي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر وإظلال الغمام وإنزال المنّ والسلوى وانفجار العيون من الحجر {ويقتلون النبيين بغير الحق} أي: ظلماً فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم. روي أن اليهود قتلوا سبعين نبياً في أوّل النهار وقامت سوق بقلهم آخر النهار. فإن قيل: لم قال: {بغير الحق} وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق؟ أجيب: بأنه ذكره وصفاً للقتل والقتل يوصف تارة بالحق وتارة بغير الحق وهو مثل قوله تعالى: {قل رب احكم بالحق} (الأنبياء، 112) ذكر الحق وصفاً للحكم لا أنّ حكمه ينقسم إلى الجور والحق، أو أنه بغير الحق عندهم إذ لم يروا منهم ما يعتقد به جواز قتلهم. فإن قيل: إنّ الله تعالى قد أخبر بقتل الأنبياء ونصر الرسل فكيف الجمع؟ أجيب: بأن المحل مختلف إذ الرسول غير النبيّ وبأنّ المراد بالنصر الغلبة بإظهار الحجة لا العصمة من القتل وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه تعالى بقوله: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} أي: جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات وقتل النبيين، فإنّ صغار الذنوب أسباب تؤدّي إلى ارتكاب كبارها كما أنّ صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحرّي كبارها، وكرر الإشارة للدّلالة على أنّ ما لحقهم كما هو بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله، وقيل: الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع وعلى هذا إنما جوّزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعداً على تأويل ما ذكر والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع، وقرأ النبيئين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 نافع بالهمزة، والباقون بالياء، وورش على أصله في الهمز بالمدّ والتوسط والقصر. {إنّ الذين آمنوا} بالأنبياء من قبل {والذين هادوا} أي: اليهود سموا به لقولهم: إنا هدنا إليك أي: ملنا إليك، وقيل: لأنهم هادوا أي: تابوا من عبادة العجل وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهوّدون أي: يتحرّكون عند قراءة التوراة ويقولون: إنّ السموات والأرض تحرّكت حين آتى الله موسى التوراة {والنصارى} جمع نصراني كندامى، والياء في نصراني للمبالغة سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح، {قال الحواريون نحن أنصار الله} (آل عمران، 52) (الصف، 14) . فإن قيل: هذا ليس جارياً على قواعد الاشتقاق فإنه يقال للواحد: ناصر وفاعل لا يجمع على فعالى. أجيب: بأنّ ذلك كاف في الاشتقاق وإن لم يجمع المفرد على فعالى أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة، فسموا باسمها على الأول أو من اسمها على الثاني {والصابئين} هم طائفة من النصارى، وقيل: من اليهود، وقيل: قوم بين النصارى والمجوس، وقيل: أصل دينهم دين نوح عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم عبدة الملائكة أو الكواكب، وقرأ نافع وحده بالياء إمّا لأنه خفف الهمزة، أو لأنه من صبا إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم، أو من الحق إلى الباطل، والباقون بالهمزة بعد الباء الموحدة {من آمن با واليوم الآخر وعمل صالحاً} أي: من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدّقاً بقلبه وبالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه، وقيل: من آمن من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ودخل الاسلام دخولاً صادقاً {فلهم أجرهم} أي: ثواب أعمالهم {عند ربهم} بأن يدخلهم الجنة {ولا خوف عليهم} في الدنيا {ولا هم يحزنون} في الآخرة أو حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب. تنبيه: روعي في ضمير آمن وعمل لفظ من وفيما بعده معناها ومن مبتدأ خبره فلهم أجرهم والجملة خبر إن، أو بدل من اسم إن وخبرها فلهم أجرهم والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث أنها لا تدخل الشرطية ورد بقوله تعالى: {إنّ الذين فتنوا الؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم} (البروج، 1) . {س2ش63/ش67 وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا? مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا? مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن? بَعْدِ ذَالِكَ? فَلَوْ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ? لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا? مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا? قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَا? لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا? بَقَرَةً? قَالُو?ا? أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا? قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {و} اذكروا {إذ أخذنا ميثاقكم} أي: عهدكم باتباع موسى والعمل بما في التوراة {و} قد {رفعنا فوقكم الطور} أي: الجبل حتى أعطيتم الميثاق. روي أنّ موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءهم بالتوراة ورأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم لأنها كانت شريعة ثقيلة وأبوا قبولها فأمر الله تعالى جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم وكان على قدر عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة رجل كالظلة وقال لهم: إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم، وقال عطاء عن ابن عباس: رفع الله فوق رؤوسهم الطور وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم، وقيل لهم: فإن قبلتم وإلا رضختكم بهذا الجبل أو أغرقتكم في هذا البحر أو أحرقتكم بهذه النار، فلما رأوا أن لا مهرب لهم من ذلك قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصارت سنة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم ويقولون: بهذا السجود رفع العذاب عنا {خذوا} هو على إرادة القول أي: وقلنا خذوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 {ما آتيناكم} من الكتاب {بقوّة} بجدّ وعزيمة {واذكروا ما فيه} بالعمل فيه أو تفكروا فيه فإنه تذكر بالقلب كما أنّ الدرس ذكره باللسان أو ادرسوه ولا تنسوه {لعلكم تتقون} لكي تتقوا النار أو المعاصي. {ثم توليتم} أعرضتم عن الوفاء بالميثاق {من بعد ذلك} أي: بعد أخذه {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} أي: بتوفيقكم للتوبة أو بالإمهال وتأخير العذاب عنكم أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه {لكنتم من الخاسرين} أي: من المغبونين بالانهماك في المعاصي أو بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة. تنبيه: لو في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره فإذا دخل على لا أفاد إثباتاً أو هو امتناع الشيء لثبوت غيره والاسم الواقع بعده عند سيببويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسدّه وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف. {ولقد علمتم} اللام موطئة للقسم أي: عرفتم {الذين اعتدوا} تجاوزوا الحدّ {منكم في السبت} بصيد السمك وذلك أنهم كانوا زمن داود عليه الصلاة والسلام بأرض يقال لها إيلة حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه حتى لا يرى الماء من كثرتها فإذا مضى تفرّقت ولزمت قعر البحر فذلك قوله تعالى: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} (الأعراف، 163) ثم إنّ الشيطان وسوس إليهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تقدر على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها فإذا كان يوم الأحد أخذوها فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا: ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأكلوا وملحوا وباعوا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفاً فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا: والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار {فقلنا لهم} لإصرارهم على المعصية {كونوا قردة خاسئين} أي: مبعدين فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم فلما أبطؤوا تسوروا على الحائط فإذا هم جميعاً قردة لها أذناب يتعاوون، قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث ممسوخ فوق ثلاثة أيام ولم يتوالدوا، وقال مجاهد: ما مسخت صورتهم ولكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار كما في قوله تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} (الجمعة، 5) رواه عنه ابن جرير وردّه وقال: إنه مخالف لظاهر القرآن والأحاديث والآثار وإجماع المفسرين وقوله تعالى: {كونوا} ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه وإنما المراد به سرعة التكوين وإنهم صاروا كذلك كما أراد بهم.l {فجعلناها} أي: تلك العقوبة {نكالاً} أي: عبرة تنكل المعتبر بها أي: تمنعه من ارتكاب مثل ما عملوا ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع {لما بين يديها وما خلفها} أي: للأمم التي في زمانها وبعدها أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدّم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها {وموعظة للمتقين} الله من قومهم أو لكل متق سمعها وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم. {و} اذكر {إذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم} قرأ أبو عمرو بسكون الراء. وروي عن الدوري اختلاس الحركة، والباقون بالحركة الكاملة، والحركة ضمة {أن تذبحوا بقرة} أوّل هذه القصة قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} (البقرة، 72) وإنما فكت عنه وقدّمت عليه لاستقلاله بنوع آخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته أنه كان فيهم رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى فألقاه ببابها ثم أصبح يطلب ديته وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل فسألهم فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى، قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى ليدعو الله ليبيّن لهم بدعائه فدعا فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله فقال موسى: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة {قالوا أتتخذنا هزواً} أي: أتستهزىء بنا نحن نسأل عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة، وإنما قالوا ذلك استبعاداً لما قاله واستخفافاً به، قرأ حمزة بسكون الزاي في الوصل وإذا وقف قال: هزواً بنصب الزاي من غير همز، وروي عنه الإدغام، وهو أن يشدّد الزاي، وقرأ حفص هزواً بضم الزاي بعدها واو مفتوحة وقفاً ووصلاً والباقون بضم الزاي بعدها همزة مفتوحة {قال أعوذ} أي: أمتنع {با} من {أن أكون من الجاهلين} لأنّ الهزء في مثل ذلك جهل وسفه، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعاً له فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله استوصفوه ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وكان تحته حكمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال: اللهمّ إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل فسارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان باراً بوالدته فكان يقسم الليل أثلاثاً يصلي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمّه يوماً: إنّ أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع الله إله إبراهيم وإسمعيل وإسحق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمى الذهبية لحسنها وصفرتها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب فأقبلت تسعى إليه حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله وقالت: أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإنّ ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إنّ أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن يتقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمّك، فسار الفتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بها إلى أمّه فقالت له: إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة، فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكاً ليري خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بوالدته وكان الله به خبيراً، فقال الملك له: بكم تبيع هذه البقرة؟ فقال: بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي، فردّها إلى أمّه وأخبرها بالثمن، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأمرت أمّك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال الملك: إني أعطيك اثني عشر ديناراً على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمّه وأخبرها بذلك، فقالت: إنّ الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال الملك له: اذهب إلى أمّك وقل لها: امسكي هذه البقرة فإنّ موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها ـ أي: جلدها ـ ذهباً دنانير فأمسكوها وقدّر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه تعالى ورحمة فذلك قوله عز وجل: {س2ش68/ش71 قَالُوا? ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ? قَالَ إِنَّهُ? يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ s فَارِضٌ وَبِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَالِكَ? فَافْعَلُوا? مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا? ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا? قَالَ إِنَّهُ? يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا? ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ? يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ s ذَلُولٌ تُثِيرُ ا?رْضَ وَتَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ s شِيَةَ فِيهَا? قَالُوا? الْـ?َانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ? فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا? يَفْعَلُونَ} {قالوا ادع لنا ربك يبيّن لها ما هي} أي: ما سنها وكان من حقه أن يقولوا أيّ بقرة هي أو كيف هي لأن لفظ ما يسأل به عن الجنس غالباً لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله {قال} موسى {إنه} أي ربي {يقول إنها بقرة لا فارض} أي: مسنة، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي: قطعته وبلغت آخره {ولا بكر} أي: صغيرة {عوان} أي: نصف أي: وسط قال الشاعر: *نواعم بين أبكار وعون جمع عوان {بين ذلك} أي: بين ما ذكر من الفارض والبكر. فإن قيل: بين يقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك؟ أجيب: بأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر كما تقرّر وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أنّ المراد بها معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب بالأمر ومن أنكر ذلك زعم أنّ المراد بها بقرة من جانب البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ويلزمه النسخ قبل الفعل فإن التخصيص إبطال التخيير الثابت بالنص والحق جواز تأخير البيان عن الوقت المذكور والنسخ قبل الفعل ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام: لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وتقريعهم بالتمادي وزجرهم عن المراجعة بقوله: {فافعلوا ما تؤمرون} به من ذبحها. {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال} موسى {إنه} أي: ربي {يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها} أي: شديد الصفرة ولذلك تؤكد به الصفرة فيقال: أصفر فاقع كما يقال: أسود حالك، وعن الحسن: سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى: {جمالات صفر} (المرسلات، 33) قال البيضاويّ: ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنه من مقدّماته، قال البغويّ: والأوّل أصح لأنه لا يقال أسود فاقع إنما يقال: أصفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فاقع، وأسود حالك وأخضر ناصح {تسرّ الناظرين} إليها أي: يعجبهم حسنها وصفاء لونها، والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أي: أسالمة أم عاملة؟ وعلى هذا فليس تكراراً للسؤال الأوّل {إنّ البقر} أي: جنسه المنعوت كما ذكر {تشابه} أي: التبس واشتبه أمره {علينا} لكثرته فلم يهتدوا إلى المقصود. تنبيه: لم يقل تشابهت علينا لأنّ المراد الجنس كما مرّ أو لتذكير لفظ البقر كقوله تعالى: {أعجاز نخل منقعر} (القمر، 20) {وإنا إن شاء الله لمهتدون} إلى وصفها وفي الحديث: «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» . واحتجّ به أصحابنا على أنّ الحوادث بإرادة الله تعالى وأنّ الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى. والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة لأنها وقعت شرطاً والشرط أمر يحدث في المستقبل، وأجيب: بأنّ تعليق الاهتداء بالمشيئة التي هي الإرادة باعتبار تعلق المشيئة بالاهتداء وهذا التعلق هو الحادث ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث به تعالى لأن التعلق أمر اعتباري. {قال} موسى {إنه} أي: ربي {يقول إنها بقرة لا ذلول} أي: غير مذللة بالعمل {تثير الأرض} أي: تقلبها للزراعة، والجملة صفة ذلول داخلة في النفي {ولا تسقي الحرث} أي: الأرض المهيأة للزراعة، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قال: لا ذلول مثيرة وساقية {مسلمة} من العيوب وإثارة العمل {لا شية} أي: لا لون {فيها} سوى لون جميع جلدها، قال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد {قالوا الآن جئت} أي نطقت {بالحق} أي: بالبيان التامّ الشافي الذي لا إشكال فيه فطلبوها فوجدوها عند الفتى البارّ بأمّه فاشتروها بملء مسكها أي: جلدها ذهباً كما قال له الملك، وقوله تعالى: {فذبحوها} فيه اختصار، والتقدير فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها {وما كادوا} أي: ما قاربوا {يفعلون} لتطويلهم وكثرة مراجعتهم، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها ولا ينافي قوله: {وما كادوا يفعلون} قوله: {فذبحوها} لاختلاف وقتيهما إذ المعنى ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل. {وإذ قتلتم نفساً} خطاب للجمع لوجود القتل فيهم {فادّارأتم} فيه إدغام التاء في الأصل في الدال أي تخاصمتم وتدافعتم {فيها} أي: في شأنها، إذ المتخاصمان يدفع بعضهم بعضاً، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه {وا مخرج} أي: مظهر {ما كنتم تكتمون} فإن القاتل كان يكتم القتل، وقوله تعالى: {فقلنا اضربوه} أي: القتيل، عطف على ادّارأتم وما بينهما اعتراض، والضمير للنفس وتذكير الضمير على تأويل الشخص أو القتيل {ببعضها} أي: ببعض البقرة واختلفوا في ذلك البعض فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو ما لان من العظام، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: بعجب الذنب لأنه أوّل ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق، وقال الضحاك: بلسانها، قال الحسين بن الفضل: لأنه آلة الكلام، وقال عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن، وقيل: بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك فقام القتيل حياً بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دماً وقال: قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فحرم قاتله الميراث وقتل وفي الخبر «ما ورث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قاتل بعد صاحب البقرة» وفيه إضمار تقديره: فضرب فحيي، قال تعالى: {كذلك} الإحياء {يحيي الله الموتى} والخطاب مع من حضر حياة القتيل أو نزول الآية {ويريكم آياته} دلائل قدرته {لعلكم تعقلون} لكي يكمل عقلكم وتعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها فتؤمنون. قال البيضاويّ: ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرّب وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل أي: توكل أبي اليتيم والشفقة على الأولاد وأن من حق الطالب أن يقدم قربة والمتقرّب أن يتحرّى الأحسن ويغالي بثمنه كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضحى بنجيبة ـ أي: من الابل ـ بثلثمائة دينار، وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى إلى إذ لا يتصوّر حياة ميت من غيره تعالى والأسباب أمارات لا أثر لها وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوّه الساعي في إماتته الموت الحقيقي فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوّة الشهوية حين زال عنها أثر الصبا أي: عدم التكليف، وهو نظير لا بكر ولم يلحقها ضعف الكبر أي: وهو نظير لا فارض، وكانت معجبة رائقة المنظر أي: وهو نظير تسرّ الناظرين غير مذللة في طلب الدنيا أي: وهو نظير لا ذلول تثير الأرض مسلمة من دنسها، {لا شية} أي: لا علامة بها من قبائحها بحيث يصل أثره أي: الذبح إلى نفسه فتحيا حياة طيبة، ويعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع أي: لأن العقل يأمر بالخير والوهم يأمر بالشهوات. {ثم قست قلوبكم} أيها اليهود أي: ضلت عن قبول الحق لأن القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة كما في الحجر وقساوة القلب مثل في بعده عن الاعتبار، وثم لاستبعاد القسوة عن الأحياء لا للتراخي في الزمان بل للاستبعاد مجاز القرينة ما قبلها بمعنى أنه يبعد من العاقل قسوة القلب بعد ظهور تلك الآية العظيمة {من بعد ذلك} المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات فإن ذلك مما يوجب لين القلب {فهي كالحجارة} في قسوتها، قرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها {أو أشدّ قسوة} من الحجارة، وقيل: أو بمعنى الواو كقوله تعالى: مائة ألف أو يزيدون وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنّ الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة، لا تلين قط ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: {وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} أي: من بعض الحجارة وقيل: أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط {فإنّ منها لما يشقق} فيه إدغام التاء في الأصل في الشين {فيخرج منه الماء} أي: عيوناً دون الأنهار {وإنّ منها لما يهبط} أن ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله {من خشية الله} وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود. فإن قيل: الحجر جماد لا يفهم فكيف يخشى؟ أجيب: بأنّ الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه، قال البغويّ: ومذهب أهل السنة أنّ لله تعالى علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره فلها صلاة وتسبيح كما قال جلّ ذكره: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء، 440) وقال تعالى: {والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} (النور، 41) (الحج، 18) وقال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر} (الحج، 18) الآية فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى. روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ثبير والكفار يطلعونه فقال الجبل: انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ عليّ فيعاقبني الله بذلك، فقال له جبل حرا: إليّ إليّ يا رسول الله. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن» . وروي عن عليّ أنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر فلم يمرّ بشجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله» . وروي عن جابر أنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكتت، وقال مجاهد: لا ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله ويشهد لذلك قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله} (الحشر، 21) {وما الله بغافل} أي: بساه {عما تعملون} وعيد وتهديد، وقيل: بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب. {س2ش75/ش78 أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا? لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ? مِن? بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا? الَّذِينَءَامَنُوا? قَالُو?ا? ءَامَنَّا وَإِذَا خَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُو?ا? أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ? عِندَ رَبِّكُمْ? أَفَ تَعْقِلُونَ * أَوَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِ? أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِs يَظُنُّونَ} {أفتطمعون} أي: أفترجون أيها المؤمنون {أن يؤمنوا} أي: اليهود {لكم} أي: لأجل دعوتكم أو يصدّقوكم بما تخبرونهم به {وقد كان فريق} أي: طائفة {منهم} أي: أحبارهم {يسمعون كلام الله} أي: التوراة {ثم يحرّفونه} يغيرونه كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم، وقيل: هؤلاء من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله حين كلم موسى عليه الصلاة والسلام بالطور ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا {من بعد ما عقلوه} أي: فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة {وهم يعلمون} أنهم مفترون والهمزة للإنكار أي: لا تطمعوا في إيمانهم فلهم سابقة في الكفر. {وإذا لقوا} أي: منافقو اليهود {الذين آمنوا قالوا آمنا} بأنكم على الحق وإنّ رسولكم هو المبشر به في التوراة {وإذا خلا} أي: رجع {بعضهم إلى بعض قالوا} أي: رؤساؤهم الذين لم ينافقوا ككعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا لمن نافق {أتحدّثونهم} أي: المؤمنين {بما فتح الله عليكم} بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {ليحاجوكم} أي: ليخاصموكم {به عند ربكم} أي: بما أنزل ربكم في كتابه ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه جعلوا محاجتهم بكتاب الله محاجة عند الله كما يقال: عند الله كذا، ويراد به أنه في كتابه وحكمه، وقيل: بين يدي رسول ربكم، وقيل: عند ربكم في الآخرة، وقوله تعالى: {أفلا تعقلون} إمّا من تمام كلام اللائمين وهم خلص اليهود وتقديره أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم فيحجونكم، وإمّا من خطاب الله للمؤمنين متصل بقوله تعالى: {أفتطمعون} والمعنى: أفلا تعقلون حالهم وأنه لا مطمع لكم في إيمانهم. {أولا يعلمون} أي: اللائمون أو المنافقون أو كلاهما {إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون} من إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم وإظهار غيره وغير ذلك فيرعووا عن ذلك. {ومنهم} أي: اليهود {أمّيون} أي: عوام جهلة {لا يعلمون الكتاب} أي: لا يعرفون التوراة أو الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما، فيها، وقوله تعالى: {إلا أمانيّ} استثناء منقطع، أي: لكن أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 {وإن هم} أي: ما هم {إلا} قوم {يظنون} ظناً لا علم لهم وقد يطلق الظنّ بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع وإن جزم به صاحبه كاعتقاد المقلد وكالزائغ عن الحق بسبب شبهة قامت عنده. {س2ش79/ش82 فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا? بِهِ? ثَمَنًا قَلِي?? فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُوا? لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِ? أَيَّامًا مَّعْدُودَةً? قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ??? أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ? خَطِي?ـئَتُهُ? فَأُو?لَـ?ائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ? هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَءَامَنُوا? وَعَمِلُوا? الصَّالِحَاتِ أُو?لَا?ئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ? هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {فويل} أي: واد في جهنم كما رواه الترمذيّ، قال سعيد بن المسيب: لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدّة حرّه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو شدّة العذاب {للذين يكتبون الكتاب} أي: المحرف من التأويلات الزائغة، وقوله تعالى: {بأيديهم} تأكيد كقولك: كتبته بيميني {ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً} من الدنيا وهم اليهود غيروا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة: وآية الرجم وغيرها وكتبوها على خلاف ما أنزل الله فكانت صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة: أكحل العينين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فكتبوها طويلاً: أزرق العينين، سبط الشعر، وغيروا آية الرجم بالجلد والتحميم أي: تسويد الوجه {فويل لهم مما كتبت أيديهم} من المحرف {وويل لهم مما يكسبون} من الرشا. {وقالوا} أي: اليهود لما وعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم النار {لن تمسنا} أي: تصيبنا {النار إلا أياماً معدودة} محصورة قليلة. روي أنّ بعضهم قالوا: نعذب بعدد أيام عبادتنا العجل أربعين يوماً وبعضهم قالوا: مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً واحداً ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام. فإن قيل: لم وصف الأيام مع أنها جمع بالمفرد؟ أجيب: بأنها في معنى الجماعة فتكون مفرداً تقديراً ولأنّ جمع القلة ـ كما قاله الرضي ـ في حكم المفرد فيوصف بالمفرد كما هنا يوصف المفرد به كما في قوله تعالى: {نطفة أمشاج} (الإنسان، 20) وقيل: الأمشاج مفرد وعلى هذا فلا إشكال ثم كذبهم الله تعالى بقوله: {قل} لهم يا محمد {أتخذتم} حذف منه همزة الوصل استغناء بهمزة الاستفهام. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام {عند الله عهداً} أي: ميثاقاً منه بذلك، وقوله تعالى: {فلن يخلف الله عهده} جواب شرط مقدر أي: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده وفيه دليل على أن الخلف في خبر الله تعالى محال {أم تقولون على الله ما لا تعلمون} أم إما منقطعة بمعنى بل أتقولون على التقرير والتقريع، وإمّا معادلة بهمزة الاستفهام بمعنى أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، وقوله تعالى: {بلى} إثبات لما نفوه من مساس النار لهم فإن بلى وبل حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل أي: بل تمسكم وتخلدون فيها {من كسب سيئة} أي: قبيحة {وأحاطت به خطيئته} وقرأ نافع وحده خطيئاته بالجمع أي: استولت عليه وشملت جميع أحواله حتى صار كالمحتاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأنّ غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه لم تحط الخطيئة به ولذلك فسرها السلف بالكفر، وقيل: السيئة الكبيرة، والإحاطة أن يصرّ عليها لأنّ من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجرّه إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي مستحسناً إياها معتقداً أن لا لذة سواها مبغضاً لمن يمنعه عنها مكذباً لمن ينصحه فيها كما قال تعالى: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السواى أن كذبوا بآيات الله} (الروم، 10) الآية، والفرق بين السيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والخطيئة أنّ السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ، والكسب استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على التهكم كقوله تعالى: {فبشره بعذا أليم} (لقمان، 7) (يس، 11) (الجاثية، 8) {فأولئك أصحاب النار} أي: ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمو أسبابها في الدنيا {هم فيها خالدون} أي: دائمون روعي فيه معنى من والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة لأنها في الكافر كما مرّ. {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده لترجي رحمته ويخشى عذابه. تنبيه: عطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه. {و} اذكر {إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} في التوراة وقلنا لهم: {لا تعبدون إلا الله} هذا إخبار في معنى النهي كقوله تعالى: {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد} (البقرة، 282) وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أنّ المنهي سارع إلى الانتهاء فهو مخبر عنه، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب. {وبالوالدين إحساناً} أي: برّاً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى. قال البيضاويّ: وهذا متعلق بمضمر تقديره: وتحسنون أو أحسنوا، انتهى. ويلزمه أنّ إحساناً في الآية منصوب على المصدر المؤكد لعامله المحذوف مع أن حذف عامل المؤكد ممنوع أو نادر وقوله تعالى: {وذي القربى} أي: القرابة {واليتامى والمساكين} عطف على الوالدين، ويتامى جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له كنديم وندامى وهو قليل، ومسكين مفعيل من السكون كأنّ الفقر أسكنه {وقولوا للناس حسناً} من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والرفق بهم، وقيل: هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين، والباقون بضم الحاء وسكون السين مصدر وصف به مبالغة {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، قال البيضاوي: يريد ـ أي: الله ـ بهما ما فرض عليهم في ملتهم {ثم توليتم} في هذا التفات عن الغيبة، قال البيضاوي: ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب أي: أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه {إلا قليلاً منكم} أي: وهو من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن أسلم منهم {وأنتم} قوم {معرضون} أي: عادتكم الإعراض عن المواثيق والتولية كإعراض آبائكم. {و} اذكروا {إذ أخذنا ميثاقكم} وقلنا {لا تسفكون دماءكم} أي: تريقونها بقتل بعضكم بعضاً {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي: لا يخرج بعضكم بعضاً من داره وإنما جعل غير الرجل نفسه لاتصاله به نسباً أو ديناً، وقيل: لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم فإنه الجلاء الحقيقيّ {ثم أقررتم} بهذا العهد أنه حق وقبلتم {وأنتم تشهدون} على أنفسكم، هذا توكيد كقولك أقر فلان شاهداً على نفسه، وقيل: أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً. {ثم أنتم} يا {هؤلاء تقتلون أنفسكم} فيه استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار والشهادة عليه أي: ثم بعد ذلك يقتل بعضكم بعضاً {وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 تظاهرون} قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الطاء، والباقون بتشديدها، أي: تتعاونون {عليهم بالإثم} أي: المعصية {والعدوان} أي: الظلم {وإن يأتوكم أسارى} قرأ حمزة بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعد السين، والباقون بضمّ الهمزة وفتح السين وألف بعدها {تفادوهم} قرأ عاصم والكسائيّ بضمّ التاء وفتح الفاء وألف بعدها، والباقون بفتح التاء وسكون الفاء ولا ألف بعدها، أي: تنقذوهم من الأسر بالمال أو غيره، وقوله تعالى: {وهو} أي: الشأن {محرّم عليكم إخراجهم} متعلق بقوله تعالى: {وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} وما بينهما اعتراض، ومعنى الآية قال السدي: إنّ الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه في بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، وكانت قريظة حالفوا الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم فإذا أسروا فدوهم وكانوا إذا سئلوا: لم تقاتلونهم؟ وتفدونهم قالوا: أمرنا بالفداء، فيقال: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: حياء أن يستذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى بقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} وهو الفداء {وتكفرون ببعض} وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي} أي: هوان وعذاب {في الحياة الدنيا} فكان خزي قريظة القتل والسبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي عن منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب} أي: عذاب جهنم وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشدّ العذاب لأنّ عصيانه أشدّ {وما الله بغافل عما تعملون} قرأ نافع وابن كثير وشعبة بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب. {أولئك الذين اشتروا} أي: استبدلوا {الحياة الدنيا بالآخرة} بأن آثروها عليها {فلا يخفف عنهم العذاب} في الدنيا بنقصان الجزية والتعذيب في الآخرة {ولا هم ينصرون} أي: بدفعها عنهم {ولقد آتينا} أي: أعطينا {موسى الكتاب} أي: التوراة جملة واحدة {وقفينا من بعده بالرسل} أي: أتبعناهم رسولاً في إثر رسول كقوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} (المؤمنون، 44) يقال: قفاه إذا أتبعه إياه {وآتينا عيسى بن مريم البينات} أي: المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل. وعيسى بالعبرانية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم {وأيدناه} أي: قويناه {بروح القدس} قرأ ابن كثير بإسكان الدال حيث جاء، والباقون بضمها، وهذا من إضافة الموصوف إلى الصفة أي: الروح المقدسة وهو جبريل وصف به لطهارته وتأييده به أن أمر أن يسير معه حيث سار حتى يصعد به إلى السماء، وقيل: روح عيسى عليه الصلاة والسلام ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث أي: الحيض، وقيل: اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى. ولما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام قالوا: يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً فقال الله تعالى: {أفكلما جاءكم} يا معشر اليهود {رسول بما لا تهوى} أي: تحب {أنفسكم} من الحق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقوله تعالى: {استكبرتم} أي: تكبرتم عن اتباعه، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ {ففريقاً} أي: طائفة {كذبتم} كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل {وفريقاً تقتلون} كزكريا ويحيى عليهما السلام. فإن قيل: هلا قال: وفريقاً قتلتم؟ أجيب: بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل. قال الزمخشري: أو أن يراد وفريقاً تقتلونهم بعد أي: الآن، لأنكم درتم حول قتل محمد لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، وقال صلى الله عليه وسلم عند موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري» . {وقالوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً: {قلوبنا غلف} جمع أغلف أي: مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جئت به ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقولهم: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} (فصلت، 5) ، وقيل: أصل غلف بالسكون غلف بالضم فخفف، والمعنى أنها أوعية العلم لا تسمع علماً إلا وعته ولا تعي ما تقول أي: فما تقوله ليس بعلم أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره، ثم ردّ الله تعالى عليهم أن تكون قلوبهم كذلك بقوله تعالى: {بل} للإضراب {لعنهم الله بكفرهم} أي: بسبب كفرهم، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ولكنّ الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم كما قال تعالى: {فأصمهم وأعمى أبصارهم} أو هم كفرة ملعونون فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك {فقليلاً ما يؤمنون} ما مزيدة لتأكيد القلة أي: إيمانهم إيمان قليل جدّاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل: أراد بالقلة العدم. {س2ش89/ش91 وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا? مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا? فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا? كَفَرُوا? بِهِ?? فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا? بِهِ?? أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا? بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ? عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ?? فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ? وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُوا? بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا? نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ? وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ? قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَن?بِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {ولما جاءهم كتاب من عند الله} هو القرآن {مصدّق لما معهم} من كتابهم وهو التوراة لا يخالفه {وكانوا} أي: اليهود {من قبل} أي: من قبل مجيئه {يستفتحون} أي: يستنصرون {على الذين كفروا} أي: مشركي العرب إذا قابلوهم يقولون: اللهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته ونعته في التوراة ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم {فلما جاءهم} أي: اليهود {ما عرفوا} من الحق وهو بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم {كفروا به} حسداً أو خوفاً على الرياسة وجواب لما الأولى دل عليه جواب لما الثانية {فلعنة الله} أي: عذابه وطرده {على الكافرين} أي: عليهم، وإنما أتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم فتكون اللام للعهد ويجوز أن تكون للعموم ويدخلون فيه دخولاً أولياً أو قصدياً لأنهم المقصودون بالذات وتناول الكلام لغيرهم على سبيل التبع فهو كما إذا ظلمك إنسان فقلت: ألا لعنة الله على الظالمين كان ذلك الظالم أوّلياً أو مقصوداً في الدعاء والباقون تبعاً. {بئس ما اشتروا} أي: باعوا {به أنفسهم} أي: حظها من الثواب، وما نكرة بمعنى شيئاً مميزة لفاعل بئس المستكن أي: بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم {أن يكفروا} أي: كفرهم {بما أنزل الله} من القرآن {بغياً} أي: حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علة يكفروا ـ كما قال البيضاوي ـ دون اشتروا، وإن قاله الزمخشري لفصل المخصوص بين {بغياً} الذي هو العلة وبين المعلول وهو {اشتروا} . وحسدوه على {أن ينزل الله من فضله} أي: الوحي {على من يشاء} للرسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 {من عباده} وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون نون ينزل وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {فباءوا} أي: رجعوا {بغضب على غضب} أي: مع غضب، واختلف في معنى ذلك فقال ابن عباس ومجاهد: الغضب الأوّل: بتضييعهم التوراة وتبديلهم، والثاني: بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال السديّ: الأوّل: كفرهم بعبادة العجل، والثاني: الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: الأوّل: بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. {وللكافرين عذاب مهين} أي: ذو إهانة بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه. {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} من القرآن وغيره فيعم سائر الكتب المنزلة {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي: التوراة يكفينا ذلك {ويكفرون} الواو للحال {بما وراءه} أي: بما سواه من الكتب كقوله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك} (المؤمنون، 7) أي: سواه وقال أبو عبيدة: بما بعده أي: من القرآن. وقوله تعالى: {وهو} أي: ما وراءه {الحق} حال، وقوله: {مصدّقاً لما معهم} أي: من التوراة حال ثانية مؤكدة تتضمن ردّ مقالهم فإنهم كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض الله تعالى عليهم بقتل الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة بقوله تعالى: {قل} لهم يا محمد {فلم تقتلون} أي: قتلتم {أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} بالتوراة، والتوراة لا تسوغه بل نهيتم فيها عن قتلهم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم لرضاهم به وعزمهم عليه، قرأ نافع وحده: أنبياء الله، بالهمز في كل القرآن، والباقون بالبدل، وليس لورش إلا المدّ فقط لأنه متصل. {س2ش92/ش94 وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن? بَعْدِهِ? وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا? مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا?? قَالُوا? سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا? فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ? قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ? إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ ا?خِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا? الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي: الآيات التسع في قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات كالعصا} (الإسراء، 101) واليد وفلق البحر {ثم اتخذتم العجل} أي: إلهاً {من بعده} أي: من بعد ذهابه إلى الميقات، وقوله تعالى: {وأنتم ظالمون} أي: باتخاذه، حال أي: اتخذتم العجل ظالمين بعبادته، أو بالإخلال بآيات الله، أو اعتراض أي: وأنتم عادتكم الظلم. {وإذ أخذنا ميثاقكم} على العمل بما في التوراة {و} قد {رفعنا فوقكم الطور} أي: الجبل حين امتنعتم من قبولها ليسقط عليكم، وقلنا: {خذوا ما آتيناكم بقوّة} أي: بجد واجتهاد {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول {قالوا سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك وقيل: سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب، قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوا بالآذان وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعاً {وأشربوا في قلوبهم العجل} أي: خالط حبه قلوبهم كما يتداخل الشراب أعماق البدن، وفي قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء، 10) . فائدة: قال البغويّ في «القصص» : إنّ موسى عليه الصلاة والسلام أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذر في النهر وأمر بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه. {بكفرهم} أي: بسبب كفرهم وذلك أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه فتمكن من قلوبهم ما سوّل لهم السامري {قل} لهم يا محمد {بئسما} أي: شيئاً {يأمركم به إيمانكم} بالتوراة عبادة العجل، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب: {أصلواتك تأمرك} (هود، 87) وكذلك إضافة الإيمان إليهم في قوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} بعبادة العجل. {قل} لهم {إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة} أي: خاصة {من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} في قولكم وذلك أنّ اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} (البقرة، 80) {ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} (البقرة، 111) وقولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} (المائدة، 18) فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال: قل لهم يا محمد ذلك لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب. كما روي عن المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم فقد كان علي رضي الله تعالى عنه يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن: ما هكذا نرى المحاربين، فقال له: يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما احتضر قال: حبيب ـ أي: الموت ـ جاء على فاقة، أي: وقت حاجتي إليه. وقيل: بل أراد بالحبيب لقاء الله لا أفلح من ندم يعني على التمني أراد به أنه كان يتمنى الموت وما ندم على التمني حين جاء الموت. وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه. وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحن إليه. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلا مات» . تنبيه: خالصة نصبها على الحال من الدار، أو من الضمير في خبر كان العائد إلى الدار، وتعلق بتمنوا الشرطان على أنّ الأوّل قيد في الثاني. {ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم} من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان، ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة كما هنا وعن القدرة أخرى كما في قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} (الفتح، 10) وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان أخبر به كقوله تعالى: {ولن تفعلوا} (البقرة، 24) . فإن قلت: من أعلمك أنهم لم يتمنوا؟ أجيب: بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولي المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل ذلك. فإن قيل: التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ أجيب: بأنّ التمني ليس من أعمال القلوب إنما هو قول الانسان بلسانه: ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا: تمنى. وليت كلمة تمنّ ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك. فإن قيل: لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدقون أجيب: بأنه كم حكي عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب الصرف ولم يبالوا فكيف يمنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وأخبارهم عن ضمائرهم وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كذباً لأنه أمر خفي لا سبيل إلى الاطلاع عليه {وا عليم بالظالمين} أي: الكافرين فيجازيهم في ذلك فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ونفيه عمن هو لهم. {ولتجدنهم} اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره: والله لتجدنهم يا محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أي: اليهود {أحرص الناس على حياة} هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين ومفعولاه هم أحرص. فإن قيل: لم قال على حياة بالتنكير؟ أجيب: بأنه أريد حياة مخصوصة هي فرد من أفرادها وهي الحياة المتطاولة {و} أحرص {من الذين أشركوا} أي: المنكرين البعث عليها لعلمهم بأنّ مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له. فإن قيل: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ أجيب: ببلى، ولكنهم أفردوا بالذكر؛ لأنّ حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم؛ لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ {يودّ} يتمنى {أحدهم لو يعمر ألف سنة} لو مصدرية بمعنى أن وهي بصلتها في تأويل مصدر مفعول، يودّ يقول الله تعالى: اليهود أحرص الناس على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك؛ لأنّ تحية المجوس فيما بينهم عش ألف سنة {وما هو} أي: أحدهم {بمزحزحه} أي: مبعده {من العذاب} أي: النار وقوله تعالى: {أن يعمر} فاعل مزحزحه أي: تعميره {وا بصير بما يعملون} فيجازيهم به. «وسأل عبد الله بن صوريا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ينزل عليه؟ فقال: جبريل فقال: ذاك عدوّنا عادانا مراراً وأشدّها أنه لما نزل على نبينا أخبرنا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر وأخبرنا بالحين الذي يجيء فيه فلما كان وقته بعثنا رجلاً من بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه وكبر بختنصر وقوي فنزل. {قل} لهم {من كان عدواً لجبريل} . روي أنه كان لعمر رضي الله تعالى عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممرّه على مدارس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا: يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال: والله ما أحبكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا: ذاك عدوّ لنا يطلع محمداً على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلام أي: السلامة، فقال عمر: وما منزلتهما من الله؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة فقال: لئن كان كما تقولون فليسا بعدوّين أي: لقرب منزلتهما عند الله ولأنتم أكفر من الحمير أي: لأنّ الكفر نتيجة الجهل والبلادة والحمار مَثل فيهما، ومن كان عدوّ أحدهما فهو عدّو الله تعالى ثم رجع فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال عليه الصلاة والسلام: «لقد وافقك ربك يا عمر» قال عمر: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر. وقال مقاتل: قالت اليهود إنّ جبريل عدوّنا؛ لأنه أمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا ومعنى جبريل عبد الله، فجبر هو الله وإيل هو العبد، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة ممدودة أي: بعدها ياء لفظية وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة {فإنه} أي: جبريل {نزله} أي: القرآن ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 يسبق ذكره فيه. فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته {على قلبك} يا محمد وقوله تعالى: {بإذن الله} أي: بأمره حال من فاعل نزل {مصدقاً} أي: موافقاً {لما بين يديه} لما قبله من الكتب {وهدى} من الضلالة {وبشرى} بالجنة {للمؤمنين} هذه أحوال من مفعول نزل وجواب الشرط فإنه نزله والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياك لنزوله عليك بالوحي؛ لأنه نزل كتاباً مصدّقاً للكتب المتقدّمة فحذف الجواب وأقيم علته مقامه، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وقيل: الجواب محذوف مثل فليمت غيظاً أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّ له كما قال تعالى: {من كان عدوّاً وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ للكافرين} والمراد بمعاداة الله مخالفته عناداً أو معاداة المقرّبين من عباده وصدر الكلام بذكره تعالى تفخيماً لشأنهم كقوله تعالى: {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة، 62) . فإن قيل: لم أفرد الملكين بالذكر مع دخولهما في الملائكة؟ أجيب: بأنّ ذلك لفضلهما، فكأنهما من جنس آخر وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات وبأن المحاجة كانت فيهما والواو فيها بمعنى أو يعني من كان عدوّاً لأحد هؤلاء؛ لأنّ الكافر بالواحد كافر بالكل، وقدم جبريل لشرفه، وقدم الملائكة على الرسل كما قدم الله على الجميع؛ لأنّ عداوة الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب، قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همز ولا ياء بين الألف واللام وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة والباقون بهمزة بعد الألف وياء وهم على مراتبهم في المدّ. ونزل في ابن صوريا لما «قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية أي زائدة فنتبعك» . {ولقد أنزلنا إليك} يا محمد {آيات بينات} واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام {وما يكفر بها إلا الفاسقون} أي: المتمرّدون من الكفرة والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على أعظميته كأنه متجاوز عن حدّه. {أو كلما عاهدوا عهداً} الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهداً على الإيمان بالنبيّ أو إن خرج النبيّ أن لا يعاونوا عليه المشركين وقوله تعالى {نبذه} أي: طرحه {فريق منهم} أي: اليهود بنقضه جواب كلما وهو محل الاستفهام الانكاري وإنما قال فريق؛ لأنّ بعضهم لم ينقض وقوله تعالى: {بل} للانتقال {أكثرهم لا يؤمنون} ردّ لِما يتوهم أنّ الفريق هم الأقلون. وقوله تعالى: {ولما جاءهم رسول من عند الله} هو محمد صلى الله عليه وسلم {مصدّق لما معهم} من التوراة {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله} أي: التوراة؛ لأنّ كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدّقه ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات وقيل: كتاب الله هو القرآن نبذوه بعدما ألزمهم تلقيه بالقبول وقوله تعالى: {وراء ظهورهم} أي: لم يعملوا بما فيها من الآيات بالرسل وغيره مًثل لإعراضهم عنه بالكلية بالاعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه {كأنهم لا يعلمون} ما فيها من أنه نبيّ حق أو فيه شك يعني أنّ علمهم بذلك رصين ولكنهم كابروا وعاندوا. وعن سفيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه. وقوله تعالى: {واتبعوا} عطف على نبذ {ما تتلو} أي: ما تلت {الشياطين} والعرب تضع المستقبل موضع الماضي والماضي موضع المستقبل، وقيل: ما كانت تتلو أي تقرأ {على} عهد {ملك سليمان} من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملَككم سليمان بهذا فتعلموه، فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان عليه الصلاة والسلام، وأمّا سفلاؤهم فقالوا: هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وبقيت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عليه براءة سليمان هذا قول الكلبيّ. وقال السديّ: كانت الشياطين تسترق السمع فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كلّ كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه وقال: لا أسمع أنّ أحداً يقول: إنّ الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل شيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم قال: فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وأقام ناحية فقالوا: أُدن فقال: لا ولكني ههنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا وأخرجوا تلك الكتب قال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنّ والانس والشياطين والطير بهذا ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله سليمان من ذلك وأنزل تكذيباً لمن زعم ذلك واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان {وما كفر سليمان} إذ لم يعمل السحر وعبر عنه بالكفر ليدلّ على أنه كفر إذا استحله أو احتيج فيه إلى تقدّم اعتقاد مكفر هذا مذهب الشافعيّ وعند أحمد يكفر مطلقاً {ولكنّ الشياطين} هم الذين {كفروا} باستعمال السحر وتدوينه، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسر النون من ولكن مخففة ورفع نون الشياطين والباقون بنصب النون من ولكن مشدّدة ونصب نون الشياطين {يعلمون الناس السحر} يقصدون به إغواءهم وإضلالهم والجملة حال من ضمير كفروا. تنبيه: السحر لغة صرف الشيء عن وجهه يقال: ما سحرك عن كذا أي: ما صرفك عنه واصطلاحاً مزاولة النفوس الخبيئة لأقوال وأفعال يترتب عليها أمور خارقة للعادة. واختلف فيه هل هو تخييل أو حقيقة؟ قال بالأوّل المعتزلة واستدلوا بقوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه، 66) وقال بالثاني أهل السنة ويدلّ لذلك الكتاب والسنة الصحيحة، والساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور فيمرض أو يموت منه ويفرّق به بين المرء وزوجه ويحرم تعليمه أو تعلمه، قال إمام الحرمين: ولا يظهر السحر إلا على يد فاسق ولا تظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الكرامة على يد فاسق ويحرم أيضاً تعليم أو تعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل والحصى والشعير والشعبذة ويحرم إعطاء العوض أو أخذه عنها بالنص الصريح في حلوان الكاهن والباقي بمعناه، والكاهن من يخبر بواسطة النجم عن المغيبات في المستقبل بخلاف العرّاف فإنه الذي يخبر عن المغيبات الواقعة كعين السارق ومكان المسروق والضالة قال في «الروضة» : ولا يغتر بجهالة من يتعاطى الرمل وإن نسب إلى علم. وأمّا الحديث الصحيح «كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك» فمعناه من علمتم موافقته له فلا بأس ونحن لا نعلم الموافقة فلا يجوز لنا ذلك. وقول البيضاويّ: وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات كالأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم وتسميته سحراً على التجوّز لما فيه من الدقة؛ لأنه أي: السحر في الأصل أي: اللغة لما خفي سببه مردود بل هو مذموم أي: حرام كما صرّح به النوويّ في «الروضة» وغيرها، وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين} عطف على السحر أي: ويعلمونهم ما أنزل على الملكين وقيل: عطف على ما تتلو أي: واتبعوا ما أنزل أي: ما ألهماه وتعلماه من السحر فالانزال بمعنى الإلهام والتعليم. قال البيضاويّ: وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزاً بينه وبين المعجزة. قال: وما روي أي: في كتب السير أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكيّ عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله أي: الرمز أو ما روي لا يخفى على ذوي البصائر اه. قال شيخنا شيخ الإسلام زكريا: بأن يقال عُبر عن العقل والنفس المطمئنة بالملكين وعن النفس الأمّارة بالسوء بالزهرة وعن مفارقتها بالموت بالصعود إلى السماء وقيل: هما رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما وقيل: ما أنزل نفي معطوف على ما كفر تكذيباً لليهود في هذه القصة، وقد طوّل البغوي في هذه القصة. واعتمد ما ردّه البيضاويّ، وقال شيخنا المذكور عن شيخه ابن حجر إنّ لها طرقاً تفيد العلم بصحتها فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقيّ وغيرهم وموقوفة على عليّ وابن مسعود وابن عباس وغيرهم بأسانيد صحيحة والبيضاويّ لما استبعد ما روي ولم يطلع عليه، قال ولعله إلخ.. وقوله تعالى: {ببابل} ظرف أو حال من الملكين أو الضمير في أنزل وهي بلد في سواد العراق وقوله تعالى: {هاروت وماروت} بدل أو عطف بيان للملكين ومنع صرفهما للعلمية والعجمة ومن جعل ما فيما أنزل نافية أبدل هاروت وماروت من الشياطين بدل البعض وما بينهما اعتراض {وما يعلمان} أي: الملكان {من أحد} أي: أحداً ومن صلة {حتى} ينصحاه و {يقولا} له {إنما نحن فتنة} أي: ابتلاء من الله تعالى للناس لنمتحنهم بتعليمه وأصل الفتنة الاختبار والامتحان من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار لتميز الجيد من الرديء، وإنما وحد الفتنة لأنها مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع {فلا تكفر} بتعليمه أي: فلا تتعلمه معتقداً حله فتكفر على ما تقدّم، فإن أبى إلا التعليم علماه قيل: إنهما يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرّات، قال عطاء والسديّ فإن أبى إلا التعليم؟ قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك المعرفة وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وذلك غضب الله تعالى وعلى القول بأنهما رجلان فلا يعلمانه حتى يقولا له: إنا مفتونان فلا تكن مثلنا {فيتعلمون منهما} الضمير لما دل عليه من أحد أي: فيتعلم الناس من الملكين {ما} أي: سحراً {يفرّقون به بين المرء وزوجه} بأن يبغض كلاً منهما في الآخر بسبب حيلة أو تمويه كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله تعالى عنده الفراق ابتلاءً منه لا أنّ السحر له أثر في نفسه بدليل قوله تعالى: {وما هم} أي: السحرة {بضارّين به} أي: السحر {من أحد} أي: أحداً ومن صلة {إلا بأذن الله} أي: إرادته؛ لأنّ الأسباب غير مؤثرة بالذات بل بإرادته تعالى: {ويتعلّمون ما يضرّهم} في الآخرة {ولا ينفعهم} وهو السحر؛ لأنهم يقصدون به العمل أو لأنّ العلم يجرّ إلى العمل غالباً {ولقد} اللام لام القسم {علموا} أي: اليهود {لمن} اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل ومن موصولة {اشتراه} أي: استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى {ما له في الآخرة من خلاق} أي: نصيب في الجنة {ولبئس ما} أي: شيئاً {شروا} أي: باعوا {به أنفسهم} أي: الشارين أي: حظها من الآخرة أن يتعلموه حيث أوجب لهم النار {لو كانوا يعلمون} حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه. وقيل: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم فإنّ من لم يعمل بما علم كان كمن لم يعلم. {س2ش103/ش105 وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُوا? وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ? لَّوْ كَانُوا? يَعْلَمُونَ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? تَقُولُوا? رَاعِنَا وَقُولُوا? انظُرْنَا وَاسْمَعُوا?? وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا? مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ? وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ? مَن يَشَآءُ? وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} {ولو أنهم} أي: اليهود {آمنوا} بالنبيّ والقرآن {واتقوا} عقاب الله بترك معاصيه كنبذ كتاب الله تعالى واتباع السحر وجواب لو محذوف أي: لأثيبوا دلّ عليه {لمثوبة} أي: ثواب وهو مبتدأ واللام فيه للقسم وقوله تعالى: {من عند الله خير} خبره أي: خير مما اشتروا به أنفسهم {لو كانوا يعلمون} أنّ ثواب الله تعالى خير لما آثروه عليه فجهلهم الله تعالى لترك التدبر والعمل بالعلم. {يأيها الذين آمنوا لا تقولوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم {راعنا} أمر من المراعاة و «كانوا يقولون ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين وكانت كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهو راعنا قالوا فيما بينهم: كنا نسب محمداً سراً فأعلنوا به الآن فكانوا يأتون ويقولون: يا محمد راعنا وهم يعنون به تلك المسبة ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربنّ عنقه فقالوا: أولستم تقولونها فأنزل الله تعالى النهي عن ذلك لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلاً إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمروا بما هو في معناها وهو قوله تعالى: {وقولوا انظرنا} » أي: انظر إلينا وقيل: اسمع منا قاله مجاهد وقيل: لا تعجل علينا قاله ابن زيد {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول لا كسماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قولكم: راعنا {وللكافرين} أي: الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه {عذاب أليم} أي: مؤلم وهو النار. ونزل في تكذيب جمع من اليهود يظهرون مودّة المؤمنين ويزعمون أنهم يودّون لهم الخير. {ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب} وقوله تعالى: {ولا المشركين} أي: من العرب عطف على أهل الكتاب ومن للبيان؛ لأنّ الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون كقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} (البينة، 1) والمودّة محبة الشيء مع تمنيه ولذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 تستعمل في كل منهما {أن ينزل عليكم من خير من ربكم} فسر الخير بالوحي والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم من شيء منه وفسر بالعلم والنصرة والمراد به ما يعمّ ذلك كما قاله البيضاويّ: ومن الأولى مزيدة للاستغراق ومن الثانية لابتداء الغاية {وا يختص برحمته} أي: بنبوّته كما قاله عليّ رضي الله تعالى عنه ومجاهد، أو بالإسلام كما قاله ابن عباس ومقاتل {من يشاء} ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ولا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق {وا ذو الفضل} وهو ابتداء إحسانه بلا علة وقوله تعالى: {العظيم} فيه إشعار بأن إتيان النبوّة والاسلام من الفضل العظيم ويدل للأوّل قوله تعالى: {إنّ فضله كان عليك كبيراً} (الإسراء، 87) . ولما طعن الكفار في النسخ وقالوا: إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً كما أخبر الله تعالى بقوله: {وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} (النحل، 101) . {ما ننسخ من آية} فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية والنسخ في اللغة شيئان، أحدهما: بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحوّل من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ؛ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ، والثاني: بمعنى الرفع يقال: نسخت الشمس الظل أي: ذهبت به وأبطلته فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية وهذا على وجوه: أحدها: أن تثبت التلاوة وينسخ الحكم كآية الوصية للأقارب وآية عدّة الوفاة بالحول، والثاني: أن ترفع التلاوة ويبقى الحكم كآية الرحم والثالث: أن يرفع الحكم والتلاوة كما روي: أنّ قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال صلى الله عليه وسلم «تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها» وقيل: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه كما أنّ القِبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث، وعدّة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ومصابرة الواحد للعشرة بمصابرته للاثنين. قال البغويّ: والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الإخبار اه. والنسخ اصطلاحاً رفع تعلق حكم شرعيّ بدليل شرعيّ ويفارق التخصيص بأنّ التخصيص لا يرد إلا على متعدّد وبأنه غير مشروط بالنص بخلاف النسخ فيهما وبأنه يفيد عدم إرادة المخرج في الأصل والنسخ يفيد إرادة المنسوخ في الأصل لكن غير مستمرّ. وقرأ ابن عامر: ننسخ بضمّ النون الأولى وكسر السين من أنسخ أي: نأمرك أو جبريل بنسخها والباقون بفتح النون والسين وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية {أو فنسأها} أي: نؤخرها فلا نزل حكمها ولا نرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح النون الأولى وفتح السين وهمزة ساكنة بعد السين ولم يبدل هذه الهمزة أحد من السبعة وقرأ الباقون بضم النون وكسر السين ولا همزة بعد السين أي: ننسها أي: نمحها من قلبك، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه نتركها لا ننسخها قال الله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة، 67) أي: تركوه فتركهم وجواب الشرط {نأت بخير منها} أي: بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 كلام الله كله خيراً {أو مثلها} في التكليف والثواب والمنفعة وتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار {ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير} فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال؛ إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة وذلك؛ لأنّ الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلاً من الله ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كأسباب المعاش، فإن النافع في عصر قد يضرّ في غيره. واحتج بها من منع النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل، ومن منع نسخ الكتاب بالسنة فإنّ الناسخ هو المأتي به بدلاً والسنة ليست كذلك، قال البيضاويّ: والكل ضعيف إذ قد يكون عدم الحكم والأثقل أصلح والنسخ قد يعرف بغيره والسنة ما أتى به الله واستدل بهذه الآية المعتزلة على حدوث القرآن فإنّ التغير والتفاوت من لوازم الحدوث وأجاب أهل السنة بأنهما من عوارض الأمور المتعلق بها المعنى القائم بالذات القديم لا من عوارض هذا المعنى. وقوله تعالى: {ألم تعلم} هنا وفيما مرّ خطاب لمنكري النسخ فالهمزة للإنكار وقيل: خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته فالهمزة للتقرير {أنّ الله له ملك السموات والأرض} يفعل فيهما ما يشاء ويحكم ما يريد فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ وهذا كالدليل على قوله: {إنّ الله على كلّ شيء قدير} أو على جواز النسخ، ولذلك ترك العاطف {وما لكم من دون الله} أي: غيره {من وليّ} أي: وليّ يحفظكم ومن صلة {ولا نصير} يمنع عنكم عذابه. وفرق بين الوليّ والنصير بأنّ الوليّ قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور فبينهما عموم وخصوص من وجه. ونزل لما سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يوسعها لهم وأن يجعل الصفا ذهباً. {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى} أي: سأله قومه {من قبل} أي: من قولهم له {أرنا الله جهرة} (النساء، 153) وقيل قالوا له لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا وفجر لنا أنهاراً حتى نتبعك، وقال عبد الله بن أمية: لن نؤمن لك حتى تأتي بكتاب فيه من الله ربّ العالمين إلى ابن أمية، أعلم أني أرسلت محمداً إلى الناس. وأم إمّا معادلة للهمزة في ألم تعلم أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه الصلاة والسلام، وإمّا منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة وترك الاقتراح عليه {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان} أي: يأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها {فقد ضلّ سواء السبيل} أي: أخطأ الطريق الحق والسواء في الأصل الوسط. وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار قد عند الضاد حيث جاء، وأدغمها الباقون ونزل في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلاً منكم فقال لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد قال: فإني قد عاهدت الله أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت، فقالت اليهود: أمّا هذا فقد صبا، وقال حذيفة: وأمّا أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالاسلام ديناً وبالقرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال: أصبتما الخير وأفلحتما» . {ودّ} أي: تمنى {كثير من أهل الكتاب} من اليهود {لو يردونكم} أي: يردّوكم يا معشر المؤمنين فلو مصدرية بمعنى إن، فإنّ لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ {من بعد إيمانكم كفاراً} مرتدّين وقوله: {حسداً} مفعول له كائناً {من عند} أي: من تلقاء {أنفسهم} أي: لم يأمرهم الله بذلك وإنما حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة {من بعدما تبين لهم} في التوراة {الحق} في شأن النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم {فاعفوا} عنهم أي: اتركوهم {واصفحوا} أي: أعرضوا عنهم فلا تجازوهم وكان هذا قبل آية القتال، ولهذا قال تعالى: {حتى يأتي الله بأمره} فيهم من القتال وقد أذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم. وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون با ولا باليوم الآخر} الآية (التوبة، 29) ، وأبى النسخ جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأنّ الله تعالى لم يأمر بالعفو والصفح مطلقاً وإنما أمر به إلى غاية وما بعد الغاية يخالف ما قبلها وما هذا سبيله لا يكون من باب النسخ بل يكون الأوّل قد انقضت مدّته والآخر يحتاج إلى حكم آخر {إنّ الله على كل شيء قدير} فهو يقدر على الانتقام من الكفار: وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} عطف على قوله: فاعفوا كأنه تعالى أمرهم بالصبر والمخالفة واللجوء إليه بالعبادة والبرّ {وما تقدّموا لأنفسكم من خير} أي: طاعة كصلاة وصدقة {تجدوه} أي: ثوابه {عند الله} فيجازيكم به {إنّ الله بما تعملون بصير} لا يضيع عنده عمل عامل. {وقالوا} أي: كثير من أهل الكتاب من اليهود والنصارى {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} جمع هائد كعائد وعود {أو نصارى} قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى ولا دين إلا دين النصرانية، فجمع الله بين القولين ثقة بأنّ السامع يرد إلى كلّ فريق قوله وأمنا من الالباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كلّ واحد منهما لصاحبه ونحوه {تلك} أي: القولة {أمانيهم} أي: شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله تعالى بغير حق {قل} لهم يا محمد {هاتوا برهانكم} أي: حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة {إن كنتم صادقين} في دعواكم إذ كل قول لا دليل عليه فهو غير صحيح وهذا متصل بقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وتلك أمانيهم اعتراض وقوله تعالى: {بلى} إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة {من أسلم وجهه} أي: انقاد لأمره وخص الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة فغيره أولى {وهو محسن} في عمله وقيل: مخلص وقيل: مؤمن {فله أجره} أي: ثواب عمله ثابتاً {عند ربه} لا يضيع ولا ينقص والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الردّ بقوله: بلى وحده ويحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله: من أسلم فاعل فعل مقدّر مثل بلى يدخلها من أسلم فلا يحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله فله أجره عند ربه كلاماً معطوفاً على يدخلها من أسلم {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في الآخرة. ولما قدم نصارى نجران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 على النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت لهم اليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل وقالت النصارى لليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بموسى والتوراة أنزل الله تعالى. {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} أي: يعتدّ به وكفروا بعيسى والإنجيل {وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} أي: يعتدّ به وكفروا بموسى والتوراة {وهم} أي: الفريقان {يتلون الكتاب} أي: المنزّل عليهم، وفي كتاب اليهود تصديق عيسى، وفي كتاب النصارى تصديق موسى، والجملة حال وأل في الكتاب للجنس أي: قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب {كذلك} أي: كما قال هؤلاء {قال الذين لا يعلمون} كعبدة الأصنام، والمعطلة وهم الذين لا يثبتون الصانع وقوله تعالى: {مثل قولهم} بيان لمعنى ذلك أي: قال كلّ ذي دين ليسوا على شيء وبخهم الله تعالى على المكابرة والتشبه بالجهال. فإن قيل: لم وبخهم وقد صدقوا فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء أجيب: بأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد به كلّ فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه كما مرّ، مع أن ما لم ينسخ حق واجب القبول والعمل به. تنبيه: إذا وقف حمزة وهشام على شيء فلهما أربعة وجوه: السكون، والروم، والادغام، والروم معه وسكن حمزة قبل الهمزة بخلاف عن خلاد في الوصل وأدغم أبو عمرو الكاف في القاف بخلاف عنه {فا يحكم بينهم} أي: بين الفرق الثلاثة وهم: اليهود والنصارى والذين لا يعلمون {يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} من أمر الدين فيقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه، وعن الحسن حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار. وقرأ أبو عمرو يحكم بسكون الميم عند الباء والاخفاء بخلاف عنه. {ومن أظلم} أي: لا أحد أظلم {ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} بالصلاة والتسبيح {وسعى في خرابها} بالهدم أو التعطيل هذا عام لكل من خرب مسجداً أو سعى في تعطيله وإن نزل في أهل الروم الذين خربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير فكان خراباً إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أو في المشركين لما صدّوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن البيت. فإن قيل: قد قال مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام أجيب: بأنه لا يمنع أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً ومن أظلم ممن آذى الصالحين وكما قال الله تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} (الهمزة، 1) والمنزول فيه الأخنس بن شريق {أولئك} أي: المانعون {ما كان لهم أن يدخلوها} أي: مساجد الله {إلا خائفين} أي: على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها أو يخربوها أو يمنع النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انهمك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة. وروي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة وقيل: «نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا يحجنّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان» وقيل: إن هذا خبر بمعنى الأمر أي أخيفوهم بالجهاد فلا يدخلها أحد آمناً. واختلف في جواز دخول الكافر المسجد، فجوّزه أبو حنيفة ومنعه مالك، وفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الشافعيّ بين المسجد الحرام وغيره فمنع من الأوّل، وجوّز في الثاني بشرط إذن المسلم والحاجة، وغلّظ ورش اللام من أظلم بعد الظاء {لهم في الدنيا خزي} أي: هوان بالقتل والسبي والجزية {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} بكفرهم وظلمهم وهو النار. ونزل لما عيرت اليهود المؤمنين في نسخ القبلة وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هذا وتارة هذا كما قاله عكرمة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت به راحلته كما قاله ابن عمر. {ولله المشرق والمغرب} أي: ناحيتا الأرض أي: له الأرض كلها لا يختص به مكان دون مكان فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام والأقصى فقد جعلت لكم الأرض كلها مسجداً {فأينما تولوا} وجوهكم أيّ جهة وهو الصدر في الصلاة {فثم} أي: هناك {وجه الله} أي: قبلته كما قاله مجاهد، وقال الكلبيّ: فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص، 88) أي: إلا هو {إن الله واسع} أي: غنيّ يعطي من السعة يسع فضله كلّ شيء {عليم} بتدبير خلقه. ونزل لما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله. {وقالوا اتخذ الله ولداً} فقال الله تعالى ردّاً عليهم: {سبحانه} تنزيهاً له عن ذلك فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء وقرأ ابن عامر قالوا: بغير واو قبل القاف والباقون بالواو وقبل القاف {بل له ما في السموات والأرض} ملكاً وخلقاً ومن جملة ذلك العزير والمسيح والملائكة والملكية تنافي الولدية وعبر بما تغليباً لما لا يعقل لكثرته {كلّ له قانتون} أي: منقادون كلّ بما يراد منه لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه وفي ذلك تغليب للعاقل لشرفه والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه الأول: قوله: سبحانه والثاني: قوله: بل له ما في السموات والأرض والثالث: كل له قانتون واحتج بها الفقهاء على أنّ من ملك ولده عتق عليه؛ لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك وذلك يقتضي تنافيهما. {بديع السموات والأرض} أي: موجدهما لا على مثال سبق وهذا وجه رابع يشعر بفساد ما قالوه أيضاً؛ لأنّ الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادّته عنه والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها فاعل على الإطلاق منزه عن الصفات فلا يكون والداً {وإذا قضى أمراً} أي: أراد إيجاد شيء وأصل القضاء إتمام الشيء قولاً كان كقوله تعالى: {وقضى ربك} (الإسراء، 23) أو فعلاً كقوله تعالى: {فقضاهنّ سبع سموات} (فصلت، 12) وأطلق على تعليق الارادة الإلهية وجود الشيء من حيث أنه يوجبه {فإنما يقول له كن فيكون} وهذا مجاز من الكلام وتمثيل وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء، وفيه تقرير لمعنى الإبداع دائماً وهذا وجه خامس يشعر بفساد ما قالوه أيضاً؛ لأن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة وفعله تعالى مستغن عن ذلك، وقرأ ابن عامر بنصب النون: من يكون جواباً للأمر والباقون بالرفع على معنى فهو يكون. فإن قيل: المعدوم لا يخاطب أجيب: بأنه لما قدّر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فُصحّ خطابه. {وقال الذين لا يعلمون} للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهم اليهود كما قاله ابن عباس أو النصارى كما قاله مجاهد أو مشركو العرب كما قاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قتادة ونفى عنهم العلم؛ لأنهم لم يعملوا به {لولا} أي: هلا {يكلمنا الله} كما يكلم الملائكة أو يوحى إلينا بأنك رسوله {أو تأتينا آية} أي: علامة مما اقترحناه على صدقك {كذلك} أي: كما قال هؤلاء: {قال الذين من قبلهم} من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم {مثل قولهم} من التعنت وطلب الآيات فقالوا: أرنا الله جهرة وهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء {تشابهت قلوبهم} أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم في الكفر والعناد، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} الحقائق ولا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم قالوا ذلك لا لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد يقين وإنما قالوه عتوّاً وعناداً. {إنا أرسلناك} يا محمد {بالحق} أي: القرآن كما قاله ابن عباس كما قال تعالى: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} (ق، 5) أو الاسلام وشرائعه كما قاله ابن كيسان قال تعالى: {وقل جاء الحق} (الإسراء، 81) {بشيراً} أي: مبشراً من أجاب إلى ذلك بالجنة {ونذيراً} أي: منذراً من لم يجب إليه بالنار أي: إنما أرسلناك؛ لأن تبشر وتنذر لا لتجبر الناس على الإيمان وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} أي: النار وهم الكفار ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بيّنت وبلغت جهدك في دعوتهم كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد، 40) وقرأ نافع: تسأل بفتح التاء وسكون اللام على النهي. قال عطاء عن ابن عباس: وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت هذه الآية فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله تعالى لكن الخبر ضعيف والمختار أنها نزلت في كفار أهل الكتاب، وقرأ الباقون بضم التاء واللام على النفي أي: ولست بمسؤول عنهم كما قال تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد، 40) . {س2ش120/ش124 وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ? قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى? وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ? مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَنَصِيرٍ * الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ? حَقَّ تِ وَتِهِ? أُو?لَا?ئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ?? وَمن يَكْفُرْ بِهِ? فَأُو?لَا??ـ?ِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَابَنِى? إِسْرَا?ءِيلَ اذْكُرُوا? نِعْمَتِىَ الَّتِى? أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا? يَوْمًا s تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَيُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَتَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَهُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذِ ابْتَلَى? إِبْرَاهِ?مَ رَبُّهُ? بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ? قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا? قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى? قَالَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} أي: دينهم أي: لن ترضى عنك اليهود إلا باليهودية ولا النصارى إلا بالنصرانية. وفي هذا مبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم عن اسلامهم وذلك أنهم كانوا يسألونه الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية. فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم فكيف يتبعون ملته؟ قال البيضاوي: ولعلهم قالوا مثل ذلك فحكى الله تعالى ذلك عنهم ولذلك قال: {قل} تعليماً للجواب {إنّ هدى الله} الذي هو الإسلام {هو الهدى} أي: هو الذي يصح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدي إنما هو أهواء ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولئن} اللام لام القسم {اتبعت أهواءهم} أي: آراءهم الزائغة التي يدعونك إليها الخطاب معه صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمّته كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر، 65) {بعد الذي جاءك من العلم} أي: من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة {ما لك من الله من وليّ} يحفظك {ولا نصير} يمنعك منه. ونزل في جماعة من أهل الكتاب قدموا من الحبشة وأسلموا. {الذين آتيناهم الكتاب} وهو مبتدأ {يتلونه حق تلاوته} أي: يعرفونه كما أنزل لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والجملة حال مقدّرة وحق نصب على المصدر والخبر {أولئك يؤمنون به} أي: بكتابهم دون المحرفين {ومن يكفر به} أي: بالكتاب المؤتى بأن يحرفه {فأولئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 هم الخاسرون} لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. ولما صدر قصة بني إسرائيل بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر عن إضاعتها والخوف من الساعة وأحوالها في قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي} (البقرة، 40) إلخ.. كرر ذلك بقوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} أي: عالمي زمانهم. {واتقوا} أي: خافوا {يوماً لا تجزى} أي: لا تغني {نفس عن نفس} فيه {شيئاً ولا يقبل منها عدل} أي: فداء {ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} أي: يمنعون من عذاب الله وختم بالمكرّر الكلام معهم مبالغة في النصح. تنبيه: اتفق القراء على قراءة يقبل هنا بالياء على التذكير. {و} اذكر {إذ ابتلى} أي: اختبر {إبراهيم ربّه بكلمات} أي: بأوامر ونواه وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء لأنه عالم بهم ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً. واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال عكرمة عن ابن عباس: هي ثلاثون من شرائع الإسلام: عشر في براءة {التائبون العابدون} (التوبة، 112) إلخ.. وعشر في الأحزاب، {إن المسلمين والمسلمات} (الأحزاب، 35) إلخ.. وعشر في المؤمنين إلى قوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} (المؤمنون، 9) وفي سأل سائل إلى قوله تعالى: {والذين هم بشهاداتهم قائمون} (المعارج، 33) . وقال طاووس عن ابن عباس: ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء هي: الفطرة خمس في الرأس أي الشامل للوجه قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء، وفي الخبر: «أن إبراهيم أوّل من قص الشارب وأوّل من اختتن وأوّل من قلم الأظافر وأوّل من رأى الشيب، فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال: الوقار قال: «يا رب زدني وقاراً» وقال قتادة: هي مناسك الحج أي فرائضه وسننه كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ، وقال الحسن: ابتلاءه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن فيها النظر وعلم أنّ ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها. وبالختان وبذبح ولده وبالهجرة فصبر عليها وقال مجاهد: هي الآيات التي بعدها في قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} إلى آخر القصة. وقرأ ابن عامر إبراهام بفتح الهاء وألف بعدها جميع ما في هذه السورة وهي خمسة عشر حرفاً، وفي النساء ثلاثة أحرف وهي الأخيرة، وفي الأنعام الحرف الأخير، وفي التوبة الحرفان الأخيران، وفي إبراهيم حرف، وفي النحل حرفان، وفي مريم ثلاثة أحرف، وفي العنكبوت حرف، وفي الشورى حرف، وفي الذاريات حرف، وفي النجم حرف وفي الحديد، حرف، وفي الممتحنة الحرف الأوّل، فذلك ثلاثة وثلاثون حرفاً، وقرأ ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين. وإبراهيم اسم أعجمي ولذلك كان غير منصرف وهو ابن آزر كما في سورة الأنعام وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل: بابل وقيل: حران ولكن نقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان، والضمير في ربه لإبراهيم وحسن لتقدمه لفظاً وإن تأخر رتبة، لأنّ الشرط تقدمه لفظاً أو رتبة {فأتمهنّ} أي: أداهنّ تامات وقام بها حق القيام لقوله: {وإبراهيم الذي وفى} (النجم، 37) {قال إني جاعلك للناس إماماً} يقتدى بك في الخير وجاعل من جعل الذي له مفعولان، والإمام اسم من يؤتم به وإمامة إبراهيم عامة مؤبدة؛ إذ لم يبعث من بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 باتباعه {قال} إبراهيم صلى الله عليه وسلم {ومن ذريتي} أي: أولادي أجعل أئمة يقتدى بهم في الخير {قال} الله تعالى: {لا ينال} أي: لا يصيب {عهدي} بالإمامة {الظالمين} منهم ففي ذلك إجابة إلى مطلوبه. وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وإنهم لا ينالون الإمامة؛ لأنها إمامة من الله تعالى وعهد، والظالم لا يصلح لها وإنما ينالها البررة والأتقياء منهم وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوّة وأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدّم للصلاة، وقرأ حفص وحمزة عهدي بسكون الياء وفتحها الباقون، ومن سكن الياء أسقطها في الوصل لفظاً لالتقاء الساكنين. {و} اذكر {إذ جعلنا البيت} أي: الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا وأدغم أبو عمرو وهشام ذال إذ في الجيم وأظهرها الباقون {مثابة} أي: مرجعاً {للناس} من الحجاج والعمار وغيرهم يثوبون إليه من كل جانب {وأمناً} أي: مأمناً لهم من الظلم وإيذاء المشركين والإغارة الواقعة في غيره قال تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت، 67) كان الجاني يأوي إليه فلا يتعرّض له حتى يخرج وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط، فلا ينافي ذلك الوقوع، قال القاضي أبو يعلى وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم كما قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} (المائدة، 95) والمراد الحرم كله؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وهذا أمر استحباب ومقامه الحجر وهو بفتح الحاء والجيم الذي فيه أثر قدميه كان يقوم عليه عند بناء البيت أو عند دعاء الناس إلى الحج وهو موضعه اليوم. روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر فقال: «هذا مقام إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت» وعن ابن عباس أنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: وافقت الله تعالى في ثلاث، ووافقني ربي في ثلاث فقلت: يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر لو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وقال: وبلغني معاتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهنّ وقلت لهنّ: إن انتهيتن أو ليبدلنّ الله تعالى لرسوله خيراً منكنّ فأنزل الله تعالى {عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ} (التحريم، 5) . وفي الخبر الركن والمقام يا قوتتان من يواقيت الجنة ولولا ما مسهما من أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب» وقيل: المراد باتخذوا إلخ.. الأمر بركعتي الطواف لما روى جابر «أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» ، وللشافعيّ في وجوبهما قولان أرجحهما عدم الوجوب وقيل: مقام إبراهيم الحرم كله وقيل: مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرّب إلى الله تعالى. تنبيه: من في {من مقام إبراهيم} للتبعيض. وقيل: بمعنى في وقيل زائدة وقرأ نافع وابن عامر واتخذوا بفتح الخاء بلفظ الماضي عطفاً على جعلنا أي: واتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى والباقون بكسرها بلفظ الأمر {وعهدنا} أي: أمرنا {إلى إبراهيم وإسمعيل} قيل: سمي به؛ لأنّ إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول: اسمع يا إيل، وإيل هو الله فلما رزق الولد سماه به {أن} أي: بأن {طهرا بيتي} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به أو أخلصاه {للطائفين} حوله {والعاكفين} المقيمين عنده أو المعتكفين فيه {والركع السجود} جمع راكع وساجد وهم المصلون وقرأ نافع وهشام وحفص بيتي بفتح الياء والباقون بالسكون. {و} اذكر {إذ قال إبراهيم رب اجعل} هذا أي مكة أو الحرام {بلداً آمناً} أي: ذا آمن كقوله تعالى: {في عيشة راضية} (القارعة، 7) أو آمناً أهله كقول القائل ليل نائم {وارزق أهله من الثمرات} إنما دعا بذلك؛ لأنه كان بواد غير ذي زرع. وفي القصص أنّ الطائف كانت من مدائن الشام بأردن فلما دعا إبراهيم هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه الصلاة والسلام حتى قطعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الآن فمنها أكثر ثمرات مكة. وقوله تعالى: {من آمن منهم با واليوم الآخر} بدل من أهله قاس إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه الرزق على الإمامة حيث قيده بالمؤمن كما قيدت به {قال} تعالى: {و} أرزق {من كفر} لأنّ الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الإمامة والتقدم في الدين {فأمتعه} في الدنيا بالرزق. وقرأ ابن عامر بسكون الميم وتخفيف التاء والباقون بفتح الميم وتشديد التاء، وأمّا الهمزة بعد الألف فالجميع اتفقوا على ضمها {قليلاً} أي: مدّة حياته والكفر وإن لم يكن يسبب التمتع لكنه يسبب تقليله بأن يجعله مقصوراً بحظوظ الدنيا غير متوصل به إلى نيل الثواب ولذلك عطف عليه {ثم أضطرّه} أي: ألجئه في الآخرة {إلى عذاب النار} فلا يجد عنها محيصاً {وبئس المصير} أي: المرجع والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العذاب قال مجاهد: وجد عند المقام أنا الله ذو بكة أي: صاحبها صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض وحففتها بسبعة أملاك حنفاء يأتيها رزقها مباركة لأهلها في اللحم والماء. {و} اذكر {إذ يرفع إبراهيم القواعد} أي: الأسس والجدر {من البيت} حكاية حال ماضية كأنه قال إذ كان يرفع. فإن قلت: وأي فرق بين العبارتين؟ أجيب: بأنّ في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين، وقوله تعالى: {وإسمعيل} عطف على إبراهيم يقولان يا {ربنا تقبل منا} بناءنا {إنك أنت السميع} للقول فتسمع دعاءنا {العليم} بالفعل فتعلم بنياتنا. روت الرواة أنّ الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال: يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلى حول عرشي وأنزل الحجر الأسود وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض الله تعالى له ملكاً يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك. قال ابن عباس: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه وبعث جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ثم إنّ الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسمعيل وإسحق ببناء بيت يذكر فيه اسمه تعالى فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه، قال ابن عباس فبعث الله له سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت به مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص وقيل: أرسل الله تعالى جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} (الحج، 26) . فبنى إبراهيم وإسمعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسمعيل يناوله الحجارة ولما كان له مدخل في البناء عطف عليه وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب. قال ابن عباس: بني البيت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وهو جبل بالشأم، والجوديّ وهو جبل بالجزيرة، وبنيا قواعده من جبل حراء وهو جبل بمكة، فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسمعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال: ائتني بأحسن من هذا فمضى إسمعيل يطلبه فصاح أبو قبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه. وقيل: أوّل من بنى الكعبة آدم ثم اندرس من الطوفان ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه وقيل: بنته الملائكة قبل آدم وقد بني إلى يومنا هذا سبع مرّات: المرّة الأولى هل كان الباني الملائكة أو آدم؟ ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قريش وقد حضر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا البناء وكان ينقل معهم الحجارة ثم ابن الزبير في خلافته ثم الحجاج الثقفي وهو الموجود اليوم. {ربنا واجعلنا مسلمين} أي: منقادين مخلصين خاضعين {لك} والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان {و} اجعل {من ذريتنا} أي: أولادنا {أمّة} أي: جماعة {مسلمة} خاضعة منقادة {لك} ومن للتبعيض أي: واجعل بعض ذرّيتنا وإنما خصا الذرّية بالدعاء؛ لأنهم أحق بالشفقة؛ ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع. ألا ترى أنّ المتقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم وخصا بعضهم لتقدّم قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة، 124) فعلما أنّ في ذرّيتهما ظلمة وأنّ الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاق الناس كلهم على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقى الذين صرفوا أنفسهم إلى الدنيا، لخربت الدنيا ويصح أن تكون من للتبيين كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم} (النور، 55) قدم على المبين وفصل به بين العاطف وهو واو ومن والمعطوف وهو أمة كما في قوله تعالى: {خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ} (الطلاق، 12) وقيل: أراد بالأمّة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم {وأرنا} علّمنا {مناسكنا} شرائع ديننا وإعلام حجنا، والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن المعتاد كالصيد والتمتع باللباس وغيره، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما وبعث لهما جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم قال: نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات، وقرأ ابن كثير والسوسي أرنا بسكون الراء وقرأ الدوري عن أبي عمرو باختلاس حركة والراء والباقون بالحركة الكاملة {وتب علينا} سأله التوبة مع عصمتهما هضماً لأنفسهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وإرشاداً لذرّيتهما أو لما سلف منهما سهواً قبل النبوّة {إنك أنت التوّاب} لمن تاب {الرحيم} به. {ربنا وابعث فيهم} أي: الأمة المسلمة من ذرّية إبراهيم وإسمعيل {رسولاً منهم} أي: من أنفسهم. روي أنه قيل له: قد استجيب لك وهو في آخر الزمان، فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم إذ لم يبعث من ذرّيتهما غير محمد صلى الله عليه وسلم إذ لم يأت نبيّ من ولد إسمعيل إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم والكل من ولد إسحق، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام: «إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأوّل أمري أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أميّ التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت له قصور الشام» وأراد بدعوة إبراهيم هذا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين {يتلو} أي: يقرأ {عليهم آياتك} القرآن ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد والنبوّة {ويعلمهم الكتاب} أي: القرآن {والحكمة} أي: ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام، وقال ابن قتيبة: هي العلم والعمل ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما. وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، وقيل: هي فهم القرآن، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: السنة {ويزكيهم} أي: يطهرهم من الشرك وقيل: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذ اشهدوا هم للأنبياء بالتبليغ والتعديل {إنك أنت العزيز} الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد، وقيل: هو الذي لا يوجد مثله وقيل: هو المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء {الحكيم} في صنعه. {ومن} أي: لا {يرغب} أحد {عن ملة إبراهيم} فيتركها لظهورها ووضوحها {إلا من سفه نفسه} أي: جهل أنها مخلوقة لله تعالى يجب عليه عبادته، وذلك أنّ عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أنّ الله عز وجل قال في التوراة: إني باعث من ولد إسمعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله البيضاوي وغيره. قال السيوطي: لم أقف على ذلك في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المسندة والمثبت مقدّم على غيره وقد جاء: من عرف نفسه فقد عرف ربه. وفي الأخبار أنّ الله أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: اعرف نفسك واعرفني فقال: يا رب كيف أعرف نفسي وأعرفك؟ فأوحى الله تعالى إليه: اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوّة والبقاء، وهذا معنى من عرف نفسه فقد عرف ربه {ولقد اصطفيناه} أي: اخترناه {في الدنيا} بالرسالة والخلة {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} الذين لهم الدرجات العلا وفي هذا حجة وبيان لخطأ من رغب عن ملته؛ لأنّ من جمع الكرامة عند الله في الدارين وكان مشهوداً له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة كان حقيقاً بالاتباع لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر. تنبيه: قال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. وقوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} إمّا ظرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لاصطفيناه أي: اخترناه في ذلك الوقت، وإمّا منصوب بإضمار أذكر كأنه قال: اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدّم وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين دعاه ربه فكأنه قال له كما قال عطاء: أسلم نفسك إلى الله عز وجل وفوّض أمرك إليه قال: أسلمت أي: فوّضت، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار. {ووصى بها} أي: بالملة المتقدّم ذكرها أو بأسلمت على تأويل الكلمة أو الجملة وقيل: بكلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله، وقرأ نافع وابن عامر وأوصى بسكون الواو الثانية وهمزة مفتوحة بين الواوين، والباقون بواوين مفتوحتين ولا همزة بينهما وهذا أبلغ قال الزجاج: لأنّ أوصى يصدق بالمرة الواحدة، ووصى لا يكون إلا لمرّات كثيرة، وأمال ورش بينَ بينْ، وحمزة والكسائي محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {إبراهيم بنيه} قال مقاتل: وهم أربعة: إسمعيل وإسحق ومدين ومدان، وقد ذكر غير مقاتل أنهم ثمانية وقيل: أربعة عشر {و} وصى بها أيضاً {يعقوب} بنيه وهم اثنا عشر: روبيل وشمعون ولاوا ويهوذا ويشنيوخور وزبويلون وودّان ويفتوني وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف وسمي بذلك؛ لأنه والعيص كانا توءمين فتقدّم عيص في الخروج من بطن أمّه وخرج يعقوب عقبه، وقوله تعالى: {يا بنيّ} على إضمار القول عند البصريين متعلق بوصّى عند الكوفيين {إنّ الله اصطفى لكم الدين} أي: دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى: {فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادقة الموت، وعن الفضيل بن عياض أنه قال: إلا وأنتم مسلمون أي: محسنون بربكم الظن لما روى جابر رضي الله عنه أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتنّ أحد إلا وهو يحسن الظن بربه» . ولما قالت اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية نزل. {أم كنتم شهداء} جمع شهيد بمعنى الحاضر أي: ما كنتم حاضرين وقول الأسيوطي: لم أقف على ذلك فيه ما مرّ {إذ حضر يعقوب الموت} أي: حين احتضر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى: {إذ} بدل من إذ قبله {قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} أي: بعد موتي أي: أيّ شيء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات فليس الاستفهام على حقيقته قال عطاء: إنّ الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الموت والحياة فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك} وقوله تعالى: {إبراهيم وإسمعيل وإسحق} عطف بيان لآبائك وجعل إسمعيل وهو عمه من جملة آبائه تغليباً للأب إسحق والجدّ إبراهيم أو لأن العم أب والخالة أمّ لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوّة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «عم الرجل صنو أبيه» أي: لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنو النخلة وقال في العباس: هذا بقية آبائي وقال: ردوا عليّ أبي فإني أخشى أن تفعل بي قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 مسعود وقوله تعالى: {إلهاً واحداً} بدل من إله آبائك كقوله تعالى: {بالناصية ناصية كاذبة} (العلق، 19) وقوله تعالى: {ونحن له مسلمون} حال من فاعل نعبد أو من مفعوله أو منهما وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيه للإنكار أي: لم يحضروه وقت موته فكيف ينسبون إليه ما لا يليق به أو متصلة بمحذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شهداء. وقيل: الخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقوله تعالى: {تلك} مبتدأ والإشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، وأنت لتأنيث خبره وهو {أمّة قد خلت} أي: سلفت وقوله تعالى: {لها ما كسبت} أي: من العمل جزاؤه استئناف {ولكم} الخطاب لليهود {ما كسبتم} والمعنى أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدّماً كان أو متأخراً فكما أنّ أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما كسبتم وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» {ولا تسئلون عما كانوا يعملون} كما لا يسئلون عن عملكم والجملة تأكيد لما قبلها. {وقالوا} أي: أهل الكتاب {كونوا هوداً أو نصارى} أي: قالت اليهود: كونوا هوداً وقالت النصارى: كونوا نصارى فأو للتفصيل. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت في رؤوس يهود المدينة وفي نصارى نجران وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن. وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقال كل من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلا ذاك، وقوله تعالى: {تهتدوا} جواب الأمر وهو كونوا. قال الله تعالى: {قل} لهم يا محمد {بل} نتبع {ملة إبراهيم} وقال الكسائي: وهو نصب على الإغراء كأنه يقول: اتبعوا ملة إبراهيم، وقيل معناه بل تكون على ملة إبراهيم فحذف على فصار منصوباً وقوله تعالى: {حنيفاً} حال من المضاف إليه كقولك: رأيت وجه هند قائمة لكن هذا جزء حقيقة وملة كالجزء والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق وقوله تعالى: {وما كان من المشركين} تعريض لأهل الكتاب وغيرهم؛ لأنّ كلاً منهم يدّعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك. {قولوا آمنا با} خطاب للمؤمنين وقول «الكشاف» : ويجوز أن يكون خطاباً للكافرين أي: قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله تعالى: {قل بل ملة إبراهيم} يجوز أن يكون على تأويل اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته يرده قوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} (البقرة، 137) {وما أنزل إلينا} أي: من القرآن وإنما قدّم ذكره؛ لأنه أوّل الكتب بالنسبة إلينا أو لأنه سبب للإيمان بغيره {وما أنزل إلى إبراهيم} من الصحف العشرة {وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط} جمع سبط وهو الحاقد وكان الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد حفدة يعقوب أو أبناؤه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحق.n فإن قيل: الصحف إنما أنزلت على إبراهيم أجيب: بأنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها كانت أيضاً منزلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إليهم كما أنّ القرآن منزل إلينا {وما أوتي موسى} من التوراة {و} ما أوتي {عيسى} من الإنجيل. فإن قيل: لم أفرد التوراة والإنجيل بحكم أبلغ وهو الإيتاء؛ لأنه أبلغ من الإنزال لكونه مقصوداً منه ولم يقل والأسباط وموسى وعيسى أجيب: بأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق والنزاع وقع فيهما فلهذا أفردا بالذكر {وما أوتي} أي: أعطى {النبيون} أي: المذكورون {من ربهم} من الكتب والآيات، وقرأ نافع بالهمزة، والباقون بالياء، ولورش في الهمز المدّ والتوسط والقصر {لا نفرق بين أحد منهم} كاليهود والنصارى فنؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نؤمن بجميعهم. فإن قيل: كيف صح إضافة بين إلى أحد وهو مفرد؟ أجيب: بأنه في معنى الجماعة وعلله السعد التفتازاني بأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث قال: ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب {ونحن له} أي: لله {مسلمون} أي: مذعنون أي: مخلصون. روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» الآية. وقوله تعالى: {فإن آمنوا} أي: اليهود والنصارى {بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} من باب التعجيز والتبكيت كقوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة، 23) لأنّ دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران، 85) وأمّا أن مثل صلة أي: آمنوا بما آمنتم به كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} (الشورى، 11) أي: ليس كهو شيء وكما في قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} (الأحقاف، 10) أي: عليه وقيل: الباء صلة كما في قوله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} (مريم، 25) وقيل: معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا. {وإن تولوا} أي: أعرضوا عن الإيمان به {فإنما هم في شقاق} أي: في خلاف ومنازعه معكم يقال شاق مشاقة إذا خالف كان كل واحد من المتخالفين يحرص على كل ما يشق على صاحبه {فسيكفيكم الله} يا محمد شقاقهم في ذلك تسلية وتسكين للمؤمنين ووعد لهم بالحفظ والنصر على من عاداهم وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى وقوله تعالى: {وهو السميع العليم} إما من تمام الوعد بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة، وإمّا وعيد للمعرضين بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه ولا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معاً. أي: دينه الذي فطر الناس عليه بظهور أثره على صاحبه كالصبغ للثوب أو للمشاكلة، فإنّ النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودية ويقولون هو تطهير لهم مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانياً حقاً، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا بالله وصبغَنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيركم، أو يقول المسلمون: صبغَنا الله بالإيمان صبغة ولا نصبغ صبغتكم وهو مصدر مؤكد لآمنا ونصبه بفعل مقدر أي: صبغنا الله تعالى وقيل: نصب على البدل من ملة إبراهيم وقيل: نصب على الإغراء {ومن} أي: لا أحد {أحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 من الله صبغة} أي: لا صبغة أحسن من صبغته أي: لا دين أحسن من دينه وصبغة تمييز وقوله تعالى: {ونحن له عابدون} عطف على آمنا بالله قال الزمخشري: وهذا العطف يردّ قول من زعم أنّ صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول: ما قالت حذام اه. نعم إن قدر قولوا في {ونحن له عابدون} معطوفاً على الزموا بتقدير الإغراء أو اتبعوا ملة إبراهيم بتقدير البدل لم يلزم ما قاله. ولما قالت اليهود للمسلمين: نحن أهل الكتاب الأول، وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب؛ لأنهم عبدة الأوثان ولو كان محمد نبياً لكان منا؛ لأنا أهل الكتاب. نزل {قل} لهم {أتحاجوننا} أي: تجادلوننا أو تخاصموننا {في الله} أي: في شأنه أن اصطفى النبيّ صلى الله عليه وسلم من العرب دونكم ويقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترون أنكم أحق بالنبوّة منا {وهو ربنا وربكم} نشترك جميعاً في أننا عباده، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشأ من عباده هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة {ولنا أعمالنا} نجازي بها {ولكم أعمالكم} تجازون بها أي: كما أنّ لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك، فالعمل هو أساس الأمر وبه العبرة {ونحن له مخلصون} في الدين والعمل دونكم فنحن أولى بالاصطفاء فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة والهمزة للإنكار، والجمل الثلاث أحوال، وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام بخلاف عنه وله فيه الروم والإشمام. وقوله تعالى: {أم يقولون} قرأه ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالتاء، والباقون بالياء على الغيبة، فعلى القراءة الثانية أم منقطعة والهمزة للإنكار، وعلى القراءة الأولى يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في أتحاجوننا بمعنى أيّ الأمرين تأتون المحاجّة وادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء في قولكم: {إنّ إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل} لهم يا محمد {أأنتم أعلم أم الله} الله أعلم، وقد نفى الله تعالى الأمرين عن إبراهيم بقوله تعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلمًا} (آل عمران، 67) واحتج تعالى على ذلك بقوله تعالى: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} (آل عمران، 65) والمذكورون معه تبع له، فهم أتباعه في الدين وفاقاً. {ومن} أي: لا أحد {أظلم ممن كتم} أي: أخفى عن الناس {شهادة عنده} كائنة {من الله} أي: شهادة الله تعالى لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية وهم أهل الكتاب؛ لأنهم كتموا هذه الشهادة وكتموا شهادة الله تعالى لمحمد بالنبوّة في كتبهم وغيرها، ومن للابتداء كما في قوله تعالى: {براءة من الله ورسوله} (التوبة، 1) أي: شهادة كائنة من الله، فمن الله صفة لشهادة وقوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} تهديد لهم. وقوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطبائع من الإفتخار بالآباء والإتكال عليهم وقيل: الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا تحذيراً عن الاقتداء بهم وقيل: المراد بالأمة في الأوّل الأنبياء، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى. {سيقول السفهاء} أي: الجهال الذين خفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أحلامهم {من الناس} وهم اليهود؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ {ما ولاهم} أي: أيّ شيء صرف النبيّ والمؤمنين {عن قبلتهم التي كانوا عليها} وهي بيت المقدس وقيل: هم المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء، وقيل: المشركون قالوا قد تردّد على محمد أمره واشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب. فإن قيل: ما فائدة الإخبار بذلك قبل وقوعه أجيب: بأن فائدة توطين النفس وإعداد الجواب، فإنّ مفاجأة المكروه أشدّ والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع وقبل الرمي يراش السهم، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان مأخوذة من الاستقبال، وصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة قال الله تعالى {قل} لهم يا محمد {المشرق والمغرب} أي: الجهات كلها ملكاً والخلق عبيده لا يختص به مكان دون مكان بخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه {يهدي من يشاء} هدايته {إلى صراط} أي: طريق {مستقيم} وهو ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة. وقوله تعالى: {وكذلك} الكاف فيه للتشبيه أي: كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناكم {جعلناكم} يا أمة محمد {أمة وسطاً} أي: خياراً عدولاً قال تعالى: {قال أوسطهم} (القلم، 28) أي: خيرهم وأعدلهم، وخير الأشياء أوسطها لا إفراطها ولا تفريطها؛ لأنّ الإفراط المجاوزة لما لا ينبغي والتفريط التقصير عما ينبغي كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وبين الجبن؛ لأنّ الأفراد يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية محفوظة. روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان فقال: أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل» وقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} أي: يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم {ويكون الرسول عليكم شهيداً} أي: يزكيكم ويشهد بعدالتكم علة للجعل أي: لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد ولا ظلم بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات والإعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين قبلكم وبعدكم. روي أن الله تعالى يجمع الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير، فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين علموا أنهم قد بلغوا، وإنما أتوا بعدنا فتسأل هذه الأمة، فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق، على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء، 41) . فإن قيل: هلا قيل لكم شهيداً إذ شهادته لهم لا عليهم أجيب: بأنّ الشهيد لما كان كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى: {وا على كل شيء شهيد} (المجادلة، 6) . فإن قيل: لم أخرت صلة الشهادة أوّلاً وقدّمت آخراً أجيب: بأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم {وما جعلنا} أي: صيرنا لك {القبلة} الآن وقوله تعالى: {التي كنت عليها} ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل أي: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أولاً وهي الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إليها، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفاً لليهود فصلى إليها ستة أو سبعة عشر شهراً ثم حوّل إلى الكعبة {إلا لنعلم من يتبع الرسول} فيصدّقه {ممن ينقلب على عقبيه} أي: يرجع إلى الكفر شكاً في الدين وظناً أنّ النبيّ في حيرة من أمره، وفي الحديث: «أنّ القبلة لما حوّلت ارتدّ قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه» . فإن قيل: كيف: قال الله تعالى لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها أجيب: بأنه أراد به علم ظهور وهو العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد، ومعناه أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ونظيره قوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران، 142) وقيل: ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته تعالى؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده وقيل: معناه لتمييز التابع من الناكص كما قال الله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} (الأنفال، 37) فوضع العلم موضع التمييز التابع؛ لأنّ بالعلم يقع التمييز، فالعلم سبب والتمييز مسبب، فأطلق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز. تنبيه: العلم في الآية إمّا بمعنى المعرفة، فيتعدى إلى مفعول واحد وهو من يتبع، وإمّا معلق لما في من معنى الاستفهام، وإمّا أن يكون مفعوله الثاني ممن ينقلب أي: ليعلم من يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب. فإن قيل: على الأوّل كيف يكون العلم بمعنى المعرفة والله تعالى لا يوصف بها؛ لأنها تقتضي سبق جهل والله منزه عن ذلك أجيب: بأنّ ذلك لشيوعها فيما تقتضي أن يكون مسبوقاً بالعدم وليس العلم الذي بمعنى المعرفة، كذلك إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين، بل قال الوليّ العراقي: قد وقع إطلاق المعرفة على الله تعالى في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة أو كلام أهل اللغة وقوله تعالى: {وإن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: وإنها {كانت} أي: التولية {لكبيرة} شاقة على الناس {إلا على الذين هدى الله} منهم وهم الثابتون على الإيمان {وما كان الله ليضيع أيمانكم} أي: ثباتكم على الإيمان، وإنكم لم تزلزلوا ولم ترتابوا بل شكر سعيكم وأعدّ لكم الثواب العظيم أو صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه؛ لأنّ سبب نزولها «أنّ حييّ بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحوّلتم عنها، وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة، فقال المسلمون: إنّ الهدى ما أمر الله تعالى به، والضلالة ما نهى الله تعالى عنه قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا، وكان قد مات قبل أن تحوّل القبلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله لقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله تعالى هذه {إن الله بالناس لرؤف رحيم} فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاتهم» . فإن قيل: لم قدم الرؤوف على الرحيم مع أنه أبلغ؟ أجيب: بأنه قدم محافظة على الفواصل، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي لرؤوف بقصر الهمزة، والباقون بمدّها ولورش في الهمزة المدّ والتوسط والقصر على أصله. {قد} للتحقيق {نرى تقلب} أي: تردّد {وجهك في السماء} أي: في جهتها متطلعاً إلى الوحي ومتشوّقاً إلى الأمر باستقبال الكعبة، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدّمة في المعنى، فإنها رأس القصة، وأمر القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدونه من نعته في التوراة، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، لأنها كانت قبلة إبراهيم أبيه صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: كان يحب ذلك من أجل أنّ اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا، فقال لجبريل عليه السلام: وددت لو حوّلني الله تعالى إلى الكعبة، فإنها قبلة أبي إبراهيم، فقال جبريل: إنما أنا عبد ملك وأنت كريم على ربك، فسل أنت ربك فإنك عند الله بمكان، فعرج جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل، فنزل قوله تعالى: {فلنولينك} أي: فلنحوّلنك {قبلة} أي: إلى قبلة {ترضاها} أي: تحبها وتهواها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته {فول} أي: اصرف {وجهك شطر} أي: نحو {المسجد الحرام} أي: الكعبة أي: استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيداً عنها. وقول البيضاوي: والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإنّ في استقبال عينها حرجاً عليه وجه ضعيف، والحرام المحرم فيه القتال وممنوع من الظلمة أن يتعرّضوه. وقوله تعالى: {وحيث ما كنتم} من بحر أو برّ، شرق أو غرب خطاب للأمة {فولوا وجوهكم} في الصلاة {شطره} وكان تحويل القبلة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين. وقول البيضاوي: وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسمي المسجد مسجد القبلتين فيه تحريف، فإن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم كان إماماً في قصة بني سلمة وأنه تحول في الصلاة وليس كذلك، فقد روى البخاريّ عن ابن عمر أنه قال: «بينما الناس يصلون في صلاة الصبح إذ أتاهم آت أي: من بني سلمة فقال: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة» . ولما تحوّلت القبلة قالت اليهود: وما هو إلا شيء يبتدعه محمد من تلقاء نفسه، فتارة يصلي إلى بيت المقدس، وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 صاحبنا الذي ننتظره، فأنزل الله تعالى {وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه} أي: التولي إلى الكعبة {الحق} أي: الثابت {من ربهم} لما في كتبهم من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم من أنه يحوّل إليها وقوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب للمؤمنين أي: وما أنا بغافل عن جزائكم وثوابكم، والباقون بالياء على الغيب أي: عما يعمل اليهود أي: فأجازيهم في الدنيا والآخرة، ففي الآية وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، ولما قالت اليهود والنصارى ائتنا بآية على أنّ الكعبة قبلة. {ولئن} اللام موطئة للقسم {أتيت الذين أوتوا الكتاب} أي: اليهود والنصارى {بكل آيةٍ} أي: برهان وحجة على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق وقوله تعالى: {ما تبعوا قبلتك} جواب للقسم المضمر والمعنى أن تركهم اتباعك ليس على شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو على مكابرة وعناد مع علمهم لما في كتبهم من نعتك أنك على الحق. تنبيه: كان مقتضى الظاهر ما يتبعون لكن أتى بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} وقوله تعالى: {وما أنت بتابع قبلتهم} قطع لأطماعهم، فإنهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً منهم له وطمعاً في رجوعه {وما بعضهم بتابع قبلة بعضٍ} أي: أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة، فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا ترجى موافقتهم لك لتصلب كل حزب فيما هو فيه. فإن قيل: كيف قال تعالى: {وما أنت بتابع قبلتهم} ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ أجيب: بأن كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق فكانتا لحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة وقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم} خطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة أو على سبيل الفرض والتقدير {من بعدما جاءك} بين لك {من العلم} بالوحي في القبلة {إنك إذاً} إن اتبعتهم {لمن الظالمين} أي: من المرتكبين الظلم الفاحش، وفي هذا لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من ترك الدليل بعد إنارته وتتبع الهوى وتهييج للثبات على الحق، وقد أكد سبحانه وتعالى التهديد في ذلك وبالغ فيه.) قال البيضاوي من سبعة أوجه: الأوّل: الاتيان باللام الموطئة للقسم، الثاني: القسم المضمر، الثالث: حرف التحقيق أي: التأكيد وهي أن الرابع تركيبه من جملة إسمية، الخامس: الاتيان باللام في الخبر أي: وهو من الظالمين، السادس: جعله من الظالمين أي: تعريف الظالمين الدال على المعروفين ولم يقل إنك ظالم، فإن في الإندراج معهم إيهاماً بحصول أنواع الظلم؛ لأنّ أل في الظالمين للاستغراق، السابع: التقييد بمجيء العلم تعظيماً للحق المعلوم وتحريضاً على اقتضائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستفظاعاً لظهور الذنب عن الأنبياء. {الذين أتيناهم الكتاب} أي: علماؤهم {يعرفونه} أي: محمداً صلى الله عليه وسلم لسبق ذكره بلفظ الرسول مرّتين، وقول البيضاويّ تتبعاً للزمخشري وإن لم يسبق ذكره ممنوع، وقيل: القرآن وقيل: التحويل، ويدل للأوّل قوله تعالى: {كما يعرفون أبناءهم} أي: من بين الصبيان، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: كيف هذه المعرفة؟ قال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني فقال عمر: وكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ذلك؟ قال: لست أشك في محمد أنه نبي وأمّا ولدي فلعل والدته خانت فقال عمر: وفقك الله تعالى يا ابن سلام فقد صدقت. فإن قيل: لم خص الأبناء من الأولاد؟ أجيب: بأنّ الذكور أشهر وأعرف وهم لصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق {وإنّ فريقاً منهم} أي: أهل الكتاب {ليكتمون الحق} أي: صفته صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة {وهم يعلمون} ولا يظهرونه عناداً. وقوله تعالى: {الحق من ربك} كلام مستأنف، والحق إما مبتدأ خبره من ربك والمعنى أنه الحق أي: ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الحق ومن ربك حال أو خبر، بعد خبر والمعنى أنّ ما جاءك من العلم أو ما يكتمونه هو الحق لا ما يزعمون {فلا تكونن من الممترين} أي: من الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به أي: فلا تكونن من هذا النوع وهو أبلغ من لا تمتر وليس فيه نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه؛ لأنه غير متوقع منه بل إما لتحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، وإمّا أنّ المراد به أمته. {ولكل} أي: أمة من الأمم {وجهة} أي: قبلة أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة {هو موليها} وجهه في صلاته، وقرأ ابن عامر وحده مولاها بفتح اللام وألف بعدها أي: هو مولى تلك الجهة قد وليها، والباقون بكسر اللام وياء بعدها وعلى هذا فأحد المفعولين محذوف أي: هو موليها وجهه كما مرّ تقديره أو الله تعالى موليها إياه {فاستبقوا الخيرات} أي: بادروا إلى الطاعات وقبولها من أمر القبلة وغيره مما تناولوا به سعادة الدارين {أين ما تكونوا} أنتم وأهل الكتاب {يأت بكم الله جميعاً} يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم {إنّ الله على كل شيء قدير} فيقدر على الإحياء والجمع. تنبيه: رقق ورش الراء المفتوحة بعد الياء الساكنة. واتفق المصاحف على قطع أين من ما هنا. فإن قيل: له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب: بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعاً يتوالدون يقال لهم: الجن ومنهم إبليس، وقيل: إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه} (الكهف، 50) وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، قال البغوي: والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى: {كان من الجنّ} أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة، وقال قوم: من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلى الجنة وقيل: إنّ الجنّ أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضاً أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضاً والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال: فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس. تنبيه: من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمناً. تنبيه: ما مقطوعة من حيث في موضعي هذه السورة، وكرر سبحانه وتعالى التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة وتشديده؛ لأنّ النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان، فكرر عليهم ليثبتوا ويقوموا ويجدّوا؛ ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر؛ لأنه تعالى علق بكل آية فائدة، ففي الأولى أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر محمد أو أمر القبلة حق لمشاهدتهم له في التوراة والإنجيل، وفي الثانية أنه تعالى شهد أنه حق وشهادة الله تعالى مغايرة لعلم أهل الكتاب، وفي الثالثة بيان العلة وهي قطع حجة اليهود أو لأن الأحوال ثلاثة أوّلها: أن يكون الانسان في المسجد الحرام وثانيها: أن يخرج عنه ويكون في البلد وثالثها: أن يخرج عن البلد، فالآية محمولة على الأوّل والثانية على الثاني والثالثة على الثالث وقوله تعالى: {لئلا يكون الناس} أي: اليهود والمشركين {عليكم حجة} أي: مجادلة في التولي علة لقوله: قولوا والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وأن محمداً يجحد ديننا ويتبعنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 في قبلتنا ويدفع احتجاج المشركين بأنه يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، وقرأ ورش بإبدال الهمزة من لئلا ياء مفتوحة وقفاً ووصلاً وحمزة يبدلها وقفالاً وصلاً، والباقون بهمزة مفتوحة وصلاً ووقفاً وقوله تعالى: {إلا الذين ظلموا منهم} بدل واستثناء متصل أي: لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم، فإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحبه لبلده أو بدا له فرجع إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم {فلا تخشوهم} أي: فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم، فإنهم لا يضرونكم {واخشوني} بامتثال أمري فلا تخالفوا ما أمرتكم به. تنبيه: الياء هنا ثابتة في الرسم وهي في القراءة ثابتة وقفاً ووصلاً. فإن قيل: أي حجة تكون لغير الذين ظلموا لو لم تحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ أجيب: بأنهم كانوا يقولون: ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة. فإن قيل: كيف أطلق الحجة على قول المعاندين؟ أجيب: بأنّ المراد بالحجة ما يتمسك به حقاً كان أو باطلاً كما قال تعالى: {حجتهم داحضة} (الشورى، 16) وقوله تعالى: {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} أي: إلى الحق علة لمحذوف أي: وأمرتكم بذلك لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أو عطف على علة مقدرة كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم، قال «الكشاف» : وقيل: هو معطوف على لئلا يكون، وجرى عليه البيضاوي والسيوطي. قال البيضاويّ: تبعاً «للكشاف» وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة» أي: ورؤية الله تعالى وعن علي رضي الله تعالى عنه تمام النعمة الموت على الاسلام، قال شيخنا القاضي زكريا: روى الحديث الترمذيّ وذكره مع الأثر بعده ربما يرجح العطف على المقدر. وقوله تعالى: {كما أرسلنا} إما متعلق بما قبله وهو أتم أي: ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة أو في أمر الآخرة إتماماً كإتمامها بإرسالنا {فيكم رسولاً منكم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم وإما متعلق بما بعده وهو فاذكروني أذكركم أي: كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني {يتلو عليكم آياتنا} أي: القرآن {ويزكيكم} أي: يطهركم من الشرك {ويعلمكم الكتاب} أي: القرآن {والحكمة} أي: ما فيه الأحكام. تنبيه: قدم هنا يزكيكم على يعلمكم باعتبار القصة وأخر في دعوة إبراهيم يزكيكم على يعلمكم باعتبار الفعل {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي: بالتفكر والنظر إذ لا طريق لمعرفته سوى الوحي. {فاذكروني} بالطاعة كالصلاة والتسبيح {أذكركم} قال ابن عباس: بمعونتي، وقال سعيد بن جبير: بمغفرتي وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدّة والبلاء كما قال تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات، 144) . وفي الحديث عن الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله تعالى يقول: يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منه، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن مشيت إليّ هرولت إليك، وإن سألتني أعطيتك، وإن لم تسألني غضبت عليك» . وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 «يقول الله عزّ وجلّ: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه» . وفي رواية: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله» . وقرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ {واشكروا لي} نعمتي بالطاعة {ولا تكفرون} بجحد النعم وعصيان الأمر، فإن من أطاع الله فقد شكره، ومن عصاه فقد كفره. {يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر} على الطاعة والبلاء وعلى المعاصي وحظوظ النفس {والصلوة} خصها بالذكر؛ لأنها أم العبادات لاشتمالها على فعل القلب وغيره ومناجاة رب العالمين {إن الله مع الصابرين} بالنصر وإجابة الدعوة. هم {أموات بل} هم {أحياء ولكن لا تشعرون} أي: لا تعلمون كيف حالهم في حياتهم. قال البيضاويّ: وهو تنبيه على أنّ حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي اه. وهذا ما عليه أكثر المفسرين، قال ابن عاد: ويحتمل أنّ حياتهم بالجسد وإن لم تشاهد وأيد بأن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات بالاتفاق، فلو لم تكن حياة الشهيد بالجسد لاستوى هو وغيره ولم تكن له مزية اه. وقد يرد بأنّ الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم من المؤمنين منعمون بما دون ذلك. وفي الحديث: «أرواحهم في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش» وعن الحسن: أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح أي: الاستراحة أي: التلذذ والتنعم والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدّواً وعشياً، فيصل إليهم الوجع والغم. وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله ومزيد السرور والكرامة والأرواح جواهر قائمة بأنفسها تبقى بعد الموت دراكة كما عليه جمهور الصحابة والتابعين ونطقت به الآيات والسنن. {ولنبلونكم} أي: ولنختبرنكم يا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم واللام لجواب القسم تقديره والله لنبلونكم والابتلاء إظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به {بشيء} أي: بقليل {من الخوف} أي: خوف العدوّ {والجوع} أي: القحط وإنما قلله بالنسبة لما وقاهم عنه فيخفف عنهم ويريهم أنّ رحمته لا تفارقهم أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة وإنما أخبرهم قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم {ونقص من الأموال} بالخسران والهلاك {والأنفس} بالقتل والموت وقيل: بالمرض والشيب {والثمرات} بالجوائح. وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه: الخوف خوف الله، والجوع صوم رمضان، ومن الثمرات موت الأولاد. وعن أبي سنان قال: دفنت ولدي سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني، فقال: ألا أبشرك؟. حدّثني الضحاك بن عروب عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد» . وقوله تعالى: {وبشر الصابرين} أي: على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ما يصيبهم من المكروه عطف كما قال التفتازاني على ولنبلونكم عطف المضمون على المضمون أي: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر، ثم بينهم بقوله: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا} عبيداً وملكاً {وإنا إليه راجعون} في الآخرة والمصيبة تعمّ ما يصيب الانسان من مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم «كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة» وعن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهمّ اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف عليه خيراً منها» قالت: فلما توفي أبو سلمة استرجعت الله لي فقلت: اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها قالت: فأخلف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: «من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه» ، وقال سعيد بن جبير: ما أعِطى أحد ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيها أحد لأعطى يعقوب في قصة فقدِ يوسف ألا تسمع إلى قوله: {يا أسفاً على يوسف} (يوسف، 84) وليس الصبر بالإسترجاع باللسان بل باللسان مع القلب بأن يتصوّر ما خلق لأجله، فإنه راجع إلى ربه ويتذكر نعم الله عليه، فيرى ما أبقى عليه أضعاف ما استردّه منه، فيهوّن على نفسه ويستسلم لربه، والمبشر به محذوف دلّ عليه. {أولئك عليهم صلوات} أي: مغفرة {من ربهم ورحمة} أي: لطف وإحسان والصلاة في الأصل من الآدمي أي: ومن الجنّ تضرّع ودعاء، ومن الملائكة إستغفار، ومن الله تعالى رحمة مقرونة بتعظيم وجمع الصلاة للتنبيه على كثرتها كالتثنية في لبيك بمعنى لا انقطاع لمغفرته {وأولئك هم المهتدون} إلى الصواب حيث استرجعوا وسلّموا لقضاء الله تعالى. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: نِعم العدلان ونعمت العلاوة، والعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة: الهداية، وقد ورد أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين منها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيراً يصب منه» ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا غم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه» ومنها: أن امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبها لمم، فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يشفيني فقال: «إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك قالت: بل أصبر ولا حساب عليّ» . ومنها: «أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أشدّ الناس بلاءً قال: «الأنبياء والأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً ابتلى على قدر ذلك، وإن كان في دينه رقة هوّن عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ما له ذنب» ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» . ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة» . ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا يزال الريح يثنيه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد» . ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «عجب للمؤمن إن أصابه خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر في كل أمره» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 {إن الصفا والمروة} هما على جبلين بمكة في طرفي المسعى، قال القرطبيّ: وذكر الصفا؛ لأن آدم وقف عليه، وأنث المروة؛ لأنّ حوّاء وقفت عليها {من شعائر الله} أي: أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة أي: من أعلام مناسكه ومتعبداته {فمن حج البيت أو اعتمر} أي: تلبس بالحج أو العمرة، والحج لغة: القصد. والاعتمار: الزيارة، فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين {فلا جناح} أي: لا إثم {عليه أن يطوّف} فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء {بهما} أي: بأن يسعى بينهما سبعاً. فإن قيل: كيف أنهما من شعائر الله، ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ أجيب: بأنه كان على الصفا آساف، وعلى المروة نائلة وهما صنمان، يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين، فلما طالت المدّة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسخوهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية، فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله، والإجماع على أنّ السعي بين الصفا والمروة مشروع في الحج والعمرة، وإنما الخلاف في وجوبه، فعن أحمد أنه سنة وبه قال أنس وابن عباس لقوله تعالى: {فلا جناح عليه} فإنه يفهم منه التخيير. قال البيضاويّ وهو ضعيف؛ لأنّ نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة أنه واجب يجبر بدم. وعن مالك والشافعيّ أنه ركن لقوله صلى الله عليه وسلم «اسعوا فإنّ الله تعالى كتب عليكم السعي» رواه البيهقيّ وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم «ابدؤوا بما بدأ الله به» يعني: الصفا رواه مسلم {ومن تطوّع خيراً} أي: فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة أو طواف، ونصب خيراً على أنه صفة مصدر محذوف أي: تطوّعاً أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه أي: بخير. وقرأ حمزة والكسائيّ يطوّع بالياء على التذكير وتشديد الطاء والواو وسكون العين وأصله يتطوّع فأدغم مثل يطوف، والباقون بالتاء على الحضور وتخفيف الطاء وفتح العين {فإنّ الله شاكر} لعمله بالإثابة عليه {عليم} بنيته. تنبيه: الشكر من الله أن يعطى العبد فوق ما يستحقه فإنه يشكر اليسير ويعطي الكثير. ونزل في علماء اليهود: {إن الذين يكتمون} الناس كأحبار اليهود {ما أنزلنا من البينات} كآية الرحم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم {والهدى} أي: ما يهدي إلى وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم والإيمان به {من بعدما بيناه} أوضحناه {للناس في الكتاب} أي: التوراة أي: لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، فعمدوا إلى ذلك المبين الواضح، فكتموه ولبسوا على الناس {أولئك يلعنهم الله} وأصل اللعن الطرد والبعد {ويلعنهم اللاعنون} أي: يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهمّ الَعنهم. تنبيهان: أحدهما: اختلف في هؤلاء اللاعنين، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم جميع الخلائق إلا الجنّ والإنس، وقال عطاء: هم الجنّ والإنس، وقال الحسن: هم جميع عباد الله، وقال مجاهد: البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر وتقول: هذا من شؤم ذنوب بني آدم. ثانيهما: هذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة ومستنبطة وتدل على امتناع أخذ الأجرة على ذلك. وقد روى الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنكم تقولون أَكثر أبو هريرة عن النبيّ صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الله عليه وسلم وأيم الله لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً وتلا: {إنّ الذين يكتمون} الآية» . {إلا الذين تابوا} أي: رجعوا عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب منه {وأصلحوا} ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم {وبينوا} ما بيّنه الله تعالى في كتابهم فكتموه {فأولئك أتوب عليهم} أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم {وأنا التوّاب} أي: الرجّاع لقلوب عبادي المنصرفة عني إليّ {الرحيم} بهم بعد إقبالهم عليّ. {إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار} أي: من لم يتب من الكاتمين حتى مات {أولئك عليهم لعنة الله و} لعنة {الملائكة و} لعنة {الناس أجمعين} لعنهم الله أحياء، ثم لعنهم أمواتاً، وقال أبو العالية: هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم تلعنه الناس. فإن قيل: قد قال الله تعالى: {والناس أجمعين} وفي الناس المسلم والكافر وأهل دينه لا يلعنونه؟ أجيب بأجوبة: منها: أنّ المراد منهم من يعتد بلعنه وهم المؤمنون، قاله ابن مسعود: وعلى هذا فيكون من العام الذي أريد به الخاص. ومنها: أنهم يلعنونه في القيامة قال تعالى: {يلعن بعضكم بعضاً} (العنكبوت، 25) وقال: {كلما دخلت أمّة لعنت أختها} (الأعراف، 38) . ومنها: أنّ اللعنة من الأكثر يطلق عليها لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقلّ. ومنها: أنهم يلعنون الظالمين والكافرين، ومن لعن الظالمين أوالكافرين وهم منهم، فقد لعن نفسه، ومعنى لعنة الله لهم تبرّؤه منهم وطردهم وتبعيدهم عن الرحمة والثواب أو دعاؤه عليهم بذلك. {خالدين فيها} أي: اللعنة أو النار المدلول بها عليها {لا يخفف عنهم العذاب} طرفة عين {ولا هم ينظرون} من الانظار أي: لا يمهلون ولا يؤجلون أو لا ينظرون ليتعذروا كقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات، 36) أو لا ينظر إليهم نظر رحمة. ولما قال كفار قريش: يا محمد صف لنا ربك وانسبه لنا. نزل {وإلهكم إله واحد} وسورة الإخلاص، والواحد هو الذي لا نظير له ولا شريك وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} تقرير للوحدانية ودفع؛ لأن يتوهم أنّ في الوجود إلهاً ولكن لا يستحق منهم العبادة وقوله تعالى: {الرحمن الرحيم} كالدليل على الوحدانية، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها بقوله: الرحمن، فإنه مولى جلائل النعم وفروعها بقوله: الرحيم، فإنه مولى لطائف النعم ودقائقها وما سواه تعالى. إما نعمة أو منعم عليه، فلم يستحق العبادة أحد غيره وهما خبران آخران لقوله: إلهكم أو لمبتدأ محذوف. وعن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وإلهكم إله واحد» إلخ.. {وا لا إله إلا هو الحيّ القيوم} . ولما سمع المشركون هذه الآية وكان لهم حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقاً فائت بآية نعرف بها صدقك. {إن في خلق السموات والأرض} إلى آخر الآية. فإن قيل: لم جمع السموات وأفرد الأرض؟ أجاب البيضاويّ: بأنّ السموات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين اه. وهذا إنما يأتي على قول بعض الحكماء أنّ المراد بالأرضين الأقاليم، والأولى ما أجاب به البغوي من أنّ كلاً منها جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب أي: فهي طبقات كالسموات، والآية في السموات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة، وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك والآية في الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مدّها أو بسطها وسعتها وما يرى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات وغير ذلك. {واختلاف الليل والنهار} أي: تعاقبهما في المجيء والذهاب يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي: بعده قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} (الفرقان، 63) قال عطاء: أراد اختلافهما في النور والظلمة، والزيادة والنقصان، والليل: جمع ليل، والليالي: جمع الجمع، والنهار: جمع نهر. وقدّم الليل على النهار في الذكر؛ لأنه أقدم قال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس، 37) {والفلك} أي: السفن {التي تجري في البحر بما ينفع الناس} من التجارة والحمل، والآية فيها تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقورة لا ترسب تحت الماء. تنبيه: أنث الفلك؛ لأنه بمعنى السفينة؛ لأنّ واحد السفن وجمعه سواء إذ لو كانت بمعنى المركب لذكرها مع أنها في اللغة تذكر وتؤنث، قال تعالى: {إذ أبق إلى الفلك المشحون} (الصافات، 140) وضمة الجمع غير ضمة الواحدة تقديراً؛ إذ هي في الجمع كالضمة في حمر، وفي الواحد كالضمة في قفل، قال البيضاوي: والقصد به أي: الفلك إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر؛ لأنه سبب الخوض فيه أي: البحر والإطلاع على عجائبه، ولذلك قدّمت على ذكر المطر والسحاب؛ لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر اه. فجعل الآية في البحر لا في السفن، والأولى جعل الآية فيها وقوله؛ لأنّ منشأهما البحر هو قول الحكماء والإشارة على خلافه وهو الذي دلت عليه الأخبار. قال شيخنا القاضي زكريا: وحاصله: أنّ السحاب من شجرة مثمرة في الجنة، والمطر من بحر تحت العرش {وما أنزل الله من السماء من ماء} أي: مطر. تنبيه: من الأولى للابتداء، والثانية للبيان، قال البغويّ: قيل: أراد بالسماء السحاب يخلق الله الماء في السحاب، ثم من السحاب ينزل. وقيل: أراد بالسماء المعروفة يخلق الله الماء في السماء، ثم ينزل من السماء إلى السحاب؛ ثم من السحاب ينزل إلى الأرض اه. وفيه ما مرّ {فأحيا به الأرض} بالنبات {بعد موتها} أي: يبسها وجدوبتها {وبث} أي: فرّق ونشر بالماء {فيها} في الأرض {من كلّ دابة} . فإن قيل: هل بث عطف على أنزل أو أحيا؟ أجيب: بأنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة؛ لأن قوله: فأحيا به الأرض عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة، ويجوز عطفه على أحيا على معنى، فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة؛ لأن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا أي: المطر {وتصريف الرياح} إلى قبول ودبور، وجنوب وشمال، فالقبول: الصبا وهي التي تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، والدبور: تقابلها، والشمال: التي تهب من جانب القطب، والجنوب: تقابلها. قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح والماء، وسميت الريح ريحاً؛ لأنها تريح النفوس. قال شريح القاضي: ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح. فائدة: البشارة في ثلاث: من الرياح في الصبا، والشمال والجنوب. أمّا الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها، وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وهي: المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات، وأربعة: للعذاب وهي العقيم والصرصر في البر، والعاصف والقاصف في البحر. وقرأ حمزة والكسائيّ: الريح بالتوحيد، والباقون بالجمع. فائدة أخرى: كل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام اتفق القرّاء على توحيدها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وما فيها ألف ولام كما هنا، اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا الحرف الأوّل في سورة الروم الرياح مبشرات اتفقوا على جمعها، والريح تذكر وتؤنث {والسحاب} أي: الغيم {المسخر} أي: المذلل بأمر الله يسير حيث شاء الله {بين السماء والأرض} بلا علاقة لا ينزل ولا يرتفع مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله. وقيل: تسخير السحاب تقليبه في الجوّ بمشيئة الله واشتقاقه من السحب؛ لأنّ بعضه يجر بعضاً {لآيات} أي: دلالات واضحات على وحدانية الله تعالى {لقوم يعقلون} أي: ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون؛ لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وقول البيضاويّ: وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» . أي: لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. قال الوليّ العراقيّ: لم أقف عليه. وقال السيوطي: لم يرد في هذه الآية ولا بهذا اللفظ، ثم قال عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل عليّ الليلة {إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} » ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» . قيل: للأوزاعيّ ما غاية التفكر فيهنّ؟ قال: يقرأهنّ وهو يعقلهنّ انتهى ولا ينافي هذا أنه ورد أيضاً في هذه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ قال البيضاويّ: وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه انتهى. ولا ينافي هذا قول الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام؛ لأنه محمول على التوغل فيه، فيصير فلسفياً. {ومن الناس} وهم المشركون {من يتخذ من دون الله} أي: غيره {أنداداً} أي: أصناماً يعبدونها {يحبونهم} بالتعظيم والخضوع {كحبّ الله} أي: كحبهم له كما قال الزجاج: يحبون الأصنام كما يحبون الله؛ لأنهم أشركوها مع الله، فسووا بين الله وبين أصنامهم في المحبة أو يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله {والذين آمنوا أشدّ حباً} أي: أثبت وأدوم على حبه؛ لأنهم لا يختارون على الله ما سواه، والمشركون محبتهم لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، ولذلك كانوا إذا اتخذوا صنماً أحسن منه طرحوا الأوّل واختاروا الثاني، وربما يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عند المجاعة، ويُعرضون عن معبودهم في وقت البلاء، ويقبلون على الله كما أخبر الله تعالى عنهم فقال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت، 65) والمؤمن لا يعرض عن الله تعالى في السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء. وقيل: إنما قال الله تعالى: {والذين آمنوا أشدّ حباً} لأنّ الله أحبهم أولاً ثم أحبوه، ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتمّ قال الله تعالى: {يحبهم ويحبونه} (المائدة، 54) فمحبة العبد لله طاعته والإعتناء بتحصيل مراضيه، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي {ولو يرى الذين ظلموا} أي: باتخاذ الأنداد {إذ يرون} أي: يبصرون {العذاب} يوم القيامة وإذ بمعنى إذا أو أجري المستقبل وهو يرى مجرى الماضي لأنّ إذ موضوعة للماضي؛ والمعنى هنا على الاستقبال لتحققه كقوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة} (الأعراف، 44) {أنّ} أي: بأنّ {القوّة} أي: القدرة والغلبة {} وقوله تعالى: {جميعاً} حال {وأنّ الله شديد العذاب} وجواب لو محذوف، والتقدير لو يعلمون أنّ القدرة لله جميعاً؛ إذ عاينوا العذاب لندموا أشدّ الندم، والفاعل ضمير السامع أو الذين ظلموا، ويرى بمعنى يعلم، وأنّ وما بعدها سدّت مسدّ المفعولين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقرأ نافع وحده بالتاء على الخطاب أي: ولو ترى يا محمد ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وأمال السوسي الألف المنقلبة بعد الراء في الوصل بخلاف عنه، وغلظ ورش اللام بعد الظاء، وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء، والباقون بفتحها. {إذ} بدل من إذ قبله {تبرأ الذين اتبعوا} وهم الرؤساء {من الذين اتبعوا} وهم الأتباع أي: ينكر الرؤساء إضلال الأتباع يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع {و} قد {رأوا العذاب} أي: رائين له فالواو للحال، وقد مضمرة كما قدرتها وقيل: عطف على تبرأ، وقوله تعالى: {وتقطعت} عطف على تبرأ، وقوله تعالى: {بهم} بمعنى عنهم {الأسباب} أي: الوصل التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصدقات وصارت مخالفتهم عداوة. {وقال الذين اتبعوا} أي: الأتباع {لو أنّ لنا كرّة} أي: رجعة إلى الدنيا {فنتبرأ منهم} أي: الرؤساء {كما تبرّأوا منا} اليوم، ولو للتمني ولذلك أجيب بالفاء {كذلك} أي: مثل ذلك الإراء الفظيع {يريهم الله أعمالهم} أي: السيئة وقوله تعالى: {حسرات} أن تنقلب ندمات {عليهم} ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب والافحال، وقوله تعالى: {وما هم بخارجين من النار} أصله وما يخرجون؛ لأنّ المناسب أن تعطف جملة فعلية على جملة فعلية، لكن عدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً} فقال البيضاويّ: نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس أي: لا على وجه التورّع كما تفعله الصوفية، وما قاله قول مرجوح كما قاله شيخنا القاضي زكريا والمشهور أنها نزلت فيهم آية المائدة وهي {يأيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم} (المائدة، 87) وأمّا هذه الآية، فإنها نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ومن ثم عبر هنا بيأيها الناس وثم بيأيها الذين آمنوا. تنبيه: حلالاً مفعول كلوا أو حال وقوله تعالى: {طيباً} إمّا صفة مؤكدة وإما طاهراً من كلّ شبهة وهو ما يستطيبه الشرع. قال «الكشاف» : ومن للتبعيض؛ لأن كلّ ما في الأرض ليس بمأكول هذا إن جعلنا حلالاً حالاً، فإن جعلنا مفعولاً فمن للابتداء كما قاله السعد التفتازاني؛ لأن من التبعيضية في موضع المفعول أي: كلوا بعض ما في الأرض {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أي: طرقه كما قاله الزجاج أو المحقرات من الذنوب كما قاله أبو عبيدة فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. وقرأ ابن عامر وقتيل وحفص والكسائي بضمّ الطاء والباقون بالسكون {إنه لكم عدوّ مبين} أي: بيّن العداوة أو مظهر العداوة عند ذوي البصيرة، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، وقد أظهر عداوته بامتناعه من السجود لآدم، ثم بيّن سبحانه وتعالى عداوته بأنه لا يأمر بخير قط بقوله: {إنما يأمركم بالسوء} أي: القبيح شرعاً {والفحشاء} أي: ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وعن ابن عباس أنّ السوء من الذنوب ما لا حدّ فيه، والفحشاء من المعاصي ما يجب به حدّ. وقال السُديّ: الفحشاء هي الزنا وقيل: البخل. قال البيضاوي: واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم انتهى. قال شيخنا القاضي زكريا: ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه {و} يأمركم أيضاً {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد. وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله} من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون وقيل: مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور. روي عن ابن عباس أنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية {قالوا} لا نتبعه {بل نتبع ما ألفينا} أي: وجدنا وأدركنا أو علمنا، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله {عليه آباءنا} من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، فإنهم كانوا خيراً وأعلم منا قال الله تعالى: {أولو كان} أي: أيتبعونهم ولو كان {آباؤهم لا يعقلون شيئاً} أي: من أمر الدين لا شيئاً مطلقاً، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، فلفظه عام ومعناه الخصوص {ولا يهتدون} أي: الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي: لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم. {ومثل} أي: صفة {الذين كفروا} ومن يدعوهم إلى الهدى {كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} أي: صوتاً ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال: نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل: *فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالا* وأمّا تعق الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل: معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى: {وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} (فاطر، 14) ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال: {صمّ} أي: هم صم عن سماع الحق، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم {بكم} عن الخير لا يقولونه {عمي} عن الهدى لا يبصرونه {فهم لا يعقلون} الموعظة لإضلال نظرهم {يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات} أي: حلالات {ما رزقناكم} . قال البيضاوي: واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم انتهى. قال شيخنا القاضي زكريا: ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه {و} يأمركم أيضاً {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد. وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله} من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون وقيل: مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور. روي عن ابن عباس أنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية {قالوا} لا نتبعه {بل نتبع ما ألفينا} أي: وجدنا وأدركنا أو علمنا، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله {عليه آباءنا} من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، فإنهم كانوا خيراً وأعلم منا قال الله تعالى: {أولو كان} أي: أيتبعونهم ولو كان {آباؤهم لا يعقلون شيئاً} أي: من أمر الدين لا شيئاً مطلقاً، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، فلفظه عام ومعناه الخصوص {ولا يهتدون} أي: الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي: لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم. {ومثل} أي: صفة {الذين كفروا} ومن يدعوهم إلى الهدى {كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} أي: صوتاً ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال: نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل: *فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالا* وأمّا تعق الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل: معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى: {وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} (فاطر، 14) ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال: {صمّ} أي: هم صم عن سماع الحق، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم {بكم} عن الخير لا يقولونه {عمي} عن الهدى لا يبصرونه {فهم لا يعقلون} الموعظة لإضلال نظرهم {يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات} أي: حلالات {ما رزقناكم} . روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يأيها الرسل كلوا من الطيبات} (المؤمنون، 51) وقال: {يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} » ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك؟» . ولما وسع الله تعالى الأمر على الناس كافة، وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرّم عليهم، أمر المؤمنين منهم أن يتحرّوا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال: {واشكروا} على ما رزقكم وأحل لكم {إن كنتم إياه تعبدون} أي: إن صح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أنكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنه مولى النعم، فإن عبادته لا تتم إلا بالشكر فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه وهو يعدم عند عدمه. روى البيهقيّ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» . ثم بيّن سبحانه وتعالى المحرّمات بقوله: {إنما حرّم عليكم الميتة} أي: أكلها إذ الكلام فيه وكذا ما بعدها وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية وألحق بها بالسنة ما أبين من حيّ وخص منها السمك والجراد والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفاً حرمة التصرّف فيها مطلقاً إلا ما خصه الدليل كالتصرّف في المدبوغ {والدم} أي: المسفوح كما قال تعالى في سورة الأنعام: {أو دماً مسفوحاً} . روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وهو في حكم المرفوع بل رفعه ابن ماجه وغيره لكن بسند ضعيف {ولحم الخنزير} أي: جميع أجزائه وعبر عن ذلك باللحم؛ لأنه معظم المقصود منه وغيره تبع له {وما أهلّ به لغير الله} أي: ذبح على اسم غيره، والإهلال: رفع الصوت وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم {فمن اضطرّ} أي: ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر فأكله. {غير باغ} أي: خارج على المسلمين وقيل: مجاوز للمقدار الذي أحلّ له {ولا عاد} أي: متعدٍ على المسلمين بقطع الطريق وقيل: لا يقصر فيما أبيح له فيدعه، وقال سهل بن عبد الله: غير باغ مفارق للجماعة، ولا عاد مبتدع مخالف للسنة فلم يرخص للمبتدع في تناول المحرّم عند الضرورة. وقال مسروق: من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار. واختلف العلماء في قدر ما يحل للمضطرّ أكله من الميتة على قولين: أحدهما أن يأكل مقدار ما يمسك رمقه وهو قول ابن أبي حنيفة، والراجح عند الشافعيّ والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك: {فلا إثم} أي: لا حرج {عليه} في أكل ما ذكر وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون، فمن اضطرّ في الوصل والباقون يضمها. فائدة: قال البغويّ {غير} نصب على الحال وقيل على الاستثناء وإذا رأيت غير تصلح في موضعها لا فهي حال، وإذا صلح في موضعها إلا فهي استثناء {إنّ الله غفور} لمن أكل في حال الاضطرار {رحيم} حيث رخص للعباد في ذلك. فإن قيل: إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من محرّم لم يذكر أجيب: بأنّ المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحله الكفار لا مطلقاً وقصر ما ذكر على حال الاختيار كأنه قيل: إنما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطرّوا إليها. تنبيه: ألحق بالباغي والعادي كل عاص بسفره كالآبق والمكاس فلا يحلّ لهم أكل شيء من ذلك ما لم يتوبوا وعليه الشافعيّ. ونزل في علماء اليهود ورؤسائهم الذين كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المنعوت منهم، فلما بعث صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه. {إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} المشتمل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم {ويشترون به} أي: بالمكتوم {ثمناً} أي: عوضاً {قليلاً} أي: يسيراً أي: المآكل التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يصيبونها من سفلتهم {أولئك ما يأكلون في بطونهم} أي: ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه {إلا النار} أي: ما يؤدّيهم إلى النار وهو الرشوة وثمن الدين، ولما كان يقضي بهم إلى النار؛ لأنها عقوبة عليهم فكأنهم أكلوا النار، وقيل: معناه أنه يصير ناراً في بطونهم {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} أي: لا يكلمهم بالرحمة ربما يبشرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ أو يكون عليهم غضبان كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان لما ثبت بالنصوص أنه تعالى يسألهم والسؤال كلام، فحمل نفي الكلام على الغضب فهو كناية ويجوز بقاء الكلام على ظاهره وتحتمل نصوص السؤال على أنه يقع بألسنة الملائكة {ولا يزكيهم} أي: ولا يطهرهم من دنس الذنوب {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم وهو النار.I {أولئك الذين اشتروا} أي: استبدلوا {الضلالة بالهدى} فأخذوها بدله في الدنيا {و} استبدلوا {العذاب بالمغفرة} أي: المعدّة لهم في الآخرة لو لم يكتموا الحق للمطامع والأغراض الدنيوية {فما أصبرهم على النار} أي: ما أشدّ صبرهم وهو تعجب للمؤمن من ارتكاب موجباتها من غير مبالاة وإلا فأيّ صبر لهم كما قال الحسن: والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقرّبهم إلى النار. وقال الكسائي: فما أصبرهم على عمل أهل النار أي: ما أدومهم عليه. روي عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضي اليمن بمكة: اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال: ما أصبرك على عذاب الله تعالى. {ذلك} أي: الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده {بأنّ} أي: بسبب أنّ {الله نزل الكتاب} وقوله تعالى: {بالحق} متعلق بنزل فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان وقوله تعالى: {وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب} اللام فيه إما للجنس واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعضها، وإما للعهد وحينئذٍ الإشارة إما للتوراة واختلافهم حيث آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها بكتمه، وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم: سحر وتقوّل وكلام علمه بشر وأساطير الأوّلين {لفي شقاق} أي: خلاف {بعيد} عن الحق واختلف في المخاطب بقوله تعالى: {ليس البرّ} أي: وهو كلّ فعل مرضي {أن تولّوا وجوهكم} أي: في الصلاة {قبل المشرق والمغرب} على قولين: أحدهما أنهم المسلمون، والثاني أهل الكتابين، فعلى الأوّل معناه ليس البرّ كله في الصلاة ولكن البرّ ما في هذه الآية، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء. وعلى الثاني ليس البرّ صلاة اليهود إلى المغرب وصلاة النصارى إلى المشرق، فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كل طائفة أنّ البرّ هو التوجه إلى قبلته، فردّ الله تعالى عليهم وقال: ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما في هذه الآية قاله قتادة والربيع ومقاتل، وقال قوم هو عام لهم وللمسلمين أي: ليس البرّ مقصوراً بأمر القبلة. وقرأ حفص وحمزة بنصب البر على أنه خبر مقدّم، والباقون برفعه وقوله تعالى: {ولكنّ البر من آمن} على تأويل حذف المضاف أي: بر من آمن أو بتأويل البرّ بمعنى ذي البر أي: ولكن البرّ الذي ينبغي أن يهتمّ به بر من آمن أو لكن ذا البرّ من آمن {با واليوم الآخر والملائكة والكتاب} أي: الكتب إن أريد به الجنس وإلا فالقرآن {والنبيين} والتأويل الأوّل أولى؛ لأن السابق في الآية إنما هو نفي كون البر، تولية الوجه والذي يستدرك إنما هو من جنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ما ينفى. وقرأ نافع وابن عامر بكسر نون ولكن مخففة ورفع راء البر والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب الراء والنبيين تقدّم أنّ نافعاً يقرؤه بالهمزة والباقون على البدل وورش على أصله من المدّ والتوسط والقصر. {وآتى المال على} أي: مع {حبه} له كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أيّ الصدقة أفضل؟: «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ـ أي الحياة ـ وتخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم» . قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان وقيل: الضمير لله أي: على حب الله {ذوي القربى} أي: القرابة قال صلى الله عليه وسلم «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» {واليتامى} جمع يتيم وتقدّم تعريفه {والمساكين} جمع مسكين وهو من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه بخلاف الفقير، فإنه من لا مال له ولا كسب يقع موقعاً من كفايته وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في سورة براءة {وابن السبيل} أي: المسافر يقال للمسافر: ابن السبيل لملازمته الطريق وقيل: هو الضيف ينزل بالرجل، قال صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» {والسائلين} أي: الطالبين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، قال صلى الله عليه وسلم «للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه» رواه الإمام أحمد. وفي رواية: «ردّوا السائل ولو بظلف محرق» {وفي الرقاب} أي: فكها معاونة المكاتبين وقيل: فرض الأسراء وقيل: ابتياع الرقاب لعتقها {وأقام الصلوة} المفروضة {وآتى الزكوة} المفروضة. فإن قيل: قد ذكر إتيان المال في هذه الوجوه ثم ثنى بإتيان الزكاة، فقد دل ذلك على أنّ في المال حقاً سوى الزكاة أجيب: بأنّ المتقدّم في التطوّع، وإن قال الشعبي: إنّ في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية، ففي الحديث: «نسخت الزكاة كل صدقة» . رواه الدارقطني والبيهقيّ أي: نسخت الزكاة وجوب كل صدقة. وروي ليس في المال حق سوى الزكاة {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا أو نذروا وفوا، وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدّوا. تنبيه: الموفون عطف على من آمن وقيل: رفع على المبتدأ والخبر أي: وهم الموفون وقوله تعالى: {والصابرين في البأساء} أي: شدة الفقر {والضرّاء} أي: المرض {وحين البأس} أي: وقت شدّة القتال في سبيل الله تعالى نصب على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. وروي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنا إذا حمي البأس ـ أي: اشتدّ الحرب ـ ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه {أولئك} الموصوفون بما ذكر {الذين صدقوا} في الدين واتباع الحق وطلب البر {وأولئك هم المتقون} الله التاركون للكفر وسائر الرذائل. قال البيضاويّ رحمه الله تعالى: والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحاً أو ضمناً، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس، وقد أشير إلى الأوّل بقوله تعالى: {من آمن} إلى {والنبيين} وإلى الثاني بقوله تعالى: {وآتى المال} إلى {وفي الرقاب} وإلى الثالث بقوله: {وأقام الصلاة} إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظراً إلى إيمانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 واعتقاده وبالتقوى اعتباراً بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق وإليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان» . ونزل في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهما قتلى وجراحات يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور، فأقسموا لنقتلنّ بالعبد الحرّ منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم {يأيها الذين آمنوا كتب} أي: فرض {عليكم القصاص} وهو المساواة والمماثلة {في القتلى} وصفاً وفعلاً {بالحرّ} يقتل {الحرّ} ولا يقتل بالعبد {و} يقتل {العبد بالعبد و} يقتل {الأنثى بالأنثى} وبينت السنة أنّ الذكر يقتل بالأنثى وأنّ المماثلة تعتبر في الدين فلا يقتل مسلم ولو عبداً بكافر وللأئمة في ذلك خلاف وأدلة مذكورة في الفقه وكلهم على هدى من ربهم {فمن عفي له} أي: من القاتلين {من} أي: دم {أخيه} المقتول {شيء} بأن ترك القصاص منه وتنكير شيء يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه ولو من بعض الورثة وفي ذكر أخيه تعطف على العفو وإيذان بأنّ القتل لا يقطع أخوة الإيمان ومن مبتدأ شرطية أو موصولة والخبر {فاتباع} أي: فعلى العافي اتباع للقاتل {بالمعروف} بأن يطالبه بالدية لا عنف وترتيب الاتباع على العفو يفيد أنّ الواجب أحدهما وهو أحد قولي الشافعيّ، والثاني وهو الأصح عنده الواجب القصاص عيناً، والدية بدل عنه فلو عفا ولم يسمها فلا شيء. فإن قيل: إن عفا يتعدّى بعن لا باللام فما وجه قوله فمن عفي له أجيب: بأن عفا يتعدّى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه قال تعالى: عفا الله عنك وقال: عفا الله عنها، فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معاً قيل: عفوت لفلان عما جنى كما تقول: غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه وعلى هذا ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية {وأداء} أي: وعلى القاتل أداء الدية {إليه} أي: العافي وهو الوارث {بإحسان} أي: بلا مطل ولا بخس {ذلك} الحكم المذكور في العفو والدية {تخفيف من ربكم ورحمة} لما فيه من التسهيل والنفع؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث: القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً {فمن اعتدى} أي: ظلم القاتل بأن قتله {بعد ذلك} أي: العفو على الدية أو مجاناً {فله عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل أو أخذ الدية إن عفى عنها وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} كلام في غاية الفصاحة والبلاغة حيث جعل الشيء محل ضدّه وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة عظيماً وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. قال الزمخشريّ: وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة ويقع بينهم التشاجر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لأنّ القاصد للقتل؛ إذا علم أنه إن قتل يقتل يمتنع فيكون فيه بقاؤه وبقاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يهتم بقتله وفي المثل: القتل أنفى للقتل وقيل في المثل: القتل قلل القتل وقيل: المراد بالحياة، الحياة الأخروية، فإنّ القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة هذا بالنسبة للآدميّ وأمّا بالنسبة لله تعالى، فإن تاب فكذلك وإلا فهو تحت المشيئة، ثم نادى ذوي العقول الكاملة بقوله: {يا أولي الألباب} للتأمّل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، ثم بين سبحانه وتعالى مشروعية ذلك بقوله: {لعلكم تتقون} القتل مخافة القود أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة. {كتب} أي: فرض {عليكم إذا حضر أحدكم الموت} أي: حضرت أسبابه وظهرت أماراته {إن ترك خيراً} أي: مالاً نظيره قوله تعالى: {وما تنفقوا من خير} (البقرة، 272) وقيل: مالاً كثيراً لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رجلاً أراد الوصية فسألته: كم مالك؟ فقال: ثلاثة آلاف فقالت: كم عيالك؟ قال: أربعة قالت: إنما قال الله تعالى إن ترك خيراً وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك. وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم فمنعه وقال: قال الله تعالى: {إن ترك خيراً} والخير هو المال الكثير وقوله تعالى: {الوصية} مرفوع بكتب وذكر فعلها للفاصل ولأنها بمعنى أن يوصي ولذلك ذكر الراجع في قوله: فمن بدّله بعدما سمعه والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدّمه عليها وجواب أنّ أي: فليوص {للوالدين والأقربين بالمعروف} بالعدل فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث لما روي عن سعيد بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «جاءني النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله قال: لا قلت: فالشطر قال: لا قلت: فالثلث قال: الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم» أي: يسألون الناس الصدقة بأكفهم، وقوله تعالى: {حقاً} مصدر قال البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وغيره مؤكد لمضمون الجملة قبله أي: حق ذلك حقاً وردّه أبو حيان بأنّ قوله تعالى على المتقين متعلق بحقاً أو صفة له وكل منهما يخرجه عن التأكيد، أما الأوّل فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل إلى حرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل، وأمّا الثاني فلأنّ حقاً مصدر مخصص بالصفة فلا يكون مؤكداً وقيل: حقاً نعت لمصدر كتب أو أوصى أي: كتباً أو إيصاء حقاً وقيل: حال من مصدر أحدهما معرّفاً وقيل: نصب على المفعولية أي: جعل الوصية حقاً {على المتقين} الله وهذا منسوخ بآية المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث» بناءً على الأصح من أن الكتاب ينسخ بالسنة وإن لم تتواتر وبذلك ظهر ما في قول بعضهم: إنّ الكتاب لا ينسخ بالسنة وإن الحديث من الآحاد. أي: غيره من الأوصياء والشهود {بعدما سمعه} أي: وصل إليه علمه وتحقق عنده {فإنما إثمه} أي: الإيصاء المبدل {على الذين يبدّلونه} والميت بريء منه، وفي هذا إقامة الظاهر مقام المضمر {إنّ الله سميع} لما وصى به الموصي {عليم} بفعل الوصي فيجازيه عليه وفي هذا وعيد للمبدّل بغير حق. {فمن خاف من موص} أي: توقع وعلم كقوله تعالى: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله} (البقرة، 229) أي علمتم وقرأ حمزة بإمالة الألف بعد الخاء من خاف حيث جاء، وقرأ شعبة وحمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 والكسائي بفتح الواو من موص وتشديد الصاد، والباقون بسكون الواو وتخفيف الصاد {جنفاً} أي ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصية {أو إثماً} بأن تعمد الحيف في الوصية {فأصلح بينهم} بين الوصي والموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع {فلا إثم عليه} في هذا التبديل؛ لأنه تبديل؛ باطل إلى الحق بخلاف الأوّل {إن الله غفور رحيم} فيه وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم. {يأيها الذين آمنوا كتب} أي: فرض {عليكم الصيام} هو لغة: الإمساك عما تنازع فيه النفس ومنه قوله تعالى: {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً} (مريم، 26) أي: صمتاً؛ لأنه إمساك عن الكلام. وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات مع النية فإنها معظم ما تشتهيه النفس {كما كتب على الذين من قبلكم} من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال عليّ رضي الله تعالى عنه: أوّلهم آدم يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم. وفي قوله تعالى: {كتب عليكم} إلخ.. توكيد للحكم وترغيب على الفعل وتطييب على النفس وفي موضع التشبيه في كاف كما كتب قولان: أحدهما أنّ التشبيه في حكم الصوم وصفته لا في عدده. قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم أنه لم يحل له أن يطعم إلى الليلة القابلة والنساء عليهم حرام ليلة الصيام وهو عليهم ثابت وقد أرخص لكم هذا، فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث} (البقرة، 187) الآية فإنها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين، والثاني: إنه كصومهم في عدد الأيام لما روي أنّ رمضان كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان ـ أي: وهو بضم الميم ـ موت يقع على الماشية فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده، فجعلوه خمسين وقيل: كان يقع في الحرّ الشديد وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرّهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع وقالوا: نزيد عشرين يوماً تكفر ما صنعنا. قال السديّ عن مشايخه، وقيل: زادوا فيه عشرة أيام أولاً كفارة لما صنعوا، فصار أربعين يوماً ثم أن ملكهم اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو شفي من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرأ فزاد فيه أسبوعاً ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال: أتموه خمسين يوماً وعلى هذا تكون الآية محكمة لا منسوخة. {لعلكم تتقون} بصومكم للمعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي: مؤن النكاح ـ فليتزوّج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي: قاطع لشهوته أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين؛ لأن الصوم شعارهم وقوله تعالى: {أياماً} نصب بصوموا مقدّراً بينهما لدلالة الصيام عليه بالصيام لوقوع الفصل بينهما {معدودات} أي: قلائل كقوله تعالى: {دراهم معدودة} (يوسف، 20) وأصله أنّ المال القليل يقدر بالعدد ويحكر فيه والكثير يهال هيلاً ويحثى حثياً أو مؤقتات بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي وقلله تسهيلاً على المكلفين وقيل: هي عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر كتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر ثم نسخت بشهر رمضان {فمن كان منكم مريضاً} مرضاً يضرّه الصوم ويعسر معه {أو على سفر} أي: مسافراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 سفر قصر {فعدّة من أيام أخر} أي: فعليه صوم عدّة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر، فحذف الشرط وهو إن أفطر والمضاف وهو صوم والمضاف إليه وهو أيام المرض والسفر للعلم بها. واختلفوا في المرض الذي يبيح الفطر، والأصح فيه ما قدّرناه وذهب أهل الظاهر إلى أنّ ما ينطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر وهو قول ابن سيرين: فقد دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه وفي السفر الذي يباح فيه الفطر والأصح فيه أيضاً ما قدّرناه وهو مرحلتان. وقال الأوزاعي: أقله مرحلة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ثلاثة أيام {وعلى الذين يطيقونه} أي: إن أفطروا {فدية} هي {طعام مسكين} أي: قدر ما يأكله في يوم وهو مدّ على الأصح من غالب قوت بلده وقال بعضهم: نصف صاع من القمح أو صاع من غيره وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوّته يومه الذي أفطره وقال ابن عباس: يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها، فذهب أكثرهم إلى أنها منسوخة وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا وإنما خيرهم الله تعالى؛ لأنهم كانوا لم يتعوّدوا الصيام ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} قال ابن عباس: إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على الولد، فإنها باقية بلا نسخ في حقهما، وذهب جماعة منهم إلى أن لفظة لا مقدّرة في الآية أي: وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فدية وهو قول سعيد بن جبير وجعل الآية محكمة، وقرأ نافع وابن ذكوان بغير تنوين في فدية وخفض الميم من طعام والباقون بتنوين فدية ورفع الميم من طعام، وقرأ نافع وابن عامر مساكين بفتح الميم والسين وألف بعد السين وفتح النون، والباقون بكسر الميم وسكون السين ولا ألف بعدها وكسر النون منونة {فمن تطوّع خيراً} بالزيادة على القدر المذكور في الفدية {فهو} أي: التطوع {خير له} فيثيبكم الله عليه {وأن تصوموا} أي: أيها المطيقون مبتدأ خبره {خير لكم} أي: من الإفطار والفدية {إن كنتم تعلمون} أي: ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمّة وجواب: إن كنتم محذوف دلّ عليه خير لكم أي: فالصوم خير لكم وقوله تعالى: {شهر رمضان} مبتدأ خبره ما بعده أو بدل من الصيام في قوله: {كتب عليكم الصيام} بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن قدر مضاف أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان أو الشهر من الشهور ورمضان مصدر رمض إذا أحرق فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون. فإن قيل: إذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو قوله صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» وقوله صلى الله عليه وسلم «بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له» أجيب: بأنّ ذلك على حذف المضاف لا من اللبس قال التفتازاني: وجاز الحذف من الاعلام وإن كان من قبيل حذف بعض الكلمة؛ لأنهم أجروا مثل هذا العلم مجرى المضاف والمضاف إليه حيث أعربوا الجزأين وإنما سماه العرب بذلك إمّا لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش، وإمّا لارتماض الذنوب فيه. وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمضان الحر قال أئمة اللغة: كان أسماء الشهور في اللغة القديمة: مؤتمر ناجر خوان وبصان حنين ورنه الأصم وعل ناتق عادل هواع يراك فغيرت إلى محرّم صفر ربيع الأوّل ربيع الثاني جمادى الأول جمادى الثانية رجب شعبان رمضان شوّال ذي القعدة ذي الحجة على الترتيب وسمي المحرم لتحريم القتال فيه وصفر لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب، والربيعان لارتباع الناس فيهما أي: إقامتهم وجماديان لجمود الماء فيهما ورجب لترجيب العرب إياه أي: تعظيمهم له وشعبان لتشعب القبائل فيه، ورمضان لرمض الفصال فيه، وشوّال لشول أذناب اللواقح فيه، وذو القعدة للقعود فيه عن الحرب، وذو الحجة لحجهم فيه {الذي أنزل فيه القرآن} جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ثم تنزل منجماً إلى الأرض وقيل: ابتدىء فيه إنزاله وكان ذلك ليلة القدر وقيل: أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى: {كتب عليكم الصيام} وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين» رواه الإمام أحمد وغيره. تنبيه: قال ابن عادل: يروى أنّ جبريل عليه السلام نزل على آدم اثنتي عشرة مرّة، وعلى إدريس أربع مرّات، وعلى إبراهيم اثنين وأربعين مرّة، وعلى نوح خمسين مرّة، وعلى موسى أربعمائة مرّة، وعلى عيسى عشر مرّات، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرّة، وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الراء وتصير الراء مفتوحة وألف بعدها في المعرف والمنكر حيث جاء وكذا يقرأ حمزة في الوقف وقوله تعالى: {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} حالان من القرآن أي: أنزل وهو هداية للناس لإعجازه من الضلالة إلى الحق وهو آيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل مما فيه من الحكم والأحكام. فإن قيل: فما معنى قوله: وبينات من الهدى بعد قوله هدى للناس؟ أجيب: بأنه تعالى ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق به الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال {فمن شهد} أي: حضر {منكم الشهر فليصمه} وقوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر} أي: فأفطر {فعدّة من أيام أخر} تقدّم مثله وكرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم من شهد {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} أي: يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر ولذلك أباح لكم الفطر في المرض والسفر. واختلفوا هل الفطر في السفر أفضل أو الصوم؟ والأصح أنه إن شق عليه الصوم فالفطر أفضل وإلا فالصوم. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين أنهم قالوا: لا يجوز الصوم في السفر، ومن صام فعليه القضاء واحتجوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «ليس من البرّ الصيام في السفر» وأجاب الأوّل عن الحديث بأنه محمول على من يشق عليه الصوم فقول جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا صائم فقال صلى الله عليه وسلم «ليس من البرّ الصيام في السفر» والدليل على جواز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الصوم في السفر قول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: «كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم» . وقوله تعالى: {ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} أي: الله على نعمه، علل لفعل محذوف دلّ عليه ما سبق أي: وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بالقضاء، وبمراعاة عدّة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله تعالى: {ولتكملوا العدّة} علّة الأمر بمراعاة العدّة، وقوله تعالى: {ولتكبروا} علّة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، وقوله تعالى: {ولعلكم تشكرون} علّة الترخيص من تعظيم الله تعالى بالحمد والثناء عليه، ولذلك عدّ نوعاً من اللف والنشر لطيف المسلك. ومعنى التكبير تعظيم الله تعالى بالحمد والثناء عليه، ولذلك عدّي بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، وقيل: تكبير عيد الفطر وقيل: التكبير عند الإهلال، وقرأ شعبة ولتكملوا بفتح الكاف وتشديد الميم والباقون بسكون الكاف وتخفيف الميم. تنبيه: ورد في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين أخبار منها ما رواه أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل رمضان صفدت الشياطين ومردة الجنّ وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» ومنها ما رواه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» . ومنها ما رواه سلمان قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: «أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعاً، من تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه الرزق؛ من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، قالوا: يا رسول الله ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذْقَة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن سقى صائماً سقاه الله عز وجل من حوضِي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى لكم عنهما فأمّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأمّا اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الصوم جنة» . وعن سهل بن سعد أنه قال: قال رسول الله صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الله عليه وسلم «في الجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون» وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصائم: رب إني منعت الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان» . وسأل جماعة النبيّ صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزل {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} أي: فقل لهم إني قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم، ونحوه قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (ق، 16) وقوله تعالى: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} أي: بإنالته ما سأل تقرير للقرب، ووعد للداعي بالإجابة، وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، واختلف عن قالون فيهما والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً. فإن قيل: ما وجه قوله تعالى: {أجيب دعوة الداع} وقوله: {ادعوني أستجب لكم} () وقد يدعى كثيراً فلا يجيب؟ أجيب: بأنهم اختلفوا في معنى الآيتين فقيل: معنى الدعاء هنا الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب، وقيل: معنى الآيتين خاص وأن لفظهما عام، تقديره: أجيب دعوة الداع إن شئت كما قال تعالى: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} (الأنعام، 41) أو أجيب دعوة الداع إن وافق القضاء، أو أجيبه إن كانت الإجابة خيراً له، أو أجيبه إن لم يسأل محالاً. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل» قالوا: وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: يقول قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي فيتحسر عند ذلك فيدع، أي: يترك الدعاء» وقيل: هو عام، ومعنى قوله أجيب أي: أسمع ويقال: ليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة، فأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب السيد عبده، أو الوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله، فالإجابة لا محالة عند حصول الدعوة، وقيل: معنى الآية: أنه لا يخيب دعاءه، فإن قدر له ما سأل أعطاه، وإن لم يقدر له ادخر الثواب له في الآخرة، أو كف عنه به سوءاً لقوله صلى الله عليه وسلم «ما على الأرض رجل مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء بمثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» . وقيل: إنّ الله يجيب دعوة المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته، ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته. وقيل: إنّ للدعاء آداباً وشرائط، وهي أسباب الإجابة، فمن استكملها كان من أهل الإجابة، ومن أخلّ بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الجواب. {فليستجيبوا لي} إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني بمهماتهم، وقوله تعالى: {وليؤمنوا بي} أمر بالثبات والمداومة على الإيمان {لعلهم} أي: لكي {يرشدون} والرشد إصابة الحق. أي: الليلة التي تصبحون منها صائمين {الرفث إلى نسائكم} الرفث: كناية عن الجماع؛ لأنه لا يكاد يخلو عن رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، كلفظ الوطء والجماع، فإنه يجب أن يكنى عنه بلازم من لوازمه كالرفث وعُدّي بإلى لتَضَمُّنه معنى الإفضاء، وكني عن الجماع هنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} () استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، ولذلك سماه فيما يأتي خيانة قال: ابن عباس رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 عنهما إنّ الله تعالى حيّ كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول، فالرفث إنما عني به الجماع، وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء، قال أهل التفسير: كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والنساء إلى أوان العشاء الآخرة، أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة، ثم إنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسوّلت لي نفسي، فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما كنت جديراً بذلك يا عمر» فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه هذه الآية، وفي تجويز المباشرة في جميع الليل دليل على جواز تأخير الغسل إلى الفجر وصحة صوم الصبح جنباً. {هن لباس} أي: سكن {لكم وأنتم لباس} أي: سكن {لهنّ} كما قال تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكنإليها} (الأعراف، 189) وكما قيل: لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقيل: سمي كل واحد من الزوجين لباساً؛ لتجرّدهما عند النوم وتعانقهما واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد من الزوجين لصاحبه كالثوب الذي يلبسه. قال الجعدي: *إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا* والضجيع: المضاجع، وما زائدة، وثنى عطفها: أمال شقها، وتثنت مالت، والشاهد في قوله: فكانت عليه لباساً وقيل: إنّ كلاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور، كما جاء في الخبر: «من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه. {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} أي: تظلمونها بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب بالمجامعة بعد العشاء كما وقع ذلك لعمر وغيره، وقال البراء: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله هذه الآية. {فتاب عليكم} أي: قبل توبتكم {وعفا عنكم} أي: محا ذنوبكم، ولم يمل أحد ألف عفا لأنه واوي {فالآن} أي إذا نسخ عنكم التحريم {باشروهن} أي: جامعوهنّ حلالاً، وسمى المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهما بصاحبه {وابتغوا} أي: واطلبوا {ما كتب الله لكم} أي: ما قسم لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي: لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، أو قصد العفة، وقال مجاهد: ابتغوا الولد فإن لم تلد هذه فهذه، وقال مقاتل: وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع. في اللوح المحفوظ، وقيل: وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم وقيل: هو نهي عن العزل لأنه في الحرائر. فقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} أي: الصادق، نزل في رجل من الأنصار، قال عكرمة: اسمه أبو قيس، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، فقال لامرأته: قدّمي الطعام وأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً، سخناً فأخذت تعمل له في شيء وكان في ابتداء الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 من صلى العشاء أو نام قبلها حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هو قد نام وكان قد أعيا وكلّ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، فأصبح صائماً مجهوداً فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «يا أبا قيس مالك أمسيت طليحاً، فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية» . وقد شبّه سبحانه وتعالى أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وما يمتدّ معه من غبش الليل بخيطين أبيض وأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله: من الفجر عن بيان الخيط الأسود؛ لدلالته عليه ويصح أن تكون من للتبعيض، فإنما يبدو بعض الفجر، وعلى كل منهما فهي مع مدخولها في محل الحال، والمعنى على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضاً من الفجر وعلى البيان حال كونه هو الفجر. فإن قيل: كيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أقوم من الليل فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال: «إن كان وسادك إذاً لعريضاً» وروي: «إنك لعريض القفا إنما ذاك بياض النهار من الليل» أجيب: بأنه غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه؛ لأنه مما يستدل به على بلادة الرجل وقلة فطنته، وقال سهل بن سعد الساعدي نزلت ولم ينزل من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله تعالى بعد ذلك من الفجر. فإن قيل: كيف جاز فعل ذلك في رمضان مع تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد؟ أجيب: بأنّ ذلك كان قبل دخول رمضان، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز، واكتفى أوّلاً باشتهارهما في ذلك، ثم صرح بالبيان لمَّا التبس على بعضهم. {ثم أتموا الصيام} من الفجر {إلى الليل} أي: إلى دخوله بغروب الشمس، كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» أي: دخل وقت إفطاره. تنبيه: إنما قدّرت في الآية الكريمة من الفجر ليدل على عدم جواز النية في النهار في صوم رمضان كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ ولأنّ إلى يكون المغيا بها ينقضي شيئاً فشيئاً، والإتمام فعل الجزء الأخير فقط، وهو ينقضي كذلك، وفي الآية دليل على نفي الوصال؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه، وما بعدها يخالف ما قبلها. {ولا تباشروهنّ} أي: نساءكم {وأنتم عاكفون} أي: مقيمون {في المساجد} بنية الاعتكاف، والمراد بالمباشرة الوطء، والآية نزلت في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها، ثم اغتسل ثم يرجع إلى المسجد، فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم، وفيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد، وأن يكون في المسجد لا في غيره؛ إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها، وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضاً منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فيها، فتعين كونها شرطاً لصحة الاعتكاف، وأنّ الوطء محرّم في الاعتكاف ويفسده؛ لأنّ النهي في العادات يوجب الفساد، أما ما دون الجماع من المباشرات فإن كان بشهوة فحرام، ولا يبطل اعتكافه إن لم ينزل، فإن أنزل وكان بلا حائل فكالجماع وإلا فلا، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إليّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» {تلك} الأحكام المذكورة وهي قوله تعالى: {الآن باشروهنّ} إلى قوله تعالى {في المساجد} {حدود الله} حدها لعذابه ليقفوا عندها {فلا تقربوها} نهى تعالى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل؛ لئلا يداني الباطل فضلاً أن يتخطى عنه، وهذا أبلغ من قوله تعالى في آية أخرى {فلا تعتدوها} (البقرة، 229) ، لكن في ذلك مأمورات وهي لا ينهى عن قربانها، فالمراد منها أضدادها بناء على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو مستلزم له؛ ليصح النهي عن قربانها، ويجوز أن يراد بحدود الله محارمه ونواهيه. وعلى هذا فالنهي عن القربان ظاهر كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ لكل ملك حمى، وإن حمى الله في أرضه محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» رواه الشيخان {كذلك} أي: كما بيّن لكم ما ذكر {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} أي: لكي يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي فينجوا من العذاب. {ولا تأكلوا أموالكم بينكم} أي: لا يأكل بعضهم مال بعض {بالباطل} أي: الحرام شرعاً كالغصب والسرقة وقوله تعالى: {وتدلوا} مجزوم داخل في حكم النهي، أو منصوب بإضمار، أن والإدلاء الإلقاء أي: ولا تلقوا {بها} أي: بحكومتها وبالأموال رشوة {إلى الحكام لتأكلوا} بالتحاكم {فريقاً} أي: طائفة {من أموال الناس بالإثم} أي: بما يوجب إثماً كشهادة الزور واليمين الكاذبة أو متلبس بالإثم، فالباء إمّا للسببية فتكون متعلقة بتأكلوا، أو للمصاحبة فتتعلق بمحذوف، وتكون مع مدخولها حالاً من فاعل تأكلوا {وأنتم تعلمون} أنكم مبطلون فإن ارتكاب المعصية مع العلم أقبح. روي «أن عبدان الحضرمي ادّعى على امرىء القيس الكندي قطعة أرض ولم يكن له بينة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهمّ بالحلف فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} (آل عمران، 77) فارتدع عن اليمين، وسلّم الأرض لعبدان» فنزلت، وهو دليل على أنّ حكم القاضي لا ينفذ في باطن الأمر وفيه خلاف ظاهر، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لخصمين اختصما إليه: «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون لديّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته ـ أي: أقوم وأقدر ـ عليها من بعض فأقضي له على ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار» قبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي، فقال: «اذهبا وتواخيا ثم استهما ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه» و «سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط ثم يزيد حتى يمتلىء نوراً ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقاً كما بدا ولا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل: {يسئلونك} يا محمد {عن الأهلة} جمع هلال مثل رداء وأردية، والهلال اسم له: أوّل الليلة الأولى والثانية والثالثة، وبعدها يسمى قمراً، وهنا سماه بأوّل حالاته لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم: استهل الصبيّ إذا صرخ حين يولد {قل} لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 {هي مواقيت} جمع ميقات أي: معالم {للناس} يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصيامهم وإفطارهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدّة حملهنّ وغير ذلك. وقوله تعالى: {والحج} عطف على الناس أي: يعلمون بها وقته أداء وقضاء، هذه هي الحكمة الظاهرة في ذلك، ولهذا خالف بين الأهلة وبين الشمس فلو استمرّت الأهلة على حالة لم يعرف حال ما ذكر، ولما كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ويدخل منه ويخرج، أو يتخذ سلماً فيه فيصعد منه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً، إلا أن يكون من الحمس وهم: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وبنو عامر بن صعصعة، وبنو نضر بن معاوية، سموا حمساً لشدّتهم في دينهم، والحماسة: الشدّة والصلاة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم دخلت من الباب وأنت محرم؟» قال: رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإني أحمس» فقال الرجل: فإن كنت أحمس فإني أحمس رضيت بهداك وبسمتك ودينك فأنزل الله تعالى {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر} أي: ذا البر {من اتقى} الله، بترك مخالفته، ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنهم سألوا عن الحكمة في اختلال حال القمر وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها أو أنه تعالى لما ذكر أنها مواقيت الحج، وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد، وأنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوّة وتركوا السؤال عما يعنيهم وهو معرفة الحلال والحرام، ويختص بعلم النبوّة، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أنّ اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك، ويهتموا بالعلم بها، أو على أنّ المراد به التنبيه على تعكيسهم السؤال وتمثيلهم بحال من ترك باب البيت، ودخل من ورائه، والمعنى وليس البرّ أن تعكسوا في مسائلكم ولكن من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله. {وائتوا البيوت من أبوابها} في الإحرام كغيره؛ إذ ليس في العدول برأ، وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها والمراد توطين النفوس وربط القلوب على أنّ جميع أفعال الله تعالى حكم وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه كما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. {واتقوا الله} في تغيير الأحكام {لعلكم تفلحون} لكي تفوزوا بالهدى والبرّ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيُوت بضمّ الباء حيث جاء معرفاً كان أو منكراً، وكسرها الباقون، ولا خلاف في وليس البرّ هنا، أنّ الراء مرفوعة للجميع، وقرأ نافع وابن عامر: ولكن بكسر النون مخففة ورفع الراء، والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الراء، ولما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 من البيت الحرام، وصالحوه على أن يرجع من قابل، فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم، والإحرام والشهر الحرام، وكره المسلمون ذلك نزل. {وقاتلوا} أي: جاهدوا {في سبيل الله} لإعلاء كلمته وإعزاز دينه {الذين يقاتلونكم} من الكفار {ولا تعتدوا} عليهم بالابتداء بالقتال {إنّ الله لا يحب المعتدين} أي: لا يريد بهم الخير؛ لأنه غاية المحبة إذ المحبة حقيقتها محال في حقه تعالى؛ لأنها ميل النفس، وسبب ذلك أنهم كانوا منعوا من قتال الكفار وأمروا بالصبر على أذاهم بقوله تعالى: {لتبلون في أموالكم} (آل عمران، 186) الآية، ثم أمروا به إذا ابتدؤوا به بهذه الآية، ثم أبيح لهم ابتداؤه في غير الأشهر الحرم بقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} (التوبة، 5) الآية، ثم أمروا به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي: وجدتموهم في حل أو حرم، وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الثاء بخلاف عنه، حيث جاء {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي: من مكة وقد فعل ذلك بمن لم يسلم عام الفتح {والفتنة} أي: الشرك منهم {أشدّ} أي: أعظم {من القتل} لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان: كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. قيل لبعض الحكماء: ما أشدّ من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت. وقال القائل: *لقتلٌ بحد السيف أهون موقعاً ... على النفس من قتل بحدّ فراق وقيل: الفتنة عذاب الآخرة كما قال تعالى: {ذوقوا فتنتكم} (الذاريات، 14) . {ولا تقاتلوهم} أي: لا تبدؤوهم {عند المسجد الحرام} أي: في الحرم {حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم} فيه {فاقتلوهم} فيه فإنهم هم الذين هتكوا حرمته، وقرأ حمزة والكسائي: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم بفتح التاء الفوقية من تقتلوهم والياء من يقتلوكم وسكون القاف ولا ألف بعد القاف وضم التاء فيهما، والباقون بفتح التاء والياء وفتح القاف وبعد القاف ألف وكسر التاء، وأمّا فإن قاتلوكم فحذف حمزة والكسائي الألف وأثبتها الباقون، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي: حتى يقتلوا بعضكم، جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم كقول بعض العرب: قتلنا بني أسد أي: بعضهم، وقال بعضهم: وإن تقتلونا نقتلكم. {كذلك} أي: القتل والإخراج {جزاء الكافرين} أي: يفعل بهم مثل ما فعلوا {فإن انتهوا} عن الكفر وأسلموا {فإنّ الله غفور} يغفر لهم ما قد سلف {رحيم} بهم فلا يؤاخذ بذلك. {وقاتلوهم حتى لا تكون} أي: توجد {فتنة} أي: شرك {ويكون الدين} أي: العبادة {} وحده لا يعبدون سواه {فإن انتهوا} عن الشرك فلا تعتدوا عليهم. دل على هذا {فلا عدوان} أي: اعتداء بقتل أو غيره {إلا على الظالمين} أي: فلا تعتدوا على المنتهين؛ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم والفاء الأولى للتعظيم والثانية للجزاء وسمي جزاء، الظالمين عدواناً للمشاكلة كقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} . {الشهر الحرام} أي: المحرم مقابل {بالشهر الحرام} وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج معتمراً في ذي القعدة سنة ست، وصدّه المشركون عن البيت بالحديبية، ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع واستعظم المسلمون قتالهم في الشهر الحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 نزلت هذه الآية، أي: هذا الشهر بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به. وقوله تعالى: {والحرمات قصاص} احتجاج عليه أي: كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص، وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، أي: فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليه عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، أي: كما قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم} بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} سمي الجزاء باسم الاعتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40) . {واتقوا الله} في الانتصار لأنفسكم منهم، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم {واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصر فيحرسهم ويصلح شأنهم. {وأنفقوا في سبيل الله} أي: طاعته سواء الجهاد وغيره {ولا تلقوا بأيديكم} أي: بأنفسكم، عبر بالأيدي عن الأنفس كقوله تعالى: {بما كسبت أيديكم} (الشورى، 30) أي: بما كسبتم والباء زائدة {إلى التهلكة} أي: الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو الإسراف فيها، حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن ترك الزور الذي هو تقوية للعدوّ. روي أنّ رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهلنا وأولادنا وأموالنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها رجعنا إلى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية، فتوفي هناك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني: الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله، تعالى قال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليست لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك كما قال تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف، 87) {وأحسنوا} أي: بالنفقة وغيرها {إنّ الله يحب المحسنين} أي: يثيبهم. {وأتموا الحج والعمرة} أي: أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذٍ دليل على وجوبهما، إذ الأصل في الأمر الوجوب وما روي عن جابر أنه قال: «يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال: لا» معارض بما روي أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه: إني وجدت أي: علمت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً، فقال: هديت لسنة نبيك، ولا يقال إنه فسر وجدانهما مكتوبين بقوله: أهللت بهما؛ لأنه رتب الإهلال بهما على الوجدان، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس وقيل: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، روي ذلك عن عليّ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وقيل: إن تفرد لكل واحد منهما سفراً، وقيل: أن تكون النفقة حلالاً وقيل: أن تخلصهما للعبادة ولا تشوبهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية. {فإن أحصرتم} أي: منعتم عن إتمامهما يقال: حصره وأحصره العدوّ إذا منعه قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 تعالى {الذين أحصروا في سبيل الله} (البقرة، 273) وقال القائل: *وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا إن أحصرتك شغول* لكن الأشهر: أن يقال في العدوّ وحصره وفي المرض أحصره، والمراد هنا حصر العدوّ لقوله تعالى: {فإذا أمنتم} ولنزول الآية في الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا حصر إلا حصر العدوّ، أما ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» فمحمول على من شرطه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لضباعة بنت الزبير: «حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» ومحِلي بكسر الحاء: محل الحبس والحصر ويجوز أن يكون مصدر اسمياً. {فما استيسر من الهدي} أي: فإن أردتم التحلل فعليكم ما استيسر أو فالواجب، أو فأهدوا ما استيسر من الهدي، وهو بدنة أو بقرة أو سبع من أحدهما أو شاة يذبحها، حيث أحصر في حل أو حرم عند الأكثر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل وقيل: لا بدّ أن يبعث بها إلى الحرم لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله} (البقرة، 196) أي: لا تحلقوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي: مكانه الذي يجب أن يذبح فيه، وحمل الأوّلون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلاً كان أو حرماً، لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجاً من خلاف أبي حنيفة واقتصاره تعالى على الهدي دليل عدم القضاء كما قاله الشافعيّ، وذهب أبو حنيفة إلى وجوب القضاء، ولا بدّ من نيّة التحلل عند الذبح أو الحلق أو التقصير بعده مع نية التحلل، وبذلك يحصل التحلل والمحل بالكسر يطلق للمكان والزمان. {فمن كان منكم مريضاً} أي: مرضاً يحوجه إلى الحلق {أو به أذى من رأسه} كقمل وصداع فحلق في الإحرام {ففدية} أي: فعليه فدية إن حلق ولو بعض شعر رأسه، ثلاث شعرات فأكثر ولاء {من صيام} وهو ثلاثة أيام {أو صدقة} وهي ثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين، لكل واحد نصف صاع {أو نسك} وهو بدنة أو بقرة أو سبع واحد منهما أو شاة، وعن كعب بن عجرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «لعلك آذاك هوامّ رأسك قال: نعم يا رسول الله قال: احلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة» وكان كعب يقول: أنزلت فيّ هذه الآية، وللتخيير وألحق بالمعذور من حلق لغير عذر؛ لأنه أولى بالكفارة، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب والدهن واللبس لعذر أو غيره. {فإذا أمنتم} من العدوّ بأن ذهب أو كنتم في حال سعة وأمن {فمن تمتع بالعمرة} أي: بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام {إلى الحج} أي: الإحرام به، بأن يكون أحرم بها في أشهره {فما استيسر} أي: فعليه ما تيسر {من الهدي} وهو ما تقدّم بذبحه بعد الإحرام بالحج ويجوز تقديمه على الإحرام به بعد الفراغ من العمرة {فمن لم يجد} أي: الهدي لفقده أو فقد ثمنه {فصيام} أي: فعليه صيام {ثلاثة أيام في الحج} أي: في حال إحرامه به، ولا يجوز له أن يقدّمه على الإحرام؛ لأنه عبادة بدنية فلا يجوز تقديمه على وقته ولا تأخيره عنه، والأفضل أن يحرم قبل السادس لكراهة صوم عرفة، ولا يجب عليه أن يحرم قبل زمن يسع الصوم بل يستحب له لكن إذا أحرم وجب عليه الصوم، ولا يجوز أن يصوم يوم النحر ولا أيام التشريق على أصح قولي الشافعيّ وهو ما عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الأكثر. {وسبعة} من الأيام {إذا رجعتم} إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل: إذا فرغتم من أعمال الحج وفيه النفقات عن الغيبة، وفائدة قوله تعالى: {تلك عشرة} أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى أو كقولك جالس الحسن وابن سيرين، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً؛ ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب. وفي أمثال العرب: علمان خير من علم، وأنّ المراد بالسبعة العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما، وقوله تعالى: {كاملة} صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد بأن لا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها كما تقول للرجل ـ إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزلة ـ الله الله لا تقصر. أو مبينة كمال العشرة فإنه أوّل عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها وقيل: كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي، بحيث لا يقصر ثواب الصوم عن ثواب الهدي. {ذلك} أي: الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وهم من مساكنهم دون مرحلتين من الحرم لقربهم منه والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره قال تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} (الأعراف، 163) أي: قريبة منه، وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن وتمتع فعليه ذلك، وهو أصح قولي الشافعيّ والثاني لا، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن: وهو من يحرم بالعمرة والحج معاً أو يدخل الحج عليها قبل الطواف. {واتقوا} بالمحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصاً في الحج {واعلموا أنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه ليكون عملكم بشديد عقابه لطفاً لكم في التقوى. {الحج أشهر} أي: وقته كقولك البرد شهران {معلومات} وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عندنا، والعشر كله عند أبي حنيفة وذو الحجة كله عند مالك، وعلى الأوّلين إنما سمي شهرين وبعض شهر أشهراً إقامة للبعض مقام الكلّ، وإطلاقاً للجمع على ما فوق الواحد كما في قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} (التحريم، 4) لحفصة وعائشة. {فمن فرض} على نفسه {فيهنّ الحج} بالإحرام به عندنا أو بالتلبية أو بسوق الهدي عند أبي حنيفة، وفيه دليل على أنّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج، وهو قول ابن عباس وجماعة من الصحابة، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعيّ، وقال: ينعقد إحرامه عمرة؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأشهر بفرض الحج فيها، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة، كما أنه تعالى علق الصلاة بالمواقيت، ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لم ينعقد إحرامه عن الفرض، وإنما انعقد عمرة لأنّ الإحرام شديد التعلق، وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة، أما العمرة فجميع السنة وقت لها إلا أن يكون عليه بقية من أعمال الحج كالرمي. {فلا رفث} أي: جماع فيه كما قال ابن عباس وجماعة من الصحابة، وقيل: الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، وقيل: هو الفحش والقول القبيح. {ولا فسوق} أي: ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات وقيل: هو السباب والتنابز بالألقاب {ولا جدال} أي: خصام مع الخدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والرفقة وغيرهما {في الحج} أي: في أيامه، فنفى الثلاث على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون وما كان منها مستقبحاً في نفسه، ففي الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب بقراءة القرآن، وهو مدّ الصوت وتحسينه بحيث يخرج الحروف عن هيأتها، فإنه يقبح في كل كلام لكنه في قراءة القرآن أقبح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الثاء من رفث والقاف من فسوق، والتنوين فيهما على معنى لا يكون رفث ولا فسوق والباقون بنصبهما ولا خلاف في {ولا جدال} فالجميع بالنصب ولا تنوين على معنى الإخبار، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج، وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج، واستدل على أنّ المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه» فإنه لم يذكر الجدال {وما تفعلوا من خير} كصدقة {يعلمه الله} فيه حث على الخير حيث عقب به النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق: البر والتقوى، ومكان الجدال: الوفاق والأخلاق الجميلة {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى} أي: وتزوّدوا امعادكم التقوى فإنها خير زاد، روى البخاري وغيره أنّ أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون: نحن متوكلون، ونحن نحج بيت الله تعالى أفلا يطعمنا فيكونون كلاً على الناس فيسألونهم، وربما يفضي الحال بهم إلى النهب والغصب، فقال الله جل ذكره: {وتزوّدوا} أي: ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم، قال أهل التفسير: الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها، {فإن خير الزاد التقوى} أي: ما يتقي به سؤال الناس وغيره. {واتقون يا أولي الألباب} أي: يا ذوي العقول فإن قضية اللب خشية الله تعالى وتقواه وحثهم على التقوى، ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه، وهو مقتضى العقل العريّ عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب. {س2ش198/ش200 لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا? فَضْ? مِّن رَّبِّكُمْ? فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا? اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ? وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ? لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا? مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا? اللَّهَ? إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا? اللَّهَ كَذِكْرِكُمْءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا? فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ? فِى ا?خِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} {ليس عليكم جناح} في {أن تبتغوا} أي: تطلبوا {فضلاً} أي: رزقاً {من ربكم} بالتجارة، في الحج نزلت ردعاً لناس من العرب كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج، وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشراء، فلم تقم لهم سوق، ويسمون من يخرج بالتجارة: الداج ويقولون: هؤلاء الداج وليسوا بالحاج. وروى البخاري: أنه كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية، يتجرون فيها في أيام الموسم، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال: وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج. وعكاظ سوق لقيس ومجنة وهي بفتح الميم أشهر من كسرها وبفتح الجيم وتشديد النون سوق لكنانة بمرّ الظهران وذو المجاز وهو بفتح الميم وبالزاي سوق لهذيل. {فإذا أفضتم} دفعتم {من عرفات} وأصله أفضتم أنفسكم، فحذف المفعول كما حذفوه من دفعوا من موضع كذا، أي: دفعوا أنفسهم، واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة، فقال عطاء: كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 عليه الصلاة والسلام المناسك ويقول: عرفت فيقول: عرفت فسمي المكان لذلك عرفات واليوم عرفة. وقال الضحاك: كان آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط وقع في الهند وحوّاء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا فسمي المكان واليوم بما ذكر. وقال السدي: لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوا بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات ونعتها له، فلما بلغ الجمرة الأولى استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر، فطار ووقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر، فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي المكان واليوم بما ذكر. فإن قيل: هلا منعت الصرف وفيها السببان: العلمية والتأنيث أجيب: بأن التأنيث لا يخلو: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وأما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع التأنيث ولا يصح تقدير التاء فيها لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما، لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي فيها هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها، وفي الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ إذا تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لا بدّ منه، فكأنه قيل بعد إفاضتكم من عرفات التي لا بدّ منها اذكروا الله، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها، فوجب أن يكون الوقوف بها واجباً، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج» .k {فاذكروا الله} بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات وقيل: بصلاة المغرب والعشاء {عند المشعر الحرام} وهو جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح، وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم وقف به يذكر الله تعالى ويدعو حتى أسفر جدّاً» رواه مسلم. وقال جابر «دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بالمزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفاً حتى أصبح جداً» . وقوله تعالى: {عند المشعر الحرام} معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ويسمى مشعراً من الشعار وهي: العلامة؛ لأنه من معالم الحج، ووصف بالحرام لحرمته وتسمى المزدلفة جمعاً؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون، وقيل: سميت جمعاً لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء عليهما الصلاة والسلام وازدلف إليها أي: دنا منها وقيل: وصفت بفعل أهلها لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي: يتقرّبون بالوقوف فيها. {واذكروه كما هداكم} لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل. {وإن كنتم من قبله} أي: الهدى {لمن الضالين} أي: الجاهلين بالإيمان والطاعة، وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وقيل: إن هي النافية واللام بمعنى إلا كقوله تعالى: {وإن نظنك لمن الكاذبين} (الشعراء، 186) أي: ما نظنك إلا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الكاذبين. {ثم أفيضوا} يا قريش {من حيث أفاض الناس} وذلك أنهم وحلفاءهم ومن دان بدينهم وهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعاً عليهم، ويقولون: نحن أهل الله وقطان حرمه، ولا نخرج منه، فأمروا أن يساووهم، وثم للترتيب في الذكر، وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: فمن فرض فيهن الجمع فلارفت ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وقيل: لتفاوت ما بين الإفاضتين أي: لتراخي الثانية عن الأولى رتبة إذ الأولى هي الصواب والثانية خطأ كما في قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإنك تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم وإلى غيره وبعد ما بينهما وقيل: ثم بمعنى الواو كما في قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} (البلد، 17) {واستغفروا الله} من ذنوبكم في تغيير المناسك وغيره {إنّ الله غفور رحيم} يغفر ذنوب المستغفر وينعم عليه. {فإذا قضيتم} أي: أديتم {مناسككم} أي: عبادات حجكم كأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى، وأدغم أبو عمرو الكاف في الكاف بخلاف عنه، ولم يدغم مثلين من كلمة في القرآن إلا هنا وفي سورة المدثر وهو قوله تعالى: {ما سلككم في سقر} (المدثر، 42) . {فاذكروا الله} بالتكبير والتحميد والثناء عليه {كذكركم آباءكم} وذلك أنّ العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أنّ الصبيّ أولّ ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ولا يذكر غيره، فقال الله تعالى: {فاذكروا الله} لا غير كذكر الصبيّ أباه. {أو أشد ذكراً} من ذكركم إياهم ونصب أشدّ على الحال المنصوب باذكروا إذ لو تأخر عنه لكان صفة له {فمن الناس من يقول ربنا آتنا} نصيبنا {في الدنيا} وهم المشركون كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا، يقولون: اللهمّ أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً وكان الرجل يقوم فيقول: اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الفئة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته {وما له في الآخرة من خلاق} أي: نصيب لأنّ همَّه مقصور على الدنيا. {س2ش201/ش204 وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ا?خِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُو?لَا?ئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا?? وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا? اللَّهَ فِى? أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ? فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَ? إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَ? إِثْمَ عَلَيْهِ? لِمَنِ اتَّقَى? وَاتَّقُوا? اللَّهَ وَاعْلَمُو?ا? أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ? فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ? وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} {ومنهم} أي: الناس {من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} بعدم دخولها، وهم المؤمنون، واختلفوا في معنى الحسنتين فقال عليّ رضي الله تعالى عنه: الحسنة في الدنيا: المرأة الصالحة، والحسنة في الآخرة: الجنة، يدل له قوله صلى الله عليه وسلم «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» . وروي عنه أيضاً أنه قال: «الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء وعذاب النار المرأة السوء» . وقال الحسن: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، والحسنة في الآخرة الجنة. وقال السدي: الحسنة في الدنيا الرزق الحلال، والحسنة في الآخرة المغفرة والثواب، وأدغم أبو عمرو اللام في الراء بخلاف عنه. {أولئك} الداعون بالحسنتين {لهم نصيب} أي: ثواب {مما كسبوا} أي: من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، أو من أجل ما كسبوا كقوله تعالى: {مما خطاياهم أغرقوا} (نوح، 25) ، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين جميعاً، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا {وا سريع الحساب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أي: إذا حاسب فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا روية فكر، قال الحسن: أسرع من لمح البصر، وفي الحديث: «يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا» . {واذكروا الله} أي: كبروه أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها، {في أيام معدودات} أي: أيام التشريق الثلاثة وسميت معدودات لقلتهن كقوله تعالى: {دراهم معدودة} (يوسف، 20) ، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة آخرهن يوم النحر، والتكبير في الأيام المعدودات عقب كل صلاة ولو فائتة ونافلة مشروع في حق الحاج وغيره، لكن غير الحاج يكبر من صبح يوم عرفة إلى عقب عصر آخر أيام التشريق للاتباع، رواه الحاكم وصحح إسناده. وأما الحاج فيكبر من ظهر يوم النحر لأنها أوّل صلاته بمنى، ولا يسن التكبير عقب صلاة عيد الفطر لعدم وروده. {فمن تعجل} أي: استعجل بالنفر من منى {في يومين} أي: في ثاني أيام التشريق بعد رمي جماره بعد الزوال عند الشافعيّ وأصحابه قال في «الكشاف» وعند أبي حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر {فلا إثم عليه} بالتعجيل {ومن تأخر} حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره بعد زواله عندنا، أو قال في «الكشاف» : يجوز تقديم الرمي على الزوال عند أبي حنيفة {فلا إثم عليه} بذلك أي: هم مخيرون في ذلك. فإن قيل: أليس التأخير أفضل؟ أجيب: بأنّ التخيير يقع بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل عند عدم المشقة، وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا فريقين: منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً، فورد القرآن بنفي الإثم عنهما جميعاً، وذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر {لمن اتقى} الله تعالى في حجه، لأنه الحاجّ على الحقيقة عند الله تعالى، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» . {واتقوا الله} في مجامع أموركم ليعبأ بكم {واعلموا أنكم إليه تحشرون} في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. {ومن الناس من يعجبك قوله} أي: يعظم في نفسك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس، وهو الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة واسمه أبيّ وسمي الأخنس، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان منافقاً حلو المنظر، حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم يحلف أنه مؤمن به ومحب له، ويقول: يعلم الله أني صادق، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه. وقوله تعالى: {في الحياة الدنيا} متعلق بالقول، أي: يعجبك ما يقول في أمور الدنيا وأسباب المعاش أو في معنى الدنيا، لأن ادعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، كما يراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول صلى الله عليه وسلم فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة أو يعجبك قوله في الحياة الدنيا حلاوة وفصاحة، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الدهشة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه. {ويشهد الله على ما في قلبه} أنه موافق لكلامه {وهو ألدّ الخصام} أي: شديد الخصومة لك ولأتباعك لعداوته لك وقال الحسن: ألدّ الخصام أي: كاذب بالقول، وقال قتادة: شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. وفي الحديث: «أن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم» . {س2ش205/ش210 وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى ا?رْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ? وَاللَّهُ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِا?ثْمِ? فَحَسْبُهُ? جَهَنَّمُ? وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ? وَاللَّهُ رَءُوفُ? بِالْعِبَادِ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? ادْخُلُوا? فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَتَتَّبِعُوا? خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ? إِنَّهُ? لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُم مِّن? بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُو?ا? أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِ? أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَا??ـ?ِكَةُ وَقُضِىَ ا?مْرُ? وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ ا?مُورُ} {وإذا تولى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أي: انصرف عنك بعد إلانة القول وحلاوة المنطق {سعى} أي: مشى {في الأرض ليفسد فيها} قال ابن جرير بقطع الرحم وسفك دماء المسلمين {ويهلك الحرث والنسل} وذلك أنّ الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلاً فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم، وقيل: وإذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل، وحكى الزجاج عن قوم: أنّ الحرث النساء والنسل الأولاد قال: وهذا ليس بمنكر لأنّ المرأة تسمى حرثاً أي: ويدل له قوله تعالى: {فائتوا حرثكم أنى شئتم} (البقرة، 223) {وا لا يحب الفساد} أي: لا يرضى به؛ لأنّ المحبة وهي ميل القلب محالة في حقه تعالى: فهي مستعملة في حقه تعالى في معنى الرضا. {وإذا قيل له اتق الله} في فعلك {أخذته العزة} أي: حملته الأنفة والحمية على العمل {بالإثم} الذي يؤمر باتقائه {فحسبه} أي: كافيه {جهنم} جزاء وعذاباً، وهي علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار، وسميت بذلك لبعد قعرها، وأصلها من الجهم وهو الكراهة والغلظ فالنون زائدة، وقيل: معرّب نقل من العجمية إلى العربية وتصرف فيه، وأصله كهنام أبدلت الكاف جيماً وأسقطت الألف وقوله تعالى: {ولبئس المهاد} جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به تقديره: جهنم، والمهاد الفراش. {ومن الناس من يشري} أي: يبيع {نفسه} أي: يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل {ابتغاء مرضاة الله} أي: طلباً لرضاه، وقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم، فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا وكان شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله، ثم خرج إلى المدينة، فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في رجال فقال له أبو بكر: «ربح بيعك أبا يحيى» فقال: وما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك قرآناً وقرأ عليه هذه الآية، فعلى هذا يكون يشري بمعنى يشتري لا بمعنى يبيع ويبذل. وقيل: نزلت في الزبير والمقداد بن الأسود وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكراً منهم فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة: عشرة ومن جملتهم خبيب فقتلوهم وأسروا خبيباً قال آسره: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، والله وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثوق بالحديد وما بمكة من ثمرة إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً، ثم أرادوا قتله فخرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال: دعوني أصلي ركعتين فتركوه حتى صلاهما ثم قال: لولا أخشى أن تحسبوا أنّ ما بي من جزع لزدت اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول: *ولست أبالي حين أُقْتَل مسلماً ... على أيّ شق كان في الله مصرعي* *وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع* ثم صلبوه حياً فقال: اللهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، ثم قام عقبة بن الحارث فقتله فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال: «أيكم ينزل خبيباً عن خشبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وله الجنة؟» . فقال الزبير: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد، فخرجا يسيران بالليل ويكمنان بالنهار حتى وصلا إليه ليلاً، وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام فأنزله الزبير وحمله على فرسه وسارا فانتبه الكفار فلم يجدوه فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض، ثم رفع الزبير العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد بن الأسود، فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده، فقال: يا محمد إن الملائكة لتتباهى بهذين من أصحابك فنزلت فيهما هذه الآية {وا رؤوف بالعباد} حيث أرشدهم لما فيه رضاه. ونزل في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه: {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم} أي: الإسلام وقوله تعالى: {كافة} حال من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، كما قال القائل: *أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع* *في السلم تأخذ منا ما رضيت به ... والحرب تكفيك من أنفاسها جزع* أي ادخلوا في جميع شرائعه، وذلك أنهم يعظمون السبت، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأمروا أن يدخلوا في جميع شرائعه. {ولا تتبعوا خطوات} أي: طرق (الشيطان) ، أي تزيينه من تحريم السبت ولحوم الإبل وألبانها. وقرأ نافع وابن كثير والكسائي: السَّلْم بفتح السين، والباقون بكسرها، وتقدم الكلام في خطوات لابن عامر، وقنبل وحفص والكسائي بضم الطاء {إنه لكم عدوّ مبين} ظاهر العداوة. {فإن زللتم} أي: مِلْتم عن الدخول في جميعه {من بعد ما جاءتكم البينات} أي: الحجج الظاهرة أنه حق {فاعلموا أن الله عزيز} لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم {حكيم} في صنعه. تنبيه: قول البيضاوي: حكيم لا ينتقم إلا بحق تبع فيه الزمخشري، وهو مذهب المعتزلة فإنهم يقولون: لا ينتقم إلا بقدر ما يستحقه العاصي، ومذهب أهل السنة أنه ينتقم ويعاقب من شاء بما شاء وإن كان مطيعاً؛ إذ هو متصرّف في ملكه يفعل ما يشاء بمن شاء وإن لم يقع منه الانتقام إلا ممن أساء. وروي أنّ قارئاً قرأ غفور رحيم بدل عزيز حكيم فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء عليه. قوله تعالى: {هل ينظرون} استفهام في معنى النفي أي: ما ينظرون {إلا أن يأتيهم الله} أي: أمره أو بأسه كقوله تعالى: {أو يأتي أمر ربك} (النحل، 33) أي: عذابه وقوله تعالى: {جاءهم بأسنا} (الأنعام، 43) أو {يأتيهم الله ببأسه} (،) فحذف المأتيّ به للدلالة عليه بقوله تعالى: {إن الله عزيز حكيم} . {في ظلل} جمع ظلة وهي ما أظلك {من الغمام} أي: من السحاب الأبيض سمي غماماً لأنه يغم أي: يستر، وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة وهي نزول المطر فإذا جاء منه العذاب كان أفظع؛ لأنّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير. {و} تأتيهم {الملائكة} فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه. قال البغويّ: والأولى في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى، ويعتقد أن الله تعالى منزه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 سمات الحوادث وعلى ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة انتهى. وأما أئمة الخلف فإنهم يؤوّلون هذه الآية بنحو ما أوّلنا به وأمثالها، بحسب المقام وهو أحكم، ومذهب السلف أسلم، وكان مكحول ومالك والليث وأحمد يقولون في هذا وأمثاله: أمرّوها كما جاءت بلا كيف. {وقضي الأمر} أي: أمر هلاكهم وفرغ منهم ووضع الماضي موضع المستقبل لدنوّه وتيقن وقوعه {وإلى الله ترجع الأمور} في الآخرة فيجازيهم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضمّ التاء وفتح الجيم وقوله تعالى: {س2ش211/ش214 سَلْ بَنِى? إِسْرَا?ءِيلَ كَمْءَاتَيْنَاهُم مِّنْءَايَة? بَيِّنَةٍ? وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن? بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا? الْحياةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُوا? وَالَّذِينَ اتَّقَوْا? فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ? وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّ?نَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا? فِيهِ? وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِs الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن? بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيَ?ابَيْنَهُمْ? فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا? لِمَا اخْتَلَفُوا? فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ?? وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا? الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا? مِن قَبْلِكُم? مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوا? حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَءَامَنُوا? مَعَهُ? مَتَى نَصْرُ اللَّهِ? أَ? إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} {سل} أمر للرسول أو لكل أحد {بني إسرائيل} توبيخاً {كم آتيناهم} كم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني وهي ثاني مفعولي آتيناهم ومميزها {من آية} أي: معجزة {بينة} أي: ظاهرة في الدلالة على صدق من جاء بها كقلب العصا حية، وإبراء الأكمه والأبرص وفلق البحر وإنزل المنّ والسلوى فبدّلوها كفراً. {ومن يبدّل نعمة الله} أي: ما أنعم به عليه من الآيات لأنها سبب الهداية التي هي أجل النعم كفراً {من بعدما جاءته} أي: وصلته وتمكن من معرفتها {فإنّ الله شديد العقاب} فيعاقبه أشدّ عقوبة لأنه ارتكب أشدّ جريمة وهي التبديل. {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} أي: حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وأعرضوا عن غيرها، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى، إذ ما من شيء إلا وهو فاعله، وكل من الشيطان والقوّة الحيوانية، وما خلق الله فيها من الأمور البهيمية والأشياء الشهية مزين بالعرض، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل: نزلت في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه وكانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد {ويسخرون من الذين آمنوا} أي: يستهزئون بالفقراء من المؤمنين قال ابن عباس: أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم، وقال قتادة: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتنعمون في الدنيا، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم، وقال عطاء: نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال. {والذين اتقوا} أي: الشرك وهم هؤلاء الفقراء {فوقهم يوم القيامة} لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين، أو حالهم غالبة لحالهم؛ لأنهم في كرامة وهم في هوان أو هم غالبون عليهم متطاولون يضحكون منهم، كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا، ويرون الفضل لهم عليهم، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. روي عن أسامة بن زيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين، ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء، وإذا أهل الجدّ محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار» . وروي عن سهل سعد الساعدي أنه قال: مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» قال رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما رأيك في هذا؟» فقال: يا رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري ـ أي حقيق ـ إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا» . {وا يرزق من يشاء} في الدارين {بغير حساب} أي: رزقاً واسعاً بغير تقدير في الدنيا للكافر استدراجاً، كما وسع على قارون، وللمؤمن ابتلاء كما وسع على عبد الرحمن بن عوف، وفي الآخرة للمؤمن خاصة تفضلاً. {كان الناس أمّة واحدة} أي: متفقين على الحق. روي عن أبي العالية عن كعب قال: كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره، وأقرّوا بالعبودية أمّة واحدة مسلمين، ولم يكونوا أمّة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم، وقال الكلبي: هم أهل سفينة نوح، كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح، وقال قتادة وعكرمة: كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح، وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح، وقال مجاهد: أراد آدم وحده كان أمّة واحدة سمي الواحد بلفظ الجمع؛ لأنه أصل النسل وأبو البشر، ثم خلق الله حوّاء ونشر منهما الناس فكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل وهابيل فاختلفوا. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الناس على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمّة واحدة كافرين كلهم، فبعث الله، إبراهيم وغيره من النبيين عليهم السلام كما قال تعالى: {فبعث الله النبيين} أي: اختلفوا فبعث الله وإنما حذف لدلالة فيما اختلفوا فيه عليه، وجملة الأنبياء، كما رواه الإمام أحمد مرفوعاً في حديث ورد عن كعب «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر» والمذكور منهم في القرآن باسمه العلم الموضوع له ثمانية وعشرون نبياً، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسمعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، ولوط، وموسى، وهرون، وشعيب، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وذو الكفل، وأيوب، ويونس، ومحمد، عليهم أجمعين، وذو القرنين وعزير ولقمان على القول بنبوّة الثلاثة. {مبشرين} من آمن وأطاع بالجنة {ومنذرين} من كفر وعصى بالنار {وأنزل معهم الكتاب} المراد به الجنس فهو بمعنى الكتب لكنه تعالى لم ينزل مع كل واحد كتاباً يخصه، فإنّ أكثرهم لم يكن له كتاب يخصه، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وقوله تعالى: {بالحق} حال من الكتاب أي: متلبساً بالحق شاهداً به {ليحكم بين الناس} أي: الله، أو الكتاب، أو النبيّ المبعوث، ورجح الثاني التفتازاني، وقال: لا بدّ في عوده إلى الله من تكلف في المعنى أي: ليظهر حكمه، وإلى النبيّ من تكلف في اللفظ حيث لم يقل: ليحكموا، ورجح أبو حيان الأوّل، وهو الظاهر قال: والمعنى أنه أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ونسبة الحكم إلى الكتاب مجاز كما أن إسناد النطق إليه في قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} (الجاثية، 29) كذلك {فيما اختلفوا فيه} من الدين {وما اختلف فيه} أي: الدين {إلا الذين أوتوه} أي: الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي: عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيلاً للاختلاف سبباً لاستحكام الخلاف، فآمن بعض وكفر بعض. {من بعدما جاءتهم البينات} أي: الحجج الظاهرة على التوحيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ومن متعلقة باختلف وهي وما بعدها مقدّم على الاستثناء في المعنى {بغياً} من الكافرين {بينهم} حسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه} وقوله تعالى: {من الحق} بيان لما اختلفوا فيه أي: فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف {بإذنه} أي: بإرادته قال ابن دريد في هذه الآية: اختلفوا في القبلة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، ومنهم من يصلي إلى المقدس، فهدانا الله للكعبة، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد، فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود: كان يهودياً وقالت النصارى: كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعله النصارى إلهاً فهدانا الله للحق فيه. {والله يهدي من يشاء} هدايته {إلى صراط مستقيم} هو طريق الحق لا يضل سالكه. {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل} أي: شبه {الذين خلوا من قبلكم} من المؤمنين من المحن فتصبروا كما صبروا، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال قتادة: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدّة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى، كما قال تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر} (الأحزاب، 10) وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتدّ عليهم الأمر؛ لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرّ قوم النفاق، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطميناً لقلوبهم. وقيل: نزلت في حرب أحد، واختُلف في معنى أم فقال الفرّاء: الميم صلة أي: أحسبتم، وقال الزجاج: هي بمعنى بل أي: بل حسبتم، ولما بمعنى لم أي: ولم يأتكم. وقوله تعالى: {مستهم البأساء} أي: شدّة الفقر {والضرّاء} أي: المرض والجزع، جملة مستأنفة مبينة لما قبلها {وزلزلوا} أي: أزعجوا إزعاجاً شديداً بما أصابهم من الشدائد {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه} لتناهي الشدّة واستطالة المدّة، بحيث تقطعت حبال الصبر {متى} يأتي {نصر الله} الذي وعدناه استطالة لتأخره، فأجيبوا من قبل الله {ألا إنّ نصر الله قريب} إتيانه وفي هذا إشارة إلى أنّ الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات، كما قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الشيخان وغيرهما: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» . وفي رواية لهم: حجبت أي: جعلت المكاره حجاباً دون الجنة فمن خرقه دخلها. والشهوات حجاب دون النار فمن اقتحمه دخلها وقرأ نافع يقول: بالرفع على أنها حكاية حال ماضية، وفائدته تصوّر تلك الحال العجيبة واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها وقرأ الباقون بالنصب. {يسئلونك} يا محمد {ماذا} أي: الذي {ينفقون} ، والسائل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخاً فانياً ذا مال عظيم، فقال: يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزل: {قل} لهم {ما أنفقتم من خير} أي: مال قليلاً كان أو كثيراً، {فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} أي: هم أولى به سأل عن المنفق فأجيب: ببيان المصرف؛ لأنه أهمّ فإنّ اعتداد النفقة باعتباره، ولأنه كان في سؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 عمرو وإن لم يكن مذكوراً في الآية، واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير {وما تفعلوا من خير} إنفاق وغيره {فإن الله به عليم} فيجازيكم به. تنبيه: ليس في الآية ما ينافي فرض الزكاة لينسخ به كما قيل؛ لأنّ الزكاة لا تعطى للوالدين ولا للأقربين من الأولاد وأولاد الأولاد، فالآية محمولة على الإنفاق على من ذكر تطوّعاً أو على الإنفاق على الفقراء من الوالدين والأولاد وأولاد الأولاد، وذلك ليس بمنسوخ. {كتب} أي: فرض {عليكم القتال} للكفار {وهو كره} أي: مكروه {لكم} طبعاً للمشقة {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} وهو جميع ما كلفتم به فإنه الموجب لسعادتكم، فلعل لكم في القتال ـ وإن كرهتموه ـ خيراً؛ لأنّ فيه إمّا الظفر والغنيمة وإمّا الشهادة والأجر {وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم} وهو جميع ما نهيتم عنه، فإنّ النفس تحبه وتهواه، وهو يهوي بها إلى الردى، ففي ترك القتال ـ وإن أحببتموه ـ شرّ؛ لأنّ فيه الذل والفقر وحرمان الأجر، وإنما ذكر عسى؛ لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها {وا يعلم} ما هو خير لكم {وأنتم لا تعلمون} ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به. {يسئلونك} يا محمد {عن الشهر الحرام} المحرّم، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة؛ ليترصد عيراً لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي، وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك غرّة رجب، وهم يظنونه جمادى الآخرة فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام الذي يأمن فيه الخائف، ويتفرّق فيه الناس إلى معايشهم، فسفك فيه الدماء، وأخذ الأسارى، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين، وقالوا: يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة وهي أوّل غنيمة في الإسلام» والسائلون هم المشركون، كتبوا إليه تشنيعاً وتعييراً، وقيل: أصحاب السرية قالوا: يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة، 5) . وقوله تعالى: {قتال فيه} بدل اشتمال من الشهر {قل} لهم {قتال فيه كبير} أي: عظيم وزر، أو قد تمّ الكلام ههنا، ثم ابتدأ فقال: {وصدّ} فهو مبتدأ أي: منع الناس {عن سبيل الله} أي: دينه {وكفر به} أي: الله {و} صدّ عن {المسجد الحرام} أي: مكة {وإخراج أهله منه} وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وخبر المبتدأ وما عطف عليه {أكبر} أي: أعظم وزراً {عند الله} مما فعلته السرية من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام خطأ، وبناء على الظنّ. ومما تقرّر علم أنّ {والمسجد الحرام} معطوف على سبيل الله وقول البيضاوي: ولا يحسن عطفه على سبيل الله لأنّ عطف قوله تعالى: {وكفر به} على {وصدّ} مانع منه مجاب عنه بأنّ الكفر بالله والصدّ عن سبيله متحدان معنى فكأنه لا فصل بالأجنبيّ بين سبيل الله وما عطف عليه، ويصح أيضاً أن يكون معطوفاً على الهاء من به، إذ يجوز العطف بدون إعادة الجار كما جرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 عليه ابن مالك، وإن كان مذهب البصريين خلافه، وجرى عليه البيضاوي. {والفتنة} أي: الشرك منكم {أكبر من القتل} لكم فيه، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة، ومنعهم المسلمين عن البيت. {ولا يزالون} أي: الكفار {يقاتلونكم} أيها المؤمنون {حتى يردّوكم عن دينكم} إلى الكفر، في ذلك إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم، وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم، وحتى للتعليل لا للغاية كما قيل؛ لأنه أفيد من حيث أنّ فيه ذكر الحامل على المقاتلة بخلاف الغاية أي: يقاتلونكم كي يردّوكم وقوله تعالى: {إن استطاعوا} فيه استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوّه: إن ظفرت بي فلا تبق عليّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: الصالحة {في الدنيا والآخرة} فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها، والتقييد بالموت يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام لم يبطل عمله كما هو مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، حيث قال: إنّ الردّة تحبط الأعمال مطلقاً لقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} (المائدة، 5) وأجيب: بأنه محمول على المقيد عملاً بالدليل، فلا يجب عليه أن يعيد الحج الذي أتى به قبل الردّة كذا غيره، لكن يبطل ثوابه كما نص عليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وإن خالف فيه بعض المتأخرين {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} كسائر الكفرة. ولما ظنّ السرية أنهم إن سلموا من الإثم فلا يحصل لهم أجر أنزل الله تعالى. أي: فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم {وجاهدوا} المشركين {في سبيل الله} لإعلاء دينه، وكرّر سبحانه وتعالى الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، وكأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء {أولئك يرجون رحمة الله} أي: ثوابه أثبت لهم الرجاء إشعاراً بأنّ العمل غير موجب، ولا قاطع في الدلالة، سيما والعبرة بالخواتيم {وا غفور} للمؤمنين لما فعلوه خطأ وقلة احتياط {رحيم} بهم بأن يجزل لهم الأجر والثواب. {يسئلونك عن الخمر والميسر} . روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} (النحل، 67) كان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذٍ، ثم إنّ عمر ومعاذاً في نفر من الصحابة قالوا: «أفتنا في الخمر يا رسول الله فإنها مذهبة للعقل» فنزلت هذه الآية، فشربها قوم وتركها آخرون، ثم إنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً، فدعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا، فحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ: قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون، هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء، 403) فحرم السكر في أوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة، وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير وقتها، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر، ثم إنّ عتبان بن مالك صنع طعاماً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 تعالى عنه، وقد كان شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى اشتدّت فيهم، ثم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار، وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا له الأنصاري فقال عمر: اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل: {إنما الخمر والميسر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} (المائدة، 91) فقال عمر رضي الله تعالى عنه: انتهينا يا رب، قال القفال الحكمة في وقوع: التحريم على هذا الترتيب أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم به كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق، وسمي عصير العنب والتمر إذا اشتدّ وغلا خمراً؛ لأنه يخمر العقل، كما سمي سكراً؛ لأنه يسكره أي: يحجزه وهو حرام مطلقاً. وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتدّ حل شربه ما دون السكر. وسمي القمار ميسراً؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر والمعنى يسئلونك عن تعاطيهما؛ لقوله تعالى: {قل} لهم {فيهما} أي: في تعاطيهما {إثم كبير} أي: عظيم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة والباقون بالباء الموحدة. {ومنافع للناس} باللذات والفرح، ومصادقة الفتيان، وتشجيع الجبان، وتوفر المروءة، وتقوية الطبيعة في الخمر، وإصابة المال بلا كدّ في الميسر {وإثمهما} أي: ما ينشأ عنهما من المفاسد {أكبر} أي: أعظم {من نفعهما} المتوقع منهما ولذا قيل: إن هذا هو المحرّم للخمر، فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل، والظاهر أن المحرم لها آية المائدة كما مرّ. {ويسئلونك} يا محمد {ماذا ينفقون} وذلك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا: ماذا ننفق؟ فقال الله تعالى {قل} لهم {العفو} » ، قرأ أبو عمرو برفع الواو بتقدير هو والباقون بنصبها بتقدير أنفقوا، واختلفا في معنى العفو وهو نقيض الجهد فقيل: أن ينفق مالاً يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، كما قال الشاعر: *خذي العفو مني تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وسَوْرة الغضب: شدّته وحِدَّته، وقال قتادة وعطاء والسدّيّ: هو ما فضل عن الحاجة، وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يكتسبون المال، ويمسكون قدر النفقة، ويتصدّقون بالفضل بحكم هذه الآية، وقال مجاهد معناه التصدّق عن ظهر غنى. روي: «أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغنائم فقال: خذها مني صدقة، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى كرّر مراراً، فقال: هاتها مغضباً فأخذها، فحذفه بها حذفاً لو أصابه لشجه ثم قال: «يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» قال ابن الأثير: والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قويّ من المال. وقال عمرو بن دينار: الوسط من غير إسراف ولا إقتار كما قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} (الفرقان، 67) {كذلك} كما بين لكم ما ذكر {يبين الله لكم الآيات} قال الزجاج: إنما قال كذلك على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الواحد وهو يخاطب جماعة؛ لأنّ الجماعة معناها القبيل كأنه قيل: كذلك أيها القبيل وقيل: هو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّ خطابه يشتمل على خطاب الأمّة كقوله تعالى: {يأيها النبيّ إذا طلقتم النساء} (الفرقان، 67) {لعلكم تتفكرون} . {في} زوال {الدنيا} وفنائها فتزهدوا فيها {و} في إقبال {الآخرة} وبقائها فترغبوا فيها {ويسئلونك} يا محمد {عن اليتامى} وقد مرّ أنهم جمع يتيم، وأن اليتيم طفل لا أب له، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزل قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (الأنعام، 152) وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء، 10) الآية تحرّج المسلمون من أموال اليتامى تحرّجاً شديداً، فإن واكلوهم يأثموا، وإن عزلوا مالهم من مالهم وصنعوا لهم طعاماً وحدهم فحرج، فاشتدّ ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {قل إصلاح لهم} أي: اليتامى في أموالهم بتنميتها ومداخلتكم معهم {خير} من مجانبتكم. {وإن تخالطوهم} أي: تخلطوا نفقتهم بنفقتكم {فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم في الدين ومن شأن الأخ أن يخالط أخاه أي: فلكم ذلك. وقيل: المراد بالمخالطة المصاهرة، {وا يعلم المفسد} لأموالهم بمخالطته {من المصلح} بها فيجازي كلاً منهما، ففي ذلك وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح. {ولو شاء الله لأعنتكم} أي: لضيق عليكم بتحريم المخالطة وما أباح لكم مخالطتهم، وأصل العنت الشدّة والمشقة، ومعناه: كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم {إنّ الله عزيز} غالب على أمره، يقدر على الإعنات وغيره {حكيم} يحكم بما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة. {س2ش221/ش224 وَتَنكِحُوا? الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? وَ?مَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ? وَتُنكِحُوا? الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا?? وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ? أُو?لَا?ئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ? وَاللَّهُ يَدْعُو?ا? إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ?? وَيُبَيِّنُءَايَاتِهِ? لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَيَسْـ?َلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ? قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا? النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ? وَتَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ? فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا? حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ? وَقَدِّمُوا? ?نفُسِكُمْ? وَاتَّقُوا? اللَّهَ وَاعْلَمُو?ا? أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ? وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَتَجْعَلُوا? اللَّهَ عُرْضَةً ?يْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا? وَتَتَّقُوا? وَتُصْلِحُوا? بَيْنَ النَّاسِ? وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {ولا تنكحوا} أي: لا تتزوّجوا أيها المسلمون {المشركات} أي: الكافرات {حتى يؤمنّ} . روي «أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها: عناق، وكانت خليلته في الجاهلية، فأتته وقالت: يا مرثد ألا تخلو فقال لها: ويحك يا عناق، إنّ الإسلام قد حال بيننا وبينك، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال: نعم ولكن أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع إليه قال: يا رسول الله أيحلّ لي أن أتزوّج بها؟ فأنزلت هذه الآية» ، هذا ما أورده الواحدي وغيره، ولكن الذي رواه أبو داود وغيره أنه سبب في نزول آية النور: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} (النور، 3) الآية، والآية وإن كانت شاملة للكتابيات، لكنها مخصوصة بغيرهنّ بقوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} (المائدة، 45) وقد تزوّج عثمان بنصرانية فأسلمت وتزوّج حذيفة بيهودية، وطلحة بن عبيد الله بنصرانية. فإن قيل: كيف أطلقتم اسم الشرك على من لم ينكر إلا بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو الحسن بن فارس: لأنه يقول: القرآن كلام غير الله، ومن يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله غير الله انتهى. وقال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} إلى قوله: {سبحانه عما يشركون} (التوبة، 31) . {ولأمة مؤمنة خير من} أي: من حرّة {مشركة ولو أعجبتكم} لجمالها ومالها، نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، قال حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك، فأعتقها وتزوّج بها. وقال السديّ: نزلت في عبد الله بن رواحة، كان له أمة فأعتقها، وتزوّج بها فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: أتنكح أمة وعرضوا عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 حرة مشركة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} أي: ولا تزوّجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا، وهذا على عمومه بإجماع {ولعبد مؤمن خير من} أي: حرّ {مشرك ولو أعجبكم} لماله وجماله وقيل: المراد بالأمة والعبد المرأة والرجل، حرّين كانا أو رقيقين؛ لأنّ الناس عبيد الله وإماؤه {أولئك} أي: أهل الشرك {يدعون إلى النار} أي: إلى الكفر المؤدّي إلى النار، فلا تليق مصاهرتهم وموالاتهم {وا يدعو} أي: أولياءه المؤمنون، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، تفخيماً لشأنهم، أو يدعو على لسان رسله، وهذا كما قال أبو حيان: أبلغ في التباعد من المشركين إجراءً للفظ على ظاهره، والأوّل ذكر لطلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين {إلى الجنة والمغفرة} أي: العمل الصالح الموصل إليها، فهم الأحقاء بالمواصلة {بإذنه} أي: بأمر الله ورضاه على التفسير الأول، أو بقضائه وإرادته على التفسير الثاني فتجب إجابته بتزويج أوليائه {ويبين} أي: الله {آياته للناس لعلهم يتذكرون} أي: لكي يتذكروا فيتعظوا.F {ويسئلونك} يا محمد {عن المحيض} أي: الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه. روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يساكنوا الحيض ولم يؤاكلوهنّ كفعل اليهود، فإنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، واستمرّ ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الله تعالى: {قل} لهم {هو} أي: الحيض أو مكانه {أذى} قذر أو محله قذر. فإن قيل: لماذا ذكر الله تعالى يسئلونك بغير واو ثلاثاً ثم بها ثلاثاً؟ أجيب: بأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد، فلذلك ذكرها بحرف الجمع، وهو واو العطف، وهي الجمع في الحكم لا الزمان، واعترض هذا الجواب بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة؛ لأنّ العطف يكون في الثانية والثالثة منها، وأجيب: بأنهم لما سألوا عما كانوا ينفقون، فأجيبوا بمصرف النفقة أعادوا سؤالهم بالواو ما ينفقون، فأجيبوا: بالعفو، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى في النفقة، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما تعتزل اليتامى فناسب ما قبله في الاعتزال عطف بالواو، ولا كذلك الثلاثة الأول؛ إذ لا تعلق بينها. {فاعتزلوا النساء} أي: اتركوا وطأهنّ {في المحيض} أي: وقته أو مكانه؛ لأنّ ذلك هو الاقتصاد بين إفراط اليهود، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض، وما استدلّ به البيضاوي من قوله صلى الله عليه وسلم «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم نأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم» قال شيخنا القاضي زكريا: لم أره بهذا اللفظ في بعض التفاسير لغيره. وقوله تعالى: {ولا تقربوهنّ} أي: بالجماع {حتى يطهرن} تأكيد للحكم وبيان لغايته، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع، ويدل عليه صريحاً قراءة شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء أي: يتطهرن بمعنى يغتسلن والباقون بسكون الطاء وضمّ الهاء مخففة والتزاماً. قوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهنّ} أي: للجماع فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إن طهرت لأكثر الحيض وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 عنده عشرة أيام جاز قربانها قبل الغسل. {من حيث أمركم الله} بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدّوه إلى غيره. أمّا الملامسة فيما عدا ما بين السرّة والركبة والمضاجعة معها قبل الغسل، ولو قبل إنقطاع الحيض فجائز، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان يأمرني صلى الله عليه وسلم فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض» . وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: «حضت وأنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخميلة فانسلت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضتي، فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة» {إن الله يحب} أي: يثيب ويكرم {التوّابين} من الذنوب {ويحب المتطهرين} أي: المتنزهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض والإتيان في غير القبل. {نساؤكم حرث لكم} أي: مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات {فأتوا حرثكم} أي: محله وهو القبل {أنى} أي: كيف {شئتم} من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار. وروى الشيخان أنّ اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته من دبرها أي: خلفها في قبلها جاء ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. {وقدّموا لأنفسكم} من الأعمال الصالحة، كالتسمية عند الجماع وطلب الولد أي: ما يدخر لكم من الثواب {واتقوا الله} في أمره ونهيه {واعلموا أنكم ملاقوه} بالبعث، فتزوّدوا ما لا تُفْتَضَحون به فإنه يجازيكم بأعمالكم {وبشر المؤمنين} بالكرامة والنعيم الدائم، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم. وقوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم} نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه، لما حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها، أو في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه أي: زوج أخته بشير بن النعمان، ولا يصلح بينه وبين أخت. فالعرضة كل ما يعرض فيمنع عن الشيء أي: لا تجعلوا الحلف سبباً مانعاً لكم من البرّ والتقوى يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو برّ فيقول: حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البرّ كما قال تعالى: {أن تبرّوا} أي: مخالفة أن لا تبرّوا، فهو في موضع نصب مفعول من أجله. وعند الكوفيين لئلا تبرّوا كقوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} (النساء، 176) أي: لئلا تضلوا، وقال أبو إسحق في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف أي: أن تبرّوا وتتقوا خير لكم وقيل: التقدير في أن تبرّوا، فلما حذف حرف الجرّ نصب، وقيل: هو في موضع جرّ بالحرف المحذوف. {وتتقوا وتصلحوا بين الناس} فتكره اليمين على ذلك، ويسنّ فيه الحنث ويُكَفّر، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بيمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير» بخلافها على فعل البرّ ونحوه فهي طاعة {وا سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوالكم. {في أيمانكم} واللغو: كل مطروح من الكلام لا يعتدّ به. واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكور في الآية، فقال قوم: هو ما سبق إلى اللسان على عجلة، لصلة كلام من غير عقد ولا قصد، كقول القائل: لا والله، وبلى والله، وكلا والله، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لغو اليمين كقول الإنسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 لا والله، وبلى والله، ورفعه بعضهم، وبهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه، وقال قوم: هو أن يحلف على شيء يرى أنه صادق ثم يتبين أنه خلاف ذلك وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال زيد بن أسلم: هو دعاء الرجل على نفسه كقول الإنسان: أعمى الله بصري إذا لم أفعل كذا، وكذا فهذا لغو لا يؤاخذ الله به، قال تعالى: {ويدعو الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير} (الإسراء، 11) وقال تعالى: {ولو يعجل الله للناس الشرّ استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم} (يونس، 11) . {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أي: قصدته من الإيمان إذا حنثتم {وا غفور} حيث لم يؤاخذكم باللغو {حليم} حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ تربصاً للتوبة. تنبيه: اليمين لا ينعقد إلا بالله العظيم، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، فاليمين بالله كأن يقول: والذي أعبده والذي نفسي بيده وبأسمائه، كأن يقول: والله والرحمن وبصفاته، كأن يقول: وعزة الله، وعظمة الله وجلال الله فإذا حلف بشيء من ذلك على أمر مستقبل، ثم حنث وجبت عليه الكفارة، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في سورة المائدة، وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن، وهو عالم به حالة ما حلف فهي اليمين الغموس، وهي من الكبائر ويجب بها الكفارة، كما قاله الشافعيّ رضي الله تعالى عنه. وقال بعض العلماء: لا كفارة فيها كأكثر الكبائر. وأما الحلف بغير ما ذكر كالحلف بالكعبة وبيت الله ونبيّ الله أو بأبيه ونحوه فلا يكون يميناً ولا تجب به الكفارة إذا حنث وهو يمين مكروه. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب، وهو يحلف باسمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» . {للذين يؤلون من نسائهم} أي: يحلفون أن لا يجامعوهنّ، والإيلاء: الحلف، وتعديته بعلى، ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن، قال قتادة: كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية، وقال سعيد بن المسيب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية كان الرجل لا يحب المرأة ولا يريد أن يتزوّجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبداً، فيتركها أبداً لا أيماً، ولا ذات بعل، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام، فضرب الله لهم أجلاً في الإسلام كما قال تعالى: {تربص} أي: انتظار {أربعة أشهر} أي: للمولى حق التثبت في هذه المدّة فلا يطالب بفيئة ولا طلاق، ولذا قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر، ويؤيده {فإن فاؤا} أي: رجعوا في المدّة أو بعدها عن اليمين إلى الوطء؛ لأنّ الفيئة وعزم الطلاق مشروعان عقب الإيلاء وحصول التربص، فلا بدّ أن يكون مدخول الفاء واقعاً بعدهما {فإنّ الله غفور} لهم ما أتوه من ضرر المرأة بالحلف {رحيم} بهم. {وإن عزموا الطلاق} أي: صَمّموا عليه بأن لم يفيئوا فليوقعوه، {فإنّ الله سميع} لقولهم {عليم} بعزمهم أي: ليس لهم بعد تربص ما ذكر إلا الفيئة أو الطلاق، ففيه دليل على أنها لا تطلق بعد مضيّ المدّة ما لم يطلقها زوجها؛ لأنه شرط فيه العزم وقال: فإنّ الله سميع فدل على أنه يقتضي مسموعاً. والقول: هو الذي يسمع وقال بعض العلماء: إذا مضت أربعة أشهر يقع عليه طلقة بائنة، وهو قول ابن عباس وأصحاب الرأي، وقال سعيد بن المسيب والزهري: يقع عليه طلقة واحدة رجعية، ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، بل حالفاً، إذا وطئها قبل مضي تلك المدّة وجبت عليه كفارة يمين إن كان الحلف بالله، ولا يختص الإيلاء بالحلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بالله تعالى، فلو قال لزوجته: إن وطئتك فعبدي حر، أو ضرّتك طالق، أو لله عليّ عتق رقبة أو صوم أو صلاة، فهو مولٍ، لأنّ المولى من يلزمه أمر يمتنع بسببه من الوطء. {والمطلقات يتربصن} ينتظرن {بأنفسهن} عن النكاح {ثلاثة قروء} تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف وضمها، وهو يطلق للحيض لقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو داود وغيره: «دعي الصلاة أيام أقرائك» ، وللطهر الفاصل بين حيضتين وهو المراد في الآية؛ لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض، كما قال به بعض العلماء، لقوله تعالى: {فطلقوهنّ لعدّتهنّ} أي: وقت عدّتهنّ والطلاق المشروع لا يكون في الحيض، وأمّا ما رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان» فلا يقاوم ما رواه البخاريّ في قصة ابن عمر «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء» أي: بقوله تعالى: {فطلقوهنّ لعدّتهن} . فإن قيل: ما معنى ذكر الأنفس فهلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء؟ أجيب: بأنّ في ذكر الأنفس تهييجاً لهنّ على التربص، وزيادة بعث؛ لأنّ فيه ما يستنكفن منه، فيحملهنّ على أن يتربصن، وذلك أنّ نفس النساء طوامح أي: نواظر إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهنّ ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص، وكان القياس في جمع قرء أن يذكر بصيغة القلة، التي هي الإقراء، ولكنهم يتوسعون في ذلك، فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر، ألا ترى إلى قوله: بأنفسهنّ وما هي إلا نفوس كثيرة. قال البيضاويّ: ولعلّ الحكم لما عمّ المطلقات ذوات الإقراء تضمن معنى الكثرة، فحسن بناء الكثرة ووجوب ذلك في المدخول بهنّ، أمّا غيرهنّ فلا عدّة لهنّ لقوله تعالى: {وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها} (الأحزاب، 49) وفي غير الآيسة والصغيرة فعدّتهنّ ثلاثة أشهر، والحوامل فعدّتهنّ أن يضعن حملهنّ كما في سورة الطلاق: والإماء فعدّتهنّ قرآن بالسنة. {ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ} من الولد إن كانت حاملاً ومن الحيض إن كانت حائضاً {إن كنّ يؤمن با واليوم الآخر} قال البيضاويّ: ليس المراد تقييد نفي الحل بإيمانهنّ، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان أي: كماله، وأن المؤمن لا يجترىء عليه ولا ينبغي له أن يفعل {وبعولتهنّ} أي: أزواج المطلقات، والبعولة جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤولة ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك: بعل حسن البعولة نعت به مبالغة كما في رجل عدل أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي: وأهل بعولتهنّ {أحق بردّهنّ} أي: بمراجعتهنّ {في ذلك} أي: في زمن التربص. فإن قيل: كيف جعلوا أحق بالرجعة فكان للنساء حقاً فيها؟ أجيب: بأن أفعل ههنا بمعنى الفاعل فإنّ غير البعل لا حق له في الردّ فكأنه قيل: وبعولتهنّ حقيقون بردّهنّ. وقيل: إنه على بابه للتفضيل أي: أحق منهنّ بأنفسهنّ لو أبين الرد، أو من آبائهنّ، وسمي الزوج بعلاً لقيامه بأمر زوجته وأصل البعل السيد والمالك. {إن أرادوا} أي: البعولة {إصلاحاً} بالرجعة، لإضرار المرأة وليس المراد من هذا اشتراط قصد الإصلاح للرجعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 {ولهنّ} على الأزواج {مثل الذي} لهم {عليهنّ} من الحقوق {بالمعروف} شرعاً من حسن العشرة وترك الضرر ونحو ذلك. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى ذلك: إني أحب أن أتزين لامرأتي، كما تحب أن تتزيّن لي لهذه الآية، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهن خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم» . فإن قيل: ما المراد بالمماثلة؟ أجيب: بأنّ المراد أنّ لهنّ حقوقاً على الرجال مثل حقوقهم عليهنّ في الوجوب، واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس إذ ليس الواجب على كلّ منهما من جنس ما وجب على الآخر، فلو غسلت ثيابه أو خبزت له لم يلزمه أن يفعل مثل ذلك، ولكن يقابلها بما يليق بالرجال {وللرجال. عليهنّ درجة} أي: فضيلة في الحق؛ لأنّ المرأة تنال من الرجل من اللذة مثل ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وانفاقه في مصالحها؛ ولأن حقوقهم في أنفسهنّ بالوطء والتمتع، وحقوقهنّ المهر والكفاف وترك الضرار، وقيل بصلاحيته للإمامة والقضاء والشهادة، وقيل: بالجهاد، وقيل: بالميراث وقيل: بالدية، وقيل: بالعقل {وا عزيز} في ملكه قادر على الانتقام ممن خالف الأحكام {حكيم} فيما دبره لخلقه يشرعها لحكم ومصالح. {الطلاق} أي: التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي: الذي يراجع به {مرّتان} أي: اثنتان. روي عن عروة بن الزبير قال: كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد، كان الرجل يطلق امرأته، فإذا قاربت انقضاء عدّتها راجعها، ثم طلقها كذلك ثم راجعها بصد مضارتها، فنزلت هذه الآية. وروى أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أين الثالثة؟ فقال صلى الله عليه وسلم «أو تسريح بإحسان» {فإمساك} أي: فعليكم إمساكهنّ إذا راجعتموهنّ بعد الطلقة الثانية {بمعروف} وهو كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة {أو تسريح بإحسان} بالطلقة الثالثة، أو بأن لا يراجعها حتى تبين منه. تنبيه: اختلف العلماء فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقاً، فذهب الأكثر ومنهم الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج، فالحرّ يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات، والعبد لا يملك على زوجته الحرّة إلا طلقتين وذهب الأقلّ ومنهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق كالعدّة، فيملك العبد على زوجته الحرّة ثلاث طلقات ولا يملك الحرّ على زوجته الأمة إلا طلقتين. {ولا يحلّ لكم} أيها الأزواج {أن تأخذوا مما آتيتموهنّ} من المهور {شيئاً} إذا طلقتموهنّ. روي أنها نزلت في جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ابن سلول، كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فشكته إلى أبيها فقال: ارجعي إلى زوجك، فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها، فلما رأت أباها لم يشكها رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل خلفه فجاءه، فقال له: «مالك ولأهلك؟» قال: والذي بعثك بالحق نبياً ما على وجه الأرض أحبّ إليّ منها غيرك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولين؟» فقالت: هو مني أكرم الناس حباً لزوجته ولكن، لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي، ورأسه شيء والله لا أعيبه في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً أي: أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر بغضاً فيه، ويحتمل أن تريد كفران العشرة ـ إني رفعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة، فإذا هو أشدّهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال ثابت: قد أعطيتها حديقة فقل لها فلتردّها عليّ وأخلي سبيلها، فقال لها: «تردّين عليه حديقته وتملكين أمرك؟» قالت: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها» ففعل. وفي رواية: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» . {إلا أن يخافا} أي: الزوجان {أن لا يقيما حدود الله} أي: لا يأتيا بما حدّه لهما من الحقوق، وقرأ حمزة يخافا بضمّ الياء بالبناء للمفعول، فإن مع صلتها بدل اشتمال من الضمير في يخافا والباقون بفتحها بالبناء للفاعل {فإن خفتم} أيها الأئمة والحكام {أن لا يقيما حدود الله} أي: ما حدّه من الأحكام {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} نفسها من المال ليطلقها أي: لا حرج على الزوج في أخذه، ولا على الزوجة في بذله، وهذا هو الأصل، وإلا فيجاز على عوض وإن لم يخافا. تنبيه: علم مما تقرّر: أنّ الخطاب في الأوّل للزوجين، وثانيها للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره. ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً} لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون. {تلك} أي: الأحكام المذكورة {حدود الله} وهي ما منع الشرع من المجاوزة عنه {فلا تعتدوها} أي: فلا تتعدّوها بالمخالفة وقوله تعالى: {ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد. تنبيه: ظاهر الآية يدلّ على أنّ الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلاً عن الزائد، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه البيهقيّ: «أيّما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس ـ أي: ضرر فحرام عليها رائحة الجنة» . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجميلة: «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: أردّها وأزيد عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: أمّا الزائد فلا» فالجمهور استكرهوا الخلع، ولكن نفذوه فإنّ المنع عن العقد لا يدل على فساده وإنه يصح بلفظ المفاداة فإنه سماه افتداء. {فإن طلقها} أي: الزوج الثنتين {فلا تحل له من بعد} أي: بعد الطلقة الثالثة {حتى تنكح} أي: تتزوّج {زوجاً غيره} أي: المطلق والنكاح يتناول العقد والوطء، وتعلق بظاهر الآية من اقتصر على العقد كابن المسيب، والجمهور على أنه لا بدّ من الإصابة، لما روى الشيخان «أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ رفاعة طلقني وإنّ عبد الرحمن بن الزَّبِير ـ أي: بفتح الزاي وكسر الباء ـ تزوّجني، وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ، فالآية مطلقة قيدتها السنة، ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة، ويكون العقد مستفاداً من لفظ الزوج، والعسيلة مجاز عن قليل الجماع، إذ يكفي قليل انتشار، شبهت تلك اللذة بالعسل وصغرت ولحقتها الهاء؛ لأن الغالب على العسل التأنيث قاله الجوهري. وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنّ زوجي قد مسني فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم «كذبت في قولك الأوّل فلن أصدقك في الآخر» فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت: يا خليفة رسول الله أرجع إلى زوجي الأوّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فإنّ زوجي الآخر مسني وطلقني فقال لها أبو بكر: قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته، وقال لك ما قال، فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكر أتت عمر، وقالت له مثل ذلك فقال لها عمر: لئن رجعت إليه لأرجمنك» . والحكمة في التحلل الردع عن المسارعة إلى الطلاق، والعود إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر، وجوّزه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مع الكراهة، وقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له» رواه الترمذيّ والنسائيّ وصححه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. تنبيه: شملت الآية الكريمة: ما إذا طلق الزوج زوجته الأمة ثلاثاً ثم ملكها، فإنه لا يحلّ له أن يطأها بملك اليمين، حتى تنكح زوجاً غيره {فإن طلقها} الزوج الثاني بعدما أصابها {فلا جناح عليهما} أي: المرأة والزوج الأوّل {أن يتراجعا} إلى النكاح بعقد جديد بعد انقضاء العدّة {إن ظنا} أي: إن كان في ظنهما {أن يقيما حدود الله} أي: ما حدّه الله وشرعه من حقوق الزوجية، هذا هو الأصل، وإلا فهو ليس بشرط للجواز ولم يقل إن علما أنهما يقيمان؛ لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله. قال في «الكشاف» ومن فسر الظنّ هنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى؛ لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن علمت أنه يقوم؛ ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظنّ ظناً {وتلك} أي: الأحكام المذكورة {حدود الله بينها لقوم يعلمون} أي: يتدبرون ما أمرهم الله تعالى به ويفهمونه، ويعلمونه بمقتضى العلم. {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ} أي: قاربن انقضاء عدّتهن ولم يرد انقضاء العدّة حقيقة؛ لأنّ العدّة إذا انقضت لم يكن للزوج إمساكها فالبلوغ ههنا بلوغ مقاربة. وفي قوله تعالى بعد ذلك: {فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ} حقيقة انقضاء العدّة والبلوغ يتناول المعنيين، يقال: بلغ المدينة إذا قرب منها وإذا دخلها {فأمسكوهنّ} بأن تراجعوهنّ {بمعروف} من غير ضرار، وقيل: بأن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء {أو سرّحوهنّ بمعروف} أي: اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ، فيكنّ أملك بأنفسهنّ {ولا تمسكوهنّ} بالرجعة وقوله تعالى: {ضراراً} مفعول له {لتعتدوا} أي: لا تقصدوا بالمراجعة المضارة بتطويل الحبس. نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها، {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} أي: أضرّ بها بتعريضها إلى عذاب الله، وقرأ أبو الحارث الليث بإدغام اللام من يفعل في الذال حيث جاء والباقون بالإظهار {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} أي: مهزؤاً بها بمخالفتها؛ لأنّ كل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزواً، وقيل: كان الرجل يتزوّج ويطلق ويعتق ويقول: كنت ألعب فنزلت. وروي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جدّهنّ جدّ: وهزلهنّ جدّ الطلاق والنكاح والرجعة» {واذكروا نعمت الله عليكم} التي من جملتها الإسلام والإيمان وبعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم {وما أنزل عليكم من الكتاب} أي: القرآن {والحكمة} أي: السنة، أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقوقها {يعظكم به} أي: بما أنزل عليكم ليدعوكم به إلى دينه {واتقوا الله واعلموا أنّ الله بكل شيء عليم} لا يخفى عليه شيء ففي ذلك تأكيد وتهديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ} أي: انقضت عدّتهنّ {فلا تعضلوهنّ} أي: تمتعوهنّ من {أن ينكحن أزواجهنّ} أي: المطلقين لهنّ. وعن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه دل سياق الكلامين أي: وهما أمسكوهنّ إلخ.. و «فلا تعضلوهنّ» على افتراق البلوغين، فالمراد بالأوّل المقاربة، وبالثاني الوصول كما تقرّر، والعضل الحبس والتضييق، ومن العضل بهذا المعنى عضلت الدجاجة إذا علقت بيضتها فلم تخرج. فائدة: رسمت التاء في نعمت بالتاء المجرورة، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء، ويميلها الكسائيّ في الوقف، ووقف الباقون بالتاء على الرسم والمخاطب بذلك الأولياء لما روي أنه نزلت في معقل بن يسار، حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل، ففي الآية دليل على أنّ المرأة لا تزوّج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الوليّ فائدة، ولا يعارض ذلك بإسناد النكاح إليهنّ؛ لأنه إنما أسند إليهن لتوقف النكاح على إذنهنّ، وقبل الخطاب للأولياء والأزواج، وقيل: للناس كلهم أي: لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر، فإنه إن وجد بينهم وهم راضون به كانوا كالفاعلين. له وقوله تعالى: {إذا تراضوا بينهم} أي: الأزواج والنساء ظرف؛ لأن ينكحن أو لا تعضلوهنّ وقوله تعالى: {بالمعروف} أي: بما يعرفه الشرع ويستحسنه من كونه بعقد حلال حال من ضمير تراضوا، أو صفة مصدر محذوف أي: تراضياً كائناً بالمعروف وفيه دلالة على أنّ العضل عن التزوج من غير كف غير منهي عنه {ذلك} أي: النهي عن العضل {يوعظ به من كان منكم يؤمن با واليوم الآخر} لأنه المتعظ أو المنتفع به. فإن قيل: لمن الخطاب في قوله: {ذلك يوعظ به} ؟ أجيب: بأنه يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد كما في قوله تعالى: {يأيها النبيّ إذا طلقتم النساء} (الطلاق، 1) ونحوه {ذلكم} أي: ترك العضل {أزكى} أي: أنفع {لكم وأطهر} لكم ولهنّ من دنس الآثام لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما {وا يعلم} ما فيه المصلحة {وأنتم لا تعلمون} ذلك لقصور علمكم، وقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهنّ} خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ} وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب، لأنه لا يجب عليهنّ الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد، لقوله تعالى في سورة الطلاق: {فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ} فإن رغبت الأمّ في الإرضاع فهي أولى من غيرها، أمّا إذا لم يوجد من يرضعه فيجب عليها إرضاعه، والوالدات يعمّ المطلقات وغيرهنّ وقيل: يختص بالمطلقات إذ الكلام فيهنّ {حولين} أي: عامين {كاملين} صفة مؤكدة كما في قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} (البقرة، 196) لأنّ العرب قد تسمي بعض الحول حولاً، وبعض الشهر شهراً، كما قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} (البقرة، 197) وإنما هو شهران وبعض الثالث وقال تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} (البقرة، 203) وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم. وقال قتادة: فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف فقال: {لمن أرد أن يتم الرضاعة} أي: هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك حدّ محدود، إنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به. {وعلى المولود له} أي: الوالد {رزقهنّ} أي: إطعام الوالدات {وكسوتهنّ} أجرة لهنّ على الإرضاع إذا كنّ مطلقات، واختلف في استئجار الأم للإرضاع فجوّزه الشافعيّ ومنعه أبو حنيفة ما دامت زوجة أو معتدّة نكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فإن قيل: لِمَ قال تعالى: {المولود له} دون الوالد؟ أجيب: بأنه تعالى إنما ذكر ذلك ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم؛ لأنّ الأولاد للآباء ولذلك ينتسبون إليهم لا إلى الأمّهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد: *فإنما أمّهات الناس أرعية ... مستودعات وللآباء أبناء* فكان عليهم أن يرزقوهنّ ويكسوهنّ إذا أرضعن ولدهم ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله تعالى: {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} (لقمان، 33) وقوله تعالى: {بالمعروف} يفسره ما يعقبه وهو قوله تعالى: {لا تكلف نفس إلا وسعها} أي: طاقتها فلا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه {لا تضارّ والدة بولدها} أي: بسببه، بأن تكره على إرضاعه أو تكلف فوق طاقتها {ولا} يضار {مولود له بولده} أي: بسببه، بأن يكلف فوق طاقته، وإضافة الولد إلى كلّ منهما للاستعطاف، وللتنبيه على أنّ الولد حقيق بأن يتفقا على استصلاحه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو تضار بضمّ الراء بدل من قوله: لا تكلف والباقون بفتحها {وعلى الوارث} أي: وارث الأب، وهو الولد أي: على الوليّ في مال الولد {مثل ذلك} أي: الذي كان على الأب للوالدة من الرزق والكسوة، وقيل: هو وارث الولد الذي لو مات الولد لورثه، وقيل: الباقي من الأبوين أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث ـ أي: الباقي ـ منا» والمعنى واجعل كل منهما في لزومه لنا مدّة الحياة كأنه باق بعد الموت {فإن أرادا} أي: الوالدان {فصالاً} أي: فطاماً له صادر {عن تراض} أي: اتفاق {منهما وتشاور} بينهما فتظهر مصلحة الولد فيه {فلا جناح عليهما} في ذلك، زاد على الحولين أو نقص، وهذه توسعة بعد التحديد، وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الولد، حذراً أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض أو غيره {وإن أردتم} خطاب للأولياء {أن تسترضعوا} مراضع غير الوالدات {أولادكم} يقال: أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه، فحذف المفعول الأوّل للاستغناء عنه كما يقال: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته وكذلك حكم كل مفعولين يكون أحدهما عبارة عن الأوّل، هذا ما جرى عليه الزمخشريّ، من أن استرضع يتعدّى لمفعولين بنفسه، والجمهور على أنه إنما يتعدّى إلى الثاني بحرف الجرّ، وتقديره هنا لأولادكم {فلا جناح عليكم} في ذلك {إذا سلمتم} إليهن {ما آتيتم} أي: أردتم إيتاءه لهن من الأجرة، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة، 6) وإنما قدّر ذلك؛ لأنّ ما تحقق إيتاؤه لا يتصوّر تسليمه في المستقبل، وقوله تعالى: {بالمعروف} صلة سلمتم أي: بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً، وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل. وقرأ ابن كثير بقصر همزة أتيتم، من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله تعالى: {إنه كان وعده مأتياً} (مريم، 61) أي: مفعولاً والباقون بالمد وهم على مراتبهم، وقوله تعالى: {واتقوا الله} مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع ثم حثهم على ذلك وهدّدهم بقوله تعالى: {واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير} لا يخفى عليه شيء منه. { والذين يُتوفَّون} أي: يموتون {منكم ويذرون} أي: يتركون {أزواجاً يتربصن} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أي: ينتظرن {بأنفسهنّ} وهو خبر بمعنى الأمر، وهو أمر إيجاب أي: يجب عليهن أن يتربصن بعدهم عن النكاح {أربعة أشهر وعشراً} أي: عشرة أيام وكان القياس تذكير العدد بأن يؤتى فيه بالثاء ولكن لما حذف المعدود جاز فيه ذلك كما في قوله تعالى: {إن لبثتم إلا عشراً} (طه، 103) ثم {إن لبثتم إلا يوماً} (طه، 104) لأنّ قوله في سورة طه: {إن لبثتم إلا يوماً} بعد قوله: {إن لبثتم إلا عشراً} يدل على أنّ المراد بالعشر الأيام وإن ذكر بما يدل على الليالي، لأنهم اختلفوا في مدّة اللبث، فقال بعضهم: عشر وبعضهم يوم فدل على أنّ المقابل باليوم إنما هو أيام الليالي، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوّال» . قال البيضاويّ: ولعلّ المقتضي لهذا التقدير أي: بهذه المدّة أنّ الجنين في غالب الأمر يتحرّك لثلاثة أشهر إن كان ذكراً، ولأربعة إن كان أنثى، فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهاراً، إذ ربما تضعف حركته في المبادي، فلا يحسن بها أي بالحركة اه. وهذا في غير الحوامل أمّا هن فعدّتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق، وفي غير الإماء فإنهن على النصف من ذلك بالسنة. وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنّ الحامل تعتدّ بأقصى الأجلين احتياطاً. وحكي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفِّى؟ بكسر الفاء فقال الله: وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضي الله تعالى عنه على أن أمره أن يضع كتاباً في النحو، لكن يجوز الكسر على معنى أنه مستوف أجله، ويدل له قوله تعالى: {والذين يتوفون} بفتح الياء على قراءة شاذة نقلت عن علي، أي: يستوفون آجالهم. {فإذا بلغن أجلهن} أي: انقضت عدّتهن {فلا جناح} أي: لا حرج {عليكم} أيها الأولياء {فيما فعلن في أنفسهن} أي: من التعرّض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدّة دون العقد، فإنّ العقد إلى الولي وقيل: المخاطب بذلك الأئمة أو المسلمون جميعاً. {بالمعروف} أي: بالوجه الذي لا ينكره الشرع ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكر فعلى المخاطب أن يكفهن، فإن قصر فعليه الجناح {وا بما تعملون خبير} عالم بباطنه كظاهره فيجازيكم عليه. {ولا جناح} أي: لا حرج {عليكم فيما عرضتم به} والتعريض في الكلام ما يفهم منه السامع مراده بما لم يوضع له حقية ولا مجازاً كقول السائل: جئتك لأسلّم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا: *وجئتك بالتسليم مني تقاضيا* ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده، والفرق بينه وبين الكناية أنّ الكناية: هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه كقولك: طويل النَّجاد للطويل، وهو بكسر النون حمائل السيف، وكثير الرماد للمضياف {من خطبة النساء} المعتدات للموفاة، والخطبة بالضم والكسر اسم الهيئة، غير أنّ المضمومة خصت بالموعظة، والمكسورة بطلب المرأة للنكاح والتعريض بالخطبة مباح في عدّة الوفاة، وهو أن يقول: رب راغب فيك من يجد مثلك، إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنك لعليّ كريمة، وإني فيك لراغب، وإنّ من غرضي أن أتزوّج، وإن جمع الله بيني وبينك بالحلال أعجبتني، ولأن تزوّجتك لأحسنن إليك، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، من غير أن يصرح بالنكاح فلا يقول: انكحيني والمرأة تجيبه بمثله إن رغبت فيه. روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته قالت: دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي، وأنا في عدّتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام، فقلت: قد غفر الله لك أتخطبني في عدّتي، وأنت يؤخذ عنك، فقال: أوقد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي، «قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يديه حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة» . وأمّا عدّة الفرقة في الحياة فيحل لغير صاحب العدّة التعريض في غير رجعية، لعدم سلطنة الزوج عليها. أمّا التصريح فحرام إجماعاً وأما الرجعية فلا يحل التعريض لها؛ لأنها في حكم الزوجة أما صاحب العدّة فيحل له التعريض والتصريح إن حل له نكاحها، وإلا فلا. {أوأكننتم} أي: أضمرتم {في أنفسكم} من نكاحهنّ، فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً، قال السّدّي: هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء، ولا يتكلم بشيء {علم الله أنكم ستذكرونهنّ} بالخطبة ولا تصبرون عنهنّ فأباح لكم التعريض وفيه نوع توبيخ {ولكن لا تواعدوهنّ سراً} أي: نكاحاً فالسر كناية عن النكاح الذي هو الوطء؛ لأنه مما يسر قال الأعشى: *ولا تقربنّ جارة إنّ سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا* وقال امرىء القيس: *ألا زعمت ساسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي* ثم عبر بالسر الذي هو كناية عن الوطء عن عقد النكاح؛ لأنّ العقد سبب في الوطء وقيل: هو الزنا، كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزينة، وهو يعرض بالنكاح ويقول لها: دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك قاله الحسن. وقيل: هو أن يصف نفسه لها بكثرة الجماع كأن يقول: آتيك الأربعة والخمسة ونحو ذلك. فإن قيل: أين المستدرك بقوله: ولكن لا تواعدوهنّ سراً؟ أجيب: بأنه محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه، تقديره: علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سراً. {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} أي: ما عرف شرعاً من التعريض فلكم ذلك، فإن قيل: أين المستثنى منه؟ أجيب: بأنه محذوف أي: لا تواعدوهنّ مواعدة إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أو إلا مواعدة بقول معروف. قال في «الكشاف» : ولا يجوز أن يكون استثناءً منقطعاً من «سراً» لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهنّ إلا التعريض، وقال البيضاوي: وقيل: إنه استثناء منقطع من سراً وهو ضعيف لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلا التعريض، وهو ـ أي: التعريض ـ غير موعود أي: بل منجز سراً أي: في السر على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستقبح لأنّ مسارتهنّ في الغالب مما يستحيا من المجاهرة به. {ولا تعزموا عقدة النكاح} أي: على عقده، وفي ذلك مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة؛ لأنّ العزم يتقدّم على العقد فإذا نهي عما يتقدمه فهو أولى بالنهي، كما في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا} (الإسراء، 42) {حتى يبلغ الكتاب} أي: المكتوب {أجله} بأن ينتهي ما فرض فيه من العدّة {واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم} من العزم وغيره {فاحذروه} أى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 خافوا عقابه {واعلموا أنّ الله غفور} لمن عزم ولم يفعل خوفاً من الله {حليم} لا يعاجلكم بالعقوبة. أي: تجامعوهنّ {أو} لم {تفرضوا لهنّ فريضة} أي: مهراً، وما مصدرية ظرفية، أي: لا تبعة عليكم في الطلاق زمن عدم المسيس والفرض بإثم ولا مهر، والتبِعة بكسر الباء: ما يتبع المال أو البدن من نوائب الحقوق، وهو من تبعت الرجل بحقي. وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم. وقوله تعالى: {ومتعوهن} عطف على مفسد، ولأنه طلب فلا يعطف على «لا جناح» ؛ لأنه خبر أي: فطلقوهنّ ومتّعوهن، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق، ويسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وإذا تراضيا بشيء فذاك، وإن تنازعا في قَدْرِها قَدّرَها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره، ونسبها وصفاتها، كما قال تعالى: {على الموسع} أي: الغني منكم {قدره} أي: ما يطيقه ويليق به {وعلى المقتر} أي: ضيق الرزق {قدره} أي: ما يطيقه ويليق به. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لأنصاري طلق امرأته المفوّضة قبل أن يمسها: «أمتعتها» قال: لم يكن عندي شيء قال: «متعها بقلنسوتك» . ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوّضة التي لم يمسها الزوج، وألحق بها الشافعي رضي الله تعالى عنه الممسوسة المفوّضة وغيرها قياساً وهو مقدّم على المفهوم. وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الدال، والباقون بسكونها وقوله تعالى: {متاعاً} تأكيداً لمتعوهن بمعنى تمتيعاً وقوله تعالى: {بالمعروف} أي: شرعاً صفة «متاعاً» وقوله تعالى: {حقاً} صفة ثانية لمتاعاً أي: متاعاً واجباً عليهم، أو مصدر مؤكد أي: حق ذلك حقاً {على المحسنين} أي: المطيعين الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال، أو إلى المطلقات بالتمتيع، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلاً فله سلبه» ترغيباً وتحريضاً. ولما ذكر الله تعالى حكم المفوّضة أتبعها حكم قسيمها بقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} يجب لهن ويرجع لكم النصف، وهو دليل على أنّ الجناح المنفي ثم تبعة المهر، وأن لا متعة مع التشطير؛ لأنه قسيمها {إلا} لكن {أن يعفون} أي: الزوجات فلا يأخذن شيئاً. فإن قيل: أي فرق بين قولك: الرجال يعفون والنساء يعفون؟ أجيب: بأن الواو في الأوّل ضمير هم، والنون علم الرفع والواو في الثاني لام الفعل، والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، وهو في محل النصب. {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} وهو الزوج المالك لعقده وحله، كما يعود إليه بالتشطير فيترك لها الكل. وقيل: هو الولي إذا كانت المرأة محجورة، وهو قول قديم للشافعيّ، وهو مروي عن ابن عباس، وقوله تعالى: {وأن تعفوا} مبتدأ خبره {أقرب للتقوى} والخطاب للرّجال والنساء جميعاً؛ لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للمذكر أي: وعفو بعضكم عن بعض أقرب للتقوى {ولا تنسوا الفضل بينكم} أي: أن يتفضل بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمام الصداق أو بترك المرأة نصيبها، حثهما جميعاً على الإحسان {إنّ الله بما تعملون بصير} لا يضيع فضلكم وإحسانكم بل يجازيكم به. {حافظوا على الصلوات} الخمس بأدائها في أوقاتها، ولعل الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بالصلاة إنما وقع في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج؛ لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. {والصلاة الوسطى} أي: الوسطى بين الصلوات أو الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط، وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل، وهي صلاة العصر على الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً» وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها واجتماع الملائكة قال صلى الله عليه وسلم «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقيل صلاة الصبح، لأنها بين صلاتي الليل والنهار، والواقعة في الجزء المشترك بينهما لأنها مشهودة تشهدها الملائكة الحفظة، نصّ عليها الشافعيّ رحمه الله تعالى لكن رجح الأصحاب الأوّل عملاً بقوله: حيث صحّ الحديث فهو مذهبي وقيل: صلاة الظهر؛ لأنها وسط النهار، وكانت أشق الصلوات عليهم، فكانت أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم «سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: «أحزمها» وهو بحاء مهملة وزاي أقواها وأشدها، وقيل: صلاة المغرب لأنها متوسطة بالعدد لأنّ عددها بين عددي الركعتين والأربع، وقيل: صلاة العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي النهار لا يقصران، وهما المغرب والصبح وقال بعضهم: هي إحدى الصوات الخمس لا بعينها أبهمها الله تعالى تحريضاً للعباد في المحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان، وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها {وقوموا} في الصلاة {قانتين} أي: مطيعين لقوله صلى الله عليه وسلم «كل قنوت في القرآن فهو طاعة» أو ساكنين لحديث زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» ، رواه الشيخان.I وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح. {فإن خفتم} من عدوّ أو سبع أو سيل أو نحو ذلك {فرجالاً} جمع راجل أي: مشاة صلوا {أو ركباناً} جمع راكب أي: كيف أمكن مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها ويومىء بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع. والصلاة في حال الخوف على أقسام وهذه صلاة شدّة الخوف وسيأتي بقية الأقسام إن شاء الله تعالى في سورة النساء. ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين» وفي الخوف ركعة، وفي الآية دليل على وجوب الصلاة حال المقاتلة، وإليه ذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: لا يصلي حال المشي والمقاتلة ما لم يمكن الوقوف، وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه: إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر واذكر الله فتلك صلاتك {فإذا أمنتم} من الخوف {فاذكروا الله} أي: صلوا الصلوات الخمس تامّة بحقوقها {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها، والكاف بمعنى مثل وما موصولة أو مصدرية. {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم} قرأ نافع وابن كثير وشعبة والكسائي وصية بالرفع أي: فعليهم وصية، والباقون بالنصب أي: فليوصوا وصية، وقوله تعالى: {متاعاً} نصب على المصدر أي: متعوهنّ متاعاً أي: يتمتعن به من النفقة والكسوة {إلى} تمام {الحول} من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 موتهم الواجب عليهنّ تربصه، وقوله تعالى: {غير إخراج} نصب على الحال أي غير مخرجات من مسكنهنّ. نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف، يقال له الحكم بن الحارث، هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته، فمات فأنزل الله هذه الآية، «فأعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً» ، وكانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة، ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ففسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدّة الحول بآية {أربعة أشهر وعشراً} السابقة. فإن قيل: كيف نسخت الآية السابقة المتأخرة؟ أجيب: بأنها متقدّمة في التلاوة متأخرة في النزول كما في قوله تعالى: {سيقول السفهاء} (البقرة، 142) مع قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} (البقرة، 144) {فإن خرجن} من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة {فلا جناح عليكم} يا أولياء الميت {فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف} شرعاً كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها، خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى، إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشراً {وا عزيز} في ملكه {حكيم} في صنعه لا يسئل عما يفعل. {وللمطلقات متاع} أي: يعطينه {بالمعروف} بقدر الإمكان وقوله تعالى: {حقاً} نصب بفعله المقدّر {على المتقين} الله. فإن قيل: لم كرر الله تعالى ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك لحكمة، وهي أن الآية السابقة في غير الممسوسة وهذه أعم منها، فتشمل الممسوسة أيضاً. {كذلك} أي: كما بيّن لكم ما سبق من أحكام الطلاق والعدد {يبيّن الله لكم آياته} وعد سبحانه وتعالى أنه سيبيّن لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً، {لعلكم تعقلون} أي: تتدبرون فتستعملون العقل فيها وقوله تعالى: {ألم تر} استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده، لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ، وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع، وهذا هنا أولى، فإنه صار مثلاً في التعجيب، أي: ينته علمك {إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف} أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفاً، وقوله تعالى: {حذر الموت} مفعول له، هم قوم من بني إسرائيل كانوا في قرية يقال لها: داوردان، جهة واسط وقع بها الطاعون، فخرجت، طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانياً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عنها أهلها، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله تعالى كما قال تعالى: {فقال لهم الله موتوا} أي: فماتوا {ثم أحياهم} ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله وقدره. وقيل: قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، ففروا حذر الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام أو أكثر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ثم أحياهم بدعاء نبيهم حِزْقِيل ـ بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي ـ ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى، وكان يقال له ابن العجوز؛ لأنّ أمّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها. قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمي حزقيل ذا الكفل؛ لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل، قال: اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً من أن تقتلوا معي جميعاً، فلما جاء اليهود وسألوا حِزْقِيل عن الأنبياء السبعين، قال لهم: ذهبوا وما أدري أين هم، ومنع الله حِزْقِيلَ من اليهود، فلما مر حِزْقِيل على تلك الموتى وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم فبكى، وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك، ويسبحونك، ويقدّمونك، ويكبرونك، ويهللونك، فبقيت وحدي لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه أن ناد: أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه، حتى التزق بعضها ببعض، كل عظم جسد التزق بجسده، فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله تعالى إليه: أن ناد أيتها الأجسام إنّ الله يأمرك أن تكسي لحماً، فاكتست لحماً، ثم أوحى الله إليه أن ناد: أيتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء ورجعوا إلى بلادهم. وقال مجاهد: إنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن حتى ماتوا لآجالهم، التي كتبت لهم، ولو جاءت آجالهم ما بعثوا، واستمرّ ذلك في أسباطهم، قال ابن عباس: وأثر ذلك ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود. وفائدة هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء فإنّ الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى {إنّ الله لذو فضل على الناس} أي: عامّة فليذكر كل أحد ماله عليه من الفضل {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} كما ينبغي أمّا الكفار فلم يشكروا، وأمّا المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره. تنبيه: إنما كرّر الناس، ولم يضمر ليكون أنصّ على العموم لئلا يدّعي مدع أنّ المراد بالناس الأوّل أهل زمان فيخص بالثاني أكثرهم. {وقاتلوا في سبيل الله} أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا {واعلموا أنّ الله سميع} لأقوالكم فيسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون {عليم} بأحوالكم فيعلم ما تضمرونه فيجازيكم. {من ذا الذي يقرض الله} الذي تفرد بالعظمة بإنفاق ماله في سبيل الله ومن استفهامية مرفوعة، الموضع بالابتداء، وذا خبره، والذي: صفة ذا أو بدل، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، فهو اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعد لهم من الثواب قرضاً؛ لأنهم يعملون لطلب ثوابه، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي القرض به؛ لأنه يقطع من ماله شيئاً يعطيه ليرجع إليه مثله وقيل: في الآية اختصار، معناه: من ذا الذي يقرض عباد الله المحتاجين من خلقه كقوله تعالى: {إنّ الذين يؤذون الله} (الأحزاب، 57) أي: عباد الله كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله يقول يوم القيامة: ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟» {قرضاً حسناً} أي: جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية، وقيل: لا يمنّ به ولا يؤذي. ولما كانت النفس مجبولة على الشح بما عندها إلا لفائدة رغبّها سبحانه وتعالى في ذلك بقوله: {فيضاعفه} أي: جزاءه {له} في الدنيا والآخرة، وأوّل هذه المضاعفة أنّ الزائد ضعف ليس كسراً، «كان صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة وقال: خياركم أحسنكم قضاء» ، وقد أنبأ سبحانه وتعالى أن اقتراضه بما هو فوق ذلك، لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله بقوله: {أضعافاً كثيرة} (البقرة، 545) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي. روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري: «يا رسول الله إنّ الله ليريد منا القرض قال: نعم يا أبا الدحداح قال: أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وحائطه فيه ستمائة نخلة وأمّ الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أمّ الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضت ربي عز وجل» . وقرأ ابن عامر وعاصم فيضاعفه بنصب الفاء على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإنّ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً في معنى أيقرض الله أحد، والباقون برفعها، وأسقط الألف وشدّد العين ابن كثير وابن عامر، والباقون بإثبات الألف وتخفيف العين، ولما رغّب سبحانه وتعالى في إقراضه، أتبعه جملة خالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال: {وا يقبض} أي: يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء {ويبسط} أي: يوسعه لمن يشاء امتحاناً، بحسب ما اقتضته حكمته سبحانه وتعالى، وقرأ قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة وبالسين، بخلاف عن ابن ذكوان وخلاد، والباقون بالصاد والرسم بالصاد {وإليه ترجعون} أي: فيجازيكم على ما قدّمتم. {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} أي: إلى قصتهم، والملأ من القوم أشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط، والإبل، والخيل والجيش، ومن للتبعيض {من بعد} موت {موسى} ومن للابتداء {إذ قالوا لنبيّ لهم} أكثر المفسرين على أنه شمويل، قال مقاتل: هو من نسل هرون، وقيل: هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل: هو شمعون، وإنما سمي بذلك؛ لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب دعاءها فسمته شمعون تقول: سمع الله دعائي والسين تصير شيناً بالعبرانية وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم، ذلك أنه لما مات موسى عليه الصلاة والسلام وخلف، في بني إسرائيل الخلوف وعظمت الخطايا سلّط الله عليهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً كثيراً وشدّة، ولم يكن لهم حينئذٍ نبيّ يدبر أمرهم، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته شمعون، تقول: سمع الله دعائي فكبر الغلام فأسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس، فكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل، فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 كذّبوه وقالوا: استعجلت بالنبوّة فإن كنت صادقاً {ابعث} أي: أقم {لنا ملكاً نقاتل} معه {في سبيل الله} فتنتظم به كلمتنا، ونرجع إليه، ويكون ذلك آية من نبوّتك. وإنما كان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبيّ يقيم له أمره ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه. ولما قالوا له ذلك {قال} لهم {هل عسيتم} قرأ نافع بكسر السين، والباقون بفتحها، وقوله تعالى: {إن كتب} أي: فرض {عليكم القتال} مع ذلك الملك {أن لا تقاتلوا} خبر عسى والاستفهام لتقرير المتوقع بها بمعنى التثبت للمتوقع، وإن كان الشائع من التقرير هو الحمل على الإقرار. {قالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} بسبيهم وقتلهم أي: أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان، والإفراد عن الأولاد. {فلما كتب عليهم القتال تولوا} عنه وجبنوا وضيعوا أمر االله تعالى {إلا قليلاً منهم} وهم الذين عبروا النهر مع طالوت وانتصروا على الفرقة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله تعالى: {وا عليم بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد. تنبيه: هذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثاً عن الماضين، وإنما هو إعلام بما يستقبل الآتون، كما قال القائل: إياك أعني واسمعي يا جارة، فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذ بجملته خطاباً لهذه الأمّة بكل ما قص له من أقاصيص الأوّلين. ثم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه أن يبعث لهم ملكاً فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا، وانظر القرن الذي فيه الدهن، فإذا دخل عليك رجل ونشّ الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل، فادهن به رأسه وملّكه عليهم، وكان طالوت واسمه بالعبرانية شاول بن قيس من أولاد بنيامين بن يعقوب، سمي طالوت لطوله وكان أطول من كل أحد أي: في زمانه برأسه ومنكبه، وكان رجلاً دباغاً، يعمل الأديم قاله وهب، وقال السدّي: كان سقاء يسقي على حمار له من النيل، فضلّ حماره، فخرج في طلبه، وقال وهب: بل ضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاماً له في طلبها، فمرّ ببيت شمويل فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبيّ فسألناه على أمر الحمير ليرشدنا، ويدعو لنا، فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر، إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا، فكانت على طوله، فقال لطالوت: قرب رأسك فقرّبه فدهنه بدهن القدس ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكه عليهم، فقال طالوت: أما علمت أنّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى قال: فبأي آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجدت الحمر، فكان كذلك ثم، أخبرهم نبيهم بذلك كما قال تعالى: {وقال لهم نبيهم} الذي تقدّم ذكره {إنّ الله قد بعث لكم} أي: لأجل سؤالكم {طالوت ملكاً} وهو اسم أعجمي كجالوت، وداود، وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته {قالوا أنى} أي: كيف {يكون له الملك علينا} أي: من أين يكون له ذلك؛ {ونحن} أي: والحال أنا نحن {أحق} أي: أولى {بالملك منه} وإنما قالوا ذلك لأنه كان من بني إسرائيل سبطان سبط نبوّة، وسبطُ مملكة، فكان سبط النبوّة سبط لاوي بن يعقوب، ومنه كان موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام، وسبط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المملكة سبط يهوذا بن يعقوب، ومنه كان داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، ولم يكن طالوت من أحدهما، إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوّة منهم، وكانوا يسمون سبط الإثم، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا؛ لأنه لم يكن من سبط المملكة، ومع ذلك قالوا: هو دباغ {ولم} أي: والحال أنه لم {يؤت سعة من المال} يستعين بها على إقامة الملك ولما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه، ردّ عليهم ذلك بأمور حكاها الله تعالى عن نبيهم بقوله تعالى: {قال} أي: نبيهم {إنّ الله اصطفاه} أي: اختاره للملك {عليكم} والعهدة في التملك اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم هذا الأمر الأوّل، والثاني قوله: {وزاده} عليكم {بسطة} أي: سعة {في العلم} الذي يحصل به نظام المملكة ويتمكن به من معرفة الأمور السياسية {و} في {الجسم} الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران، ويكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على مقاومة العدوّ، ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم وقد زاده الله في العلم، فكان أعلم بني إسرائيل يومئذٍ، والجسم فكان أجملهم وأتمهم خلقاً، كان الرجل القائم يمدّ يده فيتناول رأس طالوت. والثالث قوله: {والله يؤتي ملكه} أي: الذي هو له وليس لغيره فيه شيء {من يشاء} فإنه تعالى مالك الملك على الإطلاق، فله أن يؤتيه من يشاء سواء كان غنياً أم فقيراً، كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون والرابع قوله: {وا واسع} أي: واسع الفضل يوسع على الفقير، ويغنيه {عليم} بمن يليق بالملك من النسيب وغيره. {وقال لهم نبيهم} لما أذعنوا لذلك وطلبوا منه آية تدلّ على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم {إنّ آية} أي: علامة {ملكه أن يأتيكم التابوت} أي: الصندوق وكان فيه صور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أنزله الله تعالى على آدم صلى الله عليه وسلم وكان من عود الشِّمشار ـ بمعجمتين أولاهما مكسورة وبينهما ميم ساكنة ـ خشب تعمل منه الأمشاط، مموّهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم، ثم كان عند إسمعيل؛ لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى، ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل، ثم استمرّ عند بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم أو حكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوّهم كما قال تعالى: {فيه سكينة} أي: طمأنينة لقلوبكم {من ربكم} ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا قاله قتادة والكلبي: لما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة أصحاب جالوت، فغلبوهم على التابوت وأخذوه. وقال علي: هو صورة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وقال مجاهد: هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة وله جناحان، وقيل: له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي طشت من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقال وهب: هي روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تخبرهم ببيان ما يريدون. ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائهم قال: {و} فيه {بقية مما ترك آل موسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وآل هرون} وآلهما أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما. وقيل: أبناؤهما، وقيل: أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمّ موسى وهرون والبقية هي رضاض الألواح أي: فتاتها وعصا موسى وثيابه ونعلاه وعمامة هرون وقفيز من المنّ، الذي كان ينزل عليهم. وقوله تعالى: {تحمله الملائكة} حال من فاعل يأتيكم {إنّ في ذلك لآية لكم} على ملكه وقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} يحتمل أن يكون من كلام نبيهم، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى، فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت فأقروا بملكه، وقيل: رفعه الله تعالى بعد موسى، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه، فلما رأوه لم يشكوا في النصر به، فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت: لا حاجة لي في كل ما أرى لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج امرأة ولم يبن بها، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع عليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت صيفاً في حرّ شديد فشكوا قلّة الماء بينهم وبين عدوّهم وقالوا: إن المياه لا تحملنا فادعو الله أن يجري لنا نهراً كما قال تعالى: u {فلما فصل} أي: خرج {طالوت} أي: الذي ملكوه {بالجنود} من بيت المقدس أي: التي اختارها والجنود، جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع {قال إنّ الله مبتليكم} أي: مختبركم ليظهر منكم المطيع والعاصي وهو أعلم {بنهر} قال ابن عباس والسدّي: هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب {فمن شرب منه} أي: من مائه فليس مني أي: من أتباعي {ومن لم يطعمه} أي: يذقه {فإنه مني} أي: من أتباعي، وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبياً كما قيل أو بإخبار النبيّ عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: {إلا من اغترف غرفة بيده} أي: فاكتفى بها ولم يزد عليها، «فإنه مني» استثناء من قوله تعالى: فمن شرب، وإنما قدّمت عليه الجملة الثانية؛ للعناية بها كما قدّم الصابئون على خبر إن في قوله: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا} (البقرة، 62) والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو غرفة بفتح الغين والباقون بضمها. فائدة: قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج: *صبر النفس عند كل ملم ... إن في الصبر حيلة المحتال* *لا تضيقن في الأمور فقد تك ... شف لأواؤها بغير احتيال* *ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال* *قد يصاب الجبان في آخر الص ... ف وينجو مقارع الأبطال* فقلت ما وراءك يا أعرابي؟ قال: مات الحجاج فلم أدر بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بقوله فرجة؛ لأني كنت أطلب شاهداً لاختيار القراءة في سورة البقرة غرفة بالضم. {فشربوا منه} لما وافوه بكثرة وقوله تعالى: {إلا قليلاً منهم} أي: فاقتصر على الغرفة، نصب على الاستثناء. روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالماً، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وأروته، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، فلم يرووا وبقوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 شط النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ، واختلفوا في عدد الذين لم يشربوا قال البغوي: الصحيح أنهم ثلثمائة وبضعة عشر أي: عدد أهل بدر، وقال السدّي: كانوا أربعة آلاف ويؤيد الأوّل ما روي عن البراء أنه قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن عدّة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت، الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر، وثلثمائة. ويروى ثلثمائة وثلاثة عشر وفي هذا إيذان بأن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد التائبين من أصحاب طالوت، الذين كان بعددهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر، عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين ولما كان قصص بني إسرائيل مثلاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر، فابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، وفي إفراد اليد إيذان بأنّ الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين، لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشرّ. {فلما جاوزه} أي: النهر {هو} أي: طالوت {والذين آمنوا معه} أي: وهم الذين اقتصروا على الغرفة {قالوا} أي: الذين شربوا {لا طاقة} أي: لا قوّة {لنا اليوم بجالوت وجنوده} أي: بقتالهم وجبنوا ولم يجاوزوه. ولما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بهذا القول نبّه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظنّ أنّ أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام، ولا ينقص بالجراءة والإقدام، وأنه يلقى الله تعالى، فيجازيه على عمله، وأنّ النصر من الله لا بالقوّة والعدد فقال: {قال الذين يظنون} أي: يوقنون {أنهم ملاقوا الله} بالبعث وهم الذين جاوزوه {كم من فئة} أي: جماعة، وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في النصب والخفض، وكم يحتمل أن تكون خبرية بمعنى كثير، ومن مبينة وأن تكون استفهامية، ومن مؤكدة والأوّل أولى بقرينة المقام {قليلة} كما كان في هذه الأمة في يوم بدر {غلبت فئة كثيرة بإذن الله} أي: بإرادته وتيسيره، ثم انظر إلى هذا الحال العجيب؛ وهو أنه لما ندبهم انتدب جيش لا يحصون فاشترط عليهم الشاب الفارغ من بناء دار، وبناء بامرأة، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً، ثم امتحنوا بالنصر، فلم يثبت منهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط، من الذين هم دون الدون من المنتدبين، الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك الخارجين معه كما قال القائل: *ألم تعلم بأني صيرفي ... أحك الأصدقاء على محكي* *فمنهم بهرج لا خير فيه ... ومنهم من أجوزه بشك* *وأنت الخالص الذهب المصفى ... بتزكيتي ومثلي من يزكي* ثم بين سبحانه وتعالى أنّ ملاك كل ذلك الصبر بقوله: {وا مع الصابرين} بالنصر والمعونة فلا يخذل من كان معه. {ولما برزوا} أي: ظهروا وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة {لجالوت} اسم ملك من ملوك الكنعانيين بالشأم في زمن بني إسرائيل، جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد {وجنوده} على ما هم فيه من القوّة والكثرة التجؤا إلى الله بالدعاء كما نبه على ذلك بقوله: {قالوا ربنا أفرغ} أي: أصبب {علينا صبراً وثبت أقدامنا} بتقوية قلوبنا على الجهاد {وانصرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 على القوم الكافرين} وفي الدعاء ترتيب بليغ إذ سألوا: أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدوّ المترتب عليهما غالباً. {فهزموهم بإذن الله} أي: بإرادته {وقتل داود جالوت} قال أهل التفسير: عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له، وكان داود أصغرهم، فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إليّ أو أبرز من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم، فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره: من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فهابوا لقاء جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا في ذلك، فأوحى الله تعالى إليه أن في ولد إيشا من يقتل الله تعالى به جالوت، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتي وأناصفك ملكي؟ قال: نعم قال: آنست من نفسك أن تقوى به قال: نعم أنا أرعى فيجيء الأسد فيأخذ شاة فأقوم إليه وأفتح لحييه عنها وأشقهما إلى قفاه، فمرّ داود في الطريق فكلمه ثلاثة أحجار، وقالت له: إنك تقتل جالوت بنا، فحملها في مخلاته فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة وكان من أشدّ الناس وأقواهم، كان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلثمائة رطل حديد، انتدب له داود وأخذ مخلاته وتقلد بها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه الرعب فقال له: أنت تبرز لي قال: نعم، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام، فقال: أتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟ قال: نعم أنت شر من الكلب قال: لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء، قال داود: أو يقسم الله لحمك، فقال داود: باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحق، ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال: بسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً، ودوّر المقلاع ورمى به، فسخر الله له الريح حتى أصاب أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلاً، فأخذه داود يجرّه حتى ألقاه بين يدي طالوت، وفرح المسلمون فرحاً شديداً وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فجاء داود إلى طالوت وقال: أنجزني ما وعدتني فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه، وأكثروا ذكره فحسده طالوت، وأراد قتله فأخبر بذلك فهرب، فسلط عليه العيون وطلبه أشدّ الطلب، فلم يقدر عليه. ثم إنّ طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال: أقتله فركض على أثره فاشتدّ داود وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غاراً، فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت فقال: لو كان دخل ههنا لخرق بناء العنكبوت، فتركه ومضى وانطلق داود إلى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه إلى أن قتل طالوت، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة، وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم. قال الكلبي والضحاك: ملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى: {وآتاه الله الملك والحكمة} أي: النبوّة بعد موت شمويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وطالوت ولم يجتمعا لأحد قبله بل كان الملك في سبط والنبوّة في سبط وقيل: الملك والحكمة العلم والعمل. {وعلمه مما يشاء} كصنعة الدروع كان يصنعها ويبيعها، وكان لا يأكل إلا من عمل يده، ومنطق الطير والصوت الطيب، والألحان، ولم يعط الله تعالى أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح والسلسلة، كان لا يمسها ذو عاهة إلا برأ، وكانوا يتحاكمون إليها بعده إلى أن رفعت، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقاً أتى السلسلة، فمن كان صادقاً مد يده إليها فتناولها، ومن كان كاذباً لم ينلها وكان ذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فأودع بعض ملوكهم رجلاً جوهرة ثمينة فلما طلبها منه أنكرها، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة، إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقام صاحب الجوهرة فتناول السلسلة بيده ثم قام المنكر وقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازتي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فقال الرجل: اللهمّ إن كنت تعلم أنّ الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمدّ يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة. {ولولا دفع الله الناس بعضهم} بدل بعض من الناس {ببعض} أي: ولولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار {لفسدت الأرض} بغلبة المشركين وقتل المسلمين، وتخريب المساجد، أو لفسدت الأرض بشؤم الكفر فيكون المعنى: ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر. وقد روي أنّ الله عز وجلّ ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر الآية. وروي عن ابن عباس أنه قال: «يدفع الله تعالى بمن يصلي، عمن لا يصلي وبمن يحج، عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي» وعن جابر بن عبد الله «أنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده، وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم» . وعن ابن مسعود «أنّ لله عز وجلّ في الخلق ثلثمائة قلوبهم على قلب آدم، ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى، ولله في الخلق سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم، ولله في الخلق خمسة قلوبهم على قلب جبرائيل، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل، ولله في الخلق واحد قلبه في قلب إسرافيل، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة وإذا مات واحد من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات واحد من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة، وإذا مات واحد من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات واحد من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلثمائة، وإذا مات واحد من الثلثمائة أبدل الله مكانه من العامّة فيهم يحيي ويميت قال: لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون ويدعون على الجبابرة فينقصمون ويستسقون، فيسقون ويسألون فتنبت لهم الأرض ويدعون فيدفع الله أنواع البلاء» . {ولكن الله ذو فضل على العالمين} أي: كلهم أوّلاً بالإيجاد، وثانياً بالدفاع، فهو يكف عن ظلم الظلمة، إمّا بعضهم ببعض أو بالصالحين ويسبغ عليهم غير ذلك من أنواع نعمه ظاهرة وباطنة. {تلك} أي: هذه الآيات التي قصصناها عليك من حديث الأوّلين، وتمليك طالوت وإتيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 التابوت، وانهزام الجبابرة على يد صبيّ وهو داود، وقتل داود جالوت {آيات الله} الذي جلّت عظمته وتمت قدرته وقوّته {نتلوها} أي: نقصها {عليك} يا محمد {بالحق} أي: بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنهم يجدونه في كتبهم كذلك وأرباب التواريخ {وإنك} أي: والحال إنك {لمن المرسلين} بما دلّت هذه الآية عليه من علّمك بها من غير معلم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر، ولما تقدّم في هذه السورة ذكر رسل كثيرة وختم هذه الآيات بأنه صلى الله عليه وسلم منهم تشوّفت النفس إلى معرفة أحوالهم في الفضل هل هم فيه سواء أو هم متفاضلون، فأشار إلى علوّ مقادير الكل في قوله: {تلك الرسل} بأداة البعد إعلاماً ببعد مراتبهم وعلو منازلهم وأنها بالمحل الذي لا ينال والمقام الذي لا يطال. تنبيه: تلك مبتدأ والرسل صفة أي: الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جماعة الرسل واللام للاستغراق، والخبر {فضلنا بعضهم على بعض} بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، لما أوجب ذلك من تفضيلهم في الحسنات بعد أن فضلنا الجميع بالرسالة، ولما كان أكثر السورة في بني إسرائيل، وأكثر ذلك في أتباع موسى عليه الصلاة والسلام ذكر وصفه مع وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {منهم من كلم الله} بلا واسطة وهو موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، كلّم موسى ليلة الحيرة وهي بفتح الحاء، تحيره في معرفة طريقه من مسيره من مدين إلى مصر وفي الطور، ومحمداً ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى، وبين التكليمين بون عظيم، ومنهم أيضاً آدم كما ورد في الحديث. {ورفع بعضهم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {درجات} على غيره بعموم الدعوة وختم النبوّة به، والأتباع الكثيرة في الأزمان الطويلة وينسخ جميع الشرائع، وبكونه رحمة للعالمين وبتفضيل أمته على سائر الأمم، وبالمعجزات المتكاثرة المستمرّة، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السموات والأرض عن الإتيان بسورة من مثله، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الغالبة للحصر، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده كفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات وبانشقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع بمفارقته، وتسليم الحجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» . وروي عنه أنه قال: «أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي: نصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمّتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامّة» . وروي عنه أنه قال: «فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» . {وأتينا عيسى ابن مريم البينات} من إحياء الموتى وغيره {وأيدناه} أي: قويناه {بروح القدس} وهو جبريل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يسير معه حيث سار، وخص عيسى صلى الله عليه وسلم باسمه لإفراط اليهود في تحقيره، والنصارى في تعظيمه حيث قالوا: هو ابن الله وأبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {بعضهم} حيث لم يقل ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم لما في الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول أحدكم أو بعضكم، يراد به الذي تعورف واشتهر، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره. {ولو شاء الله} أي: الذي له جميع الأمر، هدى الناس جميعاً باتفاقهم على دين واحد {ما اقتتل الذين من بعدهم} أي: بعد الرسل أي: ما اقتتلت أممهم {من بعد ما جاءتهم البينات} أي: المعجزات الواضحات على أيدي رسلهم؛ لاختلافهم في الدين وتضليل بعضهم بعضاً {ولكن اختلفوا} لمشيئته تعالى ذلك {فمنهم} أي: فتسبب عن اختلافهم إن كان منهم {من آمن} أي: ثبت على إيمانه {ومنهم من كفر} كالنصارى بعد المسيح. ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالاً، قال الله تعالى معلّماً: أنّ الكل بخلقه تأكيداً لما مضى من ذلك ومعيداً ذكر الاسم الأعظم: {ولو شاء الله ما اقتتلوا} بعد اختلافهم بالإيمان والكفر {ولكنّ الله يفعل ما يريد} فيوفق من يشاء فضلاً منه، ويخذل من يشاء عدلاً منه، والآية دليل على أنّ الأنبياء متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولكن بنصّ لأنّ اعتبار الظنّ فيما يتعلق بالعمل لا بالاعتقاد، وأن الحوادث بيد الله لقوله تعالى: {يفعل ما يريد} تابعة لمشيئته تعالى خيراً كان أو شرّاً إيماناً أو كفراً. ولما كان الاختلاف على الأنبياء سبباً للجهاد، الذي هو حظيرة الدين وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعاً إلى أوّل السورة من هنا إلى آخرها، وأتى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدّم الحثّ عليه من أمر النفقة. {يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} أي: مما أوجبت عليكم إنفاقه من الزكاة، قاله السديّ وقال غيره أراد به صدقة التطوّع والنفقة في الخير، أي: فلا تبخلوا بالإنفاق فإنه لا داء أدوأ من البخل. قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر، 9) (التغابن، 16) وصرف الأمر بالتبعيض إلى الحلال الطيب يمنع احتجاج المعتزلة بها، في أنّ الرزق لا يكون إلا حلالاً، لكونه مأموراً به. وأتبعه بما يرغب ويرهب من حلول يوم التناد الذي تنقطع فيه الأسباب التي أقامها سبحانه وتعالى في هذه الدار فقال: {من قبل أن يأتي يوم} موصوف بأنه {لا بيع فيه} أي: فداء {ولا خلّة} أي: صداقة تنفع {ولا شفاعة} بغير إذنه والمعنى أنه لا يفدى فيه أسير بمال ولا يراعي الصداقة من مساو، ولا الشفاعة من كبير، لعدم إرادة الله تعالى لشيء من ذلك ولا يكون إلا ما يريد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب في بيع وخلة وشفاعة، ولا تنوين على الأصل، والباقون بالرفع والتنوين على أنها في تقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة. ولما حثّ سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذمّ الكافرين، بكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة، لتخليصهم من الإيمان وبعدهم منه وتكذيبهم بذلك اليوم، فهم لا ينفقون لخوفه وإرهابه فقال بدل ولا نصرة لكافر {والكافرون} أي: المعلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 كفرهم في ذلك اليوم {هم} المختصون بأنهم {الظالمون} أي: الكاملون في الظلم لا غيرهم. وقوله سبحانه: {الله لا إله إلا هو} مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير {الحيّ} أي: الدائم البقاء {القيوم} أي: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم {لا تأخذه سنة} وهي ما يتقدّم النوم من الفتور، الذي يسمى النعاس، قال ابن الرقاع العاملي: *وسنان أقصده (أي: أصابه) النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم* أي: لا يأخذه نعاس {ولا نوم} وهو حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس. فإن قيل: تقديم السنة على النوم قياس المبالغة عكسه، أجيب: بأنّ هذا ذكر ترتيب الوجود، إذ وجود السنة سابق على وجود النوم، فهو على طريقة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، قصداً إلى الإحاطة والإحصاء؛ ولأنه لمّا عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل: فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان، وجملة لا تأخذه سنة ولا نوم نفي للتشبيه بينه وبين خلقه وتأكيد لكونه حياً قيوماً فإن من أخذه نعاس أو نوم كان بآفة تخلّ بالحياة قاصراً في الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه.e وفي الجمل التي بعده من قوله: {له ما في السموات وما في الأرض} إلخ.. وقوله تعالى: {له} أي: بيده وفي تصرّفه واختصاصه {ما في السموات وما في الأرض} أي: ملكاً وخلقاً تقرير لقيوميته، واحتجاج على تفرّده في الألوهية، والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما كالكواكب والنبات والمعادن، وخارجاً عنهما متمكناً منهما، كالملائكة والإنس والجنّ. وقوله تعالى: {من ذا الذي} أي: لا أحد {يشفع عنده إلا بإذنه} له بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة وتواضعاً فضلاً أن يدفعه عناداً ومخاصمة {يعلم ما بين أيديهم} في الخلق من أمر الدنيا {وما خلفهم} أي: من أمر الآخرة قاله مجاهد، وقال الكلبي: ما بين أيديهم يعني: الآخرة؛ لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم وقيل: ما بين أيديهم ما قدّموا من خير وشرّ وما خلفهم ما هم فاعلوه {ولا يحيطون بشيء} أي: قليل ولا كثير {من علمه} أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته {إلا بما شاء الله} أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل {وسع كرسيه السموات والأرض} اختلف في الكرسي فقال الحسن: هو العرش نفسه، وقال أبو هريرة: هو موضع أمام العرش، والأحاديث تدل عليه، ومعنى وسع أنّ سعته مثل سعة السموات والأرض، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة. ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وقال علي ومقاتل: كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة أبي البشر آدم عليه الصلاة والسلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة، إلى السنة وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة، وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع، وهو الأسد يسأل الرزق للسباع من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر، يسأل للطير الرزق من السنة إلى السنة، وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش وقيل: المراد بالكرسي علمه، وقيل: ملكه وقيل: تصوير لعظمته وتمثيل مجرّد {ولا يؤده} أي: لا يثقله ولا يشق عليه {حفظهما} أي: السموات والأرض {وهو العليّ} أي: الرفيع فوق خلقه المتعالي عن الأشباه والأنداد {العظيم} أي: الكبير الذي لا شيء أعظم منه، المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه. وهذه الآية تسمى آية الكرسي، مشتملة على أمّهات المسائل الإلهية، فإنها دالة على أنه موجود واحد في الإلهية، متصف بالحياة واجب لوجود لذاته، موجد لغيره، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول، مبرّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، ومبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له، عالم بالأشياء كلها جليها وخفيها كليها وجزئيها، واسع الملك والقدرة، إذ المقدور كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه لا يؤده شاق ولا يشغله شان، عن شان متعال عما يدركه وهم عظيم فلا يحيط به فهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ أعظم آية في القرآن الكرسي» رواه مسلم، وروى النسائيّ وابن حبان وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» أي: فإذا مات دخل الجنة. وروى البيهقيّ في «شعبه» أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يواظب عليها إلا صديق أو عابد» ، وروي البيهقي أيضاً «أنّ من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه، وجاره وجار جاره والأبيات حوله» . وعن أبيّ بن كعب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله: «أيّ آية من كتاب الله أعظم؟» قال: قلت الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم، قال: فضرب في صدري ثم قال: «ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إنّ لها لساناً وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش» وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أوّل حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حفظ في يومه ذلك حتى يمسي فإن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح» . وروي: «ما قرئت آية الكرسي في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة، يا علي علّمْها ولدك وأهلك وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها» وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم عليّ رضي الله تعالى عنه: أين أنتم عن آية الكرسي ثم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عليّ سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال، الطور وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة، آية الكرسي» . {لا إكراه في الدين} أي: على الدخول فيه أي: فمن أعطي الجزية لم يكره على الإسلام فهو عام مخصوص بأهل الكتاب. لما روي أنّ أنصارياً كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري: يا رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فنزلت وقيل: عام منسوخ، فكان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت الآية منسوخة بآية السيف، قاله ابن مسعود: {قد تبين الرشد من الغيّ} أي: ظهر بالآيات البينات أنّ الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية، وأنّ الكفر غيّ يؤدّي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان، طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، فلم يحتج إلى الإكراه والإلجاء {فمن يكفر بالطاغوت} أي: فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام {ويؤمن با} أي: بالتوحيد وتصديق الرسل {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي: تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين {لا انفصام} أي: لا انقطاع {لها} . قال التفتازاني: شبه التديّن بالدين الحق، والثبات على الهدى والإيمان بالتمسك بالعروة الوثقى المأخوذة من الحبل المحكم المأمون تقطعها، ثم ذكر المشبه به وأراد المشبه وقال الزمخشريّ: وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به اه. والوثقى تأنيث الأوثق، وقيل: العروة الوثقى السبب الذي يتوصل به إلى رضا الله تعالى {وا سميع} لما يقال: {عليم} بالنيات والأفعال وقيل: سميع لدعائك إياهم إلى الإسلام عليم بحرصك على إيمانهم. أي: ناصر ومعين {الذين آمنوا} أي: أرادوا أن يؤمنوا لقوله تعالى: {يخرجهم} أي: بلطفه وتأييده {من الظلمات} أي: الكفر {إلى النور} أي: الإيمان أو أنهم الثابتون على الإيمان بأن يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت، لهم بما يهديهم ويوفقهم له من أجلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. وعن ابن عباس: أنهم قوم كانوا كفروا بعيسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} أي: الشيطان وقال مقاتل: هو كعب بن الأشرف وحييّ بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة {يخرجونهم} أي: يدعونهم {من النور} الذي منحوه بالفطرة {إلى الظلمات} أي: الكفر. فإن قيل: كيف يخرجونهم من النور وهم كفار لم يكونوا في نور قط، أجيب: بأنّ الطبرانيّ روى عن ابن عباس أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به» ، أو أنه تعالى ذكر الإخراج في مقابلة يخرجهم من الظلمات، فهو على العموم في حق جميع الكفار كما يقول الرجل لأبيه: أخرجتني من مالك ولم يكن فيه، كما قال تعالى إخباراً عن يوسف عليه الصلاة والسلام: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون با} (يوسف، 38) ولم يكن قط في ملتهم وقيل: نزلت في قوم ارتدّوا عن الإسلام، وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار السبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته به، والطاغوت يكون مذكراً ومؤنثاً وواحداً وجمعاً، قال تعالى في المذكر: والواحد {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} ، (النساء، 60) وقال تعالى في المؤنث {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} (الزمر، 17) وقال في الجمع: {يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (البقرة، 257) . وقوله تعالى: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وعيد وتحذير. قال البيضاويّ: ولعلّ عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم. ولما كان النمروذ المحاجج للخليل ممن أخرجته الشياطين من النور إلى الظلمات ذكره عقب ذلك فقال: {ألم تر} أي: تعلم بما نخبرك به علماً هو عندك كالمشاهدة لمالك من كمال البصيرة، وبما أودعناه فيك من المعاني المنيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 {إلى الذي} وهو نمروذ {حاج} جادل وخاصم {إبراهيم في ربه} وهو أوّل من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادّعى الربوبية {أن} آي: لأن {آتاه الله الملك} فطغى أي: كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه، فأورثه الكبر والعتق، فحاج لذلك. وقال مجاهد: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر مؤمنان وكافران، أما المؤمنان فسليمان صلى الله عليه وسلم وذو القرنين، وأمّا الكافران فنمروذ بن كنعان وبختنصر، لم يملكها غيرهم. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يعطي الكافر الملك، ففيها حجة على من منع إيتاء الملك للكافر من المعتزلة، وأوّل الملك بالمال والخدم الذي يتسلط به على غلبة الناس لا الملك الحقيقيّ وبهذا أوّل الزمخشريّ. {إذ قال إبراهيم: ربي الذي} قرأ حمزة ربي بسكون الياء والباقون بنصبها {يحيي ويميت} أي: يخلق الموت والحياة في الأجساد، وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره، قال له نمروذ: من ربك؟ فقال له إبراهيم ذلك. واختلفوا في وقت هذه المناظرة فقال مقاتل: لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمروذ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار، فقال له: من ربك الذي تدعونا إليه؟ قال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النار، وذلك أنّ الناس قحطوا على عهد نمروذ، وكان الناس يمتارون من عنده، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال: أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فقال له: من ربك؟ فقال له ذلك. {قال أنا أحيي وأميت} قرأ نافع بمدّ الألف من أنا فيصير مدّاً منفصلاً والباقون بالقصر، قال أكثر المفسرين: دعا نمروذ برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياءً، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى لا عجزاً بل رآه من غباوته، فإنّ حجته لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت، فكان له أن يقول: فأحي من أمتّ إن كنت صادقاً، لكنه انتقل إلى حجة أوضح من الأولى ذكرها الله تعالى بقوله: {قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشمس} وهو الذي أوجدها {من المشرق} أي: في كل يوم قبل أن توجد أنت بدهور. {فأت بها} أنت {من المغرب} إن كنت صادقاً فيما تدعيه، ولو يوماً واحداً، وفي ذلك إشعار بأنّ الله تعالى لا بدّ وأن يأتي بالشمس من المغرب، ليكون في ذلك إظهار تصريفه لها حيث شاء يطلعها من حيث غربت كما يطلع الروح من حيث قبضت، ليكون طلوع الشمس من مغربها آية مقاربة لقيام الساعة وطلوع الأرواح من أبدانها {فبهت الذي كفر} تحير ودهش وانقطعت حجته، ولم يعط إبراهيم طعاماً فرجع فمّر على كثيب رمل أعفر، فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام رأته، فأخذته وصنعت له منه وقربته له فقال لها: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعرف أنّ الله تعالى رزقه فحمد الله تعالى. فإن قيل: كيف بهت نمروذ وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب؟ أجيب: بأنّ الله تعالى صرفه عن ذلك إظهاراً للحجة عليه، أو معجزة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أو أنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكانت زيادة في فضيحته وانقطاعه. ثم بعث الله تعالى إلى نمروذ بن كنعان ملكاً أن آمن بي وأتركك على ملكك قال: فهل رب غيري، فجاءه الثانية، فقال له ذلك فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له ذلك الملك: فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فجمع الجبار جموعه، فأمر الله تعالى الملك، ففتح عليه باباً من البعوض فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام ونمروذ كما هو لم يصبه من ذلك شيء فبعث الله عليه بعوضة فدخلت، في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه، ثم ضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة سنة فعذبه الله تعالى أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي بنى صرحاً طويلاً ليصعد منه إلى السماء ليقاتل أهلها فأرسل الله تعالى عليه الريح فهدمته، وستأتي قصته في غافر إن شاء الله تعالى {وا لا يهدي القوم الظالمين} بالكفر إلى محجة الاحتجاج. {أو كالذي مرّ على قرية} فيه حذف تقديره أوَ رأيت مثل الذي، فحذف لدلالة ألم تر عليه، لأن كلتيهما كلمة تعجب، وتخصيصه بحرف التشبيه، لأنّ المنكرين للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدّعي الربوبية وقيل: الكاف مزيدة، وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو إلى الذي مرّ، والمار عزير بن شرحيا أو الخضر أو الكافر بالبعث، ويؤيد هذا نظمه مع نمروذ في سلك وكلمة الاستبعاد التي هي. أنّى يحيي، وأكثر المفسرين على الأوّل والقرية بيت المقدس حين خربها بختنصر وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً فيقذفه في بيت المقدس، ففعلوا حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق، فثلثاً قتلهم، وثلثاً سباهم وثلثاً أقرهم بالشأم وقيل: هي القرية التي خرج منها الألوف وقيل غيرهما {وهي خاوية} أي: ساقطة {على عروشها} أي: سقوفها بأن سقط السقف أولاً ثم سقطت الجدران عليه، لما أخربها بختنصر {قال أنى} أي: كيف {يحيي هذه الله بعد موتها} أي: بما صارت إليه من الخراب وذهاب الأهل، فيعيدها إلى ما كانت عليه عامرة آهلة، وهذا اعتراف بالعجز من معرفة طريق الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي، إن كان القائل مؤمناً واستبعاد إن كان كافراً. {فأماته الله} وألبثه {مائة عام} ميتاً {ثم بعثه} بالإحياء ليريه كيفية ذلك {قال كم لبثت} أي: مكثت أي: لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله كم لبثت؟ وعن ابن عباس أن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة فأصابه الحرّ، فدخل الخربة وهو على حمار له فنزل عن حماره ومعه سلّة فيها تين وسلة فيها عنب، فنزل في ظلّ تلك الخربة وأخرج قصعة كانت معه، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في تلك القصعة في العصر ليبتل فيأكله، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي ساقطة على عروشها ورأى عظاماً بالية فقال: {أنى يحيى هذه الله بعد موتها} فلم يشك أنّ الله يحييها ولكن قالها تعجباً، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه فأماته الله مائة عام، فلما أتت عليه مائة عام، وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل به وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى، ثم ركّب خلقه وهو ينظر ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ويعقل فاستوى جالساً فقال له الملك: كم لبثت؟ {قال لبثت يوماً} وذلك أنّ الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس فقال: لبثت يوماً وهو يرى أنّ الشمس قد غربت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: {أو بعض يوم} أي: بل بعض يوم {قال} أي: الله أو الملك له {بل لبثت مائة عام} قرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة في كم لبثت، وفي قال: لبثت وفي بل لبثت، والباقون بالإدغام. ثم قال له الله أو الملك {فانظر إلى طعامك} وكان تيناً أو عنباً {وشرابك} وكان عصيراً أو لبناً {لم يتسنه} أي: لم يتغير بمرور الزمان فكان التين أو العنب كأنه قد قطف من ساعته والعصير كأنه قد عصر أو اللبن قد حلب من ساعته قال الكسائيّ أي: كأنه لم يأت عليه السنون، وإنما أفرد الضمير لأنّ الطعام والشراب كالجنس الواحد. فإن قيل: إذا كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه الله؟ أجاب الزمخشريّ بأنّ الكلام كان بعد البعث ولم يك إذ ذاك كافراً وقال أبو حيان: لا نص في الآية، إنّ الله كلمه شفاهاً، وقرأ حمزة والكسائيّ لم يتسنّ بإسقاط الهاء إذا وصلها بما بعدها، والباقون بإثباتها وفي الوقت ثابتة للجميع. {وانظر إلى حمارك} كيف هو فرآه ميتاً وعظامه بيض وكان له حمار قد ربطه، وقيل: رآه حياً مكانه كما ربطه حفظ بلا ماء ولا علف، كما حفظ الطعام والشراب من التغير. وقوله تعالى: {ولنجعلك آية للناس} معطوف على محذوف تقديره فعلنا ذلك لتعلم ولنجعلك آية وقيل: الواو زائدة مقحمة أي: لنجعلك عبرة ودلالة على البعث بعد الموت {وانظر إلى العظام كيف ننشرها} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالراء ومعناه نحييها، والباقون بالزاي ومعناه نرفعها من الأرض ونردّها إلى أماكنها من الجسد. وفي الآية تقديم وتأخير وتقديرها: وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشرها ولنجعلك آية للناس، واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون: إنه أراد به عظام حماره وهذا يؤيد كون حماره كان ميتاً قال السديّ: إن الله أحيا عزيراً ثم قال له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فبعث الله ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل، الذي ذهبت به الطيور والسباع، فاجتمعت فركب بعضها في بعض، وهو ينظر فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم ثم كسا العظام لحماً ودماً كما قال تعالى: {ثم نكسوها لحماً} فصار حماراً لا روح فيه ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى، وقال الأقلّون: أراد به عظام هذا الرجل فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً واقفاً كهيئته يوم ربطه، وهذا يؤيد كون حماره كان حياً وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء قال الضحاك وقتادة: وتقدير أي على هذا وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشرها. روي أن عزيراً لما أحياه الله تعالى ركب حماره حتى أتى محلته، فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله، فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم، فخرج عزير عنهم وهي بنت عشرين سنة فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت، وقالت: ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً فقال: فإني أنا عزير فقالت: سبحان الله فإن عزيراً فقدناه من مائة سنة، لم نسمع له بذكر، قال: إنّ الله أماتني مائة سنة ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بعثني قالت: فإنّ عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية، فادع الله أن يردّ عليّ بصري حتى أراك، فإن كنت عزيراً عرفتك، فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال: قومي بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت إليه فقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ في المجلس، قال الضحاك: عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز، وهو أسود الرأس واللحية، فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه، فنهض الناس وأقبلوا عليه ونظروا إليه، وقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير، فقال بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير، فقرأ لهم التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك وقالوا: هو ابن الله.u وسيأتي الكلام على ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى. {فلما تبين له} ذلك بالمشاهدة وفاعل تبين مضمر تقديره: فلما تبيّن له أنّ الله على كل شيء قدير {قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير} فحذف من الأوّل لدلالة الثاني عليه كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً، وقرأ حمزة والكسائيّ بوصل الهمزة قبل العين وسكون الميم، والباقون بقطع الهمزة ورفع الميم. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لِّيَطْمئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا? وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَن?بَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُن?بُلَةٍ مِّا?ئَةُ حَبَّةٍ? وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ? وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا? مَنًّا وَ? أَذًى? لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى? وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ * يَ?اأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? تُبْطِلُوا? صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَا?ذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ? رِئَآءَ النَّاسِ وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ا?خِرِ? فَمَثَلُهُ? كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ? وَابِلٌ فَتَرَكَهُ? صَلْدًا? s يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا?? وَاللَّهُ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} {و} اذكر {إذ قال إبراهيم رب أرني} أي: أبصرني، قرأ ابن كثير والسوسي بسكون الراء من أرني، وقرأ الدوريّ باختلاس الكسرة، والباقون بكسرة كاملة {كيف تحيي الموتى} قال الحسن وقتادة والضحاك: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مرّ على دابة ميتة، قال ابن جرير: كانت جيفة حمار فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبرّ، فكانت إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها، وما وقع منها، يصير في البحر وإذا انحسر البحر جاءت السباع فأكلت منها وما وقع منها يصير تراباً فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها وما سقط قطعته الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها وقال: يا رب قد علمت أنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر، فأرني كيف تحييها فأزداد يقيناً فعابه الله بقوله: {قال أولم تؤمن} بقدرتي على الإحياء سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه {قال بلى} يا رب آمنت {ولكن ليطمئن قلبي} أي: ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة، أراد أن يصير له بعد علم اليقين عين اليقين، فإن العيان يفيد في المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» فقال أبو سسليمان الخطابي: ليس فيه اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول: إذا لم أشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله: ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، وقيل: سبب سؤاله أنه لما قال له نمروذ أنا أحيي وأميت قال له: إن إحياء الله بردّ الروح إلى بدنها، فقال نمروذ: هل عاينته فلم يقدر أن يقول: نعم، وانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه في الجواب إن سئل عنه مرّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أخرى. فإن قيل: بم تعلقت اللام في ليطمئن؟ أجيب: بأنها تعلقت بمحذوف تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب. وقيل: بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيى ولكنه طلبها تلويحاً، فأجيب بالمنع منها تلويحاً، وموسى عليه الصلاة والسلام لما سألها تصريحا أجيب بالمنع تصريحاً. قال تعالى: {فخذ أربعة من الطير} قال مجاهد وابن جرير: أخذ طاوساً وديكاً وحمامة وغراباً، وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان شبهاً، كتدوير الرأس والمشي على رجلين، وأجمع لخواص الحيوان لأنّ فيها ما يتكلم، وما يهتدي للطريق كالقطاة، وللمياه كالهدهد، وفي هذا إيماء إلى أنّ إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف، التي هي صفة الطاوس والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس، وبعد الأمل المتصف بهما الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة. وروي بدلها البطة وبدل الغراب الغرنوق. {فصرهنّ} أي: فأمسكهن واضممهنّ {إليك} قرأ حمزة بكسر الصاد والباقون بضمها. فإن قيل: ما معنى أمره بضم الطير إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ أجيب: بأنه ليتأمّلها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها، لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك، ولذلك قال: {يأتينك سعياً} . وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال كما قال تعالى: {ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزأ} واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال، فقال ابن عباس وقتادة: أمره الله تعالى أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل، على كل جبل جزء من كل طائر، وقال السديّ وابن جريج: جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل، وأمسك رؤوسهنّ ثم دعاهنّ: تعالين بإذن الله، فجعل كل قطرة من دم طائر تصير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة إلى الريشة الأخرى، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر، وإبراهيم ينظر حتى صارت جثثاً بغير رؤوس ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعياً فالتقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى: {ثم أدعهنّ يأتينّك سعياً} أي: سريعاً، وقيل: مشياً لأنها لو طارت لربما توهم متوهم أنها غير تلك الطير، وإنّ أرجلها غير سليمة قال البيضاويّ: وفي ذلك إشارة إلى أنّ من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية فعليه أن يقبل على القوى البدنية كالشهوة والغضب فيقتلها، ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها فتطاوعنه مسرعات متى دعاهنّ بداعية العقل أو الشرع، وكفى لك شاهداً على فضل إبراهيم ويمنه أي: بركته حيث سلك مسلك الضراعة في الدعاء، وحسن الأدب في السؤال، أنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه، وأراه عزيراً بعد أن أماته مائة عام {واعلم أنّ الله عزيز} لا يعجز عما يريد {حكيم} ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله. {مثل الذين ينفقون} أي: يبذلون {أموالهم} بطيب النفس {في سبيل الله} الذي له الكمال كله أي: في طاعته كمثل زراع ومثل ما ينفقون {كمثل حبة} مما زرعه فلا بدّ من حذف كما تقرّر أو يقال مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة {أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} والمنبت هو الله سبحانه وتعالى، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بإظهار تاء التأنيث عند السين، والباقون بالإدغام، ومعنى إنباتها سبع سنابل أن يخرج منها ساق يتشعب منه سبع شعب لكل واحدة سنبلة، وهذا التمثيل تصوير الأضعاف كأنها مصوّرة بين عيني الناظر. فإن قيل: كيف صح هذا التمثيل ولم نر سنبلة فيها مائة حبة؟ أجيب: بأنّ ذلك موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فبلغ حبها هذا المبلغ، وعلى تقدير عدم وجوده هو غير مستحيل وما لا يكون مستحيلاً يجوز ضرب المثل به وتأوّل ذلك الضحاك فقال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة. فإن قيل: هلا قال الله تعالى سبع سنبلات، لأنه جمع قلة كما قال الله تعالى {وسبع سنبلات خضر} (يوسف، الآيات: 43 ـ 46) ؟ أجيب: بما تقدّم في قوله تعالى {ثلاثة قروء} (البقرة، 228) . {وا يضاعف لمن يشاء} بفضله تلك المضاعفة أو يضاعف على هذا ويزيد لمن شاء ما بين سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف مما لا يعلمه إلا الله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه، ومن أجل ذلك تتفاوت الأعمال في مقادير الثواب {وا واسع} أي: غنيّ يعطي عن سعة {عليم} بنية المنفق وقدر إنفاقه وبمن يستحق المضاعفة. {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} أي: طاعته، قال الكلبيّ: نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وأمّا عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وألف دينار. قال عبد الرحمن بن سمرة جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبيّ صلى الله عليه وسلم فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول: «ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم وقال: يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه» . {ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً} أي: على المنفق عليه بقولهم مثلاً: قد أحسنت إليه وجبرت حاله، فيعدّدون عليه النعمة، فحذر الله عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه؛ لأنه من العباد تعيير وتكدير ومن الله إفضال وتذكير وكان السلف يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها، والعرب يمتدحون بترك المن ويذمون عليه فمن الأوّل قول القائل: *زاد معروفك عندي عظما ... أنه عندك مستور حقير* *تتناساه كأن لم تأته ... وهو في العالم مشهور كبير* ومن الثاني قول القائل *وإنّ امرأ أسدى إليّ صنيعة ... وذكرنيها مرّة لبخيل* وقيل: طعم الآلاء أحلى من المنّ، وهي أمر من الآلاء مع المنّ، ويطلق المنّ أيضاً على النعمة، يقال: لفلان عليّ منة أي: نعمة وأنشد ابن الأنباري: *فمني علينا بالسلام فإنما ... كلامك ياقوت ودرّ منظم وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} (آل عمران، 164) الآية {ولا أذى} له كأن يذكر ذلك إلى من لا يحب وقوفه عليه، أو يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه، وثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والأذى {لهم أجرهم} أي: ثواب إنفاقهم {عند ربهم ولا خوف عليهم} أي: فلا يخافون فقد أجورهم {ولا هم يحزنون} في الآخرة بسبب أن لا يوجد. {قول معروف} أي: كلام حسن وردّ على السائل جميل، لأنّ القول الجميل وإن كان يردّ السائل يفرح قلبه، ويروح روحه وقيل: عدة حسنة {ومغفرة} أي: بأن يستر عليه خلته ولا يهتك ستره، ويتجاوز عنه إذا وجد منه ما ينقل عليه عند ردّه {خير من صدقة} يدفعها إليه {يتبعها أذى} أي: منّ وتعيير السائل أو قول يؤذيه. فإن قيل: لِمَ لم يعد ذكر المنّ فيقول: يتبعها منّ أو أذى؟ أجيب: بأنّ الأذى يشمل المنّ وغيره، كما تقرّر وإنما نصّ عليه فيما مرّ لكثرة وقوعه من المتصدّقين، وعسر تحفظهم منه، ولذلك قدّم على الأذى قال بعضهم: الآية واردة في صدقة التطوّع؛ لأنّ الواجب لا يحل منعه ويحتمل أن يراد بها الواجب، فإنه قد يعدل به عن سائل إلى سائل، وعن نفر، إلى نفر وإنما صحّ الابتداء بالنكرة وهي قول لاختصاصها بالصفة وهي معروف، وأمّا المعطوف وهو مغفرة فلا يحتاج إلى مخصص لتبعيتها {وا غنيّ} عن صدقة العباد، وإنما أمرهم ليثيبهم عليها {حليم} بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي بصدقته. {يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم} أي: أجورها لأنّ الصدقة وقعت فلا يصح أن تبطل {بالمنّ والأذى} . فإن قيل: ظاهر هذا اللفظ أنّ مجموع المنّ والأذى يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر، أجيب: بأنّ الشرط أن لا يوجد واحد منهما دون الآخر لأنّ قوله تعالى: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً} ولا أذى يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا أي: فتبطل لكل واحد منهما إبطالاً. {كالذي} أي: كإبطال أجر نفقة الذي {ينفق ماله رئاء الناس} أي: مرائياً لهم، ليروا نفقته، ويقولون: إنه كريم سخي {ولا يؤمن با واليوم الآخر} وهو المنافق لأنّ الكافر معلن بكفره غير مراء {فمثله} أي: هذا المرائي في إنفاقه {كمثل صفوان} وهو الحجر الأملس {عليه} أي: استقرّ عليه {تراب} والتراب معروف وهو اسم جنس لا يثنى ولا يجمع. وقال المبرد: هو جمع واحده ترابة، وفائدة هذا الخلاف أنه لو قال لزوجته: أنت طالق عدد التراب أنه يقع عليه طلقة على الأوّل وهو الأصح وثلاث على الثاني {فأصابه وابل} وهو المطر الشديد العظيم القطر {فتركه صلداً} أي: أملس نقياً من التراب وقوله تعالى: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} استئناف لبيان مثل المنافق المنفق رياء أي: لا يجدون له ثواباً في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه لإذهاب المطر له. فإن قيل: كيف قال تعالى لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق؟ أجيب: بأنه تعالى أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء يقول الله تعالى لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» وروى أبو هريرة: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ـ أي: أمره ـ ليقضي بينهم وكل أمة جاثية وأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الله تعالى للقارىء: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وأناء النهار فيقول الله تعالى: كذبت وتقول الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان قارىء، وقد قيل، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدّق فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، وقد قيل، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» . {وا لا يهدي القوم الكافرين} إلى الخير والرشاد وفيه تعريض بأنّ الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق صفة الكفار ولا بد أن تجتنبوا عنها. {ومثل} نفقات {الذين ينفقون أموالهم ابتغاء} أي: طلب {مرضاة الله} أي: رضاه {وتثبيتاً من أنفسهم} أي: تثبيتاً بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم، والصبر على جميع مشاق التكاليف، فإن من راض نفسه يحملها على بذل المال، الذي هو شقيق الروح، فإن بذله أشق شيء على النفس؛ لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكاليفها بما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها، وقلّ طعمها في اتباعه لشهواتها فيسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طَعَمُها في اتباع الشهوات، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قوله: هز من عطفه وحرك من نشاطه. فإن قيل: ما معنى التبعيض؟ أجيب: بأنّ معناه إنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه فهو الذي ثبتها كلها أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله تعالى علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه، فمن على هذا لابتداء الغاية كقوله تعالى: {حسداً من عند أنفسهم} {كمثل جنة} أي: بستان {بربوة} وهي المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار، فلا يعلوه الماء ولا يعلو هو على الماء، وإنما جعلها بربوة، لأنّ النبات عليها أحسن وأزكى، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء والباقون بضمها {أصابها وابل} أي: مطر شديد كثير. {فأتت} أي: أعطت {أكلها} أي: ثمرتها، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكون الكاف، والباقون بضمها {ضعفين} أي: مثلي ما يثمر غيرها بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل: أربعة أمثاله، لأنّ الضعف قدر الشيء ومثله معه، فيكون الضعفان أربعة واستظهره البقاعي، وقال أبو حيان: يحتمل أنها للتكثير أي: ضعفاً بعد ضعف أي: أضعافاً كثيرة، لأنّ النفقة لا تضاعف بحسنة فقط، بل بعشر وسبعمائة وأزيد، ونصبه على الحال أي: مضاعفاً. {فإن لم يصبها وابل فطل} أي: مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها، والمعنى تثمر وتزكو كثر المطر أو قل، فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أو قلت {وا بما تعملون بصير} فيجازيكم به ففيه وعد ووعيد. {أيودّ أحدكم} أي: أيحب حباً شديداً {أن تكون له جنة} أي: بستان {من نخيل} جمع نخلة، وهي الشجرة القائمة على ساق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله {وأعناب} جمع عنب وهو شجر الكرم لا يختص ثمره بجهة العلو اختصاص النخلة، بل يتفرّع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة، مثله كمثل المؤمن المتّقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة. ولما كانت الجنان لا تقوم ولا تدوم إلا بالماء قال تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي: من تحت هذه الأشجار {له فيها} أي: الجنة ثمر مع ثمر النخل والعنب {من كل الثمرات} فهي محتوية على سائر أنواع الأشجار، وإنما خص النخل والعنب بالذكر لشرفهما وكثرة منافعهما وحسن منظرهما {وأصابه} أي: والحال أنه أصابه {الكبر} أي: كبر السنّ فصار لا يقدر على اكتساب. {وله ذرية ضعفاء} بالصغر كما ضعف هو بالكبر {فأصابها} أي: الجنة {إعصار} وهو الريح العاصف الذي يرتفع إلى السماء كأنها عمود، وتسميها العامة الزوبعة وجمعه أعاصر، والإعصار من بين سائر الرياح مذكر، ولهذا رجع إليه الضمير مذكراً في قوله: {فيه نار فاحترقت} تلك الجنة ففقدها أحوج ما كان إليها، وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم. وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق والمرائي يقول عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بها فإذا كبر وضعف وصار له أولاد ضعفاء صغار أصاب جنة إعصار فيه نار فاحترقت أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها لكبره، وضعفت أولاده عن إصلاحها، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده، ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزة لا حيلة لهم، كذلك يبطل الله تعالى عمل المنافق والمرائي في الآخرة، حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة، والاستفهام بمعنى النفي. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ضرب لرجل عمل بالطاعات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله. {كذلك} أي: مثل هذا البيان {يبين الله} أي: الذي له الكمال كله {لكم الآيات لعلكم} أي: لكي {تتفكرون} فيها فتعتبرون بها. ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الإنفاق على قسمين وبين كل قسم وضرب له مثلاً ذكر كيفية الانفاق بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أنفقوا} أي: زكوا {من طيبات} أي: جياد {ما كسبتم} من المال والتجارة والصناعة، وفيه دلالة على إباحة الكسب، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه» وقال صلى الله عليه وسلم «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده» وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده. والزكاة واجبة في مال التجارة فبعد الحول تقوم العروض، فيخرج من قيمتها عشرين ديناراً، أو مائتي درهم فضة فيزكيها، قال سمرة بن جندب: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعدّ للبيع» . {ومما} أي: ومن طيبات ما {أخرجنا لكم من الأرض} من الحبوب والثمار والمعادن فحذف المضاف وهو طيبات من الثاني لتقدّم ذكره. وفي هذا أمر بإخراج العشر من الثمار والحبوب، واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء، أو من نهر يجري الماء فيه من غير مؤنة، وإن كان مسقياً بساقية أو نضح ففيه نصف العشر، لقوله صلى الله عليه وسلم «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما يسقي بالنضح نصف العشر» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وعنه: «ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق» وقال قوم الآية في صدقة التطوع قال صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة» . {ولا تيمموا} أي: لا تقصدوا {الخبيث} أي: الرديء {منه} أي: المذكور {تنفقون} في الزكاة حال من ضمير تيمموا {ولستم بآخذيه} أي: الخبيث {إلا أن تغمضوا} أي: تسامحوا {فيه} بالحياء مع الكراهة مجاز من أغمض بصره إذا غضه. وروي عن البراء قال: لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشواره فنهوا عن ذلك، هذا إذا كان المال كله أو بعضه جيداً فإن كان كل ماله ردياً فلا بأس بإعطاء الرديء {واعلموا أنّ الله غنيّ} عن إنفاقكم وإنما يأمركم به لانتفاعكم {حميد} أي: يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو أثاب. {الشيطان يعدكم الفقر} أي: يخوّفكم به إن تصدّقتم ويقال: وعدته خيراً ووعدته شراً قال تعالى في الخير: {عدكم الله مغانم كثيرة} (الفتح، 20) وقال في الشر: {النار وعدها الله الذين كفروا} (الحج، 72) فإذا لم يذكر الخير والشر قلت: في الخير وعدته، وفي الشر: أوعدته والفقر سوء الحال وقلة ما في اليد وأصله من كسر الفقار ومعنى الآية أن الشيطان يخوّفكم بالفقر، ويقول للرجل: أمسك مالك فإنك إذا تصدّقت افتقرت. {ويأمركم بالفحشاء} أي: بالبخل ومنع الزكاة قال الكلبي: كل فحشاء في القرآن فهو الزناء إلا في هذا الموضع. {وا يعدكم مغفرة منه} لما وقع منكم من تقصير وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره، لما له من الإحاطة بصفات الكمال، ولما جبل عليه الإنسان من النقص. {وفضلاً} بالزيادة في الدارين وكل نعمة منه فضل ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {وا واسع} فضله {عليم} بالمنفق وغيره. وفيه إشارة إلى أنه لا يضيع شيئاً وإن دقّ، وعن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى قال: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مند خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه» قال: «وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض» وعن أسماء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعى الله عليك» . {يؤتى الحكمة} أي: العلم النافع المؤدي إلى العمل. وقال السدّي: هي النبوّة وقال ابن عباس وقتادة: علم القرآن ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثال ذلك وقال الضحاك: هي القرآن والفهم فيه وقال: في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهنّ وقال مجاهد: هي القرآن والعلم والنفقة. وقوله تعالى: {من يشاء} مفعول أوّل أخر للاهتمام بالمفعول الثاني وهو الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} لمصيره إلى السعادة الأبدية {وما يذكر} فيه إدغام التاء في الأصل في الذال أي: ما يتعظ بما قص من الآيات أي: ما يتفكر فإنّ المتفكر كالمتذكر لما أودع الله تعالى في قلبه من العلوم بالقوّة {إلا أولوا الألباب} أي: أصحاب العقول الخالصة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى. {س2ش270/ش274 وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ?? وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * إِن تُبْدُوا? الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ? وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ? وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّ?َاتِكُمْ? وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَ?ـاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ? وَمَا تُنفِقُوا? مِنْ خَيْرٍ فَ?نفُسِكُمْ? وَمَا تُنفِقُونَ إِs ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ? وَمَا تُنفِقُوا? مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا? فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ا?رْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ يَسْـ?َلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا? وَمَا تُنفِقُوا? مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ? عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَ نِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَحْزَنُونَ} {وما أنفقتم} أي: أديتم {من نفقة} قليلة أو كثيرة سراً أو علانية زكاة أو صدقة تطوع {أو نذرتم من نذر} بشرط أو بغير شرط فوفيتم به {فإنّ الله يعلمه} فيجازيكم به. فإن قيل: لِمَ وحّد الضمير في يعلمه وقد تقدّم شيئان: النفقة والنذر؟ أجيب: بأنّ العطف بأو وهي لأحد الشيئين تقول: زيد أو عمرو أكرمته، ولا يجوز أكرمتهما بل يجوز أن يراعى الأول نحو زيد أو هند منطلق، والثاني نحو زيد أو هند منطلقة، والآية من هذا، ومن مراعاة الأوّل {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} (الجمعة، 11) ولا يجاز أن يقال: منطلقان ولهذا أوجل النحاة قوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً فا أولى بهما} (النساء، 135) كما سيأتي إن شاء الله تعالى {وما للظالمين} بمنع الزكاة والنذر أو بوضع الإنفاق في غير محله من معاصي الله تعالى {من أنصار} أي: من ينصرهم من الله ويمنعهم من عذابه فهو على طريق التوزيع والمقابلة أي: لا ناصر لظالم قط فسقط ما يقال إنّ نفي الأنصار لا يوجب نفي الناصر. {إن تبدوا} أي: تظهروا {الصدقات} أي: النوافل {فنعما هي} أي: فنعم شيئاً إبداؤها، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون، والباقون بكسرها، وقرأ قالون وأبو عمرو باختلاس كسرة العين، والباقون بالكسرة الكاملة. {وإن تخفوها} أي: تسروها {وتؤتوها الفقراء} أي: تعطوها لهم في السر {فهو خير لكم} أي: أفضل من إبدائها وإيتاؤها للفقراء أفضل من إيتائها للأغنياء. سئل صلى الله عليه وسلم هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية، وفي الحديث: «صدقة السر تطفىء غضب الرب» وقال صلى الله عليه وسلم «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله تعالى فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» نعم إن كان ممن يقتدى به فالإظهار في حقه أفضل، أما صدقة الفرض فالأفضل إظهارها، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل والنافلة في البيت أفضل وليقتدى به، لئلا يتهم ولا يجوز دفع شيء منها للأغنياء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً» . تنبيه: الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} (هود، 103) وقال عليه الصلاة والسلام: «نفقة المرء على عياله صدقة» والزكاة لا تطلق إلا على الفرض» {ونكفّر عنكم من سيآتكم} أي: بعضها وقيل: من صلة، وقرأ ابن عامر وحفص بالياء التحتية، والباقون بالنون. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بجزم الراء بالعطف على محل فهو، والباقون بالرفع على الاستئناف. وقوله تعالى: {وا بما تعملون خبير} فيه ترغيب في الإسرار لأنه عالم بباطن الشيء كظاهره ولا يخفى عليه شيء منه. ولما منع النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين من التصدّق على فقراء المشركين، كي تحملهم الحاجة ليسلموا نزل: {ليس عليك هداهم} أي: لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، وإنما عليك الإرشاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والحث على المحاسن والنهي عن القبائح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث. وقوله تعالى: {ولكن الله يهدي من يشاء} أي: هداية التوفيق صريح بأنّ الهداية من الله وبمشيئته وإنما تخص بقوم دون قوم، أما هدى البيان فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية {وما تنفقوا من خير} أي: من مال. وقوله تعالى: {فلأنفسكم} خبر لمبتدأ محذوف أي: فهي لأنفسكم؛ لأنّ ثوابه لها فلا تمنوا به على غيركم ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ولا تنفقوا الخبيث. وقوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} عطف على ما قبله أي: وليس نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله، ولطلب ما عنده، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله تعالى {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} ثوابه أضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا على إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجلها، والجملتان تأكيد للأولى وهي وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أو ما يخلف المنفق استجابه لقوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً» رواه البخاري. {وأنتم لا تظلمون} أي: لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً تفضلاً من الله تعالى عليكم، وهذا في صدقة التطوّع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة وقيل: حجت أسماء بنت أبي بكر فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها فنزلت. وروى النسائي والحاكم أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم فنزلت. وعن بعض العلماء: لو كان المنفق عليه أشر خلق الله كان لك ثواب نفقتك. وأمّا الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين أهل السهمان المذكورين في سورة التوبة، لكن جوّز أبو حنيفة رحمه الله صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة. وقوله تعالى: {للفقراء} خبر مبتدأ محذوف أي: صدقاتكم للفقراء أو متعلق بفعل مقدر كاجعلوا ما تنفقون للفقراء {الذين أحصروا في سبيل الله} أي: حبسوا أنفسهم على الجهاد وهم فقراء المهاجرين، كانوا نحواً من أربعمائة لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، كانوا يسكنون صفّة المسجد، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المشهورون بأصحاب الصّفّة، فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. {لا يستطيعون ضرباً} أي: سفراً {في الأرض} للتجارة والمعاش لشغلهم عنه بالجهاد {يحسبهم الجاهل} بحالهم {أغنياء من التعفف} أي: لأجل تعففهم عن السؤال. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها {تعرفهم} أيها المخاطب {بسيماهم} أي: بعلامتهم من التخشع والتواضع، وصفرة الوجوه، ورثاثة الحالة {لا يسألون الناس} شيئاً فيلحفون {إلحافاً} أي: لا سؤال لهم أصلاً فلا يقع منهم إلحاف ومثل ذلك قول الشاعر: *لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر* أي: ليس فيها أرنب فيفزع لهولها ولا ضب فينجحر، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب والانجحار عن الضب والإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده وقيل: إنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب الحييّ الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف» ، وقال صلى الله عليه وسلم «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه» وقال صلى الله عليه وسلم «من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش» قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: «خمسون درهماً أو قيمتها» {وما ينفقوا من خير} أي: مال {فإنّ الله به عليم} فيجازيكم وفي هذا ترغيب في الإنفاق. {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار وسراً وعلانية} أي: يعمّون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: تصدّق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية. وفي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية. وقال الأوزاعي: نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلاً ونهاراً سراً وعلانية. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» وقوله تعالى: {فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} خبر الذين ينفقون والفاء للسببية. فإن قيل: أيّ فرق بين قوله هنا {فلهم أجرهم} (البقرة، 274) وفيما مرّ {لهم أجرهم} (البقرة، 262) ؟ أجيب: بأنّ الموصول ثم لم يضمن معنى الشرط وضمنه هنا. أي: يأخذونه وهو لغة الزيادة وشرعاً عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما وهو ثلاثة أنواع: ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء وهو البيع إلى أجل وإنما ذكر الأكل؛ لأنه أعظم منافع المال كقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء، 10) فنبه بالأكل على ما سواه من وجوه الإتلافات؛ ولأنّ نفس الربا الذي هو الزيادة لا يؤكل وإنما يصرف في المأكول وقال صلى الله عليه وسلم «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له» فعلمنا أنّ الحرمة غير مختصة بالأكل. ولما كان بين الصدقة والربا مناسبة من جهة التضادّ؛ لأنّ الصدقة عبارة عن تنقيص المال بأمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا كالمتضادين ذكر عقب الصدقة ويرسم بالواو والألف بعد الواو وإنما رسم على لغة من يفخم وهو يميل الألف أي يخرج الواو كما كتبت الصلاة والزكاة. وقيل: لأنّ أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو بالواو الساكنة، فعلموهم الخط على لغتهم وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع {لا يقومون} إذا بعثوا من قبورهم {إلا} أي: قياماً {كما يقوم الذي يتخبطه} أي: يصرعه {الشيطان} وقوله تعالى: {من المس} أي: الجنون متعلق بتخبطه من جهة الجنون فيكون في موضع نصب قاله أبو البقاء: والمعنى أنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كالمصروع تلك سيماه يعرف بها عند أهل الموقف. فإن قيل: لم نسب هذا للشيطان؟ أجيب: بأنه وارد على ما تزعم العرب أنّ الشيطان يتخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب على غير استواء يقال: ناقة خبوط للتي تطأ الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وتضرب الأرض بقوائمها ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون؛ لأنه كالضرب على غير استواء في الإدهاش {ذلك} أي: الذي نزل بهم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قالوا إنما البيع مثل الربوا} في الجواز. فإن قيل: ما الحكمة في قلب القصة ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأنّ حل البيع متفق عليه وهم أرادوا قياس الربا عليه فكان نظم الكلام أن يقال إنما الربا مثل البيع؟ أجيب: بأنّ هذا من عكس التشبيه مبالغة إذ به صار المشبه مشبهاً به وبالعكس وشأن المشبه به أن يكون أقوى من المشبه أو بأنهم لم يكن مقصودهم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أنّ البيع والربا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والآخر بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز وقوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرّم الربوا} إنكار لتسويتهم وإبطال القياس لمعارضته النص. تنبيه: أظهر قولي الشافعيّ أنّ هذه الآية عامّة في كل بيع إلا ما خص بالسنة وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع، والثاني إنها مجملة والسنة مبينة لها أو تظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأوّل يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل {فمن جاءه} أي: بلغه {موعظة} أي: وعظ {من ربه} وزجر بالنهي عن الربا {فانتهى} أي: فاتبع النهي وامتنع من أكله {فله ما سلف} أي: ما مضى قبل النهي فلا يستردّ منه ما أخذه من الربا وقيل: ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له {وأمره إلى الله} بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الإنتهاء وإن شاء خذله حتى يعود. وقيل: أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس له من أمر نفسه شيء {ومن عاد} إلى تحليل الربا مشبهاً له بالبيع في الحل {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} لأنهم كفروا بذلك وورد أنه صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصوّر وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمّه» . {يمحق الله الربوا} أي: يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود الربا وإن كثر فإلى قل {ويربي الصدقات} أي: يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه. روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم فلوه» . وروى الإمام أحمد: «ما نقص مال من صدقة» {وا لا يحب كل كفار} أي: مصرّ على تحليل المحرّمات كمن يحلّل الربا {أثيم} منهمك في ارتكابه. {إنّ الذين آمنوا} بالله وبرسوله ربما جاء لهم عنه {وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} وإنما عطفهما على ما يعمهما لشرفهما {لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم} من آت {ولا هم يحزنون} على فائت وتقدّم مثل هذه الآية ولكن جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً، فلما بالغ هنا في وعيد الربا أتبعه بهذا الوعد. فإن قيل: إن الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه مات فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدل على أن استحقاق الثواب لا يتوقف على حصول العمل أجيب: بأنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 منهما أثراً في جلب الثواب كما قال تعالى في ضد هذا {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} (الفرقان، 68) ثم قال تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} ومعلوم أنّ من ادعى أنّ مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر وإنما جمع الله تعالى الزنا وقتل النفس مع دعاء غير الله تعالى إلهاً لبيان أنّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة. {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا} أي: اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا الذي أخذتم بعضه قبل التحريم {إن كنتم مؤمنين} أي: بقلوبكم أو إن بمعنى إذ فإنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به. روي أنها نزلت لما طالب بعض الصحابة بعد النهي بربا كان له قبل. {فإن لم تفعلوا} أي: تذروا ما بقي من الربا {فائذنوا} أي: اعلموا، من أذن بالشيء إذا علم به أي: فاعلموا أنتم وأيقنوا {بحرب من الله ورسوله} لكم. فإن قيل: هذا حكمهم إن تابوا، فما حكمهم إن لم يتوبوا؟ أجيب: بأنّ مقتضى ذلك أنهم يقاتلون إن لم يرجعوا قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني: حرب الله تعالى النار وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم السيف. وقرأ شعبة وحمزة فآذنوا بفتح الهمزة ومدّها وكسر الذال أي: فأعلموا بها غيركم وهو من الإذن وهو الاستماع لأنه من طريق العلم والباقون بسكون الهمزة وفتح الذال {وإن تبتم} أي: تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه {فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون} بطلب الزيادة {ولا تظلمون} بالنقصان عن رأس المال. فإن قيل: هلا قال تعالى بحرب الله ورسوله؟ أجيب: بأنّ هذا أبلغ؛ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولما نزلت هذه الآية قال المرابون: بل نتوب إلى الله، فإنه لا ثبات لنا بحرب من الله ورسوله، فرضوا برأس المال فشكا من عليه الدين العسرة وقال لمن لهم الدين: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة} له أي: عليكم تأخيره {إلى ميسرة} أي: وقت يسره. تنبيه: في كان هذه وجهان: أظهرهما أنها تامّة بمعنى حدث ووجد أي: وإن حدث ذو عسرة، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، الثاني أنها ناقصة وخبرها محذوف، قال أبو البقاء تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو نحو ذلك، وقدره بعضهم وإن كان ذو عسرة غريماً، وقرأ نافع بضمّ السين والباقون بفتحها {وأن تصدقوا} أي: بالإبراء وقرأ عاصم بتخفيف الصاد والباقون بالتشديد على إدغام التاء في الأصل والتخفيف على حذفها {خير لكم} أي: أكثر ثواباً من الإنظار وهذا مما فضل المندوب فيه الواجب، فإنّ الإبراء مندوب إليه والإنظار واجب فيحرم حبس المعسر، وهل القول قوله في إعساره أو لا بدّ من بينة تشهد بذلك ينظر إن كان الدين عن عوض كالبيع والقرض فلا بدّ من بينة، وإن كان عن غير عوض كالضمان والإتلاف والصداق، فالقول قول المعسر بيمينه وعلى الغريم البينة إلا أن يعرف له مال فلا بدّ من بينة {إن كنتم تعلمون} فضل التصدق على الإنظار فافعلوا. وقيل: المراد بالتصدّق الإنظار نفسه ورد هذا كما قال الإمام: بأنّ الإنظار قد علم مما قبل فلا بدّ من حمله على فائدة جديدة قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» .l وروي: «من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الملائكة تلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا قالوا: تذكر قال: ألا إني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني بأن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله تعالى: تجاوزوا عنه» وقال صلى الله عليه وسلم «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . {واتقوا يوماً ترجعون} أي: تصيرون {فيه إلى الله} هو يوم القيامة أي: فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم {ثم توفى} فيه {كل نفس} جزاء {ما كسبت} أي: عملت من خير أو شر {وهم لا يظلمون} بنقص حسنة أو زيادة سيئة. فائدة: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً» وقال ابن جريج: تسع ليالٍ وقال سعيد بن جبير: سبع ليالٍ ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل وقيل: ثلاث ساعات. وقال الشعبي عن ابن عباس: آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا. ولما منع الله من الربا أذن في السلم والقرض بما يعمهما فقال: {يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} كسلم وقرض {إلى أجل مسمى} أي: معلوم ولذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا والله سبحانه وتعالى وضع لتحصيل مثل تلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً. فإن قيل: المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالإتفاق أجيب: بأن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير تعاملتم بما فيه دين. فإن قيل: هلا اكتفى بقوله إذا تداينتم إلى أجل وأي حاجة إلى ذكر الدين؟ أجيب: بأنه ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله: {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولئلا يتوهم من الدائن المجازاة ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، وفائدة قوله مسمى ليعلم أنّ من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد أو الدراس أو رجوع الحاج لم يجز للجهل بوقت الأجل، وإنما أمر بكتابة الدين؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود. فإن قيل: إنّ كلمة إذا لا تفيد العموم والمراد من الآية العموم؛ لأنّ المعنى كلما تداينتم بدين فاكتبوه، فلم عدل عن كلما وقال: إذا تداينتم؟ أجيب: بأن كلمة إذا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وههنا قام الدليل على أنّ المراد هو العموم، واختلفوا في هذه الكتابة، فقال بعضهم: هي واجبة والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة، 10) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذين ائتمن أمانته} ثم بيّن كيفية الكتابة، فقال تعالى: {وليكتب} أي: كتاب الدين {بينكم كاتب بالعدل} أي: بالحق في كتابته لا يزيد في المال أو الأجل ولا ينقص وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مع أنّ ظاهره أمر للكاتب {ولا يأب} أي: لا يمتنع {كاتب} من {أن يكتب} إذا دعي إليها {كما علمه} أي: فضله {ا} بالكتابة فلا يبخل بها بل ينفع الناس بها كما نفعه الله بتعليمها كقوله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} (،) والكاف متعلقة بيأب {فليكتب} تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهي عن الإباء تأكيداً {وليملل الذي عليه الحق} أي: وليكن المملل على الكاتب من عليه الحق؛ لأنه المقرّ المشهود عليه والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن فالإملال ههنا وهو لغة الحجاز والإملاء قوله تعالى: {فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} (الفرقان، 5) وهي لغة تميم. {وليتق الله ربه} أي: كل من المملي والكاتب {ولا يبخس} أي: لا ينقص {منه} أي: من الحق أو مما أملى عليه {شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً} أي: مبذراً {أو ضعيفاً} أي: صغيراً أو كبيراً اختل عقله لكبره {أو لا يستطيع أن يملّ هو} لخرس أو جهل باللغة أو نحو ذلك {فليملل وليه} أي: متولي أمره من والد ووصيّ وقيم ووكيل ومترجم {بالعدل} وفي هذا دليل على جريان النيابة في الإقرار. قال البيضاوي: ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل أي: دون المترجم ودونهما فيما لم يتعاطياه {واستشهدوا} أي: وأشهدوا {شهيدين} أي: شاهدين {من رجالكم} أي: البالغين الأحرار والمسلمين دون الصبيان والعبيد والكفار، وأجاز ابن سيرين شهادة العبيد، وأبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض {فإن لم يكونا} أي: الشاهدان {رجلين فرجل} أي: فليشهدا والمستشهد رجل {وامرأتان} . وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال فذهبت جماعة إلى أنه تجوز شهادتهنّ مع الرجال في غير العقوبات وهو قول سفيان الثوريّ وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أنّ غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين، وذهب الشافعيّ إلى أنّ ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها تثبت بشهادة رجل وامرأتين وشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أنّ شهادة النساء غير جائزة في العقوبات {ممن ترضون من الشهداء} أي: من كان مرضياً لدينه وأمانته. تنبيه: شروط قبول الشهادة سبعة: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة فمتى فقد شرط منها لم تصح تلك الشهادة، وإنما اشترط التعدّد في النساء لأجل {أن تضل} أي: تنسى {إحداهما} أي: الشهادة لنقص عقلهنّ وضبطهنّ {فتذكر} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون الذال وتخفيف الكاف، والباقون بفتح الذال وتشديد الكاف، وقرأ برفع الراء والباقون بالنصب {إحداهما} أي: الذاكرة {الأخرى} أي: الناسية قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير فتذكر أي: فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر، وقرأ حمزة وحده أن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد كقوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} (،) وجملة الإذكار محل العلة أي: لتذكر إن ضلت ودخلت على الضلال؛ لأنّ الضلال سبب الإذكار وهم ينزلون كل واحد من السبب والسبب منزلة الآخر {ولا يأب} أي: لا يمتنع {الشهداء إذا ما} أي: إذا {دعوا} لأداء الشهادة والتحمل، فما مزيدة وسموا شهداء على هذا الثاني تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع {ولا تسأموا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أي: تملوا من {أن تكتبوه} أي: ما شهدتم عليه من الحق لكثرة وقوعه أو تكسلوا من أن تكتبوه فكني عن السآمة التي تكون بعد الشروع للكثرة بالكسل الذي يكون ابتداءً لكونها من لوازمه؛ لأنّ الكسل صفة المنافق. قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} (النساء، 142) وقال صلى الله عليه وسلم «لا يقول المؤمن كسلت» {صغيراً} كان ذلك الحق {أو كبيراً} قليلاً أو كثيراً وقوله تعالى: {إلى أجله} أي: وقت حلوله الذي أقرّ به المديون حال من الهاء في تكتبوه {ذلكم} أي: الكتب {أقسط} أي: أعدل {عند الله وأقوم للشهادة} أي: أعون على إقامتها لأنه يذكرها. تنبيه: يجوز على مذهب سيبويه أن يكون أقسط وأقوم مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط وأقوم من قويم أو هما مبنيان من أقسط وأقام لا من قسط وقام؛ لأنّ قسط بمعنى جار، والمعنى هنا على العدل والفعل منه أقسط فلزم أن يكون أقسط في الآية من المزيد لقصد الزيادة في المقسط قال تعالى: {إنّ الله يحب المقسطين} (المائدة، 42) لا من المجرّد؛ لأنّ معناه الزيادة في القاسط وهو الجائز قال تعالى: {وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} (الجن، 15) وكذا أقوم معناه أشدّ إقامة لا قياماً وبناؤهما من ذلك على غير قياس، والقياس أن يكون البناء من المجرّد لا من المزيد ويجوز أن يكون بناؤهما من قاسط بمعنى ذي قسط أي: عدل وبمعنى قويم أي: ذي استقامة على طريقة النسب كلابن وتامر فيكون أفعل لا فعل له، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده {وأدنى} أي: وأقرب إلى {أن لا ترتابوا} أي: تشكوا في قدر الحق وجنسه والشهود والأجل ونحو ذلك {إلا أن تكون تجارة حاضرة} وهي تعم المبايعة بدين أو عين {تديرونها بينكم} أي: تتعاطونها يداً بيد {فليس عليكم جناح} أي: لا بأس إذا تبايعتم يداً بيد {أن لا تكتبوها} فهو استثناء من الأمر بالكتابة لبعده حينئذ عن التنازع والنسيان، وقرأ عاصم بنصب التاء فيهما على أنّ تجارة هي الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، والباقون بالرفع فيهما على أنّ تجارة هي الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامّة {وأشهدوا} أي: ندباً {إذا تبايعتم} عليه سواء كان ناجزاً أو كالئاً فإنه أدفع للاختلاف فهو تعميم بعد تخصيص احتياطاً في جميع المبتاعات، ويجوز أن يراد هذا التبايع الذي هو التجارة الحاضرة على أنّ الإشهاد كاف فيه دون الكتابة وقوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} أصله يضار أدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، واختلفوا فمنهم من قال أصله يضارر بكسر الراء الأولى وجعل الفعل للكاتب والشهيد ومعناه نهيهما عن ترك الإجابة وعن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة، ومنهم من قال: أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشاهد مفعولين ومعناه النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهمّ ويكلفا الخروج عما حد لهما ولا يعطى الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان، والمنهي حينئذٍ المتبايعان، فالآية محتملة للبناء للفاعل وللبناء للمفعول فتحمل عليهما معاً أو على كل منهما والأولى أولى. {وإن تفعلوا} ما نهيتم عنه من الضرار {فإنه فسوق بكم} أي: معصية وخروج عن الأمر {واتقوا الله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 في مخالفة أمره ونهيه {ويعلمكم الله} أحكامه المتضمنة لمصالحكم {وا بكل شيء عليم} كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإنّ الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم الله لشأنه عز وجل، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير وهذا آخر آية الدين، وقد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} (النساء، 5) الآية. قال القفال رحمه الله تعالى: ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار. وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} ثم قال ثانياً: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ثم قال ثالثا: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} فكان هذا كالتكرار لقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} لأنّ العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعاً: فليكتب وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامساً: {وليملل الذي عليه الحق} وفي قوله تعالى: وليكتب بينكم كاتب بالعدل كناية عن قوله: {وليملل الذي عليه الحق} لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً: {وليتق الله ربه} وهذا تأكيد ثم قال سابعاً: {ولا يبخس منه شيئاً} وهذا كالمستفاد من قوله: {وليتق الله ربه} ثم قال ثامناً: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله} وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله. {وإن كنتم على سفر} أي: مسافرين وتداينتم، فعلى بمعنى في لئلا يتوهم أن المعنى على نية سفر {ولم تجدوا كاتباً فرهان} أي: فعليكم رهن {مقبوضة} تستوثقون بها وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ومع وجود الكاتب، فقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة من يهوديّ بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله» فالتقييد بما ذكر؛ لأنّ التوثق به أشدّ، وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوزاه إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية. وأفاد قوله تعالى: {مقبوضة} اشتراط القبض أي: في لزوم الرهن لا في صحته والإكتفاء به من المرتهن ووكيله ولا يشترط القبض عند مالك، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ الراء والهاء ولا ألف بعدها والباقون بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون {فإن أمن بعضكم} أي: الدائن {بعضاً} أي: المديون واستغنى بأمانته عن الإرتهان {فليؤدّ الذي ائتمن} أي: المدين {أمانته} أي: دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الإرتهان به، وقرأ ورش فليودّ بإبدال الهمزة واواً وإذا وصل السوسي وورش الذي بائتمن أبدلا الهمزة ياء وفي الابتداء بهمزة مضمومة للجميع {وليتق الله ربه} في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب والجمع بين ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين {ولا تكتموا الشهادة} أيها الشهود إذا دعيتم لإقامتها أو المديونون، وعلى هذا فشهادتهم إقرارهم على أنفسهم {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} . فإن قيل: هلا اقتصر على قوله فإنه آثم وما فائدة ذكر القلب؟ ـ والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ـ أجيب: بأن كتمان الشهادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان أي: الكتمان إثماً مقترفاً أي: مختلطاً بالقلب أسند إليه؛ لأنه محل كتمان الشهادة وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا ترى أنك تقول: إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه واللسان ترجمان عنه، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من سائر أفعال الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى: فقد حرم الله عليه الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة» . تنبيه: آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه ويجوزن أن يرتفع قلبه بالإبتداء وآثم خبر مقدّم والجملة خبر إن وقوله تعالى: {والله بما تعملون عليم} تهديد؛ لأنه لا يخفى عليه منه شيء {لله ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً قال الجلال السيوطي وعبيداً: ولعل ذكره بعد ملكاً لئلا يتوهم أنّ ما لما لا يعقل {وإن تبدوا} أي تظهروا {ما في أنفسكم} من السوء والعزم عليه {أو تخفوه} أي: تسروه {يحاسبكم} أي: يجزكم {به الله} يوم القيامة، والآية حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض {فيغفر لمن يشاء} مغفرته {ويعذب من يشاء} تعذيبه وهذا صريح في نفي وجوبه، وقرأ ابن عامر وعاصم برفع الراء: من يغفر ورفع الباء من يعذب على الإستئناف، والباقون بجزمهما عطفاً على جواب الشرط، وأدغم الراء المجزومة في اللام السوسي، واختلف عن الدوري وقول الزمخشري: ومدغم الراء في اللام لاحن مخطىء خطأ فاحشاً. ورواية عن أبي عمرو يعني السوسي مخطىء مرّتين؛ لأنه يلحن وينسب اللحن إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو مردود؛ لأنه مبنيّ على القول بأنّ الراء إنما تدغم في الراء لتكرّره الفائت بإدغامها في اللام ورد بأنّ ذلك قراءة أبي عمرو وهي متواترة مع أنّ القول بامتناع إدغام الراء في اللام إنما هو مذهب البصريين وأمّا الكوفيون بل وبعض البصريين كأبي عمرو فقائلون بالجواز كما نقله عنهم أبو حيان، ونقل أبو عمرو والكسائي وأبو جعفر صحة إدغام صار لي وصار لك عن العرب ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ووجه الجعبري إدغام الراء في اللام بتقارب مخرجيهما على رأي سيبويه وتشاركهما على رأي الفرّاء وتجانسهما في الجهر والإنفتاح والإستفال {وا على كل شيء قدير} فيقدر على جزائكم ومحاسبتكم وقوله تعالى: {آمن} أي: صدق {الرسول} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {بما أنزل إليه من ربه} أي: من القرآن فيه شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والإعتداد به وأنه جازم في أمره غير شاك فيه وقوله تعالى: {والمؤمنون} عطف على الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 {كل} من الرسول والمؤمنين. واختلف في تنوين كل فقيل تنوين عوض من المضاف إليه وقيل: تنوين التمكين قال الشيخ خالد الوقاد: وهو الأصح {آمن با وملائكته} وقرأ {وكتبه} حمزة والكسائي بكسر الكاف وفتح التاء وألف بعدها على التوحيد على أنّ المراد به الجنس، والباقون بضم الكاف والتاء على الجمع {ورسله} يقولون {لا نفرّق بين أحد} أي: جمع {من رسله} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، فأحد: اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فحيث أضيف بين إليه أو أعيد ضمير جمع إليه أو نحو ذلك، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدلّ الكلام عليه، ويجوز أن يقدر القول مفرداً باعتبار كل وإنما احتيج إلى التقدير لأجل قوله تعالى: {لا نفرق} ولو قال تعالى: لا يفرقون لم يحتج إلى ذلك {وقالوا سمعنا} أي: أمرنا به سماع قبول {وأطعنا} أمرك نسألك {غفرانك ربنا وإليك المصير} أي: المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث. روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} الآية قال: فاشتدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب وقالوا: أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» . فلما قرأها القوم وذلت ألسنتهم أنزل الله تعالى في أثرها: {آمن الرسول} الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} أي: ما تسعه قدرتها وإن شق فضلاً ورحمة {لها ما كسبت} من الخير أي: ثوابه {وعليها ما اكتسبت} من الشر أي: وزره فلا ينتفع بطاعتها غيرها ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكتسبه مما وسوست به نفسه كما يفيده تقديم الخبر وهو لها وعليها من الحصر، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به» . فإن قيل: لم خص الخير بالكسب والشرّ بالإكتساب؟ أجيب: بأنّ في الإكتساب اعتمالاً أي: اضطراباً في العمل مبالغة واجتهاداً، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت أشدّ حباً واجتهاداً في تحصيله وأعملت فجعلت لذلك مكتسبة فيه ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال قولوا {ربنا لا تؤاخذنا} أي: لا تعاقبنا {إن نسينا أو أخطأنا} أي: بما أدّى بنا إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة؛ لأنّ المؤاخذة إنما هي بالمقدور والنسيان والخطأ ليس بمقدورين ويجوز أن يراد نفس النسيان والخطأ أي: لا تؤاخذنا بهما كما آخذت به من قبلنا، قال الكلبي: كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فإن قيل: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ أجيب: بأنّ المراد بذكرهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان} (الكهف، 63) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته وذكره بلفظ الدعاء على معنى التحدّث بنعمة الله فيه، قال الله تعالى: {وأمّا بنعمة ربك فحدّث} (الضحى، 11) {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} أي: لا تكفنا أمراً يثقل علينا حمله {كما حملته على الذين من قبلنا} أي: بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك قاله «الكشاف» » قال البيضاوي: وخمسين صلاة في اليوم والليلة ونسبها غيره من المفسرين إلى اليهود ولا تنافي بينهما إذ المراد من بني إسرائيل هم اليهود منهم فلا يرد على هذا ما قيل إنّ بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون صلاة قبل ولا خمس صلوات مع أنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة} أي: قوّة {لنا به} من البلاء والعقوبة ومن التكاليف التي لا تفي به الطاقة البشرية وهو يدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفهول ثانٍ لا للمبالغة {واعف عنا} أي: امح ذنوبنا {واغفر لنا} أي: استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة بها {وارحمنا} وتعطف بنا وتفضل علينا فإننا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك {أنت مولانا} أي: سيدنا ومتولي أمورنا {فانصرنا على القوم الكافرين} بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من حق المولى أن ينصرموا إليه على الأعداء أو المراد بالكافرين عامة الكفر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {غفرانك ربنا} قال الله تعالى: {قد غفرت لكم} وفي قوله: {لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: لا أؤاخذكم ربنا ولا تحمل علينا إصراً قال: لا أحمل عليكم {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: لا أحملكم {واعف عنا} إلخ.. قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين وكان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال: آمين. وروى مسلم وغيره أنه «صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عقب كل كلمة: قد فعلت» وعن عبد الله أنه قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها، ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} (النجم، 16) قال: فراش من ذهب قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات» وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنزل الله تعالى آيتين أوّلهما آمن الرسول من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» والكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما بألفي سنة تصوير لقدمهما؛ لأنّ مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتحديد. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبيّ قبلي» . وروي عنه أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» أي: عن قيام الليل أو عن كل ما يسوءه وهذا يردّ قول من استنكر أن يقال سورة البقرة، وقال: ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة كما قال عليه الصلاة والسلام: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة» قيل: وما البطلة؟ قال: «السحرة» أي: أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعليمها أو التأمّل في معانيها أو العمل بما فيها، وسموا بطلة لانهماكهم في الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين، والفسطاط الخيمة أو المدينة الجامعة سميت به السورة لاشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه رمى الجمرة ثم قال: من ههنا والذي لا إله إلا هو رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف والممتحنة والمجادلة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فلا يقربها شيطان» انتهى. سورة آل عمران مدنية باتفاق وآياتها مائتان أو إلا آية وثلاثة آلاف وأربعمائةوثمانون كلمة وأربعة عشر ألفاً وخمسمائة وعشرون حرفاً {بسم الله} الذي له صفات الكمال فاستحق التفرد بالألوهية {الرحمن} الذي سرت رحمته خلال الوجود فشملت كل موجود بالكرم والجود {الرحيم} لمن توكل عليه بالعطف إليه وقوله تعالى: {ألم} تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة. {الله لا إله إلا هو} لم يقطع أحد من القراء السبعة هذه الهمزة التي في الله في الوصل، وإذا وقف على ألم يبدأ بالهمزة، ولكل من القراء مدّ على الميم ووصل في الوصل وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين كما هو مذهب سيبويه وجمهور النحاة. فإن قيل: أصل التقاء الساكنين الكسر فلم عدل عنه؟ أجيب: بأنهم لو كسروا لكان ذلك مفضياً إلى ترقيق لام الجلالة والمقصود تفخيمها للتعظيم فأوثر الفتح لذلك كما حركوها في نحو من الله، وأيضاً فقبل الميم ياء وهي أخت الكسرة وقبل هذه الياء كسرة، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات فحركوها بالفتح، وأمّا سقوط الهمزة فواضح وبسقوطها التقى الساكنان وقيل: إنّ هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين بل هي حركة نقل أي: نقلت حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو {قد أفلح} في قراءة ورش وهذا مذهب الفرّاء وجرى عليه الزمخشريّ وأطال الكلام فيه ورده أبو حيان بما يطول ذكره وقوله تعالى {ا} مبتدأ وما بعده خبره وقوله تعالى: {الحيّ القيوم} نعت له والحيّ هو الفعال الدراك والقيوم هو القائم بذاته والقائم بتدبير خلقه. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} (البقرة، 255) وفي آل عمران {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} وفي طه {وعنت الوجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 للحيّ القيوم} (طه، 111) ونقل البندنيجي عن أكثر العلماء أن الإسم الأعظم هو الله قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما: نزلت هذه الآية في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد صاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة حبرهم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات والحارث بن كعب يقول من ورائهم: ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوهم يصلوا إلى المشرق» فكلم السيد والعاقب، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «أسلما قالا قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاثة أشياء دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما للصليب وأكلكما الخنزير» قالوا: إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعاً في عيسى، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟» قالوا: بلى قال: «ألستم تعلمون أنّ ربنا حيّ لا يموت وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟» قالوا: بلى قال: «ألستم تعلمون أنّ ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟» قالوا: بلى قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟» قالوا: لا قال: «ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟» قالوا: بلى قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علمه الله؟» قالوا: لا قال: «فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب» قالوا: بلى قال: «ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبيّ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث» قالوا: بلى قال: «وكيف يكون هذا كما زعمتم؟» فسكتوا فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها» . {نزل عليك} يا محمد {الكتاب} أي: القرآن متلبساً {بالحق} أي: بالصدق في أخباره أو بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال أي: محقاً {مصدّقاً لما بين يديه} أي: قبله من الكتب. فإن قيل: كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه؟ أجيب: بأن تلك الأخبار لغاية ظهورها وكونها موجودة سماها بهذا الاسم {وأنزل التوراة} جملة على موسى عليه الصلاة والسلام {والإنجيل} جملة على عيسى عليه الصلاة والسلام. {من قبل} أي: قبل تنزيل القرآن، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أو لا يدخلانهما لكونهما أعجميين فلا يناسب كونهما مشتقين، ورجح هذا الزمخشري وقال: قالوا لأنّ هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين وقوله تعالى: {هدى} حال بمعنى هاديين من الضلالة ولم يثنه؛ لأنه مصدر {للناس} أي: على العموم إن قلنا: متعبدون بشرع من قبلنا وهو رأي وإلا فالمراد بالناس قومهما وإنما عبر في التوراة والإنجيل بأنزل وفي القرآن بنزل المقتضى للتكرير؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلافه. وقيل: إن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ومن سماء الدنيا منجماً في ثلاث وعشرين سنة فحيث عبر فيه بأنزل أريد الأول أو ينزل أريد الثاني. فإن قيل: يردّ الأوّل بقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} وبقوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} (البقرة، 4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وبقوله تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} (الكهف، 1) وبقوله تعالى: {وبالحق أنزلناه} (الإسراء، 105) ويرد الثاني بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} (الفرقان، 32) أجيب: بأن القول بذلك جرى على الغالب {وأنزل الفرقان} أي: الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها، فكأنه قال: وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ولم يجمع؛ لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران وقيل: القرآن وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحاً وتعظيماً وإظهاراً لفضله من حيث أنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً وتمييز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل. وقيل: أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما قال تعالى: {وآتينا داود زبوراً} (النساء، 163) قال الزمخشريّ: وهو ظاهر ولما قرّر سبحانه جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال: {إنّ الذين كفروا بآيات الله} من القرآن وغيره {لهم عذاب شديد} بسبب كفرهم {وا عزيز} أي: غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده {ذو انتقام} ممن عصاه والنقمة عقوبة المجرم أي: يعاقبه عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد. {إنّ الله لا يخفى عليه شيء} كائن {في الأرض ولا في السماء} لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئيّ. فإن قيل: لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب: بأنه تعالى إنما خصهما؛ به لأنّ البصر لا يتجاوزهما. فإن قيل: لم قدّم الأرض على السماء؟ أجيب: بأنها إنما قدمت ترقياً من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حياً وقوله تعالى: {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} أي: من ذكورة وأنوثة، وبياض وسواد، وحسن وقبح، وتمام ونقص، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا: عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها: العلم، فإنه كان يخبر عن الغيوب، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً، فكأنه تعالى يقول: كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم التثليث فقال: {لا إله إلا هو العزيز} في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء {الحكيم} في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب، وأنّ علم عيسى ببعض الصور، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم الإلهية؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكنات عالماً بجميع الجزئيات والكليات. قال عبد الله بن مسعود: «حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك ـ أو قال: يبعث إليه الملك ـ بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال: وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول: أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» . فإن قيل: لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب: بأنه تعالى إنما خصهما؛ به لأنّ البصر لا يتجاوزهما. فإن قيل: لم قدّم الأرض على السماء؟ أجيب: بأنها إنما قدمت ترقياً من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حياً وقوله تعالى: {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} أي: من ذكورة وأنوثة، وبياض وسواد، وحسن وقبح، وتمام ونقص، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا: عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها: العلم، فإنه كان يخبر عن الغيوب، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً، فكأنه تعالى يقول: كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم التثليث فقال: {لا إله إلا هو العزيز} في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء {الحكيم} في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب، وأنّ علم عيسى ببعض الصور، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم الإلهية؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكنات عالماً بجميع الجزئيات والكليات. قال عبد الله بن مسعود: «حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك ـ أو قال: يبعث إليه الملك ـ بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال: وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول: أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» . {هو الذي أنزل عليك} يا محمد {الكتاب} أي: القرآن {منه آيات محكمات} أحكمت عبارتها بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه فهي واضحات الدلالة {هنّ أمّ الكتاب} أي: أصله المعتمد عليه في الأحكام ويحمل المتشابهات عليها وترد إليها ولم يقل أمّهات الكتاب؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله واحد. وقيل: كل آية منهنّ أمّ الكتاب كما قال تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمّه آية} (المؤمنون، 50) أي: كل واحد منهما آية وقوله تعالى: {وأخر} نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر {متشابهات} أي: محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر. فإن قيل: لم جعل بعضه متشابهاً وهلا كان كله محكماً؟ أجيب: بأن في المتشابه من الإبتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات الدرجات العلى عند الله. فإن قيل: لم فرق هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع آخر فقال {الر كتاب أحكمت آياته} (هود، 1) وجعل كله متشابهاً في موضع آخر فقال {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} (الزمر، 23) أجيب: بأنه حيث جعل الكل محكماً فمعناه أنّ آياته حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وحيث جعل الكل متشابهاً فمعناه أنّ آياته يشبه بعضها بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ. تنبيه: أخر جمع أخرى وإنما لم ينصرف؛ لأنه وصف معدول عن الأخريات ففيه الوصف والعدل وهما علتان يمنعان الصرف {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ} أي: ميل عن الحق كالمبتدعة {فيتبعون ما تشابه منه} أي: فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل {ابتغاء الفتنة} أي: طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه {وابتغاء تأويله} أي: وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه {وما يعلم تأويله} أي: الذي يجب أن يحمل عليه {إلا الله والراسخون في العلم} أي: الذين ثبتوا وتمكنوا فيه وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم قال: العالم العامل بما علم المتبع. وقال غيره: هو من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله تعالى، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. تنبيه: اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم: الواو في قوله {والراسخون} واو العطف أي: أنّ تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 {يقولون آمنا به} وهذا قول مجاهد والربيع وعلى هذا يكون قوله: {يقولون} حالاً معناه والراسخون في العلم قائلين: آمنا به، وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله: والراسخون واو الاستئناف وتم الكلام عند قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} وهو قول أبي بن كعب وعائشة وغيرهما وقالوا: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحداً من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وعدد الزبانية، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به، وفي المحكم بالإيمان به والعمل. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: آمنا به قال في «الكشاف» : والأوّل هو الأوجه اه. ووجهه شيخنا القاضي زكريا بقوله: لأنّ المتشابه على الثاني يصير الخطاب به كالخطاب بالمهملات اه. ومع هذا فالوجه هو الثاني؛ لأنه أشبه بظاهر الآية ويدل له وجوه: أحدها أنه ذمّ طالب المتشابه بقوله تعالى: {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ} الآية وثانيها: أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون: آمنا به وقال في أوّل البقرة: {فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} (البقرة، 26) فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح؛ لأنّ كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فلا بد أن يؤمن به وثالثها: لو كان قوله والراسخون معطوفاً لصار قوله: يقولون آمنا به ابتداء وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يقال وهم يقولون أو يقال ويقولون. فإن قيل: في تصحيحه وجهان: الأوّل: أن يقولون خبر مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا. الثاني: أن يكون يقولون حالاً من الراسخون. أجيب: بأنّ الأوّل مدفوع بأنّ تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى، والثاني أنّ ذا الحال هو الذي تقدّم ذكره وهم الراسخون فوجب أن يكون قوله: آمنا به حالاً من الراسخون لا من الله وذلك ترك للظاهر، ورابعها: قوله تعالى: {كل} أي: من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله وبما لم يعرفوا تفصيله ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة، وخامسها: نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحداً جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى، وسئل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه، 5) فقال: الإستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. فإن قيل: ما الفائدة في لفظ عند، ولو قال كل من ربنا لحصل المقصود؟ أجيب: بأنّ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد. فإن قيل: لم حذف المضاف إليه من كل؟ أجيب: بأنّ دلالته على المضاف إليه قوية فالأمن من اللبس بعد الحذف حاصل {وما يذكر} بإدغام التاء في الأصل في الذال أي: ما يتعظ بما في القرآن {إلا أولو الألباب} أي: أصحاب العقول.I تنبيه: وجه اتصال هذه الآية وأوّلها {هو الذي أنزل عليك الكتاب} بما قبلها وأوّلها {هو الذي يصوّركم في الأرحام} أنه لما بين أنه قيوم وهو القائم بمصالح الخلق والمصالح قسمان: جسماني وروحاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فالجسماني أشرفها تعديل البنية على أحسن شكل وهو المراد بقوله تعالى: {هو الذي يصوّركم في الأرحام} وأمّا الروحاني فأشرفها العلم وهو المراد بقوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} ولما حكى سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون: آمنا به حكى أنهم يقولون: {ربنا لا تزغ} أي: لا تمل {قلوبنا} عن طريق الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه {بعد إذ هديتنا} وفقتنا لدينك والإيمان بالحكم والمتشابه. قال عليه الصلاة والسلام: «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه ـ أي: القلب على الحق ـ وإن شاء أزاغه عنه» رواه الشيخان وغيرهما، وقيل: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا وعلى هذا اقتصر الزمخشري ووجه بأنّ ما ذكر كناية أو مجاز إذ لا تحسن من الله الإزاغة ليشمل نفيها وهذا بناء على مذهبه من الإعتزال، وأمّا مذهب أهل السنة فالزيغ والهداية خلق الله تعالى وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك» وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً وبطناً» {وهب لنا} أي: أعطنا {من لدنك} أي: من عندك {رحمة} أي: توفيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الإيمان والهدى أو مغفرة للذنوب {إنك أنت الوهاب} لكل سؤل وفيه دليل على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى وأنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء ما. {ربنا إنك جامع الناس} أي: تجمعهم {ليوم} أي: في يوم {لا ريب} أي: لا شك {فيه} أي: في وقوعه وما فيه من الحشر والجزاء وهو يوم القيامة فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت وقوله تعالى: {إنّ الله لا يخلف الميعاد} أي: موعده بالبعث يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، وأن يكون من كلام الراسخين فيكون فيه التفات عن الخطاب وكأنهم لما طلبوا من ربهم الصون عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ووعدك حق فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن وفقته وهديته ورحمته بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. تنبيه: احتج الوعيدية بهذه الآية على القطع بوقوع وعيد الفساق قالوا: لأنّ الوعيد داخل تحت لفظ الوعد لقوله تعالى: {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً} (الأعراف، 44) والوعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. وأجيب: بأنا لا نسلم القول بالقطع بوقوع وعيد الفساق مطلقاً بل ذلك مشروط بعدم العفو كما هو مشروط بعدم التوبة بالإتفاق فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه توعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ويكون قوله: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً} كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران، 21) وكقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49) فيكون من باب التهكم، وذكر الواحدي في «البسيط» أنه يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء؛ لأنّ خلف الوعيد كرم عند العرب لأنهم يمدحون بذلك كما قال القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 *إذا وعد السرّاء أنجز وعده ... وإن وعد الضرّاء فالعفو مانعه* وقال الآخر أيضاً: *وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي* ولما حكى الله سبحانه وتعالى دعاء المؤمنين وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدّة عقابهم بقوله تعالى: {إنّ الذين كفروا} وهو عام في الكفرة، وقيل: المراد بهم وفد نجران أو اليهود أو مشركو العرب {لن تغنيَ} أي: لن تنفع ولن تدفع {عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} أي: من عذابه وقيل: من رحمته أو من طاعته على معنى البدلية قاله البيضاوي: أي: على أنّ من للبدل والمعنى لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي: بدل رحمته وطاعته. قال أبو حيان: وإثبات البدلية جمهور النحاة تأباه {وأولئك هم وقود النار} أي: حطبها وفي ذلك كمال العذاب؛ لأنّ كماله أن يزول عنه ما ينتفع به ثم يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، فالأوّل هو المراد بقوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم} فإن المرء عند الشدّة يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب، فبين تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا وإذا تعذر عليه الإنتفاع بالمال والولد وهما أقرب الطرق فما عداه بالتعذر أولى ونظيره {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء، 89) ، وأمّا الثاني من أسباب كمال العذاب وهو اجتماع الأسباب المؤلمة فهو المراد بقوله تعالى: {وأولئك هم وقود النار} وهذا هو النهاية في العذاب، فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس وقوله تعالى: {كدأب آل فرعون} إمّا استئناف مرفوع المحلّ خبر لمبتدأ مضمر تقديره دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون، وإمّا متصل بما قبله أي: لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد النار بهم كما توقد النار بآل فرعون وقوله تعالى: {والذين من قبلهم} عطف على آل فرعون فيكون في محل جر وقيل: استئناف فيكون في محل رفع على الإبتداء والخبر، وقوله تعالى: {كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم} وعلى الأوّل تكون هذه الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى: {وا شديد العقاب} فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة. «ولما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع وقال: يا معشر اليهود احذروا من الله تعالى أن ينزل بكم مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت أقواماً أغماراً أي: جهالاً جمع غمر لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس» نزل. {قل} يا محمد {للذين كفروا ستغلبون} في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية، وقد وقع ذلك بقتل قريظة وإجلاء النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم {وتحشرون} في الآخرة {إلى جهنم وبئس المهاد} أي: الفراش والمخصوص بالذم محذوف أي: بئس المهاد جهنم. وفي هذه الآية إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع خبره على موافقته فكان هذا إخباراً بالغيب فكان معجزة ولهذا لما نزلت هذه الآية قال لهم صلى الله عليه وسلم «إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم» وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. فإن قيل: أي فرق بين القراءتين من جهة المعنى؟ أجيب: بأنّ معنى قراءة التاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم فهو إخبار بما سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيد بلفظه كأنه قال: أد إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون. {قد كان لكم آية} أي: عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل قد كانت؛ لأنّ الآية مؤنثة؟ أجيب: بأنه إنما ذكر الفعل للفصل بينه وبين الإسم المؤنث بلكم فإن الفصل مسوغ لذلك مع المؤنث الحقيقي كقوله: *إنّ امرأ غره منكنّ واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور* قال الفرّاء: وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه والخطاب لمشركي قريش وقيل: لليهود وقيل: للمؤمنين {في فئتين} أي: فرقتين {التقتا} يوم بدر {فئة} مؤمنة {تقاتل في سبيل الله} أي: طاعته وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف {و} فئة {أخرى كافرة} تقاتل في سبيل الشيطان وهم مشركو مكة وقوله تعالى: {يرونهم مثليهم} قرأ نافع بالتاء على الخطاب أي: ترى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويوقنوا بالنصر الذي وعدهم به في قوله: {إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} (الأنفال، 66) بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} (الأنفال، 65) والباقون بالياء على الغيبة أي: يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكانوا تسعمائة وخمسين أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر. فإن قيل: هذا مناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال {ويقللكم في أعينهم} (الأنفال، 44) أجيب: بأنه قللهم أوّلاً حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا إمداداً من الله تعالى للمؤمنين في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين {رأي} أي: في رأي {العين} أي: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقد نصرهم الله تعالى مع قلتهم {وا يؤيد} أي: يقوي {بنصره من يشاء} نصره كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ {إنّ في ذلك} المذكور {لعبرة} أي: عظة {لأولي الأبصار} أي: لذوي البصائر أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون. {زين للناس حب الشهوات} أي: ما تشتهيه النفس، وتدعو إليه، والمزين هو الله تعالى للإبتلاء كقوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم} (الكهف، 7) أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله وقيل: الشيطان هو المزين، وذهب إليه المعتزلة واستدلوا بقول الحسن: الشيطان والله زينها لأنا لا نعلم أحداً أذم لها من خالقها، وإنما سميت شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحيوا شهواتها كقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 {أحببت حب الخير} (ص، 32) والشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ثم بيّن ذلك بقوله تعالى: {من النساء} إنما بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان {والبنين والقناطير} جمع قنطار وهو المال الكثير قيل: ملء مسك ثور أي: ملء جلده وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه: القنطار مائة ألف دينار. وقال ابن عباس والضحاك: ألف ومائتا مثقال {المقنطرة} أي: المجمعة. وقال السديّ: المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير. وقال الفرّاء: المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة {من الذهب والفضة} قيل: سمي الذهب ذهباً؛ لأنه يذهب ولا يبقى والفضة فضة؛ لأنها تنفض أي: تتفرّق {والخيل المسوّمة} أي: الحسان، وقال سعيد بن جبير: هي الراعية يقال: أسام الخيل وسوّمها والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس كالقوم والنساء {والأنعام} جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه {والحرث} أي: الزرع {ذلك} أي: ما ذكر من النساء وما بعده {متاع الحياة الدنيا} أي: يتمتع به فيها ثم يفنى {وا عنده حسن المآب} أي: المرجع وهو الجنة فينبغي الرغبة فيما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية دون غيره من الشهوات الناقصة الفانية. فإن قيل: المآب قسمان: الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن كما قال تعالى: {إنّ جهنم كانت مرصاداً للطاغين مآباً} (النبأ، 21) أجيب: بأنّ المقصود بالذات هو الجنة، وأمّا النار فمقصودة بالعرض والمقصود بالآية الترهيب في الدنيا والترغيب في الآخرة. {قل} يا محمد لقومك {أؤنبئكم} أأخبركم {بخير من ذلكم} أي: المذكور من الشهوات وهذا استفهام تقريري. تنبيه: هنا همزتان مختلفتان من كلمة: الأولى مفتوحة والثانية مضمومة، قرأ قالون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل بينهما ألفاً وورش يسهل الثانية من غير إدخال ألف وينقل حركة الهمزة الأولى إلى اللام من قل فتصير اللام مفتوحة والثانية مضمومة، وابن كثير كورش إلا أنه لا ينقل الحركة إلا في لفظ القرآن وقرآن، وأبو عمرو يسهل الثانية ويدخل بينهما ألفاً كقالون وله وجه آخر وهو عدم إدخال ألف بينهما، والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى: {للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} أي: مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم كما تقول: هل أدلك على رجل عالم عندي رجل عالم من صفته كيت وكيت ويجوز أن تتعلق اللام بخير وترتفع جنات على هو جنات {وأزواج مطهرة} من الحيض وغيره مما يستقذر من النساء وقوله تعالى: {ورضوان من الله} قرأه شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها وهما لغتان: الكسر لغة الحجاز والضم لغة تميم. وقيل: بالكسر اسم وبالضم مصدر وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير، في يديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» . تنبيه: قد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله لقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 تعالى: {ورضوان من الله أكبر} (التوبة، 72) وأوسطها الجنة ونعيمها {وا بصير} أي: عالم {بالعباد} أي: بأعمالهم فيجازي كلاً منهم بعمله أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم جنات وقوله تعالى: {س3ش16/ش22 الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِا?سْحَارِ * شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ? ? اله إِs هُوَ وَالْمَلَا??ـ?ِكَةُ وَأُوْلُوا? الْعِلْمِ قَآ?ـ?ِمَ?ابِالْقِسْطِ? ? اله إِs هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ ا?سْلَامُ? وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا? الْكِتَابَ إِs مِن? بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَ?ابَيْنَهُمْ? وَمَن يَكْفُرْ بِ?َايَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ? وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا? الْكِتَابَ وَا?مِّيِّ?نَءَأَسْلَمْتُمْ? فَإِنْ أَسْلَمُوا? فَقَدِ اهْتَدَوا?? وَّإِن تَوَلَّوْا? فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ? وَاللَّهُ بَصِيرُ? بِالْعِبَادِ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِ?َايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّ?نَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُو?لَا??ـ?ِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَا?خِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} {الذين} نعت للذين اتقوا أو للعباد أو بدل من الذين قبله {يقولون} يا {ربنا إننا آمنا} أي: صدّقنا {فاغفر لنا ذنوبنا} أي: استرها علينا وتجاوز عنا {وقنا عذاب النار} . تنبيه: في ترتيب سؤال المغفرة وما عطف عليها وسيلة على مجرّد الإيمان دليل على أنّ مجرّد الإيمان كاف في استحقاق المغفرة والإستعداد لأسبابها وأسباب ما عطف عليها وقوله تعالى: {الصابرين} أي: على الطاعة وعن المعصية وعلى البأساء والضرّاء نعت {والصادقين} أي: في إيمانهم وأقوالهم قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السرّ والعلانية {والقانتين} أي: المطيعين لله {والمنفقين} أي: المتصدّقين {والمستغفرين بالأسحار} أي: أواخر الليل كأن يقولوا: اللهمّ اغفر لنا خصت بالذكر؛ لأنها وقت الغفلة ولذة النوم، وفي هذا كما قال البيضاوي: حصر لمقامات السالك على أحسن الترتيب أي: الذكرى فإنّ معاملته مع الله إمّا توسل وإمّا طلب، والتوسل إمّا بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما، وإمّا بالبدن وهو إمّا قولي وهو الصدق وإمّا فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة، وإمّا بالمال وهو الإنفاق في سبيل الخير وإمّا الطلب فالاستغفار؛ لأنّ المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها انتهى. وتوسيط الواو بين الصابرين وما بعده للدلالة على استقلال كل واحد منها وكما لهم فيها أو لتغاير الموصوفين بالصفات. وتخصيص الأسحار؛ لأن الدعاء فيها أقرب من الدعاء في غيرها إلى الإجابة؛ لأنّ العبادة حينئذٍ أشق والنفس أصفى والعقل أجمع لمعاني الألفاظ التي ينطق بها لا سيما للمتهجد قيل: إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون، وعن الحسن كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والإستغفار فذا نهارهم وهذا ليلهم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى سماء الدنيا ـ أي: أمره ـ كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له» . وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه: يا بنيّ لا تكن أعجز من هذا الديك يصوّت في الأسحار وأنت نائم على فراشك. وعن زيد بن أسلم أنه قال: هم الذين يصلون الصبح في جماعة. وعبر بالسحر لقربه من الصبح. {شهد الله} أي: بين لخلقه بالدلائل وإنزال الآيات {أنه لا إله} أي: لا معبود بحق في الوجود {إلا هو} قال الكلبيّ: «قدم حبران من أحبار الشام على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا له: وأنت أحمد؟ قال: أنا محمد وأحمد قالا: فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدّقناك فقال لهما: سلا قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلم الرجلان» . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الله الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فشهد لنفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر فقال: شهد الله أنه لا إله إلا هو {و} شهد بذلك {الملائكة} أي: أقرّوا بذلك {و} شهد بذلك {أولو العلم} أي: بالإيمان بذلك والاحتجاج عليه. فإن قيل: ما المراد بأولي العلم الذين عظمهم الله تعالى هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ أجيب: بأنّ المراد بهم أنهم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد من الأنبياء والمؤمنين وفيه دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وقوله تعالى: {قائماً} أي: بتدبير مصنوعاته حال من الله وإنما جاز إفراده تعالى بها لعدم اللبس، وإن اختلف في جاءني زيد وعمرو راكباً فقد منعه الزمخشري وتبعه البيضاويّ وجوّزه أبو حيان وقال: يحمل على الأقرب كما في الوصف في نحو جاءني زيد وعمرو الطويل أو حال من هو والعامل فيها معنى الجملة أي: تفرّد {بالقسط} أي: بالعدل وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} كرّر للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبنى عليه قوله تعالى: {العزيز} أي: في ملكه {الحكيم} أي: في صنعه فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدم العزيز؛ لأن العزة تلائم الوحدانية والحكمة تلائم القيام بالقسط فأتى بهما لتقرير الأمرين على ترتيب ذكرهما ورفعهما على البدل من الضمير الأوّل أو الثاني أو على الخبر المحذوف. وعن أبي غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش، وكنت أختلف إليه، فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة فقام من الليل يتهجد فمرّ بهذه الآية، أي: شهد الله إلى آخرها ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً قلت: لقد سمع فيها فصليت معه وودّعته ثم قلت: إني سمعتك تردّدها فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدّثك بها إلى سنة فمكثت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة فقال: حدّثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» ، روى هذا الحديث الطبراني والبيهقيّ لكن بسند ضعيف وقوله تعالى: l {إن الدين} أي: المرضي {عند الله} هو {الإسلام} جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي: لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو الشرع المبعوث به الرسل كما قال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة، 3) وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران، 85) وقرأ الكسائي بفتح الهمزة إن قيل على أنه بدل من أنه إلخ.. بدل اشتمال وضعفه أبو حيان؛ لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي قال: والصواب أنه معمول للحكيم بإسقاط الجار أي: الحكيم بأن الدين، والباقون بكسرها على الإستئناف {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أي: من اليهود والنصارى وقيل: من أرباب الكتب المتقدّمة في دين الاسلام فقال قوم: إنه حق. وقال قوم: إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً أو في التوحيد فثلثت النصارى. وقالت اليهود: عزير ابن الله وقالوا: كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب {إلا من بعد ما جاءهم العلم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بالتوحيد أنه الحق الذي لا محيد عنه {بغياً} أي: ما كان الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب إلا حسداً {بينهم} وطلباً للرياسة. وقيل: هو اختلاف في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما جاءهم العلم ببيان بعثته في كتبهم حيث آمن به بعض وكفر به بعض وقيل: هو إختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ومنهم من آمن بعيسى ولم يؤمن ببقية الأنبياء وقوله تعالى: {ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} أي: المجازاة له وعيد لمن كفر منهم. {فإن حاجوك} أي: جادلك الذين كفروا يا محمد في الدين {فقل} لهم {أسلمت وجهي} أي: أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيهما لغيره شركاً بأن أعبده ولا أدعو إلهاً معه يعني: أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبت عندكم صحته كما ثبت عندي، وما جئت بشيء مبتدع حتى تجادلوني فيه وخص الوجه بالذكر لشرفه فهو تعبير عن جملة الشخص بأشرف أجزائه الظاهرة وقوله تعالى: {ومن اتبعن} عطف على التاء في أسلمت وحسن للفاصل ويجوز كما قال في «الكشاف» أن تكون الواو بمعنى مع فيكون مفعولاً معه أي: نظراً إلى أن المشاركة بين المتعاطفين في مطلق الإسلام أي: الإخلاص لا فيه بقيد وجهه حتى يمتنع ذلك لاختلاف وجهيهما {وقل للذين أوتوا الكتاب} وهم اليهود والنصارى {والأمّيين} أي: الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب {أأسلمتم} أي: فهل أسلمتم ما أسلمت أنا فقد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة، أم أنتم بعد على الكفر وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته هل فهمتها؟ وفي هذا الإستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف؛ لأن المنصف إذا انجلت له الحجة لم يتوقف إذعاناً للحق وكذلك في هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة. وقيل: المراد بالإستفهام هنا الأمر أي: أسلموا كما قال تعالى: {فهل أنتم منتهون} (المائدة، 91) أي: انتهوا {فإن أسلموا فقد اهتدوا} أي: نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب: أسلمنا فقال لليهود: «أتشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟ فقالوا: معاذ الله. وقال للنصارى: أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً» فقال عز وجل {وإن تولوا} أي: عن الإسلام لم يضرّوك {فإنما عليك البلاغ} أي: فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى وقد بلغت وليس إليك الهداية {وا بصير بالعباد} أي: عالم بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن فيجازي كلاً منهم بعمله، وهذا قبل الأمر بالقتال. {إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} أي: بالعدل {من الناس} وهم اليهود قتل أوّلهم الأنبياء وقتلوا أتباعهم، ومن في عصره صلى الله عليه وسلم كفروا به وقصدوا قتله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لكن الله تعالى عصمهم. وعن أبي عبيدة بن الجرّاح قلت: «يا رسول الله أي الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عنه» . وروي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم وخبر إن {فبشرهم} أي: أعلمهم {بعذاب أليم} أي: مؤلم وذكر البشارة تهكم بهم. فإن قيل: لم أدخل الفاء في خبر إن مع أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لا يقال أن زيداً فقائم أجيب: بأن الموصول متضمن معنى الشرط فكأنه قيل: الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم. {أولئك الذين حبطت أعمالهم} أي: ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم {في الدنيا والآخرة} فلا يعتدّ بها لعدم شرطها {وما لهم من ناصرين} أي: مانعين عنهم العذاب. {ألم تر} أي: تنظر {إلى الذين أوتوا نصيباً} أي: حظاً {من الكتاب} أي: التوراة أو جنس الكتب السماوية ومن للتبعيض أو البيان، قال البيضاوي: وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير انتهى. أمّا التعظيم فظاهر وهو ما اقتصر عليه الزمخشريّ، وأمّا التحقير ففيه نظر إذ النصيب المراد به الكتاب أو بعضه لا حقارة فيه وقد يقال: إن تحقيره بالنسبة إليهم حيث لم يعملوا به {يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} الداعي هو محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله القرآن أو التوراة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس ـ أي: موضع صاحب دراسة كتبهم ـ على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت؟ قال: دين إبراهيم فقالا له: إن إبراهيم كان يهودياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله عز وجل هذه الآية» . وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى وعديّ بن عمرو: جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بيني وبينكم التوراة» قالوا: قد أنصفتنا قال: «فمن أعلمكم بالتوراة؟» قالوا: رجل يقال له عبد الله بن صوريا فأرسلوا إليه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له: اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن سلام: يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجماً، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود وانصرفوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية {ثم يتولى فريق منهم} » وأتى بثم لاستبعاد توليهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله تعالى واجب لا للتراخي في الزمان إذ لا تراخي فيه. وقوله تعالى: {وهم معرضون} أي: عن قبول حكمه جملة حالية من فريق وإنما ساغ لتخصيصه بالصفة. {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من التولي والإعراض {بأنهم قالوا} أي: بسبب قولهم {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} أي: قالوا ذلك بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الإعتقاد المائل والطمع الفارغ عن حصول المطموع فيه وهو الخروج من النار بعد أيام قليلة وهي أربعون يوماً مدّة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم {وغرّهم في دينهم} والغرور هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء {ما كانوا يفترون} أي: من أن النار لن تمسهم إلا أياماً قلائل أو أن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم. تنبيه: في دينهم متعلق بغرّهم ولا يصح تعلقه بيفترون خلافاً للسيوطي؛ لأن ما قبل الموصول لا يتعلق بما بعده. {فكيف} حالهم أو فكيف صنعهم {إذا جمعناهم ليوم} أي: في يوم {لا ريب} أي: لا شك {فيه} وهو يوم القيامة وفي ذلك استعظام لما يحيق بهم في الآخرة. روي أن أوّل راية أي: علم ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بهم إلى النار {ووفيت كل نفس} أي: من أهل الكتاب وغيرهم جزاء {ما كسبت} أي: عملت من خير أو شر وفي ذلك دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار وإن دخلها؛ لأن توفية إيمانه وعمله لا يكون في النار ولا قبل دخولها فإذا هي بعد الخلاص إن دخلها؛ {وهم لا يظلمون} أي: بنقص حسنة أو زيادة سيئة. تنبيه: ذكر ضمير وهم لا يظلمون وجمعه باعتبار معنى كل نفس؛ لأنه في معنى كل إنسان، ولما فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمداً مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم فأنزل الله سبحانه وتعالى. {قل اللهمّ} أي: يا الله والميم عوض عن ياء النداء ولذلك لا يجتمعان، والتعويض من خصائص هذا الإسم كما اختص بدخولها عليه مع لام التعريف وقطع همزته وكما اختص بدخول تا القسم عليه وأمّا قولهم: ترب الكعبة فنادر {مالك الملك} أي: مالك العباد وما ملكوا قال الله تعالى في بعض الكتب المنزلة: أنا الله ملك الملوك ومالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «كما تكونوا يولى عليكم» {تؤتي} أي: تعطي {الملك} أي: في الدنيا {من تشاء} من خلقك {وتنزع الملك ممن تشاء} منهم، وقيل: المراد بالملك النبوّة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم، وقال الكلبيّ: تؤتي الملك لمحمد وأصحابه وتنزعه من أبي جهل وصناديد قريش، وقيل: تؤتيه لآدم وذرّيته وتنزعه من إبليس وجنوده {وتعز من تشاء} من خلقك، وقيل: محمداً وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها {وتذل من تشاء} منهم وقيل: أبا جهل وأصحابه حزت رؤوسهم وألقوا في القليب، وقيل: تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية، وقيل: تعز من تشاء بالقناعة وتذل من تشاء بالحرص والطمع، وقيل: تعز من تشاء بالتهجد وتذل من تشاء بتركه {بيدك} أي: بقدرتك {الخير} أي: والشر، واقتصر على الأوّل لمسارعة الأدب في الخطاب أو اكتفى بذكر أحد المقابلين كما في قوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل، 81) أي: والبرد أو؛ لأن الكلام وقع فيه إذ روى البيهقيّ وغيره: «أنه صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشر أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فجاء وأخذ المعول منه فضربها ضربة فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لا بتيها ـ أي: المدينة ـ فكأنّ بها مصباحاً جاء في جوف بيت مظلم فكبر وكبر المسلمون وقال: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أنياب الكلاب ـ أي: في بياضها وصفرتها وانضمام بعضها إلى بعض، واللابتان حرّتان يكتنفانها والحرّة كل أرض ذات حجارة سوداء كأنها محترقة من الحرّ ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل أنّ أمّتي ظاهرة على كلها أي: الأراضي التي أضاءت ـ فأبشروا، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم أيها المؤمنون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب ـ أي: المدينة ـ قصور الحيرة وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ـ أي: الخوف ـ فنزلت» . ونبه أيضاً على أن الشرّ بيده بقوله: {إنك على كل شيء قدير} والشرّ شيء ثم عقب ذلك ببيان قدرته على تعاقب الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله فقال: {تولج} أي: تدخل {الليل في النهار} حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات {وتولج} أي: تدخل {النهار في الليل} حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر {وتخرج الحيّ من الميت} كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة {وتخرج الميت من الحيّ} كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر، وقال الحسن وعطاء: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن فالمؤمن حيّ الفؤاد والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه} (الأنعام، 122) وقال الزجاج: تخرج النبات الغض الطريّ من الحب اليابس وتخرج الحب اليابس من النبات الحيّ النامي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة: {الميت} بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشدّدة. {وترزق من تشاء بغير حساب} أي: رزقاً واسعاً. عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران شهد الله إلى قوله: {إنّ الدين عند الله الإسلام} ، {وقل اللهمّ مالك الملك} إلى قوله {بغير حساب} معلقات ما بينهنّ وبين الله عز وجل حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله عز وجل بي حلفت لا يقرأكنّ أحد دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ولأسكننه حظيرة قدسي ولأنظرن إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرّة ولأقضينّ له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعيذنه من كل عدوّ وحاسد ولأنصرنه منه» . {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} يوالونهم. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار يرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر وقوله تعالى: {من دون} أي: غير {المؤمنين} إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأنّ في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان {ومن يفعل ذلك} أي: يوالي الكفرة {فليس من الله} أي: من ولاية الله {في شيء} يصح أن يسمى ولاية شرعية فإنّ ولاية المتعاديين لا يجتمعان لما بينهما من التضاد كما قال القائل: *فليس أخي من ودّني رأي عينه ... ولكن أخي من ودّني في المغايب* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 *تودّ عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب* بعين مهملة وزاي أي: بغائب والنوك بضم النون الحمق والجنون ثم استثنى فقال: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام: كن وسطاً ـ أي: في معاشرتهم ومخالفتهم ـ وامش جانباً ـ أي: من موافقتهم فيما يأمرون ويذرون ـ وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قوياً فيها، قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوّة المسلمين وأمّا اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوّهم {ويحذركم الله} أي: يخوّفكم {نفسه} أن يغضب عليكم إن واليتموهم {وإلى الله المصير} أي: المرجع فيجازيكم فلا تتعرّضوا للسخط بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه فلا يبالي عنده بما يحذر من الكفرة. {قل} لهم يا محمد {إن تخفوا ما في صدوركم} أي: قلوبكم من موالاة الكفار أو غيرها بما لا يرضى الله {أو تبدوه} أي: تظهروه {يعلمه الله} ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به وقال الكلبيّ: إن تسرّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله يعلمه الله {و} هو الذي {يعلم ما في السموات وما في الأرض} لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سرّكم وعلانيتكم {وا على كل شيء قدير} فهو قادر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} لأنّ نفسه متصفة بعلم ذاتي يحيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية تعمّ المقدورات بأسرها فلا تعصوه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها لا محالة قادر على العقاب بها ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الإطلاع على أحواله بأن يوكل من يتجسس عن مواطن أموره لأخذ حذره منه كل الحذر فما بال من علم أن العالم الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهمّ إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك ونسألك اليقظة من سنة الغفلة. {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} نصب يوم بمضمر نحو اذكر وقوله تعالى: {وما عملت} أي: عملته {من سوء} مبتدأ خبره {تودّ لو أنّ بينها} أي: النفس {وبينه} أي: السوء {أمداً بعيداً} أي: غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها، وكرّر سبحانه وتعالى: {ويحذركم الله نفسه} ، قال البيضاوي: للتأكيد والتذكير وقال التفتازاني: الأحسن ما قيل أنّ ذكره أوّلاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشرّ وقوله تعالى: {وا رؤف بالعباد} إشارة إلى أنه تعالى: إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة إصلاحهم. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي رؤوف بقصر الهمزة والباقون بالمدّ وورش على أصله في المدّ والتوسط والقصر ونزل في اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. {قل} لهم يا محمد {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وهم يسجدون لها فقال: «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسمعيل» فقال له قريش: إنما نعبدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 حباً لله تعالى ليقرّبونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى: قل لهم يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام لتقرّبكم إليه فاتبعوني يحببكم الله فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم أي: اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله، فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى: {ويغفر لكم ذنوبكم وا غفور} لمن اتبعني ما سلف من ذنبه قبل ذلك {رحيم} به. وعن الحسن زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عملهم، فمن ادّعى محبته وخالف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكره ويطرب وينعر ويصعق فلا شك أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا؛ لأنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله وادّعائه ثم صفق وطرب ونعر وصعق عند تصوّرها وربما رأيت المنيّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته وحمقى العامة حواليه قد ملؤوا أذقانهم بالدموع لما رأوه من حاله. ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى نزل قوله تعالى: {قل} لهم {أطيعوا الله والرسول} فيما يأمركم به من التوحيد {فإن تولوا} أي: أعرضوا عن الطاعة {فإنّ الله لا يحب الكافرين} أي: لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم وإنما أتى بالظاهر ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أنّ التولي كفر وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأنّ محبته مخصوصة بالمؤمنين، ولما أوجب الله سبحانه وتعالى طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبيّن أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً على الطاعة فقال تعالى: {إن الله اصطفى} أي: اختار {آدم ونوحاً وآل إبراهيم} وهم إسمعيل وإسحق وأولادهما الرسل وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآل عمران} موسى وهرون ابنا عمران بن يصهر {على العالمين} بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم وبهذه الآية استدل على فضل الرسل على الملائكة وقيل: آل عمران عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة وقيل: آل إبراهيم وآل عمران أنفسهما وقوله تعالى: {ذرّية} بدل من آل إبراهيم وآل عمران {بعضها من} ولد {بعض} منهم وقيل: بعضها من بعض في الدين والذرّية تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى {وا سميع} لأقوال الناس {عليم} بأحوالهم فيصطفي من كان منهم مستقيم القول والحال، واذكر. {إذ قالت امرأت عمران} وهي حنة بنت فاقوذ أمّ مريم، وعمران هو عمران بن ماثان رئيس بني إسرائيل وليس هو عمران أبا موسى وهرون إذ كان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة كما مرّ وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم. فائدة: رسمت امرأة بالتاء المجرورة ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء، والباقون بالتاء، ووقف الكسائيّ بالفتح والإمالة وإذا وقف حمزة سهل الهمزة. وروي أنّ حنة كانت عاقراً عجوزاً فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت: اللهمّ إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدّق به على بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 المقدس فيكون من خدمه فحملت، فلما أحست بالحمل قالت: يا {رب إني نذرت} أن أجعل {لك ما في بطني محرّراً} أي: عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدّس، وكان هذا النذر مشروعاً في عهدهم في الغلمان فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همّ من ذلك وهلك عمران وحنة حامل بمريم {فتقبل مني} ما نذرته {إنك أنت السميع} لقولي {العليم} بنيتي. {فلما وضعتها} أي: ولدتها جارية والضمير لما في بطنها، وإنما أنث على المعنى؛ لأنّ ما في بطنها كان أنثى في علم الله أو على تأويل النفس أو النسمة ولم يكن يحرّر إلا الغلمان وكانت ترجو أن يكون غلاماً ولذلك نذرت تحريره {قالت} معتذرة يا {رب إني وضعتها أنثى} . فإن قيل: كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها وهو كقوله وضعت الأنثى أنثى؟ أجيب: بأنّ الأصل وضعته أنثى وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأنّ الحال وصاحبها بالذات واحد وأما على تأويل النفس أو النسمة فهو ظاهر كأنها قالت: إني وضعت النفس أو النسمة أنثى {وا أعلم} أي: عالم {بما وضعت} قرأ ابن عامر وشعبة بسكون العين وضم التاء فيكون من كلامها قالته تسلية لنفسها أي: ولعل لله فيه سرّاً وحكمة ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون التاء فيكون من كلام الله تعالى تعظيماً لموضوعها وتجهيلاً لها بقدر ما وهب لها منه ومعناه والله أعلم بالأنثى التي وضعت وما علق به من عظائم الأمور وأن يجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت. وقرأ أبو عمرو والله أعلم بسكون الميم وإخفائها عند الباء بخلاف عنه، والباقون بالإظهار وقوله تعالى: {وليس الذكر كالأنثى} بيان لما في قوله: {وا أعلم بما وضعت} من التعظيم للموضوع والرفع منه ومعناه وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها واللام فيهما للعهد أمّا معهود لام الأنثى ففي قولها إني وضعتها أنثى وأمّا معهود لام الذكر ففي قولها محرّراً ويجوز أن يكون معنى قولها وليس الذكر كالأنثى أي: وليس الذكر والأنثى سيين فيما نذرت لما يعتري الأنثى من الحيض والنفاس فتكون اللام للجنس وقوله تعالى: {وإني سميتها مريم} عطف على {إني وضعتها أنثى} وما بينهما جملتان معترضتان كقوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} (الواقعة، 76) وإنما ذكرت ذلك لربها تقرّباً إليه وطلباً؛ لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة. تنبيه: في قوله تعالى: حكاية عنها {سميتها مريم} دليل على أنّ الإسم والمسمّى والتسمية أمور متغايرة أو معنى سميتها مريم جعلت اسم المولود مريم {وإني أعيذها} أي: أجيرها {بك} أي: بحفظك {وذرّيتها} أي: أولادها {من الشيطان الرجيم} أي: المطرود. روى الشيخان: «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها» ولا يبعد كما قال الطيبي اختصاص عيسى وأمّه بهذه الفضيلة دون الأنبياء لجواز أن يمكن الله تعالى الشيطان من مسهم مع عصمتهم من الإغواء ولا يمتنع كما قال التفتازاني: أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع وليست تلك المسة للإغواء ليدفع أنه لا يتصوّر في حق المولود حيث يولد وحينئذٍ فقول البيضاويّ معناه أنّ الشيطان يطمع في إغواء كل مولود أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لا يمسه فيه إخراج الحديث عن ظاهره، وتبع فيه الزمخشريّ وهو ما سلكه المعتزلة حيث أنكروا هذا الحديث وقدحوا في صحته؛ لأنّ الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل بني آدم يطعنه الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعنه في الحجاب» . {فتقبلها ربها} أي: قبل مريم من أمّها ورضي بها في النذر مكان الذكر {بقبول حسن} وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى {وأنبتها نباتاً حسناً} أي: أنشأها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام {وكفلها زكريا} قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ بتشديد الفاء وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش على أنّ الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي: جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها فلا بدّ من تقدير مضاف في الآية وهو مصالح؛ لأنّ كفالة البدن لا معنى لها، وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدّوا زكريا مرفوعاً على الفاعلية. روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد الأقصى ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها؛ لأنها بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأنّ خالتها عندي، فقالت الأحبار: لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمّها التي ولدتها لكنا نقترع فيها فتكون عند من خرج سهمه وكانوا تسعة وعشرين رجلاً فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقوا فيه أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره. وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء كما قال تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب} أي: الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدّمها وكذلك هو من المسجد ويقال أيضاً للمسجد محراب قال المبرّد: لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرج {وجد عندها رزقاً} قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب، فإذا دخل عليها غرفتها وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فإذا وجد عندها ذلك. {قال يا مريم أنّى لك هذا} أي: من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك {قالت} وهي صغيرة {هو من عند الله} يأتيني به من الجنة قيل: تكلمت في المهد وهي صغيرة كما تكلم ابنها عيسى وهو صغير في المهد ولم ترضع ثدياً قط، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة وفي هذا دليل وأي دليل على كرامة الأولياء وليس ذلك معجزة لزكريا كما زعمه جماعة؛ لأنّ ذلك مدفوع باشتباه الأمر عليه حتى قال لها: أنى لك هذا؟ ولو كان معجزة له لادعاها وقطع بها؛ لأنّ النبيّ شأنه ذلك ويدل عليها غير ذلك كقصة أصحاب الكهف ولبثهم في الكهف سنين عدداً بلا طعام ولا شراب وقصة آصف من إتيانه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف ورؤية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر جيشه بنهاوند حين قال: يا سارية الجبل وسماع سارية ذلك وكان بينهما مسافة شهر، وشرب خالد رضي الله تعالى عنه السم من غير أن يضره، وبالجملة فكرامات الأولياء حق ثابتة بالكتاب والسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وليس بعجيب إنكارها من أهل البدع والأهواء إذا لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يمزقونهم ويسمونهم بالجملة المتصوّفة ولم يعرفوا أنّ مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما روي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة أنّ من اعتقد جواز ذلك يكفر والإنصاف ما ذكره الإمام النسفيّ حين سئل عما يحكى أنّ الكعبة كانت تزور بعض الأولياء هل يجوز القول به؟ فقال: نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة. وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله تعالى عنها رغيفين وبضعة لحم في طبق مغطى آثرته به فرجع بذلك إليها وقال: «هلمي يا بنية» فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنّ ذلك نزل من عند الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنى لك هذا؟» قالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال لها عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل» ثم جمع صلى الله عليه وسلم علياً والحسن والحسين وجميع أهل بيته، فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها» . فهذه كرامة لفاطمة رضي الله تعالى عنها وفي هذه الرواية دليل على أنّ قوله تعالى: {إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب} أي: رزقاً واسعاً بلا تبعة من كلام مريم رضي الله تعالى عنها ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى. ولما رأى زكريا كرامة مريم ومنزلتها عند الله قال: إنّ الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب قادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر فطمع في الولد وذلك أنّ أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد قال الله عز وجل: {هنالك دعا زكريا ربه} أي: في ذلك المكان أو الوقت، قال الزمخشريّ: قد تستعار هنا، وثم وحيث للزمان أي: لمشابهة الزمان للمكان في الظرفية فاستعير له فدخل زكريا المحراب وناجى ربه في جوف الليل {قال} يا {ربّ هب لي} أي: أعطني {من لدنك} أي: من عندك {ذرية طيبة} كما وهبتها لحنة العجوز العاقر أي: ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً، والذرّية يكون واحداً وجمعاً ذكراً وأنثى وهو هنا واحد بدليل قوله: {فهب لي من لدنك ولياً يرثني} (مريم، 6) وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرّية {إنك سميع} أي: مجيب {الدعاء} لمن دعاك فلا تردّني خائباً {فنادته الملائكة} أي: جنسهم كقولهم: فلان يركب الخيل فإنّ المنادى كان هو جبريل وحده، وقرأ حمزة والكسائيّ فناداه بالإمالة والتذكير، والباقون بالتاء {وهو قائم يصلي في المحراب} أي: المسجد وذلك أنّ زكريا كان هو الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول فبينما هو قائم يصلي في المحراب والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول، فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض، ففزع منه فناداه وهو جبريل. وقرأ {إن الله يبشرك بيحيى} ابن عامر وحمزة بكسر الهمزة على إرادة القول، أو لأنّ النداء نوع من القول، والباقون بالفتح على بأن، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الياء من يبشرك وسكون الباء الموحدة وضمّ الشين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 مخففة، والباقون بضمّ الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين المشدّدة، واختلفوا في أنه لِمَ سمي يحيى قال ابن عباس: لأنّ الله أحيا به عقر أمّه وقال قتادة: لأنّ الله أحيا قلبه بالإيمان وقيل: لأنّ الله تعالى أحيا قلبه بالطاعة حتى أنه لم يهم بمعصية وهو اسم أعجمي منع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى وقيل: عربي ومنع صرفه للتعريف ووزن الفعل كينسى، وجمعه يحيون كموسون وعيسون {مصدّقاً بكلمة} كائنة {من الله} أي: بعيسى أنه روح الله وسمي كلمة؛ لأنه خلق بكلمة كن وقيل: لأنّ الله أخبر الأنبياء بكلامه في كتابه أنه يخلق نبياً بلا أب فسماه بكلمة لحصول ذلك الوعد، وكان يحيى أوّل من آمن بعيسى وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليهما الصلاة والسلام، وقول البيضاويّ وكان يحيى وعيسى ابن خالة من الأب فيه تجوز إذ يحيى ابن خالة أمّ عيسى لا ابن خالته وعيسى ابن بنت خالة يحيى لا ابن خالته {وسيداً} أي: يسود قومه فيصير متبوعاً. وقال الضحاك: السيد الحسن الخلق. وقال سعيد بن جبير: السيد الذي يطيع ربه وقال سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم {وحصوراً} أي: مبالغاً في حبس النفس على الشهوات والملاهي. روي أنه مرّ وهو طفل بصبيان فدعوه للعب فقال: ما للعب خلقت. وقال سعيد بن المسيب: الحصور هو المعسر الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور كأنه ممنوع من النساء وقيل: كان له مثل هدبة الثوب، وقد تزوّج مع ذلك ليكون أغض لبصره، وقيل: هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه واختار قوم هذا القول لوجهين: أحدهما أنّ الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء {ونبياً} ناشئاً {من الصالحين} لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين فمن على هذا للتبعيض كقوله تعالى: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (البقرة، 130) . {قال رب أنى} أي: كيف {يكون لي غلام} أي: ابن {وقد بلغني الكبر} أي: أدركني كبر السن وأثر فيّ وكان عمره مائة وعشرين سنة وقيل: تسعاً وتسعين سنة {وامرأتي عاقر} أي: لا تلد من العقر وهو القطع؛ لأنها ذات عقر من الأولاد وكانت بنت ثمان وتسعين سنة. فإن قيل: كيف قال زكريا بعدما وعده الله تعالى أن يكون له غلام أنى يكون لي غلام أكان شاكاً في وعد الله وفي قدرته؟ أجيب: بأنه قال ذلك استبعاداً من حيث العادة كما قالت مريم أو استعظاماً وتعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه أي: أتجعلني وامرأتي شابين أوترزقنا ولداً على الكبر منا أو ترزقني امرأة أخرى؟ وقيل: إنّ زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إنّ الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعاً للوسوسة {قال} الأمر {كذلك} أي: من خلق غلام منكما {الله يفعل ما يشاء} لا يعجزه عنه شيء ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه الله السؤال ليجاب بها ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به. {قال رب اجعل لي آية} أي: علامة أعرف بها حمل امرأتي لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر {قال آيتك} عليه {أن لا تكلم الناس} أي: تمتنع من كلامهم {ثلاثة أيام} أي: بلياليها كما في سورة مريم ثلاث ليال {إلا رمزاً} أي: إشارة بيد أو رأس والاستثناء منقطع وقيل: متصل والمراد بالكلام حينئذٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ما دل على ما في الضمير وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذلك قال: {واذكر ربك كثيراً وسبح} أي: صل {بالعشيّ} وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب {والإبكار} وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. فإن قيل: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ أجيب: بأنه إنما فعل به ذلك لتخلص المدّة المذكورة لذكر الله تعالى لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها التي طلب الآية من أجله كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه وقال قتادة: أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام. {و} اذكر {إذ قالت الملائكة} أي: جبريل قال لها شفاهاً: {يا مريم إنّ الله اصطفاك} أي: اختارك بأن تقبلك من أمّك ولم يقبل قبلك أنثى وفرغك للعبادة وأغناك برزق الجنة عن الكسب وتكليمه لها شفاها كرامة لها. وقيل: كان معجزة لزكريا، وقيل: كان إرهاصاً أي: تأسيساً لنبوّة عيسى صلى الله عليه وسلم بطريق الخوارق قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بطريق الشام وإنما حمل على هذا التأويل؛ لأنها ليست بنبية على الأصح بل حكى البيضاويّ الإجماع على أنه تعالى لم ينبىء امرأة لقوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً} (الأنبياء، 7) لكن نوزع في دعوى الإجماع؛ لأنّ الخلاف ثابت في نبوّة نسوة خصوصاً مريم إذ القول بنبوّتها مشهور {وطهرك} أي: مسيس الرجال ومما يستقذر من النساء {واصطفاك} ثانياً {على نساء العالمين} بهدايتك وإرسال الملائكة إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب ولم يكن لأحد من النساء. فائدة: أفضل نساء العالمين مريم كما في الآية إذ قيل بنوّتها ثم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خديجة أمّها ثم عائشة ثم آسية امرأة فرعون. فإن قيل: روى الطبرانيّ: «خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ثم آسية امرأة فرعون» أجيب: بأنّ خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة. {يا مريم اقنتي لربك} أي: أطيعيه {واسجدي واركعي مع الراكعين} أي: وصلي مع المصلين في الجماعة أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. فإن قيل: لم قدم السجود على الركوع؟ أجيب: باحتمال أنه كان كذلك في تلك الشريعة وقيل: بل كان السجود قبل الركوع في الشرائع كلها أو للتنبيه على أنّ الواو لا تقتضي الترتيب. {ذلك} أي: ما قصصناه عليك يا محمد من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى {من أنباء الغيب نوحيه إليك} أي: من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي {وما كنت لديهم} أي: عندهم {إذ يلقون أقلامهم} في الماء أي: سهامهم التي طرحوها فيه وعليها علامة على القرعة وقيل: هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركاً بها ليعلموا {أيهم يكفل مريم} أي: يحضنها ويربيها، فأيّ متعلق بمحذوف كما علم من التقدير {وما كنت لديهم إذ يختصمون} في كفالتها فتعرف ذلك فتخبر به وإنما عرفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 من جهة الوحي. فإن قيل: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم من غير شبهة وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ أجيب: بأنه كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة ومثل ذلك قوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربيّ} (القصص، 44) {وما كنت بجانب الطور} (القصص، 26) {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف، 102) واذكر. {إذ قالت الملائكة} أي: جبريل {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه} أي: بابن {اسمه المسيح عيسى بن مريم} وإنما خاطبها بنسبته إليها تنبيهاً على أنها تلده بلا أب إذ عادة الأبناء نسبتهم إلى آبائهم لا إلى أمهاتهم وبنسبته إليها فضلت واصطفيت على نساء العالمين. فإن قيل: هذه ثلاثة أشياء: الإسم منها عيسى، وأمّا المسيح والابن فلقب وصفة أجيب: بأنّ الإسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز عمن سواه مجموع هذه الثلاثة، والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك لقوله: {وجعلني مباركاً أينما كنت} واشتقاقه من المسح؛ لأنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحاً بالدهن، أو لأنّ جبريل مسحه بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل، أو لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له. وقال ابن عباس: سمي مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برىء، ويسمى الدجال مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين وعيسى معرب إيشوع وهو بالشين المعجمة السيد. قال البيضاويّ اشتقاقه من العيس وهو بياض تعلوه حمرة وهو تكلف لا طائل تحته وقوله تعالى: {وجيهاً} أي: ذا جاه حال مقدّرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة. فإن قيل: لم ذكر ضمير الكلمة أجيب: بأنّ المسمى بها مذكر {في الدنيا} أي: بالنبوّة والتقدّم على الناس {و} في {الآخرة} بالشفاعة والدرجات العلى {ومن المقرّبين} عند الله تعالى لعلوّ درجته في الجنة ورفعه إلى السماء وصحبته للملائكة. {ويكلم الناس في المهد} أي: صغيراً قبل أوان الكلام كما ذكر في سورة مريم قال: {إني عبد الله آتاني الكتاب} (مريم، 30) الآية. وحكي عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. والمهد ما يمهد للصبيّ من مضجعه وقوله تعالى: {وكهلاً} عطف على في المهد أي: ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولية وحال الكهولية التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء، وقد رفع بعد كهولته، وقيل: إنه رفع شاباً وعلى هذا المراد كهلاً بعد نزوله وذكر تعالى أحواله المختلفة المتنافية إرشاداً إلى أنه بمعزل عن الألوهية. فإن قيل: فما فائدة البشارة بكلامه كهلاً والناس في ذلك سواء؟ أجيب: بأنه بشرها بأنه يبقى إلى أن يتكهل وبعدم التفاوت بين الحالين كما مرّ وقوله تعالى: {ومن الصالحين} أي: من عباد الله الصالحين حال من كلمة أو من ضميرها الذي في يكلم. فإن قيل: لم ختم الصفات المذكورة بقوله: {ومن الصالحين} بعد كونه وجيها في الدنيا وفسرت بالنبوّة ولا شك أنّ النبوّة أرفع من منصب الصلاح بل كل واحدة من الصفات المذكورة أشرف من كونه صالحاً؟ أجيب: بأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على المنهج الأصلح وذلك يتناول جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعد النبوّة {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} (النمل، 19) فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات. {قالت ربّ} أي: يا سيدي فقولها لله عز وجلّ وقيل: قالته لجبريل قاله البغويّ وقال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل بمعنى يا سيدي {أنى} أي: كيف {يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} أي: ولم يصبني رجل بتزوّج ولا غيره، قالت ذلك تعجباً إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد مولود بلا أب أو استفهاماً عن أن يكون بتزوّج أو بغيره {قال} الأمر {كذلك} من خلق ولد منك بلا أب {الله يخلق ما يشاء} القائل جبريل أو الله وجبريل حكى لها وقوله تعالى {إذا قضى أمراً} أي: أراد كون شيء {فإنما يقول له كن} صر وقرأ {فيكون} ابن عامر بفتح النون، والباقون بضمها أي: فهو يكون؛ لأنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجاً بأسباب وموادّ يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه هناك وقوله تعالى: {ونعلمه الكتاب} أي: الكتابة {والحكمة} أي: العلم المقترن بالعمل {والتوراة والإنجيل} كلام مستأنف ذكر تطييباً لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم حين علمت أنها تلد من غير زوج وقيل: المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما، وقرأ نافع وعاصم بالياء والباقون بالنون. {و} نجعله {رسولاً إلى بني إسرائيل} إما في الصبا أو بعد البلوغ وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثه إليهم وللردّ على من زعم أنه مبعوث إلى غيره. فائدة: كان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى عليهم الصلاة والسلام، ولما بعث إليهم قال لهم: إني رسول الله إليكم {أني} أي: بأني {قد جئتكم بآية} أي: علامة {من ربكم} تصدّق قولي، وإنما قال بآية وقد أتى بآيات؛ لأنّ الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة. ولما قال ذلك لبني إسرائيل قالوا: وما هي؟ قال: هي {إني} قرأ نافع وحده بكسر الهمزة على الاستئناف، وفتح الياء من إني نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون {أخلق} أي: أصوّر {لكم من الطين كهيئة الطير} أي: مثل صورته فيصير طيراً كسائر الطيور وحياً طياراً، والكاف اسم مفعول وقرأ ورش بالمدّ على الياء من هيئة والتوسط كما تقدّم في شيء {فأنفخ فيه} الضمير للكاف أي: في ذلك المماثل للطير أي: في فيه {فيكون طيراً بإذن الله} أي: بإرادته نبه بذلك على أن إحياءه من الله تعالى لا منه، وقرأ نافع بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة ورقق ورش الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف فقراءة الجمع نظراً إلى أنه خلق طيراً كثيراً وقراءة المفرد نظراً إلى أنه نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقاً؛ لأنّ له أسناناً وللأنثى ثدياً وتحيض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الله وليعلم أنّ الكمال لله عز وجلّ. {وأبرىء} أي: أشفي {الأكمه} وهو الذي ولد أعمى أو ممسوح العينين. قال الزمخشريّ: ويقال لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب «التفسير» ولعل هذا على التفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الثاني {والأبرص} وهو الذي به برص وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته وإنما خص هذين المرضين بالذكر؛ لأنهما أعييا الأطباء وكان الغالب في زمن عيسى الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك، قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً، من أطاق منهم أن يبلغه أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده على شرط الإيمان. وإنما قال ثانياً {وأحيي الموت بإذن الله} وكرّر بإذن الله دفعاً لتوهّم الألوهية، فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية، قال ابن عباس: قد أحيا عيسى أربعة أنفس: عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح عليه السلام، فأمّا عازر فكان صديقاً له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام إنّ أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتى هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله سبحانه وتعالى فقام وخرج من قبره وبقي وولد له، وأما ابن العجوز فمرّ به ميتاً على عيسى يحمل على سرير فدعا الله تعالى عيسى فجعل على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له، وأما ابنة العاشر فكان رجلاً يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى فأحياها فبقيت وولد لها، وأما سام بن نوح فإنّ عيسى عليه السلام جاء إلى قبره ودعا فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفاً من قيام الساعة وما كانوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: قد قامت القيامة؟ فقال: لا ولكن قد دعوت الله تعالى فأحياك، ثم قال له: مت فقال: بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى ففعل به ما قال. {وأنبئكم} أي: أخبركم {بما تأكلون} بما لم أعاينه {وما تدّخرون} أي: تخبئون {في بيوتكم} حتى تأكلوه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما أكل اليوم وبما ادّخره للعشاء، وقال السدي: كان عيسى في الكتاب يحدث الغلمان بما تصنع آباؤهم، ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا قال: فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا لهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا ههنا قال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير قال عيسى: كذلك يكونوا ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل فلما خافت عليه أمّه حملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر، وقال قتادة: إنما هذا في المائدة وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمنّ والسلوى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد فخانوا وخبؤوا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وادّخروا منها فمسخهم الله خنازير {إن في ذلك} الذي ذكرته لكم {لآية لكم إن كنتم مؤمنين} أي: مصدّقين للحق غير معاندين وقوله تعالى: {ومصدّقاً} منصوب بإضمار فعل يدل عليه قد جئتكم أي: وجئتكم مصدّقاً {لما بين يدي} أي: قبلي {من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم} فيها في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فأحل لهم أكل الشحوم والثروب وهو شحم رقيق يغشى الكرش والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت وقيل: أحل الجميع فبعض بمعنى كل كقول لبيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 *ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها* يعني كل النفوس. فإن قيل: كيف يكون مصدّقاً للتوراة والإحلال يدل على أنّ شرعه كان ناسخاً لشرع موسى؟ أجيب: بأنه لا تناقض كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بالتناقض والتكاذب، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وإنما كرر {وجئتكم بآية من ربكم} للتأكيد وليبني عليه {فاتقوا الله} أي: في مخالفة أمره أي: جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات وبغيره من ولادتي من غير أب ومن كلامي في المهد وغير ذلك، فهي في الحقيقة آيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته {وأطيعون} فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وطاعته، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال: {إنّ الله ربي وربكم} لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه {فاعبدوه} أي: لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والإنتهاء عن المناهي {هذا} الذي دعوتكم إليه {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: هو المشهود له بالإستقامة. روى الإمام أحمد وغيره أنّ رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» . ولما قال لهم ذلك كذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى: {فلما أحس عيسى} أي: علم {منهم} علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس {الكفر قال من أنصاري} قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالسكون أي: أعواني وقوله: {إلى الله} متعلق بمحذوف حال من الياء أي: من أنصاري ذاهباً إلى الله تعالى ملتجئاً إليه تعالى لأنصر دينه وقيل: إلى هنا بمعنى مع أو في أو اللام {قال الحواريون نحن أنصار الله} أي: أعوان دينه واختلفوا في الحواريين، فقال السدي: لما بعث الله تعالى عيسى إلى بني إسرائيل كذبوه وأخرجوه فخرج هو وأمه يسبحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوماً مهتماً حزيناً فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم: ما شأن زوجك أراه كئيباً؟ قالت: لا تسأليني قالت: أخبريني لعل الله يفرّج كربته قالت: إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يوماً أن يطعمه وجنوده ويسقيهم خمراً فإن لم يفعل عاقبه واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة قالت: فقولي له لا تهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك، فقالت مريم لعيسى في ذلك قال عيسى: إن فعلت ذلك وقع شرّ قالت: فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا. قال عيسى: قولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك فدعا الله عيسى فتحوّل ماء القدور مرقاً ولحماً وماء الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط، فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال: من أين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا قال: فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال: هي من أرض أخرى فلما خلط على الملك شدّد عليه قال: فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً، فلما أحضره وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق إليه فقال: إنّ رجلاً دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً ليجأ به إليّ حتى يحيي ابني فدعي بعيسى إليه فكلمه في ذلك فقال عيسى: لا أفعل فإنه إن عاش وقع شرّ. قال الملك: لا عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 قال عيسى: إن أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال: نعم فدعا الله تعالى فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمّه فمرّوا بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال: ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك قالوا: ومن أنت؟ قال: عيسى بن مريم عبد الله ورسوله فقالوا: {آمنا} أي: صدقنا {با واشهد} يا عيسى {بأنا مسلمون} لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم. {ربنا آمنا بما أنزلت} من الإنجيل {واتبعنا الرسول} عيسى {فاكتبنا مع الشاهدين} لك بالوحدانية أو مع النبيين الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم شهداء على الناس وقال الحسن: كانوا قصارين سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب أي: يبيضونها، وعلى الأوّل سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال عطاء: سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال: يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان وقد علمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغاً منها عند قدومي، وخرج فطبخ عيسى جباً واحداً على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال: كوني بإذن الله تعالى على ما أريد منك فقدم الحواري والثياب كلها في الجب فقال: ما فعلت؟ قال: فرغت منها قال: أين هي؟ قال: في الجب قال: كلها؟ قال: نعم قال: لقد أفسدت تلك الثياب فقال: قم فانظر فأخرج عيسى ثوباً أصفر وثوباً أخضر وثوباً أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها، فجعل الحواري يتعجب وعلم أنّ ذلك من الله تعالى، فقال للناس: تعالوا فانظروا فآمن هو وأصحابه وهم الحواريون وقال الكلبي وعكرمة: الحواريون الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى أوّل من آمن به وكانوا اثني عشر من الحور وهو البياض الخاص، وحواري الرجل صفوته وخالصته. وقيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهن قال القائل: *فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح* قال الله تعالى: {ومكروا} أي: كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر به، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام بعد إخراج قومه إياه وأمّه عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ووكلوا به من يقتله غيلة ـ وهي بالكسر ـ أن يخدع غيره فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله فذلك مكرهم إذ المكر من المخلوق الخبث والخديعة والحيلة، وأمّا من الخالق وهو قوله تعالى: {ومكر الله} أي: بهم {والله خير الماكرين} أي: أعلمهم به، فقال الزجاج: مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الإبتداء؛ لأنه في مقابلته كقوله تعالى: {الله يستهزىء بهم} (البقرة، 15) وهو خادعهم ومكر الله تعالى بهم في هذه الآية بأن ألقى شبهه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل. روي أنّ عيسى استقبل رهطاً من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير، فلما رأى ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 يهودا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها كوة فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الكوة فأمر يهودا رأس اليهود رجلاً من أصحابه أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل لم ير عيسى فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه، فلما صلب جاءت أمّ عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله تعالى من الجنون يبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى فقال لهما: على من تبكيان؟ إنّ الله تعالى رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شبه لهم، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط إلى مريم فإنه لم يبك عليك أحد بكاها ولم يحزن حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل، فأهبطه الله تعالى إليها فاشتعل حين أهبط نور فجمعت له الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله تعالى إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون تحدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه الصلاة والسلام إليهم. وروي أنّ الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت فقال لها: إنّ القيامة تجمعنا وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة، وقالت أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشر سنة وولدته لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، فأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين وعاشت أمّه بعد رفعه ست سنين وقوله تعالى: {إذ قال الله} ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو لمضمر مثل اذكر {يا عيسى إني متوفيك} أي: مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكافر ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم أو قابضك من الأرض. من توفيت مالي أي: قبضته أو متوفيك نائماً كما قال تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} (الأنعام، 60) أي: يميتكم، إذ روي أنه رفع نائماً أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت {ورافعك إليّ} أي: إلى محل كرامتي ومقرّ ملائكتي، إذ روي أنّ الله تعالى رفعه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وكان إنسياً سماوياً أرضياً، وقال محمد بن إسحاق: النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه. وقال الضحاك: إنّ في الآية تقديماً وتأخيراً معناه إني رافعك إليّ {ومطهرك من الذين كفروا} أي: مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ومتوفيك بعد إنزالك من السماء. روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» . وروى الشيخان حديث: «أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية» وفي حديث مسلم أنه يمكث سبع سنين، وفي حديث عند أبي داود والطيالسي «أربعين سنة» ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، فيحمل على أنّ مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده أربعون، وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد نزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عيسى في القرآن؟ قال: نعم قوله تعالى: {ويكلم الناس في المهد وكهلاً} (آل عمران، 46) وهو لم يتكهل في الدنيا وإنما معناه كهلاً بعد نزوله من السماء انتهى. وهذا إنما يأتي على القول بأنه رفع شاباً، وأما على القول بأنه رفع بعد ثلاث وثلاثين فلا دليل فيه إذ الكهولة من الثلاثين إلى الأربعين {وجاعل الذين اتبعوك} أي: صدقوا بنبوّتك من النصارى ومن المسلمين؛ لأنه متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفت الشرائع {فوق الذين كفروا} بك من اليهود والنصارى أي: يغلبونهم بالحجة والسيف {إلى يوم القيامة} وقيل: المراد بالذين اتبعوه النصارى وبالذين كفروا اليهود إذ لم نسمع غلبة اليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة وملك النصارى قائم إلى قريب من قيام الساعة وعلى هذا يكون الإتباع بمعنى الإدعاء في المحبة لا اتباع الدين {ثم إليّ مرجعكم} الضمير لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به وغلب المخاطب على الغائبين {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين ثم بين الحكم بقوله: {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا} بالقتل والسبي والجزية والذلة {و} أعذبهم في {الآخرة} بالنار. فإن قيل: الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة فكيف يصح في تبيينه العذاب في الدنيا؟ أجيب: بأنّ المقصود التأييد من غير نظر إلى الدنيا والآخرة كما في قوله: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض {وما لهم من ناصرين} أي: مانعين منه. {وأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم} أي: أجور أعمالهم، وقرأ حفص بالياء، والباقون بالنون {وا لا يحب الظالمين} أي: لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما سبق من خبر عيسى ومريم وامرأة عمران وهو مبتدأ خبره {نتلوه} أي: نقصه {عليك} يا محمد وقوله تعالى: {من الآيات} خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أو حال من الهاء {والذكر الحكيم} أي: القرآن وصف بصفة من هو سببه أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. وقيل: هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء. ولما قال وفد نجران للرسول صلى الله عليه وسلم مالك سببت صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إنه عبد قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، نزل. {إنّ مثل عيسى} أي: شأنه وحالته الغريبة {عند الله كمثل آدم} أي: كشأنه في خلقه من غير أب وقوله تعالى: {خلقه} أي: آدم {من تراب} جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم أي: خلق آدم من تراب ولم يكن ثم أب ولا أم فكذلك حال عيسى. فإن قيل: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب وآدم بغير أب وأم؟ أجيب: بأنّ مثله في أحد الطرفين ولا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيه به؛ لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران، ولأنّ الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له قال: فآدم أولى؛ لأنه لا أبوين له قالوا: كان يحيي الموتى قال فخر قيل أولى؛ لأنّ عيسى أحيا أربعة أنفس؟ قيل ثمانية آلاف فقالوا: كان يبرىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الأكمه والأبرص قال: فجرجيس أولى؛ لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً. ومعنى خلق آدم من تراب أي: صوّر جسده من تراب {ثم قال له كن} أي: أنشأه بشراً بأن نفخ فيه الروح كقوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} (المؤمنون، 14) وقوله تعالى: {فيكون} حكاية حال ماضية أي: فكان وكذلك عيسى قال له: كن من غير أب فكان ويجوز أن تكون ثم لتراخي الخبر لا لتراخي المخبر عنه وقوله تعالى: {الحق من ربك} خبر مبتدأ محذوف أي: أمر عيسى وقوله تعالى: {فلا تكن من الممترين} أي: الشاكين خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره فحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممترياً. {فمن حاجك} أي: جادلك من النصارى {فيه} أي: عيسى {من بعد ما جاءك من العلم} أي: من البينات الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبد الله ورسوله {فقل} لهم {تعالوا} أي: هلموا بالرأي والعزم {ندع} جزم في جواب الأمر وعلامة جزمه سقوط الواو {أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي: ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وإنما قدّمهم على النفس؛ لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم فنجمعهم {ثم نبتهل} أي: نتضرع في الدعاء ونبالغ فيه {فنجعل لعنت الله على الكاذبين} بأن نقول: اللهم إلعن الكاذب بأمر عيسى، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض وقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما بأهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها رضي الله عنها وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم: «إذا أنا دعوت فأمنوا» فقال أسقف نجران ـ وهو اسم سرياني لرئيس النصارى وعاملهم وهو غير العاقب: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأيت أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا فقال: «إني أنابذكم» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تحنفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب تؤديها للمسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدّوها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده إنّ العذاب تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر» ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} » (الأحزاب، 33) ، وفي ذلك دليل على نبوّته صلى الله عليه وسلم وعلى فضل أهل الكساء رضي الله تعالى عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين. فائدة: رسمت لعنة هنا بالتاء المجرورة، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي عليها بالهاء، والباقون بالتاء. {إن هذا} أي: الذي قص عليك من نبأ عيسى {لهو القصص} أي: الخبر {الحق} الذي لا شك فيه، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء من لهو والباقون بالرفع حيث جاء وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها وإمّا مبتدأ والقصص الحق خبره والجملة خبران. فإن قيل: لم جاز دخول اللام على الفصل؟ أجيب: بأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أولى؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ وأصلها أن تدخل على المبتدأ {وما من إله إلا الله} إنما صرح فيه بمن المزيدة للإستغراق تأكيداً للردّ على النصارى في تثليثهم {وإن الله لهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه فلا أحد يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة فلا يشاركه في الألوهية. {فإن تولوا} أي: أعرضوا عن الإيمان {فإنّ الله عليم بالمفسدين} فيجازيهم وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنّ التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والإعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم. ولما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود واختصموا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه وأولى الناس به، وقالت اليهود: بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، نزل. {قل يا أهل الكتاب} وهو يعم أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى {تعالوا إلى كلمة} العرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنها سميت القصيدة كلمة، وقوله تعالى: {سواء} مصدر بمعنى مستو أمرها لا تختلف فيها الرسل والكتب {بيننا وبينكم} هو نعت الكلمة؛ لأنّ المصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مدّت وإذا كسرت أو ضمت قصرت كقوله تعالى: {مكاناً سوى} (طه، 58) ثم فسر الكلمة بقوله: {أن لا نعبد إلا الله} أي: نوحده بالعبادة ونخلص له فيها {ولا نشرك به شيئاً} أي: ولا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً؛ لأن يعبد {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} أي: ولا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل، لأنهم بشر مثلنا. روى الترمذي لما نزل قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال: «أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم قال: هو ذلك» أي: أخذكم بقولهم {فإن تولوا} أي: أعرضوا عن التوحيد {فقولوا} أنتم لهم {اشهدوا بأنا مسلمون} أي: موحدون دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو نحو ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 اعترف بأني الغالب وسلم لي الغلبة. قال البيضاوي: تنبيه: انظر ما راعى أي: الله سبحانه وتعالى في هذه القصة من المبالغة والإرشاد وحسن التدرج في الحجاج أولاً لأحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح أي: يزيل شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الإنقياد عاد إليهم بالإرشاد وسلك طريقاً أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد أي: ينفع ذلك أيضاً عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك، وقال: اشهدوا بأنا مسلمون. {يا أهل الكتاب} وقد مرّ أنه يعم أهل الكتابين اليهود والنصارى {لم تحاجون} أي: تخاصمون {في إبراهيم} بزعمكم أنه على دينكم {وما أنزلت التوراة} على موسى {والإنجيل} على عيسى {إلا من بعده} أي: بزمن طويل إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية {أفلا تعقلون} بطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال. {ها أنتم} يا {هؤلاء} ها للتنبيه وأنتم مبتدأ خبره {حاججتم} أي: جادلتم {فيما لكم به علم} من أمر موسى وعيسى وزعمتم أنكم على دينهما {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} من شأن إبراهيم وليس له ذكر في كتابكم {وا يعلم} ما حاججتم فيه {وأنتم لا تعلمون} أي: جاهلون به، ثم قال تعالى تبرئة لإبراهيم: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً} أي: مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم {مسلماً} أي: موحداً منقاداً لله تعالى وليس المراد أنه كان على دين الإسلام وإلا لاشترك الإلزام؛ لأنهم يقولون: ملة الإسلام حدثت بعد نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وكان إبراهيم قبله بمدّة طويلة فكيف يكون على ملة الإسلام الحادثة بنزول القرآن، فعلم أن المراد يكون إبراهيم مسلماً أنه كان على ملة التوحيد لا على هذه الملة {وما كان من المشركين} كما لم يكن منكم أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم عزيراً والمسيح. {إنّ أولى الناس} أي: أحقهم {بإبراهيم} من أمّته {للذين اتبعوه} من أمّته {وهذا النبيّ والذين آمنوا وا وليّ المؤمنين} أي: ناصرهم وحافظهم ولما دعا اليهود معاذاً وحذيفة وعماراً إلى دينهم نزل. {ودّت} أي: تمنت {طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم} عن دينكم ويردّونكم إلى الكفر {وما يضلون إلا أنفسهم} أي: أمثالهم أو إن أثم إضلالهم عليهم والمؤمنون لا يطيعونهم فيه {وما يشعرون} بذلك. {يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وأنتم تشهدون} أنها آيات الله عز وجل أو بالقرآن العزيز وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق. {يأهل الكتاب لم تلبسون الحق} أي: القرآن المشتمل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم {بالباطل} أي: بالتحريف والتزوير {وتكتمون الحق} أي: نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وأنتم تعلمون} أنه حق. {وقالت طائفة من أهل الكتاب} أي: اليهود قالوا لجماعة منهم {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} أي: القرآن أي: أظهروا الإيمان به {وجه النهار} أي: أوّله وإنما سمي أوّله وجهاً لأنه أحسنه ولأنه أوّل ما يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 بعد الليل {واكفروا} به {آخره لعلهم} أي: المؤمنين {يرجعون} عن دينهم إذا رأوكم رجعتم واختلف في هذه الطائفة، فقال الحسن والسديّ: هي اثنا عشر من يهود خيبر وقيل: قريظة تواطؤوا، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أوّل النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك فظهر لنا كذبه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه واتهموه وقالوا: إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا فيرجعون عن دينهم. وقال مجاهد ومقاتل والكلبيّ: هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما تحوّلت القبلة وشق ذلك على اليهود آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أوّل النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا. {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع} أي: وافق {دينكم} أي: ولا تقرّوا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أولى وأهمّ فأطلع الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على سرّهم. تنبيه: قال البغويّ: اللام في لمن صلة أي: لا تصدقوا إلا من تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى: {عسى أن يكون ردفاً لكم} (النمل، 72) أي: ردفكم {قل} يا محمد {إنّ الهدى هدى الله} الذي هو الإسلام وما عداه ضلال وقوله تعالى: {أن يؤتى} بمعنى الجحد أي: ما يؤتى {أحد مثل ما أوتيتم} يا أمّة محمد {أو يحاجوكم} أي: إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا: نحن أفضل منكم وقوله تعالى: {عند ربكم} أي: عند فعل ربكم بكم ذلك، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والكلبيّ ومقاتل والحسن وهو حسن، وقال الفرّاء: ويجوز أن تكون أو بمعنى حتى كما يقال تعلق به أو يعطيك حقك أي: حتى يعطيك حقك ويكون معنى الآية ما أعطى أحد مثل ما أعطيتم يا أمّة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم أي يوم القيامة. وقال مجاهد قوله: {قل إن الهدى هدى الله} كلام معترض بين كلامين وما بعد متصل بالكلام الأوّل إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض أي: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات من المنّ والسلوى وفلق البحر وغيرها من الكرامات ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح ديناً منهم، وقرأ ابن كثير وحده بهمزة واحدة، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون هدى الله بدلاً من الهدى وأن يؤتى أحد خبر أن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم، قال: ويجوز أن ينتصب أن يؤتى بفعل مضمر يدل عليه قوله: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} كأنه قيل: قل إنّ الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأنّ قولهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم إنكار، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا قال تعالى: {قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} من عباده {وا واسع} أي: كثير الفضل {عليم} بمن هو أهله {يختص برحمته} أو نبوّته {من يشاء وا ذو الفضل العظيم} ففي ذلك ردّ وإبطال لما زعموه بالحجة الواضحة. {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار} أي: بمال كثير {يؤدّه إليك} كعبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ذهباً فأدّاه إليه {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك} كفنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر من قريش ديناراً فجحده {إلا ما دمت عليه قائماً} أي: إلا إن أودعته واسترجعته منه وأنت قائم على رأسه لم تفارقه ردّه إليك وإن فارقته وأخرته نكل ولم يردّه، وقيل: المأمون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم، وقرأ حمزة وأبو عمرو وشعبة يؤدّه ولا يؤدّه إليك بإسكان الهاء فهو وصل بنية الوقف فهو سكون وقف بالنية لا بالفعل وقالون باختلاس حركة الهاء، وحفص والكسائي بالحركة الكاملة والألف في قنطار ودينار بالإمالة لأبي عمرو والدوري عن الكسائي وورش بينَ بين والباقون بالفتح {ذلك} أي: ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤدّه {بأنهم قالوا} أي: بسبب قولهم {ليس علينا في الأمّيين} أي: العرب {سبيل} أي: إثم لاستحلالهم ظلم من خالفهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى قالوا: لن يجعل الله لهم في التوراة حرمة فكذبهم الله عز وجل بقوله عز من قائل {ويقولون على الله الكذب} أي: في نسبة ذلك إليه {وهم يعلمون} أنهم كاذبون وقال الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجلاً من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء؛ لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فكذبهم الله تعالى في ذلك. روى الطبراني وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي» أي: منسوخ متروك إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر أي: والديون من الأمانة؛ لأنّ المراد من الأمانة الرضا بالذمّة وقوله تعالى: {بلى} إثبات لما نفوه أي: بلى على اليهود في الأمّيين سبيل ثم ابتدأ فقال: {من أوفى بعهده} أي: ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة {واتقى} الله بترك المعاصي وفعل الطاعات {فإن الله يحب المتقين} فيه وضع الظاهر موضع المضمر أي: يحبهم بمعنى يثيبهم. فإن قيل: فأين الضمير الراجع من الخبر إلى من؟ أجيب: بأنّ عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير. ونزل في أحبار من اليهود حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانة وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة. {إن الذين يشترون} أي: يستبدلون {بعهد الله} إليهم في الإيمان للنبيّ صلى الله عليه وسلم والوفاء بأداء الأمانة {وإيمانهم} أي: حلفهم به تعالى كاذباً من قولهم: والله لنؤمننّ ولننصرنه {ثمناً قليلاً} من الدنيا {أولئك لا خلاق} أي: لا نصيب {لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله} أي: بما يسرّهم أو بشيء أصلاً وأنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة {ولا ينظر إليهم} أي: ولا يرحمهم {يوم القيامة ولا يزكيهم} أي: ولا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به وقيل: نزلت في جماعة من اليهود جاؤوا إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين فقال لهم: أتعلمون أنّ هذا الرجل رسول الله قالوا: نعم قال: لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً كثيراً فقالوا: لعله اشتبه علينا فرويداً حتى نلقاه فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته ثم رجعوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقالوا: لقد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ففرح ومارهم، وعن الأشعث بن قيس: «نزلت فيّ كان بيني وبين رجل خصومة في بئر وأرض، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شاهداك أو يمينه فقلت: إذا يحلف ولا يبالي فقال: من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك هذه الآية» . وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» وفي رواية المسبل إزاره، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم رجل حلف على يمين على مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر أنه أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماء، فإنّ الله تعالى يقول: «اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» . أي: أهل الكتاب {لفريقاً} أي: طائفة ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب {يلوون ألسنتهم بالكتاب} أي: يقتلونها بقراءته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك يقال: لوى لسانه عن كذا أي: غيره {لتحسبوه} أي: المحرف المدلول عليه بقوله تعالى: {يلوون} {من الكتاب} الذي أنزل الله {وما هو من الكتاب} قرأ ابن عامر وعاصم بفتح السين والباقون بكسرها، وقوله تعالى: {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} تأكيد لقوله {وما هو من الكتاب} وزيادة تشنيع عليهم به وبيان لأنهم يزعمون ذلك تصريحاً لا تعريضاً أي: ليس هو نازلاً من عنده. فإن قيل: نفى الله تعالى كون التحريف من عنده وهو فعل العبد فلا يكون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى وإلا لما صح نفيه عنه تعالى أجيب: بأنّ المنفي هو الإنزال كما تقرّر ولا كون التحريف غير مخلوق لله تعالى بكسب العبد وقوله تعالى: {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} تأكيد أيضاً وتسجيل عليهم بالكذب والتعمد فيه واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ما كان} أي: ما ينبغي {لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم} أي: الفهم للشريعة {والنبوّة} أي: المنزلة الرفيعة بالإنباء {ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله} فقال مقاتل والضحاك: نزلت في نصارى نجران كانوا يقولون: إن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً فقال تعالى: {ما كان لبشر} أي: عيسى {أن يؤتيه الله الكتاب} أي: الإنجيل، وقال ابن عباس وعطاء: ما كان لبشر أي: محمد أن يؤتيه الله الكتاب أي: القرآن وذلك «أن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً؟ فقال: «معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني» فنزلت. وقيل: «قال رجل: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: «ما ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله» والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم ويوضع موضع الجمع والواحد {ولكن} يقول: {كونوا ربانيين} أي: علماء عاملين منسوب إلى الرب بزيادة ألف ونون تفخيماً كما يقال رقباني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولحياني وهو الشديد التمسك بدين الله تعالى وطاعته، وقيل: الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل: الربانيون فوق الأحبار والأحبار العلماء والربانيون الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس. وعن الحسن: ربانيين علماء فقهاء، وحكي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال: هو الذي يربي علمه بعمله. وقال محمد بن الحنفية: يوم مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهم: اليوم مات رباني هذه الأمّة {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي: بسبب كونكم تعلمون الكتاب وبسبب كونكم دارسين له، فإنّ فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل فيكتفي بذلك دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جميع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ويجوز أن يكون معناه: تدرسونه على الناس كقوله تعالى: {لتقرأه على الناس} وفيه أنّ من علم ودرس العلم ولم يعمل، فليس من الله في شيء وأنّ السبب بينه وبين الله تعالى منقطع حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء وسكون العين وفتح اللام مخففة، والباقون بضمّ التاء وفتح العين وكسر اللام مشدّدة. {ولا يأمركم} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب الراء عطفاً على يقول أي: البشرط والباقون برفع الراء على أنه استئناف أي: الله {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} كما اتخذت الصابئة الملائكة واليهود عزيراً والنصارى عيسى وقوله تعالى: {أيأمركم بالكفر} إنكار والضمير فيه للبشر أو لله على الوجهين السابقين وقوله تعالى: {بعد إذ أنتم مسلمون} دليل على أنّ الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون على أن يسجدوا له. {و} اذكر {إذ} أي: حين {أخذ الله ميثاق النبيين} أي: عهدهم {لما آتيتكم من كتاب وحكمة} . قرأ حمزة والكسائي بكسر اللام من لما فتكون متعلقة بأخذ، والباقون بالفتح على الإبتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وما موصولة على الوجهين أي: للذي آتيتكموه لتؤمننّ به، وقرأ نافع: آتيناكم بالنون مفتوحة بعد الياء بعدها ألف، والباقون بتاء مضمومة {ثم جاءكم} تقدّم أنّ حمزة وابن ذكوان يميلان الألف محضة، والباقون بالفتح {رسول مصدّق لما معكم} من الكتاب والحكمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {لتؤمننّ به ولتنصرنه} جواب القسم أي: إن أدركتموه وأممهم تبع لهم في ذلك. وقيل: المراد أولاد النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرائيل أو سماهم نبيين تهكماً لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوّة من محمد؛ لأنا أهل كتاب والنبيون كانوا منا {قال} الله تعالى لهم: {أأقررتم} بذلك قرأ قالون وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وألف بينها وبين الهمزة الأولى وابن كثير كذلك إلا أنه لا يدخل ألفاً بينهما، ولورش وجهان: أحدهما كابن كثير والثاني أنه يبدل الثانية حرف مدّ ولهشام في الهمزة التحقيق والتسهيل مع دخول ألف بينهما، والباقون بتحقيق الهمزتين من غير دخول ألف بينهما {وأخذتم} أي: قبلتم تقدّم أن ابن كثير وحفصاً يظهران الذال المعجمة عند التاء من أخذتم والباقون بالإدغام {على ذلكم إصري} أي: عهدي سمي به؛ لأنه مما يؤصر أي: يشدّ ويعقد ومنه الآصار الذي يعقد به {قالوا أقررنا قال فاشهدوا} على أنفسكم وأتباعكم بذلك {وأنا معكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 من الشاهدين} عليكم وعليهم وهو توكيد وتحذير عظيم من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض، وقيل: الخطاب للملائكة. {فمن تولى} أي: أعرض {بعد ذلك} أي: الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة {فأولئك الفاسقون} أي: المتمرّدون من الكفرة. روي «أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من الفريقين ادّعى أنه أولى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ دينك فنزل. {أفغير دين الله يبغون} » وهذه الجملة معطوفة على الجملة المتقدّمة وهي {فأولئك هم الفاسقون} والهمزة متوسطة بينهما للإنكار ويجوز أن تعطف على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله؛ لأنه أهمّ من حيث أن الإنكار الذي معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل، وقرأ أبو عمرو وحفص بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب على تقدير وقل لهم: {وله} سبحانه وتعالى: {أسلم} أي: خضع وانقاد {من في السموات والأرض طوعاً} أي: بالنظر في الأدلة واتباع الحجة والإنصاف من نفسه {وكرهاً} بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون وقومه والإشراف على الموت لقوله تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا با وحده} (غافر، 84) وقال الحسن: أسلم أهل السموات طوعاً وأهل الأرض بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً خوفاً من السيف والسبي وقيل: هذا يوم الميثاق حين قال: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى} (الأعراف، 172) فقال بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً قال قتادة: المسلم أسلم طوعاً فنفعه، والكافر كرهاً في وقت البأس فلم ينفعه قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر، 15) وانتصب طوعاً وكرهاً على الحال بمعنى الطائعين ومكروهين {وإليه ترجعون} قرأ حفص بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب. {قل} لهم يا محمد {آمنا با وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط} أي: أولاده {وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم} بالتصديق والتكذيب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعمن تبعه بالإيمان، فلذلك وحد الضمير في قل وجمعه في آمنا وعلينا؛ لأن القرآن كما هو منزل عليه منزل على متابعيه بتوسط تبليغه إليهم أو بأن يتكلم عن نفسه بالجمع على طريقة الملوك إجلالاً له. فإن قيل: لم عدي أنزل في هذه الآية بعلى وفيما تقدّم من مثلها في سورة البقرة بإلى؟ أجيب: بأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فعدي تارة بإلى؛ لأنه ينتهي إلى الرسل وتارة بعلى؛ لأنه من فوق وما قيل: من أنه إنما خص ما هنا بعلى وما هناك بإلى؛ لأن ما هنا خطاب للنبيّ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية فناسب الإتيان بعلى المختصة بالعلوّ، وما هناك خطاب للأمّة وقد وصل إليهم بواسطة النبيّ الذي هو من البشر فناسب الإتيان بإلى المختصة بالإتصال. قال الزمخشري: فيه تعسف ألا ترى إلى قوله: {بما أنزل إليك} و {أنزلنا إليك الكتاب} (النساء، 105) وإلى قوله تعالى: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} (آل عمران، 72) . فإن قيل: لم قدم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل؟ أجيب: بأنه إنما قدم؛ لأن المنزل عليه هو المعرّف للمنزل على سائر الرسل، ولأنه أفضل الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 المنزلة {ونحن له مسلمون} أي: موحدون مخلصون له في العبادة لا نجعل له شريكاً فيها. ونزل فيمن ارتدّ ولحق بالكفار وهم اثنا عشر رجلاً ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً منهم الحارث بن سويد الأنصاري. {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً} أي: غير التوحيد والإنقياد لحكم الله فهو مشتمل على الإيمان بهذا التقدير وديناً تمييز مبين للإسلام والدين يشتمل على التصديق والأعمال الصالحة فالإسلام كذلك؛ لأنّ المبين لا يخالف المبين وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} (آل عمران، 199) والدين هو الوضع الإلهي السائق لكل خير {فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} لمصيره إلى النار المؤبدة عليه وقوله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} لفظه استفهام ومعناه جحد أي: لا يهديهم الله لما علم من تصميمهم على كفرهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم {و} بعدما {شهدوا أن الرسول حق و} قد {جاءهم البينات} أي: الحجج الظاهرة على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم {وا لا يهدي القوم الظالمين} أي: الكافرين. {أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} والمراد بالناس المؤمنون أو العموم، فإن الكافر يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه. تنبيه: دلت هذه الآية بمنطوقها على جواز لعن القوم المذكورين وبمفهومها على نفي جواز لعن غيرهم من الكفار الذين لم يكفروا بعد إيمانهم. قال البيضاوي: ولعلّ الفرق أنهم أي: هؤلاء مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدي مايوسون عن الرحمة بخلاف غيرهم أي: فلا يلعن الكافر الأصلي المعين حياً ولا ميتاً ما لا يعلم موته على الكفر، وكالأصلي المرتدّ وأمّا لعن الكافر على العموم فيجوز. {خالدين فيها} أي: اللعنة أو النار أو العقوبة المدلول باللعنة عليها {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي: يمهلون. {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} عملهم تصديقاً لتوبتهم {فإنّ الله غفور} لهم يقبل توبتهم {رحيم} بهم يتفضل عليهم وذلك «أنّ الحرث بن سويد لما ارتدّ ولحق بالكفار ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته» . ونزل في اليهود. {إنّ الذين كفروا} بعيسى والإنجيل {بعد إيمانهم} بموسى والتوراة {ثم ازدادوا كفراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل: كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه والصدّ عن الإيمان ونقض الميثاق {لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} أي: الثابتون على الضلال. فإن قيل: قد وعد الله تعالى قبول توبة من تاب فما معنى قوله تعالى: {لن تقبل توبتهم} ؟ أجيب: بأنّ محل القبول إذا كان قبل الغرغرة وهؤلاء توبتهم كانت بعدها وإنهم لم يتوبوا أصلاً فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها أو أنّ توبتهم لا تكون إلا نفاقاً. {إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء} أي: مقدار ما يملؤها من {الأرض} شرقها إلى غربها {ذهباً} تغليظاً في شأنهم وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة. فإن قيل: لم قال في الآية الأولى لن تقبل بغير فاء وفي هذه بقوله: فلن يقبل بالفاء أجيب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بأن الفاء إنما دخلت في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذاناً بتسبب امتناع الفدية على الموت على الكفر بخلافه في الآية الأولى لا دليل فيه على السبب كما تقول: الذي جاءني له درهم لم تجعل المجيء سبباً لاستحقاق الدرهم بخلاف قولك: فله درهم ونصب ذهباً على التمييز كقولهم: عشرون درهماً وقوله تعالى: {ولو افتدى به} محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرّب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى: {ولو أنّ للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه} والمثل يحذف كثيراً في كلامهم كقوله: ضربته ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله {أولئك لهم عذاب أليم} أي: مؤلم {وما لهم من ناصرين} أي: مانعين عنهم العذاب ومن مزيدة للإستغراق. روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول: نعم فيقول: أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي» {لن تنالوا البر} أي: لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله تعالى الذي هو الرحمة والرضا والجنة {حتى تنفقوا مما تحبون} من أموالكم أو ما يعمها وغيرها كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله تعالى والنفس في سبيله، وقال الحسن: لن تكونوا أبراراً. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله. روي لما نزلت هذه الآية جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء ـ وهو بفتح الباء الموحدة وكسرها وبفتح الراء وضمها مع المدّ والقصر ضيعة بالمدينة وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ـ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ بخ ذاك مال رابح ـ أو قال رائح ـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه» قوله صلى الله عليه وسلم بخ بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة وهي مبنية على السكون، فإن وصلت كسرت ونونت وربما شدّدت وقوله: رابح أو رائح يقال لضيعة الإنسان: مال رائح بالياء أي: يروح نفعه إليه ورابح بالباء الموحدة أي: ذو ربح كقولك لابن وتامر أي: ذو لبن وذو تمر. وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة فكأن زيداً وجد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدّق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما إن الله قد قبلها منك» وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعريّ أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال: إن الله قال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران، 92) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فأعتقها وقال: لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها {وما تنفقوا من شيء} أي: من أي شيء تحبونه أو غيره ومن بيان لما {فإنّ الله به عليم} فيجازيكم بحسبه. ولما قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «كان ذلك حلالاً لإبراهيم» فقالوا: كل ما نحرّمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا» نزل. {كل الطعام} أي: المطعومات أو كل أنواع الطعام {كان حلاً} أي: حلالاً أكله {لبني إسرائيل} والحل مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع قال تعالى: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (الممتحنة، 10) {إلا ما حرم إسرائيل} وهو يعقوب صلى الله عليه وسلم {على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} أي: ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم بل كان الكل حلالاً له ولبني إسرائيل وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة فليس في التوراة حرمتها. واختلفوا في الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه وفي سببه، فقال مقاتل والكلبي: كان ذلك الطعام لحمان الإبل وألبانها وسبب ذلك أنه مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان ذلك أحب إليه فحرمه، وقال ابن عباس والضحاك: هي العروق وسبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا ـ وهو بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ ـ وكان أصل وجعه أنه كان نذر إن وهبه الله اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا ثم قال له: أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة؛ لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت ولدك فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجاً فكان لا ينام بالليل من الوجع فحلف يعقوب لئن عافاه الله تعالى أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق، فحرّمه على نفسه وكان بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق يخرجونها من اللحم. وقال ابن عباس: لما أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرّمها يعقوب على نفسه، ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرّم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي: حرّم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها. وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حراماً عليهم وإنما حرموا على أنفسهم اتباعاً لأبيهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله عز وجل وأكذبهم الله تعالى فقال تعالى: {قل} لهم يا محمد {فأتوا بالتوراة فاتلوها} ليتبين صدق قولكم {إن كنتم صادقين} فيه فبهتوا ولم يأتوا بها وفي إخباره صلى الله عليه وسلم عما في التوراة دليل على نبوّته قال الله تعالى: {فمن افترى} أي: ابتدع {على الله الكذب من بعد ذلك} أي: ظهور الحجة بأنّ التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم {فأولئك هم الظالمون} أي: المتجاوزون الحق إلى الباطل وقوله تعالى: {قل} أي: لهم {صدق الله} تعريض بكذبهم أي: ثبت أنّ الله صادق في هذا كجميع ما أخبر به وأنتم الكاذبون {فاتبعوا ملة إبراهيم} أي: ملة الإسلام التي أنا عليها التي هي في الأصل ملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 إبراهيم حتى تخلصوا من اليهودية التي وطنتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله تعالى لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله تعالى لإبراهيم عليه السلام ومن تبعه {حنيفاً} أي: مائلاً عن كل دين إلى دين الإسلام وقوله تعالى: {وما كان من المشركين} فيه إشارة إلى أن اتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم واجب في التوحيد الصرف، والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط وهو تحريف التوراة وعن التفريط وهو ترك العمل وفيه إشارة إلى التعريض بشرك اليهود.d ولما قالت اليهود للمسلمين: بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل نزل. {إن أوّل بيت وضع للناس} أي: جعله الله متعبداً لهم وهو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته بناه الملائكة قبل خلق آدم ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين. ولما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام وقيل: أوّل من بناه آدم فانطمس في الطوفان ثم بناه إبراهيم وقيل: كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح ـ بضاد معجمة وحاء مهملة ـ سمي بذلك؛ لأنه ضرّح من الأرض أي: بعد ويطوف به الملائكة، فلما أهبط أمر بأن يحجه ويطوف حوله، ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات. قال البيضاوي: وهذا القول لا يلائم ظاهر الآية وقيل: أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش {للذي} أي: للبيت الذي {ببكة} بالباء لغة في مكة سميت بذلك؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة أي: تدقها فلم يرمها جبار بسوء إلا وقسمه الله وسميت مكة بالميم لقلة مائها من قول العرب: مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وتدعى أم رحم؛ لأنّ الرحمة تنزل بها وقوله تعالى: {مباركاً} حال من الذي أي: ذا بركة لأنه كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجوا واعتمره واعتكف عنده أو طاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب {وهدى للعالمين} لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأنّ فيه آيات عجيبة كما قال تعالى: {فيه آيات بينات} كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار فلا تعلو فوقه وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها، وإذا قصدت الجارحة صيداً فدخلت الحرم كفت عنه وأنه بلد صار إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار، وإنّ الصلاة فيه تضاعف بمائة ألف وإن كان جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل، وجملة فيه آيات بينات مفسرة لهدى أو حال كمباركاً وهدى وقوله تعالى: {مقام إبراهيم} مبتدأ حذف خبره أي: منها مقام إبراهيم أو خبر مبتدأ محذوف أي: أحدها أو بدل من آيات بدل بعض من كل وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ولعل الذي اندرس بعضه فإني رأيت أثر القدمين فيه، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى وبنوّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنّ تأثير القدم في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين، ولأنه بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين معجزة عظيمة، واختلف في سبب هذا الأثر على قولين: أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر، فغاصت به قدماه وهذا هو المشهور، والقول الثاني أنه لما جاز إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حوّلته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه. قال البيضاوي: وقيل عطف بيان وردّ هذا القول بأنّ آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين وقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي: ومنها أمن من دخله وذلك بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رب اجعل هذا البلد آمناً} (إبراهيم، 35) ، وفي الإقتصار على ذكر هاتين الآيتين وطيّ ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما، ونحوه في طي الذكر قول جرير: *كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة، والأمن من العذاب يوم القيامة» قال عليه الصلاة والسلام: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً» رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الحجون والبقيع يؤخذا بأطرافهما وينثران في الجنة» والحجون مقبرة مكة والبقيع مقبرة المدينة. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما لم يتعرّض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل، وكان عمر بن الخطاب يقول: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وعند الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى: لا يلجأ إلى الخروج بل يقتل للأمر في خبر الشيخين بقتل ابن خطل وقد كان ارتدّ وتعلق بأستار الكعبة وأمّا قوله: ومن دخله كان آمناً وخبر من دخل المسجد فهو آمن فمعناه جمعاً بين الأدلة أنّ من دخله بغير استحقاق قتل كان آمناً، ومن دخله بعد استحقاق قَتل قُتل، وأما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفى منه بالإتفاق {وعلى الناس حج البيت} أي: قصده للزيارة على وجه مخصوص وهو أحد أركان الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» وقرأ حفص وحمزة والكسائي بكسر الحاء وهي لغة نجد وقرأ الباقون بالفتح وهي لغة أهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وقوله تعالى: {من استطاع إليه} أي: الحج أو البيت {سبيلاً} أي: طريقاً بدل من الناس مخصص له «وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإستطاعة بالزاد والراحلة» رواه الحاكم وغيره {ومن كفر} أي: بما فرضه الله من الحج أو كفر بالله {فإنّ الله غني عن العالمين} أي: الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم وقيل: وضع كفر موضع لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» رواه الترمذي وضعفه ونحوه في التغليظ: «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» . تنبيه: في هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد على طلب الحج منها قوله تعالى: {وعلى الناس حج البيت} أي: أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر الناس ثم أنه أبدل منه من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التوكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أنّ الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ومنها ذكر الإستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله: عن العالمين ولم يقل عنه وفيه من الدلالة على الإستغناء عنه ببرهان؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الإستغناء لا محالة ولأنه يدل على الإستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب. وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {وعلى الناس حج البيت} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال: «إنّ الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل وهم المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس، قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل: ومن كفر إلخ» . وعنه صلى الله عليه وسلم «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرّتين ويرفع في الثالثة» . وروي: «حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البرّ جانبه» ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت» أي: ماتت. {قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أنّ كفرهم أقبح وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما {وا شهيد} أي: والحال إنّ الله تعالى شهيد {على ما تعملون} فيجازيكم عليه {قل يأهل الكتاب لم تصدّون} أي: تصرفون {عن سبيل الله} أي: دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام {من آمن} بتكذيبكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وكتمكم نعته، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون في صدّهم عن دين الله ويمنعون من أراد الدخول فيه جهدهم وقيل: أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان والحروب ليعودوا لمثله، وإنما كرر الخطاب والإستفهام مبالغة في التوبيخ ونفي العذر لهم وإشعاراً بأنّ كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب وقوله تعالى: {تبغونها} أي: السبيل {عوجاً} حال من الواو أي: باغين طالبين لها اعوجاجاً أي: ميلاً عن القصد والإستقامة بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أنّ في دين الإسلام عوجاً عن الحق بمنع النسخ وبتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوهما. فائدة: قال أبو عبيدة: العوج بالكسر في الدين والقول والعمل وبالفتح في الجدار وكل شخص قائم {وأنتم شهداء} أي: عالمون بأنّ الدين المرضي هو دين الإسلام كما في كتابكم {وما الله بغافل عما تعملون} من الكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 والتكذيب وإنما يؤخركم لوقتكم فيجازيكم. فإن قيل: لم ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: {وا شهيد على ما تعملون} وهذه الآية بقوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} ؟ أجيب: بأنه لما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله تعالى: {وا شهيد على ما تعملون} ولما كان في هذه الآية صدهم المؤمنين عن الإسلام كانوا يخفونه ويحتالون فيه قال: {وما الله بغافل عما تعملون} . ولما مر شاس بن قيس اليهوديّ ـ وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم ـ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مسجد لهم يتحدّثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث ـ وهو موضع بالمدينة وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ـ ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ كرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف به بينكم؟» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين» نزل. {يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} أي: شاساً وأصحابه {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} قال جابر: ما رأيت يوماً قط أقبح أوّلاً وأحسن آخراً مثل ذلك اليوم، ثم قال الله تعالى على وجه التعجب والتوبيخ. {وكيف تكفرون} أي: ولم تكفرون {وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله} محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال إنّ آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم غضة طرية وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم {ومن يعتصم با} أي: ومن يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في مجامع أموره {فقد هدى} أي: فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول: إذا جئت فلاناً فقد أفلحت كان الهدي قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً ومعنى التوقع في قد ظاهر لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدي كما أنّ قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده {إلى صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: واضح. {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} أي: واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم. وقال ابن مسعود: بأن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى. وروي مرفوعاً لما نزلت هذه الآية «قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله من يقوى على هذا؟ فنسخ بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} . وقال مقاتل: ليس في آل عمران منسوخ إلا هذه الآية {ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} أي: موحدون والمعنى: لا تكونن على حال سوى حالة الإسلام إذا أدرككم الموت، فإنّ النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات إلى القيل تارة وإلى المقيد أخرى وإلى المجموع منهما وهو هنا إلى المقيد كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ ولا تأتني إلا وأنت على حصان بكسر الحاء فلا تناه عن الإتيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان، فالنهي هما متوجه إلى القيد وحده، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، الآية فلو أنّ قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامهم وليس لهم طعام غيره» . {واعتصموا بحبل الله} أي: بدينه وهو دين الإسلام استعار له الحبل من حيث إنّ التمسك به سبب للنجاة من الردى كما أنّ التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي أو بكتابه وهو القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم» وقوله تعالى: {جميعاً} حال أي: مجتمعين عليه {ولا تفرقوا} أي: ولا تتفرقوا بعد الإسلام بوقوع الإختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه. {واذكروا نعمة الله} أي: إنعامه {عليكم} التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدّي إلى التآلف {إذ كنتم أعداء} في الجاهلية بينكم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة {فألف بين قلوبكم} بالإسلام وقذف فيها المحبة {فأصبحتم بنعمته إخواناً} متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد وهو الأخوّة في الله وقيل: هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة بسبب قتيل وتطاولت الحروب والعداوة بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم {وكنتم على شفى} أي: طرف {حفرة من النار} أي: حفرة ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا كفاراً {فأنقذكم منها} بالإسلام والضمير للحفرة أو النار أو الشفى وأنثه لتأنيث ما أضيف إليه كقول الشاعر: *كما شرقت صدر القناة من الدم* {كذلك} أي: مثل ذلك البيان البليغ {يبين الله لكم آياته} أي: دلائله {لعلكم تهتدون} إرادة أن تزدادوا هدى. {ولتكن منكم أمة} أي: طائفة {يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} فمن للتبعيض؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، فإنّ الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وعلى هذا فالمخاطب به الكل على الأصح ويسقط بفعل البعض الحرج عن الباقين وهكذا كل ما هو فرض كفاية، فإن تركوه أصلاً أثموا جميعاً وقيل: من زائدة وقيل: للتبيين بمعنى وكونوا أمة تأمرون بالمعروف كقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف} {وأولئك} أي: الداعون الآمرون الناهون {هم المفلحون} أي: الفائزون بكمال الفلاح. روى الإمام أحمد وغيره «أنه صلى الله عليه وسلم سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم» . وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة، 105) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرّ بالماء على الذي في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: مالك فقال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم» وعن حذيفة: يأتي على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري: إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجباً فواجب، وإن كان مندوباً فمندوب، وأمّا النهي عن المنكر ـ أي: الحرام ـ فواجب كله لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه؛ لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر. وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وإنما يجب الأمر والنهي على المكلف إذا لم يخش ضرراً ويجب أن يدفع بالأخف فالأخف كدفع الصائل. فإن قيل: الدعاء للخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك فهو شامل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما فائدة ذكر ذلك؟ أجيب: بأنه من عطف الخاص على العام إيذاناً بفضله كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة، 238) {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} عن دينهم {واختلفوا} فيه وهم اليهود والنصارى {من بعدما جاءهم البينات} أي: الآيات والحجج الموجبة للإتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق، وقيل: هم مبتدعة هذه الأمة وهم المشبهة والجبرية والحشوية وأشباههم وقوله تعالى: {وأولئك لهم عذاب عظيم} وعيد للذين تفرقوا وتهديد للمتشبه بهم. {يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه} هو يوم القيامة ونصب يوم بالظرف وهو لهم لما فيه من معنى الفعل أو بإضمار اذكروا والبياض من النور والسواد من الظلمة فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وأشرقت وسعى النور بين يديه ويمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله {فأما الذين اسودّت وجوههم} فهم الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم توبيخاً {أكفرتم بعد إيمانكم} واختلفوا في كيف كفروا بعد إيمانهم فقال أبي بن كعب: أراد به الإيمان يوم الميثاق حين قال لهم: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى} (الأعراف، 72) يقول: أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق؟ وعلى هذا هم جميع الكفرة وقال الحسن: هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروا بقلوبهم. وعن عكرمة أنهم أهل الكتابين آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال قتادة: هم أهل البدع. وقال أبو أسامة: هم الخوارج، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب: أهل النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء وخير قتلى تحت أديم الأرض الذين قتلهم هؤلاء، فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرّة قال: فما شأنك دمعت عيناك قال: رحمة لهم كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية ثم أخذ بيده فقال: إنّ بأرضك منهم كثيراً فأعاذك الله تعالى منهم وقوله تعالى: {فذوقوا العذاب} أمر إهانة {بما كنتم تكفرون} أي: بسبب كفركم أو جزاء كفركم فالباء متعلقة بذوقوا على الأول وبمحذوف على الثاني. {وأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله} أي: جنته عبر عنها بالرحمة تنبيهاً على أنّ المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله. فإن قيل: كان حق الترتيب أن يقدّم ذكرهم أجيب: بأنّ القصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {هم فيها خالدون} بعد قوله {ففي رحمة الله} أجيب: بأنّ فائدته أنه أخرج مخرج الإستئناف والتأكيد كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقال: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون. {تلك} أي: هذه الآيات الواردة في الوعد والوعيد {آيات الله نتلوها عليك} يا محمد {بالحق} أي: متلبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء {وما الله يريد ظلماً للعالمين} إذ يستحيل الظلم منه تعالى؛ لأنه لا يجب عليه شيء بل هو المالك على الإطلاق كما قال تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} ملكاً وخلقاً {وإلى الله ترجع} أي: تصير {الأمور} فيجازي كلاً بما وعد له وأوعد. {كنتم} يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم في علم الله تعالى {خير أمة أخرجت} أي: أظهرت {للناس} وقيل: كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي خيرها وأكرمها على الله تعالى» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوّله خير أم آخره» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمّتي» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة» وقوله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} استئناف بين به كونهم خير أمة كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبر ثان لكنتم وقوله تعالى: {وتؤمنون با} يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به؛ لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتدّ بإيمانه فكأنه غير مؤمن بالله. فإن قيل: لم أخر تؤمنون بالله وحقه أن يقدم؟ أجيب: بأنه إنما أخر؛ لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله تعالى وتصديقاً به وإظهاراً لدينه. تنبيه: استدل بهذه الآية على أنّ إجماع هذه الأمة حجة؛ لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف ناهين عن كل منكر إذ اللام فيها للإستغراق فلو أجمعوا على باطل كتحريم شيء هو في نفس الأمر معروف كان أمرهم على خلاف ذلك {ولو آمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أهل الكتاب} بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم {لكان} الإيمان {خيراً لهم} مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام {منهم المؤمنون} كعبد الله بن سلام وأصحابه {وأكثرهم الفاسقون} أي: المتمرّدون في الكفر. {لن يضروكم} أي: اليهود يا معشر المسلمين بشيء {إلا أذى} أي: ضرراً يسيراً كسب وطعن في الدين وتهديد ونحو ذلك {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} منهزمين ولا يضرّوكم بقتل أو أسر {ثم لا ينصرون} عليكم بل لكم النصر عليهم. وفي هذا تثبيت لمن أسلم منهم؛ لأنهم كانوا يؤذونهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى إلى ضرر يبالي به مع أنه تعالى وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل. فإن قيل: هلا جزم المعطوف في قوله: {ثم لا ينصرون} ؟ أجيب: بأنه عدل به عن حكم الجزاء؛ إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون والفرق بين رفعه وجزمه في المعنى أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها أو أبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر كما أخبر عن حال بني قريظة والنضير ويهود خيبر. فإن قيل: ما معنى التراخي في ثم أجيب: بأنّ معناه التراخي في الرتبة؛ لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار. {ضربت عليهم الذلة} أي: هدر النفس والمال والأهل أو ذل التمسك بالباطل والجزية {أينما ثقفوا} أي: حيثما وجدوا فلا عز لهم ولا اعتصام في سائر أحوالهم {إلا} في حال اعتصامهم {بحبل من الله} أي: بذمّة الله أو كتابه {وحبل من الناس} أي: بذمّة المسلمين أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين أي: لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوا من الجزية أو دين الإسلام {وباؤا} أي: رجعوا {بغضب من الله} أي: مستوجبين له {وضربت عليهم المسكنة} كما يضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها يظهرون الفقر والمسكنة. وفسر أكثر المفسرين المسكنة بالجزية وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه قال البيضاوي: واليهود في غالب الأمر فقراء مساكين اه. {ذلك} أي: ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب كائن {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك} أي: الكفر والقتل {بما عصوا وكانوا يعتدون} أي: كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى فإنّ الإصرار على الصغائر يقضي إلى الكبائر والإصرار على الكبائر يقضي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى. {ليسوا} أي: أهل الكتاب {سواء} أي: مستوين، وقوله تعالى: {من أهل الكتاب أمّة قائمة} أي: مستقيمة ثابتة على الحق استئناف لبيان نفي الإستواء وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما أسلم عبد الله بن سلام قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله هذه الآية {يتلون آيات الله} أي: يقرؤون كتاب الله {آناء الليل} أي: في ساعاته وقوله تعالى: {وهم يسجدون} حال أي: يصلون؛ لأنّ التلاوة لا تكون في السجود، واختلفوا في معناها فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بعضهم: هي قيام الليل. وقال ابن مسعود: هي صلاة العتمة؛ لأنّ أهل الكتاب لا يصلونها لما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: أما إنه ـ أي: الشأن ـ ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم» رواه الإمام أحمد والنسائيّ وغيرهما وقوله: غيركم بالنصب خبر ليس ومن أهل الأديان حال من أحد قاله التفتازاني. ثم وصف الله تعالى تلك الأمة القائمة بصفات أخر فقال: {يؤمنون با واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك} أي: الموصوفون بما ذكر {من الصالحين} أي: ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناه أي: والأمة الأخرى غير قائمة بل منحرفون عن الحق غير متعبدين بالليل مشركون بالله ملحدون في صفاته واصفون لليوم الآخر بغير صفته متباطئون عن الخيرات فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين. {وما تفعلوا من خير فلن تكفروه} أي: تعدموا ثوابه بل تجازون عليه، وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ بالياء فيهما أي: الأمة القائمة والباقون بالتاء على الخطاب أي: أيها الأمة القائمة وقوله تعالى: {وا عليم بالمتقين} بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى. {إنّ الذين كفروا لن تغني} أي: تدفع {عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله} أي: من عذابه {شيئاً} وخص الأموال والأولاد بالذكر لأنّ الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد {وأولئك أصحاب النار} أي: ملازموها {هم فيها خالدون مثل} أي: صفة. {ما ينفقون} أي: الكفار {في هذه الحياة الدنيا} في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحوها {كمثل ريح فيها صرّ} قال أكثر المفسرين: فيها برد شديد وحكي عن ابن عباس أنها السموم الحارّة التي تقتل وقيل: فيها صرّ أي: صوت {أصابت حرث} أي: زرع {قوم ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعاصي {فأهلكته} عقوبة لهم؛ لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ والمعنى مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح الزرع فلم ينتفعوا به فكذلك نفقة هؤلاء ذاهبة لا ينتفعون بها {وما ظلمهم الله} بضياع نفقاتهم {ولكن أنفسهم يظلمون} بالكفر الموجب لضياعها ويجوز أن يعود الضمير لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم أي: وما ظلمهم الله تعالى بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} أي: أصفياء تطلعونهم على سرّكم ثقة بهم شبهوا ببطانة الثوب كما شبهوا بالشعار قال عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار» رواه الشيخان والشعار ما يلي الجسد والدثار فوقه وقوله تعالى: {من دونكم} أي: من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف هو صفة بطانة أي: كائنة من دونكم أي: غيركم من الكفار المنافقين {لا يألونكم خبالاً} أي: لا يقصرون لكم في الفساد والألو التقصير وأصله أن يعدّى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم: لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أو النقص والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه {ودّوا} أي: تمنوا {ما عنتم} أي: عنتكم وهو شدّة الضرر وما مصدرية أي: تمنوا أن يضرّوكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه {قد بدت} أي: ظهرت {البغضاء من أفواههم} أي: في كلامهم بالوقيعة فيكم وإطلاع المشركين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 على سركم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم، وعن قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك {وما تخفي صدورهم} من العداوة والغيظ {أكبر} أي: أعظم مما بدا؛ لأنّ بدوّه ليس عن روية واختيار {قد بينا لكم الآيات} الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين {إن كنتم تعقلون} ما بين لكم فلا توالوهم. فإن قيل: كيف موقع هذه الجمل وهي لا يألونكم وودّوا ما عنتم وقد بدت البغضاء وقد بينا لكم الآيات أجيب: بأنها مستأنفات على وجه التعليل بمعنى إنّ كلا علة للنهي عن اتخاذهم بطانة. {ها أنتم أولاء} ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين وأولاء اسم للمشار إليهم وهم المؤمنون وقوله تعالى: {تحبونهم} أي: هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي منكم من القرابة والرضاع والمصاهرة {ولا يحبونكم} لمخالفتهم لكم في الدين بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء {وتؤمنون بالكتاب كله} أي: بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم، وفي هذا توبيخ شديد للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحو هذا قوله تعالى: {فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} (النساء، 104) . {وإذا لقوكم قالوا آمنا} أي: نفاقاً وتغريراً {وإذا خلوا} أي: خلا بعضهم ببعض {عضوا عليكم الأنامل} أي: أطراف الأصابع {من الغيظ} أي: شدّة الغضب لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ويعبر عن شدّة الغضب بَعض الأنامل مجازاً، وإن لم يكن ثم عض فيوصف المغتاظ والنادم بَعض الأنامل والبنان والإبهام. قال الحارث بن ظالم المري: *فأقتل أقواماً لئاماً أذلة ... يعضون من غيظ رؤوس الأباهم* {قل موتوا بغيظكم} أي: ابقوا إلى الممات بغيظكم فلن تروا ما يسركم وقوله تعالى: {إنّ الله عليم بذات الصدور} أي: بما في القلوب ومنه ما يضمره هؤلاء يحتمل أن يكون من المقول أي: وقل لهم: إنّ الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً وأن يكون خارجاً عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم. {إن تمسسكم} أي: تصبكم أيها المؤمنون {حسنة} أي: نعمة كنصر وغنيمة وخصب في معاشكم وتتابع الناس في دينكم {تسؤهم} أي: تحزنهم {وإن تصبكم سيئة} أي: إساءة كهزيمة وجدب واختلاف يكون بينكم {يفرحوا بها} وجملة الشرط متصلة بالشرط، قيل: وما بينهما اعتراض والمعنى إنهم متناهون في عداوتكم فلم توالونهم فاجتنبوهم. فإن قيل: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ أجيب: بأنّ المس مستعار بمعنى الإصابة فكان المعنى واحد ألا ترى إلى قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء، 79) {وإن تصبروا} على أذاهم {وتتقوا} الله في موالاتهم وغيرها {لا يضركم كيدهم شيئاً} بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين وهذا تعظيم من الله تعالى وإرشاداً إلى أنه يستعان على كيد العدوّ بالصبر والتقوى، وقد قال الحكماء: إذا أردت أن تكيد من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره، والباقون بضم الضاد وضم الراء مشدّدة للإتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 كضمة مدّ وهي ضمة الأمر المضاعف وكل مجزوم من المضاعف المضموم العين، فإنه يجوز ضمه للإتباع كما يجوز فتحه للخفة وكسر لأجل تحريك الساكن {إن الله بما تعملون محيط} أي: عالم فيجازيكم به. {و} اذكر يا محمد {إذ غدوت من أهلك} أي: من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها {تبوّىء} أي: تنزل {المؤمنين مقاعد} أي: مراكز يقفون فيها {للقتال وا سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوالكم. روي «أنّ المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره، فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ـ أي: بكسر الباء وهو مكان لا ماء فيه ولا طعام ـ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وقال بعض أصحابه: اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم وضعفنا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأوّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم» فقال رجال من المسلمين قد فاتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل، فلبس لأمته أي: درعه فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه وقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال: «لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة ونزل في عدوة الوادي ـ أي: بالعين المهملة وهي جانبه ـ وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفوفهم وأجلس خمسين من الرماة وأمّر عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل وقال: انضحوا علينا بالنبل لا يأتون من ورائنا ولا تبرحوا غلبنا أو نصرنا» . {إذ} بدل من إذ قبله {همت طائفتان منكم} بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما جناحا العسكر {أن تفشلا} أي: تجبنا عن القتال وترجعا. روي «أنه صلى الله عليه وسلم خرج في زهاء ألف رجل ووعدهم النصر إن صبروا وكان المشركون ثلاثة آلاف فلما بلغوا عند جبل أحد بالمدينة انعزل ابن أبيّ المنافق في ثلاثمائة وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال ابن أبيّ: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم فهمّ الحيان باتباعه فثبتهم الله ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزمخشريّ: إنها ما كانت إلا همة وحديث نفس وكما لا تخلو النفس عند الشدّة من بعض الهلع ثم يردّها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه كما قال عمرو بن الإطنابة: *أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي* {وا وليهما} أي: ناصرهما فما لهما تفشلان {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي: ليثقوا به دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 غيره فينصرهم كما نصرهم ببدر، ونزل لما هزموا من أحد تذكرة لهم بنعمة الله تعالى. {ولقد نصركم الله ببدر} وهو ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به وقوله تعالى: {وأنتم أذلة} أي: بقلة العدد والسلاح والمال حال من الضمير. فإن قيل: قال الله تعالى: {وأنتم أذلة} وقد قال تعالى: {والعزة ولرسوله وللمؤمنين} أجيب: بأنه بمعنى القلة وضعف الحال وقلة السلاح والمال كما مرّ فإن نقيض ذلك العز وهو القوّة والغلبة. روي أنّ المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ولم يكن فيهم إلا فرس واحد وأكثرهم كانوا رجالة وربما كان الجمع منهم يركبون جملاً واحداً والكفار كانوا قريباً من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدّة الكاملة {فاتقوا الله} في الثبات وعدم المخالفة {لعلكم تشكرون} أي: بتقواكم نعمه التي أنعم بها عليكم من نصرته وقوله تعالى: {إذ تقول للمؤمنين} أي: توعدهم تطميناً ظرف لنصركم وقوله تعالى: {ألن يكفيكم أن يمدّكم} أي: يعينكم {ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} إنكار أن لا يكفيهم ذلك وإنما جيء بلن إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوّة العدوّ وكثرتهم. وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي وقوله تعالى: {بلى} إيجاب لما بعد لن أي: بلى يكفيكم. فإن قيل: قد قال تعالى في سورة الأنفال: {إني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين} فكيف قال هنا بثلاثة آلاف؟ أجيب: بأنه مدهم أولاً بألف ثم صارت ثلاثة ثم صارت خمسة كما قال تعالى: {إن تصبروا} أي: على لقاء العدوّ {وتتقوا} الله في المخالفة {ويأتوكم} أي: المشركون {من فورهم} أي: من وقتهم {هذا} والفور العجلة والسرعة ومنه فارت القدر اشتدّ غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين} أي: معلمين وقد صبروا واتقوا وأنجز الله وعده بأن قاتل معهم الملائكة على خيل يلف عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم، وعن عرفة بن الزبير: كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك، وعن الضحاك معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها، وعن مجاهد مجزوزة أذناب خيلهم. قال أكثر المفسرين: إن الملائكة لم تقاتل في غير يوم بدر. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «تسوموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو والباقون بفتحها. {وما جعله الله} أي: الإمداد {إلا بشرى} أي: بشارة {لكم} أي: بالنصر {ولتطمئن} أي: ولتسكن {قلوبكم به} فلا تجزعوا من كثرة عدوّكم وقلة عددكم كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم {وما النصر إلا من عند الله} لا من العدّة والعدد وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد الملائكة وإنما أمدّهم ووعدهم به بشارة لهم وربطاً على قلوبهم من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر {العزيز} الذي لا يغالب {الحكيم} الذي ينصر ويخذل من يشاء بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة وقوله تعالى: {ليقطع} متعلق بنصركم أي: ليهلك {طرفاً} أي: طائفة {من الذين كفروا} بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 {أو يكبتهم} أي: لم ينالوا ما راموه وأو للتنويع لا للترديد. ونزل لما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وشج وجهه يوم أحد وقال: «كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم» . {ليس لك من الأمر شيء} بل الأمر كله لله فاصبر إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «اللهمّ العن الحارث بن هشام اللهمّ إلعن صفوان بن أمية» فنزلت هذه الآية، وقال قوم: نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من القرّاء بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم أميرهم المنذر بن عمرو فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجداً شديداً وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين وقوله تعالى: {أو يتوب عليهم أو يعذبهم} عطف على قوله أو يكبتهم وليس لك من الأمر شيء اعتراض، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم، فإمّا أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا {فإنهم ظالمون} بالكفر، وقيل: إنّ أو يتوب عليهم بمعنى إلى أن يتوب عليهم.H {وما في السموات وما في الأرض} ملكاً وخلقاً فله الأمر كله والمقصود من هذا تأكيد ما ذكره أوّلاً من قوله: {ليس لك من الأمر شيء} والمعنى: إنما يكون ذلك لمن له الملك وليس هو لأحد إلا لله تعالى. فإن قيل: ظاهر ما ذكر يدل على أنّ ذلك ورد للمنع من أمر كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفعله وذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى فكيف يمنعه منه وإن كان بغير أمره فكيف يصح مع قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} (النجم، 3) أجيب: بأنّ ذلك كان من باب ترك الأفضل والأولى فلا جرم أرشده الله تعالى إلى اختيار الأولى نظيره قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبروا وما صبرك إلا با} (النحل، 127) فكأنه تعالى قال أوّلاً: إن كان ولا بدّ أن تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل، ثم قال ثانياً وإن تركته كان ذلك أولى. ثم أمره أمراً جازماً بتركه فقال: واصبر وما صبرك إلا بالله {يغفر لمن يشاء} مغفرته {ويعذب من يشاء} تعذيبه. ولما كان له فعل ذلك إلا أن جانب المغفرة والرحمة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل التفضل والإحسان قال: {وا غفور} لأوليائه {رحيم} بعباده فلا تبادر بالدعاء عليهم. ولما شرح سبحانه وتعالى عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً} وهو جمع ضعف. ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة أتبعه بما يدل على ذلك وهو الوصف بقوله: {مضاعفة} بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب والتخصيص بحسب الواقع، إذ كان الرجل منهم يرابي إلى أجل ثم يزيد في الدين زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء اللطيف مال الديون وإلا فالربا حرام بلا مضاعفة بل هو من الكبائر مطلقاً، وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين ولا ألف قبلها، والباقون بتخفيف العين وألف قبلها {واتقوا الله} بترك ما نهيتم عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون ثم خوّفهم فقال تعالى: {واتقوا النار التي أعدّت للكافرين} بالتحرّز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم، كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه وفي الآية تنبيه على أنّ النار بالذات للكفار وبالعرض للعصاة. {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة على عادته تعالى المستمرّة في القرآن، قال محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ولعلّ وعسى في أمثال ذلك دليل على عزة التوصل إلى ما جعل خيراً لهما ومن تأمّل هذه الآيات وأمثالها لم يحدّث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله تعالى. {وسارعوا} أي: بادروا وأقبلوا {إلى مغفرة من ربكم} أي: إلى ما تستحق به المغفرة كالإسلام والتوبة وأداء الفرائض والهجرة والجهاد والتكبيرة الأولى والأعمال الصالحات. وقرأ نافع وابن عامر بغير واو قبل السين والباقون بواو قبلها {و} إلى {جنة عرضها السموات والأرض} أي: عرضها كعرضهما كقوله تعالى: {عرضها كعرض السماء والأرض} (الحديد، 21) وإنما جمعت السماء وأفردت الأرض لأنها أنواع قيل: بعض فضة وبعض غير ذلك، والأرض نوع واحد وذكر العرض للمبالغة في وصف الجنة بالسعة؛ لأنّ العرض دون الطول كما دلّ عليه قوله تعالى: {بطائنها من إستبرق} (الرحمن، 54) على أن الظهارة أعظم يقول: هذه صفة عرضها فكيف طولها؟ قال الزهري: إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله تعالى وهذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل معناه كعرض السموات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} (هود، 107) أي: عند ظنكم وإلا فهما زائلتان. وعن ابن عباس: الجنة كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض. وعنه أيضاً إنّ لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة. وروي أنّ ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار فأين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلها في التوراة، ومعناه أنه حيث شاء الله. وسئل أنس بن مالك عن الجنة: أفي السماء أم في الأرض وأيّ أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش، وقال قتادة: كانوا يرون أنّ الجنة فوق السموات السبع وأنّ جهنم تحت الأرضين السبع. فإن قيل: قال تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} وأراد بالذي وعدنا الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها ما ذكر؟ أجيب: بأنّ باب الجنة في السماء وعرضها كما أخبر تعالى: {أعدّت} هيئت {للمتقين} الله بعمل الطاعات وترك المعاصي وفي ذلك دليل على أنّ الجنة مخلوقة الآن وقيل: إنّ الجنة والنار يخلقان بعد قيام الساعة. ثم وصف الله تعالى المتقين بصفات فقال: {الذين ينفقون} أي: في طاعة الله {في السرّاء والضرّاء} أي: في العسر واليسر أو الأحوال كلها؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي: لا يخلون عن حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدّق ببصلة، وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدّقت بحبة عنب. فأول ما ذكر من أوصافهم الموجبة للجنة ذكر السخاء. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السخيّ قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد عن النار والبخيل بعيد من الله قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من العالم البخيل» {والكاظمين الغيظ} أي: الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء» . وروي: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً» . وروي: «ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب» {والعافين عن الناس} أي: التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله» وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت وهذا الإستثناء يحتمل أن يكون منقطعاً وهو ظاهر وأن يكون متصلاً لما في القلة من معنى العدم كأنه قيل: إن هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد في أمّتي وقوله تعالى: {وا يحب المحسنين} يجوز أن تكون اللام فيه للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء وقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة} أي: ذنباً قبيحاً كالزنا {أو ظلموا أنفسهم} أي: بما دون الزنا كالقبلة وقيل: الفاحشة ما يتعدّى وظلم النفس ما ليس كذلك {ذكروا الله} أي: ذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم {فاستغفروا لذنوبهم} بالندم والتوبة عطف على المتقين أو على الذين ينفقون. واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال عطاء: نزلت في أبي سعيد التمار؛ أتته إمرأة حسنة تبتاع منه تمراً فقال لها: إنّ هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية. وقال مقاتل والكلبي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفيّ لم يستقبله الأنصاري، فسأل امرأته عن حاله فقالت: لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً، وقال الأنصاري: هلكت وذكر القصة، فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أنّ الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم أتيا عمر، فقال عمر: مثل ذلك ثم أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: مثل مقالهما فنزلت هذه الآية وقوله تعالى: {ومن} أي: أحد {يغفر الذنوب إلا الله} استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين والمراد به وصفه سبحانه وتعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الإستغفار والوعد بقبول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 التوبة {ولم يصروا على ما فعلوا} أي: ولم يقيموا على قبيح فعلهم بل أقلعوا عنه مستغفرين. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» . وروي: «لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» وقوله تعالى: {وهم يعلمون} حال من يصروا أي: ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به وقوله تعالى: {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار} إشارة إلى الفريقين ويجوز أن يكون والذين مبتدأ وأولئك خبره وقوله تعالى: {خالدين فيها} حال مقدّرة أي: مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها. تنبيه: لا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، فقول الزمخشري في «الكشاف» وفي هذه الآيات بيان قاطع على أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون وتائبون ومصرون وأنّ الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ومن خلف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه جار على طريق الإعتزال من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرّاً لا يدخل الجنة ونعوذ بالله من ذلك بل كل من مات على الإسلام يدخل الجنة وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه وقوله تعالى: {ونعم أجر العاملين} المخصوص فيه بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك أي: المغفرة والجنات. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مؤمن أذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له» . وروي: «أيّ عبد أذنب ذنباً فقال: يا رب أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه: علم عبدي أنّ له رباً يغفر الذنوب ويؤاخذ بها فغفر له فمكث ما شاء الله ثم أذنب ذنباً آخر فقال: يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي قال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويؤاخذ به قد غفرت له فليعمل ما شاء ـ أي: ويستغفر ـ فأغفر له» . وروي أنه تبارك وتعالى قال: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ابن آدم إنك إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئاً، ابن آدم إنك إن تذنب ذنباً حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك» . وروي أنّ الله تبارك وتعالى قال: «من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً» قال ثابت البناني: بلغني أنّ إبليس بكى حين نزلت هذه {والذين إذا فعلوا فاحشة} إلى آخرها. وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: «ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي» . وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، وعن الحسن يقول الله تعالى يوم القيامة: «جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم» ، وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد: *ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إنّ السفينة لا تجري على اليبس* ونزل في هزيمة أحد. {قد خلت} أي: مضت {من قبلكم سنن} جمع سنة وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ومنه سنة الأنبياء عليه الصلاة والسلام أي: قد مضت من قبلكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم {فسيروا} أيها المؤمنون {في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} الرسل من الهلاك فلا تحزنوا لغلبتهم فأنا أمهلهم لوقتهم. {هذا} أي: القرآن {بيان للناس} عامّة {وهدى} من الضلالة {وموعظة للمتقين} خاصة {ولا تهنوا} أي: تضعفوا عن قتال الكفار بما نالكم من القتل والجراح يوم أحد. {ولا تحزنوا} على ما أصابكم وكان قد قتل يومئذٍ من المهاجرين خمسة: منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل من الأنصار سبعون رجلاً {وأنتم الأعلون} أي: وحالكم أنكم أعلى شأناً منهم فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة أي: وأنتم الأعلون في العاقبة {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات، 173) وقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} متعلق بالنهي بمعنى لا تهنوا إن صح إيمانكم على أنّ صحة الإيمان توجب قوّة القلب والثقة بالله تعالى وقلة المبالاة بأعدائه أو متعلق بالأعلون أي: إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة. {إن يمسسكم قرح} جهد من جرح ونحوه يوم أحد {فقد مس القوم} الكفار {قرح مثله} يوم بدر ثم إنهم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى أن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون، وقيل: كلا المسين كان يوم أحد، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ أبو بكر وشعبة وحمزة والكسائي بضم قاف قرح في الموضعين، والباقون بالفتح وهما لغتان بمعنى، وقال الفرّاء: القرح بالفتح الجرح وبالضم آلمه {وتلك الأيام} تلك مبتدأ أو الأيام صفته وقوله تعالى: {نداولها} خبره ويصح أنّ تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة أي: نصرّفها {بين الناس} قال البغوي: فيوماً عليهم ويوماً لهم. قال في «الكشاف» كقوله وهو من أبيات الكتاب: *فيوم علينا ويوماً لنا ... ويوم نُساءُ ويوماً نُسَر* تقديره فيوماً يكون الأمر علينا أي: بالأضرار ويوماً لنا أي: بالنفع فيكون يوماً ظرفاً ملائماً لقوله: ويوماً نُساء ويوماً نسر قاله الشيخ سعد الدين. أي: أديل تارة للمسلمين على المشركين وهو يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين وأديل تارة للكافرين على المسلمين وهو يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين. روي أنه صلى الله عليه وسلم جعل عبد الله بن جبير على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً، فقال: «إن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهنّ وسوقهنّ رافعات ثيابهنّ» فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيراً وسبعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ثلاث مرّات فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرّات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرّات، ثم رجع إلى أصحابه وهو يقول: أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدوّ الله إنّ الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال: يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة ثم أخذ يرتجز: *اعل هبل اعل هبل* فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبوه؟» فقالوا: يا رسول الله ما نقول قال: قولوا الله أعلى وأجل قال: إنّ لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبوه» فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟ فقال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» . وفي حديث ابن عباس: قال أبو سفيان: يوم بيوم وإنّ الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» وإنما كانت الدولة يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {وليعلم الله الذين آمنوا} أي: أخلصوا إيمانهم من غيرهم. فإن قيل: ظاهر هذه الآية أنّ الله تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم وذلك في حقه تعالى محال ونظير هذا الإشكال قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} (آل عمران، 142) وقوله تعالى: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين} (،) وقوله: {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا} (الكهف، 12) وقوله: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم} (محمد، 31) وقوله: {إلا لنعلم من يتبع الرسول} (البقرة، 143) وقوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (الملك، 2) فظاهر هذه الآيات يدل على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها، وأجاب المتكلمون عنها بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها، فثبت أن التغير في العلم محال إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدرة مجاز مشهور يقال: هذا علم فلان والمراد معلومه، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدّد العلم فالمراد تجدّد المعلوم وإذا عرف هذا فهذه الآية محتملة لوجوه أحدها: ليظهر المخلص من المنافق والمؤمن من الكافر وثانيها: ليعلم أولياء الله وأضاف إلى نفسه تفخيماً وثالثها: ليحكم بالإمتياز فأوقع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأنّ الحكم لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها: ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لا يوجد {ويتخذ منكم شهداء} ويكرم ناساً منكم بالشهادة وهم المتشهدون يوم أحد أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما وجد منهم من الثبات والصبر على الشدائد كما قال تعالى: لتكونوا شهداء على الناس وقوله تعالى: {وا لا يحب الظالمين} قال ابن عباس أي المشركين كقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} وهو اعتراض بين بعض التعاليل وبعض وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يظفرهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين. {وليمحص الله الذين آمنوا} أي: ليطهرهم من الذنوب بما أصابهم {ويمحق} أي: يهلك {الكافرين} أي: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والإستشهاد والتمحيص وغير ذلك مما هو أصلح لهم، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم. {أمّ} منقطعة مقدّرة ببل ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي: بل أ {حسبتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} في الشدائد وقد مرّ معنى يعلم. تنبيه: قال البيضاوي: والفرق بين لما يعلم ولم أنّ في لما توقع الفعل فيما يستقبل لكن قال أبو حيان: لا أعلم أحداً من النحويين ذكره بل ذكروا أنك إذا قلت لما يخرج زيد دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار، وأمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا انتهى. لكن قال الفرّاء: لما لتعريض الوجود بخلاف لم. {ولقد كنتم تمنون} فيه حذف إحدى التاءين في الأصل أي: تتمنون {الموت} أي: الحرب فإنها من أسباب الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج {من قبل أن تلقوه} أي: تشاهدوه وتعرفوا شدّته {فقد رأيتموه} أي: الحرب أو الموت حتى قتل دونكم من قتل من إخوانكم {وأنتم تنظرون} أي: بصراء تتأملون الحال كيف هم فلم انهزمتم. {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكافل والتحيمد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال وأكرم الله تعالى نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم باسمين مشتقين من اسمه جل وعلا محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت: *وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد* وقوله تعالى: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه صلى الله عليه وسلم بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به. فإن قيل: قوله تعالى: {أفإن مات أو قتل} شك وهو على الله محال؟ أجيب: بأن المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجود الإرتداد، قال ابن عباس وأصحاب المغازي: لما رأى خالد بن الوليد الرماة يوم أحد اشتغلوا بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ثم حمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم ورمى عبد الله ابن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرّق عنه أصحابه، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة» ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فرجع وقال: إني قتلت محمداً وصاح صارخاً، ألا إن محمداً قد قتل فقيل: إن ذلك الصارخ كان إبليس فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال: «ارم فداك أبي وأمي» . وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثاً، فكان الرجل يمرّ ومعه جعبته من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة وكان إذا رمى يشرف النبيّ صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذٍ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت، لا نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوه حتى إذا دنا منه وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها يوم فرق ذرة أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول: قتلني محمد واحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس قال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي: أقتلك فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف» . قال ابن عباس: اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ، واشتدّ غضب الله على من رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وفشا في الناس أن محمداً قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل، فقال أنس بن مالك بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه ثم قال: اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني المنافقين ـ ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأشار إليّ أن أمسك» فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفرار، فقالوا: يا نبيّ الله فديناك بآبائنا وأمّهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فإن قيل: إنه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنه عليه الصلاة والسلام لا يقتل فقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر، 30) وقال: {وا يعصمك من الناس} (المائدة، 67) وقال: {ليظهره على الدين كله} (التوبة، 33) وإذا علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل؟ أجيب: بأن هذا ورد على سبيل الإلزام، فإن موسى عليه الصلاة والسلام مات ولم ترجع أمّته عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام قتل ولم يرجعوا عن دينه فكذا ههنا {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً} بارتداده وإنما يضرّ نفسه {وسيجزي الله الشاكرين} على نعمة الإسلام بالثبات عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 كأنس وأضرابه. {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} أي: بقضائه ومشيئته أو بإذنه لملك الموت في قبضه روحه وقوله تعالى: {كتاباً} مصدر أي: كتب الله ذلك {مؤجلاً} أي: مؤقتاً لا يتقدّم ولا يتأخر فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة. ونزل في الذين تركوا المركز يوم أحد طلباً للغنيمة {ومن يرد} أي: بعمله {ثواب الدنيا نؤته منها} ما نشاء مما قدّرناه له كما قال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وفي الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا {ومن يرد} أي: بعمله {ثواب الآخرة نؤته منها} أي: من ثوابها {وسنجزي الشاكرين} أي: الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له» وقال صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقوله تعالى: {وكأين} أصله أي: دخلت الكاف عليها فصارت مركبة من كاف التشبيه ومن أي: وحدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية ومثلها في التركيب وإفهام التكثير كذا في قولهم: عندي كذا كذا درهماً وأصله كاف التشبيه، وذا الذي هو إسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية وكأين وكذا كلها بمعنى واحد، والنون تنوين في المعنى أثبت في الخط على غير قياس. قال البغوي: لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وقرأ ابن كثير بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة، والباقون بهمزة بعد الكاف مفتوحة بعدها ياء مشدّدة، ووقف أبو عمرو على الياء والباقون على النون وسهل حمزة الهمزة وحققها الباقون وقوله تعالى: {من نبيّ} تمييز لكأين لأنها مثل كم الخبرية وقوله تعالى: {قتل} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم القاف وكسر التاء ولا ألف بين القاف والتاء والباقون بفتح القاف والتاء وألف بين القاف والتاء وقوله تعالى: {معه} خبر مبتدؤه {ربيون} وهم جمع ربي وهو العالم المتقي منسوب إلى الرب، وإنما كسرت راؤه تغييراً في النسب وقيل: لا تغيير فيه وهو منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة وقوله تعالى: {كثير} صفة لربيون وإن كان بلفظ الإفراد لأنّ معناه جمع {فما وهنوا} أي: ضعفوا {لما أصابهم في سبيل الله} من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم {وما ضعفوا} عن الجهاد {وما استكانوا} أي: خضعوا لعدوّهم كما فعلتم حين قيل: قتل نبيكم {وا يحب الصابرين} على الشدائد فيثيبهم ويعظم أجرهم. {وما كان قولهم} عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم وكونهم ربانيين {إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا} أي: تجاوزنا الحدّ وقولهم: {في أمرنا} إيذان بأنّ ما أصابهم لسوء فعلهم وهضماً لأنفسهم {وثبت أقدامنا} أي: بالقوّة على الجهاد {وانصرنا على القوم الكافرين} أي: فهلا قلتم وفعلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {فآتاهم الله ثواب الدنيا} أي: بالنصر والغنيمة والعز وحسن الذكر {وحسن ثواب الآخرة} أي: بالجنة والنعيم المقيم وخص ثوابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بالحسن إشعاراً بفضله وأنه المعتدّ به عند الله {وا يحب المحسنين} أي: فيكثر لهم الثواب. {س3ش149/ش153 يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو?ا? إِن تُطِيعُوا? الَّذِينَ كَفَرُوا? يَرُدُّوكُمْ عَلَى? أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا? خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَـ?ـاكُمْ? وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا? الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُوا? بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ? سُلْطَانًا? وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ? وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ?? إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ?? حَتَّى? إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى ا?مْرِ وَعَصَيْتُم مِّن? بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ? مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ا?خِرَةَ? ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ? وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ? وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَتَلْوُ?نَ عَلَى? أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى? أُخْرَ?ـاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّ?ابِغَمٍّ لِّكَيْ تَحْزَنُوا? عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَمَآ أَصَابَكُمْ? وَاللَّهُ خَبِيرُ? بِمَا تَعْمَلُونَ} {يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا} أي: اليهود والنصارى فيما يأمرونكم به وقال علي: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ولو كان محمد نبياً لما قتل {يردّوكم على أعقابكم} أي: إلى الكفر {فتنقلبوا خاسرين} الدنيا والآخرة أمّا خسران الدنيا فلأنّ أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الإنقياد إلى العدوّ وإظهار الحاجة إليه وأمّا خسران الآخرة، فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. {بل الله مولاكم} أي: ناصركم وحافظكم على دينكم {وهو خير الناصرين} فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره. {سنلقي} أي: سنقذف {في قلوب الذين كفروا الرعب} أي: الخوف وذلك أنّ الكفار لما هزموا المسلمين في أحد أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفرّوا منهم من غير سبب، حتى روي أنّ أبا سفيان صعد الجبل ونادى يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن شاء الله» وقيل: لما ذهبوا متوجهين إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق ندموا وقالوا: ما صنعنا شيئاً قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم. وقرأ ابن عامر والكسائي بضم العين والباقون بالسكون {بما أشركوا} أي: بسبب إشراكهم {با ما لم ينزل به سلطاناً} أي: حجة على عبادته وهو الأصنام وهذا كقوله: ولا ترى الضبّ بها ينحجر، أي: ليس بها ضب فلا ينحجر فكذلك هؤلاء ليس لهم حجة أصلاً، وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة بحدة اللسان {ومأواهم النار وبئس مثوى} أي: مأوى {الظالمين} أي: الكافرين هي. {ولقد صدقكم الله وعده} قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنّ النصر كان للمسلمين في الابتداء كما قال تعالى: {إذ تحسونهم} أي: تقتلونهم من حسه إذا أبطل حسه وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء والباقون بالإدغام {بإذنه} أي: بإرادته {حتى إذا فشلتم} أي: جبنتم عن القتال {وتنازعتم} أي: اختلفتم {في الأمر} أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمقام في سفح الجبل للرمي حين انهزم المشركون، فقال بعضكم: نذهب فقد نصر أصحابنا وقال آخرون: لا تخالفوا أمر النبيّ فاثبتوا مكانكم، فثبت عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهبى وهو المعنى بقوله تعالى: وعصيتم أي: أمر النبي وتركتم المركز لطلب الغنيمة {من بعدما أراكم} أي: الله {ما تحبون} من الظفر والغنيمة وانهزام العدوّ وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله أي: منعكم نصره ويجوز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا سواء كانت الدولة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 والمسلمون على آثارهم، ثم اشتغل بعضهم بالغنيمة كما قال تعالى: {منكم من يريد الدنيا} وهم التاركون المركز للغنيمة {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا. فإن قيل: فإذا كان البعض هو المخالف فكيف جاء العتاب عاماً بقوله: {وعصيتم} أجيب: بأنّ اللفظ وإن كان عاماً فقد جاء المخصص بعده وهو قوله: {منكم} وقوله تعالى: {ثم صرفكم} أي: ردّكم بالهزيمة {عنهم} أي: الكفار عطف على ما قبله والجملتان من قوله منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة اعتراض بين المتعاطفين وقيل: عطف على جواب إذا المقدّر {ليبتليكم} أي: ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره {ولقد عفا عنكم} ما ارتكبتموه من مخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وميلكم إلى الغنيمة تفضلاً منه تعالى. فإن قيل: إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ الذنب من الصغائر لصحة العفو عنه من غير توبة لقيام الدليل على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرة أجيب: بأنّ هذا الذنب لا شك أنه كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين فلا بدّ من إضمار توبتهم {وا} أي: المتفضل المنعم {ذو فضل على المؤمنين} أي: يتفضل عليهم بالعفو أو في الأحوال كلها سواء أجعلت الدولة لهم أم عليهم إذ الإبتلاء أيضاً رحمة وقوله تعالى: {إذ} العامل فيها مضمر أي: اذكر إذ {تصعدون} أي: تبعدون في الأرض هاربين {ولا تلوون} أي: تعرجون {على أحد} أي: لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره {والرسول يدعوكم} أي: يقول: إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة {في أخراكم} أي: من ورائكم {فأثابكم} أي: جازاكم {غماً} بالهزيمة {بغمّ} أي: بسبب غمكم الرسول بالمخالفة. وقيل: الباء بمعنى على أي: مضاعفاً على غمّ فوت الغنيمة. والغموم كانت هناك كثيرة أحدها: غمهم بما نالهم من العدوّ في الأنفس والأموال وثانيها: غمهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها وثالثها: غمهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورابعها: غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الإنهزام وذلك من أشق الأشياء؛ لأنّ الإنسان بعد انهزامه يضعف قلبه ويجبن فإذا أمر بالمعاودة فإن فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف عقاب الآخرة وخامسها: غمهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل وسادسها: غمهم حين أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيل المشركين وسابعها: غمهم حين أشرف عليهم أبو سفيان. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذٍ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه وأراد أن يرميه فقال: «أنا رسول الله» ففرحوا حين وجدوه وفرح صلى الله عليه وسلم حين رأى من يمتنع به فأقبلوا على المشركين يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس لهم أن يعلونا اللهمّ إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» ثم بدت أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، وإذا عرفت ذلك فلا يضر اختلاف المفسرين، فإن بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فسر هذين الغمين بغمين من هذه وبعضهم بخلافه وقال القفال: وعندي أن الله تعالى ما أراد بقوله غماً بغمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي: إن الله تعالى عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، فكأنه تعالى قال: أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زجراً لكم عن الإقدام على المعصية والإشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. والغمّ التغطية ومنه غمّ الهلال إذا لم ير وقوله تعالى {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي: من الغنيمة متعلق بعفا أو بأثابكم فلا زائدة {ولا ما أصابكم} أي: من القتل والهزيمة {وا خبير بما تعملون} أي: عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها. {ثم أنزل عليكم} يا معشر المسلمين {من بعد الغمّ أمنة} أي: أمناً والأمن والأمنة بمعنى واحد وقيل: الأمن يكون مع زوال سبب الخوف، والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف ههنا قائماً وقوله تعالى: {نعاساً} بدل من أمنة، وأمنة مفعول أو نعاساً هو المفعول وأمنة حال منه متقدّمة {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على التأنيث ردّاً إلى الأمنة والباقون بالياء على التذكير ردّاً إلى النعاس {وطائفة} وهم المنافقون {قد أهمتهم أنفسهم} أي: حملتهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إلا إنجاءها دون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يناموا، فإن الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان أحدهما: الجازمون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعين بأن الله ينصر هذا الدين وأن هذه الوقعة لا تؤدّي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الأمن إلى أن غشيهم النعاس فإن النوم لا يجيء مع الخوف، قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس. قال الزبير: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ الخوف، فأرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن بشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا} . والفريق الثاني: هم المنافقون كانوا شاكين في نبوّته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتدّ جزعهم وعظم خوفهم. قال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق بالله والفراغ من الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله. فإن قيل: ما فائدة هذا النعاس؟ أجيب: بأنّ له فوائد: الأولى: أنّ السهر يوجب الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوّة والنشاط والثانية: أنّ الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله تعالى النوم على الباقين لئلا يشاهدوا قتل غيرهم فيشتدّ خوفهم والثالثة: أنّ الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في تلك المعركة من أدل الدلائل على أنّ الله تعالى يحفظهم ويعصمهم وذلك مما يزيل الخوف من قلوبهم ويورّثهم الأمن. تنبيه: قوله تعالى: {وطائفة} مبتدأ والخبر {قد أهمتهم أنفسهم} . فإن قيل: كيف جاز الإبتداء بالنكرة؟ أجيب: بأنه جاز لأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أمرين: إمّا للإعتماد على واو الحال وقد عدّه بعضهم مسوّغاً وإن كان الأكثر لم يذكروه وأنشد: *سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ... محياك أخفى ضوءه كل شارق* وإمّا لأنّ الموضع موضع تفصيل، فإنّ المعنى يغشى طائفة وطائفة لم يغشاهم فهو كقوله: *إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وشق عندنا لم يحوّل* وقوله تعالى: {يظنون با غير الحق} أي: أن لا ينصر الله محمداً صفة أخرى لطائفة وغير الحق نصب على المصدر أي: يظنون بالله غير الظنّ الحق الذي يحق أن يظنّ به {ظنّ} أي: كظنّ {الجاهلية} حيث اعتقدوا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل أو لا ينصر وقوله تعالى: {يقولون} أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدل من يظنون {هل لنا} أي: ما لنا لفظه استفهام ومعناه جحد {من الأمر} أي: النصر الذي وعدناه {من شيء} أي: شيء ومن صلة زيدت للتأكيد وهو إمّا مبتدأ خبره لنا وإمّا فاعل للنا لاعتماده على الإستفهام ومن الأمر حال من المبتدأ أو الفاعل وهو شيء لكونه مرفوعاً حقيقة لا مجروراً، وقيل: إنّ عبد الله بن أبيا بنُ سلول لما شاوره النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة أشار إليه بأن لا يخرج من المدينة ثم إنّ بعض الصحابة ألحوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم فغضب ابن أبيّ من ذلك، فقال: عصاني وأطاع الولدان ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع ابن أبي فقيل له: قتل بنو الخزرج فقال: هل لنا من الأمر من شيء يعني أنّ محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن لا يخرج من المدينة والمعنى: هل لنا أمر يطاع فهو استفهام على سبيل الإنكار {قل} لهم يا محمد {إنّ الأمر كله} أي: الغلبة الحقيقية لله ولأوليائه، فإنّ حزب الله هم الغالبون أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقرأ أبو عمرو برفع اللام بعد الكاف على أنه مبتدأ والخبر لله والباقون بالنصب على أنه توكيد.l تنبيه: هذه الآية تدل على أنّ جميع المحدثات خلق الله تعالى بقضائه وقدره؛ لأنّ المنافقين قالوا: لو أنّ محمداً قبل منا رأينا ونصحنا لما وقع في هذه المحنة، فأجابهم الله تعالى بأنّ الأمر كله لله. وهذا إنما ينتظم إذا كانت أفعال العباد بقضائه وقدره، إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب رافعاً لشبهة المنافقين وقوله تعالى: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون} أي: يظهرون {لك} حال من ضمير يقولون، وقل إنّ الأمر كله لله اعتراض بين الحال وذي الحال أي: يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وقوله تعالى: {يقولون} بيان لما قبله {لو كان لنا من الأمر شيء} أي: كما وعد محمد وزعم أنّ الأمر كله لله ولأوليائه أو لو كان الإختيار إلينا لم نخرج كما كان رأي ابن أبيّ وغيره {ما قتلنا ههنا} أي: لما غلبنا ولما قتل من قتل منا في هذه المعركة. {قل} لهم {لو كنتم في بيوتكم} وفيكم من كتب الله تعالى عليه القتل {لبرز} أي: خرج {الذين كتب} أي: قضى {عليهم القتل} منكم {إلى مضاجعهم} أي: مصارعهم فيقتلوا ولم ينجهم قعودهم؛ لأنّ قضاء الله تعالى كائن لا محالة فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه وقرأ أبو عمرو وحفص وورش بضم الباء في بيوتكم والباقون بالكسر قوله تعالى: {وليبتلي} أي: ليختبر {الله ما في صدوركم} أي: قلوبكم من الإخلاص والنفاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 علة فعل محذوف تقديره فرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليبتلي وقيل: معطوف على علة محذوفة تقديره ليقضي الله أمره وليبتلي وقوله تعالى: {وليمحص ما في قلوبكم} فيه وجهان: أحدهما: إنّ هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات وتظهرها والثاني: إنها تصير كغارة لذنوبكم فيمحصكم من تبعات المعاصي والسيئات. فإن قيل: قد سبق ذكر الإبتلاء في قوله تعالى: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} فلِمَ أعاده؟ أجيب: بأنه أعيد إما لطول الكلام بينهما وإما لأنّ الإبتلاء الأوّل هزيمة للمؤمنين والإبتلاء الثاني بسائر الأحوال {وا عليم بذات الصدور} أي: بما في القلوب قبل إظهارها وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه تعالى: غني عن الإبتلاء وإنما يبتلي ليظهر للناس حال المؤمنين من حال المنافقين. {إنّ الذين تولوا منكم} عن القتال {يوم التقى الجمعان} أي: جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً: ستة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص {إنما استزلهم الشيطان} أي: طلب منهم الزلل بوسوسته {ببعض ما كسبوا} من الذنوب بترك المركز والحرص على الغنيمة ومخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم فأطاعوه فمنعوا التأييد وقوّة القلب حتى تولوا {ولقد عفى الله عنهم} لتوبتهم واعتذارهم {إنّ الله غفور} للذنوب {حليم} لا يعاجل بعقوبته المذنب كي يتوب. {يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} أي: المنافقين وهم ابن أبي وأصحابه {وقالوا لإخوانهم} أي: في شأنهم ومعنى إخوانهم اتفاقهم في النفاق والكفر وقيل: في النسب {إذا ضربوا في الأرض} أي: سافروا فيها لتجارة أو غيرها فماتوا {أو كانوا غزا} أي: غزاة جمع غاز فقتلوا {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} أي: لا تقولوا كقولهم {ليجعل الله ذلك} القول في عاقبة أمرهم {حسرة في قلوبهم} أي: لأنهم إذا ألقوا تلك الشبهة على المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم. وقيل: إنّ اجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحسرة والخيبة وضيق الصدر وهو المراد بقوله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} (الأنعام، 125) فإن قيل: كيف قيل إذا ضربوا مع قالوا؟ أجيب: بأنّ ذلك هي حكاية الحال الماضية قال التفتازاني معناه: إنك تقدّر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي، أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون والمعنى: حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض وقوله تعالى: {وا يحيي ويميت} ردّ لقولهم. أي: هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والمغازي ويميت المقيم والقاعد {وا بما تعملون بصير} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة ردّاً على الذين كفروا، والباقون بتاء الخطاب ردّاً على قوله: ولا تكونوا وهو خطاب للمؤمنين وفيه تهديد لهم على أن يماثلوهم. {ولئن قتلتم} اللام هي الموطئة لقسم محذوف {في سبيل الله} أي: الجهاد {أو متم} أي: أتاكم الموت في سبيل الله وجواب القسم قوله تعالى: {لمغفرة} كائنة {من الله} وحذف جواب الشرط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 لسد جواب القسم مسدّه لكونه دالاً عليه {ورحمة} أي: من الله فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ولا بد من حذف آخر مصحح للمعنى تقديره لمغفرة من الله لكم ورحمة منه لكم. فإن قيل: المغفرة هي الرحمة فلم كررها ونكرها؟ أجيب: بأنه إنما نكرها إيذاناً بأن أدنى خير وأقلّ شيء خير من الدنيا وما فيها وهو المراد بقوله: {خير مما تجمعون} من الدنيا وأما التكرير فغير مسلم؛ لأنّ المغفرة مترتبة على الرحمة فيرحم ثم يغفر. فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون أصلاً؟ أجيب: بأنّ الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيراً وأيضاً هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات. {ولئن متم أو قتلتم} على أيّ وجه اتفق هلاككم {لا إلى الله} لا غيره {تحشرون} في الآخرة فيجازيكم وقرأ نافع وحمزة {متم} بكسر الميم والباقون بالضم، وقرأ حفص {يحشرون} بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب ورسمت لا إلى الله بألف بعد اللام. فإن قيل: هنا ثلاثة مواضع فقدّم الموت على القتل في الأوّل والأخير وقدّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنّ الأوّل لمناسبة ما قبله من قوله: {إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا} فرجع الموت لمن ضرب في الأرض والقتل لمن غزا، وأمّا الثاني فلأنه محل تحريض على الجهاد فقدّم الأهم الأشرف، وأمّا الأخير فلأن الموت أغلب. {فبما رحمة} أي: فبرحمة {من الله لنت لهم} فما مزيدة للتأكيد والجار والمجرور مقدّم للدلالة على أنّ لينه صلى الله عليه وسلم ما كان إلا برحمة من الله، ومعنى الرحمة توفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه {ولو كنت فظاً} أي: سيىء الخلق {غليظ القلب} أي: جافياً {لانفضوا} أي: تفرّقوا {من حولك} أي: عنك وذلك؛ لأنّ المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه وسكون نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم كريماً يتجاوز عن ذنوبهم ويعفو عن سيئاتهم ويخصهم بالبر والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وغلظ القلب ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء كثير القيام بإعانة الفقراء. وحمل القفال هذه الآية على واقعة أحد قال: فبما رحمة من الله لنت لهم يوم أحد حين عادوا إليك بعد الإنهزام، ولو كنت فظاً غليظ القلب فشافهتهم بالملامة على ذلك الإنهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الإنهزام، فكان ذلك مما يطمع العدوّ فيك وفيهم {فاعف} أي: تجاوز {عنهم} أي: ما أتوه {واستغفر لهم} ذنوبهم حتى أشفعك فيهم فأغفر لهم. واختلفوا في معنى قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} على وجوه أحدها: إنّ ذلك يقتضي شدّة محبته لهم فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة لهم فيحل سوء الخلق والفظاظة وثانيها: إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان أكمل الناس عقلاً إلا أنّ عقول الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر ببال آخر لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم» ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم «ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم» وثالثها: قال الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وسفيان بن عيينة: إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة وتصير سنة ورابعها: أنه عليه الصلاة والسلام شاورهم في وقعة أحد أشاروا عليه بالخروج وكان ميله أن لا يخرج، فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم شيء، فأمر الله تعالى بمشاورتهم بعد تلك الواقعة ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة وخامسها: أمره بالمشاورة لا ليستفيد منهم رأياً ولكن ليعلم مقادير عقولهم ومحبتهم له. وذكروا أيضاً وجوهاً أخر، وفي هذا القدر كفاية واتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور الأمّة فيه؛ لأنّ النص إذا جاء بطل الرأي {فإذا عزمت} أي: قطعت الأمر على إمضاء ما تريد بعد المشاورة {فتوكل على الله} أي: ثق به لا بالمشاورة فليس التوكل إهمال التدبير بالكلية بل بمراعاة الأسباب مع تفويض الأمر إلى الله تعالى {إن الله يحب المتوكلين} عليه فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح. {إن ينصركم الله} أي: يعنكم على عدوّكم كيوم بدر {فلا غالب لكم} أي: فلا يغلبكم أحد {وإن يخذلكم} بترك نصركم كيوم أحد {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} أي: من بعد خذلانه أي: لا أحد ينصركم. وفي هذا تنبيه على المقتضي للتوكل وتحريض على ما يستحق به النصر من الله وتحذير عما يستجاب خذلانه {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي: فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر سواه؛ لأنّ إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه. {وما كان لنبي أن يغل} أي: ما صح لنبيّ أن يخون في الغنائم فإنّ النبوّة تنافي الخيانة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس: نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، وقال مقاتل: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟» فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفاً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم «بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم؟» وقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذا في الوحي يقول ما كان لنبي أن يكتم شيئاً من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة، كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه سب دينهم وسب آلهتهم فسألوا أن يترك ذلك فنزلت. وروي أنه صلى الله عليه وسلم غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم وتأخرت القسمة لبعض الموانع، فجاء قوم وقالوا: ألا نقسم غنائمنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «لو كان لكم مثل أحد ذهباً ما حبست عليكم منه درهماً أتحسبون أني أغلكم مغنمكم» فنزلت وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول والمعنى على هذا وما صح لنبي أن يوجد غالاً أو ينسب إلى الغلول {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} قال أكثر المفسرين: إنّ هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهي نظير قوله تعالى في مانعي الزكاة {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة، 35) ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم «لا ألقين أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها نغاء فينادي: يا محمد فأقول: لا أملك لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 من الله شيئاً قد بلغتك» قال المحققون: وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك المغلول ازدادت فضيحته. وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له: انزل إليه فخذه فينزل إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه ففعل ذلك به. وعن أبي هريرة: قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه ناراً» فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «شراك من النار أو شراكان من نار» وقال أبو مسلم: ليس المقصود من الآية ظاهرها بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل كقوله تعالى: {إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله} (لقمان، 16) فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد والمعنى أنّ الله تعالى يحفظ عليه هذا المغلول ويقرّره عليه يوم القيامة ويجازيه به؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية. وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسد على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في بيت أمّه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ منها أحد شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو» ثم رفع يديه حتى رؤيت عفرة إبطه ثم قال: «اللهمّ هل بلغت اللهمّ هل بلغت» {ثم توفى كل نفس} أي: تعطى جزاء {ما كسبت} أي: عملت وافياً الغال وغيره. فإن قيل: هلا قيل: ثم يوفى أي: الغال ما كسب؟ أجيب: بأنه عم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى {وهم لا يظلمون} شيئاً فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم وقوله تعالى: {أفمن اتبع رضوان الله} الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف والتقدير أفمن اتقى فاتبع رضوان الله {كمن باء} أي: رجع {بسخط من الله} بسبب المعاصي {ومأواه جهنم وبئس المصير} أي: المرجع هي أي: ليس مثله واختلف في المراد من هذه الآية، فقال الكلبي والضحاك: فمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، وقال الزجاج: لما حل المشركون على المسلمين دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين ففعله بعضهم وتركه آخرون فقوله: {أفمن اتبع رضوان الله} هم الذين امتثلوا أمره كمن باء بسخط من الله هم الذين لم يقبلوا قوله. وقيل: {أفمن اتبع رضوان الله} بالإيمان به والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والإشتغال بمعصيته، قال القاضي: وكل واحد من هذه الوجوه صحيح ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه؛ لأنّ اللفظ عام فيجب أن يتناول الكل وإن كانت الآية نزلت في واقعة معينة لكن عموم اللفظ لا يبطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 بخصوص السبب. تنبيه: الفرق بين المصير والمرجع أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع فإنه قد يوافق المبدأ، وقرأ شعبة {رضوان} بضم الراء والباقون بالكسر وقوله تعالى: {هم درجات} مبتدأ وخبر أي: الفريقان درجات ولا بد من تأويل في الأخبار بالدرجات عن هم؛ لأنها ليست إياهم فيجوز أن يكون جعلوا نفس الدرجات مبالغة، والمعنى: إنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم كما أنّ الدرجات متفاوتة فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أي: هم مثل الدرجات في التفاوت ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي: ذوو درجات أي: أصحاب منازل ورتب في الثواب والعقاب {عند الله} فلمن اتبع رضوانه الثواب ولمن باء بسخطه العقاب {وا بصير بما يعملون} أي: عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها. {لقد منّ الله على المؤمنين} أي: أنعم على من آمن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ووجه هذه المنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه كقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء، 107) فإن قيل: لم خصهم بالنعمة مع أن البعثة عامّة؟ أجيب: بأنهم هم المنتفعون بها كقوله تعالى: {هدى للمتقين} {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} أي: من جنسهم عربياً مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به ويشرفوا به لا ملكاً ولا عجمياً وقرىء شاذاً من أنفسهم بفتح الفاء أي: من أشرفهم؛ لأنه كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم وقد خطب أبو طالب لما تزوّج صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم وزرع إسمعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إنّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش الإرجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. ولم أذكر في التفسير قراءة شاذة إلا هذه لكونها في شرف الرسول صلى الله عليه وسلم وقراءة السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها {يتلو عليهم آياته} أي: القرآن بعدما كانوا جهالاً لم يسمعوا الوحي {ويزكيهم} أي: ويطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال {ويعلمهم الكتاب} أي: القرآن {والحكمة} أي: السنة من بعدما كانوا من أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم كما قال تعالى: {وإن كانوا من قبل} أي: قبل بعثته صلى الله عليه وسلم {لفي ضلال مبين} أي: بين ظاهر. {أو لما} أي: حين {أصابتكم مصيبة} بأحد بقتل سبعين منكم {قد أصبتم مثليها} ببدر بقتل سبعين وأسر سبعين {قلتم} متعجبين {أنى} أي: من أين لنا {هذا} القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، والجملة الأخيرة محل الإستفهام الإنكاري {قل} لهم {هو من عند أنفسكم} أي: هو مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز، فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات في المركز والمطاوعة في الأمر، وعن علي رضي الله تعالى عنه لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم. روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله تعالى عنه قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدّموا ـ أي: الأسارى ـ فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عددهم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل نأخذ منهم فداهم فنتقوّى به على قتال أعدائنا ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر» وهذا معنى قوله: {قل هو من عند أنفسكم} أي: بأخذكم الفداء واختياركم للقتل {إنّ الله على كل شيء قدير} فيقدر على النصر وعلى منعه وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى. {وما أصابكم يوم التقى الجمعان} أي: جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة {فبإذن الله} أي: فهو كائن بقضائه وإرادته ودخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو الذي يأتيني فله درهم {وليعلم المؤمنين} وقد تقدّم أنّ معنى وليعلم الله كذا أي: يميز أو يظهر للناس ما كان في علمه. {وليعلم الذين نافقوا} قال الواحدي: يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها. قال أبو عبيدة: مشتق من نافقاء اليربوع؛ لأنّ جحر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فإن طلب من أيهما كان يخرج من الآخر فقيل للمنافق: إنه منافق وهم اسم إسلامي؛ لأنه صنع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلب خرج من الآخر وقوله تعالى: {وقيل لهم} عطف على نافقوا أي: وليعلم الذين قيل لهم لما انصرفوا عن القتال وقالوا: لم نلقي أنفسنا في القتل فرجعوا، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه وكانوا ثلاثمائة من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {تعالوا قاتلوا في سبيل الله} الكفار {أو ادفعوا} عنا أي: إن كان في قلبكم حب الإيمان فقاتلوا للدين، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، وقال السدي وابن جريج: ادفعوا عنا العدوّ بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا؛ لأنّ الكثرة أحد أسباب الهيبة. روي عن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره: لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوّهم قيل: وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال: لقوله تعالى: {أو ادفعوا} أراد أكثروا سوادهم واختلفوا في القائل فقال الأصم: إنه الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى القتال وقيل: أبو جابر الأنصاري قال لهم: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدوّ {قالوا لو نعلم} أي: نحسن {قتالاً لاتبعناكم} فيه قال تعالى تكذيباً لهم: {هم للكفر يومئذٍ} أي: يوم إذ قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم {أقرب منهم للإيمان} أي: لانقطاعهم وارتدادهم وكلامهم، فإنّ ذلك أوّل إمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل: المعنى على حذف مضاف أي: هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان بما أظهروه من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل أقرب إلى الإيمان من حيث الظاهر. تنبيه: فضلوا هنا على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين، ولولا ذلك لم يجز تقول زيد قاعداً أفضل منه قائماً أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً ولو قلت: زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً لم يجز {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} أي: يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإيمان فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر. تنبيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 إضافة القول إلى الأفواه تصوير لنفاقهم، فإنّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط وبهذا انتفى كونه للتأكيد، كما قيل به لتحصيل هذه الفائدة وقال ابن عادل: والظاهر أنّ القول يطلق على اللساني وعلى النفساني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محمليه اللهمّ إلا أن يقال إطلاقه على النفساني مجاز {وا أعلم بما يكتمون} أي: عالم بما في ضمائرهم وبما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنه يعلم ذلك مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بإمارات وجوّزوا في موضع. {الذين قالوا} ألقاب الإعراب الثلاثة: الرفع والنصب والجرّ، فالرفع من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين، الثاني: أنه بدل من واو يكتمون، الثالث: إنه مبتدأ والخبر قوله {قل فادرؤا} ولا بد من حذف عائد تقديره قل لهم فادرؤا، والنصب من ثلاثة أوجه أيضاً: أحدها: النصب على الذمّ أي: أذم الذين قالوا، الثاني: أنه بدل من الذين نافقوا، الثالث: إنه صفة لهم، والجرّ من وجهين: أحدهما أنه بدل من الضمير في بأفواههم، والثاني: أنه بدل من الضمير في قلوبهم. كقول الفرزدق: *على حالة لو أنّ في القوم حاتماً ... على جوده لضنّ بالماء حاتم* بجرّ حاتم على أنه بدل من الهاء في جوده وضن مبني للمفعول وهو بالماء أي: ولو أن حاتماً مستقرّاً في القوم كائناً على جوده، وهم بتلك الحالة لبخل بالماء {لإخوانهم} أي: لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب أو في سكنى الدار أو في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وقعدوا} حال مقدّرة بقد أي: قالوا: قاعدين عن القتال {لو أطاعونا} في القعود {ما قتلوا} كما لم نقتل. واختلف في قائل ذلك، فقال أكثر المفسرين: هو ابن أبي وأصحابه، وقول الأصم هذا لا يجوز؛ لأنّ ابن أبي خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد يوم أحد وهذا القول واقع ممن تخلف فيه نظر لاحتمال أنّ المراد بالقعود القعود عن القتال لا عن الخروج إلى القتال {قل:} لهم {فادرؤا} أي: ادفعوا {عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} في أن القعود ينجي منه لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة ولا بد لكم أن يتعلق بكم بعضها. وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة: سبعون منافقاً. فإن قيل: ما وجه هذا الاستدلال فإن التحرز عن القتل ممكن وأمّا التحرز عن الموت فغير ممكن؟ أجيب: بأن الكل بقضاء الله وقدره فلا فرق بين الموت والقتل وفي قوله تعالى: {فادرؤا عن أنفسكم الموت} استهزاء بهم أي: إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا، ونزل في شهداء أحد كما رواه الحاكم: وكانوا سبعين رجلاً: أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شاس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار. {ولا تحسبن} أي: ولا تظنن {الذين قتلوا في سبيل الله} أي: لأجل دينه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد {أمواتاً بل} هم {أحياء عند ربهم} أي: ذوو زلفى منه فليس المراد القرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه لعدم مناسبة المقام له بل بمعنى القرب شرفاً ورتبة. قال البيضاوي وقيل: نزلت في شهداء بدر أي: وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، قال شيخنا القاضي زكريا: وهو غلط إنما نزل فيهم آية البقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 {يرزقون} من ثمار الجنة. روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش» . وروي أنّ الله تعالى يطلع عليهم ويقول: سلوني ما شئتم فيقولون: يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا: نسألك أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك لما رأوا من النعيم، كما قال تعالى: {فرحين بما آتاهم الله من فضله} وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله والتمتع بنعيم الجنة {ويستبشرون} أي: ويفرحون {بالذين لم يلحقوا بهم} من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فلذلك يستبشرون {من خلفهم} أي: الذين من خلفهم زماناً أو رتبة وأبدل من الذين {أن} أي: بأن {لا خوف عليهم} أي: الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم {ولا هم يحزنون} في الآخرة والمعنى: إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة لا يكدّرون بخوف وقوع محذور ولا بحزن فوات محبوب وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة والجدّ في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه؛ لأنّ الله تعالى مدحهم على ذلك. {يستبشرن بنعمة من الله وفضل} لما بين تعالى أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بين هنا أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم لذلك أعاد لفظ الإستبشار. فإن قيل: أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الإستبشار فلزم التكرار؟ أجيب: بأن الإستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم التكرار بأنّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الإستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة والفرق بين النعمة والفضل أن النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد. فإن قيل: لم قال يستبشرون من غير عطف؟ أجيب: بأنه تأكيد للأوّل؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلق الإستبشار الأول {وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين} لما ذكر إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء بين أنّ ذلك ليس مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئاً من الأجر والثواب، فإنّ الله تعالى يوصل ثوابه إليه ولا يضيعه وقوله تعالى: {الذين استجابوا والرسول} أي: دعاءه مبتدأ {من بعد ما أصابهم القرح} بأحد وخبر المبتدأ {للذين أحسنوا منهم} بطاعته {واتقوا} مخالفته {أجر عظيم} هو الجنة. روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال: «لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد» وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 #خطأ روي أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال صلى الله عليه وسلم «إن شاء الله» فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مرّ الظهران فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال: يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وإنّ هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليه، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحبّ إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يد سهل بن عمرو ويضمنها، فقال له نعيم: يا أبا يزيد أتضمن لي ذلك وأنطلق إلى محمد وأثبطه؟ قال: نعم، فخرج نعيم حتى أتى المدينة، فوجد الناس يجهزون لميعاد أبي سفيان فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها، فقال: بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد، فكره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ولو لم يخرج معي أحد» فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يلتفتوا إلى ذلك القول كما قال تعالى: {فزادهم} ذلك القول {إيماناً} أي: تصديقاً بالله ويقيناً {وقالوا حسبنا الله} أي: كافينا أمرهم {ونعم الوكيل} أي: المفوّض إليه الأمر هو حتى وافوا بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون: قد جمعوا لكم يريدون أن يرهبوا المسلمين فيقول المسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل وهذه هي الكلمة التي قالها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حين ألقي في النار، حتى بلغوا بدراً وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات فباعوها واشتروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أدماً وزبيباً وأصابوا الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى: أي: انصرفوا {بنعمة من الله} أي: بعافية لم يلقوا عدوّاً {وفضل} أي: تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق {لم يمسسهم سوء} أي: لم يصبهم أذى ولا مكروه، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق. تنبيه: الناس الأول المثبطون والآخرون أبو سفيان وأصحابه. فإن قيل: المثبط هو أبو نعيم فكيف قيل: الناس؟ أجيب: بأنه من جنس الناس كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد، وبرد واحد ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يثبطون مثل تثبيطه بل قيل: إنهم كانوا جماعة فقد مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم. فإن قيل: كيف زادهم القول إيماناً؟ أجيب: بأنهم لما سمعوا ذلك وأخلصلوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم كما يزداد الإيمان والإيقان بتناصر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط إلى وجه العدو طاعة عظيمة والطاعات تزيد الإيمان فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا: يا رسول الله إنّ الإيمان يزيد وينقص قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» . وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول: قم بنا نزدد إيماناً، وعنه رضي الله تعالى عنه: «لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه بإيمان هذه الأمّة لرجح به» {واتبعوا رضوان الله} الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم {وا ذو فضل عظيم} قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدوّ بالحفظ على كل من يسوءهم وإصابة النفع من ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل وفيه تحسر المتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به. {إنما ذلكم} أي: المثبط أو أبو سفيان {الشيطان يخوّف أولياءه} أي: القاعدين عن الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو يخوّفكم أولياءه وهم أبو سفيان وأصحابه، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {فلا تخافوهم وخافون} في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي {إن كنتم مؤمنين} حقاً فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} أي: يقعون فيه وقوعاً سريعاً حرصاً عليه، وهم المنافقون من المتخلفين أو قوم ارتدوا عن الإسلام أي: لا تهتم لكفرهم {إنهم لن يضرّوا الله شيئاً} بفعلهم وإنما يضرّون به أنفسهم، وقرأ نافع يحزنك بضمّ الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله تعالى في الأنبياء {لا يحزنهم الفزع الأكبر} (الأنبياء، 103) فإنه على فتح الياء وضمّ الزاي فيه والباقون كذلك في الكل من حزنه لغة في أحزنه {يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً} أي: نصيباً {في الآخرة} أي: الجنة فلذلك خذلهم وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر {ولهم} مع حرمان الثواب {عذاب عظيم} في النار. {إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} أي: أخذوه بدله {لن يضروا الله} بكفرهم {شيئاً ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم وكرّر ذلك للتأكيد أو هو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 من المتخلفين أو ارتدوا من الأحزاب. ونزل في مشركي مكة كما قاله مقاتل أو في قريظة أو النضير كما قاله عطاء: {ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي} أي: نمهل {لهم} بتطويل الأعمار {خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} بكثرة المعاصي {ولهم عذاب مهين} أي: ذو إهانة. روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» قيل: فأيّ الناس شرّ؟ قال: «من طال عمره وساء عمله» وقرأ حمزة: {ولا تحسبنّ الذين كفروا} و {لا تحسبنّ الذين يبخلون} بالتاء فيهما على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة. {ما كان الله ليذر} أي: ليترك {المؤمنين على ما أنتم عليه} أيها الناس من اختلاط المسلم بغيره {حتى يميز} أي: يفصل {الخبيث} أي: المنافق {من الطيب} ، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبيّ: قالت قريش: يا محمد تزعم أنّ من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأنّ من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن؟ فنزلت وقال السديّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عرضت عليّ أمّتي في صورتها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن ومن يكفر» فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا استهزاء: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعده ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا نبأتكم به» فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: «حذافة» فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبياً فاعف عنا عفا الله تعالى عنك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «فهل أنتم منتهون؟» ثم نزل عن المنبر فنزلت. فإن قيل: لمن الخطاب في أنتم؟ أجيب: بأنه للمصدّقين جميعاً من أهل النفاق والإخلاص كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فيختبر بها بواطنكم ويستدلّ بها على عقائدكم ففعل ذلك يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ حمزة والكسائي يميز بضم الياء وفتح الميم وتشديد الياء بعد الميم مع كسرها، والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء بعد الميم {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز {ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء} فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها {فآمنوا با ورسله} أي: بصفة الإخلاص أو بأن تعلموا أنّ الله وحده مطلع على الغيب وتعلموا أنهم عباد مجتبون لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم. روي أنّ الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت الآية {وإن تؤمنوا} حق الإيمان {وتتقوا} النفاق {فلكم أجر عظيم} أي: لا يقادر قدره. {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو} أي: بخلهم {خيراً لهم بل هو} أي: بخلهم {شرّ لهم} لاستجلاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 العقاب إليهم، واختلفوا في المراد بهذا البخل، فقال أكثر العلماء: المراد به منع الواجب واستدلوا بوجوه: أحدها: أنّ الآية دالة على الوعيد الشديد وذلك لا يليق إلا بالواجب وثانيها: أنّ الله تعالى ذمّ البخل، والتطوّع لا يذمّ على تركه وثالثها: قال عليه الصلاة والسلام: «وأي داء أدوأ من البخل» ، وتارك التطوّع لا يليق به هذا الوصف وإنفاق الواجب على أقسام منها: إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين تلزمه مؤنتهم ومنها: الزكوات ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدوّ يقصد أنفسهم وأموالهم فيجب عليهم إنفاق الأموال على من يدفعهم عنهم ومنها: دفع ما يسدّ رمق المضطرّ. {سيطوّقون} أي: سوف يطوّقون {ما بخلوا به يوم القيامة} اختلفوا في هذا الوعيد، فقال ابن عباس وابن مسعود: يجعل ما منعه من الزكاة حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه وتنقر رأسه تقول: أنا مالك. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية» ، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ـ أو الذي لا إله غيره أو كما حلف ـ ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس» وقال مجاهد: معنى سيطوّقون سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة أي: يؤمرون بأداء ما منعوا فلا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخاً وقيل: إنّ هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته وأراد بالبخل كتمان العلم كما في سورة النساء: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} (النساء، 37) ومعنى قوله: على هذا سيطوّقون أي: يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى: {يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام، 31) وقوله تعالى: {وميراث السموات والأرض} في معناه وجهان أحدهما: أنّ له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فهو الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونحوه قوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} (الحديد، 7) والثاني: وبه قال الأكثرون: إنّ معناه أنه يفنى أهل السموات والأرض ويفنى الأملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة، قال ابن الأنباري: يقال: ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركاً فيه، وقال تعالى: {وورث سليمان داود} (النمل، 16) لأنه انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركاً له فيه. {وا بما تعملون} من المنع والإعطاء {خبير} فيجازيكم به، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. {س3ش181//ش186 لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُو?ا? إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ? سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا? وَقَتْلَهُمُ ا?ن?بِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا? عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُو?ا? إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ أَs نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ? قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُو بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ? وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ? فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ? وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَآ إِs مَتَاعُ الْغُرُورِ * لَتُبْلَوُنَّ فِى? أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا? الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُو?ا? أَذًى كَثِيرًا? وَإِن تَصْبِرُوا? وَتَتَّقُوا? فَإِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ ا?مُورِ} {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} قال الحسن ومجاهد لما نزل قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} (البقرة، 245) قالت اليهود: إنّ الله فقير ويستقرض منا ونحن أغنياء، وذكر الحسن: أنّ قائل هذه المقالة حييّ بن أخطب، وقال عكرمة والسديّ ومقاتل ومحمد بن إسحق: «كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصدّيق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد أناساً كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فآمن وصدّق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أنّ ربنا يستقرض من أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقاً فإنّ الله إذن لفقير ونحن أغنياء وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنياً ما أعطانا الربا يعني في قوله: {فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} (،) فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا رسول الله إنّ عدوّ الله قال قولاً عظيماً زعم أنّ الله فقير وهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله عز وجل ردّاً على فنحاص وتصديقاً لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: {لقد سمع الله} الآية» . وهذا لا يدل على أنّ غيره لم يقل ذلك؛ لأنّ الآية دالة على أنّ القائل جماعة لقوله تعالى: الذين قالوا: {سنكتب} أي نأمر بكتب {ما قالوا} من الإفك والفرية في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه ونحوه وإنا له كاتبون أو سنحفظه في علمنا لا نهمله؛ لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله واستهزاء بالله والرسول ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء كما قال تعالى: {وقتلهم} أي: وسنكتب قتلهم {الأنبياء بغير حق} وفي نظمه به تنبيه على أنه ليس أوّل جريمة ارتكبوها وأنّ من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول {ويقول} أي: الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة {ذوقوا عذاب الحريق} أي: النار وهي بمعنى المحرق كما يقال عذاب أليم أي: مؤلم وقرأ حمزة: سيكتب بالياء المثناة تحت بعد السين مضمومة وفتح التاء بعد الكاف وضمّ اللام من قتلهم وبالياء في ويقول والباقون بالنون بعد السين مفتوحة وضمّ التاء بعد الكاف ونصب اللام من قتلهم وبالنون في ونقول ويقال لهم: إذا ألقوا في النار. {ذلك} أي: العذاب {بما قدّمت أيديكم} من الإفتراء وقتل الأنبياء وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس؛ لأنّ أكثر أعمالها بهنّ {وأنّ الله ليس بظلام} أي: بذي ظلم {للعبيد} فيعذبهم بغير ذنب. فإن قيل: ظلام للمبالغة المقتضية للتكثير فهو أخص من ظالم ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ أجيب: بأنه لما قوبل بالعبيد وهم كثيرون ناسب أن يقابل الكثير بالكثير وبأنه إذا نفي الظلم الكثير ينفى القليل؛ لأنّ الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه فيمن يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أترك وبأن ظلام للنسب كما قدّرته في الآية الكريمة، كما في بزاز وعطار أي: لا ينسب إليه ظلم البتة وقوله تعالى: {الذين} نعت للذين قبله {قالوا} لمحمد صلى الله عليه وسلم تزعم أنّ الله بعثك بالحق رسولاً وأنزل عليك كتاباً وأن نؤمن بك أي: وقالوا {إنّ الله} قد {عهد إلينا} أي: أمرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وأوصانا في كتبه {أن لا نؤمن لرسول} أي: لا نصدّق رسولاً أنه قد جاء من عند الله {حتى يأتينا بقربان تأكله النار} أي: حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل، فيكون دليلاً على صدقه والقربان كل ما يتقرّب به العبد إلى الله من نسيكة وعمل صالح وكانوا إذا قرّبوا قرباناً أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وهفيف فتأكل ذلك القربان وتأكل الغنيمة. ومعنى أكلها أن تحيل ذلك إلى طبعها بالإحراق فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يتقبل بقي على حاله وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم؛ لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات في ذلك سواء، وقال السديّ: هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط آخر وهو أنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدّقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم {قل} لهم يا محمد {قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات} أي: بالمعجزات {وبالذي قلتم} من القربان كزكريا ويحيى فقتلتموهم {فلم قتلتموهم} والخطاب لمن في زمن نبينا وإن كان الفعل لأجدادهم لرضاهم به {إن كنتم صادقين} في أنكم تؤمنون بالرسل عند الإتيان بذلك. ثم قال الله تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤا بالبينات} أي: المعجزات {والزبر} أي: الصحف كصحف إبراهيم {والكتاب} أي: التوراة والإنجيل {المنير} أي: الواضح فاصبر كما صبروا، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام، وقرأ ابن عامر وبالزبر بالباء الموحدة والباقون بغير باء بعد الواو، وقرأ هشام وبالكتاب بالباء الموحدة بعد الواو والباقون بغير باء وقوله تعالى: {كلّ نفس ذائقة الموت} زيادة تأكيد في تسليته صلى الله عليه وسلم ومبالغة في إزالة الحزن عن قلبه، فإنّ من علم أن عاقبته إلى الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان. روي أنّ الله تعالى لما خلق آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يردّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي أخذ منها، ولأنّ بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المحسن من المسيء والمحق من المبطل ويجازى كلّ بما يستحقه كما قال تعالى: {وإنما توفون أجوركم} أي: جزاء أعمالكم {يوم القيامة} إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ {فمن زحزح} أي: بعد {عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} بالنجاة ونيل المراد والفوز بالظفر بالبغية بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم {وما الحياة الدنيا} أي: العيش فيها {إلا متاع الغرور} أي: الباطل يتمتع به قليلاً ثم يفنى. روي أنّ الله تعالى يقول: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» اقرؤوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (السجدة، 17) وإنّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم {وظل ممدود} (الواقعة، 30) ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرؤوا إن شئتم {فمن زحزح عن النار} الآية» . وروي: «من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤتي الناس ما يحبّ أن يؤتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 إليه» أي: يفعل بهم ما يحبّ أن يفعل به. وقوله تعالى: {لتبلونّ} جواب قسم محذوف تقديره والله لنبلونّ وحذف منه نون الرفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع وحذفت واو الرفع لالتقاء الساكنين أي: لتختبرنّ {في أموالكم} بالفرائض فيها والجوائح {و} في {أنفسكم} بالعبادات والبلاء والأسر والجراح وغير ذلك {ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} أي: اليهود والنصارى {ومن الذين أشركوا} أي: مشركي العرب {أذى كثيراً} وذلك أنهم كانوا يقولون: عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بكل ما يقدرون عليه وهجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفته صلى الله عليه وسلم ويجمعون العساكر لمحاربته ويثبطون المسلمين عن نصرته {وإن تصبروا} على ذلك {وتتقوا} الله {فإنّ ذلك من عزم الأمور} أي: من صواب التدبير والرشد الذي ينبغي لكل عاقل أن يقدم عليه، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن جريج والكلبيّ ومقاتل: نزلت في أبي بكر وفنحاص وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص اليهودي ليستمدّه وكتب إليه كتاباً لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع إليّ فجاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال: احتاج ربك إلى أن نمدّه فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف فتذكر أبو بكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وكف عنه، فنزلت وقال الزهري: نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه في شعره ويتشبب بنساء المسلمين. تنبيه: في الآية تأويلان: أحدهما: المراد بالمصابرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على الإبتلاء في النفس والمال وتحمل الأذى وترك المعارضة والمقاتلة وذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين كقوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} (طه، 44) وقال تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} (الجاثية، 14) وقال تعالى: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً} (الفرقان، 72) وقال تعالى: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف، 35) وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} (فصلت، 34) ، قال الواحدي: وهذا قبل نزول آية السيف، وقال القفال: والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول عليه الصلاة والسلام من طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة. التأويل الثاني: إنّ المراد الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم، فالصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي. اذكر {إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} أي: العهد عليهم في التوراة أي: على علمائهم {ليبيننه} أي: الكتاب {للناس ولا يكتمونه} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بالياء في الفعلين على الغيبة؛ لأنّ أهل الكتاب المخاطبين بذلك غيب، والباقون بالتاء على الخطاب حكاية لمخاطبتهم {فنبذوه} أي: طرحوا الميثاق {وراء ظهورهم} أي: لم يعملوا به ولم يلتفتوا إليه ونقيض هذا جعله نصب عينيه {واشتروا به} أي: أخذوا بدله {ثمناً قليلاً} من حطام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الدنيا وأعراضها من سفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوتها عليهم وقوله تعالى: {فبئس ما يشترون} العائد محذوف تقديره يشترونه، قال قتادة رضي الله تعالى عنه: «هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم شيئاً فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة» ، وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» وقال أبو الحسن بن عمارة رضي الله تعالى عنه: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدّثني فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت: إمّا أن تحدّثني وإمّا أن أحدّثك فقال: حدّثني فقلت: حدّثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال: فحدّثني أربعين حديثاً. {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} أي: فعلوا من إضلال الناس {ويحبون أن يحمدوا} بما أوتوا من علم التوراة و {بما لم يفعلوا} من التمسك بالحق وهم على ضلال وهذا أيضاً من جملة أذاهم، لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البرّ والصدق والتقوى ولا شك أنّ الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها. روي أنه صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فأطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي: لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب وقيل: هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به، وقيل: هم المنافقون فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد بما ليس فيه وقوله تعالى: {فلا تحسبنهم} تأكيد {بمفازة} أي: مكان ينجون فيه {من العذاب} في الآخرة بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم فيها وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بالكسر، ومفعولا تحسب الأولى دل عليهما مفعولا الثانية على قراءة التحتانية وعلى الفوقانية حذف الثاني فقط، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فلا يحسبنهم بالياء على الغيبة وضم الباء الموحدة والباقون بالتاء على الخطاب وفتح الباء الموحدة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة كما تقدّم. {وملك السموات والأرض} فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغير ذلك {وا على كل شيء قدير} ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين. {إنّ في خلق السموات والأرض} وما فيهما من العجائب {واختلاف الليل والنهار} بالمجيء والذهاب والزيادة والنقصان {لآيات} أي: دلالات واضحة على قدرته تعالى: وباهر حكمته {لأولي الألباب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لذوي العقول الذين يفتحون بصائرهم للنظر والإستدلال والإعتبار ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر، وفي النصائح الصغار: املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكراً في قدرة مقدرها متدبراً حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أخبريني بأعجب ما رأيت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب أتاني ليلة فدخل في لحافي حتى التصق جلده بجلدي ثم قال: «يا عائشة هل لك أن تأذني الليلة في عبادة ربي؟» فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فقال: «يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً؟» ثم قال: «وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة {إنّ في خلق السموات والأرض} ـ ثم قال: ـ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» . وروي: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها» ، وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إنّ في خلق السموات والأرض، وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت أمه: لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال: ما أذكر؟ قالت: لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر قال: لعل، قالت: فما أوتيت إلا من ذاك. وقوله تعالى: {الذين} نعت لما قبله أو بدل {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} أي: مضطجعين أي: يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين؛ لأنّ الإنسان قلّ أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث. وروى الطبرانيّ وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب، وعن عمران بن حصين قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال: «يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب» . تنبيه: قياماً وقعوداً حالان من فاعل يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضاً فيتعلق بمحذوف، والمعنى يذكرون قياماً وقعوداً ومضطجعين فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة عكس الآية الأخرى وهي قوله: دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً حيث عطف الصريحة على المؤوّلة {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله تعالى ويعرفون أنّ لهما مدبراً حكيماً. قال بعض العلماء: الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث في القلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى» ـ أي: تفضيلاً يؤدي إلى تنقيصه وإلا فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ـ فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض. قالوا: وإنما كان ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب، لأنّ أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض، وقال صلى الله عليه وسلم «لا عبادة كالتفكر» أي: لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق لكن الحديث رواه البيهقيّ وغيره وضعفوه وقال صلى الله عليه وسلم «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال: أشهد أنّ لك رباً وخالقاً اللهمّ اغفر لي فنظر الله تعالى إليه فغفر له» رواه الثعلبيّ بسند فيه من لا يعرف قال البيضاوي: وهذا دليل واضح على شرف علم أصول الدين وفضل أهله وقوله تعالى: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} على إرادة القول أي: يتفكرون قائلين ذلك، وهذا إشارة إلى الخلق بمعنى المخلوق من السموات والأرض أو إلى السموات والأرض؛ لأنهما في معنى المخلوق والمعنى ما خلقته عبثاً وضائعاً من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك. تنبيه: نصب باطلاً على الحال من هذا وهي حال لا يستغنى عنها لو حذفت لاختل الكلام وهي كقوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} (الدخان، 38) وقيل: على إسقاط حرف الخفض وهو الباء والمعنى ما خلقتهما بباطل بل بحق وقدرة {سبحانك} أي: تنزيهاً لك عن العبث وهو معترض بين قوله {ربنا} وبين قوله {فقنا عذاب النار} أي: للإختلال بالنظر في خلق السموات والأرض والقيام بما يقتضيه قال أبو البقاء: ودخلت الفاء لمعنى الجزاء والتقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا قال ابن عادل: ولا حاجة إليه بل التسبب فيها ظاهر تسبب عن قولهم {ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك} طلبهم وقاية النار. {ربنا إنك من تدخل النار} أي: للخلود فيها {فقد أخزيته} أي: أهنته {وما للظالمين} أي: للكافرين فيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بتخصيص الخزي بهم {من أنصار} أي: أنصار فمن زائدة زيدت لتأكيد النفي. {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي} أي: يدعو الناس {للإيمان} أي: إليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم {أن} أي: بأن {آمنوا بربكم فآمنا} به. فإن قيل: أي فائدة في الجمع بين منادياً وينادي؟ أجيب: بأنه ذكر المبدأ مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان تفخيماً لشأن المنادي؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ونحوه قولك: مررت بهاد يهدي للإسلام وذلك أنّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإغاثة المكروب أو نحو ذلك وكذا الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي وغير ذلك، فإذا قلت: ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته ويقال: دعاه لكذا وإلى كذا {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} أي: الكبائر منها {وكفر عنا سيآتنا} أي: الصغائر منها أو يكون ذلك من باب التعميم والإستيعاب كقوله: {الرحمن الرحيم} ولأنّ الإلحاح والمبالغة في الدعاء أمر مطلوب {وتوفنا مع الأبرار} أي: مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم وهم الأنبياء والصالحون وفيه تنبيه على إنهم يحبون لقاء الله تعالى «ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه» ، رواه الشيخان. {ربنا وآتنا} أي: أعطنا {ما وعدتنا} به {على} ألسنة {رسلك} من الرحمة والفضل وسؤالهم ذلك، وإن كان وعده تعالى لا يتخلف سؤال أن يجعلهم من مستحقيه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها وتكرير ربنا مبالغة في التضرّع. وفي الآثار: من جزبه أي أصابه أمر فقال: ربنا خمس مرات أنجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد {ولا تخزنا} أي: ولا تعذبنا ولا تفضحنا ولا تهنا {يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} أي: الموعد بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، وعن ابن عباس: الميعاد البعث بعد الموت. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لا أضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مِّن? بَعْضٍ? فَالَّذِينَ هَاجَرُواوَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـ?َاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ? وَاللَّهُ عِندَهُ? حُسْنُ الثَّوَابِ *لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ? وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِّنْ عِندِ اللَّهِ? وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأبْرَارِ * وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِـ?َايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَا?ئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ? إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوااصْبِرُوا وَصَابِرُواوَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} دعاءهم وهو أخص من أجاب؛ لأنه يفيد حصول جميع المطلوب لكثرة مبانيه؛ لأنّ كثرة المباني تدل على كثرة المعاني ويتعدّى بنفسه وباللام {أني} أي: بأني {لا أضيع عمل عامل منكم} وقوله تعالى: {من ذكر أو أنثى} بيان عامل {بعضهم من بعض} أي: يجمع ذكركم وأنثاكم أصل واحد فكل واحد منكم من الآخر أي: الذكور من الإناث والإناث من الذكور وقيل: المراد وصلة الإسلام وهذه الجملة وهي بعضكم من بعض معترضة بين عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وما فصل به عمل عامل من قوله: {فالذين هاجروا} إلخ.. بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله تعالى عباده العاملين. روي أنّ أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: «يا رسول الله أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت» وقوله تعالى: {فالذين هاجروا} أي: من مكة إلى المدينة {وأخرجوا من ديارهم} تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله تعالى بدينهم من دار الفتنة واضطروا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشؤوا {وأوذوا في سبيلي} أي: ديني {وقاتلوا} الكفار {وقتلوا} في الجهاد، وقرأ حمزة والكسائي بتقديم قتلوا وتأخير قاتلوا وشدد ابن كثير وابن عامر التاء من قتلوا للتكثير {لأكفرن عنهم سيئاتهم} أي: أسترها بالمغفرة {ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً} أي: أثيبهم بذلك إثابة {من عند الله} أي: تفضلاً منه تعالى فهو مصدر مؤكد لما قبله؛ لأنّ قوله تعالى: {لأكفّرن عنهم ولأدخلنهم} في معنى لأثيبنهم {وا عنده حسن الثواب} أي: الجزاء. ولما كان المشركون في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون، وقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد نزل. {لا يغرنك تقلب} أي: تصرف {الذين كفروا في البلاد} للتجارات وأنواع المكاسب والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره وقوله تعالى: {متاع قليل} خبر مبتدأ محذوف أي: ذلك التقلب متاع قليل يتمتعون به في الدنيا يسيراً ويغني فهو قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب قال صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» رواه مسلم، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال: «ما يبكيك؟» فقلت: يا رسول الله إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» {ثم مأواهم} أي: مصيرهم {جهنم وبئس المهاد} أي: الفراش هي. {لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها نزلاً من عند الله} وهو ما يعد للضيف ونصبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 على الحال من جنات لتخصيصها بالوصف والعامل فيها معنى الظرف {وما} أي: والذي {عند الله} من الثواب لكثرته ودوامه {خير للأبرار} مما يتقلب فيه الكفار من متاع الدنيا لقلته وسرعة زواله، واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن با} فقال جابر وابن عباس وأنس: نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه الصلاة والسلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» فقالوا: ومن هو؟ قال: «النجاشي» فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبّر عليه أربع تكبيرات واستغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصرانيّ لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية» ، وقال عطاء: نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب {وما أنزل إليكم} أي: القرآن {وما أنزل إليهم} أي: التوراة والإنجيل وقوله تعالى: {خاشعين} حال من ضمير يؤمن مراعى فيه معنى من لأنها في معنى الجمع أي: متواضعين {لا يشترون} أي: لا يستبدلون {بآيات الله} التي عندهم في التوراة والإنجيل من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم {ثمناً قليلاً} من الدنيا بأن يكتموها خوفاً على الرياسة كما فعل غيرهم من اليهود {أولئك لهم أجرهم} أي: ثواب أعمالهم {عند ربهم} وهو ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} وقوله تعالى: {يؤتكم كفلين من رحمته} {إن الله سريع الحساب} لنفوذ علمه في كل شيء فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر بحساب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا. {يأيها الذين آمنوا اصبروا} على مشاق الطاعة وما يصيبكم من الشدائد وعن المعاصي {وصابروا} أي: غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب فلا يكونوا أشد صبراً منكم {ورابطوا} أي: أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو قال الله تعالى: {ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم} (الأنفال، 60) وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» {واتقوا الله} في جميع أحوالكم {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون بالجنة وتنجون من النار وقال بعض العلماء: اصبروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا له الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء. روى الطبريّ لكن بإسناد ضعيف: من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس أي: تغيب وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشري وتبعهما ابن عاد من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أماناً على جسر جهنم» فهو من الأحاديث الموضوعة على أبي بن كعب في فضائل السور فليتنبه لذلك ويحذر منه، وقد نبه أئمة الحديث قديماً وحديثاً على ذلك وعابوا على من أورده من المفسرين في تفاسيرهم والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 سورة النساء مدنية مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية وثلاثة آلافوخمس وأربعون كلمة وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفاً {بسم الله} الظاهر الملك العلام {الرحمن} الذي عم عباده بالأنعام {الرحيم} الذي خص أهل ولايته بدار السلام وقوله تعالى: {يأيها الناس} خطاب يعم المكلفين من أولاد آدم من الذكور والإناث الموجودين منهم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من العرب وغيرهم، وقيل: يختص بالعرب منهم لقوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} إذ المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون: أنشدك بالله وبالرحم، وأجيب بأنّ خصوص آخر الآية لا يمنع عموم أوّلها {اتقوا ربكم} أي: عذابه بأن تطيعوه {الذي خلقكم من نفس واحدة} أي: فرّعكم من أصل واحد، وهو نفس آدم أبيكم. وقوله تعالى: {وخلق منها زوجها} معطوف على «خلقكم» أي: خلقكم من شخص واحد هو آدم، وخلق منها أمكم حوّاء بالمدّ من ضلع من أضلاعه اليسرى، أو معطوف على محذوف كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها وابتدأها وخلق منها زوجها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء، وهو تقرير لخلقكم من نفس واحدة، وقوله تعالى: {وبث منهما} أي: من آدم وحوّاء {رجالاً كثيراً ونساء} أي: كثيراً بيان لكيفية تولدهم منهما. والمعنى: وبث أي: نشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة، وذكر كثيراً حملاً على الجمع ولا تكرار في الآية؛ لأن خلقكم من نفس واحدة مغاير لخلق حوّاء منها؛ لأنها خلقت من ضلعه وهم من مائهما ولبث الرجال والنساء؛ لأنه بين به أن خلقهم من نفس واحدة معناه من نفس آدم وحوّاء مع زيادة التصريح بالرجال والنساء {واتقوا الله الذي تساءلون} فيه إدغام التاء في الأصل في السين أي: تتساءلون {به} فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله، وأنشدك بالله. فإن قيل: الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبعث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجباً للتقوى وداعياً إليها؟ أجيب: بأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على ذلك كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدّي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه؛ ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها، والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف السين والباقون بتشديدها {و} اتقوا {الأرحام} أي: بأن تصلوها ولا تقطعوها، وكانوا يتناشدون بالرحم، وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه على أن صلتها بمكان منه تعالى. روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 بالعرش تقول: ألا من وصلني وصله الله تعالى ومن قطعني قطعه الله تعالى» ، وقرأ غير حمزة بالنصب عطفاً على الله تعالى فالعامل فيه اتقوا كما قدرته أو معطوف على محل الجار والمجرور كقولك: مررت بزيد وعمراً، وأما حمزة فقرأه بالجر عطفاً على الضمير المجرور، وقول البيضاوي: وهو ضعيف أي: كما هو مذهب البصريين ممنوع، والحق أنه ليس بضعيف فقد جوّزه الكوفيون، وكيف يكون ضعيفاً والقراءة به متواترة؟ فيجب أن يضعف كلام البصريين ويرجع إلى كلام رب العالمين، وتعليلهم عدم الجواز بكونه كبعض كلمة لا يقتضي إلحاقه به في عدم جواز العطف إذ حذف الشيء مع القرينة جائز ومنه: *رسم دار وقفت في طلله* أي: ورب رسم دار وقول الشاعر: *اذهب فما بك والأيام من عجب {إنّ الله كان عليكم رقيباً} أي: حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها أي: لم يزل متصفاً بذلك {وآتوا اليتامى} أي: بعد البلوغ والرشد {أموالهم} وسموا اليتامى بعد البلوغ مع أنّ اليتيم في عرف الشرع صغير لا أب له على معنى أنهم كانوا يتامى، وإن كان اليُتْيم في اللغة الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة، وقيل: اليتيم في الإناس من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات وفي الطير من قبلهما، والخطاب للأولياء والأوصياء. روي أنّ رجلاً كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال من عمه فمنعه فترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحله داره» أي: جنته، وسيأتي تفسير الحوب الكبير، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ثبت الأجر وبقي الوزر» فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: «ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده» أي: ولعله كان لا يخرج زكاته {ولاتتبدلوا الخبيث} أي: الحرام {بالطيب} أي: الحلال أي: لا تأخذوه بدله كما تفعلون في أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه. قال الزمخشريّ: وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل، قال التفتازانيّ: لأن معنى تبدلت هذا بذاك أنك أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت؛ لأنّ معنى بدلت هذا بذاك أخذت ذاك وأعطيت هذا قال تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} (البقرة، 108) فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد فقد أعطى الخبيث وأخذ الطيب كما لو أخذ الخبيث وترك الطيب؛ ليكون تبدل الخبيث بالطيب، فالحاصل أنّ في التبدل ما دخلته الباء متروك، وما تعدى إليه الفعل بنفسه مأخوذ وفي التبديل بالعكس اه. وقد أوضحت ذلك في «شرح المنهاج» {ولا تأكلوا أموالهم إلى} أي: مع {أموالكم} كقوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} (آل عمران، 52) أي: مع الله، أي: لا تنفقوهما معاً، ولا تسووا بينهما، فأكلكم أموالكم حلال لكم، وأكلكم أموالهم حرام عليكم، فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم. فإن قيل: قد حرم الله عليهم أكل مال اليتيم وحده ومع أموالهم فلم ورد النهي عن أكله معها؟ أجيب: بأنهم كانوا يفعلون كذلك فأنكر عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم؛ ولأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم مع ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أحق {إنه} أي: أكلها {كان حوباً} أي: ذنباً {كبيراً} أي: عظيماً ولما نزلت هذه الآية في اليتامى، وما كان في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك العدل في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست ولا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهنّ نزل. {وإن خفتم} أي: خشيتم {أن لا تقسطوا} أي: تعدلوا {في اليتامى} فتحرّجتم من أمورهم فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات {فانكحوا ما طاب} أي: حلّ {لكم من النساء} ؛ لأنّ منهنّ ما حرم كاللاتي في آية التحريم {مثنى وثلاث ورباع} أي: تزوّجوا اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً؛ لأنّ من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب؛ لأنه إنما وجب أن يتحرّج من الذنب ويتاب عنه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب وإنما عبر عنهنّ بما ومن يعقل إنما يعبر عنه بمن ذاهباً إلى الصفة؛ لأنه إنما يفرق بين من وما في الذوات لا في الصفات أو أجراهنّ مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهنّ، وقيل: كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم الحوب في حق اليتامى، فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تجولوا حول المحرّمات، وقيل: كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال فيتزوّجها ضناً ـ أي: بخلاً ـ بها فربما يجتمع عنده منهنّ عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ. فإن قيل: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع حتى إنّ بعض الرافضة قال: للشخص أن يتزوّج بثمانية عشر؟ أجيب: بأنّ الخطاب للجمع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قيل: لم جاء العطف بالواو دون أو حتى قال بعض الرافضة: إنّ له أن يتزوج بتسعة؟ أجيب: بأنه لو عطف بأو لذهب معنى تجويز أنواع الجمع بين أنواع القسمة التي دلت عليها الواو {فإن خفتم أن لا تعدلوا} بين هذه الأعداد أيضاً بالقسم والنفقة {فواحدة} أي: فانكحوا واحدة وذروا الجمع {أو ما ملكت أيمانكم} أي: اقتصروا على ذلك سواء بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري؛ لخفة مؤنتهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ. تنبيه: هذا في حق الحر أما من فيه رق فلا يتزوّج أكثر من ثنتين بإجماع الصحابة وقد يعرض للحر عوارض لا يزاد فيها على واحدة كجنون أو سفه {ذلك} أي: نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري {أدنى} أقرب إلى {أن لا تعولوا} أي: تجوروا، يقال: عال الحاكم في حكمه إذا جار. وروي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له: أتعول علي وقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن لا تعولوا، أن لا تجوروا» ، وحكي عن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنه فسر «أن لا تعولوا» بأن لا تكثروا عيالكم قال البغويّ: وما قاله أحد إنما يقال: من كثرة العيال أعال يعيل إعالة إذا كثرت عياله، وقال الزمخشريّ: ووجهه أن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم؛ لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، ثم قال: وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 به تحريف تعيلوا إلى تعولوا فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا تظننّ بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً. وكان الشافعيّ رحمه الله تعالى أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا اه. {وآتوا} أي: أعطوا {النساء صدقاتهنّ} جمع صدقة أي: مهورهنّ {نحلة} أي: عطية يقال: نحله كذا نحلة أي: أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض، ونصبها على المصدر؛ لأنّ النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، فكأنه قيل: وأنحلوا النساء صدقاتهنّ نحلة، قال الكلبيّ وجماعة: والخطاب للأولياء، وذلك أنّ وليّ المرأة كان إذا زوّجها، فإن كان معهم في العشيرة فلم يعطها من مهرها شيئاً، وإن زوجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطوها من مهرها غير ذلك، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله {فإن طبن لكم عن شيء منه} أي: الصداق وقوله تعالى: {نفساً} محوّل عن الفاعل أي: إن طابت نفسهنّ لكم عن شيء من الصداق فوهبنه لكم {فكلوه} أي: فخذوه وأنفقوه {هنيئاً} أي: طيباً {مريئاً} أي: محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة. روي أنّ ناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته، فقال الله تعالى: إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً. قال الزمخشريّ وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس فقيل: «فإن طبن» ، ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن إعلاماً بأنّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة، وعن الشعبي: إنّ رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه، وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: ردّ عليها، فقال الرجل: أليس الله تعالى قد قال: {فإن طبن لكم} ؟ قال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وحكي أنّ رجلاً من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه، فلبث شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة بها نفسها فقال عبد الملك: فأين الآية التي بعدها {ولا تأخذوا منه شيئاً} أردد عليها. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته: إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. {ولا تؤتوا} أيها الأولياء {السفهاء} أي: المبذرين من الرجال والنساء {أموالكم} أي: أموالهم وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء؛ لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وقيل: نهي إلى كل أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله من المال فيعطيه امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى ما في أيديهم وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقلهم واستهجاناً لجعلهم قوّاماً وهذا أوفق لقوله تعالى: {التي جعل الله لكم قياماً} أي: تقوم بمصالحكم ومصالح أولادكم فيضعوها في غير وجهها، وعلى القول الأولّ يؤوّل بأنّ أموال السفهاء التي من جنس ما جعل الله لكم قياماً، وسمى الله ما به القيام قياماً للمبالغة. وقرأ نافع وابن عامر «قيماً» بغير ألف بعد الياء والقيم جمع قيمة ما يقوّم به الأمتعة، والباقون بالألف مصدر قام و {وارزقوهم} أي: أطعموهم {فيها واكسوهم} فيها، وإنما قال تعالى: «فيها» لجعله الأموال ظروفاً للرزق، فيكون الإنفاق من الربح لا من الأموال التي هي الظروف بأن يتجروا فيها ويحصلوا من ربحها ما يحتاجون إليه، ولو قيل: منها لكان الإنفاق من نفس الأموال {وقولوا لهم قولاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 معروفاً} أي: عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته ونفرت منه لقبحه فهو منكر، وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك وإذا غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً، وقيل: إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل له: عافانا الله وإياك بارك الله فيك. وقيل: لا يختص ذلك بالأولياء بل هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء قريب أو أجنبيّ رجل أو امرأة يعلم أنه يضيعه فيما لا ينبغي ويفسده. {وابتلوا} أي: اختبروا {اليتامى} في دينهم وتصرفهم بأن تختبروا ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوّام بها، والمرأة فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرّة ونحوها وحفظ متاع البيت، وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدّة في خبز وماء ولحم ونحوها، كل ذلك على العادة في مثله، ويشترط تكرار الاختبار مرّتين أو أكثر بحيث يفيد غلبة الظنّ برشده، ووقت الاختبار قبل البلوغ ولا يصح عقده بل يمتحن في المماكسة فإذا أراد العقد عقد الوليّ {حتى إذا بلغوا النكاح} أي: صاروا أهلاً له إمّا بالسنّ وهو استكمال خمس عشرة سنة تحديدية لخبر ابن عمر رضي الله تعالى عنه: «عرضت على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ورآني بلغت» ، رواه ابن حبان وأصله في الصحيحين وابتداؤها من انفصال جميع الولد، قيل: عرض عليه صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة فلم يجزهم وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم. وإما بخروج المنيّ في وقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تحديدية سواء أخرج في نوم أم يقظة بجماع أو غيره وتزيد المرأة على هذين الأمرين الحيض لوقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تقريبية فيغتفر فيها زمن لا يسع حيضاً وطهراً، والولادة لأنها يسبقها الإنزال ويحكم بالبلوغ قبلها بستة أشهر وشيء وإنبات شعر العانة الخشن دليل للبلوغ في حق الكفار لا في حق المسلمين ولا عبرة بإنبات شعر الإبط واللحية. {فإن آنستم} أي: أبصرتم {منهم رشداً} وهو صلاح الدين والمال، أما صلاح الدين فلا يرتكب محرّماً يسقط العدالة من كبيرة أو إصرار على صغيرة ويعتبر في رشد الكافر دينه، وأما صلاح المال فلا يضيعه بإلقائه في بحر أو يصرفه في محرم، أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملة ونحوها، وليس صرفه في الخير بتبذير ولا صرفه في الثياب والأطعمة النفيسة وشراء الجواري والاستمتاع بهنّ؛ لأنّ المال يتخذ لينتفع به، نعم إن صرفه في ذلك بطريق الاقتراض له حرم عليه {فادفعوا إليهم أموالهم} من غير تأخير {ولا تأكلوها} أيها الأولياء وقوله تعالى: {إسرافاً} أي: بغير حق {وبداراً} حالان أي: مسرفين ومبادرين إلى إنفاقها مخافة {أن يكبروا} رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم {ومن كان} من الأولياء {غنياً فليستعفف} أي: يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله {ومن كان فقيراً فليأكل} منه {بالمعروف} أي: بقدر الأقلّ من حاجته وأجرة سعيه كما مرّ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الوليّ له حق في مال الصبي. وروى النسائيّ وغيره أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ في حجري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 تنبيه: إيراد هذا التقسيم بعد قوله: {ولا تأكلوها} يدل على أنه نهي للأغنياء منهم أن لا يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى شيئاً، وللفقراء منهم أن لا يأخذوا منها شيئاً بغير المعروف، كما أنّ قوله: {ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا} يدل على أنه نهي للفريقين عن أكلها إسرافاً ومبادرة لكبرهم {فإذا دفعتم إليهم} أي: اليتامى {أموالهم فأشهدوا} ندباً {عليهم} بأنهم قبضوها، فإنّ الإشهاد أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة فتحتاجون إلى البينة وهذا يدلّ على أنّ القيم لا يصدّق في دعواه الدفع ولو أبى إلا ببينة وهو مذهب الشافعيّ ومالك خلافاً لأبي حنيفة {وكفى با حسيباً} أي: حافظاً الأعمال خلقه ومحاسبتهم. {للرجال} أي: الذكور {نصيب} أي: حظ {مما ترك الوالدان والأقربون} أي: المتوفون {وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه} أي: المال {أو كثر} جعله الله {نصيباً مفروضاً} أي: مقطوعاً بتسليمه إليهم. روي أن أوس بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه توفي وترك امرأته أم كحة ـ بضمّ الكاف والحاء المشدّدة ـ وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عمّ الميت ووصياه سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصغار وإن كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرجال ويقولون: لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فجاءت أمّ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ ـ وهو بالضاد والخاء المعجمتين، موضع بالمدينة، قيل: لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة؛ لأنهم كانوا يرضخون فيه النوى ـ فشكت إليه فقالت: يا رسول الله إنّ أوس بن ثابت مات وترك علي ثلاث بنات، وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهنّ وقد ترك أبوهن مالاً حسناً وهو عند سويد وعرفجة لم يعطياني ولا بناته شيئاً، وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلأ ولا ينكي عدوّاً، فنزلت هذه الآية، فأثبتت لهنّ الميراث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقربا من مال أوس شيئاً فإنّ الله جعل لبناته نصيباً مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهنّ» فأنزل الله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} فأعطى صلى الله عليه وسلم أمّ كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العمّ» وهذا دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب {وإذا حضر القسمة} للميراث {أولو القربى} أي: ذوو القرابة ممن لا يرث {واليتامى والمساكين فارزقوهم} أي: أعطوهم {منه} أي: المقسوم شيئاً قبل القسمة تطييباً لقلوبهم وتصدّقاً عليهم، وهو أمر ندب للبلغ من الورثة، وقيل: أمر وجوب. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم: هي منسوخة بآية المواريث كالوصية، وعن سعيد بن جبير: إنّ ناساً يقولون: نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها الناس {وقولوا لهم قولاً معروفاً} وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين يعنيان الذهب والورق فإذا قسم الذهب والورق وصارت القسمة إلى الأقربين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولاً معروفاً كأن يقولون: بورك فيكم. {وليخش} أي: وليخف على اليتامى {الذين لو تركوا} أي: قاربوا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يتركوا {من خلفهم} أي: بعد موتهم {ذرّية ضعافاً} أي: أولاداً صغاراً {خافوا عليهم} أي: الضياع {فليتقوا الله} في أمر اليتامى وغيرهم، وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم {وليقولوا} أي: للمريض {قولاً سديداً} أي: عدلاً وصواباً بأن يأمروه أن يتصدّق بدون ثلثه، ويترك الباقي لورثته، ولا يتركهم عالة، وذلك أنه كان إذا حضر أحدهم الموت يقول له من بحضرته: انظر لنفسك فإنّ أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً قدّم لنفسك أعتق وتصدّق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا حتى يأتي على عامة ماله، فنهاهم الله عز وجل وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده، ولا يزيد في وصيته على الثلث، ولا يجحف بورثته. {إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} أي: بغير حق {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} أي: ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه، وفي بعض بطنه. قال الشاعر: *كلوا في بعض بطنكم تعفوا* ومعنى يأكلون ناراً يأكلون ما يجرّ إلى النار، فكأنه نار في الحقيقة. روي «أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما .... على منخريه والأخرى على بطنه وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً» . {وسيصلون سعيراً} أي: ناراً شديدة يحترقون فيها، وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الياء والباقون بالفتح. {يوصيكم الله} أي: يأمركم {في أولادكم} أي: في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة، وهذا إجمال تفصيله {للذكر} منهم {مثل حظ} أي: نصيب {الأنثيين} إذا اجتمعتا معه فله نصف المال ولهما النصف، فإن كان معه واحدة فلها الثلث وله الثلثان وإنما فضل الذكر على الأنثى لاختصاصه بلزوم ما لا يلزم الأنثى من الجهاد وتحمل الدية وغيرهما، وله حاجتان: حاجة لنفسه وحاجة لزوجته، والأنثى حاجة واحدة لنفسها بل هي غالباً مستغنية بالتزويج عن الإنفاق من مالها، ولكن لما علم الله تعالى احتياجها إلى النفقة وأنّ الرغبة تقل فيها إذا لم يكن لها مال جعل لها حظاً من الإرث وأبطل حرمان الجاهلية لها. فإن قيل: هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر؟ أجيب: بأنه إنما بدأ ببيان حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك؛ ولأنّ قوله {للذكر مثل حظ الأنثيين} قصد إلى بيان فضل الذكر وقولك: للأنثيين مثل حظ الذكر قصد إلى بيان نقص الأنثى وما كان قصداً إلى بيان فضله كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه؛ ولأنهم كانوا يورّثون الرجال دون النساء والصبيان، وكان في ابتداء الإسلام بالمحالفة قال تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} (النساء، 33) ثم صارت الوراثة بالهجرة قال الله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء} (الأنفال، 72) ثم نسخ ذلك كله بالآية الكريمة، واختلف في سبب نزولها، فعن جابر أنه قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت فقلت: يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة» فنزلت، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أمّ كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته. وقال عطاء: استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد، وترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 امرأة وبنتين وأخاً، فأخذ الأخ المال، فأتت امرأة سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد فقالت: يا رسول الله إنّ هاتين ابنتا سعد وإن سعداً قتل يوم أحد شهيداً وإن عمهما أخذ مالهما، ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله عليه وسلم «ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك» فنزلت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين وأمّهما الثمن وما بقي فهو لك» فهذا أوّل ميراث قسم في الإسلام، وكأنه قيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، ولا يضارون في حظهنّ حتى يحرمن مع إدلائهنّ مع القرابة مثل ما يدلون به. فإن قيل: حظ الأنثيين الثلثان فكأنه قيل للذكر الثلثان؟ أجيب: بأنّ المراد حالة الاجتماع كما مرّ أما في حالة الانفراد فالابن يأخذ المال كله، والبنتان يأخذان الثلثين والدليل على أنّ الغرض حكم الاجتماع أنه اتبعه حكم الانفراد بقوله تعالى: {فإن كنّ} أي: إن كان الأولاد {نساء} خلصاً ليس معهنّ ذكر، وأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات وقوله تعالى: {فوق اثنتين} خبر ثان أو صفة لنساء أي: نساء زائدات على اثنتين. فإن قيل: قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف صح أن يردف قوله: {فإن كن نساء} وهو لبيان حظ الإناث؟ أجيب: بأنه وإن كان مسوقاً لبيان حظ الذكر إلا أنه لما علم منه حظ الأنثيين مع أخيهما كان كأنه مسوق للأمرين جميعاً فلذلك صح أن يقال: فإن كنّ نساء {فلهن ثلثا ما ترك} أي: المتوفى منكم ويدل عليه المعنى {وإن كانت} أي: المولودة {واحدة فلها النصف} وقرأ نافع واحدة بالرفع على كان التامّة، والباقون بالنصب على كان الناقصة. واختلف في ميراث الأنثيين فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: حكمهما حكم الواحدة؛ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما، وقال الباقون: حكمهما حكم ما فوقهما؛ لأنه تعالى لما بين أنّ حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى، وهو الثلثان، اقتضى ذلك أنّ فرضهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد ردّ ذلك بقوله تعالى: {فإن كنّ نساء فوق اثنتين} ويؤيد ذلك أنّ البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالأولى والأحرى أن تستحقه مع أخت مثلها، ويؤيده أيضاً إنّ البنتين أمسّ رحماً من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله: {فلهما الثلثان مما ترك} وقيل: فوق صلة وقيل: لدفع توهم زيادة النصيب بزيادة العدد لما أفهم استحقاق البنتين من جعل الثلث للواحدة مع الذكر {ولأبويه} أي: الميت وقوله تعالى: {لكل واحد منهما السدس مما ترك} بدل بعض من كل فالسدس مبتدأ ولأبويه خبر وفائدة البدل دفع توهم أن يكون للأب ضعف ما للأم أخذاً من قوله تعالى: {للذكر مثل حظ الأنثيين} وبهذا اندفع كما قال التفتازاني إنّ البدل ينبغي أن يكون بحيث لو أسقط استقام الكلام معنى، وهنا لو قيل: لأبويه السدس لم يستقم هذا {إن كان له} أي: الميت {ولد} ذكر أو غيره وألحق بالولد ولد الابن وبالأب الجدّ {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه} أي: فقط بقرينة المقام {فلأمه الثلث} مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب؛ لأنه لما فرض أنّ الوارث أبواه فقط، وعين نصيب الأمّ علم أنّ الباقي للأب، وكأنه قال: فلهما ما ترك أثلاثاً، ولو كان معهما أحد الزوجين كان لها ثلث ما بقي بعد فرضه كما قال الجمهور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 لا ثلث المال كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب، وهو كما قال البيضاوي خلاف وضع الشرع {فإن كان له إخوة} أي: اثنان فصاعداً ذكور أو إناث كما عليه الجمهور {فلأمّه السدس} والباقي للأب ولا شيء للإخوة. وقال ابن عباس: لا يحجب الأمّ من الثلث إلى السدس إلا ثلاثة إخوة ذكور، أخذاً بظاهر اللفظ، وإطلاق اللفظ يدلّ على أنّ الإخوة يردّونها من الثلث إلى السدس وإن كانوا لا يرثون مع الأب شيئاً، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأمّ. وقرأ حمزة والكسائي في الوصل فلأمّه بكسر الهمزة فراراً من ضمة إلى كسرة لثقله في الموضعين، والباقون بضمها، وقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} متعلق بما تقدّمه من قسمة المواريث كلها أي: هذه الأنصباء للورثة من بعد وصية أو وفاء دين، وإنما عبر بأو دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدّمان على القسمة مجموعين ومفردين. فإن قيل: لم قدّمت الوصية في الذكر على الدين مع أنها متأخرة في حكم الشرع عنه؟ أجيب: بأنها لما كانت شاقة على الورثة لكونها مأخوذة بلا عوض وهي مستحبة لكل مكلف بخلاف الدين فإنه: لا يكون على كل مكلف فقدّمت لذلك، وقرأ ابن كثير وابن عامر وشعبة (يوصى) بفتح الصاد ووافقهم حفص على فتح الصاد في الحرف الثاني، والباقون بكسر الصاد فيهما، وقوله تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم} مبتدأ خبره {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فمنكم من يظنّ أن الأب أنفع له، فيكون الابن أنفع له، ومنكم من يظنّ أنّ الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له، وإنما العالم بذلك هو الله تعالى، وقد دبر أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه، وقال ابن عباس: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، والله يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده، وإن كان الولد أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل الله أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته {فريضة} أي: ما قدر من المواريث فرض فريضة {من الله إنّ الله كان عليماً} بأمور عباده {حكيماً} فيما قضى وقدّر أي: لم يزل متصفاً بذلك. {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد} ذكر أو غيره منكم أو من غيركم {فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين} وولد الابن في ذلك كالولد إجماعاً {ولهنّ} أي: الزوجات تعددن أو لا {الربع مما تركتم إن لم يكم لكن ولد فإن كان لكم ولد} منهنّ أو من غيرهنّ {فلهنّ الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين} وولد الابن كالولد في ذلك إجماعاً، فقد فرض للرجل بحق العقد الصحيح ضعف ما للمرأة كما في النسب وهكذا قياس كل رجل وامرأة وارثين اشتركا في الجهة والقرب من الميت ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة {وإن كان رجل} أي: الميت {يورث} أي: منه من ورث، صفة رجل وخبر كان {كلالة،} أو يورث خبر كان وكلالة حال من الضمير في يورث واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أنها من لا ولد له ولا والد، قال الشعبي: سئل أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن الكلالة فقال: إني سأقول فيها برأيي فإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد، والولد فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر. وذهب طاوس أنّ الكلالة من لا ولد له وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس وأحد القولين عن عبد الله بن عمر، وسأل رجل عقبة عن الكلالة فقال: ألا تعجبون من هذا؟ سألني وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ثلاث لأن يكون النبيّ بينهنّ لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة وأبواب الربا. وقال سعيد بن أبي طلحة: خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ فيه حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: «يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن» وقوله: «ألا يكفيك آية الصيف» أراد أنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أوّل سورة النساء، والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء، فلذلك أحاله عليها. وقوله تعالى: {أو امرأة} عطف على رجل أي: أو امرأة تورث كلالة {وله} أي: الرجل {أخ أو أخت} واكتفى بحكم الرجل عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه، ويصح أن يعود الضمير على الموروث الكلالة فيشمل الرجل والمرأة {فلكل واحد منهما السدس} وقد أجمعوا على أنّ المراد به الأخ والأخت من الأم {فإن كانوا} أي: الأخت والأخوات من الأم {أكثر من ذلك} أي: من واحد {فهم شركاء في الثلث} يستوي فيه ذكورهم وإناثهم؛ لأنّ الإدلاء بمحض الأنوثة {من بعد وصية يوصى بها أو دين} وقوله تعالى: {غير مضارّ} حال من ضمير يوصى أي: غير مدخل الضرر على الورثة بأن يوصى بأكثر من الثلث، وعن قتادة: كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وعن الحسن المضارّة في الدين أن يوصي بدين ليس عليه، ومعناه الإقرار، وقوله تعالى: {وصية من الله} مصدر مؤكد ليوصيكم أي: يوصيكم بذلك وصية كقوله: {فريضة من الله} (النساء، 11) {وا عليم} بما دبره لخلقه من الفرائض {حليم} بتأخير العقوبة عمن خالفه. تنبيه: خصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رق.u {تلك} أي: الأحكام المذكورة في أمر اليتامى والوصايا والمواريث {حدود الله} أي: شرائعه التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدّوها {ومن يطع الله ورسوله} فيما حكما به {يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} وقوله تعالى: {خالدين فيها} حال مقدرة كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً {وذلك الفوز العظيم} . {ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده} أي: الله {يدخله ناراً} وقوله تعالى: {خالداً فيها} حال كما مرّ، ولا يجوز أن يكون (خالدين) و (خالداً) صفتين لجنات ونار؛ لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بدّ من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها وخالداً هو فيها هذا على مذهب البصريين، أما على مذهب الكوفيين فهو جائز عندهم عند أمن اللبس كما هنا، وهو الراجح كما جرى عليه ابن مالك وغيره {وله عذاب مهين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أي: ذو إهانة، وروعي في الضمائر في الآيتين لفظ من وفي خالدين معناها. وقرأ نافع وابن عامر (ندخله جنات) و (ندخله ناراً) بالنون فيهما على الالتفات، والباقون بالياء. {واللاتي يأتين الفاحشة} أي: الزنا {من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم} أي: من رجال المسلمين، وهذا خطاب للحكام أي: فاطلبوا عليهنّ أربعة من الشهود، وفيه بيان أنّ الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود {فإن شهدوا} عليهنّ بها {فأمسكوهنّ} أي: احبسوهنّ {في البيوت} واجعلوها سجناً لهنّ وامنعوهنّ عن مخالطة الناس، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضمّ الباء والباقون بكسرها {حتى يتوفاهنّ الموت} أي: ملائكته {أو} إلى أن {يجعل الله لهنّ سبيلاً} أي: طريقاً إلى الخروج منها أمروا بذلك أوّل الإسلام، ثم جعل لهنّ سبيلاً بجلد البكر مئة وتغريبها عاماً ورجم المحصنة، وفي الحديث، لما بين الحدّ قال: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً» . رواه مسلم {واللذان} أي: الزاني والزانية، وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف {يأتيانها} أي: فاحشة الزنا {منكم} أي: الرجال {فآذوهما} بالسب والضرب بالنعال {فإن تابا} أي: منها {وأصلحا} أي: العمل {فأعرضوا عنهما} ولا تؤذوهما {إنّ الله كان توّاباً} على من تاب {رحيماً} به، وهو علة الأمر بالإعراض وترك المذمة وهذا منسوخ بالحدّ. روى ابن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر وكان أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم فقال: إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مئة وتغريب سنة وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فردّ عليك» وجلد ابنه مئة وغرّبه عاماً. أي: لأنه كان غير محصن وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها. وروى ابن عباس عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إنّ الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ورعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو الاعتراف. وجملة حد الزنا أنّ الزاني إذا كان محصناً وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف: العقل والبلوغ والحرّية والإصابة بالنكاح الصحيح، فحدّه الرجم مسلماً كان أو ذميّاً، وعند أبي حنيفة أنّ الإسلام من شرائط الإحصان فلا يرجم عنده الذميّ، ويردّه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا» وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ أو مجنوناً فلا حد عليه وإن كان حرّاً عاقلاً بالغاً غير أنه لم يصب بنكاح صحيح فعليه جلد مئة وتغريب عام وإن كان رقيقاً فعليه جلد خمسين وتغريب نصف عام. ومثل الزنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 اللواط عند الشافعيّ رضي الله تعالى عنه لكن المفعول به لا رجم عليه وإن كان محصناً بل يجلد ويغرّب، وقيل: نزلت آية {واللاتي يأتين الفاحشة} في المساحقات وآية {واللذان يأتيانها منكم} في اللواطين. {إنما التوبة على الله} أي: إن قبول التوبة كالمحتوم على الله تفضلاً منه بمقتضى وعده؛ لأنه تعالى وعد بقبول التوبة فإذا وعد شيئاً لا بدّ أن ينجز وعده؛ لأن الخلف في وعده سبحانه وتعالى محال {للذين يعملون السوء} أي: المعصية وقوله تعالى: {بجهالة} في موضع الحال أي: يعملون السوء جاهلين أي: سفهاً فإن ارتكاب الذنب مما يدعو إليه السفه والشهوة لا ما تدعو إليه الحكمة والعقل، وعن مجاهد: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع أي: يخرج من جهالته، وقال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى الله تعالى فهو جاهل {ثم يتوبون من} زمن {قريب} أي: قبل أن يغرغروا لقوله تعالى: {حتى إذا حضر أحدهم الموت} وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه الترمذي وحسنه. وعن عطاء ولو قبل موته بفواق ناقة، وعن الحسن إن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده فقال: وعزتي وجلالي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. والغرغرة تردّد الروح في الحلق. تنبيه: معنى (من) في قوله تعالى {من قريب} التبعيض أي: يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمناً قريباً؛ لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (النساء، 77) ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد {فأولئك يتوب الله عليهم} أي: يقبل توبتهم. فإن قيل: ما فائدة ذلك بعد قوله تعالى: {إنما التوبة على الله} ؟ أجيب: بأنّ ذلك وعد بالوفاء بما وعد به وكتبه على نفسه كما يعد العبد الوفاء بما عليه {وكان الله عليماً} بخلقه {حكيماً} في صنعه بهم. {وليست التوبة للذين يعملون السيآت} أي: الذنوب {حتى إذا حضر أحدهم الموت} أي: أخذ في النزع {قال} عند مشاهدة ما هو فيه {إني تبت الآن} حين لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر، 85) ولذلك لم ينفع إيمان فرعون حين أدركه الغرق {ولا الذين يموتون وهم كفار} أي: إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب لا ينفعهم ذلك، ولا تقبل توبتهم، فسوى سبحانه وتعالى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضور الموت وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم؛ لأنّ حضور الموت أوّل أحوال الآخرة، فكما أن المصرين على الكفر قد فاتتهم التوبة على اليقين فكذلك المسوف إلى حضور الموت لمجاوزة كل منهما أوان التكليف والاختيار وقوله تعالى: {أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً تأكيد لعدم قبول توبتهم وبيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء والاعتداد التهيئة من العتاد وهو العدة، وقيل: أصله أعددنا أبدلت الدال الأولى تاء. {يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء} أي: ذواتهنّ {كرهاً} نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهلية، وفي أوّل الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة وللرجل عصبة وألقى ثوبه على امرأة الميت أو على خبائها صار أحق بها من نفسها ومن غيره، ثم إن شاء تزوّجها بصداقها الأوّل وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت هي فيرثها، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها عصبة الميت ثوبه فهي أحق بنفسها، وكانوا على هذا حتى توفي أبو القيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته، فقام ابن له من غيرها فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفدي نفسها منه، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر الله» فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ حمزة والكسائي بضم الكاف، والباقون بفتحها قال الكسائي: وهما لغتان، وقال الفرّاء: الكره بالفتح ما أكره عليه، وبالضم المشقة، وقوله تعالى: {ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ} عطف على (أن ترثوا) أي: لا تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهنّ ولا رغبة لكم فيهنّ ضراراً لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر، وقيل: هذا خطاب لأولياء الميت، والصحيح كما قال البغوي: إنه خطاب للأزواج، قال ابن عباس: هذا في الرجل يكون له المرأة وهو كاره صحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وتردّ إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله تعالى عن ذلك. قال الزمخشريّ: والعضل الحبس والضيق ومنه عضلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} كالزنا والنشوز وسوء العشرة، فحينئذٍ يحل لكم إضرارهنّ ليفتدين منكم قال عطاء: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود، وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء المثناة تحت والباقون بالكسر وقوله تعالى: {وعاشروهنّ بالمعروف} قال الحسن: رجع إلى أوّل الكلام يعني وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة وعاشروهنّ بالمعروف وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له {فإن كرهتموهنّ} فاصبروا ولا تفارقوهنّ {فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} أي: فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير وأحبت ما هو بضدّ ذلك وليكن نظركم ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير فلعل أن يرزقكم الله تعالى منهنّ ولداً صالحاً أو يعطفكم الله عليهنّ وقد بينت الآية جواز إمساك المرأة مع الكراهة لها ونبهت على معنيين: أحدهما أنّ الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح: والثاني أنّ الإنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره فليصبر على ما يكره لما يحب وأنشدوا في هذا المعنى: *ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عائب* *ومن يتتبع جاهداً كل عثرة ... يجدها ولم يسلم له الدهر صاحب* ولما كان الرجل إذا طمحت عينه إلى استظراف امرأة بهت بالتي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى زوج غيرها نزل. {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} أي: أخذها بدلها بأن طلّقتموها {و} قد {آتيتم إحداهنّ} أي: الزوجات {قنطاراً} أي: مالاً كثيراً صداقاً {فلا تأخذوا منه} أي: القنطار {شيئاً} وقوله تعالى: {أتأخذونه بهتاناً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أي: ظلماً {وإثماً مبيناً} أي: بيناً حال أي: أتأخذونه باهتين وآثمين، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قام خطيباً فقال: أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء فلو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت له: يا أمير المؤمنين لِمَ تمنعنا حقاً جعله الله لنا والله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهنّ قنطاراً} فقال عمر رضي الله تعالى عنه: كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه: تسمعونني أقول مثل هذا القول ولا تنكرونه عليّ حتى تردّ عليّ امرأة ليست من أعلم النساء. وقوله تعالى: {وكيف تأخذونه} استفهام توبيخ وإنكار أي: تأخذونه بأي وجه {وقد أفضى} أي: وصل {بعضكم إلى بعض} بالجماع المقرّر للمهر وكنى الله تعالى عن الجماع بالإفضاء وهو الوصول إلى الشيء من غير واسطة تعليماً لعباده؛ لأنه مما يستحيا منه {وأخذن منكم ميثاقاً} أي: عهداً {غليظاً} أي: شديداً وهو ما أخذه الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» . وقد قيل: صحبة عشرين يوماً قرابة فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج. ولما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه وكان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم فقالت: إني أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره فأتته وأخبرته بذلك فنزل. {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} وإنما عبر بما دون من؛ لأنه أريد به صفة ذات معينة وهي كونهنّ منكوحات الآباء، وقيل: ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر وقوله تعالى: {إلا ما قد سلف} استثناء من المعنى اللازم للنهي فكأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف أو من اللفظ للمبالغة في التحريم، والمعنى: لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوه ولا يمكن ذلك والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته كما يعلق بالمحال في التأبيد في نحو قوله تعالى: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف، 40) أو منقطع أي: لكن ما قد سلف من فعلكم ذلك فإنه معفو عنه وقوله تعالى: {إنه} أي: نكاحهنّ {كان فاحشة ومقتاً} علة للنهي أي: إنه فاحشة فكان مزيدة أي: قبيحاً عند الله تعالى ما رخص فيه لأمّة من الأمم ممقوتاً عند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه: المقتى ويسمي به الرجل المذكور أيضاً قال في «القاموس» : نكاح المقت أن يتزوّج امرأة أبيه بعده فالمقتى ذلك المتزوّج أو ولده أي: ومن ثم قيل: ومقتاً كأنه قيل: هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين {وساء} أي: بئس {سبيلاً} أي: طريقاً ذلك، روي عن البراء بن عازب أنه قال: «مرّ بي خالي ومعه لواء فقلت: أين تذهب؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوّج امرأة أبيه آتيه برأسه» . واعلم أن أسباب التحريم المؤبد ثلاثة: قرابة ورضاع ومصاهرة وضابط المحرمات بالنسب والرضاع أن يقال: محرم نساء القرابة إلا من دخلت تحت ولد العمومة أو ولد الخؤولة وقد بدأ الله بالسبب الأوّل وهو القرابة فقال: {حرّمت عليكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أمهاتكم} أي: العقد عليهنّ وكذلك يقدّر في الباقي؛ لأن تحريم نكاحهنّ هو الذي يفهم من تحريمهنّ كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله. والأمّهات جمع أمّ وأصلها أمّهة، قاله الجوهريّ. وضابط الأمّ هي كل من ولدتك فهي أمّك حقيقة أو ولدت من ولدك ذكراً كان أو أنثى كأم الأب وإن علت وأمّ الأمّ كذلك فهي أمّك مجازاً، وإن شئت قلت: هي كل أنثى ينتهي إليها نسبك {وبناتكم} جمع بنت وضابطها هو كل من ولدتها فهي بنتك حقيقة أو ولدت من ولدها ذكراً كان أو أنثى كبنت ابن وإن نزل وبنت بنت وإن نزلت فبنتك مجازاً وإن شئت قلت: كل أنثى ينتهي إليك نسبها، وخرج بالبنت المخلوقة من ماء زنا الرجل فإنها تحل له؛ لأنها أجنبية عنه بدليل منع الإرث بالإجماع فلا تتبعض الأحكام ويحرم على المرأة ولدها من زنا بالإجماع كما أجمعوا على أنه يرثها. والفرق أن الابن كالعضو منها وانفصل منها إنساناً ولا كذلك النطفة التي خلقت منها البنت بالنسبة للأب {وأخواتكم} جمع أخت وضابطها هو كل من ولدها أبواك أو أحدهما فهي أختك {وعماتكم} جمع عمة، وضابطها: هو كل من هي أخت ذكر ولدك بلا واسطة فعمتك حقيقة أو بواسطة كعمة أبيك فعمتك مجازاً وقد تكون العمة من جهة الأمّ كأخت أبي الأمّ {وخالاتكم} جمع خالة وضابطها هو كل من هي أخت أنثى ولدتك بلا واسطة فخالتك حقيقة، أو بواسطة كخالة أمّك فخالتك مجازاً، وقد تكون الخالة من جهة الأب كأخت أمّ الأب {وبنات الأخ وبنات الأخت} من جميع الجهات وبنات أولادهم وإن سفلن. ثم ثنى بالسبب الثاني وهو الرضاع فقال: {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} وضابط أمّك من الرضاع هو: كل من أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك أو صاحب اللبن أو أرضعت من ولدك بواسطة أو غيرها أو ولدت مرضعتك بواسطة أو غيرها أو صاحب لبنها وهو الفحل بواسطة أو غيرها فأمّ رضاع {وأخواتكم من الرضاعة} وضابط أخت الرضاع هو كل من أرضعتها أمّك أو ارتضعت بلبن أبيك أو ولدتها مرضعتك أو ولدها الفحل ويلحق بذلك بالسنة باقي السبع لخبر الصحيحين: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» ، وفي رواية: «حرموا من الرضاعة ما يحرم من الولادة» ، وفي رواية: «حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب» . وضابط بنت الرضاع هو كل أنثى ارتضعت لبنك أو لبن من ولدته بواسطة أو غيرها أو أرضعتها امرأة ولدتها بواسطة أو غيرها وكذا بناتها من نسب أو رضاع وإن سفلن، وضابط عمة الرضاع هو كل أخت للفحل أو أخت ذكر ولد الفحل بواسطة أو غيرها من نسب أو رضاع. وضابط خالة الرضاع هو كل أخت للمرضعة أو أخت أنثى ولدت المرضعة بواسطة أو غيرها من نسب أو رضاع، وضابط بنات الإخوة وبنات الأخوات من الرضاع: كل أنثى من بنات أولاد المرضعة والفحل من الرضاع والنسب، وكذا كل أنثى أرضعتها أختك أو ارتضعت بلبن أخيك وبناتها وبنات أولادها من نسب أو رضاع، وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين: أحدهما أن يكون قبل استكمال المولود حولين لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين} (البقرة، 233) ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء» ، وعن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 «لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم» وإنما يكون هذا في حال الصغر، وعند أبي حنيفة مدّة الرضاع ثلاثون شهراً لقوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} (الأحقاف، 15) وهي عند الأكثرين لأقل مدّة الحمل وأكثر مدّة الرضاع وأقل مدّة الحمل ستة أشهر وابتداء الحولين من تمام انفصاله. والشرط الثاني: أن توجد خمس رضعات متفرّقات، لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن أي: يقرؤهنّ من لم يبلغه نسخهنّ فقد نسخت تلاوتهنّ وبقي حكمهنّ، وهذا ما ذهب إليه الشافعي، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم، وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب، وإليه ذهب سفيان الثوري ومالك والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة، ويقوي الأوّل قوله صلى الله عليه وسلم «لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان» . ثم ثلث بالسبب الثالث وهو النكاح فقال تعالى: {وأمّهات نسائكم} أي: بواسطة أو بغيرها من نسب أو رضاع سواء أدخل بزوجته أم لا لإطلاق الآية {وربائبكم} جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره وسميت ربيبة؛ لأنه يربيها كما يربي ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه وسميت بذلك وإن لم يربها وقوله تعالى: {اللاتي في حجوركم} أي: تربونها صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها {من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ} أي: جامعتموهنّ سواء أكان ذلك بعقد صحيح أم فاسد لإطلاق الآية {فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم} أي: في نكاح بناتهنّ إذا فارقتموهنّ. فإن قيل: لم أعيد الوصف إلى الجملة الثانية ولم يعد إلى الجملة الأولى {وهي وأمّهات نسائكم} مع أنّ الصفات عقب الجمل تعود إلى الجميع؟ أجيب: بأنّ نساءكم الثاني مجرور بحرف الجرّ، ونساءكم الأول مجرور بالإضافة، وإذا اختلف العامل لم يجز الإتباع وتعين القطع واعترض بأنّ المعمول الجرّ وهو واحد. تنبيه: قضية كلام الشيخ أبي حامد وغيره أنه يعتبر في الدخول أن يقع في حياة الأمّ فلو ماتت قبل الدخول ووطئها بعد موتها لم تحرم بنتها؛ لأنّ ذلك لا يسمى دخولاً وإن تردّد فيه الروياني. فإن قيل: لِمَ لم يعتبر الدخول في تحريم أصول البنت واعتبر في تحريمها الدخول؟ أجيب: بأنّ الرجل يبتلى عادة بمكالمة أمّها عقب العقد لترتيب أموره فحرمت بالعقد ليسهل ذلك عليه بخلاف بنتها واستدخال الماء المحترم يثبت المصاهرة كالوطء، وتحرم البنت المنفية باللعان وإن لم يدخل بأمّها؛ لأنها لا تنتفي عنه قطعاً {وحلائل} أي: أزواج {أبنائكم} واحدتها حليلة والذكر حليل سميا بذلك؛ لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه، وقيل: سميا بذلك؛ لأن كل واحد يحلّ إزار صاحبه من الحل وهو ضدّ العقد وقوله تعالى: {الذين من أصلابكم} احتراز عن حليلة المتبنى فإنها لا تحرم على الرجل الذي تبناه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج امرأة زيد بن حارثة وكان تبناه صلى الله عليه وسلم لا عن حليلة ولده من الرضاع فإنها تحرم عليه، ولا عن حلائل أبناء الولد وإن سفلوا.x تنبيه: كل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين والوطء بشبهة النكاح، فإذا وطىء امرأة بشبهة أو جارية بملك اليمين حرم على الواطىء أمّها وبنتها، وتحرم الموطوءة على أبي الواطىء وابنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ولو زنى بامرأة لم تحرم أمّها ولابنتها على الزاني ولا تحرم الزانية على أبي الزاني وابنه كما قاله ابن عباس، وإليه ذهب مالك والشافعيّ، وذهب قوم إلى التحريم. يروي ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة وهو قول أصحاب الرأي. وهل المباشرة بشهوة كلمس وقبلة كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان: أحدهما: وهو الأصح من مذهب الشافعيّ لا؛ لأنّ ذلك لا يوجب العدّة، فكذا لا يوجب الحرمة. والثاني: نعم؛ لأنّ ذلك كالوطء بجامع التلذذ بالمرأة؛ ولأنه استمتاع يوجب الفدية على المحرم فكان كالوطء وبهذا قال جمهور العلماء. ثم ذكر سبحانه وتعالى تحريم الجمع بقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} أي: ولا يجوز للرجل أن يجمع بين أختين في نكاح سواء كانتا من نسب أم رضاع سواء أنكحهما معاً أم مترتباً، فإذا نكح امرأة، ثم طلقها بائناً جاز له نكاح أختها، وخرج بالجمع في النكاح الجمع بملك اليمين، فإنه جائز لكن لا يجوز أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطىء إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرّم الأولى على نفسه، ويلحق بالأختين بالسنة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من نسب أو رضاع ولو بواسطة، قال صلى الله عليه وسلم «لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى» ، رواه الترمذي وغيره وصححوه؛ ولما فيه من قطيعة الرحم، وإن رضيت بذلك، فإن الطبع يتغير وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في خبر النهي عن ذلك بقوله: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهنّ» . كما رواه ابن حبان وغيره، وضابط تحريم الجمع ابتداء ودواماً هو كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع ولو فرضت إحداهما ذكراً حرم الجمع بينهما بنكاح أو وطء بملك اليمين، وقوله تعالى: {إلا ما قد سلف} استثناء عن لازم المعنى وهو المؤاخذة، فكأنه قال تعالى: تؤاخذون بذلك إلا ما قد سلف قبل النهي فلا تؤاخذون به أو منقطع أي: لكن ما قد سلف من نكاح بعض ما ذكر فإنه مغفور لكم ويؤيد هذا قوله تعالى: {إنّ الله كان غفوراً} لما سلف منكم قبل النهي {رحيماً} بكم في ذلك، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر من رواية ابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند السين والباقون بالإدغام. {و} حرمت {المحصنات} أي: ذوات الأزواج {من النساء} أن تنكحوهنّ قبل مفارقة أزواجهنّ سواء أكن حرائر أم لا، مسلمات أم لا، قال أبو سعيد الخدري: نزلت في نساء كنّ هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنّ أزواج، فتزوّجهن بعض المسلمين، ثم قدم أزواجهن مهاجرين، فنهى الله المسلمين عن نكاحهنّ، ثم استثنى فقال: {إلا ما ملكت أيمانكم} أي: من الإماء بالسبي فلكم وطؤهنّ وإن كان لهنّ أزواج في دار الحرب بعد الاستبراء؛ لأنّ بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها، قال أبو سعيد الخدري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشاً إلى أوطاس، فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين، فكرهوا غشيانهنّ وتحرجوا فأنزل الله هذه الآية. فائدة: قرأ الكسائي جميع ما في القرآن من لفظ المحصنات ومحصنات بكسر الصاد إلا هذا الحرف فإنه فتح الصاد موافقة للجميع، ووجه تسميتهنّ بذلك؛ لأنهنّ أحصن فروجهنّ بالتزويج فهنّ محصنات، ومحصنات بالكسرة في غير هذه الآية وقوله تعالى: {كتاب الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 قبله وهي حرمت عليكم إلخ.. أي: كتب الله {عليكم} تحريم هؤلاء كتاباً وقوله تعالى: {وأحل لكم} عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله إذا قرىء بالبناء للفاعل كما قرأه غير حفص وحمزة والكسائي، وأمّا هم فقرؤوه بالبناء للمفعول عطفاً على حرمت {ما وراء ذلكم} أي: سوى ما حرم عليكم من النساء وقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلك إرادة أن تبتغوا أي: تطلبوا النساء بأموالكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونكم محصنين أي: متزوّجين غير مسافحين أي: زانين؛ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين. والإحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام والمسافح الزاني من السفح وهو صبّ المني، وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحيني ماذيني من المذي. والأموال المهور وما يخرج في المناكح. تنبيه: يجوز أن يكون مفعول تبتغوا مقدراً وهو النساء كما قدّرته لك، قال الزمخشري: والأجود أن لا يقدر وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم ويجوز أن يكون أن تبتغوا بدلاً مما وراء ذلكم بدل اشتمال؛ لأنّ المبدل منه ذات والمبدل معنى والذات مشتملة عليه {فما} أي: فمن {استمتعتم} أي: تمتعتم {به منهنّ} أي: ممن تزوجتم بالوطء {فآتوهنّ أجورهنّ} أي: مهورهنّ، فإنّ المهر في مقابلة الاستمتاع، وقوله تعالى: {فريضة} حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي: إيتاء مفروضاً أو مصدر مؤكد {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم} أنتم وهنّ {به من بعد الفريضة} فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق. وقيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخت كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أباحها ثم أصبح يقول: «يأيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلا أنّ الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة» . وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لا أوتى برجل تزوّج بامرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة» . وعن ابن عباس أنه قال: هي محكمة أي: تنسخ وكان يقرأ: فما استمتعتم به إلى أجل مسمى، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال: اللهمّ إني أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقيل: إنها أبيحت مرّتين وحرمت مرّتين {إنّ الله كان عليماً} بخلقه {حكيماً} فيما دبره لهم. {ومن لم يستطع منكم طولاً} أي: غنى وأصل الطول الفضل يقال: لفلان على فلان طول أي: زيادة فضل وقد طاله طولاً فهو طائل كما قال القائل: *لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرىء غير طائل* ومنه قولهم: هذا أمر ما تحته طائل أي: شيء يعتد به مما له فضل وخطر، ومنه الطول في الجسم؛ لأنه زيادة فيه كما أنّ القصر قصور فيه ونقصان، والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة {أن ينكح المحصنات} أي: الحرائر وقوله تعالى: {المؤمنات} جرى على الغالب، فلا مفهوم له فإن الحرائر الكتابيات كذلك {فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} أي: إمائكم المؤمنات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أي: ومن لم يقدر على مهر الحرّة المؤمنة أي: أو الكتابية كما مرّ فليتزوّج الأمة المؤمنة، وظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرّة ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقاً، وأوّل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه طول المحصنات بأن يملك فراشهنّ على أنّ النكاح هو الوطء وحمل قوله: (من فتياتكم المؤمنات) على الأفضل كما حمل عليه قوله: (المحصنات المؤمنات) . ومن أصحابنا من حمله أيضاً على التقييد وجوّز نكاح الأمة لمن قدر على الحرّة والكتابية دون المؤمنة حذراً من مخالطة الكفار وموالاتهم، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد؛ ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين، وأمّا وطؤها بملك اليمين فجائز باتفاق. فائدة: قوله تعالى: {فمن ما ملكت} من مقطوعة عن ما {وا أعلم بإيمانكم} أي: بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه فإنه العالم بالسرائر {بعضكم من بعض} أي: أنتم وإماؤكم سواء في النسب والدين نسبكم من آدم ودينكم الإسلام فلا تستنكفوا من نكاحهنّ {فانكحوهنّ بإذن أهلهنّ} أي: مواليهنّ {وآتوهنّ أجورهنّ} أي: أدوا إليهنّ مهورهنّ بإذن أهلهنّ فحذف بإذن لتقدّم ذكره، أو أدوا إلى مواليهنّ فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد؛ لأنه عوض حقه فيجب أن يؤدّى إليه، وقال مالك: المهر للأمة ذاهباً إلى ظاهر الآية {بالمعروف} أي: من غير مطل ولا ضرار وقوله تعالى: {محصنات} أي: عفيفات حال من ضمير فانكحوهنّ وهو محمول على الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني {غير مسافحات} أي: زانيات جهراً {ولا متخذات أخدان} أي: أخلاء يزنون بها سراً جمع خدن وهو الصديق في السر، وقيل: المسافحات اللاتي يزنين مع أي رجل، وذوات الأخدان اللاتي يزنين مع معين وذلك بحسب ما كان في الجاهلية. {فإذا أحصن} قرأ شعبة وحمزة والكسائي أحصن بفتح الهمزة والصاد على البناء للفاعل أي: تزوّجن والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول أي: زوّجن، {فإن أتين بفاحشة} أي: زنا {فعليهنّ نصف ما على المحصنات} أي: الحرائر الأبكار إذا زنين {من العذاب} أي: الحدّ فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة، ويقاس عليهنّ العبد. فإن قيل: ما فائدة وجوب تنصيف الحدّ عليهنّ بتقييده بتزوّجهنّ إذ تنصيف العذاب لازم للأمة الزانية تزوّجت أم لا؟ أجيب: بأنّ فائدة ذلك بيان أن لا رجم عليهنّ أصلاً وبأنه إنما ذكر لبيان جواب سؤال إذ الصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوا مقدار حد الأمة قبل التزوّج دون مقداره بعده، فسألوا عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوّج من المماليك إذا زنا أخذاً بظاهر الآية. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحدّ ولا يثربن عليها ثم إن عادت فليجلدها الحد ولا يثربن عليها، فإن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» {ذلك} أي: نكاح الإماء عند عدم الطول {لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 خشي} أي: خاف {العنت} أي: الزنا، وأصله المشقة سمي به الزنا؛ لأنه سببها بالحدّ في الدنيا أو العقوبة في الأخرى {منكم} أيها الأحرار بخلاف من لم يخفه أمّا العبيد فيجوز لهم نكاح الإماء مطلقاً لكن إن كان العبد مسلماً فلا بد أن تكون الأمة مسلمة {وإن تصبروا} عن نكاح الإماء متعففين {خير لكم} لئلا يصير الولد رقيقاً، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» {وا غفور} لمن لم يصبر {رحيم} بأن وسع له في ذلك {يريد الله ليبين لكم} شرائع دينكم ومصالح أموركم {ويهديكم} أي: يرشدكم {سنن} أي: شرائع {الذين من قبلكم} من الأنبياء في التحريم والتحليل فتتبعوهم {ويتوب عليكم} أي: ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم {وا عليم} بكم {حكيم} فيما دبره لكم. {والله يريد أن يتوب عليكم} إن وقع منكم تقصير في دينه {ويريد الذين يتبعون الشهوات} قال السدي: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: هم المجوس؛ لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت فلما حرمهنّ الله قالوا: فإنكم تحلون بنات الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت، وقال مجاهد: هم الزناة {أن تميلوا} أي: تعدلوا عن الحق {ميلاً عظيماً} بارتكاب ما حرم عليكم فتكونوا مثلهم. {يريد الله أن يخفف عنكم} أي: يسهل عليكم أحكام الشرع، وقد سهل كما قال تعالى: {ويضع عنهم إصرهم} (الأعراف، 157) وقال صلى الله عليه وسلم «بعثت بالحنيفية السمحة» أي: السهلة {وخلق الإنسان ضعيفاً} لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات، وعن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ثمان آيات في سورة النساء خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس وغربت، (يريد الله ليبين لكم) (والله يريد أن يتوب عليكم) (يريد الله أن يخفف عنكم) (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) (إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة) (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) (ما يفعل الله بعذابكم) . {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أي: بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار والربا، وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة} استثناء منقطع أي: لكن أن تقع تجارة على قراءة الرفع وهي قراءة غير عاصم وحمزة والكسائي وأمّا هؤلاء فقرؤوا بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي: إلا أن تكون الأموال تجارة {عن تراض منكم} أي: فلكم أن تأكلوها {ولا تقتلوا أنفسكم} أي: بارتكاب ما يؤدّي إلى هلاكها في الدنيا والآخرة، وقال الحسن: يعني إخوانكم أي: لا يقتل بعضكم بعضاً أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة» . وروي أنّ الله تعالى يقول: «بادرني عبدي بنفسه فحرّمت عليه الجنة» . وعن عمرو بن العاص أنه تأوّله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم {إنّ الله كان بكم} يا أمّة محمد {رحيماً} حيث أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه. {ومن يفعل ذلك} أي: ما نهى عنه من قتل النفس وغيره من المحرمات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وقوله تعالى: {عدواناً} حال أي: متجاوزاً للحلال وقوله تعالى: {وظلماً} تأكيد وقيل: أراد بالعدوان التعدّي على الغير وبالظلم ظلم الشخص نفسه بتعريضها للعقاب {فسوف نصليه} أي: ندخله {ناراً} يحترق فيها {وكان ذلك على الله يسيراً} أي: هيناً لا عسر عليه فيه. {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} أي: كلاً منها وفسر جماعة الكبيرة بأنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جماعة: هي المعصية الموجبة للحدّ، والأوّل أولى؛ لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها، وقال الإمام: هي كل جريمة تؤذن أي: تعلم بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وقال سفيان الثوري: الكبائر ما كان بينك وبين العباد، والصغائر ما كان بينك وبين الله، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم «ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة: يا أمّة محمد إنّ الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي» . وهي أشياء كثيرة، قال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، وقال سعيد بن جبير: هي إلى السبعمائة أقرب أي: باعتبار أصناف أنواعها {نكفر عنكم سيآتكم} أي: الصغائر وهي ما عدا الكبائر أي: نكفر بفعل الطاعات كالصلاة والصوم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر» . ولا بأس بذكر شيء من النوعين فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن، واليأس من رحمة الله وأمن مكره تعالى، والقتل عمداً أو شبه عمد، والكفر، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا، واللواط، وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة، والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والنميمة، وأمّا الغيبة فإن كانت في أهل العلم أو حملة القرآن فهي من الكبائر، وإلا فهي صغيرة، ومن الصغائر النظر المحرم، وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات إلا إن راعى حق الشرع فيها، والضحك في الصلاة والنياحة وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس بين الفساق إيناساً لهم، وإدخال مجانين وصبيان يغلب تنجيسهم ونجاسة المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، وقيل: الكبائر الشرك وما عداه من الصغائر قال الله تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء، 48 ـ 116) {وندخلكم مدخلاً} قرأ نافع بفتح الميم أي: موضعاً {كريماً} أي: حسناً وهو الجنة، وقرأ الباقون بضمها على المصدر بمعنى الإدخال مع الكرامة. {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} من جهة الدنيا والدين؛ لئلا يؤدّي إلى التحاسد والتباغض؛ لأنّ ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق وقبض {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} (الشورى، 27) فعلى كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأنّ ما قسم له هو المصلحة ولو كان خلافه لكان مفسدة له ولا يحسد أخاه على حظه. قال مجاهد: قالت أمّ سلمة: يا رسول الله إنّ الرجال يغزون ولا نغزو ولهم ضعف ما لنا من الميراث فلو كنا رجالاً غزونا وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا فنزلت هذه الآية، وقيل: لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث قالت النساء: نحن أحوج إلى الزيادة من الرجال، فإنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر في طلب المعاش منا فنزلت. وقال قتادة والسديّ: لما أنزل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهنّ في الميراث فأنزل الله تعالى {للرجال نصيب} أي: ثواب {مما اكتسبوا} أي: بسبب ما عملوا من الجهاد {وللنساء نصيب ما اكتسبن} أي: من حفظ فروجهنّ وطاعة الله وطاعة أزواجهنّ، فالرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء، وذلك أنّ الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي في ذلك الرجال والنساء، وفضل الرجال على النساء إنما هو في الدنيا {واسألوا الله من فضله} أي: لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله ما احتجتم إليه يعطكم من خزائنه التي لا تنفد، فنهى الله عن التمني لما فيه من دواعي الحسد والحسد، أن يتمنى الشخص زوال النعمة عن صاحبها سواء تمناها لنفسه أم لا، والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز، قال صلى الله عليه وسلم «لا حسد ـ أي: لا غبطة ـ إلا في اثنتين» الحديث {إنّ الله كان بكلّ شيء عليماً} فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان. {ولكل} من الرجال والنساء {جعلنا موالي} أي: عصبة يعطون {مما ترك الوالدان والأقربون} لهم من المال فالوالدان والأقربون هم المورثون، وقيل: معناه ولكل جعلنا موالي أي: ورثة مما ترك أي: من الذين تركهم فتكون ما بمعنى من، ثم فسر الموالي فقال: الوالدان والأقربون أي: هم الوالدان والأقربون، فعلى هذا القول الوالدان هم الوارثون {والذين عاقدت أيمانكم} والمعاقدة المعاهدة والمحالفة، والأيمان جمع يمين بمعنى القسم أو اليد وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد، ومحالفتهم أنّ الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من مال الحليف وكان ذلك ثابتاً في ابتداء الإسلام، فذلك قوله تعالى: {فآتوهم نصيبهم} (النساء، 109) أي: أعطوهم حظهم من الميراث، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} (الأنفال/ 75.w وسورة الأحزاب، 6) وقال مجاهد: أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والرفد ولا ميراث، وعلى هذا الآية غير منسوخة لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} (المائدة، 1) وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة: «لا تحدثوا حلفاً في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلا شدّة» قال الزمخشريّ: وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح عنده وورث بحق الموالاة خلافاً للشافعيّ رحمه الله تعالى اه. وقرأ غير عاصم وحمزة والكسائي: عاقدت بألف بين العين والقاف، وأمّا هؤلاء الثلاثة فقرأوا: (عقدت) بغير ألف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 إليه مقامه، ثم حذف كما حذف في القراءة الأولى {إنّ الله كان على كل شيء شهيداً} أي: مطلعاً فخافوه {الرجال قوّامون على النساء} أي: يقومون عليهنّ قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين: أحدهما وهبيّ والآخر كسبيّ، وقد ذكر الأوّل بقوله تعالى: {بما فضل الله بعضهم على بعض} أي: بسبب تفضيله الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالنبوّة والأمانة والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد، والجمعة، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى: {وبما أنفقوا من أموالهم} في نكاحهنّ كالمهر والنفقة. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها» . وروي أنّ سعيد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه زوجته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال: «لتقتص منه» فنزلت فقال: «أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير» ورفع القصاص {فالصالحات} منهنّ {قانتات} أي: مطيعات لأزواجهنّ {حافظات للغيب} أي: لما يجب عليهنّ حفظه في حال غيبة أزواجهنّ من الفروج والبيوت والأموال، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» {بما حفظ الله} أي: بما حفظهنّ الله حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «استوصوا بالنساء خيراً» أو بما حفظهنّ الله وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة {واللاتي تخافون} أي: تعلمون {نشوزهنّ} كما في قوله تعالى: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً} (البقرة، 182) {فعظوهنّ} أي: خوفوهنّ كأن يقول لزوجته: اتقي الله في الحق الواجب لي عليك واحذري العقوبة ويبيّن لها أنّ النشوز يسقط النفقة والقسم {واهجروهنّ في المضاجع} أي: اعتزلوهنّ في الفراش {واضربوهنّ} وإن لم يتكرّر النشوز إن أفاد الضرب وإلا فلا يضرب كما لا يضرب ضرباً مبرّحاً ولا وجهاً ولا مهالك ومع ذلك فالأولى له العفو، وخرج بالعلم بالنشوز ما إذا ظهرت أماراته فقط إما بقول كأن صارت تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين، وإما بفعل كأن يجد منها إعراضاً وعبوساً بعد تلطف وطلاقة وجه، فإنه يعظها بلا هجر وبلا ضرب لعلها تبدي عذراً أو تتوب عما وقع منها بغير عذر، وخرج بالمضجع الهجر بالكلام، فلا يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام ويجوز فيها للخبر الصحيح: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» إن قصد بهجرها ردّها لحظ نفسه فإن قصد به ردّها عن المعصية وإصلاح دينها فلا تحريم إذ النشوز حينئذ عذر شرعيّ، والهجر له في الكلام جائز مطلقاً، ومنه هجره صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه الصحابة عن كلامهم {فإن أطعنكم} فيما يراد منهنّ {فلا تبغوا} أي: لا تطلبوا {عليهنّ سبيلاً} أي: طريقاً إلى ضربهنّ ظلماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 واجعلوا ما كان بينهنّ كأن لم يكن، «فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ، رواه الطبرانيّ وابن ماجة وغيرهما {إنّ الله كان علياً كبيراً} فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهنّ فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم. {وإن خفتم} أي: علمتم {شقاق} أي: خلاف {بينهما} أي: بين المرء وزوجه وذكرهما بضميرهما وإن لم يجر ذكرهما لجري ما يدلّ عليهما وهو الرجال والنساء، وإضافة الشقاق إلى الظرف إمّا لإجرائه مجرى المفعول به كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار، أو الفاعل كقولهم نهارك صائم {فابعثوا} أي: أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما إليهما لكن برضاهما {حكماً من أهله} أي: أقاربه {وحكماً} آخر {من أهلها} أي: أقاربها لينظرا في أمرهما بعد اختلاء حكمه به وحكمها بها ومعرفة ما عندهما في ذلك ويصلحا بينهما، أو يفرّقا إن عسر الإصلاح على ما يأتي، فإنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح. تنبيه: بعث الحكمين على سبيل الوجوب، وكونهما من الأقارب على سبيل الندب وهما وكيلان لهما فاشترط رضاهما لا حكمان من جهة الحاكم؛ لأنّ الحال يؤدّي إلى الفراق، والبضع حق الزوج، والمال حق الزوجة، وهما رشيدان فلا يولي عليهما في حقهما، فيوكل هو حكمه بطلاق أو خلع، وتوكل هي حكمها ببذل عوض وقبول طلاق، ويشترط فيهما إسلام وحرية وعدالة واهتداء إلى المقصود من بعثهما، له وإنما اشترط فيهما ذلك مع أنهما وكيلان لتعلق وكالتهما بنظر الحاكم كما في أمينه، ويسنّ كونهما ذكرين ولا يكفي حكم واحد {إن يريدا} أي: الحكمان {إصلاحاً يوفق الله بينهما} أي: الزوجين أي: إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى بورك في وساطتهما وأوقع الله بطيب أنفسهما وحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والإلفة، وألقى في نفوسهما المودّة والرحمة، وقيل: الضمير الأوّل للزوجين، والثاني للحكمين أي: إن يرد الزوجان إصلاحاً يوفق الله بين الحكمين اختلافهما حتى يعملا بالصلاح، وقيل: الضميران للحكمين أي: إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما، وقيل: للزوجين أي: إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق: أوقع الله بينهما الإلفة والوفاق، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيته فيما يتحرّاه أصلح الله تعالى مبتغاه، وإن لم يرضيا ببعثهما ولم يتفقا على شيء أدب الحاكم الظالم واستوفى للمظلوم حقه {إنّ الله كان عليماً} بكل شيء {خبيراً} بالبواطن كالظواهر، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق قال تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم} (الأنفال، 63) . {واعبدوا الله} أي: وحدوه وأطيعوه {ولا تشركوا به شيئاً} أي: شيئاً من الإشراك جلياً كان أو خفياً، وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟» قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله تعالى إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم قال: «فإنّ حق الناس على الله أن لا يعذبهم» قال قلت: يا رسول الله ألا أبشر الناس؟ قال: «دعهم يعملون» {و} أحسنوا {بالوالدين إحساناً} أي: برّاً ولين جانب {وبذي القربى} أي: صاحب القرابة {واليتامى والمساكين} ويدخل في المساكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الفقراء. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة» وفي رواية: «من مسح رأس يتيم ولم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمرّ عليها يداه حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه» {والجار ذي القربى} أي: القريب منك في النسب أو الجوار {والجار الجنب} أي: البعيد عنك في النسب أو الجوار. روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك باباً» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورّثه» . {والصاحب بالجنب} أي: الرفيق في السفر كما قاله ابن عباس ومجاهد، أو المرأة تكون معه إلى جنبه كما قاله علي والنخعي، أو الذي يصحبك رجاء نفعك في تعلم علم أو حرفة أو نحو ذلك كما قاله ابن جريج وابن زيد {وابن السبيل} أي: المسافر؛ لأنه يلازم السبيل، أو الضيف كما عليه الأكثر. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» . وفي رواية: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة» ، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحلّ له أن يثوي عنده حتى يخرجه {وما ملكت أيمانكم} أي: من الأرقاء من عبيد وإماء. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه» ، وفيه رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه {إنّ الله لا يحبّ من كان مختالاً} أي: متكبراً على الناس من أقاربه وأصحابه وجيرانه وغيرهم ولا يلتفت إليهم {فخوراً} أي: يتفاخر عليهم بما آتاه الله. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» . وفي رواية: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء» . وقوله تعالى: {الذين} مبتدأ {يبخلون} أي: بما يجب عليهم {ويأمرون الناس بالبخل} بذلك {ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} من العلم والمال وهم اليهود بخلوا ببيان صفته صلى الله عليه وسلم وكتموها وكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويخالطونهم فيقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وخبر المبتدأ محذوف تقديره لهم وعيد شديد ويصح أن يكون (الذين) بدلاً من قوله: من كان، أو منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه أي: هم الذين، وقرأ حمزة والكسائي (بالبخل) بفتح الباء والخاء، والباقون بضمّ الباء وسكون الخاء {وأعتدنا للكافرين} بذلك وبغيره {عذاباً مهيناً} أي: ذا إهانة وضع الظاهر فيه موضع المضمر إظهاراً بأنّ من هذا شأنه فهو كافر بالله لكتمانه صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وكافر بنعمة الله عليه. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أنعم الله على عبد نعمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أحبّ أن ترى نعمته على عبده» . وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به عنده فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إنّ الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه، وقوله تعالى: {والذين} عطف على الذين قبله {ينفقون أموالهم رئاء الناس} أي: مرائين لهم {ولا يؤمنون با ولا باليوم الآخر} أي: كالمنافقين ومشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم {ومن يكن الشيطان له قريناً} أي: صاحباً يعمل بأمره كهؤلاء {فساء} أي: فبئس {قريناً} هو حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر وزينه لهم كقوله تعالى: {إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (الإسراء، 27) والمراد: إبليس وأعوانه الداخلة في باطن الإنسان والخارجة عنه، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار. {وماذا عليهم لو آمنوا با واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله} أي: أيّ ضرر عليهم في ذلك والاستفهام للإنكار، ولو مصدرية أي: لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه وقوله تعالى: {وكان الله بهم عليماً} وعيد لهم فيجازيهم بما عملوا. {إنّ الله لا يظلم} أحداً {مثقال} أي: وزن {ذرّة} وهي أصغر نملة، ويقال: لكل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة، أي: لا ينقص قدر ذلك من حسناته ولا يزيده في سيئاته كما قال تعالى: {إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً} (يونس، 44) ، وفي ذكر المثقال إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعها ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة {وإن تك حسنة} أي: وإن يك المثقال حسنة {يضاعفها} أي: ثوابها من عشر إلى أكثر من سبعمائة، وعن أبي عثمان النهدي أنه قال لأبي هريرة: بلغني عنك أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة: لا بل سمعته يقول «إنّ الله يعطيه ألفي ألف حسنة» . ثم تلا هذه الآية. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزيه بها في الآخرة» قال: وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً. وفي رواية: «إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال: يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا فأدخلتهم النار قال: فيقول اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتون فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى ركبتيه فيخرجونهم فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا قال: ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار حتى يقول من كان في قلبه مثقال ذرّة، قال أبو سعيد: فمن لم يصدّق فليقرأ هذه {إنّ الله} إلخ.. قال: فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق أحد في النار فيه خير ثم يقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفعت المؤمنون وبقي أرحم الراحمين قال: فيقبض قبضة من النار أو قال قبضتين ناساً لم يعملوا خيراً حتى احترقوا حتى صاروا حمماً فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ـ وهي بكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الحاء المهملة وتجمع على حبب ـ قال: فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم عتقاء الله فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم قال: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين قال: فيقول الله تعالى: فإنّ لكم عندي أفضل منه فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً» . فإن قيل: لم أنث الضمير مع أنه راجع للمثقال وهو مذكر؟ أجيب: بأنه أنثه لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث، وقيل: إنّ الضمير راجع إلى ذرّة وهي مؤنثة لا إلى مثقال وحذفت النون تشبيهاً بحروف العلة، وقرأ نافع وابن كثير: حسنة برفع التاء على كان التامّة والباقون بنصبها على كان الناقصة، وقرأ ابن كثير وابن عامر (يضعفها) بتشديد العين ولا ألف قبلها والباقون بتخفيف العين وألف قبلها {ويؤت} أي: يعط صاحب الحسنة {من لدنه} أي: من عند الله على سبيل التفضل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل {أجراً عظيماً} أي: عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً؛ لأنه تابع للأجر مزيد عليه لا يثبت إلا بثباته. {فكيف} حال الكفار؟ {إذا جئنا من كل أمّة بشهيد} يشهد عليها بعملها وهو نبيها لقوله تعالى: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} (المائدة، 117) {وجئنا بك} يا محمد {على هؤلاء} الشهداء {شهيداً} أي: شاهداً تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك على مجامع قواعدهم، وقيل: هؤلاء إشارة إلى المؤمنين لقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة، 143) وقيل: إلى الكافرين المستفهم عن حالهم. وعن ابن مسعود أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «حسبك» . {يومئذٍ} أي: المجيء وهو يوم القيامة {يودّ} أي: يتمنى {الذين كفروا وعصوا الرسول لو} أي: أن {تسوّى بهم الأرض} كالموتى أو لم يبعثوا أو لم يخلفوا وكانوا هم والأرض سواء، وقال الكلبيّ يقول الله عز وجلّ للبهائم والوحوش والطيور والسباع: كونوا تراباً فتسوّى بهنّ الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أنه لو كان تراباً كما قال تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} (النبأ، 40) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: تسوّى بضم التاء للبناء للمفعول، والباقون بالفتح بالبناء للفاعل مع حذف إحدى التاءين في الأصل، وشدّد السين نافع وابن عامر، وخففها الباقون. {ولا يكتمون الله حديثاً} أي: مما عملوه؛ لأنّ جوارحهم تشهد عليهم، وقال الحسن: إنها مواطن ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همساً، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون: ما كنا مشركين وما كنا نعمل من سوء، وفي موطن يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم وهو قوله تعالى: {ولا يكتمون الله حديثاً} وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن شيئاً يختلف عليّ فقال: هات ما اختلف عليك قال: قال الله تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} (المؤمنون، 101) وقال تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الطور، 25) وقال تعالى: {ولا يكتمون الله حديثاً} (النساء، 42) وقال: {وا ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام، 23) فقد كتموا، وقال تعالى: {أم السماء بناها} إلى قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات، 30) فذلك خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى {طائعين} (فصلت، 11) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} (الفتح، 14) وقال: {وكان الله عزيزاً حكيماً} (الفتح، 19) فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون في النفخة الأولى قال: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض} {فلا أنساب} عند ذلك {ولا يتساءلون} ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون في النفخة الآخرة {ثم أقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (المؤمنون، 101) وأمّا قوله: والله ربنا ما كنا مشركين، ولا يكتمون الله حديثاً، فإنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون: تعالوا نقل: لم نك مشركين، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يكتم حديثاً، وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهنّ في يومين آخرين، ثم دحا الأرض في يومين ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فقال: خلق الأرض في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين، وكان الله غفوراً رحيماً أي: لم يزل كذلك، فلا يختلف عليك القرآن فإنّ كلاً من عند الله. {يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة} أي: لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها {وأنتم سكارى} من الشراب {حتى تعلموا ما تقولون} بأن تصحوا منه كقوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا} (الإسراء، 32) {ولا تقربوا الفواحش} (الأنعام، 151) . روي أنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الخمر مباحاً فأكلوا وشربوا فلما سكروا جاء وقت صلاة المغرب فقدّموا أحدهم يصلي بهم فقرأ: قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا هكذا إلى آخر السورة فنزلت، فكانوا لا يشربونها في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، ثم نزل تحريمها.v وقيل: أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد. وقيل: أراد بالسكر سكر النوم ونهى عن الصلاة عند غلبة النوم قال صلى الله عليه وسلم «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنّ أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه» . وقوله تعالى: {ولا جنباً} منصوب على الحال أي: ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب بإيلاج أو إنزال، يقال: رجل جنب وامرأة جنب ورجال ونساء جنب؛ لأنه يجري مجرى المصدر لا أنه مصدر بل هو اسم مصدر؛ لأنه لم يستوف حروف الفعل؛ لأنّ فعله أجنب فمصدره إجناباً لا جنباً، وأصل الجنابة البعد وسمي جنباً؛ لأنه يجتنب موضع الصلاة أو لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل {إلا عابري} أي: مجتازي {سبيل} أي: طريق أو مسافرين {حتى تغتسلوا} أي: فلكم أن تصلوا، واستثناء المسافر له حكم آخر سيأتي. وفي هذا دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأنه غياه بقوله: (حتى تغتسلوا) ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها وجوّز للجنب عبور المسجد، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز له المرور إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق إلى الماء {وإن كنتم مرضى} أي: مرضاً يخاف معه من استعمال الماء فإنّ الواجد كالفاقد {أو على سفر} أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي: أحدثتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 بخروج الخارج من أحد السبيلين، والغائط المكان المطمئن من الأرض تقضي فيه الحاجة سمي باسمه الخارج للمجاورة {أو لامستم النساء} ، قرأ حمزة والكسائيّ بغير ألف بين اللام والميم والباقون بألف، واختلف في معنى اللمس والملامسة فقال قوم: هما التقاء البشرتين سواء أكان بجماع أم بغيره، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وبه استدلّ الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ اللمس ينقض الوضوء، وقال قوم: هما المجامعة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة كني باللمس عن الجماع؛ لأنّ باللمس يوصل إلى الجماع {فلم تجدوا ماء} تطهرون به للصلاة بعد الطلب؛ لأنه لا يسمى غير واجد إلا بعد الطلب وهذا راجع إلى ما عدا المرض {فتيمموا} أي: بعد دخول الوقت {صعيداً طيباً} أي: تراباً طاهراً أي: طهوراً أمّا المرضى فيتيممون مع حضور الماء؛ لأنّ وجوده بالنسبة إليهم كالعدم {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} مع المرفقين منه بضربتين كما ثبت في الحديث وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأجاب عن قوله تعالى في آية المائدة: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} أي: بعضه وهو لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه بأنّ من لابتداء الغاية، قال الزمخشريّ: وقولهم: إنها لابتداء الغاية فيه تعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض، قال: والإذعان للحق أحق من المراء، والتيمم من خصائص هذه الأمّة. روي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» وكان بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ماء وليس معهم ماء؟ فعاتبني أبو بكر وقال: ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرته ولا يمنعني من التحرّك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته» . وفي رواية أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة، وقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 {إنّ الله كان عفوّاً غفوراً} كناية عن الترخيص والتيسير؛ لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم آثر ما كان ميسوراً غير معسر. {ألم تر} أي: تنظر {إلى الذين أوتوا نصيباً} أي: حظاً يسيراً {من الكتاب} أي: من علم التوراة وهم أحبار اليهود {يشترون} أي: يختارون {الضلالة} على الهدى {ويريدون أن تضلوا} أيها المؤمنون {السبيل} أي: تخطئون طريق الحق لتكونوا مثلهم. {والله أعلم} منكم {بأعدائكم} فيخبركم بهم لتجتنبوهم ولا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم {وكفى با ولياً} أي: حافظاً {وكفى با نصيراً} أي: مانعاً لكم من كيدهم وقوله تعالى: {من الذين هادوا} بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب؛ لأنهم يهود ونصارى وقوله تعالى: {وا أعلم بأعدائكم وكفى با ولياً وكفى با نصيراً} جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً أي: ينصركم من الذين هادوا كقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} (الأنبياء، 77) أو خبر مبتدأ محذوف صفته {يحرّفون الكلم عن مواضعه} أي: ومن الذين هادوا قوم يحرّفون أي: يغيرون الكلم الذي أنزل في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم عن مواضعه التي وضع عليها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها، وفي المائدة {من بعد مواضعه} (المائدة، 41) والمعنيان متقاربان، قال ابن عباس: كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم ويرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه {ويقولون} للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم {سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك {واسمع غير مسمع} بمعنى الدعاء أي: لا سمعت بصمم أو بموت، أو بمعنى اسمع منا ولا نسمع منك، أو بمعنى اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه {و} يقولون له: {راعنا} يريدون به النسبة إلى الرعونة وقد نهى عن خطابه صلى الله عليه وسلم بها وهي كلمة سب بلغتهم {لياً} أي: تحريفاً {بألسنتهم} أي: يحرفون ما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير نفاقاً {وطعناً} أي: قدحاً {في الدين} أي: الإسلام {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا} بدل وعصينا {واسمع} أي: فقط {وانظرنا} أي: انظر إلينا بدل راعنا {لكان خيراً لهم} مما قالوه {وأقوم} أي: أعدل وأصوب {ولكن لعنهم الله} أي: أبعدهم عن رحمته {بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} أي: إيماناً قليلاً لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ويجوز أن يراد بالقلة العدم أو إلا نفراً قليلاً منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. {ياأيها الذين أوتوا الكتاب} يخاطب اليهود {آمنوا بما نزلنا} أي: القرآن {مصدّقاً لما معكم} أي: التوراة وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود عبد الله بن صوريا وأصحابه وكعب بن أسد وقال: «يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق» قالوا: ما نعرف ذلك وانصرفوا على الكفر فنزلت {من قبل أن نطمس وجوهاً} أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم {فنردّها على أدبارها} أي: فنجعلها كالأقفاء مطموسة مثلها أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا أو في الآخرة. روي أنّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحوّل وجهي في قفاي وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية. فإن قيل: قد أوعدهم الله بالطمس إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك؟ أجيب: بأنّ هذا الوعيد باق ويكون طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة، أو أنّ هذا كان وعيداً بشرط فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع ذلك عن الباقين، وقيل: أراد به في القيامة، وقال مجاهد: أراد بقوله: نطمس وجوهاً أي: نتركهم في الضلالة، فيكون المراد طمس وجه القلب والردّ عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة {أو نلعنهم} أي: نمسخهم قردة وخنازير {كما لعنا} أي: مسخنا {أصحاب السبت} منهم قردة وخنازير {وكان أمر الله} أي: قضاؤه {مفعولاً} أي: نافذاً وكائناً فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا. {إن الله لا يغفر أن يشرك به} أي: لا يغفر الإشراك به، قال عمر رضي الله تعالى عنهما: لما نزل {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً} (الزمر، 53) قالوا: يا رسول الله والشرك فنزلت. ولما أخبر بعدله أخبر تعالى بفضله فقال: {ويغفر ما دون ذلك} الأمر الكبير العظيم من كل معصية سواء أكانت صغيرة أم كبيرة سواء أتاب فاعلها أم لا، ورهب بقوله: إعلاماً بأنه مختار لا يجب عليه شيء {لمن يشاء} . وقال الكلبيّ: نزلت هذه الآية في وحشي بن حرب وأصحابه وذلك أنه لما قتل حمزة وذهب إلى مكة ندم هو وأصحابه وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد ندمنا على ما صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} (الفرقان، 68) الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله قتلها وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} (مريم، 60) الآيتين فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما قرؤوهما كتبوا إليه: إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فنزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فبعث بها إليهم فبعثوا إليه إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر، 53) الآية فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبل منهم ثم قال لوحشيّ «أخبرني كيف قتلت حمزة؟» فلما أخبره قال: «ويحك غيب وجهك عني» فلحق وحشيّ بالشأم فكان بها إلى أن مات {ومن يشرك با فقد افترى} أي: ارتكب {إثماً عظيماً} أي: كبيراً فالافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذا الاختلاق. روي أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الموجبات؟ قال: «من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار» . وروى أبو ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» قلت: وإن زنى وإن سرق قال: «وإن زنى وإن سرق» قلت: «وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} قال الحسن وقتادة: نزلت في اليهود والنصارى قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه {وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} (البقرة، 111) ، وقال الكلبيّ: نزلت في رجال من اليهود جاؤوا إلى رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: «لا» قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار. ويدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله إلا إذا كان لغرض صحيح وطابق الواقع كقول سيدنا يوسف صلى الله عليه وسلم {اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم} (يوسف، 55) ، وقوله صلى الله عليه وسلم «إني أمين في السماء أمين في الأرض» حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، ولكن شتان بين من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم {بل الله} الذي له صفات الكمال {يزكي من يشاء} أي: بماله من العلم التامّ والقدرة الشاملة والحكمة البالغة، وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً {ولا يظلمون} أي: ينقصون من أعمالهم {فتيلاً} أي: قدر ما يكون في شق النواة قاله عكرمة عن ابن عباس، فهو اسم لما في شق النواة، والقطمير اسم للقشرة التي على النواة، والنقير اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة، وقيل: الفتيل من الفتل وهو ما يحصل بين الإصبعين من الوسخ عند الفتل. ولما أخبر سبحانه وتعالى أنّ التزكية إنما هي إليه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {انظر} متعجباً {كيف يفترون} أي: يتعمدون {على الله} الذي لا يخفى عليه شيء ولا بعجزه شيء {الكذب} من غير خوف منهم لذلك عاقبة ذلك {وكفى به} أي: بهذا الكذب {إثماً مبيناً} أي: بيناً واضحاً. {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} وهما صنمان بمكة لقريش وذلك أنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت؛ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا، ثم قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أمّيون لا نعلم فأينا أهدى طريقاً نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم فقال أبو سفيان: نحن ولاة البيت نسقي الحجاج الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً} أي: حظاً من الكتاب وهم كعب بن الأشرف وأصحابه يؤمنون بالجبت والطاغوت إي الصنمين {ويقولون للذين كفروا} وهم أبو سفيان وأصحابه {هؤلاء} أي: أنتم {أهدى من الذين آمنوا} وهم محمد وأصحابه {سبيلاً} أي: أقوم ديناً وأرشد طريقاً. {أولئك الذين لعنهم الله} أي: طردهم وأبعدهم من رحمته {ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً} أي: مانعاً يمنع العذاب عنه بشفاعة أو غيرها. تنبيه: في {هؤلاء أهدى} همزتان من كلمتين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، قرأ نافع وابن كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء خالصة، والباقون بالتحقيق. {أم} منقطعة أي: بل {لهم نصيب} أي: حظ {من الملك} ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم شيء من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير لهم ولو كان لهم نصيب منه {فإذاً} أي: فيتسبب عن ذلك أنهم {لا يؤتون الناس} أي: واحداً منهم {نقيراً} ومرّ أنه النقرة في ظهر النواة، وهو مثل في القلة كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك إما ملك الدنيا وإما ملك الله كقوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} وهذا مبالغة في شحهم فإنهم بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا أذلاء منقادين ويصح أن يكون معنى الهمزة في أم لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك وإنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئاً. {أم} أي: بل {يحسدون الناس} أي: محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس الأوّلين والآخرين {على ما آتاهم الله من فضله} أي: من النبوّة والكتاب والنصرة والإعزاز وكثرة النساء أي: يتمنون زواله عنه ويقولون: لو كان نبياً لاشتغل عن النساء {فقد آتينا آل إبراهيم} وهو جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن آل إبراهيم موسى وداود وسليمان {الكتاب} أي: ما أنزل إليهم {والحكمة} أي: النبوّة {وآتيناهم ملكاً عظيماً} فلا يبعد أن يؤتيه الله تعالى مثل ما آتاهم فكان لداود تسع وتسعون امرأة وكان لسليمان ألف وثلاثمائة حرّة وسبعمائة سريّة. وقيل: المراد بالناس الناس جميعاً، وقيل: العرب. وحسدوهم لأنّ النبيّ الموعود منهم وقيل: النبيّ وأصحابه لأنّ من حسد على النبوّة فكأنما حسد الناس كلهم على كمالهم ورشدهم. {فمنهم} أي: اليهود {من آمن به} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه {ومنهم من صدّ} أي: أعرض {عنه} فلم يؤمن به {وكفى بجهنم سعيراً} أي: عذاباً لمن لم يؤمن وقوله تعالى: {إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم} أي: ندخلهم {ناراً} كالبيان والتقرير لذلك {كلما نضجت} أي: احترقت {جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى. روي أنّ هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال عمر للقارىء: أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ: عندي تفسيرها: يبدله الله تعالى في ساعة مائة مرّة قال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحسن: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرّة كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا فيعودون كما كانوا. فإن قيل: كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص؟ أجيب: بأن المعاد إنما هو الجلد الأوّل وإنما قال: جلوداً غيرها لتبدل صفتها كما تقول: صنعت من خاتمي خاتماً غيره فالخاتم الثاني هو الأوّل لا أنّ الصناعة والصفة تبدلت. روي أنّ ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع. وروي أنّ ضرسه أو نابه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث {ليذوقوا العذاب} أي: ليقاسوا شدّته، وقيل: يخلق مكان ذلك الجلد جلد آخر والمعذب في الحقيقة على كل حال هي النفس العاصية القائمة بالبدن؛ لأنها المدركة دونه {إنّ الله كان} ولم يزل {عزيزاً} أي: لا يعجزه شيء {حكيماً} في خلقه يعاقب على وفق حكمته. {والذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {وعملوا الصالحات سندخلهم} أي: بوعد لا خلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فيه، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف كما في الكافرين أنهم أقصر الأمم مدّة أو أنهم أقصرهم أعماراً راحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف {جنات} أي: بساتين ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال: {تجري من تحتها الأنهار} أي: إنّ أرضها في غاية الري كل موضع صالح لأن يجري منه نهر. ولما ذكر قيامها وما به دوامها أتبعه بما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال {خالدين فيها أبداً} وإنما قدّم تعالى ذكر الكفار ووعيدهم؛ على ذكر المؤمنين ووعدهم لأنّ الكلام فيهم وذكر المؤمنين بالعرض، ولما وصف تعالى حسن الدار ذكر حسن الجار فقال تعالى: {لهم فيها أزواج مطهرة} أي: من الحيض والقذر. فإن قيل: المطرد في وصف جمع القلة لمن يعقل أن يكون بالألف والتاء فيقال مطهرات، أجيب: بأنه عدل عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهنّ لشدّة الموافقة في الطهر كذات واحدة {وندخلهم} أي: فيها {ظلاً} عظيماً وأكده تعالى بقوله: {ظليلاً} أي: متصلاً لا فرج فيه منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما لا حرّ فيه ولا برد بل هو في غاية الاعتدال، وهو ظل الجنة، جعلنا الله تعالى ومن يحبنا ونحبه من أهلها السابقين مع النبيين والصدّيقين. وقوله تعالى: {إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} خطاب يعم المكلفين، والأمانات وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ليدخلها فأبى وقال: لو علمت أنه رسول لم أمنعه المفتاح فلوى عليّ رضي الله تعالى عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر ففعل ذلك وقال: هاك خالدة تالدة، فعجب من ذلك وقال عثمان: أكرهت وأذيت، ثم جئت ترفق؟ فقال: قد أنزل الله في شأنك قرآناً، وقرأ عليه فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة تكون في أولاد عثمان أبداً فلما مات عثمان دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أيديهم إلى اليوم وإلى يوم القيامة، فالآية، وإن وردت في سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة الجمع {وإذا حكمتم بين الناس} أي: قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم {أن تحكموا بالعدل} أي: بالسواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له فإنّ ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل» ، الحديث. وروي: «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذاباً إمام جائر» . ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله: {إنّ الله نعما} فيه إدغام ميم نعم في ما النكرة الموصوفة أي: نعم شيئاً {يعظكم به} وهو تأدية الأمانة والحكم بالعدل، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون، وكسرها الباقون، واختلس كسر العين قالون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وأبو عمرو وشعبة {إنّ الله كان} أي: ولم يزل ولا يزال {سميعاً} لكل ما يقال {بصيراً} بكلّ ما يفعل. {يأيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال: {أطيعوا الله} أي: فيما أمركم به {وأطيعوا الرسول} أي: فيما بينه لكم {و} أطيعوا {أولي} أي: أصحاب {الأمر} أي: الولاة {منكم} أي: إذا أمروكم بإطاعة الله ورسوله، وسواء كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بعده، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: «اتقوا الله وصلوا رحمكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» . وقيل: «المراد بأولي الأمر أبو بكر وعمر لقوله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وقال عطاء هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى: {والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان} (التوبة، 100) روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مثل أصحابي وأمّتي كالملح في الطعام ولا يصلح الطعام إلا بالملح» ، قال الحسن: فقد ذهب ملحنا فكيف نصلح وقيل: المراد علماء الشرع لقوله تعالى: {ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم} (النساء، 83) {فإن تنازعتم} أي: اختلفتم {في شيء فردوه إلى الله} أي: كتابه {والرسول} أي: مدّة حياته وبعد وفاته إلى سنته أي: اكشفوا عليه منهما والردّ إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما، فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد. وقيل: الرد إلى الله والرسول أن يقول لما لا يعلم: الله ورسوله أعلم {إن كنتم تؤمنون با واليوم الآخر} أي: فإن الإيمان يوجب هذا {ذلك} أي: من الردّ إليهما {خير} لكم من التنازع والقول بالرأي {وأحسن تأويلاً} أي: تأويلكم بلا رد أو عاقبة. {س4ش60/ش65 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْءَامَنُوا? بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُو?ا? إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُو?ا? أَن يَكْفُرُوا? بِهِ? وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَا? بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا? إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ? بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِ? إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُو?لَا??ـ?ِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى? أَنفُسِهِمْ قَوْ? بَلِيغًا * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِs لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ? وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُو?ا? أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا? اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا? اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * فَ وَرَبِّكَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجِدُوا? فِى? أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا? تَسْلِيمًا} {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم {بما أنزل إليك} أي: القرآن {وما أنزل من قبلك} أي: التوراة والإنجيل، قال الأصبهاني: ولا يستعمل أي: الزعم في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق يقال: زعم فلان كذا إذا شك فيه فلا يعرف كذبه أو صدقه {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} أي: الباطل المغرق في البطلان، وقيل: هو كعب بن الأشرف. روي عن ابن عباس أنّ بشراً المنافق خاصم يهودياً فقال اليهودي: ننطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: انطلق بنا إلى عمر رضي الله تعالى عنه فأتيا عمر فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم فقال لهما عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية، وقال جبريل عليه السلام: إنّ عمر فرق بين الحق والباطل فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنت الفاروق» . والطاغوت على هذا هو كعب بن الأشرف سمي بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 لفرط طغيانه أو لتشبيهه بالشيطان، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه {وقد} أي: والحال إنهم قد {أمروا} ممن له الأمر في كل ما أنزل إليك من كتاب ما قبله {أن يكفروا به} أي: بالشيطان فمتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين كافرين بالله وهو معنى قوله: {ويريد الشيطان} أي: بإرادتهم ذلك التحاكم إليه {أن يضلهم} أي: المتحاكم إليه {ضلالاً بعيداً} أي: بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى، ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {وإذا قيل لهم} أي: من أي قائل كان، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بالكسر وتقدّم ذكر الإدغام لأبي عمرو {تعالوا} أي: أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم {إلى ما أنزل الله} أي: الذي عنده كل شيء {وإلى الرسول} أي: الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع إنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة {رأيت المنافقين يصدون} أي: يعرضون {عنك} إلى غيرك وأكد ذلك بقوله: {صدوداً} أي: هو أعلى طبقات الصدود. {فكيف} يكون حالهم {إذا أصابتهم مصيبة} أي: عقوبة كقتل عمر رضي الله تعالى عنه المنافق {بما قدّمت أيديهم} أي: من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضا بحكمك من الكفر بغير ذلك أي: أيقدرون على الإعراض والفرار منها؟ لا وتم الكلام ههنا، وقوله تعالى: {ثم جاؤك} أي: حين يصابون للاعتذار معطوف على يصدون وما بينهما اعتراض {يحلفون با إن} أي: ما {أردنا} أي: بالمحاكمة إلى غيرك {إلا إحساناً} أي: صلحاً {وتوفيقاً} أي: تأليفاً بين الخصمين ولم نرد مخالفتك، وقيل: جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه بالتقريب في الحكم دون الحمل على مرّ الحق. {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} أي: من النفاق والبغض للإسلام وأهله وإن اجتهدوا في إخفائه وكذبهم في حلفهم وعذرهم {فأعرض عنهم} أي: عن عتابهم بالصفح؛ لأنهم أقل من أن يحسب لهم حساب {و} لكن {عظهم} أي: خوّفهم الله القادر على استئصالهم {وقل لهم في أنفسهم} أي: في شأنها أو خالياً بهم فإن النصح في السر أنجع {قولاً بليغاً} أي: مؤثراً فيهم أي: ازجرهم ليرجعوا عن كفرهم، وقيل: هذا منسوخ بآية القتال. ولما أمر الله تعالى بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذم من حاكم إلى غيره وهدده وختم تهديده بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه والوعظ له، فكان التقدير فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا للرفق بالأمّة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة عطف عليه قوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع} أي: فيما يأمر به ويحكم؛ لأن منصبه الشريف يقتضي ذلك {بإذن الله} أي: بإرادته من أنه يطاع فلا يعصي ولا يخالف {ولو أنهم إذ} أي: حين {ظلموا أنفسهم} أي: بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره {جاؤك} أي: تائبين {فاستغفروا الله} بالتوبة والإخلاص {واستغفر} أي: شفع {لهم الرسول} أي: اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعاً، وإنما عدل عن الخطاب تفخيماً لشأنه {لوجدوا الله توّاباً} عليهم {رحيماً} بهم، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام بخلاف عنه. {فلا وربك} أي: فوربك ولا مزيدة لتأكيد القسم {لا يؤمنون} أي: يوجدون هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الوصف ويجدونه {حتى يحكموك} أي: يجعلوك حكماً {فيما شجر} أي: اختلف واختلط {بينهم} من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجرة في التداخل والتضايق {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً} أي: نوعاً من الضيق {مما قضيت} به عليهم {ويسلموا تسليماً} أي: وينقادوا لك انقياداً بظواهرهم وبواطنهم، وفي الصحيح: إنّ الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار وقد شهد بدراً في شراج من الحرة كانا يستقيان بها النخل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله: أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك» وقيل: نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر. {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم} كما أمرنا بني إسرائيل، أو تعرّضوا بها للقتل بالجهاد، وإن مصدرية أو مفسرة؛ لأنّ (كتبنا) في معنى أمرنا، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر النون في الوصل، والباقون بالضم {أو اخرجوا من دياركم} أي: التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم توبة لربكم {ما فعلوه} أي: المكتوب عليهم أي: إنا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الله ورسوله والرضا بحكمه ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار ما كان يفعله {إلا قليل منهم} قال الحسن ومقاتل: لما نزلت هذه الآية، قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم القليل والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «إنّ من أمّتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» ، وقرأ ابن عامر قليلاً بالنصب على الاستثناء والباقون بالرفع على البدل {ولو أنهم} أي: هؤلاء المنافقين {فعلوا ما يوعظون به} من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم {لكان خيراً لهم} في عاجلهم وآجلهم مما اختاروه لأنفسهم {وأشدّ تثبيتاً} أي: تحقيقاً لإيمانهم. {وإذاً} أي: لو ثبتوا {لآتيناهم من لدنا} أي: من عندنا {أجراً عظيماً} وهو الجنة {ولهديناهم صراطاً مستقيماً} يصلون بسلوكه جنات القدس وتفتح لهم أبواب الغيب قال صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» رواه أبو نعيم في حليته. روي أنّ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف الحزن في وجهه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما غير لونك؟» فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً فأنزل الله تعالى {ومن يطع الله} في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره {والرسول} أي: في كل ما أراده فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك لا سيما من بلغ نهايتها {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} أي: معدود من حزبهم، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليهم بسهولة، وقوله تعالى: {من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين} بيان للذين حال منه أو من ضميره، قسمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم والعمل وحث كافة الناس على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أن لا يتأخروا عنهم، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حدّ الكمال إلى درجة التكميل، ثم الصدّيقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليه، ثم الشهداء الذين أدّى بهم الحرص على الطاعة والجدّ في إظهار الحق حتى بذلوا مهجتهم في إعلاء كلمة الله تعالى، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته {وحسن} أي: وما أحسن {أولئك} أي: العالون الأخلاق السابقون {رفيقاً} من الرفق وهو لين الجانب ولطافة الفعل، وهو مما يستوي واحده وجمعه أي: رفيقاً في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم ورؤيا ربهم والحضور معهم وإن كان مقرّهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم. روي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله الرجل يحب قوماً ولم يلحق بهم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب» . وروي أيضاً أن رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» فلم يذكر كثيراً إلا أنه يحب الله ورسوله قال: «فأنت مع من أحببت» وقوله تعالى: {ذلك} أي: كونهم مع من ذكر مبتدأ خبره {الفضل من الله} أي: تفضل به عليهم لا إنهم نالوه بطاعتهم {وكفى با عليماً} أي: بجزاء من أطاعه أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله. روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاربوا وسدّدوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» . {يأيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {خذوا حذركم} من عدوّكم أي: احترزوا منه، وتيقظوا له والحذر الحذر كالأثر الأثر {فانفروا} أي: اخرجوا إلى قتاله مسرعين {ثبات} أي: جماعات متفرّقين سرية في أثر سرية جمع ثبة، وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة {أو انفروا جميعاً} أي: مجتمعين كوكبة واحدة، قال البيضاوي: والآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات. {وإنّ منكم} الخطاب لعسكر النبيّ صلى الله عليه وسلم المؤمنين منهم والمنافقين {لمن ليبطئن} أي: ليتأخرن وليتثاقلن عن القتال وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه، وإنما قال منكم لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار الإسلام لا في حقيقة الإيمان {فإن أصابتكم مصيبة} كقتل وهزيمة {قال} هذا المتبطىء جهلاً منه وغلظة {قد أنعم الله عليّ إذ} أي: حين {لم أكن معهم شهيداً} أي: حاضراً فأصاب. {ولئن} لام قسم {أصابكم فضل} أي: فتح وظفر وغنيمة {من الله} الذي كل شيء بيده {ليقولنّ} نادماً على ما فاته من الأغراض الدنيوية، وأكده تنبيهاً على فرط تحسره وقوله تعالى: {كأن} مخففة واسمها محذوف أي: كأنه {لم تكن بينكم وبينه مودّة} أي: معرفة وصداقة رجع إلى قوله: {قد أنعم الله عليّ} اعتراض بين القول ومقوله وهو {يا} للتنبيه {ليتني كنت معهم فأفوز} أي: بمشاركتهم في ذلك {فوزاً عظيماً} أي: آخذ حظاً وافراً من الغنيمة، وقرأ ابن كثير وحفص بالتاء في تكن على التأنيث والباقون بالياء على التذكير، ولما بين أن محط رحال القاعد عن الجهاد الدنيا علم أن قصد المجاهد الآخرة فقال تعالى: {فليقاتل في سبيل الله} أي: لإعلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 دينه {الذين يشرون} أي: يبيعون برغبة {الحياة الدنيا بالآخرة} وهم المؤمنون، والمعنى: إن تباطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المجاهدون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة ويشرون أي: يأخذون وهم المتباطئون فيختارونها على الآخرة، والمعنى: حثهم على ترك ما حكي عنهم، وفي هذا استعمال للمشترك في مدلوليه {ومن يقاتل في سبيل الله} لإعلاء دينه {فيقتل} أي: يستشهد {أو يغلب} أي: يظفر بعدوّه {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} أي: ثواباً جزيلاً، وإنما وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب ترغيباً في القتال وتكذيباً لقول المتبطىء {قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً} وإنما قال: فيقتل أو يغلب تنبيهاً على أنّ المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعدّ نفسه بالشهادة أو الدين بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل بل إلى إعلاء كلمة الحق وإظهار الدين. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجعه الله إلى أهله إنما يرجعه من غنيمة وأجر أو يتوفاه فيدخله الجنة» وقوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون} استفهام توبيخ أي: لا مانع لكم من القتال {في سبيل الله} لإعلاء دينه وقوله تعالى: {والمستضعفين} عطف على إسم الله أي: وفي سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدوّ وقوله تعالى: {من الرجال والنساء والولدان} بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم قال ابن عباس: كنت أنا وأمي منهم وإنما ذكر الوالدان مبالغة في الحث وتنبيهاً على تناهي المشركين بحيث بلغ أذاهم الولدان وإن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية. وقيل: المراد بهم العبيد والإماء وهم جمع وليد {الذين يقولون} أي: داعين يا {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} أي: بالكفر {واجعل لنا من لدنك} أي: من عندك {ولياً} يتولى أمرنا {واجعل لنا من لدنك نصيراً} يمنعنا منهم وقد استجاب الله تعالى دعاءهم فيسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة له صلى الله عليه وسلم فتولاهم ونصرهم، ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، وكان حينئذ ابن ثمان عشرة سنة، والقرية مكة، والظالم صفتها، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه، فإن إسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه. {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله} أي: في طاعته الله {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} أي: في طاعة الشيطان {فقاتلوا} أيها المؤمنون {أولياء الشيطان} أي: حزبه وجنوده وهم الكفار {إن كيد الشيطان} أي: مكره بالمؤمنين {كان ضعيفاً} بالإضافة إلى كيد الله تعالى بالكافرين لا يعتدّ به، فلا تخافوا أولياءه فإن اعتمادهم على أضعف شيء أوهنه كما فعل الشيطان يوم بدر لما رأى الملائكة خاف أن تأخذه فهرب وخذلهم. {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} أي: عن قتال الكفار، وهم جماعة من الصحابة كانوا يلقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 من المشركين أذى كثيراً قبل أن يهاجروا ويقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفوا أيديكم فإني لم أؤمر بقتالهم» {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} . فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم كما قال تعالى: {فلما كتب} أي: فرض {عليهم القتال} قرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم في الوصل، وأمّا الوقف فالجميع يسكنون الميم، وحمزة بضم الهاء على أصله، وكسرها الباقون {إذا فريق منهم يخشون} أي: يخافون {الناس كخشية الله} أي: كخشيتهم من الله {أو أشدّ خشية} من خشيتهم له. تنبيه: نصب أشدّ على الحال، وجواب لما دل عليه إذا وما بعدها أي: فاجاءتهم الخشية {وقالوا} جزعاً من الموت {ربنا لم كتبت علينا القتال لولا} أي: هلا {أخرتنا إلى أجل قريب} وهو الموت أي: هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك فقيل: قاله قوم من المنافقين؛ لأن قوله: {لم كتبت علينا القتال} لا يليق بالمؤمنين؟ وقيل: قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفاً وجبناً لا اعتقاداً، ثم تابوا، وأهل الإيمان يتفاضلون فيه، وقيل: هم قوم كانوا مؤمنين فلما كتب عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلفوا عن الجهاد، وقرأ البزي في الوقف (لمه) بهاء بعد الميم بخلف عنه، والباقون بالميم بغير هاء والهاء ساقطة في الوصل للجميع {قل} لهم يا محمد {متاع الدنيا} أي: ما يتمتع به فيها والاستمتاع بها {قليل} أي: آيل إلى الزوال {والآخرة} أي: ثوابها وهو الجنة والنظر إلى الله تعالى {خير لمن اتقى} عقاب الله بترك معاصيه. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» {ولا تظلمون} أي: تنقصون من أعمالكم {فتيلاً} أي: قدر ما يكون في شق النواة كما مرّ عن عكرمة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب، ونزل في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} (آل عمران، 156) . {أينما تكونوا} أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم {يدرككم الموت} أي: فإنه طالب لا يفوته هارب. واختلف كتاب المصاحف في رسم أينما هنا فمنهم من كتب ما مقطوعة من أين ومنهم من وصلها {ولو كنتم في بروج} أي: حصون برج داخل برج أو كل واحد منكم داخل برج {مشيدة} أي: مرتفعة كل واحد منها شاهق في الهواء منيع فلا تخشوا القتال خوف الموت. ونزل في اليهود لما قالوا حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه {وإن تصبهم} أي: اليهود {حسنة} أي: خصب ورخص في السعر {يقولون هذه من عند الله} لنا لا مدخل لك فيها {وإن تصبهم سيئة} أي: جدب وغلاء في الأسعار {يقولون هذه من عندك} أي: من شؤم محمد وأصحابه وقيل: المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، والسيئة القتل والهزيمة يوم أحد، يقولون: هذه من عندك أي: أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا يكون هذا قول المنافقين {قل} لهم يا محمد {كل} أي: الحسنة والسيئة {من عند الله} ثم عيرهم بالجهل فقال: {فما لهؤلاء القوم} أي: اليهود أو المنافقين {لا يكادون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 يفقهون} أي: لا يقاربون أن يفهموا {حديثاً} يوعظون به وهو القرآن؛ لأنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أنّ الكل من عند الله، أو حديثاً ما يلقى إليهم كبهائم لا أفهام لهم، وما استفهام تعجب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه. {ما أصابك} أي: أيها الإنسان {من حسنة} أي: نعمة دنيوية أو أخروية {فمن الله} أتتك تفضلاً منه والإيمان أحسن المحسنات، قال الإمام: إنهم اتفقوا على أنّ قوله: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} (فصلت، 33) المراد به كلمة الشهادة {وما أصابك من سيئة} أي: بلية وأمر تكرهه {فمن نفسك} أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {قل كل من عند الله} وبين قوله {فمن نفسك} ؟ أجيب: بأنّ قوله: {قل كل من عند الله} أي: الخصب والجذب والنصر والهزيمة كلها من عند الله وقوله: {فمن نفسك} أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى، 30) ، وقيل: إنّ هذه الآية متصلة بما قبلها، والقول فيه مضمر تقديره: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً يقولون: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله} {وأرسلناك} يا محمد {للناس} أي: كافة وقوله تعالى: {رسولاً} حال قصد بها التأكيد {وكفى با شهيداً} على إرسالك بنصب المعجزات، ولما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله» فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن تتخذوه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم» نزل. {من يطع الرسول فقد أطاع الله} لأنه في الحقيقة مبلغ والآمر هو الله تعالى {ومن تولى} أي: أعرض عن طاعتك فلا يهمنك {فما أرسلناك} يا محمد {عليهم حفيظاً} أي: حافظاً لأعمالهم وتحاسبهم عليها إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فنجازيهم، وهذا قبل الأمر بالقتال. {ويقولون} أي: المنافقون إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك {طاعة} أي: أمرنا وشأننا طاعة أي: نطيعك فيما تأمرنا به {فإذا برزوا} أي: خرجوا {من عندك بيت طائفة منهم} أي: أضمرت {غير الذي تقول} لك في حضورك من الطاعة أي: عصتك، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الطاء فإنها عندهما ساكنة أي: التاء فإذا سكنت التاء قبل الطاء وجب إدغامها فيها، والباقون بالإظهار فإن التاء عندهم مفتوحة {وا يكتب} أي: يأمر بكتب {ما يبيتون} أي: ما يسرون من النفاق في صحائفهم ليجازوا عليها {فأعرض عنهم} أي: قلل المبالاة بهم {وتوكل على الله} أي: ثق به فإنه كافيك معرتهم وينتقم لك منهم {وكفى با وكيلاً} أي: مفوّضاً إليه. {أفلا يتدبرون} أي: يتأمّلون {القرآن} وما فيه من المعاني البديعة {ولو كان من عند غير الله} أي: ولو كان من كلام البشر كما زعم الكفار {لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} أي: تناقضاً في معانيه وتبايناً في نظمه، فكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل وتخلفاً عن الصدق في الإخبار عن الغيب بما كان وما يكون، أفلا يتفكرون فيه؟ فيعرفون عدم التناقض فيه وصدق ما يخبرهم به إنه كلام الله ولأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف، والمراد من التقييد بالكثير المبالغة في إثبات الملازمة أي: لو كان من عند غير الله للزم أن يكون فيه اختلاف كثير فضلاً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 القليل لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل. {وإذا جاءهم} أي: المنافقين {أمر} أي: خبر عن سرايا النبيّ صلى الله عليه وسلم {من الأمن} أي: الغنيمة {أو الخوف} أي: القتل والهزيمة {أذاعوا به} أي: أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة، والباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدّث، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم فيفشونه ويتحدّثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين ويتأذى النبيّ صلى الله عليه وسلم {ولو ردّوه} أي: ذلك الخبر {إلى الرسول} أي: لم يحدثوا به حتى يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به {وإلى أولي الأمر منهم} أي: ذوي الرأي من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم {لعلمه} على أي: وجه يذكر أي: {الذين يستنبطونه منهم} أي: يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم هل ينبغي أن يكتم أو يفشى {ولولا فضل الله عليكم} بالإسلام {ورحمته} لكم بإرسال الرسل وإنزال القرآن {لاتبعتم الشيطان} فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي {إلا قليلاً} أي: منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله بما وهبهم الله من صحيح العقل، والعصمة تقال في حق غير الأنبياء أيضاً؛ لأنها المنع من المعصية ولكن الشائع أن يقال في حق النبيّ معصوم، وفي حق غيره محفوظ. {فقاتل} يا محمد {في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} فلا تهتم بتخلفهم عنك أي: قاتل ولو وحدك فإنك موعود بالنصر من الله وليس النصر إلا بيده وما كان ليأمرك بشيء إلا وأنت كفؤ، فأنت كفؤ لمقاتلة الكفار وإن كانوا أهل الأرض كلهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد ودعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية. تنبيه: الفاء في قوله تعالى: {فقاتل في سبيل الله} قال البغوي: جواب عن قوله تعالى: {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} فتأمّل انتهى.. {وحرّض المؤمنين} أي: حثهم على القتال ورغبهم فيه إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض {عسى الله أن يكف بأس} أي: حرب {الذين كفروا} وعسى في كلام الله وعد واجب الوقوع بخلافها في كلام المخلوق {وا أشدّ بأساً} أي: صولة منهم {وأشدّ تنكيلاً} أي: عقوبة منهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» فخرج بسبعين راكباً إلى بدر الصغرى فكف الله بأس الذين كفروا بإلقاء الرعب في قلوبهم ومنع أبا سفيان من الخروج كما تقدّم في ورة آل عمران. {من يشفع شفاعة حسنة} راعى بها حق مسلم بأن دفع عنه بها ضرراً أو جلب إليه نفعاً ابتغاء وجه الله، ومنها الدعاء للمسلم قال صلى الله عليه وسلم «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك: ولك مثله» أي: مثل ذلك أي: ودعاء الملك لا يردّ {يكن له نصيب} أي: أجر {منها} أي: بسببها قال أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ جاءه رجل يسأل أو يطلب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال: اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء» {ومن يشفع شفاعة سيئة} مخالفة للشرع {يكن له كفل} أي: نصيب من الوزر {منها} أي: بسببها {وكان الله على كل شيء مقيتاً} قال ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 عباس مقتدراً مجازياً قال الشاعر: وذي ضغن (أي: رب صاحب حقد) كففت الضغن عنه وكنت على إساءته (أي: إساءتي لذي الضغن) مقيتاً أي: مقتدراً وقال مجاهد: شاهداً وقال قتادة: حفيظاً، وقيل: معناه على كل حيوان مقيتاً أي: يوصل القوت إليه، وجاء في الحديث: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» . {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} التحية هي دعاء الحياة، ولكن جمهور المفسرين على أن ذلك في السلام أي: إذا سلم عليكم مسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم فإذا قال: السلام عليكم، فيزيد الرادّ: ورحمة الله، فإذا قال: ورحمة الله، فيزيد الرادّ: وبركاته {أو ردّوها} أي: بأن تردّ عليه بمثل ما سلم. روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك فقال: «وعليك السلام ورحمة الله» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله فقال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال: «وعليك أي: السلام ورحمة الله وبركاته فقال الرجل: نقصتني أي: الفضل على سلامي، فأين ما قال الله أي: من الفضل؟ وتلا الآية فقال: «لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله» لأنّ ذلك هو النهاية لاستجماعه أقسام المطالب وهي السلامة من المضار وحصول المنافع وثبوتها، وظاهر الآية إنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به إنه لا يكفي، وظاهر كلام الفقهاء إنه يكفي، وتحمل الآية على أنه الأكمل وابتداء السلام على المسلم سنة عين من المنفرد وكفاية من الجماعة، وردّه فرض عين إذا كان المسلم عليه واحداً، وكفاية من الجماعة، ويشترط في الردّ الفور، والجوب مستفاد من الأمر، والفور من الفاء، وأمّا كونه كفاية فلخبر أبي داود «يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم» والراد منهم هو المختص بالثواب ويسقط الحرج عن الباقين، وإن أجابوا كلهم كانوا مؤدّين للفرض سواء أكانوا مجتمعين أم متفرّقين كصلاة الجنازة، ولا يسقط الفرض بردّ الصبيّ المميز. فإن قيل: قد سقط به فرض الصلاة عن الجنازة، أجيب: بأن المقصود من الصلاة الدعاء والصبيّ أقرب إلى الإجابة والمقصود من السلام الأمان والصبيّ ليس من أهله، ولا يسقط أيضاً بردّ من لم يسمع، ولو سلم على امرأة إن كان يباح له النظر إليها كمحرمة وزوجته يسنّ له السلام عليها، ووجب عليها الردّ وإلا كره له ابتداء وردّاً وحرم عليها ابتداء وردّ هذا إذا كانت مشتهاة، فإن كانت عجوزاً أو جماعة نسوة لم يكره، ويجب الردّ لانتفاء خوف الفتنة، ولا يسنّ ابتداؤه على قاضي حاجة ولا على آكل ولا على من في حمام ولا على مصلّ ومؤذن وخطيب وملب ومستغرق القلب بالدعاء، ولا يجب الجواب عليهم، ويحرم ابتداؤه على الكافر، ويرد عليه إذا سلم بعليك فقط، وهذا باب طويل قد بينته السنة وقد أكثرت منه في شرح المنهاج {إنّ الله كان} أي: أزلاً وأبداً {على كل شيء حسيباً} أي: محاسباً فيجازي عليه، وقال مجاهد: حفيظاً، وقال أبو عبيدة: كافياً، يقال: حسبي هذا أي: كفاني وقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو} مبتدأ وخبر وقوله تعالى: {ليجمعنكم} اللام لام القسم أي: والله ليجمعنكم الله من قبوركم {إلى} في {يوم القيامة} وسميت بذلك؛ لأنّ الناس يقومون من قبورهم قال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 سراعاً} (المعارج، 43) وقيل: لقيامهم إلى الحساب قال تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} (المطففين، 6) {لا ريب} أي: لا شك {فيه} أي: في ذلك اليوم أو في الجمع {ومن أصدق من الله حديثاً} أي: قولاً. فإن قيل: الصدق لا يتفاوت كالعلم إذ لا يقال: هذا الصدق أصدق من هذا الصدق كما لا يقال: هذا العلم أعلم من هذا المعلم، أجيب: بأنّ الصدق صفة للقائل لا صفة للحديث أي: لا أحد غير الله أصدق منه؛ لأنّ غيره يتطرّق إلى خبره الكذب، وذلك مستحيل في حقه تعالى، والأنبياء مخبرون عن الله تعالى، وقرأ حمزة والكسائيّ بإشمام الصاد أي: بحرف متولد بين الصاد والزاي {فما لكم} أي: فما شأنكم صرتم {في المنافقين} أي: في أمرهم {فئتين} أي: فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم وذلك أن ناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا المشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم، وقال مجاهد: هم قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا، ثم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة، واختلف المسلمون فيهم فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، وقال قوم: في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين، فلما رجعوا قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلهم فإنهم منافقون، وقال بعضهم: اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام. {وا أركسهم} أي: نكسهم بأن صيرهم إلى النار أو ردّهم إلى حكم الكفرة {بما كسبوا} من الكفر والمعاصي {أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله} أي: أتعدّونهم من جملة المهتدين والاستفهام في الموضعين للإنكار {ومن يضلل الله} أي: ومن يضله الله {فلن تجد له سبيلاً} أي: طريقاً إلى الهدى. {ودّوا} أي: تمنوا {لو تكفرون كما كفروا فتكونون} أنتم وهم {سواء} في الكفر. تنبيه: قوله تعالى: {فتكونون} لم يرد به جواب التمني؛ لأنّ جوابه بالفاء منصوب وإنما أراد النسق أي: ودّوا لو تكفرون وودّوا لو تكونون سواء مثل قوله: {ودّوا لو تدهن فيدهنون} (القلم، 9) أي: ودّوا لو تدهن وودّوا لو يدهنون {فلا تتخذوا منهم أولياء} أي: فلا توالوهم وإن أظهروا الإيمان {حتى يهاجروا في سبيل الله} معكم هجرة صحيحة تحقق إيمانهم، قال عكرمة: هي هجرة أخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه: هجرة المؤمنين في أوّل الإسلام وهي قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين} وقوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله} (النساء، 100) ونحوهما من الآيات، وهجرة المنافقين وهي خروج الشخص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً محتسباً لا لأغراض الدنيا وهي المرادة ههنا، وهجرة عن جميع المعاصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» {فإن تولوا} أي: أعرضوا عن التوحيد والهجرة وأقاموا على ما هم عليه {فخذوهم} أي: بالأسر {واقتلوهم حيث وجدتموهم} أي: في حلّ أو في حرم كسائر الكفرة {ولا تتخذوا منهم ولياً} توالونه {ولا نصيراً} تنتصرون به على عدوّكم أي: بل جانبوهم مجانبة كلية، وقوله تعالى: {إلا الذين يصلون} استثناء من قوله: {فخذوهم واقتلوهم} أي: إلا الذين يصلون أي: ينتهون {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي: عهد بالأمان لهم ولمن وصل إليهم كما عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وقت خروجه إلى مكة هلال بن عمير الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل ما له، وقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 {أو جاؤكم} عطف على الصلة أي: أو الذين جاؤوكم، وقوله تعالى: {حصرت} أي: ضاقت حال بإضمار قد أي: وقد ضاقت {صدورهم أن يقاتلوكم} أي: عن قتالكم مع قومهم {أو يقاتلوا قومهم} معكم أي: ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا تتعرّضوا لهم بأخذ ولا قتل، وهذا وما بعده منسوخ بآية القتال. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار تاء تأنيث حصرت عند الصاد وأدغمها الباقون {ولو شاء الله} تسليطهم عليكم {لسلطهم عليكم} بأن يقوّي قلوبهم ويبسط صدورهم ويزيل الرعب {فلقاتلوكم} ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم} أي: بأن لم يتعرّضوا لكم {وألقوا إليكم السلم} أي: الاستسلام والانقياد {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} أي: طريقاً بالأخذ أو القتل. {ستجدون} أي: عن قريب بوعد لا شك فيه {آخرين} أي: من المنافقين. روي عن ابن عباس أنه قال: هم أسد وغطفان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت؟ فيقول: آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء، وإذا لقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين كما قال تعالى: {يريدون أن يأمنوكم} بإظهار الإيمان عندكم {ويأمنوا قومهم} بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم {كلما ردّوا} أي: دعوا {إلى الفتنة} أي: الكفر {اركسوا} أي: انقلبوا منكوسين {فيها} أي: الفتنة أقبح قلب {فإن لم يعزلوكم} أي: بترك قتالكم {ويلقوا} أي: ولم يلقوا {إليكم السلم ويكفوا} أي: ولم يكفوا {أيديهم} عن قتالكم {فخذوهم} أي: بالأسر {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي: وجدتموهم {وأولئكم} أي: أهل هذه الصفة {جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} أي: حجة واضحة في التعرّض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم. {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً} أي: ما ينبغي أن يصدر منه قتل له بغير حق {إلا خطأ} أي: مخطئاً في قتله من غير قصد، نزلت في عياش بن ربيعة، وذلك إنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وأسلم ثم خاف أن يظهر الإسلام لأهله فخرج هارباً إلى المدينة وتحصن في أطم من آطامها فجزعت أمّه لذلك جزعاً شديداً وقالت لإبنيها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخواه لأمّه: والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتيا به، فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد حتى أتوا المدينة فأتوا عياشاً وهو في الأطم وقالوا له: انزل فإنّ أمّك لم يأوها سقف بيت بعدك وقد حلفت أن لا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها ولك والله علينا عهد أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له ذلك أي: جزع أمّه وأوثقوا بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه وجلده كل واحد منهم مئة جلدة ثم قدموا به إلى أمّه فلما أتاها قالت له: والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه موثوقاً مطروحاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال: يا عياش أهذا الذي أنت عليه؟ فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال: والله لا ألقاك خالياً أبداً إلا قتلتك، ثم إنّ عياشاً بعد ذلك أسلم وهاجر، ثم أسلم الحارث بن زيد بعده، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضراً يومئذٍ ولم يشعر بإسلامه فبينما عياش بظهر قباء إذ لقي الحارث، فقتله، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الناس: ويحك أي شيء صنعت إنه قد أسلم فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلنه فنزلت الآية. تنبيه: قوله تعالى: {إلا خطأ} إمّا منصوب على الحال أي: وليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً في حالة من الأحوال إلا حال الخطأ، وإما مفعول لأجله أي: لا يقتله لعلة إلا للخطأ، وقيل: إلا بمعنى ولا، أي: ليس له قتله في حال من الأحوال ولا خطأ نظير قوله تعالى: {إني لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم} (النمل، 10 ـ 11) وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة إلا الذين ظلموا منهم} (النساء، 165) {ومن قتل مؤمناً خطأً} كأن قصد رمي غيره كصيد أو شجر فأصابه {فتحرير رقبة} أي: فعليه أي: فواجبه تحرير رقبة كاملة الرق فلا يجزىء مكاتب كتابة صحيحة ولا أم ولد والتحرير الإعتاق ويعبر عن النسمة بالرقبة كما يعبر عنها بالرأس {مؤمنة} أي: محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة ولو كان إسلامها بتبعية الدار أو السابي سليمة عما يخلّ بالعمل {ودية مسلمة} أي: مؤدّاة {إلى أهله} أي: ورثة المقتول يقتسمونها كسائر المواريث {إلا أن يصدّقوا} أي: يتصدّقوا بها عليه بأن يعفوا عنها، وسمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله، قال صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة» . وبينت السنة أنّ ديّة الخطأ مئة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة، وإن عاقلة القاتل تتحملها عنه وهم عصبيته لا أصله وفرعه موزعة عليهم على ثلاث سنين على الغني منهم نصف دينار والمتوسط ربع دينار كل سنة فإن لم يفوا فمن بيت المال، فإن تعذر فعلى الجاني {فإن كان} أي: المقتول: {من قوم عدوّ لكم} أي: محاربين {وهو} أي: والحال أنه {مؤمن} أي: ولم يعلم القاتل إيمانه {فتحرير} أي: فالواجب على القاتل تحرير {رقبة مؤمنة} ولا دية تسلم إلى أهله إذ لا وراثة بينه وبينهم؛ لأنهم محاربون {وإن كان} أي: المقتول {من قوم} أي: كفرة أيضاً عدوّ لكم {بينكم وبينهم ميثاق} أي: عهد كأهل الذمّة وهو كافر مثلهم {فدية} أي: فالواجب فيه دية {مسلمة} أي: مؤدّاة {إلى أهله} وهي ثلث دية المؤمن إن كان نصرانياً أو يهودياً تحل مناكحته، وثلثا عشرها إن كان مجوسياً أو كتابياً لا تحلّ مناكحته {وتحرير رقبة مؤمنة} على قاتله {فمن لم يجد} أي: الرقبة بأن فقدها وما يحصلها به {فصيام} أى: فالواجب عليه صيام {شهرين متتابعين} حتى لو أفطر يوماً واحداً لغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، ولم يذكر تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه في أصح قوليه وقوله تعالى: {توبة من الله} نصب على المصدر أي: وتاب عليكم توبة، أو على المفعول له أي: وشرع لكم ذلك توبة مأخوذة من تاب الله عليه إذا قبل توبته {وكان الله} أي: ولم يزل {عليماً} أي: بأحوالكم وبما يصلحكم في الدنيا والآخرة {حكيماً} فيما دبره لكم من نصب الزواجر بالكفارات أو غيرها فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة. {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} بأن يقصد قتله بما يقتل غالباً عالماً بإيمانه {فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه} أي: أبعده من رحمته {وأعدّ له عذاباً عظيماً} في النار وهذا مخصوص بالمستحلّ له كما قاله عكرمة وغيره، ويؤيده أنّ الآية نزلت في نفيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدّاً والمراد من الآية التغليظ كقوله تعالى: {وعلى الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين} (آل عمران، 97) تفسير من كفر بمن لم يحج، وكقوله صلى الله عليه وسلم للمقداد: «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن تقول الكلمة التي قال» أو إنّ هذا جزاؤه إن جوزي ولا بدع في خلف الوعيد لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء، 48) أو المراد بالخلود المكث الطويل فإنّ الدلائل متظاهرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم ولهذا لم يذكر في الآية أبداً، وما روي عن ابن عباس أنه قال: «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً» كما رواه الشيخان أراد به التشديد كما قاله البيضاويّ إذ روي عنه خلافه رواه البيهقي في سننه، وبينت آية البقرة إن قاتل العمد يقتل به وإنّ عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدرها وبينت السنة أنّ بين العمد والخطأ قتلاً يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالباً، فلا قصاص فيه بل فيه دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو أي: العمد أولى بالكفارة من الخطأ. {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم} أي: سافرتم للجهاد {في سبيل الله فتبينوا} . روي أنّ سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي رجل يقال له: مرداس، لأنه كان على دين المسلمين فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فلما سمع التكبير علم إنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر ونزل وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه فنزلت، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قتلتموه إرادة ما معه» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أسامة بن زيد فقال: يا رسول الله استغفر لي فقال: «وكيف بلا إله إلا الله؟» قال أسامة: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرّرها عليّ حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ، ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي ثلاث مرّات وقال: أعتق رقبة» ، وقال عكرمة عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم قالوا: ما سلم عليكم إلا ليعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة وبالباء الموحدة مكان الياء المثناة تحت وبالتاء المثناة فوق مكان النون فهو من التثبت والباقون من البيان {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} أي: لمن حياكم بتحية الإسلام، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة بغير ألف بعد اللام من السلام أي: الاستسلام والانقياد والباقون بالألف {لست مؤمناً} وإنما فعلت ذلك متعوّذاً {تبتغون عرض الحياة الدنيا} أي: تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاد {فعند الله مغانم كثيرة} تغنيكم عن قتل مثله لماله {كذلك كنتم من قبل} أي: أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمة الشهادة فحصنتم بها أموالكم ودماءكم من غير أن تعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 مواطأة قلوبكم ألسنتكم {فمنّ الله عليكم} أي: بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين {فتبينوا} أي: وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً إنهم دخلوا اتقاءً وخوفاً، فإن بقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرىء مسلم، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر بالتبيين وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم {إنّ الله كان} ولم يزل {بما تعملون خبيراً} أي: عالماً به وبالغرض منه فيجازيكم به فلا تتساهلوا في القتل واحتاطوا فيه. {لا يستوي القاعدون} أي: عن الجهاد حال كونهم {من المؤمنين} روي أن زيد بن ثابت أخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله، فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي أي: تكسر ثم سرّي عنه أي: أزيل وكشف ما به من برحاء الوحي {غير أولى الضرر} أي: من زمانة أو عمى أو نحوه فقال: اكتب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائيّ بنصب الراء على الحال من القاعدين أو الاستثناء، والباقون بالرفع صفة للقاعدين؛ لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم بل أراد به الجنس كما في قوله: *ولقد أمر على اللئيم يسبني* فصح جعل غير صفة للقاعدين {والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة. تنبيه: فائدة ذكر قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون} إلخ.. تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته واتقاء عن انحطاط منزلته. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال: «إنّ في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه» قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة قال: «نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} لضرر {درجة} أي: فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهد بالمباشرة {وكلاً} من القاعدين لضرر والمجاهدين {وعد الله الحسنى} أي: الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب {وفضل الله المجاهدين على القاعدين} لغير ضرر {أجراً عظيماً} ويبدل منه. {درجات منه} أي: منازل بعضها فوق بعض من الكرامة، وقوله تعالى: {ومغفرة ورحمة} منصوبان بفعلهما المقدر {وكان الله} أي: ولم يزل {غفوراً} لأوليائه {رحيماً} بأهل طاعته. وروى أبو سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا سعيد من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة» قال: فعجب بها أبو سعيد فقال: أعدها يا رسول الله ففعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» فقال: وما هي يا رسول الله قال: «الجهاد في سبيل الله» وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» قالوا: يا رسول الله أفلا ننذر الناس بذلك؟ فقال: «إنّ في الجنة مئة درجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أعدّها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتموه فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» وإنما يجب الجهاد على كل مسلم مكلف حرّ ذكر مستطيع له وهو فرض كفاية للآية المتقدّمة إذا كان الكفار ببلادهم ويجب على الإمام أن يغزوهم في كل عام مرّة بنفسه أو بنائبه أو بشحن الثغور بما يقاوم العدوّ، وأمّا إذا دخلوا بلادنا والعياذ بالله تعالى تعين على أهل البلدة وعلى من دون مسافة القصر حتى على فقير وولد ومدين ورقيق بلا إذن، ويجب على من هو في مسافة القصر بقدر الكفاية وإن أسروا مسلماً لزمنا النهوض لخلاصه إن رجى وإن لم يدخلوا بلادنا. *ولقد أمر على اللئيم يسبني* فصح جعل غير صفة للقاعدين {والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة. تنبيه: فائدة ذكر قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون} إلخ.. تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته واتقاء عن انحطاط منزلته. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال: «إنّ في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه» قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة قال: «نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} لضرر {درجة} أي: فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهد بالمباشرة {وكلاً} من القاعدين لضرر والمجاهدين {وعد الله الحسنى} أي: الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب {وفضل الله المجاهدين على القاعدين} لغير ضرر {أجراً عظيماً} ويبدل منه. {درجات منه} أي: منازل بعضها فوق بعض من الكرامة، وقوله تعالى: {ومغفرة ورحمة} منصوبان بفعلهما المقدر {وكان الله} أي: ولم يزل {غفوراً} لأوليائه {رحيماً} بأهل طاعته. وروى أبو سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا سعيد من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة» قال: فعجب بها أبو سعيد فقال: أعدها يا رسول الله ففعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» فقال: وما هي يا رسول الله قال: «الجهاد في سبيل الله» وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» قالوا: يا رسول الله أفلا ننذر الناس بذلك؟ فقال: «إنّ في الجنة مئة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتموه فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» وإنما يجب الجهاد على كل مسلم مكلف حرّ ذكر مستطيع له وهو فرض كفاية للآية المتقدّمة إذا كان الكفار ببلادهم ويجب على الإمام أن يغزوهم في كل عام مرّة بنفسه أو بنائبه أو بشحن الثغور بما يقاوم العدوّ، وأمّا إذا دخلوا بلادنا والعياذ بالله تعالى تعين على أهل البلدة وعلى من دون مسافة القصر حتى على فقير وولد ومدين ورقيق بلا إذن، ويجب على من هو في مسافة القصر بقدر الكفاية وإن أسروا مسلماً لزمنا النهوض لخلاصه إن رجى وإن لم يدخلوا بلادنا. ونزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا فلما خرجوا إلى بدر رجعوا معهم فقتلوا مع الكفار. {إنّ الذين توفّاهم الملائكة} أي: ملك الموت وأعوانه أو ملك الموت وحده كما قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة، 11) والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع {ظالمي أنفسهم} أي: في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة بالمقام في دار الشرك فإنّ الهجرة كانت واجبة قبل فتح مكة ثم نسخ الوجوب بعد فتحها فقال صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح» وقرأ البزيّ بتشديد التاء المثناة فوق من توفاهم في الوصل، والباقون بالتخفيف، وأدغم أبو عمرو التاء في الظاء بخلاف عنه، والباقون بغير إدغام {قالوا} أي: الملائكة لهم {فيم كنتم} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم، وقرأ البزيّ (فيمه) بالهاء بعد الميم في الوقف بخلاف عنه {قالوا} معتذرين مما وبخوا به {كنا مستضعفين} أي: عاجزين عن إظهار الدين وإعلاء كلمته {في الأرض} أي: في أرض مكة {قالوا} أي: الملائكة تكذيباً لهم وتوبيخاً {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} من أرض الكفر إلى بلد أخرى كما فعل غيركم من المهاجرين إلى المدينة والحبشة، قال تعالى: {فأولئك مأواهم جهنم} أي: لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار {وساءت مصيراً} أي: جهنم، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان ما بينهما شبراً استوجبت أي: وجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ثم استثنى أهل العذر منهم فقال: {إلا المستضعفين} أي: الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعدّوا ضعفاء وتقوّى عليهم غيرهم {من الرجال والنساء والولدان} ثم بين ضعفهم بقوله: {لا يستطيعون حيلة} أي: لا قوّة لهم على الهجرة ولا نفقة لهم {ولا يهتدون سبيلاً} أي: طريقاً إلى أرض الهجرة. {فأولئك عسى الله أن يعفو} أي: يتجاوز {عنهم} وعسى من الله واجب للإطماع والله تعالى إذا أطمع عبده بشيء أوصله إليه ولكن في ذكر الإطماع والعفو إيذان بأن أمر الهجرة مضيق لا توسعة فيه حتى أنّ المضطرّ البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني فكيف بغيره {وكان الله عفوّاً غفوراً} قال ابن عباس: كنت أنا وأمي ممن عذر الله أي: من المستضعفين وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في كل صلاة، قال أبو هريرة: كان إذا قال: سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قنت يقول: «اللهمّ أنج عياش بن ربيعة اللهمّ أنج الوليد بن الوليد اللهمّ أنج سلمة بن هشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 اللهمّ أنج المستضعفين من المسلمين، اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» . {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً} أي: متحوّلاً يتحوّل إليه، وقيل: طريقاً يراغم بسلوكه قومه أي: يفارقهم على رغم أنوفهم مأخوذ من الرغام، والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك {و} يجد {سعة} في الرزق كما قال صلى الله عليه وسلم «صوموا تصحوا وسافروا تغنموا» أخرجه الطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه «واغزوا تغنموا وهاجروا تفلحوا» ولما سمع هذه الآية رجل من بني قيس يقال له: جندب بن ضمرة قال: ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة اخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهمّ هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما يبايعك عليه رسولك فمات، قال التفتازانيّ: الظاهر أنّ هذه إشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى بل على سبيل التصوير وتمثيل مبايعة الله تعالى على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، وقيل: إشارة إلى البيعة والصفقة، والمعنى: أن بيعته كبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيعة كبيعة الناس فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو وافى المدينة كان أتمّ وأوفى أجراً وضحك المشركون وقالوا: ما أدرك هذا ما طلب فنزل {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت} أي: في الطريق قبل مقصده {فقد وقع أجره على الله} أي: ثبت أجره عنده تعالى ثبوت الأجر الواجب تفضلاً منه ورحمة {وكان الله غفوراً} لتقصيره إن كان {رحيماً} يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات. ولما أوجب الله السفر للجهاد والهجرة وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله تعالى: {وإذا ضربتم} أي: سافرتم {في الأرض} سفراً طويلاً لغير معصية، والطويل عند الشافعيّ رحمه الله تعالى أربعة برد وهي مرحلتان كما ثبت ذلك بالنسبة، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثلاثة أيام ولياليهنّ بسير الإبل ومشي الأقدام على القصد، وقوله تعالى: {فليس عليكم جناح} أي: إثم وميل في {أن تقصروا من الصلاة} أي: من أربع إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء يدل على جواز القصر دون وجوبه، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتم في السفر كما رواه الشافعيّ وغيره. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال: «أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ» رواه الدارقطني وحسنه البيهقيّ وصححه، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه: يتم ويقصر، وأوجب القصر أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، رواه النسائيّ وابن ماجة، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها: «أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر» رواه الشيخان. فإن قيل: ظاهرهما يخالف الآية؟ أجيب: بأنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الأوّل مؤوّل بأنّ القصر كالتمام في الصحة والإجزاء، ومعنى الثاني لمن أراد الاقتصار عليهما جمعاً بين الأدلة، وقوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} أي: ينالوكم بمكروه بيان باعتبار الغالب في ذلك الوقت فلا مفهوم له، قال يعلى بن أمية: قلت لعمر: إنما قال الله تعالى: {إن خفتم} وقد أمن الناس قال: قد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» رواه مسلم {إنّ الكافرين كانوا} أي: جبلة وطبعاً {لكم عدوّاً مبيناً} أي: بين العداوة وقوله تعالى: {وإذا كنت} أي: يا محمد حاضراً {فيهم} أي: وأنتم تخافون العدوّ {فأقمت لهم الصلاة} تمسك بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعامّة الفقهاء على أنه تعالى علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليقتدي به الأئمة بعده فإنهم نوّاب عنه فيكون حضورهم كحضوره. روي أنّ المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعاً ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي صلاة العصر فإذا قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف وإنّ الله يقول: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} فعلمه صلاة الخوف وهي أنواع: الأوّل: إذا كان العدو في جهة القبلة وسائر والمسلمون كثيرون فيصلي بهم الإمام ثم يسجد بصف أوّل ويحرس صف ثانٍ، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه بعد تقدّمه وتأخر الأوّل بلا كثرة أفعال في الركعة الثانية، وحرس الآخرون فإذا جلس للتشهد جلس الآخرون وتشهد وسلم بالجميع، روى هذا النوع مسلم، وقد صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وهي قرية على مرحلتين من مكة بقرب خليص سميت بذلك لعسف السيول فيها وجاز عكس هذه الكيفية. والنوع الثاني: إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو فيها، وثم ساتر، فيصلي الإمام بهم ركعتين مرّتين كلّ مرة بفرقة كما قال تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} أي: وتتأخر طائفة {وليأخذوا} أي: الطائفة التي قامت معك {أسلحتهم} معهم {فإذا سجدوا} أي: صلوا {فليكونوا} أي: هذه الطائفة الأخرى {من ورائكم} يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة الأخرى تحرس {ولتأت طائفة أخرى} تحرس {لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} معهم إلى أن يقضوا الصلاة «وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ببطن نخل» ، رواه الشيخان وهذه الصلاة وإن جازت في غير الخوف سنت فيه عند كثرة المسلمين، وقلة عدوّهم، وخوف هجومهم عليهم في الصلاة. فإن قيل: أخذ الحذر وهو الخوف مع التحفظ مجاز، وأخذ الأسلحة حقيقة، فلا يجمع بينهما أجيب: بأنّ أخذ الحذر حقيقة أيضاً تنزيلاً له منزلة الآلة على سبيل الاستعارة بالكناية، فالجمع إنما هو بين حقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقة، والمجاز جائز كما عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه. فإن قيل: لم ذكر أخذ الحذر في الثانية دون الأولى؟ أجيب: بأنّ الكفار يتنبهون للثانية ما لا يتنبهون للأولى. والنوع الثالث: صلاة ذات الرقاع رواها الشيخان أيضاً، وهي والعدوّ في غير جهة القبلة أو فيها، وثم ساتر أن تقف فرقة في وجه العدوّ، ويصلي الإمام بفرقة ركعة، ثم عند قيامه للثانية تفارقه وتتم بقية صلاتها، وتقف في وجه العدوّ، وتجيء تلك والإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ينتظر لها فيصلي بها ثانية، فإذا جلس للتشهد قامت وأتت بركعة وتلحقه، ويسلم بها ويصلي الثلاثية بفرقة ركعتين وبالثانية ركعة، وهو أفضل من عكسه ويصلي الرباعية بكل فرقة ركعتين. وبقي نوع رابع: تقدّم عند قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (البقرة، 239) {ود} أي: تمنى {الذين كفروا لو تغفلون} إذا قمتم إلى الصلاة {عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم وهذه علة الأمر بأخذ السلاح. ولما كان الله تعالى قد تفضل على هذه الأمة ورفع عنها الحرج وكان المطر والمرض يشقان قال: {ولا جناح} أي: حرج {عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} ؛ لأنّ حمل السلاح في المطر يكون سبباً لبله، وفي المرض يزيد حملها المريض وهناً، وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولي الشافعي، والثاني: أنه سنة ورجح بشرط أن لا يؤذي ولا يحصل بترك حمله خطر ولا يمنع صحة الصلاة، فإن أذى كرمح وسط الصف كره حمله بل إن غلب على ظنه ذلك حرم، وإن حصل بتركه خطر وجب حمله ويمكن حمل الآية على هذه الحالة وكحمله وضعه بين يديه إن سهل مدّ يده إليه بل يتعين إن منع حمله الصحة من نجس أو غيره {وخذوا حذركم} من العدوّ أي: احترزوا منه ما استطعتم كيلا يهجم عليكم. فإن قيل: كيف طابق الأمر بالحذر قوله تعالى: {إنّ الله أعدّ للكافرين عذاباً} أي: قتلاً وأسراً ونهباً في الدنيا {مهيناً} أي: ذا إهانة؟ أجيب: بأنّ الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبته واغتراره فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله تعالى يهين عدوّهم ويخذله وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ويعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك وإنما هو تعبد من الله تعالى كما قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة، 195) . ولما أعلمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف اتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرّد الذكر فقال مشيراً إلى تعقيبه. {فإذا قضيتم الصلاة} أي: فرغتم من فعلها وأدّيتموها على حالة الخوف أو غيرها {فاذكروا الله} أي: بالتهليل والتسبيح والتحميد والتمجيد {قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} أي: مضطجعين أي: اذكروه في كل حال، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» وقيل: صلوا قياماً في حال الصحة وقعوداً في حال المرض وعلى جنوبكم عند الحرج والزمانة {فإذا اطمأننتم} أي: أمنتم بما كنتم فيه من الخوف {فأقيموا الصلاة} أي: أدّوها بحقوقها على الحالة التي كنتم تفعلونها قبل الخوف {إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً} أي: مكتوباً أي: مفروضاً {موقوتاً} أي: مقدّراً وقتها لا تؤخر عنه ولا تقدّم عليه، قال صلى الله عليه وسلم «أمني جبريل عند البيت مرّتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، والعصر حين كان ظله أي الشيء مثله، والمغرب حين أفطر الصائم أي: دخل وقت إفطاره، والعشاء حين غاب الشفق الأحمر، والفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله والعصر حين كان ظله مثليه والمغرب حين أفطر الصائم والعشاء إلى ثلث الليل، والفجر فأسفر وقال: هذا وقت الأنبياء من قبلك» ، رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم «فصلى الظهر حين صار ظله مثله» أي: فرغ منها حينئذٍ كما شرع في العصر في اليوم الأوّل حينئذٍ قاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الشافعيّ رضي الله تعالى عنه نافياً به إشتراكهما في وقت ويدل له خبر مسلم وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم يحضر العصر، ونزل لما بعث صلى الله عليه وسلم طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فشكوا الجراحات: {ولا تهنوا} أي: تضعفوا {في ابتغاء القوم} أي: في طلب أبي سفيان وأصحابه {إن تكونوا تألمون} أي: تتوجعون من ألم الجراح {فإنهم يألمون} أي: يتوجعون من الجراح {كما تألمون} ولم يجبنوا عن قتالكم فلا تجبنوا عن قتالهم {وترجون} أنتم {من الله} من النصر والثواب على جهادكم {ما لا يرجون} هم فأنتم تزيدون عليهم بذلك فيجب أن تكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها {وكان الله عليماً} بأعمالكم وضمائركم {حكيماً} أي: فيما يأمر وينهى. {إنا أنزلنا إليك الكتاب} أي: القرآن وقوله تعالى: {بالحق} متعلق بأنزل {لتحكم بين الناس بما أراك} الله أي: عرفك وأوحى به إليك وليس أرى من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل، وعن عمر رضي الله تعالى عنه لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ولكن ليجتهد رأيه؛ لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً؛ لأن الله تعالى كان يريه إياه وهو منا الظن والتكليف. وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بكسر الطاء وفتحها، والأوّل أفصح ابن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له: قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه حتى انتهى إلى الدار، ثم أخبأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال: دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسألوه أن يجادل عن صاحبهم فقالوا: إن لم تفعل افتضح صاحبنا فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل؛ لأنه بريء بحلفه وأن يعاقب اليهودي لثبوت المال عنده، وقيل: همّ أن يقطع يده فقال تعالى: {ولا تكن للخائنين} كطعمة {خصيماً} أي: مخاصماً مدافعاً عنهم. {واستغفر الله} أي: مما هممت به أي: من الذب عنه وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك معصوم، ولكن عن مقام عال سام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم {إنّ الله كان غفوراً رحيماً} لمن يستغفره. {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أي: يخونونها بالمعاصي؛ لأنّ وبال خيانتهم عليهم. فإن قيل: لم قال {للخائنين} و {يختانون} أنفسهم والخائن واحد فقط؟ أجيب: بأنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته أو ليتناوله وقومه فإنهم شاركوه في الإثم حين شهدوا على براءته وخاصموا عنه، وقيل: إنّ هذا خطاب مع صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كقوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} (يونس، 94) والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوّة على أحد وجوه ثلاثة: إمّا الذنب تقدّم على النبوّة، أو لذنوب أمّته، أو لمباح جاء الشرع بتحريمه، فيتركه بالاستغفار، فالاستغفار يكون معناه السمع والطاعة لحكم الشرع {إنّ الله لا يحب} أي: يعاقب {من كان خوّاناً} أي: كثير الخيانة {أثيماً} أي: منهمكاً فيه. روي أنّ طعمة هرب إلى مكة وارتدّ وثقب حائطاً ليسرق متاع أهله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فسقط الحائط عليه فقتله. فإن قيل: لم قال خوّاناً أثيماً على المبالغة؟ أجيب: بأنّ الله تعالى كان عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المأثم، ومن كانت تلك خلقة أمره لم يشك في حاله، وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنّ لها أخوات، وعن عمر رضي الله تعالى عنه إنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمّه تبكي وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال: كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أوّل مرّة. {يستخفون} أي: طعمة وقومه يستترون ويستحيون ويخافون {من الناس ولا يستخفون} أي: ولا يستحيون ولا يخافون {من الله} وهو أحق أن يستحيا ويخاف منه {وهو معهم} بعلمه لا يخفى عليه سرهم {إذ يبيتون} أي: يدبرون ليلاً على طريق الإمعان في الكفر والإتقان للرأي {ما لا يرضى من القول} أي: من رمي اليهودي بالسرقة وشهادة الزور عليه والحلف الكاذب على نفيها. فإن قيل: لم سمى التدبير قولاً، وإنما هو معنى في النفس؟ أجيب: بأنه لما حدث بذلك نفسه سمي قولاً مجازاً. قال في الكشاف: ويجوز أن يراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيّنه {وكان الله بما يعملون محيطاً} أي: علماً وقدرة لا يفوت عنه شيء وقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء} خطاب لقوم طعمة أي: يا هؤلاء {جادلتم} أي: خاصمتم {عنهم} أي: عن طعمة وذويه {في الحياة الدنيا} أي: بما جعل لكم من الأسباب {فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة} إذا عذبهم {أم من يكون عليهم وكيلاً} يتولى أمرهم ويذب عنهم أي: لا أحد يفعل ذلك. فائدة: اتفق كتاب المصاحف على قطع (أم) عن (من) {ومن يعمل سوءاً} أي: ذنباً يسوء به غيره كرمي طعمة اليهودي {أو يظلم نفسه} أي: يعمل ذنباً يختص به لا يتعدّاه، وقيل: المراد بالأوّل الصغيرة والثاني الكبيرة {ثم يستغفر الله} أي: يطلب من الله تعالى غفرانه بالتوبة بشروطها {يجد الله غفوراً} أي: محاء للزلات {رحيماً} أي: مبالغاً في إكرام من يقبل إليه كما في الحديث عن الله: «من تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن تقرّب مني ذراعاً تقرّبت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» ، وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه إنّ هذه الآية نسخت من {يعمل سوأً يجز به} (النساء، 123) . {ومن يكسب إثماً} أي: ذنباً {فإنما يكسبه على نفسه} أي: لأنّ وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد فهو مجازية عليه فلا يتعدّاه وباله قال تعالى: {وإن أسأتم فلها} (الإسراء، 7) {وكان الله عليماً} بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله فلا يترك شيئاً منه {حكيماً} في صنعه فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه. {ومن يكسب خطيئة} أي: ذنباً صغيراً أو ما لا عمد فيه {أو إثماً} أي: كبيرة أو ما كان عن عمد {ثم يرم به بريئاً} أي: ينسبه إلى من لم يعمله كما فعل طعمة باليهودي {فقد احتمل} أي: تحمل {بهتاناً} أي: خطر كذب ببهت المرمي به {وإثماً} أي: ذنباً كبيراً {مبيناً} أي: بيناً يكسبه بسبب رمي البريء. {ولولا فضل الله عليك} يا محمد {ورحمته} بالعصمة {لهمت طائفة منهم} أي: من قوم طعمة أي: هماً مؤثراً عندك {أن يضلوك} أي: عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال بتلبيسهم عليك فلا ينافي ذلك أنهم قد هموا بذلك؛ لأنّ الهم المؤثر لم يوجد {وما يضلون إلا أنفسهم} إذ وبال ذلك عليهم {وما يضرونك من شيء} فإنّ الله عصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم. تنبيه: (من شيء) في موضع نصب على المصدر أي: شيئاً من الضر فمن مزيدة {وأنزل الله عليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الكتاب} أي: القرآن {والحكمة} أي: السنة فإنها ليست قرآناً يتلى وفسرت أيضاً بأنها علم الشرائع وكل كلام وافق الحق {وعلمك ما لم تكن تعلم} أي: من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا {وكان فضل الله عليك عظيماً} أي: بهذا وبغيره من أمور لا تدخل تحت الحصر، وفي هذا دليل على أن العلم من أشرف الفضائل. {لا خير في كثير من نجواهم} أي: الناس قوم طعمة فإنهم ناجوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه وكذا غيرهم {إلا} نجوى {من أمر بصدقة} واجبة أو مندوبة {أو معروف} أي: عمل بر، وقيل: المراد بالصدقة الواجبة، وبالمعروف صدقة التطوّع {أو إصلاح بين الناس} وسواء إصلاح ذات البين وغيرهم قال صلى الله عليه وسلم «كلام ابن آدم كله عليه لا لهُ إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله» ، وسمع سفيان رجلاً يقول: ما أشدّ هذا الحديث فقال: ألم تسمع الله يقول: {لا خير في كثير من نجواهم} فهو هذا بعينه أو ما سمعته يقول: {والعصر إن الإنسان لفي خسر} فهو هذا بعينه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة؟» قلنا: بلى يا رسول الله قال: «إصلاح ذات البين، وإفساد ذات البين هي الحالقة» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال «ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال: خيراً أو أثنى خيراً» {ومن يفعل ذلك} أي: هذا المذكور {ابتغاء} أي: طلب {مرضاة الله} أي: لا غيره من أمور الدنيا؛ لأنّ الأعمال بالنيات {فسوف يؤتيه} أي: الله في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وفي هذه الآية دلالة على أنّ المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال الباطن في إخلاص النية وتصفية القلب من الالتفات إلى غرض دنيوي، وقرأ أبو عمرو وحمزة (يؤتيه) بالياء، والباقون بالنون. {ومن يشاقق الرسول} أي: يخالفه فيما جاء به مأخوذ من الشق، فإنّ كلاً من المتخالفين في شق غير شق الآخر {من بعدما تبين} أي: ظهر {له الهدى} أي: الدليل الذي هو سببه {ويتبع} طريقاً {غير سبيل المؤمنين} أي: طريقهم الذي هم عليه من الدين بأن يتبع غير دين الإسلام {نوله ما تولى} أي: نجعله والياً لما تولاه بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا {ونصله} أي: ندخله في الآخرة {جهنم} يحترق فيها {وساءت مصيراً} أي: مرجعاً هي، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة (نوله) و (نصله) بسكون الهاء، واختلس كسرة الهاء قالون ولهشام وجهان: الإختلاس كقالون، وإشباع الحركة كباقي القرّاء. فإن قيل: ما الحكمة في فك الإدغام في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول} والإدغام في سورة الحشر في قوله: {ومن يشاق الله} (الحشر، 4) أجيب: بأن أل في لفظ الجلالة لازم بخلافه في الرسول واللزوم يقتضي الثقل، فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول. فإن قيل: يرد هذا قوله تعالى في سورة الأنفال: {ومن يشاقق الله ورسوله} (الأنفال، 13) أجيب: أنه لما انضم الرسول إلى الله صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد {إن الله لا يغفر أن يشرك به} أي: وقوع الشرك به من أيّ شخص كان وبأي شيء كان {ويغفر ما} أي: كل شيء هو {دون ذلك} أي: من سائر المعاصي لكن {لمن يشاء} لأنّ جميع الأمور بمشيئته. روي «أنّ شيخاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين إني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله فنزلت {ومن يشرك با فقد ضل ضلالاً بعيداً} » عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى (فقد افترى) ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم نوع افتراء، وهو دعوى التبني على الله. {إن} أي: ما {يدعون} أي: يعبد المشركون {من دونه} أي غير الله {إلا إناثاً} وهي اللات والعزى ومناة، وعن الحسن لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان، وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله، وقيل: المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله {وإن} أي ما {يدعون} أي يعبدون بعبادتها {إلا شيطاناً مريداً} أي: خارجاً عن الطاعة وهو إبليس؛ لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها، فكانت طاعته في ذلك عبادة له. {لعنه الله} أي أبعده عن رحمته {وقال} الشيطان المذكور {لأتخذنّ من عبادك نصيباً} أي: حظاً {مفروضاً} أي: مقطوعاً أدعوهم فيه إلى طاعتي قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار {ولأضلنهم} أي عن طريقك السوى بما سلطتني به من الوسواس وتزيين الأباطيل {ولأمنينهم} أي بكل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث والحساب ولا جنة ولا نار وغيره، وألقي في قلوبهم طول الأعمار وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والحنو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة {ولآمرنهم فليبتكن} أي: يقطعن {آذان الأنعام} كما كانت العرب تفعله بالبحائر والسوائب التي حرّموها على أنفسهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وجاء الخامس ذكراً حرموا على أنفسهم الانتفاع بها {ولآمرنهم فليغيرنّ خلق الله} أي: فطرة الله التي هي دين الإسلام بالكفر وإحلال ما حرّم الله، وتحريم ما أحل الله، ويدخل في ذلك اللواط والسحر والوشم، وهو أن يغرز الجلد بإبرة ويحشى بنحو نيلة، والوشر وهو أن تحدّ المرأة أسنانها وترققها ونحو ذلك، وكالخصاء وهو حرام في بني آدم، قال الزمخشري: وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم؛ لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم، وأمّا في البهائم فيجوز في المأكول الصغير ويحرم في غيره. وقيل للحسن رحمه الله تعالى: إنّ عكرمة يقول: المراد هنا هو الخصاء فقال: كذب عكرمة هو دين الله وعن ابن مسعود هو الوشم {ومن يتخذ الشيطان ولياً} أي: يتولاه ويطيعه {من دون الله} أي: غيره {فقد خسر خسراناً مبيناً} بيناً لمصيره إلى النار المؤبدة عليه. {يعدهم} ما لا ينجزه بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل، إنه قريب الحصول فيسعون في تحصيله فيضيع عليهم في ذلك الزمان ويرتكبوا ما لا يحل من الأهوال والهوان {ويمنيهم} نيل الآمال في الدنيا ولا بعث ولا جزاء {وما} أي: والحال إنه ما {يعدهم الشيطان} بذلك {إلا غروراً} أي: باطلاً، وهو إظهار النفع فيما فيه الضر وهذا الوعد إمّا بالخواطر أو بلسان أوليائه. {أولئك} أي: الشيطان وأولياؤه {مأواهم} أي: مقرّهم {جهنّم} يحترقون فيها {ولا يجدون عنها محيصاً} أي: معدلاً ومهرباً. ولما ذكر ما للكافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ترهيباً اتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال: {والذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {وعملوا الصالحات} أي: الطاعات تصديقاً لإقرارهم {سندخلهم} بوعد لا خلف فيه {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: لريّ أرضها فحيثما أجرى منها نهر جرى {خالدين فيها} ولما كان الخلود يطلق على المكث الطويل دفع ذلك بقوله تعالى: {أبداً} أي: لا إلى آخر {وعد الله حقاً} أي: وعدهم الله ذلك وهو قوله تعالى: سندخلهم وحقه حقاً {ومن} أي: لا أحد {أصدق من الله قيلاً} أي: قولاً، وأكثر سبحانه وتعالى من التأكيد هنا؛ لأنه في مقابلة وعد الشيطان، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس، فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد. ونزل لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فقال أهل الكتاب: نبيِّنا قبل نبيِّكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نبيِّنا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى. {ليس} أي: الأمر منوطاً {بأمانيكم} أيها المسلمون {ولا أمانيّ أهل الكتاب} بل بالإيمان والعمل الصالح {من يعمل سوأً يجز به} قال ابن عباس لما نزلت هذه شقت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله أينا لم يعمل سوأً غيرك فكيف الجزاء؟ قال: منه ما يكون في الدنيا أي: بالبلاء والمحن كما ورد في الحديث: «فمن يعمل حسنة فله عشر أمثالها ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقي له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره» وأمّا ما كان جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطي الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه {من يعمل سوأً يجز به} {ولا يجد له من دون الله} أي: غيره {ولياً} أي: يحفظه {ولا نصيراً} أي: يمنعه منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت عليّ؟» قلت: بلى يا رسول الله قال: فأقرأنيها قال: ولا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا» أي: بالبلاء والمحن كما مرّ حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، «وأمّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة» . {ومن يعمل} شيئاً {من الصالحات} فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها وقوله تعالى: {من ذكر أو أنثى} في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان أو من الصالحات أي: كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء وقوله تعالى: {وهو مؤمن} حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور تنبيهاً على أنه لا اعتداد بالعمل الصالح دون اقتران بها {فأولئك} أي: العالو الرتبة {يدخلون} أي: ندخلهم {الجنة} أي: الموصوفة {ولا يظلمون نقيراً} قدر نقرة النواة من ثواب أعمالهم وإن لم ينقص ثواب المطيع فبالحرى أن لا يزاد عقاب العاصي؛ لأنّ المجازي هو أرحم الراحمين، ولذلك اقتصر على ذكره عقب الثواب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء. {ومن} أي: لا أحد {أحسن ديناً ممن أسلم وجهه} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أي: انقاد وأخلص عمله {} فلا حركة ولا سكون إلا فيما يرضاه، وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشرية {وهو} أي: والحال أنه {محسن} أي: مؤمن مراقب آت بالحسنات تارك للسيآت، لأنه يعبد الله كأنه يراه، وقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذمّ الكامل لغيره {واتبع ملة إبراهيم} أي: الموافقة لملة الإسلام وقوله تعالى: {حنيفاً} حال أي: مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم {واتخذ إبراهيم خليلاً} أي: صفياً خالص المحبة له، وإنما أعاد ذكره، ولم يضمره تفخيماً له، وتنصيصاً على أنه الممدوح، والخلة من الخلال فإنه ودّ تخلل النفس وخالطها، قال الزجاج: الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخلة الصداقة فسمي خليلاً؛ لأن الله تعالى أحبه واصطفاه. روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه: لو كان إبراهيم يريده لنفسه لفعلت ولكن يريده للأضياف وقد أصباننا ما أصاب الناس من الشدّة، فرجع غلمانه فمرّوا ببطحاء أي: بأرض ذات حصى فقالوا: لو أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحيي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة فملؤا تلك الغرائر ثم أتوا إبراهيم فلما أخبروه بذلك وسارة نائمة ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت: سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا: بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حوّاري أي: وهو بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء، الدقيق الذي نخل مرّة بعد أخرى، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فوجد رائحة الخبز فقال: من أين هذا لكم؟ فقالت: من خليلك المصري فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل، فسماه الله خليلاً. {وما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً يفعل فيهما ما يشاء {وكان الله بكل شيء محيطاً} علماً وقدرة أي: ولم يزل متصفاً بذلك فمهما أراد كان في وعد وعيد للمطيع والعاصي لا يخفى عليه أحد منهم ولا يعجزه شيء. {ويستفتونك} أي: يطلبون منك الفتوى {في} شأن {النساء} أي: في شأن اليتامى {قل الله يفتيكم} أي: يبين لكم حكمه {فيهن} والإفتاء تبيين المبهم {و} يفتيكم أيضاً في {ما يتلى عليكم في الكتاب} أي: القرآن من آية الميراث {في يتامى النساء} أي: في شأن اليتامى {اللاتي لاتؤتونهن ما كتب} أي: فرض {لهن} أي: من الميراث {وترغبون} أيها الأولياء {أن} أي: في أن أو عن أن {تنكحوهن} لجمالهن أو دمامتهن، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها وإن كانت مرغوباً عنها في قلة المال والجمال تركها. وفي رواية: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوّجها لدمامتها، ويكره أن يزوّجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله تعالى عن ذلك {و} يفتيكم في {المستضعفين} أي: الصغار {من الولدان} أي: أن تعطوهم حقوقهم؛ لأن العرب كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقوله تعالى: {وأن تقوموا} في محل نصب بإضمار فعل أي: ويأمركم أن تقوموا {لليتامى} بالقسط أي: العدل من الميراث وغيره، والخطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقهم أو للقوّام بالنصفة في شأنهم {وما تفعلوا من خير} أي: في ذلك أو غيره {فإن الله كان به عليماً} أي: فيجازيكم عليه فإنه أكرم الأكرمين فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً، قال سعيد بن جبير: كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوّج غيرها فقالت له: لا تطلقني ودعني على ولدي واقسم لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال: إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى. {وإن امرأة} مرفوع بفعل يفسره {خافت} أي: توقعت {من بعلها} أي: زوجها {نشوزاً} أي: تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها كراهة لها ومنعاً لحقوقها {أو إعراضاً} بأن يقل محادثتها ومجالستها {فلا جناح عليهما} أي: الزوج والزوجة {أن يصلحا بينهما صلحاً} أي: في القسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والنفقة وهو أن يقول الزوج لها: إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوّج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسم ليلاً ونهاراً فإن رضيتي بهذا فأقيمي وإن كرهت خليت سبيلك، فإن رضيت كانت هي المحسنة، ولا تجبر على ذلك وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة، أو يسرحها بإحسان، فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهته فهو المحسن، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء وسكون الصاد ولا ألف من أصلح بين المتنازعين، والباقون بفتح الياء وفتح الصاد مع التشديد وألف بعدها وفتح اللام وفيه إدغام التاء في الأصل في الصاد، وغلظ ورش اللام من يصالحا بخلاف عنه {والصلح} بأن يترك كل منهما حقه أو بعض حقه {خير} من الفرقة والنشوز والإعراض. كما «يروى أن سودة كانت امرأة كبيرة أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفارقها فقالت: لا تطلقني وإنما بي أن أبعث في نسائك وقد جعلت نوبتي لعائشة فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة» ثم بين سبحانه وتعالى ما جبل عليه الإنسان بقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي: جبلت عليه فكأنها حاضرة لا تغيب عنه، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقها ولا بنفسه بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما بنبغي إذ الزوج لا يكاد يسمح بنفسه إذا كرهها وخصوصاً إذا أحب غيرها، والشح أقبح البخل وحقيقته الحرص على منع الخير {وإن تحسنوا} أي: في عشرة النساء وإن كنتم كارهين {وتتقوا} أي: النشوز والإعراض ونقص الحق {فإنّ الله كان} أزلاً وأبداً {بما تعملون} أي: من الإحسان والخصومة {خبيراً} أي: عليماً به وبالغرض منه فيجازيكم عليه. {ولن تستطيعوا} أي: توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة {إن تعدلوا} أي: تسووا بين {النساء} أي: في المحبة؛ لأنّ العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: «هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم {ولو حرصتم} على تحرّي ذلك وبالغتم فيه {فلا تميلوا} أي: إلى التي تحبونها {كل الميل} في القسم والنفقة فإنّ ما لا يدرك كله لا يترك كله {فتذروها} أي: تتركوا المرأة الممال عنها {كالمعلقة} أي: التي لا هي أيم ولا ذات بعل. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من كان له امرأتان يميل إلى إحداهما جاء يوم القيامة وإحدى شقيه مائل» رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم. وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه بعث إلى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بمال فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إلى كل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر مثل هذا قالوا: لا بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره فقالت: ارفع رأسك فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه فرجع الرسول فأخبره فأتم لهنّ جميعاً، وكان لمعاذ رضي الله تعالى عنه امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد {وإن تصلحوا} أي: ما كنتم تفسدون من أمورهنّ {وتتقوا} فيما يستقبل {فإنّ الله كان غفوراً} أي: لما في قلوبكم من الميل {رحيماً} بكم في ذلك وغيره فإنه أرحم الراحمين. {وإن يتفرّقا} أي: يفترق كل من الزوجين من صاحبه بالطلاق {يغن الله كلاً} منهما عن الآخر ببدل بأن يرزقها زوجاً ويرزقه غيرها أو سلواً {من سعته} أي: من فضله وكرمه {وكان الله واسعاً} أي: واسع الفضل والرحمة بخلقه {حكيماً} أي: فيما دبره لهم، وفي قوله تعالى: {وما في السموات وما في الأرض} أي: ملكاً وعبيداً تنبيه على كمال سعته وقدرته {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب} أي: جنس الكتب {من قبلكم} أي: اليهود والنصارى ومن قبلهم وقوله تعالى: {وإياكم} عطف على الذين وهو خطاب لأهل القرآن {أن اتقوا الله} أي: بأن اتقوا الله أي: خافوا عقابه بأن تطيعوه، وقوله تعالى: {وإن تكفروا} أي: بما وصيتم به {فإنّ ما في السموات وما في الأرض} على إرادة القول. قال التفتازاني: لأنّ الجملة الشرطية لا تصح أن تقع بعد أن المصدرية فلا يصح عطفها على الواقع بعدها أي: وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإنّ الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم وإنما يوصيكم لرحمته لا لحاجته. ثم قرّر ذلك بقوله تعالى: {وكان الله غنياً} عن الخلق وعبادتهم {حميداً} في ذاته حمد أو لم يحمد. {وما في السموات وما في الأرض وكفى با وكيلاً} أي: شهيداً بأنّ ما فيهما له. فإن قيل: ما فائدة تكرير لله ما في السموات وما في الأرض؟ أجيب: بأنّ لكل واحدة منها وجهاً أمّا الأوّل: فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته، وأمّا الثاني: فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً أي: هو الغنيّ المطلق فاطلبوا منه ما تطلبون فإنه لا ينفد ما عنده، وأمّا الثالث: فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً ولا تتوكلوا على غيره فذكرت كل مرّة دليلاً على شيء غير الذي قبله، وكررت؛ لأنّ الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات يحسن أن يستدل به على كل واحد منها وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرّة واحدة؛ لأنّ إعادته تحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل، وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أنّ هذا الدليل محتوٍ على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فيجتهد السامع في التفكّر لإظهار الأسرار والاستدلال على صفات الكمال؛ لأنّ الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفته سبحانه وتعالى، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده. {إن يشأ يذهبكم} أي: يفنكم {أيها الناس} كما أوجدكم {ويأت بآخرين} أي: ويوجد قوماً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين مكان الإنس {وكان الله على ذلك} أي: الإعدام والإيجاد {قديراً} أي: بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده. وقيل: هذا خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب إن يشأ يمتكم ويأت بناس آخرين يوالونه. وروي أنه لما نزلت {إن يشأ يذهبكم} الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال: «إنهم قوم هذا» أي: سلمان وهم بنو فارس. {من كان يريد ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية كالمجاهد يجاهد للغنيمة لقصور نظره على الخسيس الحاضر مع خسته كالبهائم {فعند الله ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية {والآخرة} النفيسة الباقية لا عند غيره فما له يطلب الخسيس فليطلبهما منه كمن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أو ليطلب الأشرف منهما فإنّ من غلب همته فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه جمع له سبحانه وتعالى بينهما كمن يجاهد لله خالصاً يجمع له بين الآخرة والمغنم {وكان الله سميعاً} أي: بالغ السمع لكل قول وإن خفي {بصيراً} أي: بالغ البصر لكل ما يبصر وإن خفي. أي: قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه {بالقسط} أي: بالعدل {شهداء} بالحق أي: تقيمون شهادتكم لوجه الله {ولو} كانت الشهادة {على أنفسكم} فاشهدوا عليها بأن تقرّوا بالحق ولا تكتموه {أو الوالدين والأقربين} أي: ولو كانت الشهادة على والديكم وأقاربكم {إن يكن} أي: المشهود عليه {غنياً} فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه {أو فقيراً} فلا تمنع ترحماً عليه {فا أولى بهما} أي: الغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة لهما أو عليهما صلاحاً لما شرعها. تنبيه: الضمير في (بهما) راجع إلى ما دلّ عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير لا إليهما وإلا لوحد الضمير لكون العطف بأو، فكأنه قال: فالله أولى بجنس الغني والفقير أي: بالأغنياء والفقراء {فلا تتبعوا الهوى} أي: في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه أو الفقير رحمة له {أن تعدلوا} أي: إرادة أن تعدلوا فقد بان لكم أن لا عدل في ذلك، أو لئلا تعدلوا أي: تميلوا عن الحق {وإن تلووا} أي: ألسنتكم لتحرفوا الشهادة {أو تعرضوا} أي: عن أدائها {فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً} فيجازيكم به. وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام وحذف الواو الأولى، والباقون بسكون اللام وواوين الأولى مضمومة. {يأيها الذين آمنوا آمنوا} أي: داوموا على الإيمان {با ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله} محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن {والكتاب الذي أنزل من قبل} على الرسل بمعنى الكتب أي: آمنوا بجميع كتب الله المنزلة وقيل: إنّ الخطاب في ذلك لأهل الكتاب. روي أنّ ابن سلام وأصحابه قالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «بل آمنوا بالله ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله» فأنزل الله تعالى هذه الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم النون من (نزل) ، وضم الهمزة من (أنزل) وكسر الزاي فيهما، والباقون بفتح النون والهمزة وفتح الزاي فيهما {ومن يكفر با وملائكته وكتبه} التي أنزل على أنبيائه {ورسله} أي: من الملائكة والبشر {واليوم الآخر} أي: الذي أخبرت به رسله وهو يوم القيامة أي: ومن يكفر بشيء من ذلك {فقد ضل ضلالاً بعيداً} عن الحق بحيث لا يكاد يعود إليه، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام. {إن الذين آمنوا} أي: بموسى وهم اليهود {ثم كفروا} حين عبدوا العجل {ثم آمنوا} بعد عود موسى إليهم {ثم كفروا} بعيسى {ثم ازدادوا كفراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم {لم يكن الله ليغفر لهم} أي: ما داموا على هذه الحالة؛ لأنه لا يغفر أن يشرك به {ولا ليهديهم سبيلاً} أي: طريقاً إلى الحق {بشر المنافقين} يا محمد {بأنّ لهم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً هو النار. تنبيه: وضع بشر مكان أنذر تهكماً بهم، وقوله تعالى: {الذين} بدل أو نعت للمنافقين {يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} لما يتوهمون فيهم من القوّة وقوله تعالى: {أيبتغون} أي: أيطلبون {عندهم العزة} استفهام إنكاري أي: لا يجدونها عندهم {فإن العزة جميعاً} في الدنيا والآخرة ولا ينالهما إلا أولياؤه قال الله تعالى: {والعزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون، 8) . {وقد} أي: تتخذونهم والحال أنه قد {نزل عليكم} أي: أيتها الأمّة الصادقين منكم والمنافقين {في الكتاب} أي: القرآن في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم {أن} أي: إنه فهي مخففة واسمها محذوف {إذا سمعتم آيات الله} أي: القرآن {يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم} أي: الكافرين والمستهزئين {حتى يخوضوا في حديث غيره} أي: حتى يأخذوا في حديث غير ذلك، قال الضحاك عن ابن عباس: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة، وقرأ عاصم: (نزل) بفتح النون والزاي، والباقون بضمّ النون وكسر الزاي {إنكم إذاً} أي: إن قعدتم معهم {مثلهم} أي: في الإثم؛ لأنكم قادرون على الإعراض عنهم والإنكار عليهم أو الكفر إن رضيتم به، وقيل: كان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون فقيل لهم: إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر، ويدل عليه قوله تعالى: {إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} أي: القاعدين والمقعود معهم كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء، وقوله تعالى: {الذين} إمّا بدل من الذين قبله، وإمّا صفة للمنافقين، وإمّا نصب على الذم منهم {يتربصون} أي: ينتظرون وقوع أمر {بكم فإن كان لكم فتح من الله} أي: ظفر وغنيمة {قالوا} لكم {ألم نكن معكم} أي: في الدين والجهاد فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة {وإن كان للكافرين نصيب} أي: من الظفر، فإنّ الحرب سجال، وعبر بنصيب تحقيراً لظفرهم بالنسبة لما حصل للمسلمين من الفتح {قالوا} لهم {ألم تستحوذ} أي: نستول {عليكم} ونقدر على أخذكم وقتلكم فأبقينا عليكم {ونمنعكم من المؤمنين} أي: من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرعبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد لتصديقهم لنا لإظهارنا الإيمان، ومراد المنافقين بذلك إظهار المنة على الكافرين {فا يحكم بينكم} وبينهم {يوم القيامة} بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} أي: طريقاً بالاستئصال، واحتج أصحابنا بهذه الآية عدلى فساد شراء الكافر العبد المسلم. {إن المنافقين يخادعون الله} أي: بإظهارهم خلاف ما يبطنونه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامهم الدنيوية {وهو خادعهم} أي: مجازيهم على خداعهم فيفضحهم في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبهم في الآخرة {وإذا قاموا إلى الصلاة} مع المؤمنين {قاموا كسالى} أي: متثاقلين كالمكرهين على الفعل {يراؤن الناس} بصلاتهم ليظنوهم مؤمنين {ولا يذكرون الله} أي: ولا يصلون {إلا قليلاً} أي: حين يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم ولا يصلون غائبين قط عن عيون الناس وما يجهرون به أيضاً إلا قليلاً؛ لأنهم ما وجدوا مندوحة عن تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ويجوز أن يراد بالقلة العدم. فإن قيل: أما معنى المراآة وهي مفاعلة من الرؤية؟ أجيب: بأنّ المرائي يريهم عمله وهم يرون استحسانه، وقوله تعالى: {مذبذبين} حال من واو يراؤن أي: مترددين {بين ذلك} أي: الكفر والإيمان {لا} منسوبين {إلى هؤلاء} أي: الكفار {ولا إلى هؤلاء} أي: المؤمنين {ومن يضلل الله} أي: يضله {فلن تجد له سبيلاً} أي: طريقاً إلى الهدى ونظيره قوله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} (النور، 40) {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين} أي: المجاهرين بالكفر {أولياء من دون المؤمنين} فإنه صنيع المنافقين وديدنهم فلا تتشبهوا بهم {أتريدون أن تجعلوا عليكم} أي: بموالاتهم {سلطاناً} أي: دليلاً على كفركم باتباعهم غير سبيل المؤمنين {مبيناً} أي: واضحاً على نفاقكم. {إنّ المنافقين في الدرك} أي: البطن {الأسفل من النار} أي: لأنّ ذلك أخفى ما في النار وأستره وأخبثه كما أنّ كفرهم أخفى الكفر وأخبثه وأستره وسميت طبقات النار دركات؛ لأنها متداركة متتابعة إلى أسفل كما إنّ الدرج متراقية إلى فوق. فإن قيل: لم كان المنافق أشدّ عذاباً من الكافر؟ أجيب: بأنِه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الراء والباقون بفتحها {ولن تجد لهم نصيراً} أي: مانعاً يمنعهم من عذاب الله تعالى فيخرجهم {إلا الذين تابوا} أي: رجعوا عما كانوا عليه من النفاق {وأصلحوا} أي: أعمالهم {واعتصموا} أي: وثقوا {با وأخلصوا دينهم} من الرياء فلا يريدون بطاعتهم إلا وجهه تعالى {فأولئك مع المؤمنين} في الجنة {وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً} فيشاركونهم ويساهمونهم. فإن قيل: من المنافق؟ أجيب: بأنه في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقاً فللتغليظ كقوله صلى الله عليه وسلم «من ترك الصلاة متعمّداً فهو كافر» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وقيل لحذيفة رضي الله تعالى عنه: من المنافق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وقيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال: كنا نعده من النفاق. فائدة: اتفق كتاب المصاحف على حذف الياء من {يؤت الله} ولا سبب لحذفها. {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم} نعماءه {وآمنتم به} أي: لينفي به غيظاً أو يدفع ضراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 أو يستجلب به نفعاً، وهو الغنيّ المطلق المتعالي عن النفع والضرّ، والاستفهام بمعنى النفي أي: لا يعذبكم. فإن قيل: لم قدم الشكر على الإيمان مع أنه لا ينفع مع عدم الإيمان؟ أجيب: بأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلاً فيشكر شكراً مبهماً فإذا انتهى إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدّماً على الإيمان، وكأنه أصل التكليف ومداره فيؤمن به، والشكر ضدّ الكفر، فالكفر ستر النعمة، والشكر إظهارها {وكان الله شاكراً} لأعمال المؤمنين بالإثابة يقبل اليسير ويعطي الجزيل {عليماً} بخلقه. {لا يحب الله الجهر بالسوء} أي: القبيح {من القول} من أحد أي: يعاقب عليه {إلا من} أي: جهر من {ظلم} وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما هو فيه من السوء فلا يؤاخذ به قال الله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} (الشورى، 41) قال الحسن البصري: دعاؤه عليه أن يقول: اللهمّ أعني عليه اللهمّ استخرج حقي منه، وقيل: إن شئتم أجاز له أن يشتم بمثله لا يزيد عليه، وقال مجاهد: هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به. روي أنّ رجلاً أضاف قوماً أي: نزل بهم ضيفاً فلم يطعموه فأصبح شاكياً فعوتب على الشكاية فنزلت، وعن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم» {وكان الله سميعاً} لكل ما يقال ومنه دعاء المظلوم {عليماً} بكل ما يفعل ومنه فعل الظالم. {إن تبدوا} أي: تظهروا {خيراً} من أعمال البرّ {أو تخفوه} أي: تعملوه سراً {أو تعفوا عن سوء} أي: عن مظلمة {فإن الله كان} أي: دائماً أزلاً وأبداً {عفوّاً قديراً} أي: يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك وهو حث للمظلوم على تمهيد العفو بعدما رخص له في الانتصار حملاً على مكارم الأخلاق وقوله تعالى: {إنّ الذين يكفرون با ورسله} نزل في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله} بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} أي: نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم {ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً} أي: طريقاً وسطاً بين اليهودية والإسلام، ولا واسطة إذ الحق لا يختلف، فإنّ الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلاً وإجمالاً، والكفر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس/ 32) .B {أولئك هم الكافرون} أي: الكاملون في الكفر وقوله تعالى: {حقاً} مصدر مؤكداً لمضمون الجملة قبله {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} أي: ذا إهانة وهو عذاب النار. ولما بين سبحانه وتعالى ما أعده للكافرين بين ما أعده للمؤمنين بقوله تعالى: {والذين آمنوا با ورسله} كلهم {ولم يفرّقوا بين أحد منهم} بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض كما فعل الأشقياء منهم وإنما أدخل بين على أحد وهو يقتضي متعدّداً لعمومه من حيث إنه وقع في سياق النفي {أولئك} أي: العالو الرتبة في رتب السعادة {سوف نؤتيهم} بوعد لا خلف فيه وإن تأخر {أجورهم} الموعودة لهم بإيمانهم بالله وكتبه ورسله، وقرأ حفص بالياء على الغيبة، والباقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بالنون {وكان الله غفوراً} لما يريد من الزلات {رحيماً} أي: لمن يريد إسعاده بالجنات، ونزل لما قال أحبار اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى. {يسئلك} يا محمد {أهل الكتاب} أي: أحبار اليهود {أن تنزل عليهم كتاباً من السماء} جملة كما أنزل على موسى وقيل: كتاباً محرزاً أي: مجلداً مصوناً بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة، وقيل: كتاباً نعاينه حين ينزل أو كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسول الله قالوا ذلك تعنتاً، قال الحسن: لو سألوا لكي يتبينوا الحق لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية. وقوله تعالى: {فقد سألوا} أي: آباؤهم {موسى} جواب شرط مقدّر معناه: إنك إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى {أكبر} أي: أعظم {من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} أي: عياناً وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه الصلاة والسلام وهم النقباء السبعون؛ لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت {فأخذتهم الصاعقة} أي: عقب هذا السؤال، وهي نار جاءت من السماء فأهلكتهم {بظلمهم} أي: بسببه وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقاً {ثم} بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة {اتخذوا العجل} أي: تكلفوا أخذه وجعلوه إلهاً {من بعدما جاءتهم البينات} المعجزات على وحدانية الله تعالى، وليس المراد التوراة؛ لأنها لم تأتهم فيما مضى بل أتتهم بعد {فعفونا عن ذلك} أي: الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصالهم {وآتينا موسى سلطاناً} تسليطاً واستيلاءً {مبيناً} أي: ظاهراً، فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل فبادروا إلى الامتثال. {ورفعنا فوقهم الطور} أي: الجبل العظيم {بميثاقهم} أي: بسبب أخذ الميثاق عليهم ليخافوا فيقبلوه {وقلنا لهم} على لسان موسى صلى الله عليه وسلم والطور مظلل عليهم {ادخلوا الباب} أي: الذي لبيت المقدس {سجداً} أي: سجود انحناء {وقلنا لهم} أي: على لسان داود {لا تعدوا} أي: لا تتجاوزوا ما حددناه لكم {في السبت} أي: لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً؛ لأنّ العامل للشيء يكون لشدّة إقباله عليه كأنه يعدو، ويحتمل أن يكون ذلك على لسان موسى حين ظلل عليهم الجبل، فإنه شرع السبت أي: ترك العمل فيه ولكن كان الاعتداء في السبت، والمسخ به في زمن داود. وقرأ ورش بفتح العين مع تشديد الدال وقرأ قالون باختلاس حركة العين مع تشديد الدال، والباقون بسكون العين وتخفيف الدال، {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} على ذلك وهو قولهم سمعناه وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يقيموا عليه، ثم نقضوه بعد، كما قال تعالى: أي: فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي: لعناهم بسبب نقضهم {ميثاقهم وكفرهم بآيات الله} أي: القرآن أو بما في كتابهم {وقتلهم الأنبياء بغير حق} فإنهم معصومون من كل نقيصة ومبرؤن من كل ريبة لا يتوجه عليهم حق {وقولهم قلوبنا غلف} أي: أوعية للعلوم أو في أكنة مما تدعونا إليه فلا نعي كلامك {بل طبع الله} أي: ختم {عليها بكفرهم} فلا تعي وعظاً {فلا يؤمنون إلا قليلاً} منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه أو إيماناً قليلاً لا عبرة به بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 كوجه النهار ويكفروا في غيره، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، وقوله تعالى: {وبكفرهم} معطوف على (فبما نقضهم) ويجوز عطفه على (بكفرهم) وقد تكرر منهم الكفر؛ لأنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض وكرر الباء للفصل بينه وبين ما عطف عليه {وقولهم على مريم} أي: بعدما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وإنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات {بهتاناً عظيماً} وهو نسبتها إلى الزنا. فإن قيل: كان مقتضى الظاهر أن يقول: في مريم. أجيب: بأنه ضمن القول معنى الافتراء وهو يتعدّى بعلى. {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله} أي: بمجموع ذلك عذبناهم. فإن قيل: كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر بن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فكيف قالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله؟ أجيب: بأنهم قالوه بزعم عيسى عندهم أو إنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون: {إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء، 27) قال الزمخشري: ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه الصلاة والسلام عما كانوا يذكرونه به اه. قال الله تعالى تكذيباً لهم في قتله {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} أي: المقتول والمصلوب. روى النسائي عن ابن عباس: «أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى الله عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب» . وقيل: كان رجلاً ينافق عيسى أي: يظهر له الإسلام ويخفي الكفر فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه فدخل في بيت عيسى فرفع عيسى عليه الصلاة والسلام، وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى. وقيل: إنهم حبسوا عيسى عليه الصلاة والسلام في بيت وجعلوا عليه رقيباً فألقى الله شبه عيسى على الرقيب فقتلوه، {وإنّ الذين اختلفوا فيه} أي: في شأن عيسى، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود: إنه كان كاذباً فقتلناه حقاً، وتردد آخرون، وقال بعضهم: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وكان الله ألقى شبه وجه عيسى عليه ولم يلق على جسده، وقال: من سمع من عيسى إنّ الله يرفعني إلى السماء إنه رفعه إلى السماء: وقال قوم: صلب الناسوت أي: الإنسانية وصعد اللاهوت أي: الألوهية {لفي شك منه} أي: من قتله {ما لهم به} أي: بقتله {من علم} وقوله تعالى: {إلا إتباع الظن} استثناء منقطع أي: لكن يتبعون فيه الظنّ الذي تخيلوه. فإن قيل: قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ أجيب: بأنّ الشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردّد وعلى ما يقابل العلم فيشمل الاعتقاد {وما قتلوه} أي: انتفى قتلهم له انتفاء {يقيناً} أي: انتفاؤه على سبيل القطع ويجوز أن يكون حالاً من واو قتلوه أي: ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام بل فعلوه شاكين، فيه والحق إنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 شبهه. قال البقاعي: والوجه الأوّل أولى لقوله تعالى: {بل رفعه الله إليه} أي: إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي، وعن وهب: إنه أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، فكانت رسالته ثلاث سنين {وكان الله عزيزاً} أي: في ملكه لا يغلب عما يريد {حكيماً} في صنعه لا يطمع أحد في نقص شيء منه. {وإن من أهل الكتاب} أي: وما من أهل الكتاب أحد {إلا ليؤمنن به} أي: بعيسى عليه الصلاة والسلام هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم {قبل موته} اختلف في عود هذا الضمير، فقال عكرمة ومجاهد والضحاك: يعود للكتابي أي: إنّ الكتابي يؤمن بعيسى حين يعاين ملائكة الموت فلا ينفعه إيمانه سواء احترق أو غرق أو تردى أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة، فقيل لابن عباس: أرأيت من خرّ من فوق بيت؟ فقال: يتكلم به في الهوي، فقيل: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لسانه، وذهب قوم إلى عود الضمير إلى عيسى أي: وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام. روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون» . قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب} الآية ثم أعادها أبو هريرة ثلاث مرّات ولا يعارض هذا ما في مسلم في قصة الدجال إنّ الله يبعث عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين إثنين عداوة؛ لأنّ قوله: ثم يلبث الناس بعده أي: بعد موته فلا معارضة، أو لأنّ السبع محمول على مدّة إقامته بعد نزوله ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين سنة على المشهور. وروى عكرمة: إن الهاء في قوله تعالى: {ليؤمنن به} كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول: لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الهاء راجعة إلى الله عز وجل يقول: وإنّ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه {ويوم القيامة يكون} أي: عيسى على القول الأوّل {عليهم شهيداً} إنه قد بلغهم رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبراً عنه: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} (المائدة/ 117) . وكل نبيّ شاهد على أمّته قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء، 41) . {فيظلم من الذين هادوا} وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وبكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم، وقولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم} (النساء، 157) {حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم} أي: كان وقع إحلالها لهم في التوراة، ثم حرّمت عليهم وهي التي في قوله تعالى في سورة الأنعام: {وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر} (الأنعام، 146) الآية {وبصدّهم} أي: الناس {عن سبيل الله} أي: دينه، وقوله تعالى: {كثيراً} صفة مصدر محذوف أي: صدّاً كثيراً بالإضلال عن الطريق، فمنعوا مستلذات تلك المآكل بما منعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان. {وأخذهم الربا وقد} أي: والحال إنهم قد {نهوا عنه} في التوراة، فكان محرماً عليهم كما هو محرّم علينا؛ لأنه قبيح في نفسه مزر بصاحبه، وفي الآية دليل على أنّ النهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 للتحريم {وأكلهم أموال الناس بالباطل} أي: من الرشا في الحكم والمآكل أي: التي كانوا يصيبونها من عوامهم عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالاً لهم قال تعالى: {ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (الأنعام، 146) {وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً دون من تاب وآمن. ولما بين سبحانه وتعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب بين ما لنيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال: {لكن الراسخون} أي: الثابتون المتمكنون {في العلم منهم} أي: من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه {والمؤمنون} أي: من المهاجرين والأنصار {يؤمنون بما أنزل إليك} أي: القرآن {وما أنزل من قبلك} أي: من سائر الكتب المنزلة وقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} نصب على المدح؛ لأنّ الصلاة لما كانت أعظم دعائم الدين ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها. وحكي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأبان بن عثمان أنّ ذلك غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة، وكذلك قوله في سورة المائدة: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} وقوله تعالى: {إنّ هذان لساحران} (طه، 63) قالا: ذلك خطأ من الكاتب، وقال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيره فقال: دعوه فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وعامّة الصحابة وأهل العلم على إنه صحيح كما قدّمناه، وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: أعني المقيمين الصلاة، وقوله تعالى: {والمؤتون الزكاة والمؤمنون با واليوم الآخر} رجوع إلى النسق الأوّل {أولئك سنؤتيهم} بوعد لا خلف فيه على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح {أجراً عظيماً} وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا، وبدأ بذكر نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} (الصافات، 77) ؛ ولأنه أوّل نبيّ من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأوّل من عذبت أمته لردهم دعوته، وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أطول الأنبياء عمراً، وجعلت معجزته في نفسه؛ لأنه عمر ألف سنة فلم ينقص له سن ولم يشب له شعرة ولم تنقص له قوّة ولم يصبر أحد على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره {و} كما {أوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق} بني إبراهيم {ويعقوب} بن إسحق {والأسباط} أولاد يعقوب وظاهر هذا أنهم كلهم أنبياء وهو أحد قوليه، والقول الآخر: أن يوسف هو النبي فقط وعلى هذا فالمراد المجموع {وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا} أباه {داود زبوراً} قرأ حمزة بضم الزاي مصدر بمعنى مزبوراً أي: مكتوباً، والباقون بالنصب على إنه إسم للكتاب المؤتى، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجلّ. كان داود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بني إسرائيل، فيقومون خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، ويقوم الجن خلف الناس الأعظم فالأعظم، والشياطين خلف الجن، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 يديه تعجباً لما يسمعن منه، والطير ترفرف على رؤوسهم، فلما قارف الذنب لم ير ذلك فقيل له: ذاك أنس الطاعة وهذا وحشة المعصية، قال السيوطي في شرح التنبيه: إنّ الزبور مئة وخمسون سورة ما بين قصار وطوال، والطويلة منها قدر ربع حزب، والقصيرة قدر سورة النصر اه. وعن أبي موسى قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو رأيتني البارحة وأنا أسمع لقراءتك لقد أعطيت مزماراً من مزامير داود» وكان عمر إذا رآه قال: ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده، وإنما خص هؤلاء بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيماً لهم، وقوله تعالى: {ورسلاً} أي: غير هؤلاء نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك مثل أرسلنا {قد قصصناهم} أي: تلونا ذكرهم {عليك من قبل} أي: قبل إنزال هذه السورة أو هذه الآية {ورسلاً لم نقصصهم عليك} أي: إلى الآن. روي أنه سبحانه وتعالى بعث ثمانية آلاف نبيّ: أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس، قاله الجلال المحلي في سورة غافر، وقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} هو منتهى مراتب الوحي أي: كلمه على التدريج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح بغير واسطة ملك، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة وخص به موسى من بين سائر الأنبياء غير نبينا، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد فضله الله بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم وقوله تعالى: {رسلاً} بدل من رسلاً قبله {مبشرين} أي: بالثواب من آمن {ومنذرين} أي: مخوّفين بالعذاب من كفر وقوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة} متعلق بأرسلنا أو بمبشرين ومنذرين أي: حجة فقال: {بعد} إرسال {الرسل} فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين، فبعثناهم لقطع عذرهم. فإن قيل: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها يوصل إلى المعرفة؟ أجيب: بأنّ الرسل ينبهون عن الغفلة وباعثون على النظر في الأدلة فإرسالهم ضروري {وكان الله عزيزاً} في ملكه لا يغلب فيما يريده {حكيماً} في صنعه. روي أن سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحبّ إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد بالجنة» ، قال ابن عباس: إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنهم لا يعرفونك، ودخل عليهم جماعة من اليهود فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «والله إنكم لتعلمون أني رسول الله» فقالوا: والله ما نعلم ذلك أنزل الله عز وجل: {لكن الله يشهد} أي: يبيّن نبوّتك {بما أنزل إليك} أي: من القرآن المعجز الدال على نبوّتك إن جحدوك وكذبوك {أنزله} متلبساً {بعلمه} الخاص به وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ. وروي أنه لما نزل {إنا أوحينا إليك} قالوا: ما نشهد لك فنزلت {والملائكة يشهدون} لك أيضاً {وكفى با شهيداً} على ذلك بما قام من الحجج على صحة نبوّتك عن الاستشهاد بغيره {إنّ الذين كفروا وصدوا} الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 {عن سبيل الله} أي: دين الإسلام بكتمهم دين محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود {قد ضلوا ضلالاً بعيداً} عن الحق؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، ولأنّ المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه. {إنّ الذين كفروا} بالله {وظلموا} نبيه بكتمان نعته {لم يكن الله ليغفر لهم} لكفرهم وظلمهم {ولا ليديهم طريقاً} من الطرق. {إلا طريق جهنم} أي: الطريق المؤدي إليها {خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها} إذا دخلوها وأكد ذلك بقوله: {أبداً} لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به {وكان ذلك على الله يسيراً} أي: هيّناً لا يصعب عليه ولا يستعظمه. {يأيها الناس قد جاءكم الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {بالحق من ربكم} لما قرّر من أمر النبوّة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإجابة والوعيد على الرد {فآمنوا} بالله وقوله تعالى: {خيراً لكم} وكذلك قوله تعالى فيما يأتي {انتهوا خيراً لكم} (النساء، 171) منصوب بمضمر وذلك إنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال خيراً لكم أي: اقصدوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث، وهو الإيمان والتوحيد، وقيل: تقديره يكن الإيمان خيراً لكم. قال البيضاوي: ومنعه البصريون؛ لأنّ كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بدّ منه، ولأنه يؤدي إلى حذف الشرط وجوابه اه. {وإن تكفروا} بالله {فإنّ ما في السموات والأرض} ملكاً وخلقاً، فهو غني عنكم فلا يضره كفركم كما لا ينفعه إيمانكم، ونبّه على غناه بقوله تعالى: {ما في السموات والأرض} وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه {وكان الله عليماً} بأحوالكم {حكيماً} أي: فيما دبره لهم. {يا أهل الكتاب لا تغلوا} أي: تجاوزوا الحد {في دينكم} الخطاب للفريقين غلت اليهود في حط عيسى حتى رموه بالزنا، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً، وقيل: للنصارى خاصة، والمراد بالكتاب الإنجيل، فإنه أوفق لقوله تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا} القول {الحق} أي: من تنزيهه عن الشريك والولد {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها} أي: أوصلها {إلى مريم} وجعلها فيها {وروح} أي: ذو روح {منه} لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادّة له، وسمى عيسى كلمة الله وكلمة منه؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة، وقيل له: روح الله وروح منه؛ لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته بأن أمر جبريل، فنفخ في جيب درعها، فحملت به فأضيف إلى الله تعالى تشريفاً له، وليس كما زعمتم أنه ابن الله، أو إله معه، أو ثالث ثلاثة؛ لأنّ الروح مركب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 سورة المائدة مدنية مائة وعشرون آية أو اثنتان أو ثلاث وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع كلمات وحروفها أحد عشر ألفاً وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً {بسم الله} الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل {الرحمن} الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل {الرحيم} الذي خص خلص عباده بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل. {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} أي: التي عقدها الله تعالى على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه قول الحطيئة: *قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدّوا العِناجَ وشدوا فوقه الكرَبَا* والعناج حبل يشدّ في أسفل الدلو ثم يشدّ إلى العراقي ليكون عوناً له، والكرب الحبل الذي يشدّ في وسط العراقي والعرقوتان الخشبتان المعترضتان على الدلو كالصليب وقوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} تفصيل للعقود لأنّ العقود مجملة فهو شامل لجميع العقود لأنّ ذلك أمهات التكاليف وجميع ما في هذه السورة من الأحكام تفصيل لذلك. فائدة: روي عن ابن مسعود قال: أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها قوله تعالى: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} {وما عملتم من الجوارح مكلبين} {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وتمام الطهر في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} {والسارق والسارقة} {ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية {وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} وقوله تعالى: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} وزيد عليها تاسع عشر وهو قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة وأما في سورة الجمعة فهو مخصوص بالجمعة وهو في هذه السورة عام في جميع الصلوات والبهيمة كل حيّ لا يميز أي: من شأنه أنه لا يميز فلا يدخل في ذلك المجنون ونحوه، والأنعام: الإبل والبقر والغنم وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء وبقر الوحش. تنبيه: إضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان كقولك: ثوب خز ومعناه البهيمة من الأنعام. فإن قيل: لم أفرد البهيمة وجمع الأنعام؟ أجيب: بإرادة الجنس وقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم} أي: تحريمه في قوله تعالى: {حرّمت عليكم الميتة} الآية استثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم عرض من الموت ونحوه وقوله تعالى: {غير محلي الصيد} حال من ضمير لكم وقوله تعالى: {وأنتم حرم} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 في محل جمع حرام وهو المحرم {إنّ الله يحكم ما يريد} من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق لا يجب عليه مراعاة مصلحة ولا حكمة كما تقوله المعتزلة، فلا يسئل عن تخصيص ولا تفصيل فما فهمتم حكمته فذاك ومالا فكلوه إليه وارغبوا في أن يلهمكم حكمته. {يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} جمع شعيرة: وهي اسم ما أشعر أي: جعل شعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج، يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وقيل: معالم دينه، وقيل: فرائضه التي حدّها لعباده {ولا} تحلوا {الشهر الحرام} أي: بالقتال فيه قال تعالى: {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} (التوبة، 36) وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فيجوز أن يكون ذلك إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس لأنّ الأشهر كلها في الحرمة سواء، ولكن قال الزمخشريّ: والشهر الحرام شهر الحج {ولا} تحلوا {الهدى} أي: بالتعرّض له وهو ما أهدى إلى الحرم من النعم {ولا} تحلوا {القلائد} أي: صاحب القلائد من الهدى، وعبر بها مبالغة في تحريمها أو القلائد أنفسها، والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدى، والقلائد جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدى من نعل أو غيره ليعلم به أنه هدى فلا يتعرّض له {ولا} تحلوا {آمّين} أي: قاصدين {البيت الحرام} لزيارته أي: بأن تقاتلوهم. {يبتغون فضلاً من ربهم} وهو الثواب {ورضواناً} أي: وأن يرضى عنهم والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين، أي: لا تتعرضوا لقومٍ هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرّض لمثلهم، وقيل: معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم لأنهم كانوا يظنون ذلك فوصفوا به بناء على ظنهم ولأنّ الكافر لا نصيب له في الرضوان كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً فنهى الله تعالى المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} فعلى الأوّل الآية محكمة قال الحسن: ليس في المائدة منسوخ، وعلى الثاني قال البيضاوي: فالآية منسوخة أي: لما فيها من حرمة القتال في الشهر الحرام، ومن حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام والأوّل منسوخ بقوله تعالى: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة، 5) والثاني بقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة، 28) فقوله: منسوخ منزل على هذا، لكن إذا قلنا بشمول آمين للمسلمين والمشركين إنما يكون النسخ في حق المشركين خاصة وهو في الحقيقة تخصيص لا نسخ ففي تسميته نسخاً تسمح، وقرأ شعبة بضم الراء والباقون بالكسر. {وإذا حللتم} أي: من الإحرام وقوله تعالى: {فاصطادوا} أمر إباحة أباح لهم الاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا كما في قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة، 10) {ولا يجرمنكم} أي: يحملنَّكم أو يكسبنَّكم {شنآن قوم} أي: شدّة بغضهم، وقرأ ابن عامر وشعبة بسكون النون بعد الشين والباقون بنصبها وقوله تعالى: {أن صدّوكم} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن الشرطية والباقون بفتحها أي: لأجل أن صدوكم في عام الحديبية أو غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 {عن المسجد الحرام} وقوله تعالى: {أن تعتدوا} أي: يشتد عدْوُكم عليهم بأن تنتقموا منهم بالقتل وغيره، ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يتعدّى إلى واحد وإلى اثنين ككسب {وتعاونوا على البر والتقوى} أي: بفعل ما أمرتم به {ولا تعاونوا} فيه حذف إحدى التاءين في الأصل {على الإثم} أي: المعاصي للتشفي {والعدوان} أي: التعدي في حدود الله للانتقام {واتقوا الله} أي: خافوا عقابه بأن تطيعوه {إنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه فانتقامه أشد. وقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} أي: أكلها بيان ما يتلى عليكم والميتة ما فارقته الروح من غير ذكاة شرعية {والدم} أي: المسفوح قال تعالى: {أو دماً مسفوحاً} وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها {ولحم الخنزير} قال العلماء: الغذاء يصير جزءاً من جوهر المتغذي ولا بد أن يحصل للمتغذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المنهيات فحرّم أكله على الإنسان لئلا يتكيّف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المنهيات، وأورثهم عدم الغيرة فإنّ الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي له ولا يتعرّض له لعدم الغيرة. {وما أهل لغير الله به} أي: رفع الصوت به لغير الله بأن ذبح على اسم غيره، والإهلال: رفع الصوت ومنه يقال: فلان أهل بالحج إذا لبى وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللات والعزى، قال ابن عادل: وقدم هنا لفظ الجلالة في قوله لغير الله به وأخرت في البقرة لأنها هناك فاصلة أو تشبه الفاصلة بخلافها هنا لأنّ بعدها معطوفات {والمنخنقة} وهي التي ماتت بالخنق سواء أفعل بها ذلك آدميّ أم اتفق لها ذلك {والموقوذة} وهي التي وقذت أي: ضربت حتى ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات {والمتردّية} أي: الساقطة من علو بان سقطت من جبل أو مشرف أو في بئر فماتت، ولو رمى صيداً في الهواء بسهم فأصابه فسقط على الأرض ومات حلّ لأنّ الوقوع على الأرض من ضرورته وإن سقط على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأنّ الذبح قد حصل قبل التردية. تنبيه: دخلت الهاء في هذه الكلمات لأنّ المنخنقة هي الشاة المنخنقة كأنه قيل: حرّمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية وخصَّت الشاة لأنها من أعمّ ما يأكل الناس والكلام يُخرّج على الأعمّ ويكون المراد الكل وأما الهاء في قوله تعالى: {والنطيحة} وهي التي تنطحها أخرى فتموت فِللْنَّقل من الوصفية إلى الاسمية وإلا فكان من حقها أن لا تدخلها تاء التأنيث كقتيل وجريح، وما في قوله تعالى: {وما أكل السبع} بمعنى الذي وعائده محذوف أي: وما أكله السبع ولا بد من حذف، ولهذا قال الزمخشريّ: وما أكل بعضه السبع وهذا يدل على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ما اصطادته لم يحل أكله. وقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} استثناء متصل أي: إلا ما أدركتم ذكاته وصار فيه حياة مستقرة من ذلك فهو حلال، وقيل: الاستثناء مخصوص بما أكل السبع وقيل: الاستثناء منقطع أي: ولكن ما ذكيتم من غيرها فحلال أو فكلوه، وكأنّ هذا القائل رأى أنها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالة قريبة منه فلم تفد تذكيتها عنده شيئاً، وقيل: الاستثناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 من التحريم لا من المحرّمات أي: حرّم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال فيكون الاستثناء منقطعاً أيضاً، وأقلّ الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمريء وكمالها أن يقطع الودجين معهما، وهما عرقان في صفحتي العنق ويجوز بكل محدد يجرح من حديد أو قصب أو زجاج أو غيره إلا السن والظفر لقوله صلى الله عليه وسلم «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر» . وقوله تعالى: {وما ذبح على النصب} في محل رفع عطفاً على الميتة أي: وحرم عليكم ذلك والنصب واحد الأنصاب، وهي حجارة، كانت حول الكعبة يذبح عليها تقرباً إليها وتعظيماً لها، وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب لتعبد، وعلى: بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأنصاب، وقيل: هو جمع والواحد نصاب ويدل للأوّل قول الأعشى: *وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا* وقوله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام} في محل رفع أيضاً فكان عطفاً على الميتة أي: وحرم عليكم ذلك والأزلام جمع زَلَم بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام قِدح بكسر القاف صغير وهو سهم لا ريش له ولا نصل، وذلك إنهم كانوا إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل أي: لا سمة عليه فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أداروها ثانياً، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام، وقيل: هو قسمة الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة. وقوله تعالى: {ذلكم فسق} إشارة إلى ما ذكر تحريمه أي: خروج عن الطاعة، وقيل: إشارة إلى الاستقسام وكونه فسقاً؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر بعلمه علام الغيوب، وقد قال تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} (النمل، 65) وضلال باعتقاد إنّ ذلك طريق إليه وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله عز وجل إن كان أراد بربي الله وما يدريه إنّ الله أمره أو نهاه، فالكهنة والمنجمون بهذه المثابة، وجهالة وشرك إن أراد به الصنم. وقوله تعالى: {اليوم} لم يرد به يوماً بعينه وإنما أراد الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، وقيل: الألف واللام للعهد، قيل: أراد يوم نزولها، وقيل: نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، وقيل: هو يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة سنة تسع، وقيل: ثمان، وقوله تعالى: {يئس الذين كفروا من دينكم} فيه قولان أحدهما: يئسوا من أن يحلوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة، والثاني: يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم فترتدّوا عنه بعد طمعهم في ذلك، لما رأوا من قوته؛ لأنه تعالى كان وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان بقوله تعالى: {ليظهره على الدين كله} (التوبة، 33) فحقق ذلك النصر وأزلل الخوف {فلا تخشوهم} أن يظهروا عليكم {واخشون} أجمع القرّاء السبعة على حذف الياء بعد النون لحذفها في الرسم أي: واخلصوا الخشية لي وحدي فإنّ دينكم قد اكتمل بدره وجل عن انمحاق محله وقدره ورضي به الآمر ومكّنه على رغم أنوف الأعداء وهو قادر وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي: الذي أرسلت به أكمل خلقي محمداً صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية من كتابكم تقرأونها لو علينا معاشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: أي أية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة، أشار عمر إلى أنّ ذلك اليوم كان عيداً، قال ابن عباس: كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده. وروي أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمر؟» قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فلم يكمل شيء إلا نقص قال: «صدقت» ، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل: توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل وكانت هجرته في الثاني عشر منه، فقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي: الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا معنى قول ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وقتادة: اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل: أظهرت دينكم وأمتكم من عدوّكم. فإن قيل: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} يقتضي أنّ الدّين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم أكثر عمره كان ناقصاً، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب: بأنّ الدين لم يكن ناقصاً بل كان أبداً كاملاً وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو بعد العدم وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله، وقيل: بدخول مكة آمنين ورضيت أي: اخترت لكم الإسلام ديناً من بين الأديان، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران، 85) . وقوله تعالى: {فمن اضطرّ} متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي، والمعنى: فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات {في مخمصة} أي: مجاعة {غير متجانف} أي: مائل {لإثم} أي: معصية بأن يأكل ذلك تلذّذاً ومجاوزاً حدّ الرخصة كقوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} (البقرة، 173) {فإنّ الله غفور} له ما أكل {رحيم} به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم. {يسئلونك} يا محمد {ماذا أحل لهم} من الطعام وإنما أتى بقوله لهم بلفظ الغيبة لتقديم ضمير الغيبة في قوله تعالى: {يسئلونك} ولو قيل في الكلام: ماذا أحلّ لنا لكان جائزاً على حكاية الجملة كقولك: أقسم زيد ليضربن ولأضربن بلفظ الغيبة والتكلم، إلا أنّ ضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوه كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها وماذا مبتدأ وأحلّ لهم خبره كقولك: أي شيء أحلّ لكم منها؟ فقال تعالى: {قل} لهم {أحلّ لكم الطيبات} أي: ما ليس بخبيث منها وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ولا مستقذر من ذي الطباع السليمة، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرّمونه على أنفسهم من السائبة وما معها وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم. وقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح} معطوف على الطيبات أي: أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف للعلم به والجوارح جمع جارحة من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين، والهاء للمبالغة سميت؛ بذلك؛ لأنّ الجرح الكسب لأنها تكسب الصيد، ومنه قوله تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام، 60) أي: كسبتم أو لأنها تجرح الصيد غالباً، وقوله تعالى: {مكلبين} حال من ضمير علمتم أي: حال كونكم معلّمين هذه الكواسب الصيد والمكلب المؤدّب الجوارح ومغريها مأخوذ من الكلب بسكون اللام وهو الحيوان النابح؛ لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فأخذ من لفظه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلباً ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فغاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ: «اللهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد، وقوله تعالى: {تعلمونهنّ} حال ثانية من ضمير علمتم أو استئناف. فإن قيل: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ أجيب: بأنّ فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح فقيهاً عالماً بالشرائط المعتبرة في الشرع لحل الصيد، وفي هذا فائدة جليلة وهي أنّ على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدّهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج في ذلك إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من أخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله {مما علمكم الله} أي: من علم التكليب لأنه إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. {فكلوا مما أمسكن} أي: الجوارح مستقرّاً إمساكها {عليكم} أي: على تعليمكم وإن قتلته بأن لم تأكل منه بخلاف غير المعلّمة فلا يحل صيدها وشروط التعليم فيها ثلاثة أشياء: إذا أرسلت استرسلت، وإذا زجرت انزجرت، وإذا أخذت الصيد أمسكته ولم تأكل منه، وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين، وإن أكل منه فلا تأكل، منه إنما أمسك على نفسه. وعن علي رضي الله تعالى عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وبعضهم لا يشترط ذلك في سباع الطير؛ لأن تأدبها إلى هذا الحدّ متعذر وقال آخرون: لا يشترط مطلقاً وفي هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الحديث إنّ صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلم من الجوارح. {واذكروا اسم الله عليه} في هذه الكناية ثلاثة أوجه أحدها: أنها تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل: واذكروا اسم الله عليه على الأكل ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «سمّ الله وكل مما يليك» الثاني: إنها تعود إلى ما علمتم أي: اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه» الثالث: إنها تعود إلى ما أمسكن أي: اذكروا اسم الله تعالى على ما أدركتم ذكاته مما أمسكت عليكم الجوارح {واتقوا الله} أي: في محرماته {إنّ الله سريع الحساب} فيؤاخذكم بما جل ودق، وقوله تعالى: {اليوم} الكلام فيه كالكلام فيما قبله {أحلّ لكم الطيبات} أي: المستلذات {وطعام الذين أوتوا الكتاب} أي: ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم {حل} أي: حلال {لكم} فأمّا من دخل في دينهم بعد المبعث فلا تحل ذبيحتهم، ولو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته، وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في تقريرهم بالجزية دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، قال صلى الله عليه وسلم «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» رواه الإمام مالك {وطعامكم} إياهم {حل لهم} فلا عليكم أن تطعموهم ولا تبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك. {والمحصنات من المؤمنات} أي: الحرائر {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وهم اليهود والنصارى أي: حل لكم أن تنكحوهنّ وإن كنّ حربيات. وقال أبي عباس: لا تحل الحربيات وأما الإماء المسلمات فيحل نكاحهنّ في الجملة بخلاف الإماء الكتابيات فلا يحل نكاحهنّ عندنا ويحل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. {إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} أي: مهورهنّ فتقييد الحلّ بإتيانها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وإنّ من تزوّج امرأة وعزم أن لا يعطي صداقها كان في صورة الزاني، وورد فيه حديث وتسميته بالأجر يدل على أنه لا حدّ لأقلّه كما إن أقل الأجر في الإجارة لا يتقدّر {محصنين} أي: قاصدين الإعفاف والعقاب. وقيل: متزوّجين {غير مسافحين} أي: معلنين بالزنا بهنّ {ولا متخذي أخدان} أي: مسرّين بالزنا منهنّ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى قال الشعبي: الزنا ضربان: السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا سراً والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ} (البقرة، 221) فبقي على التحريم ما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهنّ من جميع المشركات، حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وقرأ الكسائي بكسر صاد المحصنات والباقون بنصبها. وقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان} اختلف المفسرون في معناه فقال ابن عباس ومجاهد: ومن يكفر بالإيمان أي: بالله الذي يجب الإيمان به وإنما حسن هذا المجاز؛ لأنه يقال: رب الإيمان ورب الشيء على سبيل المجاز، وقال الكلبي: ومن يكفر بالإيمان أي: بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله لأنّ الإيمان من لوازمها وإطلاق الشيء على لازمه مجاز مشهور، وقال قتادة: إنّ ناساً من المسلمين قالوا: كيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية: {ومن يكفر} بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيماناً؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتداً {فقد حبط} أي: فسد {عمله} الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى: {وهو في الآخرة من الخاسرين} وقوله تعالى في آية أخرى: {فيمت وهو كافر} (البقرة، 217) أمّا من أسلم قبل الموت فإنّ ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردّة. {ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي: أردتم القيام إليها كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل، 98) عبرّ عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وظاهر الآية الكريمة يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، لكن صدّ عنه الإجماع لما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال: «عمداً فعلته» ، فقيل: هو مطلق أريد به التقييد والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقيل: الأمر فيه للندب وقيل: كان ذلك أوّل الأمر ثم نسخ قال البيضاوي: وهو ضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم «المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» {فاغسلوا وجوهكم} أي: أمروا الماء عليها، ولا يجب الدّلك خلافاً لمالك رضي الله تعالى عنه {و} اغسلوا {أيديكم إلى المرافق} أي: معها إن وجدت وقدرها إن فقدت، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد» إلخ.. وللإجماع أوان إلى في الآية بمعنى مع كما في قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} (آل عمران، 52) ويزدكم قوّة إلى قوّتكم أو يجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب مجازاً إلى المرفق مع جعل إلى غاية للغسل الداخلة هنا في المغيّا بقرينة الإجماع والاحتياط للعبادة، والمعنى اغسلوا أيديكم من رؤوس الأصابع إلى المرافق، أو تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل إلى غاية للترك المقدّر فتخرج الغاية والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق، والمرافق جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة وهو مفصل ما بين العضد والمعصم ولو قطع بعض ما يجب غسله وجب غسل الباقي؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وإن قطع من المرفق فإن سلّ عظم الذراع وبقي العظمان المسميان برأس العضد وجب غسل رأس عظم العضد؛ لأنه من المرفق وهو مجموع العظمين والإبرة الداخلة بينهما وإن قطع من فوق المرفق ندب غسل باقي عضده. {وامسحوا برؤسكم} أي: ببعضها. لما روى مسلم «إنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته» واكتفى بمسح البعض لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية وهي الشعر الذي بين النزعتين والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه والباء إذا دخلت على متعدّد كما في الآية تكون للتبعيض أو على غيره كما في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج، 29) تكون للالصاق. فإن قيل: صيغة الأمر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة فهلا أوجبتم التعميم أيضاً؟ أجيب: بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر ببدله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه. فإن قيل: المسح على الخف بدل فهلا وجب تعميمه كمُبْدَله؟ أجيب: بقيام الإجماع على عدم وجوبه، ولا فرق بين أن يمسح على بشرة الرأس أو شعرها ولو شعرة واحدة في حدّ الرأس؛ لأنّ ذلك يصدق عليها مسمى الرأس عرفاً إذ الرأس اسم لما رأس وعلا وقوله تعالى: {وأرجلكم} قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي بنصب اللام عطفاً على وجوهكم. وقيل: على أيديكم والباقون بالكسر على الجوار ومنهم من عطف على المجرور على قراءة الجرّ والممسوح ليفيد مسح الخف، وعطف على المنصوب على قراءة النصف على المغسول ليفيد غسل الرجل المتجرّدة منه فيفيد كل من القراءتين غير ما أفادته الأخرى وقوله تعالى: {إلى الكعبين} وهم العظمان الناتئان في كل رجل من جانبين عند مفصل الساق والقدم دل على دخولهما في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه وقد مرّ. تنبيه: الفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح فيه دليل على وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ولو قطع بعض القدم وجب غسل الباقي وإن قطع فوق الكعب فلا فرض عليه، وندب غسل الباقي كما مرّ في اليد ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات. {وإن كنتم جنباً} من جماع وغيره {فاطهروا} أي: بالغسل لجميع البدن؛ لأنه أطلق ولم يخص الأعضاء كما في الوضوء {وإن كنتم مرضى} أي: مرضاً يضره الماء {أو على سفر} أي: مسافرين سفراً مباحاً طويلاً أو قصيراً {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي: الموضع المطمئن من الأرض الذي يقضي فيه حاجته الإنسان التي لا بد منها سمي باسمه الخارج للمجاورة. قيل: وفي ذلك حكمة وهي شدة عجز الإنسان ليكف عن إعجابه وكبره وترفعه وفخره كما حكي أنّ بعض الأمراء لقي بعض البله فلم يفسح له فغضب وقال: كأنك لم تعرفني فقال: بلى والله إني لأعرفك أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وحقق الباقون الهمزتين معاً. {أو لامستم النساء} بالذكر أو غيره أمنيتم أم لا وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين اللام والميم والباقون بالألف {فلم تجدوا ماء} بعد طلبه لفقده حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره {فتيمّموا} أي: اقصدوا {صعيداً} أي: تراباً {طيباً} أي: طهوراً خالصاً {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} مع المرفقين {منه} بضربتين والباء للإلصاق وبينت السنة أنّ المراد استيعاب العضوين بالمسح وتقدّم مثل هذه الآية في النساء في البيضاوي، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. {ما يريد الله ليجعل عليكم} في الدين {من حرج} أي: ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم {ولكن يريد ليطهركم} من الأحداث والذنوب فإنّ الوضوء يكفر الذنوب {وليُتِمّ نعمته عليكم} ببيان شرائع الدين {لعلكم تشكرون} نعمه فيثيبكم، قال البيضاوي: والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وإنّ آلتيهما مائع وجامد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وموجبهما حدث أصغر أو أكبر، وإنّ المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وإنّ الموعود عليه تطهير الذنوب وإتمام النعمة. {واذكروا نعمة الله عليكم} أي: في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم ليذكركم المنعم ويرغبكم في شكره، لأنّ كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وقال تعالى: {نعمة الله} ولم يقل نعم الله؛ لأنّ هذا الجنس لا يقدر عليه إلا الله لأنّ نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون من الآفات وإيصال الخيرات في الدنيا والآخرة لا يعلمه إلا الله تعالى وإن المراد التأمل في هذا النوع من حيث إنه ممتاز عن نعمة غيره. فإن قيل: قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله} يشعر بسبق النسيان وكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات؟ أجيب: بأنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصار غاية ظهورها وكثرتها سبباً لوقوعها في محل النسيان {و} اذكروا {ميثاقه} أي: عقده الوثيق {الذي واثقكم به} أي: بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره والمنشط مفعل من النشاط وهو الأمر الذي ينشط له والمكره مفعل من الكره وهو الأمر الذي تكرهه النفس وأضاف الميثاق الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسه كقوله: {إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وأكد ذلك بأنكم التزمتموه {إذا} أي: حين {قلتم سمعنا وأطعنا} وفي ذلك تذكير بما أوجب الله له صلى الله عليه وسلم عليكم من الشكر بهدايته لكم إلى الإسلام ثم حذركم عن نقض تلك العهود بقوله: {واتقوا الله} أي: في ميثاقه أن تنقضوه {إنّ الله} الذي له صفات الكمال {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما في القلوب فبغيره أولى فيجازيكم عليها فضلاً عن جليات أعمالكم، وقيل: المراد بالميثاق هو الذي أخذه الله منهم حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى قاله مجاهد وقيل: المراد به الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله على التوحيد والشرائع قاله السدي، وأدغم أبو عمرو القاف في واثقكم في الكاف بخلاف عنه. {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين} أي: مجتهدين في القيام بحقوقه تعالى {شهداء} أي: متيقظين محضرين إفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يشذّ عنها شيء مما تريدون الشهادة به {بالقسط} أي: العدل {ولا يجرمنكم} أي: ولا يحملنكم {شنآن} أي: شدّة بغض {قوم} أي: الكفار {على أن لا تعدلوا} فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفياً مما في قلوبكم {اعدلوا} أي: تحروا العدل واقصدوه في كل شيء {هو} أي: العدل {أقرب} من تركه {للتقوى} لكونه لطفاً فيه وفيه تنبيه عظيم على أنّ وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه. تنبيه: يؤخذ من هذا أن التكاليف مع كثرتها محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى: {كونوا قوّامين} إشارة إلى التعظيم لأمر الله ومعنى القيام هو أن تقوم لله بالحق في كل ما يلزمك وقوله تعالى: {شهداء بالقسط} إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان، الأوّل: قال عطاء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 لا تخاف في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني: أمرهم بالصدق في أفعالهم وأقوالهم، وتقدّم نظير هذه الآية في النساء، إلا أنّ هناك قدم لفظة القسط وهنا أخرّها، قال ابن عادل: فكان الغرض من ذلك والله أعلم إنّ آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ بالأمر بالقيام؛ به لأنه أردع للمؤمنين ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه. وقال البيضاوي: وتكرير هذا الحكم إمّا لاختلاف السبب كما قيل: إنّ الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ولمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ {واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون} فيجازيكم به. {وعد الله الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان بألسنتهم {وعملوا} تصديقاً لهذا الإقرار {الصالحات} وحذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله: {لهم مغفرة وأجر عظيم} فإنه استئناف يبينه. وقيل: الجملة في موضع المفعول فإنّ الوعد ضرب من القول؛ لأنه لا ينعقد إلا به فكأنه قال: وعدهم هذا القول والأجر العظيم هو الجنة. {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} أي: النار التي اشتدّ توقدها فاشتدّ احمرارها فلا يراها أحد إلا أحجم عنها فيلقون فيها ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب وهذا من عادة الله سبحانه وتعالى إنه يتبع حال أحد الفريقين حال الفريق الآخر وفاء بحق الدعوة وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم. {يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم} رسمت نعمت هنا بالتاء فوق فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والهاء والباقون بالتاء وفي الوصل الجميع بالتاء. روي أنّ المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً وذلك بعسفان وهو وادٍ بينه وبين مكة مرحلتان في غزوة ذي أنمار فلما صلّوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف، رواه مسلم وغيره والآية إشارة إلى ذلك. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم أي: يطلب منهم مالاً قرضاً لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، لكن في رواية البيهقي أنّ المقتولين كانا معاهدين لا مسلمين وأن الخروج كان لبني النضير لا إلى قريظة فقالوا: نعم يا أبا القاسم وكانوا قد عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقالوا: قد آن لك أن تأتينا أو تسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحش: أنا، فجاء إلى رحا عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده فنزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً وقال: «لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسأل عني فقل: توجه إلى المدينة» ففعل ذلك حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 تناهوا إليه ثم تبعوه، وقيل: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً وتفرق الناس في العضاء يستظلون بها فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله» فأسقطه جبريل من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من منعك مني؟» فقال: لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فنزلت. {إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} ليفتكوا بكم يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به قال تعالى: {ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} (الممتحنة، 2) ومعنى بسط اليد مدّها إلى المبطوش به، ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى {فكف أيديهم عنكم} أي: منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم {واتقوا الله} في جميع أموركم {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} فإنه الكافي لإيصال الخير ودفع الشر. {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} أي: العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة {وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} أي: شاهداً على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم الوفاء به كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وأخذنا منكم الميثاق على ما به كمال الإسلام والنقيب الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل له: عريف لأنه يتعرّفها ومن ذلك المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها. روي أنّ بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء بالمدّ أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبابرة وقال: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا فيها، وإني ناصركم وأمر موسى صلوات الله وسلامه عليه أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به يوثقه عليهم واختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل له بهم النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا إجراماً عظيماً وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم، وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدّثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهودا ويوشع بن نون من سبط افراثيم بن يوسف وكانا من النقباء {وقال} لهم {الله إني معكم} أي: بالعون والنصرة {لإن} لام قسم {أقمتم الصلاة} التي هي وصلة العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها وآتيتم الزكاة التي تقرّب العبد إلى الله عز وجلّ {وآمنتم برسلي} أي: بجميع الرسل {وعزرتموهم} أي: نصرتموهم وقيل: التعزير التعظيم وقيل: هو الثناء بخير قاله يونس وهو قريب من الثاني. فإن قيل: لم أخرّ الإيمان بالرسل عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدّم عليهما؟ أجيب: بأنّ اليهود كانوا مقرّين بأنه لا بدّ في حصول النجاة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرّين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنّ بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا بدّ من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود وإلا لم يكن لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل. فإن قيل: قوله تعالى: {وأقرضتم الله قرضاً حسناً} داخل تحت إيتاء الزكاة فما فائدة إعادته؟ أجيب: بأنّ المراد بالزكاة الواجبة وبالقرض الصدقة المندوبة وخصها تنبيهاً على شرفها وقرضاً يحتمل المصدر والمفعول به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ولما كان الإنسان محل النقصان فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صلاح العمل قال: سدّ الجواب القسم المدلول عليه باللام في لئن مسد جواب الشرط {لأكفرنّ} أي: لأسترنّ {عنكم سيآتكم} أي: فعلكم الذي من شأنه أن يسوء {ولأدخلنكم} فضلاً ورحمة مني {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: من شدّة الريّ {فمن كفر بعد ذلك} الميثاق {منكم فقد ضلّ} أي: ترك وضيع {سواء السبيل} أي: أخطأ طريق الحق والسواء في الأصل الوسط. فإن قيل: من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضلّ سواء السبيل، أجيب: بأنّ الضلال بعد أظهر وأعظم لأنه الكفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره لأنه قد يكون له قبل ذلك شبهة يتوهم له معذرة، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام وقد تقدّم ولما نقضوا الميثاق مرّة بعد مرّة بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمهم صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم في سورة البقرة. قال تعالى: {فبما} ما مزيدة للتأكيد {نقضهم ميثاقهم لعنّاهم} قال عطاء: أبعدناهم من رحمتنا، وقال الحسن ومقاتل: مسخناهم قردة وخنازير وقال ابن عباس: ضربنا الجزية عليهم {وجعلنا قلوبهم قاسية} أي: لا تلين لقبول الإيمان وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بعد القاف وتشديد الياء بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشاً وهو أيضاً من القسوة فإنّ المغشوش فيه يبس وصلابة والباقون بألف بعد القاف وتخفيف الياء وقوله تعالى: {يحرّفون الكلم عن مواضعه} استئناف لبيان قسوة قلوبهم فإنه لا قسوة أشد من تغيير كلام الله تعالى والافتراء عليه {ونسوا حظاً} أي: نصيباً نافعاً {مما ذكروا به} أي: من التوراة على أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسلام تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاتهم به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه وقيل معناه: إنهم حرّفوها فزلّت لشؤمهم أشياء منها عن حفظهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية وقيل: تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته {ولا تزال} أي: بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {تطلع} أي: تظهر {على خائنة} أي: خيانة {منهم} بنقض العهد وغيره لأنّ ذلك من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم {إلا قليلاً منهم} لم يخونوا وهم الذين آمنوا منهم {فاعف عنهم} أي: امح ذنبهم ذلك {واصفح} أي: أعرض عن ذلك أصلاً ورأساً إن تابوا وآمنوا وعاهدوا والتزموا الجزية وقيل: مطلق ونسخ بآية السيف وقوله تعالى: {إنّ الله يحب المسحنين} تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أنّ العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلاً عن العفو عن غيره. روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم. وفي رواية البخاري أنه رجل من بني زريق حليف لليهود وكان منافقاً حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهنّ وذلك أشدّ السحر، ثم إنّ الله تعالى شفاه وأعلمه أنّ السحر في بئر ذروان فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها: أفلا أخرجته؟ فقال: «لا أمّا أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرّاً فأمرت به فدفنته» وهو في معجم الطبرانيّ الكبير وهذا لفظه، وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 «كان رجل يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار فأتاه ملكان يعوذانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري فلو أرسل رجلاً لوجد الماء أصفر فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلها فبرىء، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه» ، وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ امرأة يهودية سمّت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك ـ أو قال ـ عليّ» قالوا: أفلا نقتلها؟ قال: «لا» قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات النبيّ صلى الله عليه وسلم فانظر إلى عفوه صلى الله عليه وسلم واقتد به» ، وفي ذلك غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر ربه تعالى، وقيل: فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم. {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم} أي: وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم. فإن قيل: هلا قال من النصارى؟ أجيب: بأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة الله تعالى لقولهم لعيسى: {نحن أنصار الله} (آل عمران، 52) وليسوا موصوفين به قال الحسن: فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى {فنسوا} أي: تركوا ترك الناسي {حظاً} أي: نصيباً عظيماً يتنافس في مثله {مما ذكّروا به} أي: في الإنجيل من الإيمان ومن أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ونقضوا الميثاق {فأغرينا} أي: أوقعنا {بينهم} أي: النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية وكذا بينهم وبين اليهود {العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} أي: بتفرّقهم واختلاف أهوائهم فكل فرقة تكفر الأخرى وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية والباقون بتحقيقهما {وسوف ينبئهم الله} أي: يجزيهم في الآخرة {بما كانوا يصنعون} فيجازيهم عليه. وقوله تعالى: {يا أهل الكتاب} خطاب لليهود والنصارى ووحد الكتاب لأنه للجنس {قد جاءكم رسولنا} وهو أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم {يبين لكم} أي: يوضح إيضاحاً شافياً {كثيراً مما كنتم تخفون} أي: تكتمون {من الكتاب} أي: التوراة والإنجيل كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى وأحمد في الإنجيل {ويعفو عن كثير} أن مما تخفونه فلا يبينه إذا لم يكن فيه مصلحة في أمر ديني أو عن كثير منكم فلا يؤاخذه بجرمه {قد جاءكم من الله نور} هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي جلا ظلمات الشك والشرك {وكتاب} هو القرآن العظيم {مبين} أي: بين في نفسه مبين لما كان خافياً على الناس من الحق. {يهدي به الله} أي: بالكتاب وقيل: بهما ووحد الضمير لأنّ المراد بهما واحد لأنهما كواحد في الحكم {من اتبع رضوانه} أي: رضاه بأن آمن {سبل} أي: طرق {السلام} أي: السلامة من العذاب أو الله باتباع شرائع دينه {ويخرجهم من الظلمات} أي: أنواع الكفر والوساوس الشيطانية {إلى النور} أي: الإسلام {بإذنه} أي: بإرادته أو بتوفيقه {ويهديهم إلى صراط مستقيم} أي: طريق هي أقرب الطرق إلى الله تعالى ومؤدّ إليه لا محالة وهو الدين الحق. {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم} وذلك حيث جعلوه إلهاً وهم اليعقوبية فرقة من النصارى، وقيل: ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم {قل} لهم يا محمد {فمن يملك} أي: يدفع {من} عذاب {الله شيئاً} أي: من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد {إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً} أي: لا أحد يملك ذلك ولو كان المسيح إلهاً لقدر عليه فدل ذلك على أنه بمعزل من الألوهية وإنه مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات، وأراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمّه إنهما من جنسهم لا تفاوت بينهم وبينهما في البشرية {وملك السموات والأرض وما بينهما} أي: بين النوعين وبين أفرادهما مما به تمام أمرهما {يخلق ما يشاء} أي: على أيّ كيف أراد {وا على كل شيء قدير} أي: قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات والأرض ومن أصل كما خلق ما بينهما وينشىء من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات ومن أصل يجانسه أمّا من ذكر وحده كما خلق حوّاء من آدم أو من أنثى وحدها كعيسى بن مريم أو منهما كسائر الناس. {وقالت اليهود والنصارى} أي: كل طائفة قالت على حِدَتِها {نحن أبناء الله وأحباؤه} اختلف المفسرون في معنى ذلك على أربعة أوجه، أحدها: أنّ هذا من باب حذف المضاف أي: نحن أبناء رسل الله كقوله تعالى: {إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} (البقرة، 10) الثاني: إن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب قد يطلق أيضاً على من اتخذ ابناً بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة، فالقوم لما ادعوا عناية الله بهم ادعوا أنهم أبناء الله. الثالث: إنّ اليهود زعموا أنّ العزير ابن الله، والنصارى زعموا أنّ المسيح ابن الله ثم زعموا أنّ العزير والمسيح كانا منهم فصار كأنهم قالوا: نحن أبناء الله ألا ترى أنّ أقارب الملك إذا فاخروا أحداً يقولون: نحن ملوك الدنيا والمراد كونهم مختصين بالشخص الذي هو الملك فكذا هنا، الرابع: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم من عقاب الله فقالوا: كيف تخوّفنا بعذاب الله ونحن أبناء الله تعالى وأحباؤه فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة، وأمّا النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل أنّ المسيح قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقيل: أرادوا أنّ الله كالأب لنا في الحنو والعطف ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة، وقال إبراهيم النخعي: إنّ اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري فبدلوه بيا أبناء أبكاري فمن ذلك قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. وجملة الكلام: إنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم من الأنبياء إلى أن ادعوا ذلك. {قل} لهم يا محمد {فلم يعذبكم بذنوبكم} أي: فإن صحّ ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم ولا يعذب الأب ولده ولا الحبيب حبيبه وقد عذّبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودة، وقرأ البزّي في الوقف فَلِمَهْ بخلاف عنه {بل أنتم بشر من} جملة {من خلق} هـ الله تعالى من البشر لكم ما لهم وعليكم ما عليهم {يغفر لمن يشاء} أي: ممن خلقه منكم ومن غيركم تفضلاً منه تعالى {ويعذب من يشاء} كذلك كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين لا اعتراض عليه، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام من يغفر والياء في الميم من يعذب بخلاف عنه ورقق ورش الراء على أصله {وملك السموات والأرض وما بينهما} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أي: وأنتم مما بينهما فمن كان هكذا وقدرته هكذا كيف يستحق عليه البشر الضعيف حقاً واجباً وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته الناقصة ديناً لازماً {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} (الكهف، 5) ثم قال: {وإليه المصير} أي: المرجع فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. {يا أهل الكتاب} أي: من الفريقين {قد جاءكم رسولنا} محمد صلى الله عليه وسلم {يبيّن لكم} أي: ما كتمتم وحذف لتقدّم ذكره أو الدين وحذف لظهوره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى ويبذل لكم البيان وجملة يبيّن لكم في موضع الحال أي: جاءكم رسولنا مبيناً لكم وقوله تعالى: {على فترة من الرسل} متعلق بجاءكم أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، قال ابن عباس: يريد على انقطاع من الأنبياء فشبّه فقدهم وبعد العهد بهم ونسيان أخبارهم وبلاء رسومهم وآثارهم وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يغلي ففتر ولم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثرٌ خافٍ ورسْمٌ دارسٌ. يقال: فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حركته وصار أقلّ مما كان عليه وسميت المدّة بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بترك الشرائع واختلفوا في مدّة الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال أبو عثمان النهدي: ستمائة سنة، وقال قتادة: خمسمائة وستون سنة وقال معمر والكلبيّ: خمسمائة وستة وأربعون سنة وعن الكلبيّ: بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبيّ، وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسيّ، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكون إليه قال البقاعي: ولعله عبّر بالمضارع في يبيّن إشارة إلى أنّ دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه فكلما درست سنة منح الله تعالى بعالم يردّ الناس إليها بالكتاب العزيزالمعجز القائم أبداً فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبيّ مجدّد إلا عند الفتنة التي لا تطيقها العلماء وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج. ثم علل ذلك بقوله تعالى: {أن} أي: كراهة أن {تقولوا} أي: إذا حشرتم وسئلتم عن إهمالكم {ما جاءنا من بشير} أيّ بشير فمن زائدة لتأكد النفي أي: يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز {ولا نذير} أي: يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم وقوله تعالى: {فقد جاءكم بشير ونذير} متعلق بمحذوف أي: لا تعتذروا بما جاءنا من بشير ولا نذير فلا جاءكم بشير ونذير {وا على كل شيء قدير} أي: فيقدر على الإرسال تَتْراً واحداً بعد واحد على التعاقب كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. {وإذ قال موسى لقومه} أي: من اليهود {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} أي: إنعامه فذكرهم بثلاثة أمور، أولها: قوله تعالى: {إذ} أي: حين {جعل فيكم} أي: منكم {أنبياء} فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي بإظهار ذال «إذ» عند الجيم وأدغمها أبو عمرو وهشام، وثانيها: قوله تعالى: {وجعلكم ملوكاً} أي: وجعل منكم أو فيكم فقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهمّوا بقتل عيسى وقال ابن عباس: وأصحاب خدم وحشم، قال قتادة: كانوا أوّل من ملك الخدم ولم يكن قبلهم خدم. وعن أبي سعيد الخدري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً» وقال أبو عبد الرحمن الجيلي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المسلمين المهاجرين؟ فقال عبد الله له: يا هذا ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم قال: فأنت غنيّ من الأغنياء قال: ألك خادم؟ قال: نعم قال: أنت من الملوك. وقال السديّ: وجعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه نهر جارٍ فهو ملك. وثالثها: قوله تعالى: {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} وذلك، لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام كفلق البحر لهم وأهلك عدوّهم وأورثهم أموالهم وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأخرج لهم المياه الغزيرة من الحجر وأظلّ فوقهم الغمام، ولم يجتمع الملك والنبوّة لقوم كما اجتمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله تعالى وهم أحباب الله وأنصار دينه، وقيل: المراد بالعالمين عالمو زمانهم. وقال الكلبيّ: إن جعلت العالمين عامّاً وجب تخصيص «ما» لئلا يلزم أنهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمّة من الكرامة والفضل وغير ذلك وإن خصصته بعالمي زمانهم ف «ما» باقية على عمومها إذ لا محذور. ولما ذكرهم هذه النعم وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بجهاد العدوّ فقال: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة} أي: المطهرة وهي أرض بيت المقدس سمّيت بذلك لأنها كانت مسكن الأنبياء والمؤمنين وقال مجاهد: هي الطور وما حوله. وقال الكلبيّ: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردُنّ وهو بضم الدال وتشديد النون اسم نهر أو كورة بالشأم قاله الجوهريّ، وقال قتادة: هي الشأم كلها {التي كتب الله لكم} أي: في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقال السديّ: أمركم بدخولها. فإن قيل: على القول الأوّل: كيف كتبها لهم بعد قوله تعالى بعد {فإنها محرمة عليهم} ؟ أجيب: بأجوبة أوّلها: قال ابن عباس: إنها كانت هبة ثم حرّمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم، ثانيها: اللفظ وإن كان عاماً لكم المراد به الخصوص فكأنها كتبت لبعضهم وحرّمت على بعضهم، ثالثها: إنّ الوعد بقوله تعالى: {كتب الله لكم} مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط، رابعها: إنها محرّمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون حصل ما كتب {ولا ترتدّوا على أدباركم} أي: ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من العدوّ {فتنقلبوا خاسرين} أي: في سعيكم، وذلك أنّ قوم موسى لما أخرجوا من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشأم. قال الكلبيّ: صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له: انظر ما أدرك بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريّتك، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشأم أرض الموعد، ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض فلما دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساماً عظيمة، قال ابن عادل: قال المفسرون فأخذهم أحد أولئك الجبارين وجعلهم في كمّه مع فاكهة قد حملها، من بساتينه، وأتى بهم للملك ونثرهم بين يديه وقال تعجيباً للملك: هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف هؤلاء النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلين منهم وهما يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا فتى موسى وكان من سبط يهوذا فإنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 سهّلا الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسامهم عظيمة إلا أنّ قلوبهم ضعيفة، وأمّا العشرة الباقية من النقباء فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، ويقولون لأصحابهم: قالوا: نجعل علينا رؤساء وننصرف إلى مصر فذلك قوله تعالى: {قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين} أي: عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين لغيرهم على ما يريدون {وإنّا لن ندخلها} خوفاً منهم {حتى يخرجوا منها} أي: بأيّ وجه كان {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} لها وأصل الجبّار المتعظم الممتنع عن القهر يقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها وسمّي هؤلاء القوم جبارين لامتناعهم بطولهم وقوّة أجسادهم، وكانوا من العمالقة وبقية قوم عاد فلما قال بنو إسرائيل ما قالوا وهموا بالانصراف إلى مصر خرّ موسى وهارون عليهما السلام ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما في قوله: {قال رجلان من الذين يخافون} أي: مخالفة أمر الله تعالى {أنعم الله عليهما} أي: بالتوفيق والعصمة {ادخلوا عليهم الباب} أي: باب قرية الجبّارين ولا تخشوهم فإنا رأيناهم وأجسادهم عظيمة بلا قلوب {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} أي: لأنّ الله تعالى منجز وعده {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} به ومصدّقين بوعده فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما. ثمّ {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً} نفوا دخولهم على التأبيد والتأييد وقوله تعالى: {ما داموا فيها} بدل من أبداً بدل البعض {فاذهب أنت وربك فقاتلا} هم {إنا ههنا قاعدون} عن القتال لا القعود الذي هو ضدّ القيام قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما وقيل: وربك أي: هارون لأنه أكبر منه وقيل: تقديره اذهب أنت وربك يعينك فلما سمع من قومه ذلك. {قال ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي} أي: لا أملك التصرّف ولا ينفذ أمري إلا في نفسي وأخي؛ لأنّ الإنسان لا يملك نفسه في الحقيقة إنما المراد به التصرف وإني أفعل ما أمرتني به وأخي هارون قاله لشكوى بثّه وحزنه إلى الله عز وجل لما خالفه قومه وأيس منهم ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام والرجلان المذكوران وإن كانوا يوافقانه لم يثق بهما مما كابد من تلوّن قومه أو إنّ المراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه وأظهر وجوه الإعراب في أخي أنه منصوب عطفاً على نفسي والمعنى: ولا أملك إلا أخي مع ملكي نفسي دون غيرنا {فافرق} أي: فافصل {بيننا وبين القوم الفاسقين} بأن تحكم لنا بما نستحقه ونحكم عليهم بما يستحقونه أو بالتبعيد بيننا وبينهم. {قال} تعالى: {فإنها} أي: الأرض المقدّسة {محرّمة عليهم} أن يدخلوها وقوله تعالى: {أربعين سنة يتيهون} أي: يتحيرون {في الأرض} اختلف في العامل في أربعين فقيل: محرمة فيكون التحريم مؤقتاً غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله تعالى: {التي كتب الله لكم} (المائدة، 21) وقيل: هو يتيهون أي: يسيرون فيها متحيرين، قال الزجاج: والأوّل خطأ لأنه جاء في التفسير أنها محرمة عليهم أبداً فنصبها بيتيهون أي: فيكون التحريم مطلقاً قال البغويّ: لم يرد به تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع وأوحى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: بي حلفت لأحرّمنّ عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البريّة أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا فيها سنة، ولألقين جيفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ، وقيل: تسعة فراسخ قال ابن عباس: وهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كلّ يوم جادّين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه وكان الغمام يظلّهم من الشمس وعمود نور يطلع بالليل فيضيء لهم وكان طعامهم المنّ والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملون فإذا ولد لأحدهم مولود كان عليه ثوب مثل الظفر في رأي العين يطول بطوله ويتسع بقدرة الله والله أعلم بما يحكى من ذلك. فإن قيل: كيف ينزل المنّ والسلوى في حال العقوبة؟ أجيب: بأنه سبب البقاء وهو أبقى للعقوبة فهو كإقامة الحدود مع بقاء الخطاب، واختلفوا هل كان موسى وهارون عليهما السلام فيهم أو لا؟ قال البغويّ: الأصحّ أنهما كانا فيهم إلا أنه كان ذلك راحة لهما وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم، وهو أبلغ في الإجابة أن يشاهدوهما في حال العقوبة فلا يصيبهما ما أصابهم ولم يدخل الأرض المقدّسة أحد ممن قال لن ندخلها بل هلكوا في التيه، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم واختلفوا هل مات موسى وهارون في التيه أم لا؟ قال البيضاويّ: الأكثرون إنهما كانا معهم في التيه وإنهما ماتا فيه، مات هارون قبل موسى وموسى بعده بسنة، قال عمرو بن ميمون: مات هارون قبل موسى وكانا خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل فقالوا: قتله لحبّنا إياه وكان محببّاً في بني إسرائيل فتضرّع موسى إلى ربه فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى هارون فإني باعثه فانطلق بهم إلى قبره فناداه يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال: أنا قتلتك؟ قال: لا ولكن مت قال: فعد إلى مضجعك وانصرفوا وعاش موسى صلى الله عليه وسلم بعده سنة. روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جاء ملك الموت إلى موسى فقال له: أجب أمر ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فقال ملك الموت: يا رب إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال: فردّ الله عينه وقال: ارجع إلى عبدي وقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة قال: ثم مه قال: ثم تموت قال: الآن من قريب؟ قال: رب أدنني من الأرض المقدّسة رمية حجر» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» قال وهب: خرج موسى ليقضي حاجة فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر فقالوا: لعبد كريم على ربه فقال: إنّ هذا العبد لمن الله بمنزلة ما رأيت كاليوم أحسن منه مضجعاً فقالت الملائكة: يا صفيّ الله تحب أن يكون لك؟ قال: وددت قالوا: فانزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربك قال: فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل نفس فقبض الله تعالى روحه ثم سوّت عليه الملائكة التراب وقيل: إنّ ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض الله روحه وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله تعالى يوشع عليه السلام نبياً فأخبرهم أنّ الله تعالى قد أمرهم بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق وأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر وفتحوها في الشهر السابع ودخلوها فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال: اللهمّ اردد الشمس عليّ وقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فردّت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين. وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً: «إنّ الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس» ثم تتبّع ملوك الشأم فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشأم وصارت الشأم كلها لبني إسرائيل وفرق عمّاله في نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى الله تعالى إلى يوشع إنّ فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال: هلمّ ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر، وكان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن في جبل إبراهيم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة وتدبر أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعاً وعشرين سنة فسبحان الباقي بعد فناء خلقه. ولما ندم موسى عليه السلام على الدعاء عليهم قال تعالى: {فلا تأس على القوم الفاسقين} فبين تعالى أنهم أحقاء بذلك لفسقهم. {واتل عليهم نبأ ابني آدم} وهما هابيل وقابيل وقوله تعالى: {بالحق} صفة مصدر محذوف أي: تلاوة متلبسة بالحق. وقصتهما: أنّ الله تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأم الآخر وكانت حواء تلد لآدم كل بطن غلاماً وجارية وظاهر كلام المؤرّخين أنّ آدم لا يحل له أن يتزوّج بواحدة من بناته ولا من بنات أولاده، ولهذا ألغز بعضهم بقوله: ماتت زوجة رجل فحرم عليه نساء الدنيا وكان جميع ما ولدته أربعين ولداً في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته اقليما وثانيهم هابيل وتأومته يلودا وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمّ المغيث، ثم بارك الله تعالى في نسل آدم عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً فأراد آدم أن ينكح قابيل يلودا أخت هابيل وينكح هابيل اقليما وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل فذكر ذلك لولده فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها فقال له أبوه: إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال: إنّ الله لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيك فقال لهما آدم: قربا قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكله الطير والسباع فخرجا ليقربا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردأ زرعه وأضمر في نفسه ـ ما أبالي تقبل مني أم لا ـ لا يتزوّج أختي أبداً وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرّبه، وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 قربانهما على الجبل ثم دعا آدم فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل كما قال تعالى: {إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما} وهو هابيل {ولم يتقبل من الآخر} وهو قابيل لأنه سخط حكم الله ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده فغضب قابيل لردّ قربانه وأضمر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت الحرام فلما غاب آدم أتى قابيل لهابيل وهو في غنمه {قال لأقتلنك} قال: ولم؟ قال: لأنّ الله تعالى قبل قربانك وردّ قرباني وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدّث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي {قال} هابيل وما ذنبي؟ {إنما يتقبل الله من المتقين} . فإن قيل: كيف كان قول هابيل إنما يتقبل الله من المتقين جواباً لقوله لأقتلنك؟ أجيب: بأنه لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ومالك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول فأجابه بكلام حليم مختصر جامع لمعانٍ وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محظوظاً لا في إزالة حظ المحسود فإنّ ذلك مما يضرّه ولا ينفعه وأنّ الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متَّقٍ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك وقد كنت وكنت فقال: إني أسمع الله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين} . {لئن} لام قسم {بسطت} أي: مددت {إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين} قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: وأيم الله إن كان المقتول لأشدّ الرجلين ولكن منعه التحرّج أن يبسط إلى أخيه يده خوفاً من الله عز وجل لأن الدفع لم يبح بعد أو تحرّياً لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» وإنما قال: ما أنا بباسط في جواب لئن بسطت للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأساً والتحرّز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء من يدي والباقون بالسكون، واتفق القراء السبعة على بقاء صفة الطاء في بسطت وإدغام الطاء في التاء لأنّ مخرج الطاء والتاء واحد ولكن الصفة مختلفه فالطاء منطبقة والتاء منفتحة والطاء مستعلية والتاء مستقلة والطاء مجهورة والتاء مهموسة ويقال في ذلك: إدغام الحرف وإبقاء الصفة. {إني أريد أن تبوء} أي: ترجع {بإثمي} أي: بإثم قتلي {وإثمك} الذي ارتكبته من قبل {فتكون من أصحاب النار} ولا أريد أن أبوء بإثمك إذا قتلتك فأكون منهم. فإن قيل: كيف قال: أريد أن تبوء بإثمي وإثمك وإرادة القتل والمعصية لا تجوز؟ أجيب: بأنّ ذلك ليس بحقيقةِ إرادة، لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً وإن لم يكن مريداً حقيقة {وذلك جزاء الظالمين} أي: الراسخين في وصف الظلم وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاء لي بإحساني في إيثاري حياتك على حياتي وذلك جزاء المحسنين. {فطوّعت} قال قتادة: فزينت {له نفسه قتل أخيه فقتله} قال ابن جريج: تمثل له إبليس وأخذ له طائراً ووضع رأسه على حجر وشدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل فرضخ قابيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 رأس هابيل بين حجرين وقتله وهو مستسلم وقيل: اغتاله في النوم وهو نائم فشدخ رأسه فقتله {فأصبح} أي: فصار {من الخاسرين} بقتله ولم يدر ما يصنع به لأنه أوّل ميت على وجه الأرض من بني آدم وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة فحمله بعد قتله في جراب أربعين يوماً وقال ابن عباس: سنة حتى أروح وعكف عليه الطير والسباع تنظر متى يرمي فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره ورجليه حتى مكنّه ثم ألقاه في الحفرة وواراه وقابيل ينظر إليه فذلك قوله تعالى: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه} أي: الله أو ليريه الغراب أي: ليعلمه؛ لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز {كيف يواري} أي: يستر {سوأة} أي: جيفة {أخيه} وقيل: عورته لأنه كان سلبه ثيابه فلما رأى قابيل ذلك {قال يا ويلتي} كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم والمعنى: يا ويلتي احضري فهذا أوانك والويل والويلة الهلكة {أعجزت} أي: مع ما جعل الله لي من القوّة الناطقة {أن} أي: عن أن {أكون} مع مالي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك {مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي} أي: لأهتدي إلى ما اهتدى إليه وقوله تعالى: {فأواري} عطف على أكون وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى لو عجزت لواريت {فأصبح} أي: بسبب قتله {من النادمين} أي: على ما فعل لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه وما انتفع من قتله بشيء، قال المطلب بن عبد الله بن حنطب: لما قتل ابن آدم أخاه رجّت الأرض بما فيها سبعة أيام وعن ابن عباس لما قتله، وكان آدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت وأمرّ الماء واغبرّت الأرض فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث. وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض وشربت الأرض الدم فسأله آدم عليه السلام بعد مجيئه من مكة عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك قال: فأين دمه إن كنت قتلته فحرّم الله عز وجل على الأرض من يومئذٍ أن تشرب دماً بعده أبداً، وعن الواقدي: أنّ السودان كلهم من ولده وعن محمد بن إسحاق: كان نوح نائماً فرآه ابنه حام عرياناً فلم يستره فاسودّ في الوقت فالسودان من ولده ورآه ابنه سام فستره. وروي أنّ آدم صلوات الله وسلامه عليه مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه لما أتى من مكة إلى الهند رثاه بشعر وهو: *تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح* *تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح* وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من قال إنّ آدم قال شعراً فقد كذب إنّ محمداً والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء. وروي أنه رثاه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يقول الشعر فنظر إلى المرثية فإذا هي سجع فقال: إنّ هذا يقوم منه شعر فرد المقدّم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدّم فوزنه شعراً وزيد فيه أبيات منها: *أرى طول الحياة عليّ غماً ... فهل أنا من حياتي مستريح* *ومالي لا أجود بسكب دمع ... وهابيل تضمنه الضريح* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئاً وتفسيره هبة الله أي: إنه خلف الله من هابيل علّمه الله ساعات الليل والنهار وأعلمه الله عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده. وأمّا قابيل فقيل له: اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا يأمن من يراه، فأخذ بيد أخته أقليماً وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس لعنه الله تعالى وقال له: إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أوّل من عبد النار، قال مجاهد: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله تعالى بالطوفان أيام نوح عليه السلام، وبقي نسل شيث عليه السلام، قال البقاعي في تفسيره: والله أعلم بما يروى من ذلك ولا يعتمد على مثل هذه الأحاديث، وقد أحسن الطبري بقوله: أخبر الله تعالى بقتله ولا خبر يقطع العذر بصفة قتله على ما ذكرنا منه في مثله ولا فائدة في طلب الصحيح منه في الدين اه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل» . {من أجل ذلك} أي: الذي فعله قابيل {كتبنا} أي: قضينا {على بني إسرائيل} في التوراة لأنهم كانوا أشدّ الناس جراءة على القتل ولذلك كانوا يقتلون الأنبياء {إنه} أي: الشأن {من قتل نفساً} أي: من بني آدم {بغير نفس} أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص {أو} قتلها بغير {فساد} أتاه {في الأرض} كالشرك والزنا بعد الإحصان وقطع الطريق وكل ما يبيح إراقة الدم {فكأنما قتل الناس جميعاً} أي: من حيث هتك حرمة الدماء وسنّ القتل وجراءة الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استحلال غضب الله والعذاب العظيم. {ومن أحياها} أي: بسبب من الأسباب كإنقاذ من هلكة أو غرق أو دفع من يريد أن يقتلها ظلماً {فكأنما أحيا الناس جميعاً} قال ابن عباس: من حيث عدم انتهاك حرمتها وصونها قال سليمان بن علي: قلت للحسن يأبا سعيد أهي لنا أي: هذه الآية كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي، والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا اه. ومما يحسن إيراده هنا ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنه للشافعيّ رحمه الله تعالى: *الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأمّ حوّاء* *نفس كنفس وأرواح مشاكلة ... وأعظم خلقت فيهم وأعضاء* *فإن يكن لهم في أصلهم حسب ... يفاخرون به فالطين والماء* *ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء* *وقدر كل امرىء ما كان يحسنه ... وللرجال على الأفعال أسماء* *وضدّ كل امرىء ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء* *ففز بعلم تعش حياً به أبداً ... فالناس موتى وأهل العلم أحياء* {ولقد جاءتهم} أي: بني إسرائيل {رسلنا بالبينات} أي: المعجزات وقرأ أبو عمرو بسكون السين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 والباقون بضمها {ثم إنّ كثيراً منهم بعد ذلك} أي: بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيداً للأمر وتجديداً للعهد {في الأرض لمسرفون} أي: مجاوزون الحدّ بالكفر والقتل وغير ذلك ولا يبالون به وبهذا اتصلت القصة بما قبلها. ونزل في العرنيين «لما قدموا المدينة وهم مرضى أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل» . {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} أي: يحاربون أولياءهما وهم المسلمون جعل محاربتهم محاربتهما تعظيماً {ويسعون في الأرض فساداً} أي: بقطع الطريق {أن يقتلوا} أي: إن قتلوا {أو يصلبوا} أي: مع ذلك إن قتلوا وأخذوا المال أي: والصلب ثلاثاً بعد القتل {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال {أو ينفوا من الأرض} أي: إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئاً أي: ينفوا من بلد إلى بلد إن رأى الإمام ذلك وإن رأى حبسهم فله ذلك ولو في بلدهم، هكذا فسر الآية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فحمل كلمة أو على التنويع لا التخيير كما في قوله تعالى: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى} (البقرة، 135) أي: قالت اليهود: كونوا هوداً وقالت النصارى: كونوا نصارى إذ لم يخيّر أحد منهم بين اليهودية والنصرانية {ذلك} أي: الجزاء العظيم {لهم خزي} أي: ذل وإهانة {في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} هو عذاب النار واحتج أكثر أهل العلم على أنّ هذه الآية نزلت في قطاع الطريق بقوله تعالى: {إلا الذين تابوا} أي: رجعوا عما كانوا عليه من المحاربة خوفاً من الله تعالى {من قبل أن تقدروا عليهم} أي: فإنّ حقوقه تعالى تسقط عنهم كالقطع والصلب وتحتم القتل ويبقى القصاص والمال لأنه حق آدمي لا يسقط بالتوبة {فاعلموا أنّ الله غفور} لهم ما أتوه {رحيم} بهم، ولو كانت نزلت في الكفار لكانت توبتهم بالإسلام وهو رافع للعقوبة قبل القدرة وبعدها. {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي: خافوا عقابه بأن تطيعوه {وابتغوا إليه الوسيلة} أي: اطلبوا ما تتوسلون به إلى ثوابه، والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا إذا تقرّب إليه قال لبيد: *أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... ألا كلّ ذي لب إلى الله وَاسِلَ* وفي الحديث «الوسيلة منزلة في الجنة» {وجاهدوا في سبيله} بمحاربه أعدائه لتكون كلمة الله هي العليا {لعلكم تفلحون} بالوصول إلى الله عز وجل والفوز بكرامته. {إنّ الذين كفروا لو} ثبت {أنّ لهم ما في الأرض} من صنوف الأموال وأكده بقوله: {جميعاً ومثله معه ليفتدوا به} أي: ليجعلوه فدية لأنفسهم {من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم} أي: لأنّ المدفوع إليه ذلك تامّ القدرة وله الغنى المطلق {ولهم} بعد ذلك {عذاب أليم} أي: مؤلم. {يريدون أن يخرجوا} أي: أن يكون لهم الخروج في وقت مّا إذا رفعهم اللهب إلى أن يكاد أن يلقيهم خارجاً {من النار} ثم نفى خروجهم على وجه التأكيد فقال: {وما هم بخارجين منها} أي: ما يثبت لهم خروج أصلاً {ولهم} خاصة دون عصاة المؤمنين {عذاب مقيم} أي: دائم تارة بالبرد وتارة بالحرّ وتارة بغيرهما. فإن قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 قال تعالى: {لا يذوقون فيها برداً} (النبأ، 24) فهو ينافي ما ذكر أجيب: بأن المراد بالبرد في الآية النوم فلا منافاة وأن في قوله تعالى: {والسارق والسارقة} موصولة مبتدأ أي: والذي سرق والتي سرقت ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو {فاقطعوا أيديهما} أي: يمين كلّ واحد منهما من الكوع كما بيّنته السنة كما بيّنت أنه لا بدّ أن يكون المسروق ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه، وأنه إذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ثم اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى ثم بعد ذلك يعزر. ثم علّل تعالى ذلك بقوله: {جزاء بما كسبا} أي: فعلا من ذلك ثم علّل تعالى هذا الجزاء بقوله: {نكالاً} أي: عقوبة لهما {من الله} وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال: {وا عزيز} أي: غالب على أمره {حكيم} أي: بالغ الحكم والحكمة في خلقه. {فمن تاب} أي: من السراق {من بعد ظلمه} أي: سرقته {وأصلح} أمره بالتخلص من التبعات والعزم على أن لا يعود إليها {فإنّ الله يتوب عليه} أي: يقبل توبته تفضلاً منه تعالى {إنّ الله غفور رحيم} فلا يعذبه في الآخرة، وأمّا القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه وبالاتفاق إن كان المسروق قائماً عنده يسترد وتقطع يده لأنّ القطع حق الله عز وجل والغرم حق العبد ولا يمنع أحدهما الآخر وقوله تعالى: {ألم تعلم} الاستفهام للتقرير والخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطاباً لكل أحد من الناس {أنّ الله له ملك السموات والأرض} أي: أنّ الملك خالص له عن جميع الشوائب {يعذب من يشاء} تعذيبه {ويغفر لمن يشاء} المغفرة له {وا على كلّ شيء قدير} أي: ومنه التعذيب والمغفرة فليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدا عدوّه. {يأيها الرسول} أي: المبلغ لما أرسل به وقوله تعالى: {لا يحزنك} قرأ نافع بضمّ الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي {الذين يسارعون في الكفر} أي: يقعون فيه بسرعة بأن يظهروه إذا وجدوا منه فرصة وقوله تعالى: {من الذين قالوا آمنا} للبيان وقوله تعالى: {بأفواههم} أي: بألسنتهم متعلق بقالوا {ولم تؤمن قلوبهم} وهم المنافقون وقوله تعالى: {ومن الذين هادوا} عطف على من الذين قالوا وقوله تعالى: {سماعون للكذب} خبر مبتدأ محذوف أي: هم سماعون والضمير في سماعون للفريقين أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي: ومن اليهود قوم سماعون للكذب الذي افترته أحبارهم سماع قبول {سماعون} منك {لقوم} أي: لأجل قوم {آخرين} من اليهود {لم يأتوك} أي: لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء {يحرّفون الكلم} أي: الذي في التوراة كآية الرجم {من بعد مواضعه} أي: التي وضعها الله عليها أي: يبدلونه {يقولون} أي: الذين يحرّفونه لمن يرسلونهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم {إن أوتيتم هذا} أي: المحرّف أي: أفتاكم به محمد صلى الله عليه وسلم {فخذوه} أي: فاقبلوه منه واعلموا أنه الحق واعملوا به {وإن لم تؤتوه} أي: بأنّ أفتاكم بخلافه {فاحذروا} أن تقبلوه منه فإنه الباطل والضلال. روي أنّ شريفاً في خيبر زنا بشريفة وكانا محصنين وحدّهما الرجم في التوراة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فكرهوا رجمهما لشرفهما وقالوا: إنّ هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكن الضرب فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم أي: تسويد الوجه من الحُمّة بالضم والتشديد وهي السواد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما في كتابك؟ فقال: «هل ترضون بقضائي؟» فقالوا: نعم، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟» قالوا: نعم فقال: هو أي رجل فيكم؟ فقالوا: هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بن عمران في التوراة، قال: «فأرسلوا إليه» ففعلوا فأتاهم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم قال: «أعلم اليهود» قال: كذلك يزعمون قال: «تجعلونه بيني وبينكم؟» قالوا: نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟» قال: نعم فوثب عليه سفلة اليهود فقال: خفت إن كذبت أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيّ الأميّ العربيّ الذي بشر به المرسلون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده وقال: «اللهمّ إني أول من أحيا أمرك إذا ما أتوه فأنزل الله عز وجل {يأيها الرسول} الآية. وروي أنّ اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام: كذبتم إنّ فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهما يده على آية الرجم وقرأ ما بعدها فقال له عبد الله: ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرّجم قالوا: صدقت يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: فرأيت الرجل يقي بيده عن المرأة الحجارة» . فائدة: كانت آية الرجم في القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها، روى البيهقي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في خطبته: إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم وسيأتي الكلام في سورة الأحزاب أنّ هذه الآية كانت فيها. {ومن يرد الله فتنته} أي: إضلاله أو فضيحته {فلن تملك} أي: لن تستطيع {له من الله شيئاً} في دفعها إذا لم تملك أنت، وأنت أقرب الخلق إلى الله تعالى فمن يملك {أولئك} أي: البعداء من الهدى {الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} أي: من الكفر ولو أراده لكان وهذا كما ترى نصّ على فساد قول المعتزلة بأنه أراد ذلك {لهم في الدنيا خزي} أي: ذلٌّ بالفضيحة والجزية والخوف من المؤمنين {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وهو الخلود في النار والضمير للذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 هادوا إن استأنفت بقوله تعالى: {ومن الذين} وإلا فللفريقين. وقوله تعالى: {سماعون للكذب} كرره للتأكيد {أكَّالون للسحت} وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال الله تعالى: {يمحق الله الربا} (البقرة، 276) والربا باب منه وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام، وعن الحسن رحمه الله تعالى: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب وعنه صلى الله عليه وسلم «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بضم الحاء والباقون بالسكون. {فإن جاؤك} أي: لتحكم فيهم {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} هذا تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا هل نسخ هذا التخيير أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: هو محكم ثابت وليس في سورة المائدة منسوخ، وحكّام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعيّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وقال قوم: يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بينهم والآية منسوخة نسخها قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة، 49) وهو قول مجاهد وعكرمة ومرويّ ذلك أيضاً عن ابن عباس وقال: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} (المائدة، 2) نسخها قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} (التوبة، 5) وقوله تعالى: {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} (المائدة، 42) نسخها قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة، 49) ومذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ الذمّيين وإن اختلفت ملتهما كيهوديّ ونصرانيّ يجب الحكم بينهما عند الترافع، وكذا الذمي مع المعاهد بخلاف المعاهدين فإنّ الحكم لا يجب بينهما؛ لأنهم لم يلتزموا بأحكامنا ولا التزمنا دفع بعضهم عن بعض فيحمل التخيير على هذا، والآية الأخرى على أهل الذمّة ويعلم من ذلك أنّ الحكم بين الحربيين لا يجب بطريق الأولى ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدّهما وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمه ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعاً {وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً} بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإنّ الله تعالى يعصمك من الناس {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} أي: بالعدل الذي أمر الله تعالى به {إنّ الله يحب} أي: يثيب {المقسطين} أي: العادلين في الحكم وقوله تعالى: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} استفهام تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أنّ الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي هو عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا منه ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم {ثم يتولون} أي: يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم {من بعد ذلك} التحكيم وهذا داخل في حكم التعجب فإنه معطوف على يحكمونك {وما أولئك} أي: السعداء من الله {بالمؤمنين} أي: بكتابهم لإعراضهم عنه أوّلاً أو بك وبه. {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى} يهدي من الضلالة إلى الحق {ونور} يكشف ما اشتبه عليهم من الأحكام {يحكم بها النبيون} أي: من بني إسرائيل وقوله تعالى: {الذين أسلموا} ذكر على وجه الصفة للأنبياء للتنويه بشأن الصفة دون التخصيص والتمييز؛ لأنهم كلهم بهذه الصفة منقادون لله تعالى وللتنبيه على عظم قدرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 حيث وصف بها عظيم كما وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان فإنّ أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وقوله تعالى: {للذين هادوا} متعلق بأنزل أو بيحكم أي: يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدلّ على أنّ النبيين أنبياؤهم وقوله تعالى: {والربَّانيون} أي: الزهّاد الذين انسلخوا من الدنيا وبالغولوا فيما يوجب النسبة إلى الرّب {والأحبار} أي: العلماء السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون {بما} أي: بسبب الذي {استحفظوا} أي: استودعوه {من كتاب الله} أي: استحفظهم الله تعالى إياه بأن يحفظوه من التضييع والتحريف أو بأن يحفظ فلا ينسى وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتاب الله من هذين الوجهين معاً: أحدهما: أن يحفظ في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم والثاني: أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه والراجع إلى ما محذوف، ومن للتبيين والضمير في استحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً وكذلك الضمير في قوله تعالى: {وكانوا عليه شهداء} أي: رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً وقوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشونِ} نهي للحكام أن يخشوا غير الله تعالى في حكوماتهم خوفاً من سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً {ولا تشتروا} أي: تستبدلوا {بآياتي} أي: بأحكامي التي أنزلتها {ثمناً قليلاً} أي: من الرشا وغيرها لتكتموا أو تبدلوها كما فعل أهل الكتاب وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال عكرمة: معناه ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له فقد كفر ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق فحمل الآيات على هذا وهو ظاهر، وقال الضحاك وقتادة: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة وقيل: أولئك هم الكافرون في المسلمين لاتصالها بخطابهم والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى. {وكتبنا} أي: فرضنا {عليهم} أي: اليهود {فيها} أي: التوراة {أن النفس} تقتل {بالنفس} إذا قتلتها {والعين} تفقأ {بالعين} أي: بعين من فقأها {والأنف} تجدع {بالأنف} أي: بأنف من جدعه {والأذن} تقطع {بالأذن} أي: بأذن من قطعها {والسنّ} تقلع {بالسنّ} أي: بسنّ من قلعها {والجروح قصاص} أي: يقتص فيها إذا أمكن كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وما لا يمكن فيه القصاص فيه الحكومة وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مفروض في شرعنا. وقرأ الكسائي هذه الألفاظ الخمسة وهي: العين بالعين إلى آخرها بالرفع على أنها جمل معطوفة على «أنّ» وما في حيزها باعتبار المعنى، وكأنه قيل: كتبنا عليهم النفس بالنفس والعين بالعين فإنّ الكتابة والقراءة يقعان على الجمل كالقول أو مستأنفة ووافق الكسائي ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في الجروح فقط والباقون بالنصب في الجميع وسكن نافع الذال من الأذن وقرأ الباقون برفعها. {فمن تصدّق به} أي: القصاص بأن مكن من نفسه {فهو} أي: التصدّق بالقصاص {كفارة له} أي: لما أتاه فلا يعاقب ثانياً في الآخرة وقيل: فمن تصدّق به من أصحاب الحق فالتصدُق به كفارة للمتصدِق يكفر الله تعالى به من سيآته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: تهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق به. وقيل: فهو كفارة للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه {ومن لم يحكم بما أنزل الله} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 في القصاص وغيره {فأولئك هم الظالمون} أي: الذين تركوا العدل فضلّوا فصاروا كمن يمشي في الظلام فإن كان تديُّناً بالترك كان نهاية للظلم وهو الكفر وإلا كان عصياناً لأنّ الله تعالى أحق أن يخشى ويرجى. {وقفينا} أي: أتبعنا {على آثارهم} أي: النبيّين الذين يحكمون بالتوراة {بعيسى بن مريم} صلى الله عليه وسلم ونسبه تعالى إلى أمّه إشارة إلى أنّه لا والد له تكذيباً لليهود وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى {مصدّقاً لما بين يديه} أي: قبله مما أتى به موسى عليه السلام {من التوراة} وأشار تعالى بقوله: {وآتيناه الإنجيل} أي: أنزلناه عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليهما الصلاة والسلام إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها {فيه هدى} من الضلالة {ونور} أي: بيان للأحكام وقوله تعالى: {ومصدّقاً} أي: الإنجيل حال {لما بين يديه} أي: قبله. ولما كان الذي نزل قبله كثيراً بين المراد بقوله: {من التوراة} أي: لما فيها من الأحكام فالأول: صفة لعيسى عليه الصلاة والسلام والثاني: صفة لكتابه أي: فهو والتوراة والإنجيل يتصادقون فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما لم يتخالفوا في شيء بل هو متخلق بجميع ما أتى به {وهدى وموعظة للمتقين} أي: كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به. {وليحكم أهل الإنجيل} وهم اتباع عيسى عليه الصلاة والسلام {بما أنزل الله فيه} أي: من الأحكام، وقرأ حمزة بكسر اللام ونصب الميم عطفاً على معمول آتيناه والباقون بكسر اللام وسكون الميم على الأمر أي: فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم أهل الإنجيل إلخ.. {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} أي: المختصّون بكمال الفسق فإن كان تديّناً كان كفراً وإن كان لاتّباع الشهوات كان مجرد معصية لأنّ الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج من دائرة الشّرع مرّة بعد أخرى. {وأنزلنا إليك} يا محمد خاصة {الكتاب} أي: الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن وقوله تعالى: {بالحق} متعلق بأنزلنا {مصدّقاً لما بين يديه} أي: قبله. لما كانت الكتب السماوية من شدّة تصادقها كالشيء الواحد عبّر تعالى بالمفرد فقال: {من الكتاب} أي: الكتب المنزّلة التي جاء بها الأنبياء من قبل، فاللام الأولى في الكتاب للعهد؛ لأنه عني به القرآن والثانية للجنس لأنه عني به جنس الكتب المنزلة {ومهيمناً عليه} أي: رقيباً على سائر الكتب أي: يحفظها من التغيير والتبديل ويشهد لها بالصحة والثبات {فاحكم بينهم} أي: بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك {بما أنزل الله} إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك {ولا تتبع أهواءهم} فيما خالفه عادلاً {عما جاءك من الحق} بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه. {لكل جعلنا منكم} أيّها الأمم {شرعة} أي: ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية والشرعة هي الطريقة إلى الماء، شبّه بها الدّين لأنها موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية {ومنهاجاً} أي: طريقاً واضحاً في الدين ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع وأمثاله مما يدل على أنا لسنا متعبدين بالشرائع المتقدّمة وأنّ كل رسول غير متعبد بشرع من قبله وهو محمول على الفروع وما دلّ على الاجتماع كآية شرع لكم من الدين محمول على الأصول. {ولو شاء الله لجعلكم أمّة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 أي: جماعة {واحدة} أي: متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل {ولكن} لم يشأ ذلك بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة {ليبلوكم} أي: ليختبركم {فيما آتاكم} من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود المطيع منكم والعاصي {فاستبقوا الخيرات} أي: ابتدروها انتهازاً للفرصة بغاية الجهد فقل: من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه، وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً} أي: بالبعث استئناف فيه تعليل للأمر بالاستباق، ووعد للمبادرين ووعيد للمقصرين {فينبئكم} أي: يخبركم {بما كنتم فيه تختلفون} أي: من أمر الدين ويجزي كلاً منكم بعمله. وقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} عطف على الكتاب أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم أو على الحق أي: أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون وأن احكم والباقون بضمها {ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن} أي: لئلا يفتنوك أي: يضلوك ويصرفوك {عن بعض ما أنزل الله إليك} . روي أنّ أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {فإن تولوا} أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم} أي: بالعقوبة في الدنيا {ببعض ذنوبهم} أي: التي أتوها ومنها التولي ويجازيهم على جميعها في الآخرة {وإنّ كثيراً من الناس} أي: هم وغيرهم {لفاسقون} أي: خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات. {أفحكم الجاهلية} أي: خاصة مع إنّ أحكامها لا يرضى بها عاقل لكونها لم يدع إليها كتاب بل هي مجرّد أهواء وهم أهل الكتاب {يبغون} أي: يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك وشهد كتابك المعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق وهذا استفهام إنكاري، وقرأ ابن عامر بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وهو أدلّ على الغضب، والباقون بالياء على الغيبة. وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به الجاهلية من التفاضل بين القتلى أي: بين ديّات بعضهم على بعض {ومن} أي: لا أحد {أحسن من الله حكماً لقوم} أي: عند قوم {يوقنون} به خصّوا بالذكر؛ لأنهم الذين يتدبرون الأمور ويتخيلون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكماً من الله جلا وعلا. {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} أي: توالونهم وتوادّونهم وتعاشرونهم معاشرة الأحباب وقوله تعالى: {بعضهم أولياء بعض} فيه إيماء إلى علة النهي أي: فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضارتكم {ومن يتولهم منكم} أي: ومن والاهم منكم {فإنه منهم} أي: من جملتهم وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم أو لأنّ الموالين كانوا منافقين {إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين} أي: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار، ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه.k تنبيه: اختلف في سبب نزول هذه الآية فقال قوم: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وذلك أنهما اختصما فقال عبادة: إنّ لي أولياء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 اليهود كثيراً عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من موالاتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال السدي: لما كانت وقعة أحد اشتدّت على طائفة من الناس وتخوّفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي آخذ منه أماناً إني أخاف أن تدال علينا اليهود وقال الآخر: أمّا أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشأم وآخذ منه أماناً فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا فجعل إصبعه على حلقه يعني أنه الذبح أي: يقتلكم فنزلت {فترى الذين في قلوبهم مرض} أي: ضعف اعتقاد كعبد الله بن أبيّ {يسارعون فيهم} أي: في مولاتهم {يقولون} معتذرين عنها {نخشى} أي: نخاف خوفاً بالغاً {أن تصيبنا دائرة} أي: مصيبة تحيط بنا ويدور بها الدهر علينا من جدب أو غلبة ولا يتم أمر محمد فلا يميرونا {فعسى الله أن يأتي بالفتح} أي: بإظهار الدّين على الأعداء {أو أمر من عنده} أي: بهتك ستر المنافقين وافتضاحهم {فيصبحوا} أي: هؤلاء المنافقون {على ما أسرّوا في أنفسهم} أي: على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول فضلاً عما أظهروه مما أشعر به نفاقهم {نادمين} أي: ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره وقوله تعالى: {ويقول الذين آمنوا} قرأه عاصم وحمزة والكسائي بالرفع على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعاً بغير واو على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ وقرأ بالنصب أبو عمرو عطفاً على يأتي باعتبار المعنى وكأنه قال: عسى الله أن يأتي بالفتح، ويقول الذين آمنوا {أهؤلاء الذين أقسموا با جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {إنهم لمعكم} في الدين أي: يقوله المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وتبجعاً بما منّ الله تعالى عليهم من الإخلاص، أو يقولون لليهود: فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وإن قوتلتم لننصرنكم} (الحشر آية: 11) {حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: الصالحة {فأصبحوا} أي: فصاروا {خاسرين} الدنيا بالفضيحة والآخرة بالعقاب. {يأيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {من يرتدد} أي: يرجع {منكم عن دينه} إلى الكفر وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها في القرآن قبل وقوعها وكان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة ثلاثة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأولى: بنو مدلج وكان رئيسهم ذو الحمار بالحاء المهملة، قال التفتازاني: كان له حمار يقول له: قف فيقف وسر فيسير وكانت النساء أي: نساء أصحابه يتعطرون بروث حماره، وقيل: يعقدون روثه بخمرهنّ فسمي ذو الخمار أيضاً بالخاء المعجمة، وذو هنا وفيما قبله بالواو وعلى الحكاية وهو العنسي بفتح العين وسكون النون منسوب إلى عنس وهو يزيد بن مذحج بن أدد بن كعب العنسي ويلقب بالأسود كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وإلى سادات اليمن وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود، فقتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: وأتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك» قيل: ومن هو؟ قال: «فيروز» فَسُرّ المسلمون فبشر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول وكان ذلك أوّل فتح جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه. والفرقة الثانية: بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسليمة الكذاب وكان تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر وزعم أنه اشترك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في النبوّة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: أمّا بعد فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعثه إليه مع رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» ثم أجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: «أمّا بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد في جيش كبير حتى أهلكه الله تعالى على يد وحشيّ غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حرب شديد وكان وحشيّ يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد في جاهليتي وإسلامي. الفرقة الثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة أحد من ارتد وادّعى النبوّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوّل من قوتل بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الردّة فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليه فهزمهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمرّ على وجهه هارباً نحو الشأم، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وسبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، الأولى: فزارة قوم عيينة بن حصن، والثانية: غطفان قوم قرّة بن سلمة، والثالثة: بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، والرابعة: بنو يربوع قوم مالك بن نويرة، والخامسة: بعض تميم قوم سجاج بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها لمسيلمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري: *أمت سجاج ووالاها مسليمة ... كذابة في بني الدنيا وكذاب* والسادسة: كندة قوم الأشعث بن قيس والسابعة بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله تعالى أمرهم على يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وهي غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشأم، والجمهور أنه مات على ردّته وذكرت طائفة أنه عاد إلى الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر يرتدد بدالين الأولى مكسورة مخففة والثانية ساكنة والباقون بدال مفتوحة مشدّدة. واختلف في القوم في قوله تعالى: {فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال قتادة بن غنم الأزدي: لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوم هذا» وأشار إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه وكانوا من اليمن، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يمان والحكمة يمانية» وقال الكلبي: هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أفناء أي: لم يعلم ممن هم قاله الجوهري: فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب على عاتق سلمان رضي الله تعالى عنه فقال: «هذا وذووه» ، ثم قال: «لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس» والراجع إلى من محذوف تقديره: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم أو ما أشبه ذلك ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظّمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم ومحبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه {أذلة على المؤمنين} أي: عاطفين عليهم متذللين لهم جمع ذليل، وأمّا ذلول فجمعه ذلل ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غبي عنه لأنه ذلولاً لا يجمع على أذلة. فإن قيل: هلا قال أذلة للمؤمنين؟ أجيب: بأنه تضمن معنى الحنو والعطف كأنه قال: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع وأنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو للمقابلة في قوله تعالى: {أعزة على الكافرين} أي: شداد متغلبين عليهم من عزّه إذا غلبه، وقوله تعالى: {يجاهدون في سبيل الله} حال من الضمير في أعزة أو صفة أخرى لقوم، وقوله تعالى: {ولا يخافون لومة لائم} يحتمل أن تكون الواو للحال على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط، وإن يكون للعطف على يجاهدون بمعنى: إنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في دينه واللومة المرّة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان {ذلك} إشارة إلى الأوصاف المذكورة وقوله تعالى: {فضل الله يؤتيه من يشاء} أي: يمنحه ويوفق له فيبذل الإنسان جهده في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته {وا واسع} أي: كثير الفضل {عليم} أي: بمن هو أهله، ونزل لما قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إنّ قومنا هجرونا. {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وإنما قال: وليكم ولم يقل: أولياؤكم للتنبيه على أنّ الولاية لله على الأصالة، ولرسوله وللمؤمنين على التبع إذ التقدير: إنما وليكم الله وكذا رسوله والمؤمنون. ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع ثم وصف المؤمنين بقوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} أي: متخشعون في صلاتهم وزكاتهم وقيل: يصلون صلاة التطوع. {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا} أي: ومن يتخذهم أولياء وقيل: من يعنهم وينصرهم {فإنّ حزب الله هم الغالبون} أي: فإنهم هم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته وتشريفاً لهم بهذا الاسم فكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتعريضاً بمن يوالي هؤلاء بأنه حزب الشيطان وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم. ونزل في رفاعة بن زيد وسويد بن حارث اللذين أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهما. {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم} أي: شرفكم الله به {هزواً} أي: مهزواً به {ولعباً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} أي: اليهود. ولما خصص عمم بقوله: {والكفار} أي: من عبدة الأوثان وغيرهم {أولياء} أي: فإنّ الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم فلا تصح لكم مولاتهم، وقرأ أبو عمرو والكسائي بخفض الراء والباقون بالنصب عطفاً على الذين اتخذوا على أنّ النهي عن موالاة من ليس على الحق رأساً سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين {واتقوا الله} أي: بترك المناهي {إن كنتم مؤمنين} أي: صادقين في إيمانكم فإنّ الإيمان حقاً يقتضي ذلك وقوله تعالى: {وإذا ناديتم} معطوف على الذين قبله أي: ولا تتخذوا الذين إذا ناديتم أي: دعوتم {إلى الصلاة} بالأذان {اتخذوها} أي: الصلاة {هزواً ولعباً} بأن يستهزؤا بها ويتضاحكوا ويقولوا: صاحوا كصياح العير، وفي هذا دليل على أنّ الأذان مشروع للصلوات المكتوبات. روى الطبراني أنّ نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمداً رسول الله قال: أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شرره في البيت فأحرقه وأهله {ذلك} أي: الاتخاذ {بأنهم} أي: بسبب إنهم {قوم لا يعقلون} أي: فإنّ السفه يؤدّي إلى الجهل بالحق والهزء به والعقل يمنع منه ونزل لما سأل نفر من اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وما أنزل إلينا الآية، فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم. {قل يأهل الكتاب هل تنقمون} أي: تنكرون {منا} وتعيبون يقال: نقم منه كذا أنكره وانتقم إذا كافأه {إلا أن آمنا با وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أي: إلى الأنبياء وقوله تعالى: {وأنّ أكثركم فاسقون} عطف على أن آمنا والمعنى ما تنكرون منا إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبول الإيمان المعبّر عن عدم قبوله بالفسق اللازم عن عدم القبول وليس هذا مما ينكر. {قل} لهم يا محمد {هل أنبئكم} أي: أخبركم {بشرّ من ذلك} أي: الذي تنتقمونه {مثوبه عند الله} نصب مثوبة على التمييز أي: ثواباً بمعنى جزاءً. فإن قيل: المثوبة مختصة بالإحسان كما أنّ العقوبة مختصة بالشر أجيب: بأنّ ذلك على سبيل التهكم كما في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران، 21) وقوله تعالى: {من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} (المائدة، 60) بدل من بشر على حذف مضاف قبل لفظ ذلك أو قبل لفظ من لعنه وتقديره: بشر من أهل ذلك من لعنه الله أو بشر من ذلك دين من لعنه الله لأنّ الدّين المشار إليه غير مطابق لقوله: من لعنه الله في معنى يشترك فيه لفظ شر فيقدر أهل قبل ذلك أو دين قبل من ليطابق. فإن قيل: هذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشرّ ومعلوم إنه ليس كذلك أجيب: بأنه إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، فإنهم حكموا بأنّ اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم: هب أنّ الأمر كذلك لكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شرّ من ذلك والذين لعنهم الله في هذه الآية هم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 مائدة عيسى، وقيل: كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير. روي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم وقوله تعالى: {وعبد الطاغوت} عطف على صلة من كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت وقرأ حمزة بضم باء عبد وكسرتاه الطاغوت على أنه اسم جمع لعبد عطف على من والباقون بنصب الباء من عبد والتاء من الطاغوت والطاغوت الشيطان أو العجل لأنه معبود من دون الله ولأنّ عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الطاغوت الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى. تنبيه: روعي في منهم معنى من وفيما قبلها لفظها وهم اليهود {أولئك} أي: الملعونون الممسوخون {شرّ مكاناً} لأنّ مأواهم النار وجعلت الشرارة للمكان وهي لأهله وفيه مبالغة ليست في قولك أولئك شر ومكاناً تمييز {وأضل عن سواء السبيل} أي: طريق الحق وأصل السواء الوسط. فإن قيل: ذكر شر وأضلّ يقتضي مشاركة المؤمنين والكفار في الشرّ والضلال وإنّ الكفار أشرّ وأضل مع أنّ المؤمنين لم يشاركوا الكفار في شيء من ذلك أجيب: بأنّ مكان هؤلاء في الآخرة شر وأضل من مكان المؤمنين في الدنيا لما يلحقهم فيها من الشرّ والضلال الحاصل لهم بالهموم الدنيوية كسماع الأذى وغيره، أو إنّ ذلك على سبيل التنزل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً بالحجة وهذا أولى. ونزل في يهود نافقوا النبيّ صلى الله عليه وسلم. {وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد} أي: قالوا ذلك والحال إنهم قد {دخلوا} إليكم متلبسين {بالكفر وهم قد خرجوا} من عندكم متلبسين {به} أي: الكفر كما دخلوا لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك {وا أعلم بما كانوا يكتمون} من الكفر وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم وفي هذا وعيد لهم. {وترى كثيراً منهم} أي: اليهود أو المنافقين {يسارعون} أي: يقعون سريعاً {في الإثم} أي: الكذب بدليل قوله تعالى عن قولهم الإثم {والعدوان} أي: الظلم وقيل: الإثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعدّى إلى غيرهم {وأكلهم السحت} أي: الحرام كالرشا {لبئس ما كانوا يعملون} عملهم هذا. {لولا} هلا {ينهاهم} أي: يجدّد لهم النهي {الربانيون} أي: المدّعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب {والأحبار} أي: العلماء {عن قولهم الإثم} أي: الكذب {وأكلهم السحت} أي: الحرام هذا تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المضارع المستقبل أفاد التحضيض {لبئس ما كانوا يصنعون} ترك نهيهم. فإن قيل: لم عبّر في الأوّل بـ [يعملون] وفي الثاني بـ [يصنعون] ؟ أجيب: بأنّ كل عامل لا يسمّى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب ولذلك ذم بهذا خواصهم ولأنّ ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية لأنّ النفس تلتذ بها وتميل إليها، ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغ الذمّ فيدخل في الذمّ كل من كان قادراً على النهي عن المنكر من العلماء أو غيرهم وتركه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي أشد آية نزلت في القرآن، وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها. {وقالت اليهود} مما ضيّق عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 بتكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وكانوا أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية {يد الله مغلولة} أي: هو ممسك يقتر بالرزق، وغلّ اليد وبسطّها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء، 29) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقولهم بسط اليأس كفيه في صدري فجعلت لليأس الذي هو معنى من المعاني لا من الأعيان كفان. فإن قيل: قد تقدّم أنّ قوله: {يد الله مغلولة} عبارة عن البخل فما تفعل في قوله تعالى: {غلت أيديهم} ومن حقه أن يطابق ما تقدّمه؟ أجيب: بأنه يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وأنكدهم والمطابقة على هذا ظاهرة ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم كما قال تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} (غافر، 71) وعلى هذا تكون المطابقة حاصلة من حيث لفظ مغلولة وغلت من حيث ملاحظة أنّ الأصل في القول الشنيع أن يقابل بالدعاء على قائله {ولعنوا} أي: أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم {بما قالوا} فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله: {بل يداه مبسوطتان} مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود وإنّ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه جميعاً {ينفق كيف يشاء} أي: هو مختار في إنفاقه يضيق تارة ويوسع أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته لا اعتراض عليه وقيل: القائل هذه المقالة فنحاص بن عازوراء فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله: أشركهم الله تعالى فيها. {وليزيدنّ كثيراً منهم} أي: ممن أراد الله فتنته ثم ذكر فاعل الزيادة فقال: {ما أنزل إليك من ربك} من القرآن {طغياناً} أي: تمادياً في الجحود {وكفراً} بآيات الله فيزدادون على كفرهم وطغيانهم طغياناً وكفراً مما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} فكل فرقة منهم تخالف الأخرى فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم. {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} أي: كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس بالفاء الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وقيل: كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم، وعن قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس {ويسعون في الأرض فساداً} أي: ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم وإثارة الحرب والفتن وهتك المحارم {وا لا يحبّ المفسدين} أي: فلا يجازيهم إلا شراً.b {ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به {واتقوا} أي: الكفر {لكفّرنا عنهم سيآتهم} أي: التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها {ولأدخلناهم جنات النعيم} مع المسلمين، وفي هذا إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم ودلالة على سعة رحمة الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيآت اليهود والنصارى وإنّ الإسلام يجبّ ما قبله وإن جلّ، وإن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم. {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} أي: أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وما أنزل إليهم} أي: من الكتب المنزلة {من ربهم} لأنهم مكلّفون بالإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم وقيل: هو القرآن وقوله تعالى: {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} عبارة عن التوسعة أي: لوسّع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم من بركات السماء والأرض أو أن تكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلّة أو أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجنونها من رأس الثمر والشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم بين سبحانه وتعالى بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا بقصور الفيض ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين {منهم أمّة} أي: جماعة {مقتصدة} أي: عادلة غير غالية ولا مقصّرة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: متوسطة في عداوته {وكثير منهم ساء} أي: بئس {ما} أي: شيئاً {يعملون} فيه معنى التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم وقيل: هو كعب بن الأشرف وأصحابه والروم. روى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: من حدثك أنّ محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله فقد كذب وهو يقول: {يأيها الرسول بلغ} جميع {ما أنزل إليك من ربك} أي: لا تكتم شيئاً منه خوفاً أن تنال بمكروه {وإن لم تفعل} أي: وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك {فما بلغت رسالته} أي: لأنّ كتمان بعضها ككتمان كلها أي: ولأنّ بعضها ليس بالأولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن كتمت آية لم تبلغ رسالتي واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل: نزلت في عتب اليهود وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزؤون به ويقولون: تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك نزلت هذه الآية وقيل: نزلت في الجهاد وذلك أنّ المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً من حثهم على الجهاد وقيل: لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى: {يأيها النبيّ قل لأزواجك} (الأحزاب، 28) فلم يعرضها عليهنّ خوفاً من اختيارهنّ الدنيا فنزلت وقيل غير ذلك وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بألف بعد اللام وكسر التاء والباقون بغير ألف ونصب التاء {وا يعصمك من الناس} أي: يحفظك ويمنعك منهم. فإن قيل: أليس قد شج وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وأوذي بضروب من الأذى؟ أجيب: بأنّ معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك، وفي هذا تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلايا فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت» وعن أنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس» قال البيضاويّ وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد بالتبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه اه. قال بعض العارفين: ولهذا قال تعالى: {بلغ ما أنزل إليك} ولم يقل ما تعرّفنا به إليك، واعلم أنّ المراد من الناس ههنا الكفار بدليل قوله تعالى: {إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين} أي: لا يمكنهم مما يريدون. وروي «أنه عليه الصلاة والسلام نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابيّ وهو نائم وأخذ سيفه واخترطه وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: «الله تعالى» فرعدت يد الأعرابيّ وسقط من يده وضرب رأسه الشجرة حتى انتثر دماغه» . {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} أي: دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه كما تقول هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه، وفي أمثالهم أقل من لا شيء {حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} أي: بأن تعملوا بما فيها ومن إقامتهما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد إقامة أصولها وما ينسخ من فروعها {وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك} أي: من القرآن {طغياناً وكفراً} لكفرهم به {فلا تأس} أي: تحزن {على القوم الكافرين} إن لم يؤمنوا بك أي: لا تهتم بهم فإن ضرر ذلك لا حق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة عنهم لك. {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا} هم اليهود {والصابئون} فرقة منهم {والنصارى} وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة. فإن قيل: بم رفع الصابئون وكان حقه والصابئين؟ أجيب: بأنه رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في خبر إنّ مع اسمها وخبرها كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك وأنشد سبيويه شاهداً له: *وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق* والشاهد في أنتم فإنه مبتدأ حذف خبره والتقدير وإلا فإنا بغاة وأنتم كذلك. فإن قيل: ما فائدة هذا التقديم والتأخير؟ أجيب: بأنّ الصابئين أشدّ العرب المذكورين في هذه الآية ضلالاً وما سموا صابئين إلا لأنهم صبأوا عن الأديان كلها أي: خرجوا فكأنه قال: هؤلاء الفرق الذين آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك، وقيل: منصوب بالفتحة فكما جوّز بالفتحة مع الياء في بنين وسنين جوّز مع الواو كما هنا وقوله تعالى: {من آمن با واليوم الآخر وعمل صالحاً} في محل رفع بالابتداء وخبره {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في الآخرة والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والجملة خبر إن. فإن قيل: كيف قيل: الذين آمنوا من آمن؟ أجيب: بأنّ المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بألسنتهم وهو المنافقون أو إنّ المراد مِنْ مَنْ ثبت على الإيمان واستقام ولم تخالجه ريبة فيه. {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي: على الإيمان بالله ورسوله {وأرسلنا إليهم رسلاً} أي: ولم نكتف بهذا العهد بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 أرسلنا رسلاً ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم} أي: بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاقّ التكاليف {فريقاً} أي: من الرسل {كذبوا} أي: كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل كعيسى {وفريقاً} منهم {يقتلون} كزكريا ويحيى وإنما جيء بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الحالة الشنيعة للتعجب منها وتنبيهاً على أنّ ذلك دينهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظة على رؤوس الآي. {وحسبوا} أي: ظنّ بنو إسرائيل {أن لا تكون} أي: توجد {فتنة} أي: لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا في الآخرة بل استخفوا بأمرها فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم إنهم أبناء الله وأحباؤه، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي برفع النون تنزيلاً للحساب منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة وأصله أنه لا تكون فتنة والباقون بالنصب على أنّ الحساب على بابه {فعموا} أي: عن الحق فلم يبصروه وهذا العمى هو الذي لا عمى في الحقيقة سواه وهو انطماس البصائر {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج، 46) {وصموا} عنه فلم يسمعوه أي: عَموا وصموا بعد موسى ويوشع عليهما السلام، والصمم أضر من العمى فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلاً؛ لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع {ثم تاب الله عليهم} ببعث عيسى بن مريم فرفعوه إلى الحق {ثم عموا وصموا} كرّة أخرى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {كثير منهم} بدل من الضمير {والله بصير بما يعملون} أي: وإن دقّ فيجازيهم به وفق أعمالهم. {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم} وهم اليعقوبية منهم القائلون بالاتحاد {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} أي: إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم {إنه من يشرك با} أي: يشرك في العبادة غيره {فقد حرّم الله عليه الجنة} أي: منعه من دخولها منعاً متحتماً فإنها دار الموحدين {ومأواه النار} أي: محل سكناه فإنها المعدة للمشركين {وما للظالمين من أنصار} أي: وما لهم أحد ينصرهم من النار لا بفداء ولا بشفاعة ولا بغيرهما فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق وهو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، نبه على أنهم عدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليه السلام فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم، ورده وأنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره، وأن يكون من كلام عيسى عليه السلام على معنى ولا ينصركم أحد مني فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن العقول أو لا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله. {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة} أي: أحد ثلاثة وهو حكاية عما قاله النسطورية والملكانية وفيه إضمار معناه ثالث ثلاثة الآلهة لأنهم يقولون: الإلهية مشتركة بين الله ومريم وعيسى ولك واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة، بين هذا قوله تعالى للمسيح: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة، 116) ومن قال إنّ الله تعالى ثالث ثلاثة بالعلم ولم يرد به الآلهة لم يكفر فإنّ الله يقول: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ثم قال الله تعالى رداً عليهم: {وما من إله إلا إله واحد} أي: وما في الموجودات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله واحد موصوف بالوحدانية متعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 عن الشركة ومن مزيدة للاستغراق {وإن لم ينتهوا} أي: الكفرة بجميع أصنافهم {عما يقولون} أي: من هاتين المقالتين وما داناهما {ليمسنّ} أي: مباشرة من غير حائل {الذين كفروا} أي: داوموا على الكفر {منهم عذاب أليم} أي: مؤلم لم ينقطع عنهم لعدم توبتهم ولذلك عقبه بقوله تعالى: {أفلا يتوبون} أي: يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده {إلى الله ويستغفرونه} أي: يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقريع والتهديد {وا غفور} أي: بالغ المغفرة يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {رحيم} أي: بالغ الإكرام لمن أقبل عليه فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم. {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت} أي: مضت {من قبله الرسل} أي: ليس هو بإله كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة وما من خارقة له إلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن كان قبله فإن كان قد أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وهو أعجب وإن كان قد خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأمّ وهو أغرب {وأمه صدّيقة} أي: بليغة الصدق في نفسها كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدّقن الأنبياء كما قال تعالى في وصفها {وصدّقت بكلمات ربها} (التحريم، 12) وهذه الآية من أدلة من قال إنّ مريم عليها السلام لم تكن نبية فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الردّ على من قال بإلهيتها إشارة إلى ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات فإنّ أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة وأكمل صفات أمه عليها السلام الصديقية. فائدة: مريم من أزواج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة. ولما بين سبحانه وتعالى أقصى ما لهما من الكمالات بين أنّ ذلك لا يوجب لهما الألوهية بقوله: {كانا يأكلان الطعام} لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام فكيف يكون إلهاً، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات والإله لا يكون محتاجاً وقيل: هذا كناية عن الحدث لأنّ من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ومن كانت هذه صفته كيف يكون إلهاً؟ ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة في أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادّعوا فيهما اتبعه التعجب بقوله: {انظر} متعجباً {كيف نبين لهم الآيات} على وحدانيتنا {ثم انظر أنى} أي: كيف {يؤفكون} أي: يصرفون عن الحق مع قيام البرهان. فإن قيل: ما معنى التراخي في قوله تعالى: {ثم انظر} ؟ أجيب: بأنّ معناه التفاوت بين العجبين أي: أنّ بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب. {قل أتعبدون من دون الله} أي: غيره يعني عليه السلام {ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} أي: لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّ الله تعالى به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من صحة الأبدان والسعة والخصب وكل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبإقدار الله تعالى وتمكينه وكأنه لا يملك شيئاً وهذا دليل قاطع على أن أمر عيسى منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً وصفة الرب تعالى أن يكون قادراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته تعالى. فإن قيل: إذا كان المراد السيد عيسى فلِمَ عبّر بما دون من مع أنّ المراد من يعقل؟ أجيب: بأنه أتى بما نظر إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية أو أن المراد كل ما عبد من دون الله تعالى سواء كان ممن يعقل أم لا {وا هو السميع} لأقوالكم {العليم} بأحوالكم فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر والاستفهام للإنكار. {قل يأهل الكتاب} أي: عامّة {لا تغلوا} أي: تجاوزوا الحد {في دينكم} وقوله تعالى: {غير الحق} صفة للمصدر أي: لا تغلوا في دينكم غلوّاً غير الحق أي: غلواً باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوان: حق وهو أن يجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون، وغلو باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة فيرفعوا عيسى عليه السلام إلى أن يدّعوا له الإلهية أو يضعوه ويرتابوا فيه، وقيل: الخطاب للنصارى خاصة. {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل} في غلوهم وهم أسلافهما الذين قد ضلّوا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في شريعتهم {وأضلوا كثيراً} أي: من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظنّ حقاً {وضلوا} أي: بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم {عن سواء السبيل} أي: طريق الحق وهو الإسلام والسواء في الأصل الوسط والأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، قال أبو عبيدة: لم يذكر الهوى إلا في موضع الشر لا يقال: فلان يهوى الخير إنما يقال: يريد الخير ويحبه وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال: كل هوى ضلالة. {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} أي: لعنهم الله في الزبور على لسان داود وإنّ أهل أيلة لمّا اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وخنازير وقوله تعالى {وعيسى بن مريم} عطف على داود أي: لعنهم الله في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم وهم أصحاب المائدة ما لم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام: اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبيّ، قال بعض العلماء: إنّ اليهود كانوا يفتخرون بأناس من أولاد الأنبياء فذكر الله تعالى هذه الآية ليدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء {ذلك} أي: اللعن المذكور {بما} أي: بسبب ما {عصوا وكانوا يعتدون} ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله تعالى: {كانوا لا يتناهون} أي: لا ينهى بعضهم بعضاً {عن منكر} أي: معاودة منكر {فعلوه} أو عن مثل منكر أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤا له وإنما قدر ما ذكر لأنّ التناهي عن منكر قد مضى محال {لبئس ما كانوا يفعلون} أي: يفعلونه والمخصوص بالذم محذوف أي: فعلهم هذا قال بعض المفسرين: فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبثهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب. {ترى كثيراً منهم} أي: من أهل الكتاب {يتولون الذين كفروا} أي: يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم} من العمل لمعادهم {أن سخط الله عليهم} أي: غضب عليهم {وفي العذاب هم خالدون} أي: دائماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 {ولو كانوا يؤمنون با والنبيّ} محمد صلى الله عليه وسلم {وما أنزل إليه} من عند الله تعالى أعم من القرآن وغيره إيماناً خالصاً من غير نفاق {ما اتخذوهم} أي: المشركين {أولياء} إذ الإيمان يمنع ذلك {ولكنّ كثيراً منهم فاسقون} أي: خارجون عن الإيمان، وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدعون ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يولهم المسلمون. {لتجدنّ} يا محمد {أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} من أهل مكة لتضاعف كفرهم وجهلهم وانهماكهم في اتباع الهوى وفي جعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين دلالة على شدة عداوتهم لهم، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} (البقرة، 96) وعنه صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هَمَّا بقتله» {ولتجدنّ أقربهم} أي: الناس {مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} إنما أسند تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود لأنهم الذين سموا أنفسهم نصارى حين قال لهم عيسى عليه السلام: {من أنصاري إلى الله} (آل عمران، 52) الآية، أو لأنهم كانوا يسكنون قرية يقال لها: ناصرة وكلهم لم يكونوا ساكنين فيها، وعلى التقديرين فتسميتهم نصارى ليست حقيقة بخلاف تسمية اليهود يهوداً فإنها حقيقة سواء سموا بذلك لكونهم أولاد يهودا بن يعقوب أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل بقولهم: إنا هُدْنا إليك أو لتحرّكهم في دراستهم. ثم علل سبحانه وتعالى سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بقوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين} أي: علماء {ورهباناً} أي: عباداً {وأنهم لا يستكبرون} عن اتباع الحق كما استكبر اليهودو المشركون من أهل مكة، نزلت في وفد النجاشي القادمين من الحبشة لا في كل النصارى لأنهم في عداوتهم للمسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب ديارهم وهدم مساجدهم وحرق مصاحفهم، قال أهل التفسير: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله تعالى منهم من شاء ومنع الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إنّ ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحداً فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً» وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولهم: قيصر وكسرى فخرج إليه سراً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة من جملتهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وتتابع المسلمون إليهما فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك أرسلوا إلى النجاشي بالهدايا ليردّهم إليهم فعصهم الله تعالى وانصرفوا خائبين، وأقام المسلمون هناك بحسن دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا دينه في سنة ست من الهجرة كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوّجه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها فأرسل النجاشي إلى أمّ حبيبة جارية تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسرت بذلك وأذنت لخالد بن سعيد أن يزوّجها وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي فأنفذ إليها أربعمائة دينار، قالت أمّ حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم ووافى جعفر بن أبي طالب وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشأم فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكوا وأسلموا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. قال تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} من القرآن {ترى أعينهم تفيض من الدمع} أي: جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنهم تفيض بأنفسها {مما عرفوا من الحق} من الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا من الحق أو التبعيض فإنه بعض الحق والمعنى: إنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله، وقال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرىء عليهم ثم دعا بجعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين وأمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم كهيعص فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة قالوا: آمنا كما قال تعالى: {يقولون ربنا آمنا} أي: صدقنا نبيك وكتابك {فاكتبنا مع الشاهدين} أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة دليله قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة، 143) وإذا نظرت مكاتبات النبيّ صلى الله عليه وسلم ازددت بصيرة في صدق هذه الآية فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن أو كان ليناً ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهودة بن علي وغيرهم وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية في الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم ولم يجز رسوله بشيء قال البقاعي: السرّ في ذلك أنه لما كان عيسى عليه الصلاة والسلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودّة لاتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا في جواب من عيّرهم بالإسلام من اليهود. {وما لنا لا نؤمن با وما جاءنا من الحق} وهو القرآن لا مانع لنا من الإيمان مع وجود مقتضيه وقوله تعالى: {ونطمع} معطوف على نؤمن {أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} أي: المؤمنين الجنة. {فأثابهم الله بما قالوا} أي: جعل ثوابهم على هذا القول المسند إلى خلوص النية الناشىء عن حسن الطوية {جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك} أي: الجزاء العظيم {جزاء المحسنين} أي: بالإيمان. {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} أي: الذين لا ينفكون عنها لا غيرهم من عصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم وعطف التكذيب بآيات الله على الكفر وهو ضرب منه لأنّ القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدّيقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب. {يأيها الذين آمنوا لا تحرموا} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 لا تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غير ذلك {طيبات} أي: مستلذات {ما أحلّ الله لكم} كمنع التحريم أي: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً {ولا تعتدوا} حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم {إنّ الله لا يحب المعتدين} أي: لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت ولا للمفرّطين فيه الذين يحللون ما حرمت أن يفعلوا فعل المحرّم من المنع وفعل المحلل من التناول فالآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرّم داعية إلى القصد بينهما. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف يوم القيامة لأصحابه فبالغ وأشبع في الكلام في الإنذار فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون وهم: أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟» قالوا: بلى يا رسول الله ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لم أومر بذلك» ثم قال: «إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم وقال: «ما بال أقوام يحرّمون النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة صوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية فقالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا فأنزل الله تعالى لا {يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} (البقرة، 225) ، الآية. وروي «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوز وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال: «المؤمن حلو يحب الحلاوة» وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال له: إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك وكفر عن يمينك» وعن الحسن: أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج والفالوز وغير ذلك فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن أهو صائم فقالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان فقال: يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم، وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوز يقول: لا أؤدي شكره قال: أفيشرب الماء البارد؟ قال: نعم قال: إنه جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوز، وعنه أنّ الله تعالى أدب عباده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فأحسن أدبهم قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} (الطلاق، 7) ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوه ولا عذر قوماً ذواهاً عنهم فعصوه. وروي أنّ عثمان بن مظعون أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ائذن لي في الاختصاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من خصى ولا من اختصى إن خصاء أمتي الصيام» فقال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحة فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» قال: يا رسول الله ائذن لي في الترهب قال: «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة» . وروي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت فأخذتني شهوة فحرّمت اللحم فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا تعارض بين الخبرين لأنّ الشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة بعضها أقرب من بعض. وروي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل نهياً شديداً وقال: «تزوّجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . {وكلوا مما رزقكم الله} ولما كان الرزق يقع على الحرام قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله: {حلالاً طيباً} وهو مفعول كلوا ومما حال منه تقدّمت عليه لأنه نكرة وقوله تعالى: {واتقوا الله} تأكيد للتوصية بما أمر الله به وزاده تأكيداً بقوله: {الذي أنتم به مؤمنون} لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعمّا نهى عنه. {لا يؤاخذكم الله باللغو} الكائن {في أيمانكم} هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الإنسان: لا والله وبلى والله وإليه ذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى، وقيل: هو الحلف على ما يظنّ أنه كذلك ولم يكن وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم} أي: وثقتم {الأيمان} عليه بأن حلفتم عن قصد. روي أنّ الحسن سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال: يا أبا سعيد دعني أجب عنك فقال: *ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم* والمعنى: ولكن يؤاخذكم الله بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف التقدير بأحد الأمرين للعلم به، وقرأ ورش يؤاخذكم بإبدال الهمزة واواً مفتوحة، وقرأ ابن ذكوان عاقدتم بألف بعد العين وتخفيف القاف والباقون بغير ألف مع تشديد القاف {فكفارته} أي: اليمين إذا حنثتم فيه التي تذهب إثمه وتزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم. {إطعام عشرة مساكين} أي: لكل مسكين مدّ عندنا ونصف صاع عند أبي حنيفة رحمه الله {من أوسط} أي: أعدل {ما تطعمون أهليكم} من برّ أو غيره لا من أعلاه ولا من أدناه {أو كسوتهم} بما يسمى كسوة كقميص وعمامة وإزار وسراويل ومقنعة من صوف وقطن وكتان وحرير ولو لرجل وإن لم يجز له لبسه لوقوع اسم الكسوة عليه رديئاً كان أو جيداً ويجزىء لبد أوفروة اعتبر في البلد لبسهما ولا يكفي دفع ما ذكر لمسكين واحد وعليه الشافعيّ ولا يكفي المكعب والنعل والخف والقلنسوة والتبان وهو سراويل قصيرة لا تبلغ الركبة ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة {أو تحرير رقبة} أي: مؤمنة كما في كفارتي القتل والظهار حملاً للمطلق على المقيد وجوّز أبو حنيفة عتق الكافرة في كل كفارة إلا القتل، وخرج بالتخيير بين هذه الثلاثة أنه لا يجزىء أن يطعم خمسة ويكسو خمسة كما لا يجزىء إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة {فمن لم يجد} أي: بأن عجز عن أحد ما ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 {فصيام ثلاثة أيام} أي: فكفارته صيام ثلاثة أيام ولا يجب تتابعها. فإن قيل: قرىء شاذاً متتابعات والقراءة الشاذة كخبر الواحد في وجوب العلم كما أوجبنا قطع يد السارق اليمنى بالقراءة الشاذة في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما} (المائدة، 38) ولأنّ من عادة الشافعي رحمه الله تعالى حمل المطلق على المقيد من جنسه وهو الظهار والقتل أجيب: بأنّ اليمين نسخ فيها متتابعات تلاوة وحكماً فلا يستدل بها بخلاف آية السرقة فإنها نسخت تلاوة لا حكماً وبأنّ المطلق ههنا متردّد بين أصلين يجب التتابع في أحدهما وهو كفارة الظهار والقتل ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان فلم يكن أحد الأصلين في التتابع بأولى من الآخر ويسنّ تتابعها خروجاً من خلاف أبي حنيفة فإنه شرط تتابعها. تنبيه: المراد بالعجز أن لا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة كمن يجد كفايته وكفاية من تلزمه مؤنته فقط ولا يجد ما يفضل عن ذلك وضابط ذلك: أنّ من جاز له أن يأخذ سهم الفقراء والمساكين من الزكاة والكفارات جاز له أن يكفر بالصوم لأنه فقير في الأخذ فكذا في الإعطاء {ذلك} أي: المذكور {كفارة أيمانكم إذا حلفتم} أي: وحنثتم {واحفظوا أيمانكم} أي: من أن تنكثوها ما لم تكن من فعل برّ أو إصلاح بين الناس كما مرّ في سورة البقرة {كذلك} أي: مثل ما بين لكم ما ذكر {يبين الله لكم آياته} أي: أعلام شريعته {لعلكم تشكرون} أي: يحصل منكم شكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية. {يأيها الذين آمنوا إنما الخمر} أي: المسكر الذي خامر العقل سواء فيه كثيره وقليله {والميسر} أي: القمار {والأنصاب} أي: الأصنام {والأزلام} أي: قداح الاستقسام {رجس} أي: خبيث مستقذر وإنما وحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأنّ أخبار الثلاثة حذفت وقدرت لأنها أهل لأن يقال في كل واحدة منها على حدتها كذلك ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله تعالى: {من عمل الشيطان} الذي يزينه {فاجتنبوه} أي: الرجس المعبر به عن هذه الأشياء أن تفعلوه {لعلكم تفلحون} أي: تظفرون بجميع مطالبكم. واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بأن صدّر الجملة بإنما وقرنهما بالأصنام والأزلام وسماهما رجساً وجعلهما من عمل الشيطان تنبيهاً على أن الاشتغال بهما شر خالص أو غالب وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعل الاجتناب سبباً يرجى منه الفلاح ثم قرّر ذلك بأن بين ما فيهما من المفاسد الدينية والدنيوية المقتضية للتحريم بقوله تعالى: {إنما يريد الشيطان} أي: بتزيين الشرب والقمار لكم {أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} أي: إذا أتيتموهما لما يحصل فيهما من الشرّ والفتن، أمّا العداوة في الخمر فإنّ الشارب إذا سكر عربد كما فعل الأنصاري الذي شج رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل، وأمّا العداوة في الميسر فقال قتادة: كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال مغتاظاً على حرفائه {ويصدّكم} بالاشتغال بهما {عن ذكر الله وعن الصلاة} وذلك لأنّ من اشتغل بشرب الخمر والقمار ألهاه ذلك عن ذكر الله وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف، تقدّم رجل منهم يصلي بهم صلاة المغرب بعدما ما شربوا فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد بحذف لا، وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهاً على أنهما المقصودان بالبيان وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله صلى الله عليه وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن» رواه البزار ورواه ابن حبان بلفظ «مدمن الخمر كعابد الوثن» قال: ويشبه أن يكون فيمن يستحلها وهو كذلك وخص الصلاة بالذكر للإفراد بالتعظيم والإشعار بأنّ الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر ثم أعاد الحثّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباً على ما تقدّم من أنواع الصوارف بقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} إيذاناً بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأنّ الأعذار قد انقطعت فلفظه الاستفهام ومعناه أمر كقوله تعالى: {فهل أنتم شاكرون} (الأنبياء، 480) {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فيما أمراكم به من اجتناب ذلك {واحذروا} مخالفتهما فيما ينهياكم عنه {فإن توليتم} أي: عن الطاعة {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} أي: فلا يضرّه توليكم فإنما عليه الإبلاغ البيّن، وقد أدّى وإنما ضررتم أنفسكم. ولما نزل تحريم الخمر قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر نزل. {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تصديقاً لإيمانهم {جناح} أي: حرج {فيما طعموا} أي: من مال الميسر وشربوا من الخمر قبل التحريم {إذا ما اتقوا} أي: المحرّمات {وآمنوا وعملوا الصالحات} أي: ثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة {ثم اتقوا} ما حرّم عليهم بعد الخمر {وآمنوا} بتحريمه {ثم اتقوا} أي: استمرّوا وثبتوا على اتقاء المعاصي {وأحسنوا} أي: وتحرّوا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها أو أن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة الماضي والحال والاستقبال التي تقع فيها الأفعال المذكورة وباعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله عز وجل ولأجل استعمال الإنسان التقوى بينه وبين الله أبدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسير الإحسان من قوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» أو باعتبار المراتب الثلاثة: المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما يتقي به فإنه ينبغي أن يترك المحرّمات توقياً من العقاب والشبهات تحزراً للنفس عن الوقوع في الحرام وبعض المباحات صوناً لها عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة {وا يحب المحسنين} أي: يثيبهم. ونزل عام الحديبية وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصيد فكانت الوحوش تغشى رحالهم فهموا بأخذها. {يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله} أي: ليختبرنكم {بشيء} يرسله لكم {من الصيد} وإنما بعض لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة وفائدة الابتلاء إظهار المطيع من العاصي وإلا فلا حاجة به إلى البلوى {تناله أيديكم} أي: ما لا يقدر أن يفرّ من الصيد لصغر أو غيره {ورماحكم} أي: ما يقدر على الفرار لكبر أو غيره {ليعلم الله} أي: علم ظهور فإنه تعالى يعلم ما تخفى الصدور {من يخافه بالغيب} أي: ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيجتنب الصيد، والمعنى: أنه سبحانه وتعالى يخرج بالامتحان ما كان من أفعال العباد في عالم الغيب إلى عالم الشهادة فيصير تعلق العلم به تعلقاً شهودياً كما كان تعلقاً غيبياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ليقوم بذلك على الفاعل الحجة في مجاري عاداتكم {فمن اعتدى} أي: فاصطاد {بعد ذلك} أي: الابتلاء بالصيد {فله عذاب أليم} أي: مؤلم وإنّ من لا يملك نفسه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون فيه النفس أميَل إليه وأحرص عليه. {يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} أي: محرمون بنسك أو في الحرم والنهي عما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفاً وأمّا غير المؤكول فيحل قتله فإنه لا حظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحداء والغراب والعقرب والفأرة والكلب» وفي رواية أخرى الحية بدل العقرب مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ وإنما ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم فإنّ مذبوح المحرم ميتة {ومن قتله منكم متعمداً} أي: قاصداً للصيد ذاكراً للاحرام إن كان محرماً والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم وذكر العمد ليس لتقييد وجوب الجزاء فإنّ إتلاف العامد والمخطىء واحد في إيجاب الضمان بل لقوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} ولأنّ الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو قتادة برمحه فقتله فنزلت، وعن الزهريّ نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ، وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئاً باشتراط العمد في الآية، وعن الحسن روايتان وقوله تعالى: {فجزاء} منوّن في قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ وما بعده مرفوع أي: فعليه جزاء هو {مثل ما قتل من النعم} أي: شبهه في الخلقة لا التساوي في القيمة، وقرأ الباقون بغير تنوين في جزاء وخفض لام مثل {يحكم به} أي: المثل رجلان {ذوا عدل منكم} أي: لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به فيحكمان به وقد ذهب إلى إيجاب المثل جماعة من الصحابة حكموا في بلدان مختلفة بالمثل من النعم فحكم ابن عباس وعمر وعليّ في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة وعمر في الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشاً وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة، ابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها في العب، والحمام كل ما عبّ وهدر من الطير كالفواخت والقمري والدبسيّ فدلّ ذلك على أنهم ينظرون إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة لا من حيث القيمة. وقوله: {هدياً} حال من جزاء وقوله تعالى: {بالغ الكعبة} أي: يبلغ به الحرم فيذبح فيه ويتصدّق به على مساكينه ولا يجوز أن يذبح حيث كان وهو نعت لما قبله وإن أضيف إلى معرفة لأنّ إضافته لفظية لا تفيد تعريفاً فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراف فعليه قيمته {أو} عليه {كفارة طعام مساكين} في الحرم من غالب قوت البلد مما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مدّ، وقرأ نافع وابن عامر كفارة بغير تنوين وخفض ميم طعام والباقون بالتنوين ورفع ميم طعام أي: هي طعام {أو} عليه {عدل} أي: مثل {ذلك} أي: الطعام {صياماً} يصومه في كل موضع يتيسر له عن كلّ مدّ يوماً، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها، قال البقاعي: والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل. وقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} متعلق بمحذوف أي: فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى: {فأخذناه أخذاً وبيلاً} (المزمل، 16) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ثقيلاً والطعام الوبيل الذي ينقل على المعدة ولا يستمر {عفا الله عما سلف} أي: من قتل الصيد قبل تحريمه فلا يؤاخذكم به {ومن عاد} إلى تعمد شيء من ذلك بعد النهي وقوله تعالى: {فينتقم الله منه} خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء ونحو ذلك قوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} (الجن، 13) أي: ينتقم الله تعالى منه في الآخرة وإذا تكرّر من المحرم قتل الصيد تعدّدت عليه الكفارة عند عامّة العلماء.f وعن ابن عباس وشريح: لا كفارة عليه تعلقاً بظاهر الآية فإنه لم يذكر الكفارة قالا: لأنّ الانتقام من العائد يمنع وجوب الكفارة {وا} الذي له صفات الكمال {عزيز} أي: غالب على أمره {ذو انتقام} أي: ممن أصبر على عصيانه. ولما كان هذا عاماً في كل صيد بيّن الله تعالى أنه خاص بصيد البرّ فقال: {أحلّ لكم} أيها الناس حلالاً كنتم أو محرمين {صيد البحر} أي: ما صيد منه وهو ما لا يعيش إلا في الماء كالسمك بخلاف ما يعيش فيه وفي البرّ عند الشافعيّ رحمه الله تعالى وذهب قوم إلى أنّ جميع ما في البحر حلال وظاهر الآية حجة له. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا يحلّ منه إلا السمك، وقوله تعالى: {وطعامه} عطف على صيد البحر أي: وأحلّ لكم طعام البحر وهو ما يقذفه من السمك ميتاً قال صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما وصححوه وقال قتادة: صيده طريه وطعامه مالحه، وقيل: الضمير للصيد وطعامه أكله وعلى هذا فالصيد بمعنى الاصطياد والمعنى: أحلّ لكم اصطياد الصيد وأكل المصيد من الأنهار والبرك وغيرهما من جميع المياه كالبحر. وقوله تعالى: {متاعاً} مفعول أي: أحلّ {لكم} تمتيعاً لكم تأكلونه طرياً {وللسيارة} أي: المسافرين منكم يتزوّدونه قديداً كما تزوّد موسى صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى الخضر الحوت {وحرّم عليكم صيد البرّ} أي: اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا يعيش إلا فيه وما يعيش فيه وفي البحر فإن صيد الحلال حل للمحرم أكله لقوله صلى الله عليه وسلم «لحم الصيد حلال لكم ما لم تصطادون أو يصد لكم» {ما دمتم حرماً} أي: محرمين وقد ذكر تعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاث مواضع من هذه السورة قوله تعالى: {غير محلى الصيد وأنتم حرم} (المائدة، 1) إلى قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة، 2) وقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة، 95) وقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً} (المائدة، 96) تشديداً على المحرم أنه لا يتعاطى ذلك وأكد ذلك بقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: في ذلك الاصطياد وغيره {الذي إليه تحشرون} فإنه مجازيكم بأعمالكم. {جعل الله الكعبة} أي: صيرها وسمى البيت كعبة لتكعبه أي: تربعه وقال مجاهد: سميت كعبة لترفعها والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة وقال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البناء وقوله تعالى: {البيت الحرام} أي: المحترم عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك {قياماً للناس} أي: يقوم به أمر دينهم بالحج أو العمرة إليه ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرّض له وجبي ثمرات كل شيء إليه قال الرازي: والمراد بعض الناس وهم العرب وإنما حسن هذا المجاز؛ لأنّ أهل كل بلد إذا قالوا: الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم. وقرأ ابن عامر قيماً بغير ألف مصدر قام غير معل والباقون بالألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 {والشهر الحرام} أي: الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أي: صير الأشهر الحرم قياماً للناس يأمنون فيها من القتال {والهدي} أي: الذي لم يقلد {والقلائد} أي: الهدى الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء ومرّ الكلام عليه في أوّل السورة {ذلك} أي: الجعل المذكور وهو الأربعة الأشياء التي جعلها الله قياماً للناس {لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها دليل على علمه بما في الوجود وما هو كائن وقوله تعالى: {وإنّ الله بكل شيء عليم} تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق وقوله تعالى: {اعلموا أنّ الله شديد العقاب} فيه وعيد لأعدائه ممن انتهك محارمه وقوله تعالى: {وإنّ الله غفور} فيه وعد لأوليائه ممن حافظ عليها {رحيم} بهم وقوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ} فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط {وا يعلم ما تبدون} أي: تظهرون من العمل {وما تكتمون} أي: تخفون منه فيجازيكم به. وقوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب} حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها رغب به في صالح العمل وحلال المال {ولو أعجبك كثرة الخبيث} إذ لا عبرة بالقلة والكثرة بل بالجودة والرداءة فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال تعالى: {فاتقوا الله} أي: في ترك الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى وآثِروا الطيب وإن قلّ في الحس لكثرته في المعنى {يا أولي الألباب} أي: أصحاب العقول السليمة {لعلكم تفلحون} أي: لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب. ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم {يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد} أي: تظهر {لكم تسؤكم} أي: لما فيها من المشقة فقيل: سبب نزولها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه إنهم لما سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه المسألة أي: بالغوا في السؤال فغضب وصعد المنبر وقال: «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» وشرع يكرّر ذلك وإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حذافة» فقال عمر رضي الله تعالى عنه: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه قد صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط في آخره» فنزلت هذه الآية. وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله أنا حديث عهد بجاهلية اعف عنا يعف الله عنك فسكن غضبه، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضاً قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان فنزلت هذه الآية. وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 عليه وسلم كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال صلى الله عليه وسلم «لا أسأل عن شيء إلا وأجيب» فقال رجل: أين أنا؟ قال: «في النار» وقال آخر: من أبي؟ قال: «حذافة» وكان يدعى لغيره فنزلت هذه الآية. وقيل غير ذلك ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردّها إلى شيء واحد لما مرّ عند قوله تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} (المائدة، 87) من أنّ الأمر الواحد قد تتعدّد أسبابه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى والباقون بتحقيقهما. ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أنّ هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه قال تعالى: {وإن تسألوا عنها} أي: تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها {حين ينزل القرآن تبد لكم} المعنى: إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلى الله عليه وسلم ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ثم عفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقوله تعالى: {عفا الله عنها} استئناف أي: عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مسألتها أو صفة أخرى أي: عن أشياء عفا الله عنها ولا يكلف بها. روي أنه لما نزل {وعلى الناس حج البيت} (آل عمران، 97) قال سراقة بن مالك: ألكل عام فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثاً فقال: «لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» . {وا غفور} يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام {حليم} لا يعجل على العاصي بالعقوبة وقوله تعالى: {قد سألها قوم} الضمير فيه للمسألة التي دلّ عليها تسألوا ولذلك لم يعدّ بعن أو الأشياء بحذف الجار وقوله تعالى: {من قبلكم} قال البيضاويّ: متعلق بسألها وليس صفة لقوم فإن ظرف الزمان لا يكون صفة لجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها اه. قال أبو حيان: هذا محله في ظرف الزمان المجرّد من الوصف أمّا إذا لم يتجرّد عنه فيصح أن يكون صفة للجثة أو حالاً منها أو خبراً عنها، وقبل وبعد وصفان في الأصل فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي: تقدّم عليه ولذا صح وقوعه صلة للموصول ولو لم يلحظ فيه الوصف ولو كان ظرف زمان مجرّداً لم يجز أن يقع صلة قال تعالى: {والذين من قبلكم} (البقرة، 21) ولا يجوز والذين اليوم وممن سألها قبلهم ثمود سألوا صالحاً الناقة وسأل قوم عيسى المائدة {ثم أصبحوا} أي: صاروا {بها} أي: بسببها {كافرين} حيث لم يأتمروا بما سألوا جحوداً وقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} ردّ وإنكار لما ابتدعته أهل الجاهلية. روي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر يجزوا أذنها أي: شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ وقيل: إنهم كانوا ينظرون إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى يجزوا أذنها أي: شقوها وتركوها، وحرم على النساء لبنها ومنافعها وكانت منافعها خاصة للرجال وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ماتت حلت للرجال والنساء. وأما السائبة فكان الرجل منهم يقول: إن شفيت أو ردّ غائبي فناقتي سائبة ثم يسيبها فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا تركب ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وقيل: كانت الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فإن نتجت بعد ذلك أثنى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع أمّها في الإبل فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمّها فهي البحيرة بنت السائبة. وأمّا الوصيلة فمن الغنم كانت إذا ولدت سبعة أبطن نظر فإن كان السابع ذكراً ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وقيل: إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وكان ابن الأنثى حراماً على النساء فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعاً. وأمّا الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال: إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وإذا مات أكله الرجال والنساء. وروي «أنه صلى الله عليه وسلم قال لأكثم الخزاعي: يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجرّ قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك أنه أوّل من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه» فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: «لا إنك مؤمن وهو كافر» ومعنى {ما جعل الله} أي: ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير ولا التسيب ولا غير ذلك {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في قولهم: إنّ الله أمرنا بها {وأكثرهم لا يعقلون} أنّ ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا} أي: كافينا {ما وجدنا عليه آباءنا} إذ لا مستند لهم سوى ذلك قال الله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون} أي: إلى الحق والاستفهام للإنكار أي: أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين. وقرأ هشام والكسائيّ قيل بضم القاف قبل الياء والباقون بالكسر. {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} أي: احفظوها والزموا إصلاحها {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} أي: لا يضركم الضالّ إذا كنتم مهتدين ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» . وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه» . وفي رواية «لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لهم» . قال أبوعبيدة: خاف الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه يتأوّل الناس الآية غير متأوّلها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف فأعلمهم أنها ليست كذلك، قال أبو ثعلبة الخشني: سألت عن هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت الأمر لا بدّ لك منه فعليك نفسك ودع أمر العامة وإن وراءكم أيام الصبر فمن صبر فيهنّ قبض على الجمر وإنّ وراءكم أياماً للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله» قال ابن المبارك وزادني غيره قال: «أجر خمسين منكم» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ هذه الآية قرئت عنده فقال: إنّ هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه وبسط لعذره وعنه ليس هذا زمان تأويلها قيل: فمتى؟ قال: إذا حال دونها السيف والسوط والحبس. وروي: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل» . وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك ولاموه فنزلت: عليكم أنفسكم وعليكم من أسماء الفعل بمعنى الزموا أنفسكم ولذلك نصب أنفسكم {إلى الله مرجعكم جميعاً} الضال والمهتدي {فينبئكم بما كنتم تعملون} فيجازيكم به، وفي ذلك وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أنّ أحداً لا يؤاخذ بذنب أحد غيره. {يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم} أي: فيما أمرتم شهادة بينكم فشهادة مبتدأ خبره محذوف، قيل: هذه الآية وما بعدها من أشكل آي القرآن حكماً وإعراباً وتفسيراً والمراد بالشهادة الإشهاد بالوصية. وقيل: المراد بها اليمين بمعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، قال القرطبي: ورد لفظ الشهادة في القرآن على أنواع مختلفة بمعنى الحضور قال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة، 185) وبمعنى قضى قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} (ال عمران، 18) وبمعنى أقرّ قال تعالى: {والملائكة يشهدون} (النساء، 166) وبمعنى حكم قال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} (يوسف، 26) وبمعنى حلف قال تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} (النور، 6) وبمعنى وصى قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} أي: أسبابه {حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} وهذا خبر بمعنى الأمر أي: ليشهد وإضافة شهادة ل «بين» على الاتساع وحين بدل من إذا أو ظرف لحضر واثنان فاعل شهادة أو خبر مبتدأ محذوف أي: الشاهد اثنان ومن فسر الغير بأهل الذمّة جعله منسوخاً فإنّ شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً، وقد اتفق الأكثرون على أنه لا نسخ في سورة المائدة، وعن مكحول نسخها قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق، 2) وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر. {إن أنتم ضربتم} أي: سافرتم {في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} أي: قاربتم الأجل وقوله تعالى: {تحبسونهما} أي: توقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران {من بعد الصلاة} أي: صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل: أيّ صلاة كانت {فيقسمان} أي: يحلفان {با} وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره: إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كانا الوصيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فلا إثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه {إن ارتبتم} أي: شككتم فيما أخبرا به عن الواقعة ثم ذكر المقسم عليه بقوله: {لا نشتري به ثمناً} أي: بهذا الذي ذكرناه ثمناً أي: لم نذكره ليحصل لنا به غرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة وليس قصدنا به إلا إقامة الحق {ولو كان} أي: القسم له {ذا قربى} أي: لنا {ولا نكتم شهادة الله} أي: التي أمرنا بإقامتها {إنا إذا} أي: إذا كتمناها {لمن الآثمين} . {فإن عثر} أي: اطلع بعد حلفهما {على أنهما استحقا إثماً} أي: فعلاً ما يوحيه من خيانة أو كذب في الشهادة بأن وجد عندها مثلاً ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به {فآخران} أي: فشاهدان آخران {يقومان مقامهما} أي: في توجيه اليمين عليهما {من الذين استحق عليهم} الوصية وهم الورثة على قراءة غير حفص بضم التاء وكسر الحاء على البناء للمفعول وعلى البناء للفاعل فهو الأوليان ويبدل من آخران {الأوليان} بالميت أي: الأقربان إليه، وقرأ حمزة وشعبة بتشديد الواو وكسر اللام وبسكون الياء وفتح النون على الجمع على أنه صفة للذين أو بدل منه أي: من الأوّلين الذين استحق عليهم والباقون بسكون الواو وفتح اللام والياء وألف بعد الياء وكسر النون على التثنية على أنه بدل من آخران كما مرّ أو خبر محذوف أي: هما الأوليان {فيقسمان} أي: هذان الآخران {با} ويقولان {لشهادتنا} أي: يميننا {أحق} أي: أصدق {من شهادتهما} أي: يمينهما {وما اعتدينا} أي: تجاوزنا الحق في اليمين {إنا إذا} أي: إذا وقع منا اعتداء {لمن الظالمين} أي: الواضعين الشيء في غير موضعه. ومعنى الآيتين: أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته أو يوصي إليهما احتياطاً فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإن الشاهد لا يحلف ولا تعارض يمينه بيمين الوارث، وثابت إن كانا وصيين وردّ اليمين إلى الورثة إمّا لظهور خيانة الوصيين فإنّ تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها، وهي ما روي أنّ رجلاً من بني سهم خرج مع تميم الداري وعدي بن زيد إلى الشام للتجارة وكانا حينئذٍ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً فلما قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما بها وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ثم قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة ودفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا فأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاءوا تميماً وعدياً فقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً؟ قالا: لا قالوا: هل اتجر تجارة قالا: لا قالوا: فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا قالوا: فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا منها إناء من فضة مموّهاً بالذهب ثلثمائة مثقال من فضة قالا: ما ندري إنما أوصى لنا بشيء وأمرنا أن ندفعه لكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاحتصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجترآ على الإنكار وحلفا فأنزل تعالى الله: {يأيها الذين آمنوا} الآية فلما نزلت هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميماً وعدياً فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئاً مما دفع إليهما فحلفا على ذلك وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما، ثم وجد الإناء في أيديهما، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك فقالا: إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا: ألم تزعما أنّ صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا بينة وكرهنا أن نقر لكم فكتمنا لذلك فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فإن عثر فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان وحلفا وتقدّم أنّ تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.f {ذلك} أي: الحكم المذكور من ردّ اليمين على الورثة {أدنى} أي: أقرب {أن} أي: إلى أن {يأتوا} أي: الذين شهدوا أوّلاً {بالشهادة} أي: الواقعة في نفس الأمر {على وجهها} أي: الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة {أو} أقرب إلى أن {يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم} أي: على الورثة المدعين فيحلفون على خيانتهم وكذبهم فيفتضحون ويغرمون فلا يكذبوا وإنما جمع الضمير؛ لأنه حكم يعم الشهود كلهم {واتقوا الله} بترك الخيانة والكذب {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول {وا لا يهدي القوم الفاسقين} أي: الخارجين عن طاعته لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة. وقوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} أي: يوم القيامة منصوب بإضمار اذكر. وقيل: بدل من مفعول واتقوا بدل اشتمال {فيقول} لهم توبيخاً لقومهم كما أنّ سؤال الموءودة لتوبيخ الوائد {ماذا} أي: الذي {أجبتم} به حين دعوتم إلى التوحيد {قالوا لا علم لنا} أي: لا علم لنا بما أنت تعلمه {إنك أنت علام الغيوب} فتعلم ما أجابونا وأظهروا لنا وما لم نعلم مما أضمروا في قلوبهم وقوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} أي: اشكرها منصوب بإضمار اذكر، وقيل: بدل من يوم يجمع وهو على طريقة: ونادى أصحاب الجنة، والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة يومئذٍ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهروا عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة وقوله تعالى: {إذ أيدتك} أي: قوّيتك ظرف لنعمتي أو حال منه {بروح القدس} أي: جبريل عليه السلام فكان له في الصغر حفظ لم يكن لغيره وقوله تعالى: {تكلم الناس} حال من الكاف في أيدتك {في المهد} أي: طفلاً {وكهلاً} أي: تكلمهم في الطفولية والكهولة على السواء والمعنى: إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهول في كمال العقل والتكلم به، وبه استدل على أنه ينزل قبل الساعة؛ لأنه رفع قبل الكهولة كما سبق في آل عمران {وإذ علمتك الكتاب} أي: الخط الذي هو مبدأ العلم {والحكمة} أي: الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم {والتوراة} أي: المنزلة على موسى صلى الله عليه وسلم {والإنجيل} أي: المنزل عليك {وإذ تخلق من الطين} أي: هذا الجنس {كهيئة} أي: كصورة {الطير} والكاف اسم بمعنى مثل مفعول {بإذني} أي: بأمري {فتنفخ فيها} أي: في الصورة المهيأة {فتكون} تلك الصورة التي هيأتها {طيراً بإذني} أي: بإرادتي، وقرأ نافع بالمدّ بعد الطاء وبعد الألف همزة مكسورة وورش يرقق الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء {وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني} وسبق تفسيرهما في سورة آل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 عمران {وإذ تخرج الموتى} أي: من قبورهم أحياء {بإذني وإذ كففت بني إسرائيل} أي: اليهود {عنك} أي: حين هموا بقتلك وقوله تعالى: {إذ جئتهم} ظرف لكففت {بالبينات} أي: المعجزات {فقال الذين كفروا منهم أن} أي: ما {هذا} الذي جئت به {إلا سحر مبين} أي: بيّن ظاهر، وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء إشارة إلى عيسى عليه السلام، والباقون بكسر السين وسكون الحاء ولا ألف بعدها إشارة إلى ما جاء به. {وإذا أوحيت} أي: بالإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً {إلى الحواريين} أي: الأنصار {أن} أي: بأن {آمنوا بي وبرسولي} عيسى صلى الله عليه وسلم {قالوا آمنا} بهما {واشهد بأننا مسلمون} أي: منقادون أتم انقياد وقوله تعالى: {إذ قال الحواريون} منصوب باذكر. وقيل: ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أنّ ادعاءهم الإخلاص مع قولهم: {يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك} قرأ الكسائي بالتاء على الخطاب وإدغام لام هل فيها على أصله، وفتح الباء الموحدة من ربك أي: هل تستطيع ربك أي: سؤال ربك والمعنى: هل تسأل ذلك من غير صارف؟ وقرأ الباقون بالياء على الغيبة ورفع الباء أي: يجيبك ربك إذا سألته {أن ينزل علينا مائدة} وهي الطعام ويقال أيضاً للخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان: شيء يوضع عليه الطعام للأكل هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين أي: تميل، وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى مفعولة أي: تميد أيدي الآكلين إليها كقولهم: عيشة راضية أي: مرضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقولهم: {من السماء} أي: لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدّمنا من الأمم لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة {قال} عيسى عليه الصلاة والسلام مجيباً لهم {اتقوا الله} أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم {إن كنتم مؤمنين} بكمال قدرته تعالى وصحة نبوّتي أو صدقتكم في ادعائكم الإيمان فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان. {قالوا نريد} أي: بسؤالنا من أجل {أن نأكل منها} تبرّكاً لا أكل حاجة وقولهم: {وتطمئن} أي: تسكن {قلوبنا} بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته بيان لمّا دعاهم إلى السؤال وتمهيد عذرهم وقولهم: {ونعلم} أي: نزداد علماً {أن} مخففة أي: إنك {قد صدقتنا} في ادعاء النبوّة وإنّ الله يجيب دعوتنا، وقيل: إنّ عيسى عليه السلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا: ونعلم إن قد صدقتنا في قولك إنا إذا صمنا ثلاثين يوماً لا نسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطانا {ونكون عليها من الشاهدين} إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر. {قال عيسى بن مريم} لما رأى أنّ لهم غرضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها {اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة} وحقّق موضع الإنزال بقوله: {من السماء تكون} هي أو يوم نزولها {لنا عيداً} نعظمه ونشرفه وقال سفيان: نصلي فيه. وروي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً، وقيل: إنّ عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ثم قال: اللهمّ ربنا إلخ.. وقيل: العيد السرور العائد ولذلك سمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يوم العيد عيداً وقوله: {لأوّلنا وآخرنا} بدل من لنا بإعادة العامل أي: عيداً لأهل زماننا ولمن جاء بعدنا وقال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وقوله: {وآية} عطف على عيداً وقوله: {منك} صفة لها أي آية كائنة منك دالّة على كمال قدرتك وصحة نبوّتي {وارزقنا} المائدة والشكر عليها {وأنت خير الرازقين} أي: من يرزق؛ لأنه تعالى خالق الرزق ومعطيه بلا غرض. {قال الله} تبارك وتعالى مجيباً لعيسى عليه السلام {إني منزلها عليكم} أي: المائدة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {فمن يكفر بعد} أي: بعد نزولها {منكم فإني أعذبه عذاباً} أي: تعذيباً أو مفعولاً به على السعة والضمير في {لا أعذبه} للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء {أحداً من العالمين} أي: عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً فإنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يُعذّب بمثل ذلك غيرهم، قال عبد الله بن عمران: أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وقوم فرعون. واختلف العلماء هل نزلت المائدة أو لا؟ فقال مجاهد والحسن: لم تنزل فإنّ الله تعالى لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستغفروا وقالوا: لا نريدها فلم تنزل، وقوله تعالى: {إني منزلها عليكم} أي: إن سألتم والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت لقوله تعالى: {إني منزلها عليكم} ولتواتر الأخبار في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في صفتها فقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسيّ: لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه السلام مسحاً وبكى وقال: {اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة} الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة، فقام فتوضأ وصلى وكشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس أي: بلا قشر كالفلوس ولا شوك تسيل دهناً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد، فقال شمعون الصفار وهو رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس شيئاً مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بقدرته، كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله فقال: يا روح الله كن أوّل من يأكل منها فقال: معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها، من سألها فخافوا أن يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين وقال: كلوا من رزق الله لكم الهناء ولغيركم البلاء، فأكلوا وصدروا عنها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة من فقير وزمن ومريض ومبتلى كلهم شبعان والسمكة كهيئتها حين نزلت، ثم طارت المائدة صعوداً وهم ينظرون إليها حتى توارت فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى، وندم من لم يأكل فلبثت أربعين صباحاً تنزل ضحاً فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء أي: زالت الشمس طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم، وكانت تنزل غِبَّاً تنزل يوماً ولا تنزل يوماً كناقة ثمود، وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشياً حيث كانوا كالمنّ والسلوى لبني إسرائيل، وقال وهب بن منبه: أنزل الله تعالى أقراصاً من شعير وحيتاناً فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم، وقال عطية العوفي: نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء، وقال الكلبي: كان عليها خبز أرز وبقل، وقال قتادة: كان عليها ثمر من ثمار الجنة، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم، وقال كعب الأحبار: نزلت منكسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كلّ الطعام ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها كانت تنزل تارة كذا وتارة كذا. قيل: لما نزلت قالوا: يا رسول الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال: يا سمكة إحيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية، ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا فمسخ منهم ثلثمائة وثلاثون رجلاً من ليلتهم على فراشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون، وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطوف بعيسى وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. وفي حديث: «أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادّخروا فمسخوا قردة وخنازير» . {و} اذكر {إذ قال الله} أي: يقول لعيسى في القيامة توبيخاً لقومه وإنما عبر بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النمل، 1) {يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} أي: غيره، وقال السدّي: قال الله هذا القول لعيسى حين رفعه إلى السماء؛ لأن حرف إذ يكون للماضي وسائر المفسرين على الأوّل، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وأدخل ألفاً بينهما قالون وأبو عمرو وورش وابن كثير لم يدخلا ألفاً بينهما والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أمي بفتح الباء والباقون بالسكون. فإن قيل: ما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى عليه السلام لم يقله؟ أجيب: بأنه ذكر لتوبيخ قومه كما مرّ، ولتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله إعلاماً واستعظاماً لا استخباراً واستفهاماً، وأيضاً أراد الله عز وجل أن يقرّ عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك. قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب ارتعدت فرائصه ومفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم ثم {قال} وهو يرعد مجيباً لله {سبحانك} أي: أنزهك عن أن يكون لك شريك {ما يكون} أي: ما ينبغي {لي أن أقول ما ليس لي بحق} خبر ليس «ولي» للتبيين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي الأولى بفتح الياء والباقون بالسكون {إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما} أخفيه {في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} أي: ما أخفيته عني من الأشياء وقوله: في نفسك للمشاكلة. وقيل: المراد بالنفس الذات وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 {إنك أنت علام الغيوب} تقرير لجملتي {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} باعتبار منطوق {إنك أنت علام الغيوب} ومفهومه لأنه يدل بمنطوقه على أنه تعالى لا يعلم الغيب غيره فيكون تقريراً لقوله تعالى: {ولا أعلم ما في نفسك} وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم. {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} وهو {أن اعبدوا الله ربي وربكم} أي: فأنا وإياهم في العبودية سواء {وكنت عليهم شهيداً} أي: رقيباً أمنعهم مما يقولون {ما دمت فيهم فلما توفيتني} بالرفع إلى السماء لقوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إليّ} (آل عمران، 55) والتوفّي أخذ الشيء وافياً والموت نوع منه قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} (الزمر، 42) {كنت أنت الرقيب} أي: الحفيظ {عليهم} أي: لأعمالهم {وأنت على كل شيء} من قولي وقولهم وغير ذلك {شهيد} أي: مطلع عالم به. {إن تعذبهم} أي: من أقام على الكفر منهم {فإنهم عبادك} وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك {وإن تغفر لهم} أي: لمن آمن منهم {فإنك أنت العزيز} أي: الغالب على أمره {الحكيم} في صنعه فإن عذبت فعدل، وإن عفوت ففضل. {قال الله} تعالى {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} أي: في الدنيا كعيسى فإنّ النافع ما كان حال التكليف لا صدقهم في الآخرة، وقرأ نافع بنصب الميم على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف، والمعنى: هذا الذي من كلام عيسى عليه السلام واقع يوم ينفع، والباقون بالرفع على الخبر، وقيل: أراد بالصادقين النبيين، وقال الكلبي: ينفع المؤمنين إيمانهم، وقال قتادة: متكلّمان يخطبان يوم القيامة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو ما قصّ الله تعالى وعدوّ الله إبليس، وهو قوله تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر فصدق عدوّ الله يومئذٍ، وكان كاذباً فلم ينفعه صدقه. قال: ولما كان عيسى صادقاً في الدنيا والآخرة نفعه صدقه. ثم بيّن تعالى ثوابهم فقال: {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} وأكد معنى ذلك بقوله تعالى: {أبداً} ولما كان ذلك لا يتمّ إلا برضا الله تعالى قال: {رضي الله عنهم} بطاعته {ورضوا عنه} بثوابه {ذلك} أي: هذا الأمر العليّ لا غيره {الفوز العظيم} وأمّا الكاذبون في الدنيا فلا ينفعهم صدقهم في ذلك اليوم كالكفار لما يؤمنون عند رؤية العذاب. {ملك السموات والأرض} أي: خزائن المطر والنبات والرزق وغيرها {وما فيهنّ} من إنس وجنّ وملك وغيرهم ملكاً وخلقاً، وأتى بما دون من تغليباً لغير العاقل {وهو على كل شيء قدير} ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب، قال السيوطي: وخصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر، وقوله البيضاوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا» حديث موضوع. سورة الأنعام مكية روي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلاً ونزل معها سبعون ألف ملك قد سدّوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان ربي العظيم» وخرّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ساجداً، والزجل ـ بفتح الزاي والجيم: القوّة، قال البغوي: وروي مرفوعاً «من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره» ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت سورة الأنعام بمكة إلا قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم} إلى قوله تعالى: {لعلكم تتقون} فهذه الست آيات مدنيات. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالكتاب فكتبوها من ليلتهم إلا الست آيات، قال بعض العلماء: واختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني: أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة والسبب فيها أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين وهي مائة وخمسة وستون آية وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر ألفاً وأربعمائة واثنان وعشرون حرفاً. {بسم الله} الذي تعالت عظمته عن كل شائبة نقص فكان له كل كمال {الرحمن} الذي عمت نعمته المحسن والمسيء فغمر الكل بالنوال {الرحيم} الذي خص أولياءه بإتمام النعمة فهداهم بنعمة الإيصال. {الحمد} هو الوصف بالجميل ثابت {} وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به أو الثناء به أو هما احتمالات قال الجلال المحلى في سورة الكهف: أفيدها الثالث، وتقدّم الكلام على الحمد لغة واصطلاحاً في أوّل الفاتحة، وقال كعب الأحبار: هذه الآية أوّل آية في التوراة وآخر آية في التوراة {وقل الحمد الذي لم يتخذ ولداً} (الإسراء، 111) إلى آخر الآية. وفي رواية أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: افتتح الله الخلق بالحمد فقال: {الحمد} {الذي خلق السموات والأرض} وختم بالحمد فقال تعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد رب العالمين} (الزمر، 75) وقال أهل المعاني: لفظ الحمد لله خبر ومعناه الأمر أي: احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث أنه جمع الأمرين، ولو قيل: احمدوا الله لم يجمع الأمرين فكان قوله: {الحمد} أبلغ وإنما خص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما ترى العباد لأنّ السماء بغير عمد ترونها فيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلائق وفيها أيضاً العبر والمنافع، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهنّ لأنّ طبقاتها مختلفة الذات متفاوتة الآثار والحركات بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره وغير ذلك مما هو محرّر عند أهله وقدمها لشرفها قدراً وعظماً، وإن كانت الأرض أشرف من حيث أنها مسكن الأنبياء {وجعل} أي: خلق {الظلمات والنور} أي: كل ظلمة ونور وجمعها دونه لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها إذ ما من جرم إلا وله ظلّ وظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار ولا ترد الأجرام المنيرة كالكواكب لأنّ مرجع كل نير إلى النار على ما قيل: إنّ الكواكب أجرام نورانية نارية وإنّ الشهب منفصلة من نار الكواكب فصح أنّ النور من جنس النار وأن المراد بالظلمة الضلال وبالنار الهدى والهدى واحد والضلال متعدّد وتقديمها لتقدّم الإعدام على الملكات وقوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} عطف على قوله: {خلق} أي: إنه تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم الذين كفروا يعدلون بربهم الأوثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أي: يسوونها به في العبادة وعلى هذا فيعدلون من العدل وهو التسوية، والباء متعلقة بيعدلون أو على قوله: الحمد لله على معنى أنّ الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه وأنعمه من العباد ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمته، وعلى هذا فيعدلون من العدول، والباء متعلقة بكفروا ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد وضوح آيات قدرته.n { هو الذي خلقكم من طين} أي: ابتدأ خلقكم منه فإنه المادّة الأولى، وإنّ آدم الذي هو أصل البشر خلق منه أو خلق أباكم فحذف المضاف، قال السدّي: بعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع جبريل عليه السلام ولم يأخذ قال: يا رب عاذت بك فبعث ميكائيل عليه السلام فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت عليه السلام فعاذت بالله منه فقال: أنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت: رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح الخلق من هذا الطين بيدك. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب وجعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأ مسنوناً ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالاً كالفخار ثم نفخ فيه من روحه {ثم قضى أجلاً} أي: أجلاً لكم تموتون عند انتهائه {وأجل مسمى} أي: مضروب {عنده} أي: وهو أجل القيامة، وقال الحسن: الأوّل: بين وقت الولادة إلى وقت الموت والثاني: من وقت الموت إلى البعث فإن كان الرجل براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} (فاطر، 11) وقيل: الأول: النوم، والثاني: الموت وقيل: الأوّل: لمن مضى، والثاني: لمن بقي ولمن يأتي {ثم أنتم} أيها الكفار {تمترون} أي: تشكون في البعث بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ومعنى ثم استبعاد أيضاً كما مرّ لأن يمتروا فيه بعدما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم. {وهو الله} الضمير لله والله خبره وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ بسكون الهاء من وهو والباقون بالضم وقوله تعالى: {في السموات وفي الأرض} متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل: هو مستحق العبادة فيهما ومنه قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف، 84) أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما، وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير تقديره: وهو الله {يعلم سركم} أي: ما تسرون {وجهركم} أي: ما تجهرون به بينكم في السموات والأرض، وقيل: معناه وهو إله السموات والأرض كقوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف، 84) {ويعلم ما تكسبون} أي: ما تعملون من خير أو شرّ فيثيب عليه أو يعاقب. فإن قيل: الأفعال إمّا أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإمّا أفعال الجوارح وهي المسماة بالجهر والأفعال لا تخرج عن السرّ والجهر فقوله تعالى: {ويعلم ما تكسبون} يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو غير جائز أجيب: بأنّ المراد بالسر ما يخفى وبالجهر ما يظهر من أحوال الأنفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وبالمكتسب أعمال الجوارح فهو كما يقال: هذا المال كسب فلان أنه مكتسبه فلا يحمل على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه. {وما تأتيهم} أي: الكفار {من آية من آيات ربهم} من الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض أي: ما يظهر لكم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن {إلا كانوا عنها معرضين} أي: تاركين لها وبها مكذبين. {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} أي: بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أتى به من المعجزات {فسوف يأتيهم أنباء} أي: عواقب {ما كانوا به يستهزؤن} بنزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره. {ألم يروا} أي: في أسفارهم إلى الشام وغيرها {كم} خبرية بمعنى كثيراً {أهلكنا من قبلهم من قرن} أي: أمّة من الأمم الماضية، وعلى هذا القرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل: القرن مدّة من الزمان قيل: إنها عشرة أعوام، وقيل: عشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: أربعون، وقيل: خمسون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون، وقيل: مائة. لما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني: «تعيش قرناً» فعاش مائة سنة وقيل: مائة وعشرون فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن {مكناهم في الأرض} أي: جعلنا لهم فيها مكاناً بالقوّة والسعة وقررناهم فيها {ما لم نمكن لكم} أي: ما لم نجعل لكم من السعة والقوّة فيه التفات عن الغيبة، والمعنى: لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثموداً وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا {وأرسلنا السماء} هي المطر {عليهم مدراراً} أي: متتابعاً {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} أي: تحت مساكنهم {فأهلكناهم بذنوبهم} أي: بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء فلم يغن ذلك عنهم شيئاً {وأنشأنا} أي: أحدثنا {من بعدهم قرناً آخرين} بدلاً منهم. فإن قيل: ما فائدة ذكر أنشأنا قرناً آخرين بعدهم؟ أجيب: بأنه ذكر للدلالة على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده فهو قادر على أن يفعل ذلك بكم. ونزل لما قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله {ولو نزلنا عليك كتاباً} أي: مكتوباً {في قرطاس} أي: رق كما اقترحوه {فلمسوه بأيديهم} أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك {لقال الذين كفروا أن} أي: ما {هذا إلا سحر مبين} أي: تعنتاً وعناداً كما قالوا في انشقاق القمر. {وقالوا لولا} أي: هلا {أنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {ملك} يكلمنا أنه نبي كقوله تعالى: {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} (الفرقان، 7) {ولو أنزلنا ملكاً بحيث} عاينوه كما اقترحوا فلم يؤمنوا {لقضي الأمر} أي: لحق إهلاكهم فإنّ سنة الله تعالى جرت فيمن قبلهم أنهم إذا جاءهم مقترحهم فلم يؤمنوا به يهلكهم {ثم لا ينظرون} أي: لا يمهلون لتوبة أو معذرة. {س6ش9/ش18 وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُ? وَلَلَبَسْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِى?َ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا? مِنْهُم مَّا كَانُوا? بِهِ? يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ سِيرُوا? فِى ا?رْضِ ثُمَّ انظُرُوا? كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَا?رْضِ? قُل لِّلَّهِ? كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ? لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رَيْبَ فِيهِ? الَّذِينَ خَسِرُو?ا? أَنفُسَهُمْ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ? مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ? وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَا?رْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَيُطْعَمُ? قُلْ إِنِّى? أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ? وَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّى? أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَـ?ـ?ِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ?? وَذَالِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَ كَاشِفَ لَهُ?? إِs هُوَ? وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?? وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} {ولو جعلناه} أي: المنزل إليهم {ملكاً لجعلناه} أي: الملك {رجلاً} أي: على صورته ليتمكنوا من رؤيته إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك في صورته وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء لقوّتهم القدسية وقوله تعالى: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} جواب محذوف أي: ولو أنزلناه وجعلناه رجلاً للبسنا أي: لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلاً ما يخلطون على أنفسهم وعلى غيرهم فيقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم وإنما كان تلبيساً لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلاً للحقهم من اللبس مثل ما لحق الضعفاء منهم فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء. وقوله تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك} فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه {فحاق} قال الربيع بن أنس: فنزل، وقال عطاء: فحل، وقال الضحاك: فأحاط {بالذين سخروا منهم} أي: من أولئك الرسل {ما كانوا به يستهزؤن} وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك. {قل} لهم {سيروا في الأرض} أي: أوقعوا السير للاعتبار فيها ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم {ثم انظروا كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} الرسل من هلاكهم بالعذاب فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار بهم. {قل} لهم {لمن ما في السموات والأرض} خلقاً وملكاً وهو سؤال تبكيت {قل} إن لم يقولوه لا جواب غيره لأنه المتعين للجواب بالاتفاق إذ لا يمكنهم أن يذكروا غيره {كتب} أي: قضى {على نفسه الرحمة} تفضلاً منه وإحساناً، فالرحمة تعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الأدلة وإنزال الكتب والإمهال على الكفرة والعصاة والمذنبين ولو شاء لسلط عليهم المضار وجعل عيشهم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي تعيش فيها الحيوانات. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى الله الخلق كتب كتاباً عنده فوق عرشه: إنّ رحمتي غلبت غضبي» وفي رواية «سبقت غضبي» وفي رواية «إنّ لله تعالى مئة رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قدم عليه سبي فإذا امرأة من السبي قد غلب ثديها إذ وجدت صبياً في السبي أخذته وألصقته ببطنها وأرضعته فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه» فقلنا: لا والله يا رسول الله فقال: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» وقوله تعالى: {ليجمعنكم} استئناف واللام لام القسم أي: والله ليجمعنكم {إلى يوم القيامة} أي: في يوم القيامة وإلى بمعنى في أو ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم، وقيل: بدل من الرحمة بدل البعض فإن من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم {لا ريب} أي: لا شك {فيه} أي: اليوم أو الجمع، وقوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم} في موضع نصب على الذم أو رفع على الخبر أي: وأنتم الذين خسروا أنفسهم بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية أو مبتدأ خبره {فهم لا يؤمنون} . فإن قيل: الفاء تدل على أنّ عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم مع أنّ الأمر على العكس؟ أجيب: بأنّ إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان وقوله تعالى: {وله ما سكن} أي: حل {في الليل والنهار} عطف على لله أي: له كل شيء من حيوان وغيره لأنه خالقه ومالكه وقيل له: ما سكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فيهما أو تحرّك واكتفى بأحد الضدّين عن الآخر {وهو السميع} أي: لكل ما يقال {العليم} أي: بكل ما يفعل فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى. ونزل لما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه: {قل} لهم {أغير الله أتخذ ولياً} أي: رباً ومعبوداً وناصراً ومعيناً وهو استفهام ومعناه الإنكار أي: لا أتخذ غير الله ولياً {فاطر السموات والأرض} أي: خالقهما ابتداعاً من غير سبق، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: إني فطرتها أي: ابتدأتها {وهو يطعم} أي: يرزق {ولا يطعم} أي: ولا يرزق، وصف سبحانه وتعالى ذاته بالغني عن الخلق باحتياجهم إليه لأنّ من كان من صفته أن يطعم الخلق لاحتياجهم إليه ولا يطعم لاستغنائه عنهم وجب أن يتخذ رباً وناصراً وولياً {قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم} لله من هذه الأمّة لأنّ النبيّ سابق أمّته في الدين والدين وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة بسبب اختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات {ولا تكونن من المشركين} أي: وقيل لي: يا محمد لا تكونن من المشركين أي: في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صلى الله عليه وسلم في سؤالهم أن يكون على دين آبائه وقوله تعالى: {قل إني أخاف إن عصيت ربي} بعبادة غيره {عذاب يوم عظيم} مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب وقوله تعالى: {من يصرف عنه} العذاب {يومئذٍ} أي: يوم القيامة، قرأه أبو بكر وحمزة والكسائيّ بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل والضمير لله تعالى والمفعول محذوف، وقرأه الباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول فالضمير للعذاب {فقد رحمه} ربه تعالى أي: أراد به الخير {وذلك} أي: الصرف أو الرحمة {الفوز المبين} أي: النجاة الظاهرة. {وإن يمسسك الله بضر} أي: ببلاء كمرض وفقر والضرّ اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه {فلا كاشف} أي: لا رافع {له إلا هو} لا غيره {وإن يمسسك بخير} أي: بصحة وغنى والخير إسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور وغير ذلك {فهو على كل شيء قدير} من الخير والضر وهذه الآية وإن كانت خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم فهي عامة لكل أحد والمعنى وإن يمسسك الله بضرّ أيها الإنسان فلا كاشف لذلك الضر إلا هو وإن يمسسك بخير أيها الإنسان فهو على كل شيء قدير من رفع الضرر وإيصال الخير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه فسار بي ملياً ثم التفت إليّ فقال لي: «يا غلام» فقلت: لبيك يا رسول الله قال: «أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» . وفي رواية: «اعلم أنّ النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسراً» «ولن يغلب عسر يسرين» . وفي رواية: «فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلق أن ينفعوك بما لم يقضه لك الله لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 يضرّوك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه» . {وهو القاهر} أي: القادر الذي لا يعجزه شيء مستعلياً {فوق عباده} فهم مقهورون تحت قدرته وكل من قهر شيئاً فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة {وهو الحكيم} في خلقه {الخبير} ببواطنهم كظواهرهم ونزل لما قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا ما يشهد لك. {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون نبوّتك من قومك {أيّ شيء} بيني وبينكم {أكبر شهادة} تمييز محوّل عن المبتدأ {قل الله} أكبر شهادة إن لم تقولوه لا جواب غيره ثم ابتدأ {شهيد بيني وبينكم} أي: هو شهيد بيني وبينكم ويحتمل أن يكون الله شهيداً هو الجواب لأنه تعالى إذا كان هو الشهيد كان أكبر شيء شهادة {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم} يا أهل مكة {به} أي: القرآن واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة وقوله تعالى: {ومن بلغ} عطف على ضمير المخاطبين أي: لأنذركم به يا أهل مكة ومن بلغه من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة وهو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم يبلغه قال محمد بن كعب القرطبيّ: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله تعالى. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار» . وفي رواية «نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها فربّ مبلغ أوعى من سامع» . وفي رواية «فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجنّ والإنس فهو نذير له وقوله تعالى: {أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى} إستفهام إنكاري قل: يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوّتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها {قل} لهم {لا أشهد} بما تشهدون به أنّ مع الله آلهة أخرى بل أجد ذلك وأنكره {قل إنما هو إله واحد} لا شريك له وبذلك أشهد {وإنني بريء مما تشركون} معه من الأصنام، وفي الآية دليل على إثبات التوحيد ونفي الشريك لأنّ كلمة إنما تفيد الحصر فثبت بذلك إيجاب التوحيد والتبري من كل معبود سوى الله تعالى. {الذين آتيناهم الكتاب} أي: التوراة والإنجيل وهم علماء اليهود والنصارى {يعرفونه} أي: محمداً صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته {كما يعرفون أبناءهم} من بين الصبيان. روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال عمر رضي الله تعالى عنه: إنّ الله تعالى أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بمكة هذه الآية فكيف هذا؟ فقال عبد الله بن سلام: قد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشدّ معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم من ابني فقال له عمر: كيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقاً ولا أدري ما تصنع النساء {الذين خسروا أنفسهم} من أهل الكتاب والمشركين {فهم لا يؤمنون} به لما سبق لهم من الفضاء بالشقاء. {ومن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذباً} كقولهم: الملائكة بنات الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 واتخذ الله ولداً {أو كذب بآياته} الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات {إنه} أي: الشأن {لا يفلح الظالمون} أي: لا ينجح القائلون على الله الكذب والمفترون عليه الباطل. {و} اذكر {يوم نحشرهم جميعاً} أي: أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم وهو يوم القيامة {ثم نقول} توبيخاً {للذين أشركوا} أي: سموا شيئاً من دوننا إلهاً وعبدوه من الأصنام أو عزيراً أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك {أين شركاؤكم} أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله تعالى: وأضافها إلى ضميرهم لتسميتهم لها بذلك وقوله تعالى: {الذين كنتم تزعمون} معناه كنتم تزعمونهم شركاء وإنها تشفع لكم عند الله فحذف المفعولان. {ثم لم تكن فتنتهم} أي: معذرتهم {إلا أن قالوا} أي: قولهم {وا ربنا ما كنا مشركين} فيختم على أفواههم وتشهد جوارحهم عليهم بالشرك، وقرأ حمزة والكسائيّ يكن بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص فتنتهم بضمّ التاء والباقون بالنصب، وقرأ حمزة والكسائيّ ربنا بنصب الباء على النداء أو المدح والباقون بالكسر. قال الله تعالى: {انظر} يا محمد {كيف كذبوا على أنفسهم} باعتذارهم الباطل وتبريهم من الأصنام والشرك الذي كانوا عليه واستعمالهم الكذب مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا وذلك لا ينفعهم {وضلّ} أي: غاب {عنهم ما كانوا يفترون} أي: يكذبون وهو قولهم: إنّ الأصنام تشفع لهم وتنصرهم فبطل ذلك كله في ذلك اليوم. فإن قيل: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أنّ الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ أجيب: بأنّ الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشة إلا تراهم يقولون: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} وقد أيقنوا الخلود ولم يشكوا فيه وقالوا: {ليقض علينا ربك} (الزحرف، 77) وقد علموا أنه لا يقضي عليهم. {ومنهم من يستمع إليك} حين تتلو القرآن. روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ـ يعني الكعبة ـ ما أدري ما يقول إلا أنه يحرّك لسانه فيقول أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل: كلا لا تقرّ بشيء من هذا فأنزل الله تعالى {ومنهم من يستمع إليك} {وجعلنا على قلوبهم أكنة} أي: أغطية {أن} أي: كراهة أن {يفقهوه} أي: يفهموا القرآن {و} جعلنا {في آذانهم وقراً} أي: صمماً فلا يسمعونه سماع قبول ووجه إسناد الفعل إلى ذاته تعالى وهو قوله تعالى: {وجعلنا} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: {وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} (فصلت، 5) {وإن يروا كل آية} أي: معجزة من المعجزات الدالة على صدقك {لا يؤمنوا بها} لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاؤوك يجادلونك ويناكرونك وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها والجملة إذا وجوابها وهو {يقول الذين كفروا إن} أي: ما {هذا إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأوّلين} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 أحاديثهم من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم وما سطروا بمعنى كتبوا والأساطير جمع أسطورة بالضمّ قال البخاريّ عن ابن عباس: وهي الترّهات. {وهم ينهون} الناس {عنه} أي: اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن {وينأون} أي: يتباعدون عنه فلا يؤمنون به، قال محمد بن الحنفية والسدّيّ والضحاك: نزلت في كفار مكة وقال ابن عباس ومقاتل في أبي طالب: كان ينهى الناس عن أذى النبيّ صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به أي: يبعد حتى روي أنه اجتمع له رؤوس المشركين وقالوا: خذ شاباً من أحسن أصحابنا وجهاً وادفع إلينا محمداً فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذب عنك ما حييت. وروي أنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوأ فقال: *والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا* *فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقرّ منه عيونا* *ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا* *وعرضت ديناً لا محالة إنه ... من خير أديان البريّة دينا* *لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا* {وإن} أي: ما {يهلكون} بالنأي عنه {إلا أنفسهم} لأنّ ضرره عليهم {وما يشعرون} أنّ ضررهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم وقوله تعالى: {ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا} أي: عرضوا {على النار} جوابه محذوف أي: لو تراهم حين يقفون على النار فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمراً شنيعاً {فقالوا} أي: الكفار {يا} للتنبيه {ليتنا نرد} أي: إلى الدنيا {ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} تمنوا أن يردّوا إلى الدنيا ولا يكذبوا بآيات ربهم، وقرأ حفص وحمزة بنصب الياء من يكذب على جواب التمني والباقون بالرفع على الاستئناف، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة بفتح النون من تكون على جواب التمني والباقون بالضمّ على العطف وقوله تعالى: {بل بدا لهم} أي: ظهر لهم {ما كانوا يخفون من قبل} للإضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني والمعنى: أنهم ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم وقبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجراً لا عزماً على أنهم لو ردّوا لآمنوا كما قال تعالى: {ولو ردّوا} إلى الدنيا أي: لو فرض ذلك بعد الوقوف والظهور {لعادوا لما نهوا عنه} من الكفر والمعاصي {وإنهم لكاذبون} في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين. {وقالوا إن} أي: ما {هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يعطف على قوله: وإنهم لكاذبون على معنى وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء وهم الذين قالوا: إن هي إلا حياتنا وكفى به دليلاً على كذبهم. {ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا} أي: عرضوا {على ربهم} لرأيت أمراً عظيماً {قال} لهم على لسان الملائكة توبيخاً {أليس هذا} البعث والحساب {بالحق} وقوله تعالى: {قالوا بلى وربنا} إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الانجلاء {قال فذوقوا العذاب} أي: الذي كنتم به توعدون {بما كنتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 تكفرون} أي: بسبب كفركم وجحودكم البعث. {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} أي: بالبعث واستمرّ تكذيبهم {حتى إذا جاءتهم الساعة} أي: القيامة {بغتة} أي: فجأة وسميت القيامة ساعة لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، وقيل: لسرعة الحساب فيها لأنّ حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة واحدة وأقل من ذلك {قالوا يا حسرتنا} أي: يا ندامتنا والحسرة التلهف على الشيء الفائت وشدّة التألم ونداؤها مجاز أي: هذا أوانك فاحضري {على ما فرّطنا} أي: قصرنا {فيها} أي: الحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة ويجوز أن يكون للساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها كما تقول: فرّطت في فلان ومنه فرّطت في جنب الله وقوله تعالى: {وهم يحملون أوزارهم} أي: أثقالهم وآثامهم {على ظهورهم} تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام، وقال السديّ وغيره: إنّ المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحاً فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا عملك الصالح فاركبني فقد طال ما ركبتك في الدنيا فذلك قوله تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} (مريم، 85) أي: ركباناً، وأمّا الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا واليوم أركبك فهو معنى قوله تعالى: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} {ألا ساء} أي: بئس {ما يزرون} أي: ما يحملون حملهم ذلك، وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} جواب لقولهم: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} أي: وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهى الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية وقيل: معناه أن أمر الدنيا والعمل فيها لعب ولهو فأمّا فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة {وللدار الآخرة} أي: الجنة، واللام فيه لام القسم {خير} أي: من الدنيا وأفضل لأنّ الدنيا سريعة الزوال والانقطاع {للذين يتقون} أي: الشرك، وقيل: اللهو واللعب {أفلا يعقلون} أي: إنّ الآخرة خير من الدنيا فيعملوا لها، وقرأ ابن عامر: ولدار، بتخفيف الدال وجرّ التاء من الآخرة، والباقون: وللدار، بتشديد الدال ورفع التاء، وقرأ نافع وابن عامر وحفص: تعقلون، على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة. {قد} للتحقيق {نعلم أنه} أي: الشأن {ليحزنك الذي يقولون} من التكذيب، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي {فإنهم لا يكذبونك} أي: بقلوبهم ولكن يجحدون بألسنتهم أو إنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} أي: يكذبون، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون، قال السدي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق ما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوّة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنا لا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به فأنزلت» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ووضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم والباء لتضمن الجحود معنى التكذيب، وقرأ نافع والكسائي: يكذبونك، بسكون الكاف وتخفيف الذال من أكذبه إذا وجده كاذباً أو نسبه للكذب، والباقون بفتح الكاف وتشديد الذال من التكذيب وهو أن ينسبه إلى الكذب وقوله تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك} تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على أن قوله: {فإنهم لا يكذبونك} ليس بنفي لتكذيبه مطلقاً وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك ولكنهم أهانوني {فصبروا على ما كذبوا} أي: على تكذيبهم لهم {وأوذوا} أي: وصبروا على إيذائهم لهم {حتى أتاهم نصرنا} بإهلاك من كذبهم فتأس بهم واصبر حتى يأتيك النصر بإهلاك من كذبك وفي ذلك إيماء بوعد النصر للصابرين {ولا مبدل لكلمات الله} أي: لمواعيده من قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} (الصافات، 171) الآيات {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} أي: من قصصهم وما كابدوا من قومهم مما يسكن به قلبك قيل: من مزيدة، وقيل: للتبعيض ويدل له قوله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} (غافر، 78) . {وإن كان كبر} أي: عظم وشق {عليك إعراضهم} عنك وعن الإيمان بما جئت به {فإن استطعت أن تبتغي} أي: تطلب بجهدك وغاية طاقتك {نفقاً} أي: منفذاً {في الأرض} تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر إلى الانتهاء إليه {أو سلماً في السماء} أي: جهة العلوّ لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه {فتأتيهم بآية} أي: مما اقترحوه عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك لأنّ الله تعالى شاء ضلال بعضهم والمقصود بهذا بيان شدّة حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم وأنه لو قدر أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل {ولو شاء الله} هدايتهم {لجمعهم على الهدى} أي: لوفقهم له ولكن لم يشأ ذلك فلم يؤمنوا والمعتزلة أوّلوا {لو شاء الله} بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة، وجرى على هذا الزمخشريّ في كشافه. والمعنى: أنّ أسناد مشيئة الجمع إلى الله تعالى ظاهر في أنه هو المهدي والمضل والمعتزلة لما قالوا: إنه بفعل العبد احتاجوا إلى التأويل {فلا تكونن من الجاهلين} أي: لا يشتدّ تحسرك على تكذيبهم ولا تجزع من إعراضهم عنك فتقارب حال الجاهلين الذين لا صبر لهم وإنما نهاه عن هذه الحالة وغلظ عليه الخطاب تبعيداً له عن هذه الحالة. {إنما يستجيب} دعاءك إلى الإيمان {الذين يسمعون} سماع تفهم واعتبار كقوله تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق، 37) وهم المؤمنون الذين فتح الله تعالى لهم أسماع قلوبهم فهم يسمعون الحق ويستجيبون له ويتبعونه دون من ختم الله على سمع قلبه وهو قوله: {والموتى} أي: الكفار لشبههم بهم في عدم السماع {يبعثهم الله} في الآخرة {ثم إليه يرجعون} أي: يردّون فيجازيهم بأعمالهم. {وقالوا} أي: رؤساء قريش {لولا} أي: هلا {نزل عليه آية} مما اقترحوا {من ربه} المحسن إليه كالناقة والعصا والمائدة أو آية تضطرّهم إلى الإيمان كنتق الجبل أو آية إن جحدوها هلكوا {قل} لهم {إنّ الله قادر على أن ينزل آية} مما اقترحوه أو آية تضطرّهم إلى الإيمان أو آية إن جحدوها هلكوا لا يعجزه شيء {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أي: ماذا عليهم في إنزالها من العذاب إن لم يؤمنوا بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ولهم فيما أنزل مندوحة عن غيره، وقرأ ابن كثير: ينزل، بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي والمعنى واحد. {وما من دابة في الأرض} أي: تدب على وجهها {ولا طائر بطير بجناحيه} في الهواء وهو بالمدّ ما بين السماء والأرض وهو المراد هنا وأمّا الهوى بالقصر فهوى النفس وليس مراداً وإنما قال: {بجناحيه} مع أنّ الطيران لا يكون إلا بهما قطعاً لمجاز السرعة ونحوها كما تقول: كتبت بيدي ونظرت بعيني {إلا أمم أمثالكم} أي: محفوظة أحوالها مقدّرة أرزاقها وآجالها، قال العلماء: جميع ما خلق الله تعالى لا يخرج عن هاتين الحالتين حتى ما في البحر لأنّ سيرها في الماء إمّا أن يكون دبيباً أو طيراناً مجازاً وإنما خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقاً له لأنّ الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأولى مما لا يشاهد. واختلف العلماء في وجه هذه المماثلة فقال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم يريد أنّ كل جنس من الحيوان أمة فالطير أمة والدواب أمة والسباع أمة وقال ابن قتيبة: أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك. وقال عطاء: أمثالكم في التوحيد والمعرفة، وقيل غير ذلك، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية {ما فرّطنا} أي: ما تركنا أو ما أغفلنا {في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ {من شيء} فلم نكتبه فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق ولم يهمل فيه أمر حيوان، وقيل: المراد بالكتاب القرآن فإنه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا المفعول به فإن فرّط لا يتعدّى بنفسه، وقد عدّي بفي إلى الكتاب {ثم إلى ربهم يحشرون} قال ابن عباس والضحاك: حشرها موتها، وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة الدواب والطير وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً فحينئذٍ يتمنى الكافر ويقول: {يا ليتني كنت تراباً} (النبأ، 4) . وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء» . {والذين كذبوا بآياتنا} أي: القرآن {صم} عن سماعها سماع قبول {وبكم} عن النطق بالحق {في الظلمات} أي: في ضلالات الكفر {من يشأ الله} إضلاله {يضلله ومن يشأ} هدايته {يجعله على صراط مستقيم} هو دين الإسلام وهو دليل واضح لأهل السنة على المعتزلة في قولهم: إنهما من العبد كما مرّ. {قل} يا محمد لأهل مكة، وقوله تعالى: {أرأيتكم} استفهام تعجيب والكاف حرف خطاب أي: أخبروني {إن أتاكم عذاب الله} أي: في الدنيا كما أتى من قبلكم من الغرق أو الخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب {أو أتتكم الساعة} أي: القيامة المشتملة على العذاب {أغير الله تدعون} في كشف العذاب عنكم {إن كنتم صادقين} أنّ الأصنام آلهة وجواب الاستفهام محذوف أي: فادعوه وهو تبكيت لهم. {بل إياه تدعون} أي: تخصونه بالدعاء كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في موضع كما في قوله تعالى: {وإذا مس الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً} (يونس، 12) الآية {فيكشف ما تدعون إليه} أي: ما تدعون إلى كشفه {إن شاء} كشفه في الدنيا تفضلاً عليكم كما هو عادته معكم في وقت شدائدكم ولكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 لا يشاء كشفه في الآخرة لأنه لا يبدّل القول لديه وإن كان له أن يفعل ما يشاء {وتنسون} أي: تتركون في تلك الأوقات دائماً {ما تشركون} معه من الأصنام فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضرّ ولا تنفع. {ولقد أرسلنا} رسلاً {إلى أمم من قبلك} أي: قبلك ومن مزيدة فكذبوهم {فأخذناهم بالبأساء} أي: شدّة الفقر {والضرّاء} أي: الأمراض والأوجاع وهما صفتا تأنيث لا مذكر لهم {لعلهم يتضرّعون} أي: يتذللون ويتوبون عن ذنوبهم فيؤمنون. {فلولا} أي: فهلا {إذ جاءهم بأسنا} أي: عذابنا {تضرعوا} أي: لم يفعلوا ذلك مع قيام المقتضى له {ولكن قست قلوبهم} فلم تلن للإيمان {وزين لهم الشيطان} أي: بما أدخل عليهم من باب الشهوات {ما كانوا يعملون} من المعاصي فأصروا عليها. {فلما نسوا} أي: تركوا {ما ذكروا} أي: وعظوا وخوّفوا {به} وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأنّ التارك للشيء معرضاً عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي: من الخيرات والأرزاق والملاذ التي كانت مغلقة عنهم فنقلناهم من الشدّة إلى الرخاء استدراجاً لهم، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف {حتى إذا فرحوا بما أوتوا} أي: فرح بطر {أخذناهم} بالعذاب {بغتة} أي: فجأة {فإذا هم مبلسون} أي: متحسرون آيسون من كل خير. أي: آخرهم بأن استؤصلوا {والحمد رب العالمين} أي: على نصر الرسل وإهلاك الكافرين والعصاة فإنّ إهلاكهم من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها. {قل} أي: لأهل مكة {أرأيتم} أي: أخبروني {إن أخذ الله سمعكم} أي: أصمكم {وأبصاركم} أي: أعماكم {وختم} أي: طبع {على قلوبكم} أي: بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم فلا تعرفون شيئاً {من إله غير الله يأتيكم به} أي: بذلك أو بما أخذ منكم وختم عليه لأنّ الضمير في به يعود على معنى الفعل أو بأحد هذه المذكورات ويجوز أن يعود إلى السمع الذي ذكره أوّلاً ويندرج غيره تحته كقوله تعالى: {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة، 62) فالهاء راجعة إلى الله تعالى ورضا رسول الله صلى الله عليه وسلم يندرج في رضا الله تعالى {انظر} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره أي: انظر يا محمد {كيف نصرّف} أي: نبين لهم الآيات أي: العلامات الدالة على التوحيد والنبوّة ونكررها تارة من جهة المقدّمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدّمين {ثم هم يصدفون} أي: يعرضون عنها فلا يؤمنون. {قل} لهم {أرأيتكم} أي: أخبروني {إن أتاكم عذاب الله بغتة} أي: فجأة {أو جهرة} أي: معاينة ترونه عند نزوله، وقال ابن عباس والحسن: ليلاً ونهاراً {هل يهلك} أي: ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب {إلا القوم الظالمون} أي: المشركون لأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك. {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} من آمن بالجنة {ومنذرين} من كفر بالنار أي: ليس في إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما أرسلوا بالبشارة والنذارة {فمن آمن} أي: بهم {وأصلح} أي: عمله {فلا خوف عليهم} أي: من العذاب {ولا هم يحزنون} في الآخرة بفوات الثواب. {والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب} أي: يصيبهم {بما كانوا يفسقون} أي: بسبب خروجهم عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الطاعة. {قل} لهم {لا أقول لكم عندي خزائن الله} نزلت حين اقترحوا عليه الآيات فأمره الله تعالى أن يقول لهم: إنما بعثت بشيراً ونذيراً ولا أقول لكم عندي خزائن الله جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي خزائن رزقه أو مقدوراته فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولاً من الله فاطلب منه أن يوسع علينا ويغني فقرنا فأخبر أنّ ذلك بيد الله لا بيدي {ولا} أقول لكم إني {أعلم الغيب} أي: فأخبركم بما مضى وما هو آت وذلك أنهم قالوا له: أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعدّ لتحصيل المصالح ودفع المضار فأجابهم بقوله: ولا أعلم الغيب فأخبركم بذلك {ولا أقول لكم إني ملك} وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوّج النساء؟ فأجابهم بذلك لأنّ الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدونه أي: لا أقول لكم شيئاً من ذلك فتنكرون وتجحدون. فإن قيل: قد يستدل بهذا على أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء لأنّ معنى الكلام لا أدعي منزلة أقوى من منزلتي ولولا أنّ الملائكة أفضل لم يصح ذلك؟ أجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تواضعاً لله تعالى واعترافاً بالعبودية حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح وبأنّ المراد بما قاله نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة وذلك لا يدل على أنهم أفضل من الأنبياء {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} تبرأ صلى الله عليه وسلم من دعوى الألوهية والملكية وادّعى النبوّة مع الرسالة التي هي أعلى كمالات البشر ردّاً لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدّعاه وظاهر هذه الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامر الله ونواهيه إنما كانت بوحي ولكن المرجح أنه يجتهد {قل} لهم {هل يستوي الأعمى والبصير} أي: هل يكونون سواء من غير مزية فإن قالوا: نعم كابروا الحس، وإن قالوا: لا، قيل: فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ومن أعرض فهو الأعمى. وقيل: المراد بالأوّل الكافر وبالثاني المؤمن، وقيل: الضال والمهتدي، وقيل: الجاهل والعالم {أفلا تتفكرون} في أنهما لا يستويان فتؤمنوا. {وأنذر} أي: خوّف إذ الإنذار إعلام مع تخويف {به} أي: القرآن وقوله تعالى: {الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} إمّا قوم داخلون في الإسلام ومقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل وأمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمرّدين منهم وقوله تعالى: {ليس لهم من دونه} أي: غير الله تعالى {وليّ} أي: ينصرهم {ولا شفيع} أي: يشفع لهم حال من ضمير يحشرون بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ولا بدّ من هذه الحال لأنّ كلاً منهم محشور فإنّ المخوّف هو الحشر على هذه الحالة. , فإن قيل: إذا فسر ما ذكر بالمؤمنين كان مشكلاً لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم للمذنبين من أمّته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض أجيب: بأنّ الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله تعالى كما قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة، 255) وإذا كانت الشفاعة لا تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 إلا بإذن الله صح قوله: ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع حتى يؤذن لهم بالشفاعة فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع {لعلهم يتقون} الله بإقلاعهم عما هم فيه وعمل الطاعات. {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ} بعدما أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش. روي أنّ رؤساءهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون الفقراء المسلمين وهم عمار وصهيب وخباب وسلمان وأضرابهم وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنا بطارد المؤمنين» فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت قال: «نعم طمعاً في إيمانهم» . وروي أنّ عمر رضي الله عنه قال له: لو فعلت حتى تنظر إلى ماذا يصيرون قالوا: فاكتب بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه فنزلت فرمى بالصحيفة واعتذر عمر رضي الله تعالى عنه من مقالته قال سلمان وخباب فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته فكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزل {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} (الكهف، 28) فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال لنا: «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي معكم المحيا ومعكم الممات» وقال الكلبي: قالوا له اجعل لنا يوماً ولهم يوماً قال: «لا أفعل» قالوا: فاجعل واحداً وأقبل علينا وولهم ظهرك فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مجاهد: قالت قريش: لولا بلال وابن أم معبد لبايعنا محمداً فأنزل الله تعالى هذه الآية {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} يعني صلاة الصبح وصلاة العصر» . ويروى عنه أنّ المراد منه الصلوات الخمس وذلك أنّ ناساً من الفقراء كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال ناس من الأشراف: إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا فنزلت هذه الآية وقوله تعالى: {يريدون وجهه} حال من يدعون أي: يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيهاً على أنه ملاك الأمر {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء} أي: ليس عليك حساب في اختبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضيّ كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعدّاهم إليك كما أنّ حسابك لا يتعدّاك إليهم كقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام، 164) . فإن قيل: هلا اكتفى بقوله: {ما عليك من حسابهم من شيء} عن {وما من حسابك عليهم من شيء} ؟ أجيب: بأن الجملتين جعلتا بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدّى واحد وهو المعنى في قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعاك، 164) ولا يفيد هذا المعنى إلا الجملتان جميعاً. كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وقيل: الضمير للمشركين والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعاً فيه وقوله تعالى: {فتطردهم} أي: فتبعدهم جواب النفي وقوله تعالى: {فتكون من الظالمين} جواب النهي وهو ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة، واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية فقالوا: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما همّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل أشراف قريش عاتبه الله تعالى به على ذلك ونهاه عن طردهم وذلك قدح في العصمة وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 تعالى: {فتطردهم فتكون من الظالمين} وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم ما طردهم ولا همّ به لأجل استخفاف بهم وإنما كان هذا الهم لمصلحة وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى وهو اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فأعلمه الله تعالى أنّ تقريب هؤلاء الفقراء أولى من الهمّ بطردهم فقرّبهم منه وأدناهم والظلم في اللغة وضع الشيء في غير محله أي: فلا تهم بطردهم عنك فتضع الشيء في غير معوضه فهو من باب ترك الأفضل والأولى لا من باب ترك الواجبات. {وكذلك فتنا} أي: ابتلينا {بعضهم ببعض} أي: الشريف بالوضيع والغني بالفقير بأن قدّمناه بالسبق للإيمان {ليقولوا} أي: الشرفاء والأغنياء {أهؤلاء} الفقراء {منّ الله عليهم من بيننا} بالهداية أي: لو كان ما هم عليه هدى ما سبقونا إليه ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء قال الله تعالى: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} أي: بمن يقع منهم الإيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله. {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} وقوله تعالى: {فقل} لهم {سلام عليكم} إمّا أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله تعالى إليهم وإمّا أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم {كتب} أي: قضى {ربكم على نفسه الرحمة} . روي أنها نزلت في الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طردهم فوصفهم الله تعالى بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمته وفضله بعد النهي عن طردهم إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرّب ولا يطرد ويعز ولا يذل ويبشر من الله تعالى بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة، وقال عطاء: نزلت في الخلفاء الأربع وجماعة من الصحابة، وقيل: الآية على إطلاقها في كل مؤمن، وقيل: لما جاء عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته التي تقدّمت وقال: ما أردت إلا الخير فنزلت، وقيل: إنّ قوماً جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فلم يردّ عليهم شيئاً فانصرفوا فنزلت {إنه من عمل منكم سوأ} أيّ سوء كان ملتبساً {بجهالة} أي: عمله وهو جاهل وفيه معنيان: أحدهما: إنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدّي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل لأنّ من أهل الحكمة والتدبير ومنه قول الشاعر: *على أنها قالت عشية زرتها ... جهلت على عمد ولم تك جاهلاً* والثاني: إنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرّة ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته، وقيل: إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوه ولم يعلم أنها مفسدة، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم إنه بفتح الهمزة على أنه بدل من الرحمة، والباقون بالكسر على أنه ضمير الشان {ثم تاب} أي: رجع {من بعده} أي: من بعد ارتكابه ذلك السوء {وأصلح} عمله {فإنه} أي: الله {غفور} له {رحيم} به، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الهمزة على تقدير: أن المغفرة له والباقون بالكسر. {وكذلك} أي: ومثل ذلك التفصيل الواضح وهو تفصيل أحوال الطوائف الأربع: الأولى: المطبوع على قلوبهم وهم من في آية {والذين كذبوا بآياتنا} (الأنعام، 39) والثانية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 المرجوّ إسلامهم وهم من في آية {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} (الأنعام، 51) والثالثة: المطيعون وهم من في آية {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} (الأنعام، 52) والرابعة: الداخلون في الإسلام لكنهم لا يحفظون حدوده وهم من في آية {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} (الأنعام، 54) {نفصل الآيات} أي: نبين آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوّابين {ولتستبين سبيل} أي: طريق {المجرمين} قرأ أبو بكر وشعبة وحمزة والكسائي بالياء بعد اللام على التذكير أي: وليظهر ويتضح سبيل المجرمين يوم القيامة إذا صاروا في النار والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: وليظهر لك الحق يا محمد ويتبين لك سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يحق له، وقرأ نافع سبيل بنصب، اللام، والباقون بالرفع. {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين {إني نهيت أن أعبد الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} وهي الأصنام التي يعبدونها أو ما تدعونها آلهة أي: تسمونها لأنّ الجمادات أخس من أن تدعى وقوله تعالى: {قل لا أتبع أهواءكم} تأكيد لقطع أطماعهم وبيان لمبدأ ضلالهم وأنّ ما هم عليه هوى وليس بهدى {قد ضللت إذاً} أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال {وما أنا من المهتدين} أي: وما أنا من المهديين في شيء أي: لأنكم كذلك. {قل إني على بينة} أي: بيان {من ربي} أي: معرفة وإنه لا معبود سواه {و} قد {كذبتم به} أي: بربي حيث أشركتم به غيره {ما عندي ما تستعجلون به} أي: العذاب الذي استعجلوه بقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء {إن} أي: ما {الحكم} في ذلك وغيره {إلا الله} فهو يفصل بين المختلفين ويقضي بإنزال العذاب متى شاء {يقص الحق} قرأ نافع وابن كثير وعاصم بضم القاف وصاد مهملة مشدّدة مع الرفع ومعناه: يقول الحق، لأن كل ما أخبر به فهو حق، والباقون بسكون القاف وضاد معجمة مخففة مع الكسر أي: إنه تعالى يقضي القضاء الحق {وهو خير الفاصلين} أي: الحاكمين {قل} لهم {لو أنّ عندي} أي: في قدرتي ومكنتي {ما تستعجلون به} أي: من العذاب {لقضي الأمر بيني وبينكم} أي: لانفصل ما بيني وبينكم بأن أهلككم عاجلاً بما تستعجلون به من العذاب غضباً لربي ولكنه عند الله تعالى {وا أعلم بالظالمين} أي: ما تستحقونه من العذاب والوقت الذي يستحقون فيه. {وعنده} سبحانه وتعالى {مفاتح الغيب} أي: خزائنه جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتيح الذي هو جمع مفتح بالكسر وهو المفتاح {لا يعلمها إلا هو} وهي الخمسة التي في قوله: {إنّ الله عنده علم الساعة} (لقمان، 34) الآية كما رواه البخاري فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها {ويعلم ما} يحدث {في البر والبحر} قدّم البر لأنّ الإنسان أكثر ملابسة له بما فيه من القرى والمدن والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك، وأخر البحر لأنّ إحاطة العقل بأحواله أقل، وقال مجاهد: البر: المفاوز والقفار، والبحر: القرى والأمصار التي على الأنهار وقوله تعالى: {وما تسقط من ورقة} أي: ورقة من يد {إلا يعلمها} مبالغة في إحاطة علمه تعالى بالجزئيات، وقوله تعالى: {ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} عطف على ورقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 واختلف في الحبة فقيل: هي من هذا الحب المعروف تكون في بطن الأرض قبل أن تنبت، وقيل: هي الحبة التي تنبت في الصخرة التي في أسفل الأرض، واختلف في معنى الرطب واليابس فقال ابن عباس: الرطب: الماء، واليابس: البادية، وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت وقيل: المراد بالرطب: الحيّ، وباليابس: الميت، وقيل: هو عبارة عن كل شيء لأنّ جميع الأشياء إمّا رطبة وإمّا يابسة. فإن قيل: جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} فلمَ أفرد هذه الأشياء بالذكر؟ أجيب: بأنه تعالى ذكرها أوّلاً مجملة ثم فصل بعضاً من ذلك الإجمال ليدل بها على غيرها وقوله تعالى: {إلا في كتابه مبين} فيه قولان: أحدهما: إنه علم الله الذي لا يغير ولا يبدل، والثاني: إنه اللوح المحفوظ لأنّ الله تعالى كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض فهو على الأوّل بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكل وعلى الثاني بدل الاشتمال. {وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي: يقبض أرواحكم عند النوم {ويعلم ما جرحتم} أي: كسبتم {بالنهار ثم يبعثكم} أي: يوقظكم بردّ أرواحكم {فيه} أي: النهار. فإن قيل: لِمَ خص الليل بالنوم والنهار بالكسب مع أنّ ذلك يقع في غير هذا؟ أجيب: بأنّ ذلك جرى على الغالب {ليقضي أجل مسمى} أي: ليبلغ المستيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا {ثم إليه مرجعكم} بالموت والبعث {ثم ينبئكم بما كنتم تعملون} فيجازيكم به. {وهو القاهر} مستعلياً {فوق عباده} لأنّ من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعل عليه أمّا قهره للمعدوم فبالتكوين والإيجاد وأمّا قهره للموجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى ويقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصنوف الممكنات {ويرسل عليكم} من ملائكته {حفظة} أي: تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، وعن أبي حاتم السختياني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء تلفظ به من فوائد العلم حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة تكتب لفظ اللفظة فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب. فإن قيل: الله تعالى غني عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ أجيب: بأنّ فيها لطفاً للعباد لأنهم إذا علموا أنّ الله رقيب عليهم والملائكة موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} أي: ملك الموت وأعوانه {وهم لا يفرّطون} أي: لا يقصرون فيما يؤمرون، وقيل: ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وجاء في الأخبار أنّ الله تعالى جعل الدنيا بين يدي الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من ههنا ومن ههنا فإذا كثرت عليه الأرواح يدعوها فتستجيب له. فإن قيل: قال الله تعالى في آية أخرى {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (الزمر، 42) وفي أخرى {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة، 11) وقال هنا: {توفته رسلنا} فكيف الجمع؟ أجيب: بأن المتوفى في الحقيقة هو الله تعالى فإذا حضر أجل العبد أمر الله تعالى ملك الموت أن يقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت بنفسه فحصل الجمع بين الآيات، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 مجاهد: ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطوف بهم كل يوم مرّتين، وقرأ حمزة بعد فاء توفته بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وسكن السين من رسلنا أبو عمرو ورفعها الباقون. {ثم ردّوا} أي: الخلق {إلى الله} أي: إلى حكمه وجزائه {مولاهم} أي: سيدهم ومدبر أمورهم كلها {الحق} أي: الثابت الولاية وكل ولاية غير ولايته تعالى عدم {ألا له الحكم} أي: القضاء النافذ فيهم فلا حكم عليه {وهو أسرع الحاسبين} يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك لأنه لا يحتاج إلى فكرة وروية وعقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض. {قل} يا محمد لأهل مكة {من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر} أي: من الخسف في البر والغرق في البحر أو من شدائدهما استعيرت الظلمة للشدّة لمشاركتهما في الهول وإبطال الأبصار فقيل: لليوم الشديد يوم مظلم ولغيره يوم ذو كواكب، وقيل: حمله على الحقيقة أولى وظلمات البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في المهالك والمقصود أنّ عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله تعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله: {تدعونه تضرّعاً} أي: علانية {وخفية} أي: سرّاً وقوله تعالى: {لئن} اللام لام القسم على إرادة القول أي: يقولون والله لئن {أنجيتنا من هذه} أي: الظلمات والشدائد {لنكونن من الشاكرين} لك على هذه النعمة، والشكر: هو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها أي: فنكون من المؤمنين، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: أنجانا، بحذف التاء وألف بعد الجيم بدل الياء ليوافق قوله تعالى: {تدعونه} وأمالها حمزة والكسائي والباقون بالتاء بعد الياء. {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب} أي: غمّ سوى ذلك {ثم أنتم تشركون} أي: تعودون إلى شركة الأصنام معه التي لا تضر ولا تنفع ولا توفون بالعهد وإنما وضع تشركون موضع لا تعبدون تنبيهاً على أنّ من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده {قل} لهم {هو القادر على أن يبعث} في كل وقت يريده {عليكم} في كل حالة {عذاباً من فوقكم} بإرسال الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الفيل {أو من تحت أرجلكم} بالغرق أو الخسف كما فعل بفرعون وقارون، وعن ابن عباس ومجاهد: عذاباً من فوقكم: السلاطين الظلمة، أو من تحت أرجلكم: العبيد السوء، وقال الضحاك: من فوقكم أي: من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم أي: من أسفل منكم {أو يلبسكم} أي: يخلطكم {شيعاً} أي: فرقاً وينشب فيكم الأهوال المختلفة بقتل بعضكم بعضاً. روي لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم} قال صلى الله عليه وسلم «أعوذ بوجهك» {ومن تحت أرجلكم} قال: «أعوذ بوجهك» {أو يلبسكم شيعاً} {ويذيق بعضكم بأس بعض} أي: بالقتال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا أهون أو أيسر» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سألت ربي طويلاً أن لا يهلك أمّتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أمّتي بالسنين فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة «سأله أن لا يسلط على أمّته عدوّاً من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك» {انظر} يا محمد {كيف نصرف} أي: نبين لهم {الآيات} الدالة على قدرتنا {لعلهم يفقهون} أي: يعلمون أنّ ما هم عليه باطل فيرجعوا عنه. {وكذب به} أي: القرآن أو العذاب {قومك} أي: الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسرّوا بسيادتك فإنّ القبيلة إذا ساد أحدهم عزت به فإن عزه عزها وشرفه شرفها ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبها مهما أمكنها فإنّ عاره لاحق لها فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع لهم وزاد ذلك بقوله: {وهو} أي: والحال أنه {الحق} أي: الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله {قل} لهم {لست عليكم بوكيل} أي: حفيظ وكل إلي أموركم فأجازيكم أو أمنعكم من التكذيب إنما أنا منذر والله الحفيظ {لكل نبأ} أي: خبر أخبركم به من هذه الأخبار {مستقر} أي: وقت يقع فيه ويستقرّ ومنه عذابكم {وسوف تعلمون} صحة ذلك عند وقوعه، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة وفي ذلك تهديد لهم. {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} أي: القرآن بالاستهزاء والتكذيب {فأعرض عنهم} أي: فاتركهم ولا تجالسهم {حتى يخوضوا في حديث غيره} أي: حتى يكون خوضهم في غير الآيات والاستهزاء بها، وذكر الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ليكون أردع أو لغيره أي: وإذا رأيت أيها الإنسان {وإمّا} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما المزيدة {ينسينك الشيطان} أي: فقعدت معهم ثم تذكرت {فلا تقعد بعد الذكرى} أي: التذكير لهذا النهي {مع القوم الظالمين} أظهر موضع الإضمار تفهماً ودلالة على الوصف الذي هو سبب الخوض. وروي أنّ المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس بالمسجد ونطوف فنزل: d {وما على الذين يتقون} الله {من حسابهم} أي: الخائضين {من شيء} أي: شيء مما يحاسبون عليه إذا جالسوهم فمن مزيد للتأكيد {ولكن} عليهم {ذكرى} أي: تذكرة لهم ووعظ ويمنعوهم من الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وقال سعيد بن جبير ومقاتل: هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله} (النساء، 14) الآية، وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ ولأنه إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكرة والموعظة {لعلهم يتقون} الخوض في الآيات. {وذر الذين اتخذوا دينهم} أي: الذي كلفوه {لعباً ولهواً} باستهزائهم به {وغرّتهم الحياة الدنيا} أي: خدعتهم وغلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق أي: فاتركهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وهذا يقتضي الإعراض عنهم وهو قبل الأمر بالقتال ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف {وذكر} أي: وعظ {به} أي: القرآن الناس {أن} أي: كراهة أن {تبسل نفس} أي: تسلم إلى الهلاك {بما كسبت} أي: بسبب ما عملت وأصل الإبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأنّ فريسته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 لا تفلت منه والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي: حرام {ليس لها من دون الله} أي: غيره {وليّ} أي: ناصر {ولا شفيع} يمنع عنها العذاب {وإن تعدل} أي: تلك النفس لأجل التوصل إلى الفكاك {كل عدل} أي: وإن تفدِ كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي {لا يؤخذ منها} ما تفدى به {أولئك} أي: الذين عملوا هذه الأعمال البعيدة عن الخير {الذين أبسلوا} أي: سلموا إلى العذاب {بما كسبوا} أي: بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة {لهم شراب من حميم} أي: ماء هو في غاية الحرارة {و} لهم {عذاب أليم} أي: مؤلم {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكفرون} أي: هم بين ماء يغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشعل في أبدانهم بسبب كفرهم. {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائهم {أندعو} أي: نعبد {من دون الله} أي: غيره {ما لا ينفعنا} أي: بعبادته {ولا يضرّنا} أي: بتركها وهم الأصنام {ونردّ على أعقابنا} أي: نرجع إلى الشرك {بعد إذ هدانا الله} تعالى إلى التوحيد ودين الإسلام {كالذي استهوته} أي: أضلته {الشياطين في الأرض} حالة كونه {حيران} تائهاً ضالاً لا يهتدي لوجه ولا يدري كيف يسلك. وقرأ حمزة بعد الواو في استهوته بألف ممالة على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، ورقق ورش راء حيران بخلاف عنه {له} أي: المستهوي {أصحاب} أي: رفقة {يدعونه إلى الهدى} أي: إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر يقولون له: {إئتنا} فلا يجيبهم فيهلك والاستفهام للإنكار وجملة التشبيه للحال من ضمير نردّ وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ومن يدعو إلى عبادة الله عز وجل الذي يضر وينفع يقول مثلهما كمثل رجل في رفقته ضل به الغيلان والشياطين عن الطريق المستقيم فجعل أصحابه من أهل رفقته يدعونه إليهم يقولون هلم إلى الطريق المستقيم وجعل الغيلان يدعونه إليهم فبقي حيران لا يدري أين يذهب فإن أجاب الغيلان ضل وهلك وإن أجاب أصحابه اهتدى وسلم {قل} لهم {إنّ هدى الله} الذي هو الإسلام {هو الهدى} وحده وما عداه ضلال {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} أي: بأن نخلص العبادة له لأنه المستحق العبادة لا غيره وقوله تعالى: {وأن أقيموا الصلاة واتقوه} عطف على لنسلم أي: للإسلام ولإقامة الصلاة لأنّ فيهما ما يقرب إلى الله. وروي أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان فنزلت، فإن قيل: إذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكيف قيل للرسول صلى الله عليه وسلم قل أندعو؟ أجيب: بأن ذلك إظهار للاتحاد الذي كان بينه صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين خصوصاً الصدّيق رضي الله تعالى عنه {وهو الذي إليه} لا إلى غيره بعد بعثكم من الموت {تحشرون} يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم. {وهو الذي خلق السموات والأرض} على عظمهما {بالحق} أي: بسبب إقامة الحق، وقيل: خلقهما بكلامه الحق الذي هو قوله تعالى: {كن} وهو دليل على أنّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق {و} اذكر {يوم يقول} الله للخلق {كن فيكون} أي: فهو يكون وهو يوم القيامة يقول بمخلق قوموا أحياء {قوله} تعالى: {الحق} أي: الصدق الواقع لا محالة {وله الملك يوم ينفخ في الصور} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 النفخة الثانية من إسرافيل عليه الصلاة والسلام وإنما أخبر سبحانه وتعالى عن ملكه يومئذٍ وإن كان الملك له سبحانه وتعالى في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع له يومئذٍ فإنّ من كان يدعي الملك من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم فاعترفوا أنّ الملك لله الواحد القهار وأنه لا منازع له تعالى فيه وعلموا أنّ الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا غرور وباطل. تنبيه: اختلف العلماء في الصور المذكور في الآية فقال قوم: هو قرن ينفخ فيه وهو لغة أهل اليمن، وقال مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق ويدل على صحة هذا القول ما روي أنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ» فكان ذلك ثقل على الصحابة فقالوا: كيف نعمل يا رسول الله أو كيف نقول؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة والنفخ فيها إحياؤها والأوّل أصح لما مرّ في الحديث ولإجماع أهل السنة أنّ المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين: نفخة الصعق ونفخة البعث للحساب {عالم الغيب والشهادة} أي: ما غاب وما شوهد فلا يغيب عن علمه تعالى شيء {وهو الحكيم} أي: في جميع أفعاله وتدبير خلقه {الخبير} بباطن الأشياء كظاهرها بكل ما يعملونه من خير أو شر. {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} اختلف العلماء في لفظة آزر فقال مجاهد: آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة، وقال البخاريّ في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر وهو في التوراة تارخ فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان: آزر وتارخ مثل يعقوب وإسرائيل إسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه آزر وتارخ لقب له وبالعكس، فالله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرّخين اسمه تارح ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: آزر اسم صنم كان والد إبراهيم يعبده وإنما سماه بهذا الاسم لأنّ من عبد شيئاً أو أحبه جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسماً له فهو كقوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} (الإسراء، 71) وقيل: معناه وإذا قال إبراهيم لأبيه: يا عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والأوّل أصح لأن آزر اسم أبي إبراهيم لأنّ الله تعالى سماه به وأخرج البخاري في أفراده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه آزر يوم القيامة على وجهه» أي: آزر فترة وغبرة الحديث سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم آزر أيضاً ولم يقل أباه تارح كما نقل عن النسابين والمؤرخين فثبت بهذا أنّ اسمه الأصلي آزر لا تارح وكان أهل تلك البلاد وهم الكنعانيون يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض فيجعلون لكل نجم صنماً فإذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم عند ذلك النجم فقال إبراهيم منكراً عليهم منبهاً لهم على ظهور فساد ما هو مرتكبه {أتتخذ} أي: أتكلف نفسك إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل {أصناماً آلهة} أي: تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر {إني أراك وقومك} أي: في إتفاقكم على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 {في ضلال} أي: بعد عن الصراط المستقيم {مبين} أي: ظاهر جداً ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبيّ نباه الله تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون. {وكذلك} أي: ومثل هذا التبصير العظيم الشأن {نري إبراهيم} أي: نبصر وهي حكاية حال ماضية {ملكوت السموات والأرض} أي: عجائبهما وبدائعهما والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة كالرهبوت والرغبوت والرحموت من الرغبة والرهبة والرحمة، وقال ابن عباس: خلق السموات والأرض، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض وذلك إنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا} (العنكبوت، 27) معناه: أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب. وروي عن سلمان ورفعه بعضهم عن علي قال: «لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال الرب تبارك وتعالى: يا إبراهيم إنك رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال: إمّا أن يتوب إليّ فأتوب عليه وإمّا أن أخرج منه نسمة تعبدني وإمّا أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته» وفي رواية: «فإن تولى فإنّ جهنم من ورائه» . وقال قتادة: ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار. وقيل: إنّ هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعقل فأريناه ذلك ليستدل به على توحيدنا {وليكون من الموقنين} : واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمّل بعد زوال الشبهة لأنّ الإنسان في أوّل الحال لا ينفك عن شبهة فإذا كثرت الدلائل وتوافقت صارت سبباً لحصول اليقين والطمأنينة في القلب وزالت الشبهة عند ذلك قال ابن عباس في وليكون من الموقنين {: جلي له الأمر سرّه وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا فردّه الله تعالى كما كان قبل ذلك. فلما جنّ عليه الليل} أي: دخل فيه {رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل} أي: غاب {قال لا أحب الآفلين} وذلك إنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولد في زمن نمروذ بن كنعان وكان النمروذ أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، ويقال: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء، وقال السدي: إنّ النمروذ رأى في منامه كأنّ كوكباً طلع فذهب بضوأي الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً ودعا السحرة والكهنة فسألهم فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشرة رجلاً فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض فإذا طهرت حيل بينهما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت فواقعها فحملت بإبراهيم. قال محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 إسحاق: بعث نمروذ إلى كل امرأة حبلى بقربه يحسبها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت صغيرة لم يعرف الحبل ببطنها، وقال السدي: خرج نمروذ بالرجال إلى العسكر ونحاهم عن النساء خوفاً من ذلك ثم بدت له حاجة إلى المدينة ولم يأمن عليها أحداً من قومه إلا آزر فبعث إليه وأقسم عليه أن لا يدنو من أهله فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال: لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى واقعها فحملت إبراهيم، قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم به قال الكهان لنمروذ: إن الغلام الذي أخبرناك عنه قد حملته أمّه الليلة فأمر نمروذ بذبح الغلمان. قال محمد بن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة وكانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها وكانت تختلف إليه فتنظر ما فعل فتجده يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبناً ومن إصبع عسلاً ومن إصبع تمراً ومن إصبع سمناً، وقال محمد بن إسحاق: كان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدت غلاماً فمات فصدقها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال لأمّه: أخرجيني، فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض وقال: إنّ الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ما لي إله غيره، ثم نظر في السماء فرأى كوكباً فقال: هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال: لا أحب الآفلين. {فلما رأى القمر بازغاً} أي: مبتدئاً في الطلوع {قال هذا ربي} فأتبعه بصره {فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} ، وقيل: إنه كان في السرب سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، قال بعض أهل التفسير: فلما شبّ إبراهيم وهو في السرب قال لأمّه: من ربي؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت، فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت: الغلام الذي كنا نحدّث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك، ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمّك، قال: فمن رب أمّي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: نمروذ قال: فمن رب نمروذ؟ فلطمه وقال: اسكت، فلما أخرج من السرب وجنّ عليه الليل رأى المشتري قد طلع ـ وقيل: الزهرة ـ وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر القمر فيها فرأى الكوكب فقال ذلك. وهل ذلك جار على ظاهره أو مؤوّل جرى بعضهم على الأوّل، وقال: كان إبراهيم مسترشداً طالباً للتوحيد حتى وفقه الله تعالى فلم يضره ذلك وأيضاً كان ذلك في طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفراً والأصح الثاني إذ لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، ثم قال: في تأويله أوجه: أحدها ـ وهو الأصح: أن إبراهيم ذكر ذلك على وجه الاحتجاج عليهم بقوله: هذا ربي أي: في زعمكم فلما غاب قال: لو كان إلهاً لما غاب كما قال تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49) أي: عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى أنه قال: {وانظر إلى إلهك} (طه، 97) أي: في زعمك فلما أفل قال: لا أحبّ الآفلين فضلاً عن عبادتهم فإنّ الانتقال والاحتجاج يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ينجح فيهم ذلك {فلما رأى القمر بازغاً} قال لهم: هذا ربي فلما أفل أي: غاب قال: {لئن لم يهدني ربي} أي: يثبتني على الهدى لا إنه لم يكن مهتدياً والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان وكان إبراهيم عليه السلام يقول: وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام. {فلما رأى الشمس بازغة} أي: عند طلوع النهار {قال} لهم {هذا ربي هذا أكبر} أي: من الكواكب والقمر ولم يقل هذه مع أنّ الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع أو رده إلى المعنى وهو الضياء والنور لأنه رآه أضوأ من النجم والقمر أو ذكره لتذكير خبره {فلما أفلت} أي: غربت وقويت عليهم الحجة فلم يرجعوا {قال يا قوم إني بريء مما تشركون} أي: بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث التي تجعلونها شركاء لخالقها، والوجه الثاني: من التأويل أنه قال ذلك على وجه الاستفهام تقديره: أهذا ربي؟ كقوله تعالى: {أفائن مت فهم الخالدون} (الأنبياء، 34) أي: أفهم الخالدون وذكره على وجه التوبيخ منكراً لفعلهم، والوجه الثالث: إنه أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرّفهم خطأهم وجهلهم ومثل هذا مثل من ورد على قوم يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدوّ فشاوروه في أمره فقال: الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى ينكشف عنا ما أصابنا فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله تعالى فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يجدون فأسلموا. فإن قيل: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ أجيب: بأنّ الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ولما ظهر خلاف قومه واستمرّوا في شركهم وقالوا له: من تعبد أنت؟ أظهر لهم ما هو عليه من الحق بقوله: {إني وجهت وجهي} أي: أخلصت قصدي وصرفت عبادتي {للذي فطر السموات والأرض} أي: خلقهما وابتدعهما وهو الله تعالى {حنيفاً} أي: مائلاً إلى الدين القويم عن كل دين يخالفه وأصل الحنيف الميل وهو عن طريق الضلال إلى طريق الاستقامة، وقيل: الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة بصلاته {وما أنا من المشركين} تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه أي: وما أنا منكم ولا أعدّ في عدادكم بشيء أقاربكم به. {وحاجه قومه} أي: خاصموه في التوحيد وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن لم يرجع عن الكلام فيها {قال} لهم {أتحاجوني} أي: أتجادلونني {في الله} أي: في وحدانيته، وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون وهي نون الرفع عند النحاة ونون الوقاية عند الفراء، والباقون بالتشديد {وقد} أي: والحال إنه قد {هداني} إلى توحيده ومعرفته {ولا أخاف ما تشركون به} شيئاً وذلك إن إبراهيم لما رجع إلى أبيه وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين أي: ذباحي نمروذ وضمه آزر إلى نفسه وجعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها فيذهب بها إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ فلا يشتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب رؤوسها وقال: اشربي استهزاء بقومه وما هم عليه حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته فقالوا له: احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بخبل أو جنون بعيبك إياها فقال: إنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضر وهو قوله تعالى: {إلا أن يشاء ربي شيئاً} وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 استثناء منقطع معناه لكن إن شاء ربي شيئاً من المكروه يصيبني فيكون لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال إنّ الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره وما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بذلك {وسع ربي كل شيء علماً} أي: أحاط علمه بكل شيء من معلومه {أفلا تتذكرون} أي: يقع منكم تذكر فتميزوا بين الحق والباطل والقادر والعاجز. {وكيف أخاف ما أشركتم} به أي: الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {ولا تخافون} أنتم {أنكم أشركتم با} وهو تعالى حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع مع الصانع وتسوية بين المقدور العاجز والقادر الضارّ النافع {ما لم ينزل به} أي: بعبادته {عليكم سلطاناً} أي: حجة وبرهاناً وهو القادر على كلّ شيء {فأيّ الفريقين} أي: حزب الله وحزب ما أشركتم ولم يقل فأينا تعميمها للمغنيّ {أحق بالأمن} أهم الموحدون أو المشركون {إن كنتم تعلمون} من الأحق أي: إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه والأحق بذلك هم الموحدون فاتبعوهم قال تعالى قاضياً بينهما: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك. روي أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا: «يا رسول الله فأينا لم يظلم نفسه فقال: «ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك با إنّ الشرك لظلم عظيم} (لقمان، 13) » {أولئك} أي: الموصوفون بما ذكر {لهم الأمن} أي: من العذاب المؤبد {وهم مهتدون} وقوله تعالى: k {وتلك} مبتدأ ويبدل منه {حجتنا} وهي ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله تعالى: {فلما جنّ عليه الليل} إلى قوله: {وهم مهتدون} أو من قوله تعالى: {أتحاجوني} إليه والخبر {آتيناها إبراهيم} أي: أرشدناه لها حجة {على قومه} ثم إنه سبحانه وتعالى لما تفضل على خليله صلى الله عليه وسلم برفعه على قومه قال تعالى: {نرفع درجات من نشاء} في العلم والحكمة، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين {إنّ ربك حكيم} في صنعه فيرفع من يشاء ويخفض من يشاء {عليم} بخلقه فهو الفعال لما يريد. {ووهبنا له} أي: إبراهيم {إسحق} أي: ابناً له {ويعقوب} أي: ابناً لإسحاق فهو ابن ابنه {كلاً} منهما ومن أبيهما {هدينا} إلى سبيل الرشاد ووفقناه إلى طريق الحق والصواب {ونوحاً هدينا} {من قبل} أي: قبل إبراهيم {ومن ذريته} أي: نوح لا إبراهيم لأنه تعالى ذكر في جملتهم يونس ولوطاً ولم يكونا من ذرّية إبراهيم، وقيل: الضمير لإبراهيم ويكون ذلك من باب التغليب فإنّ التغليب سائغ شائع في انتساب العرب {داود} وهو ابن إيشا هديناه وكان ممن آتاه الله الملك والنبوّة {وسليمان} هو ابن داود وهما اللذان بنيا بيت المقدس بأمر الله تعالى داود بخطه وتأسيسه وسليمان بإكماله وتشييده {وأيوب} هو ابن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم {ويوسف} هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. فإن قيل: لم قدم أيوب على يوسف مع أنّ يوسف أقرب منه؟ أجيب: بأنه قدمه للمناسبة بينه وبين سليمان لأنّ كلاً منهما ابتلي بأخذ كل ما في يده ثم ردّه الله تعالى إليه {وموسى} هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب {وهرون} هو أخو موسى أكبر منه بسنة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين {وكذلك} كما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولاداً أنبياء {نجزي المحسنين} على إحسانهم. {وزكريا} هو ابن أدن بن بركيا، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بغير همز، والباقون بالهمز {ويحيى} هو ابن زكريا {وعيسى} هو ابن مريم بنت عمران {وإلياس} قال ابن مسعود: هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل قال البغويّ: والصحيح أنه غيره لأنّ الله تعالى ذكره في ولد نوح وإدريس جدّ أبي نوح وهو إلياس بن ياسين بن فنحاس بن العيزار بن هارون بن عمران {كلّ} منهم {من الصالحين} أي: الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرّز عما لا ينبغي {وإسمعيل} هو ابن إبراهيم وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد فلهذا السبب أخر ذكر إسماعيل إلى هنا {واليسع} هو أخطوب بن العجوز، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء والباقون بسكون اللام وفتح الياء {ويونس} هو ابن متى {ولوطاً} هو ابن هاران أخي إبراهيم {وكلاً} منهم {فضلنا على العالمين} أي: بالنبوّة وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق من أنس وملك ويستدلّ بهذه الآية من يقول إنّ الأنبياء أفضل من الملائكة وقوله تعالى: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} عطف على كلاً أو نوحاً ومن للتبعيض أي: وفضلنا بعض آبائهم وبعض ذرّياتهم وإخوانهم لأنّ آباء بعضهم كانوا مشركين وعيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرّية بعضهم من كان كافراً كابن نوح وقوله تعالى: {واجتبيناهم} أي: اخترناهم، عطف على فضلنا أو هدينا {وهديناهم} أي: وأرشدناهم {إلى صراط مستقيم} هو الدين الحق. {ذلك} أي: الذي هدوا إليه {هدى الله يهدي به من يشاء من عباده} سواء كان له أب يعلمه أو كان له من يحمله على الضلال أم لا فهو سبحانه وتعالى هو المتفضل بالهداية {ولو أشركوا} أي: ولو فرض إشراك هؤلاء الأنبياء بعد علوّ درجتهم وفضلهم {لحبط عنهم} أي: لفسد وسقط {ما كانوا يعملون} أي: لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها. {أولئك الذين آتيناهم الكتاب} أي: أولئك الذين سميناهم من الأنبياء وهم ثمانية عشر نبياً أعطيناهم الكتاب فالمراد بالكتاب الجنس {والحكم} أي: العمل المتقن بالعلم {والنبوّة} أي: وشرّفناهم بالنبوّة والرسالة {فإن يكفر بها} أي: بهذه الثلاثة {هؤلاء} أي: أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم {فقد وكلنا بها} أي: وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها {قوماً ليسوا بها بكافرين} كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه، واختلف في ذلك القوم فقال ابن عباس: هم الأنصار وأهل المدينة، وقال الحسن وقتادة: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدّم ذكرهم واختاره الزجاج، قال: والدليل عليه قوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ، وقال عطاء العطاردي: هم الملائكة ونظر فيه لأنّ اسم القوم لا يطلق إلا على بني آدم، وقيل: الفرس، وقيل: هم المهاجرون والأنصار، واستظهر وقال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء أكان ملكاً أم نبياً أم صحابياً أم تابعياً، والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست هدى مضافاً إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعاً فليس فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم متعبد بشرع من قبله، واستدلّ بعض العلماء بهذه الآية على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 والسلام قال: وبيانه أنّ جميع الخصال وصفات الشرف كانت متفرّقة فيهم فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في الله عز وجلّ وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن وكان داود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة كما قال تعالى: {اعملوا آل داود شكراً} (سبأ، 13) وكان أيوب صاحب صبر على البلاء كما قال تعالى: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أواب} (ص، 44) وكان يوسف قد جمع بين الحالتين أي: الصبر والشكر وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرّع وإحسان ثم إن الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم وجمع له جميع الخصال المحمودة والمتفرّقة فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من الخصال التي كانت متفرّقة في جميعهم، اه. وقرأ حمزة والكسائيّ بحذف الهاء في الوصل وحرّك الهاء بحركة مختلسة ابن عامر ومدّ على الهاء ابن ذكوان بخلاف عنه وسكن الهاء الباقون في الوصل وأما في الوقف فجميع القراء يثبتون الهاء ويسكنونها {قل} يا محمد لأهل مكة {لا أسألكم عليه} أي: القرآن أو التبليغ {أجراً} أي: لا أطلب على ذلك جعلاً {إن هو} أي: القرآن أو التبليغ {إلا ذكرى} أي: عظة {للعالمين} أي الإنس والجنّ. {وما قدروا} أي: اليهود {الله حق قدره} أي: ما عرفوه حق معرفته أو ما عظموه حق عظمته {إذ قالوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقد خاصموه في القرآن {ما أنزل الله على بشر من شيء} قال سعيد بن جبير جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم يخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً» ـ والحبر بالفتح والكسر وهو أفصح العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه، قاله الجوهريّ ـ فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه: ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك، فقال: إنه أغضبني، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. وقال السدّي: نزلت في فنحاص بن عازوراء وهو قائل هذه المقالة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قالت اليهود: يا محمد أنزل الله تعالى عليك كتاباً، قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً. قال الله تعالى: {قل} لهم {من أنزل الكتاب} أي: التوراة {الذي جاء به موسى} أي: الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه حال كون الكتاب {نوراً} أي: ذا نور أي: ضياء من ظلمة الضلالة {وهدى} أي: ذا هدى {للناس} أي: يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن يبدّل ويغير {يجعلونه قراطيس} أي: يكتبونه في دفاتر مقطعة {يبدونها} أي: يظهرون ما يحبون إظهاره منها {ويخفون كثيراً} أي: مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومما أخفوه أيضاً آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء في المواضع الثلاثة على الغيبة حملاً على قالوا وما قدروا، والباقون بالتاء على الخطاب وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم للتوراة وذمّهم على تجزئتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرّقة وإخفاء بعض لا يشتهونه. وقوله تعالى: {وعلمتم} أي: على لسان محمد صلى الله عليه وسلم {ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} خطاب لليهود أي: علمتم زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم، ونظيره أنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يذكرهم النعمة فيما عليهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش. وقوله تعالى: {قل الله} أنزله راجع إلى قوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} أي: فإن أجابوك بأنّ الله أنزله فذاك وإلا فقل أنت الله أنزله إذ لا جواب غيره {ثم ذرهم} أي: اتركهم {في خوضهم} أي: باطلهم {يلعبون} أي: يستهزؤن ويسخرون، وفيه وعيد تهديد للمشركين وقال بعضهم: هذا منسوخ بآية السيف { وهذا} أي: القرآن {كتاب أنزلناه مبارك} أي: كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية، وأصل البركة النماء والزيادة وثبوت الخير {مصدّق الذي بين يديه} أي: قبله من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء لأنها مشتملة على التوحيد والتنزيه لله تعالى وعلى البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقاً لجميع الكتب المنزلة، وقوله تعالى: {ولينذر} قرأه شعبة بالياء على الغيبة أي: لينذر الكتاب، والباقون بالتاء على الخطاب أي: ولتنذر يا محمد {أمّ القرى} أي: أهل مكة وسميت أمّ القرى لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأناً ولبعض المجاورين: *فمن يلق في بعض القريات رحله ... فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي* وقيل: لأنّ الأرض دحيت من تحتها أو لأنها مكان أوّل بيت وضع للناس {ومن حولها} أي: جميع البلاد والقرى التي حولها شرقاً وغرباً {والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبيّ والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة، وتخصيص الصلاة في قوله تعالى {وهم على صلاتهم يحافظون} لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ومن حافظ عليها كانت لطفاً له في المحافظة على أخواتها. {ومن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى} أي: اختلق {على الله كذباً} فزعم أنّ الله بعثه نبياً كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، أو اختلق عليه أحكاماً كعمرو بن لحيّ ومتابعيه {أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء} قال قتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وكان يسجع ويتكهن فادّعى النبوّة وزعم أنّ الله تعالى أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتشهدان أن مسيلمة نبيّ» قالا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم إذا أوتيت خزائن الأرض فوضع في يديّ سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى الله تعالى إلي أن أنفحهما فنفحتهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب» وفي لفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت في المنام كان في يدي سوارين فأولتهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 كذابين يخرجان بعدي يقال لأحدهما مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء» وقوله صلى الله عليه وسلم «فأوحى الله إلي أن أنفحهما» بالحاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفحت الدابة برجلها ويروى بالخاء المعجمة من النفخ وهو قريب من الأوّل فأمّا مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوّة في اليمامة وتبعه قوم من بني حنيفة وقتل في خلافة أبي بكر قتله وحشيّ قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول: قتلت خير الناس يعني: حمزة، وقتلت شرّ الناس يعني: مسيلمة الكذاب، قتل الأوّل وهو كافر وقتل الثاني وهو مسلم، وأمّا الأسود العنسي بالنون ويقال له: ذو الحمار، ادعى النبوّة باليمن في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل في حياته صلى الله عليه وسلم قبل موته بيومين وأخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بقتله، قتله فيروز الديلميّ فقال صلى الله عليه وسلم «فاز فيروز بقتل الأسود العنسي» {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} قال السدّي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه صلى الله عليه وسلم سميعاً بصيراً كتب عليماً حكيماً وإذا أملى عليه عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً فلما نزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنين، 12) أملاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اكتبها هكذا نزلت» فشك عبد الله بن سرح وقال لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران وقال ابن عباس: ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، قال العلماء: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنّ خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم {ولو ترى} يا محمد {إذ الظالمون} حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه، أي: ولو ترى الظالمين المذكورين {في غمرات} أي: شدائد {الموت} من غمره الماء إذا غشيه فاستعير للشدة الغالبة {والملائكة باسطو أيديهم} أي: لقبض أرواحهم كالمتقاضي الملازم لغريمه لا يفارقه، أو بالعذاب أو الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم يقولون لهم تعنيفاً: {أخرجوا أنفسكم} إلينا لنقبضها. فإن قيل: إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا؟ أجيب: بأنهم يقولون لهم: أخرجوها كرهاً لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر، وقيل: يقولون لهم: خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخاً لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت {اليوم تجزون عذاب الهون} أي: الهوان {بما كنتم تقولون على الله غير الحق} أي: كادعاء الولد والشريك له تعالى ودعوى النبوّة والإيحاء كذباً {وكنتم عن آياته تستكبرون} أي: تتكبرون عن الإيمان بها وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراَ فظيعاً. {و} يقال لهم إذا بعثوا للحساب والجزاء {لقد جئتمونا فرادى} أي: منفردين عن الأهل والمال والولد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وفي هذا تقريع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم ذلك شيئاً يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا {كما خلقناكم أوّل مرّة} أي: حفاة عراة، غرلاً، روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت يا رسول الله واسوأتاه إنّ الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكلّ امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال» وروي عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلاً» أي: غير مختونين، وفي رواية زيادة على ذلك بهما، قال الجوهري وغيره: أي: ليس معهم شيء، قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأمر أشدّ أن يهمهم ذلك» {وتركتم ما خوّلناكم} أي: ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة {وراء ظهوركم} أي: في الدنيا فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكثرون {و} يقال لهم توبيخاً {ما نرى معكم شفعاءكم} أي: الأصنام {الذين زعمتم أنهم فيكم} أي: في استحقاق عبادتكم {شركاء} أي: لله وقوله تعالى: {لقد تقطع بينكم} قرأه نافع وحفص والكسائيّ بنصب النون أي: لقد تقطع ما بينكم من الوصل، والباقون بالرفع أي: لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل {وضلّ} أي: ذهب {عنكم ما كنتم تزعمون} أي: من أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء. {إن الله فالق} أي: شاق {الحبّ} أي: عن النبات {والنوى} أي: عن النخل وقيل: المراد الشق الذي في الحنطة والنواة، والحبّ جمع الحبة وهو اسم لجميع البزور والحبوب من البرّ والشعير والذرة وكل مالم يكن له نوى والنوى جمع نواة وهي كل ما لم يكن حباً كالتمر والمشمس وغيرهما، وقال الضحاك: فالق الحبّ والنوى يعني خالق الحبّ والنوى {يخرج الحيّ من الميت} أي: كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة {ومخرج الميت من الحيّ} كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. تنبيه: مخرج معطوف على فالق كما قاله الزمخشريّ ويصح عطفه على يخرج لأن عطف الاسم المشابه للفعل على الفعل صحيح كعكسه وهو عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل كقوله تعالى: {إن المصدّقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً} (الحديد، 18) فأقرضوا معطوف على المصدّقين لشبهه بالفعل لكونه اسم فاعل ومخرج شبيه بالفعل لكونه اسم فاعل، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائيّ بتشديد الياء، والباقون بالتخفيف {ذلكم} المحيي والمميت، هو {ا} الذي تحق له العبادة {فأنى} أي: فكيف {تؤفكون} أي: تصرفون عن الحق فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء، كلها، وقوله تعالى: {فالق الإصباح} مصدر بمعنى الصبح أي: شاق عمود الصبح وهو أوّل ما يبدو من النهار عن ظلمة الليل أو شاق ظلمة الأصباح وهو الغبش الذي عليه في آخر الليل {وجاعل الليل سكناً} أي: يسكن فيه الخلق راحه لهم، قال ابن عباس: إذ كل ذي روح يسكن فيه لأنّ الإنسان قد أتعب نفسه فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ليسكن فيه عن الحركة وذلك هو الليل، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بنصب العين واللام ولا ألف قبل العين على الماضي حملاً على معنى المعطوف عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فإن فالق بمعنى فلق، والباقون بكسر العين ورفع اللام وألف قبل العين وقوله تعالى: {والشمس والقمر} منصوبان بإضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل أي: وجعل الشمس والقمر {حسباناً} أي: حساباً للأوقات أو الباء محذوفة وهو حال من مقدر أي: يجريان بحسبان كما في آية الرحمن وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله: {تقدير العزيز العليم} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه {وهو الذي جعل} أي: خلق {لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحرّ} أي: في ظلمات الليل في البرّ والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعدما أجملها بقوله: لكم، ومن منافعها أنها زينة للسماء كما قال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} ومنها رمي الشياطين كما قال تعالى: {وجعلناها رجوماً للشياطين} (الملك، 5) {قد فصلنا} أي: بينا {الآيات} أي: الدالات على قدرتنا وتوحيدنا {لقوم يعلمون} أي: يتدبرون فإنهم المنتفعون به {وهو الذي أنشأكم} أي: خلقكم {من نفس واحدة} أي: من آدم عليه الصلاة والسلام فهو أبو البشر كلهم وحوّاء مخلوقة منه وعيسى أيضاً لأنّ ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أنّ جميع البشر من آدم عليه السلام {فمستقرّ ومستودع} أي: فمستقرّ في الرحم ومستودع في القبر إلى أن يبعث أو فمستقر في أرحام الأمّهات ومستودع في أصلاب الآباء، قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس: هل تزوّجت؟ قلت: لا، قال: أما إنه ما كان مستودعاً في ظهرك فسيخرجه الله عز وجلّ أو مستقرّ في الرحم ومستودع فوق الأرض قال تعالى: {ونقرّ في الأرحام ما نشاء} أو فمستقرّ على وجه الأرض ومستودع عند الله في الآخرة أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الدنيا وكان الحسن يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق بصاحبك أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الجنة أو النار قال تعالى في صفة الجنة: حسنت مستقرّاً وفي صفة النار وساءت مستقرّاً، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على اسم الفاعل والمستودع مفعول أي: فمنكم قار ومنكم مستودع لأنّ الاستقرار من الله تعالى دون الاستيداع لأنّ الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض، لا صنع للعبد فيه بخلاف الاستيداع في الأرحام أو تحت الأرض، والباقون بالنصب {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} أي: يفهمون ما يقال لهم ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأنّ أمرها ظاهر وذكر مع تخليقه بني آدم يفقهون لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر {وهو الذي أنزل من السماء ماء} أي: مطراً وهو من السحاب أو من جانب السماء، وقيل: إنّ الله تعالى ينزله من السماء إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض {فأخرجنا به} أي: بالماء وفي ذلك التفات حيث لم يقل فأخرج على وفق أنزل {نبات كلّ شيء} أيّ شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات فالسبب واحد وهو الماء والمسيبات صنوف متفرّقة كما قال تعالى: {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} (الرعد، 4) {فأخرجنا منه} أي: من النبات أو الماء {خضراً} أي: شيئاً أخضر يقال: أخضر وخضر مثل أعور وعور والأخضر هو جميع البقول والزروع والبقول الرطبة {نخرج منه} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 أي: الخضر {حباً متراكباً} أي: يركب بعضه بعضاً كسنابل الحنطة والشعير والأرز والذرة وقوله تعالى: {ومن النخل} خبر مقدّم ويبدل منه {من طلعها} وهو أوّل ما يخرج منها والمبتدأ {قنوان} أي: عراجين {دانية} أي: قريبة من التناول يتناولها النائم والقاعد أو قريب بعضها من بعض وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها وهي البعيدة لدلالتها عليها كقوله تعالى {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل، 81) أي: والبرد واكتفى بذكر أحدهما وحكمة تخضيص دانية بالذكر زيادة النعمة فيها وقوله تعالى: {وجنات} عطف على نبات كلّ شيء أي: وأخرجنا به بساتين {من أعناب} وقوله تعالى: {والزيتون والرمّان} عطف أيضاً على نبات أي: وأخرجنا به شجر الزيتون والرمّان {مشتبهاً وغير متشابه} قال قتادة: معناه مشتبهاً ورقها مختلفاً ثمرها لأن ورق الزيتون يشتبه ورق الرمان، وقيل: مشتبهاً في النظر مختلفاً في الطعم والله سبحانه ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع وقدّم الزرع على سائر الأشجار لأنّ الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدّم على الفواكه وقدم النخل على غيرها لأنّ ثمرها يجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار قال بعضهم وليس لنا أنثى من الشجر تحتاج إلى ذكر غير النخل أي: في تطييب ثمرها وذكر العنب عقب النخل لأنه من أشرف أنواع الفواكه ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والنفع ثم ذكر بعده الرمان لما فيه من المنافع أيضاً {انظروا} أيها المخاطبون نظر اعتبار {إلى ثمره} قرأ حمزة والكسائيّ بضمّ الثاء والميم، والباقون بالنصب، وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر وخشبة وخشب {إذا أثمر} أي: حين يبدو من أكمامه ضعيفاً قليل النفع أو عديمه {و} انظروا إلى {ينعه} أي: إلى إدراكه إذا أدرك وحان قطفه كيف يصير ذا نفع ولذة والمعنى انظروا نظر استدلال واعتبروا كيف أخرج الله هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة وهو قوله تعالى: {إنّ في ذلكم لآيات} أي: دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره فإنّ حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ندّ يعارضه أو ضد يعانده وخص المؤمنين بالذكر بقوله: {لقوم يؤمنون} لأنهم المنتفعون بها بخلاف الكافرين ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والردّ عليه فقال تعالى: {وجعلوا شركاء الجنّ} أي: الشياطين لأنهم أطاعوهم في عبادة الأوثان فجعلوها شركاء الله. فإن قيل: لله مفعول ثان لجعلوا وشركاء مفعول أوّل ويبدل منه الجنّ فما فائدة التقديم؟ أجيب: بأنّ فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من جنّ أو إنس أو ملك فلذلك قدم اسم الله تعالى على الشركاء، وقيل: المراد بالجنّ الملائكة بأن عبدوهم وقالوا: الملائكة بنات الله وسماهم جناً لاجتنانهم تحقيراً لشأنهم، وقال الكلبيّ: نزلت في الزنادقة أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق فقالوا: الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب فيقولون: هو شريك الله في تدبير هذا العالم فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً وقوله تعالى: {وخلقهم} حال بتقدير قد والضمير إمّا أن يعود إلى الجنّ فيكون المعنى والله خلق الجنّ فكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 يكون شريك الله عز وجلّ محدثاً مخلوقاً وإمّا أن يعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئاً وهذا كالدليل القاطع بأنّ المخلوق لا يكون شريكاً لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى خالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه {وخرقوا} قرأه نافع بتشديد الراء، والباقون بالتخفيف، أي: اختلقوا {له بنين وبنات بغير علم} وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى وسئل الحسن عنه فقال: كلمة غريبة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله {سبحانه} تنزيهاً له {وتعالى عما يصفون} بأن له شريكاً أو ولداً {بديع السموات والأرض} أي: مبتدعهما من غير سبق مثال ورفع بديع على الخبر والمبتدأ محذوف أي: هو بديع أو على الابتداء والخبر {أنى يكون له ولد} أي: من أين يكون له ولد {ولم تكن له صاحبة} يكون منها الولد لأنّ الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى {وخلق كل شيء} أي: من شأنه أن يخلق {وهو بكل شيء عليم} لا تخفى عليه خافية، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: الأوّل: إنه مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة من جنس ما يوصف بالولادة لكونها مخلوقة لا يستقيم أن توصف بالولادة لاستمرارها وطول مدّتها ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والدا، الثاني: أن الولادة لا تكون إلا من ذكر وأنثى مجانسين وهو متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة، والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج، وقوله تعالى: {ذلكم} إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ وقوله تعالى: {الله ربكم لا إله إلا هو خالق كلّ شيء} أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض في غير الله تعالى بدلاً أو صفة لأنّ الله تعالى أوّل وليس بصفة والبعض خبراً وقوله تعالى: {فاعبدوه} مسبب عن مضمون ذلك فإنّ من استجمع هذه الصفات استحق العبادة {وهو على كل شيء وكيل} أي: وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال فيجازي عليها {لا تدركه الأبصار} جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها والإدراك إحاطة بكنه الشيء وحقيقته وتمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا: إنّ الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلاً لأنّ الله تعالى أخبر أنّ الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أنّ لا تدركه الأبصار بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة إن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة واستدلوا لمذهبهم بأشياء من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف فمن الكتاب قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة 22، 23) ففي هذه الآية دليل على أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} (المطفقين، 15) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: حجب قوماً بالمعصية وهي الكفر فثبت أنّ قوماً يرونه بالطاعة وهي الإيمان، وقال مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 رضي الله تعالى عنه: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله تعالى الكفار بالحجاب وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس، 26) وهذه الزيادة مفسرة بالنظر إلى الله تعالى يوم القيامة ومن السنة ما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} (طه، 13) ومنها أنّ ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل تضامون في القمر ليلة البدر ـ أي: هل تشكّون؟» قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإنكم ترونه كذلك» وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة؟ قال: «نعم» قلت: وما آية ذلك من خلقه؟ قال: «يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به؟» قلت: بلى، قال: «فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله ـ أي: القمر ـ فالله أعظم وأجل» واحتج أهل السنة أيضاً على جواز رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة بقول كليم الله موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} (الأعراف، 143) إذ لا يسأل نبيّ ما لا يجوز أو يمتنع وقد علق الله تعالى الرؤية على استقرار الجبل بقوله تعالى: {فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} (الأعراف، 143) واستقرار الجبل جائز والمعلق على الجائز جائز وأمّا قول المتمسكين بظاهر الآية وإنّ الإدراك بمعنى الرؤية فممنوع لأنّ الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به والرؤية المعاينة وقد تكون المعاينة بلا إدراك قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا} (الشعراء، 61) وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم فنفى موسى عليه السلام الإدراك مع ثبوت الرؤية فالله تعالى يصح أن يرى من غير إدراك ولا إحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به قال تعالى: {ولا يحيطون به علماً} فنفي الإحاطة مع ثبوت العلم، قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار وقال عطاء: كلت أبصار، المخلوقين عن الإحاطة به، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل: لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة، وظاهر هذا التسوية بين الإدراك والرؤية ويدل على هذا التخصيص قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة، 22، 23) فقوله: ناظرة مقيد بيوم القيامة ويكون هذا جمعاً بين الآيتين {وهو يدرك الأبصار} أي: يراها أو يحيط بها علماً فلا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء {وهو اللطيف الخبير} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اللطيف بأوليائه الخبير بهم، وقال الزهري: اللطيف الرفيق بعباده، وقيل: اللطيف الموصل الشيء بالرفق واللين، وقيل: اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا. {قد جاءكم بصائر} جمع بصيرة أي: حجج {من ربكم} تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل {فمن أبصر} أي: عمل بالأدلة {فلنفسه} أي: خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال إلى الهدى {ومن عمي} أي: لم يهد بالأدلة {فعليها} أي: خاصة عماه لأنه يضل فلا يضر إلا نفسه {وما أنا عليكم بحفيظ} أي: برقيب لأعمالكم وإنما أنا منذر والله تعالى هو الرقيب عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها. {وكذلك} أي: كما بينا ما ذكر {نصرّف} أي: نبيّن {الآيات} من حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 إلى حال في المعاني المتنوّعة سالكين من وجوه البراهين بما يفوت القوى ويعجز القدر ليعتبروا {وليقولوا} اعتذاراً عند ظهور عجزهم {دارست} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بألف بين الدال والراء أي: ذاكرت أهل الكتاب، والباقون بغير ألف أي: درست كتب الماضين وجئت بهذا منها، وقرأ ابن عامر بفتح السين وسكون التاء من الدروس أي: هذه الآيات التي تتلوها علينا قديمة قد درست وانمحت كقولهم: أساطير الأوّلين، وقيل: اللام فيه لام العاقبة أي: عاقبة أمرهم أن يقولوا: دارست أي: قرأت على غيرك، وقيل: قرأت كتب أهل الكتاب كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً} (القصص، 8) {ولنبينه} أي: الآيات وذكر الضمير لأنها في معنى القرآن كأنه قيل: وكذلك نصرّف القرآن أو القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل كقولهم: ضربته زيداً {لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون به. وقوله تعالى: {اتبع} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: اتبع يا محمد {ما أوحي إليك} أي: القرآن فالزم العمل به، ثم أكد مدحه بقوله: {من ربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان، وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} اعتراض أكد به إيجاب الاتباع لما في كلمة التوحيد من التمسك بحبل الله والاعتصام به والإعراض عما سواه، وقول البيضاوي: أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفرداً في الألوهية مبني على جواز تأكيد الجملة الفعلية بالإسمية وهو نادر {وأعرض عن المشركين} ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى رأيهم، ومن جعله منسوخاً بآية السيف حمل الإعراض على ما يعمّ الكف عنهم. {ولو شاء الله} إيمانهم وعدم إشراكهم {ما أشركوا} وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى خلافاً للمعتزلة في قولهم: لم يرد الله من أحد الكفر والشرك والآية ردّ عليهم {وما جعلناك عليهم حفيظاً} أي: رقيباً فتجازيهم بأعمالهم {وما أنت عليهم بوكيل} أي: فتجبرهم على الإيمان وهذا قبل الأمر بالقتال. {ولا تسبوا الذين يدعون} أي: يعبدون {من دون الله} وهي الأصنام أي: ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح {فيسبوا الله عدواً} أي: اعتداءً وظلماً {بغير علم} أي: جهلاً منهم بالله وبما يجب أن يذكر به. روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعن في آلهتهم فقالوا: لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك فنزلت وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخلنّ على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل وأبي بن خلف ومعهم جماعة إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإنّ محمداً قد أذانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا وندعه وإلهه، فطلبه وقال: هؤلاء قومك وبنو عمك يقولون: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم» فقال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال: «قولوا لا إله إلا الله» فأبوا ونفروا، فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فقال: «يا عمّ ما أنا بالذي أقول غيرها» فقالوا: لتكفن عن سبك آلهتنا أو لنشتمنك ومن يأمرك، فنزلت. وقيل: كان المسلمون يسبونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسبّ الله تعالى وفيه دليل على أنّ الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدّي إلى الشرّ شر {كذلك} أي: كما زينا لهؤلاء ما هم عليه من عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان {زينا لكل أمّة عملهم} أي: من الخير والشرّ بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، وفي هذه الآية دليل على تكذيب القدرية والمعتزلة حيث قالوا: لا يحسن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه فهو الفعال لما يريد لا يسئل عما يفعل {ثم إلى ربهم مرجعهم} في الآخرة {فينبئهم بما كانوا يعملون} في الدنيا فيجازيهم به. {واقسموا} أي: كفار مكة {با جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {لئن جائتهم آية} أي: مما اقترحوه {ليؤمنن بها} . روي أنّ قريشاً قالوا: يا محمد إنك تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه الماء اثنتي عشرة عيناً وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «أي شيء تحبون؟» قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً وتبعث لنا بعض أمواتنا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟» قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهباً فجاء جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله لك ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا ليعذبنهم الله وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل يتوب تائبهم» فنزلت، قال الله تعالى: {قل} لهم {إنما الآيات عند الله} ينزلها كيف يشاء وإنما أنا نذير {وما يشعركم} أي: وما يدريكم أيها المسلمون بإيمانهم إذا جاءت فإنهم كانوا يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم أي: أنتم لا تدرون ذلك {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} لما سبق في علمي. وقرأ أبو عمرو بسكون الراء، وروي عن الدوري اختلاس الضم وكسر الهمزة من إنها ابن كثير وأبو عمرو على الابتداء وقالا: تم الكلام عند قوله تعالى: {وما يشعركم} والباقون بالفتح فهي بمعنى لعل وهو شائع في كلام العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، بمعنى لعلك، ومنه قول عدي بن زيد: *أعاذل ما يدريك أنّ منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد* أي: لعل منيتي. وقرأ ابن عامر وحمزة: لا تؤمنون، بالتاء خطاباً للكفار، والباقون بالياء على الغيبة. {ونقلب أفئدتهم} أي: ونحوّل قلوبهم عن الحق فلا يفقهونه {و} نقلب {أبصارهم} عن الحق فلا يبصرونه فلا يؤمنون لأنّ الله تعالى إذا صرف القلوب والأبصار عن الإيمان بقيت على الكفر {كما لم يؤمنوا به} أي: بما أنزل من الآيات {أوّل مرّة} أي: التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغيره من المعجزات الباهرات. وقيل: معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كقوله تعالى: {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} (القصص، 48) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ المرّة الأولى دار الدنيا أي: لوردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم كما قال تعالى: {ولو ردوا لعادوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 لما نهوا عنه} (الأنعام، 28) {ونذرهم} أي: نتركهم {في طغيانهم} أي: ضلالهم {يعمهون} أي: يتردّدون متحيرين لا نهديهم هداية المتقين. {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى} كما اقترحوا {وحشرنا} أي: جمعنا {عليهم كل شيء قبلاً} قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء أي: معاينة فشهدوا بصدقك، والباقون بضم القاف والباء جمع قبيل أي: فوجاً فوجاً {ما كانوا ليؤمنوا} لما سبق في علم الله، وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} استثناء منقطع أي: لكن إن شاء الله إيمانهم فيؤمنون أو استثناءً من أعمّ الأحوال أي: لا يؤمنون في حال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم {ولكن أكثرهم يجهلون} أي: إنهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم لأنّ بعضهم معاند مع أنّ مطلق الجهل يعمهم فيشمل المعاند أو لكنّ أكثر المسلمون يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم. {وكذلك} أي: ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجنّ {جعلنا لكل نبيّ} أي: ممن كان قبلك {عدواً} ويبدل منه {شياطين} أي: مردة {الإنس والجنّ} وفي هذا دليل على أنّ عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله تعالى وخلقه {يوحي} أي: يوسوس {بعضهم} أي: الشياطين من النوعين {إلى بعض زخرف القول} أي: مموهه من الباطل {غروراً} أي: لأجل أن يغروهم بذلك {ولو شاء ربك} إيمانهم {ما فعلوه} أي: هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها وفي هذا دليل أيضاً {فذرهم} أي: اترك الكفرة على أيّ حالة اتفقت {وما يفترون} من الكفر وغيره مما زين لهم وهذا قبل الأمر بالقتال، وقوله تعالى: {ولتصغى} عطف على غروراً إن جعل علة أي: ولتميل ميلاً قوياً {إليه} أي: الزخرف الباطل {أفئدة} أي: قلوب {الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: ليس في طبعهم الإيمان بها لأنها غيب واهم لبلادتهم واقفون مع وهمهم ولذلك استولت عليهم الدنيا التي هي من أصل الغرور أو متعلق بمحذوف أي: وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً، والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا: اللام لام العاقبة وهو قول الزمخشريّ في كشافه إنّ اللام للصيرورة {وليرضوه} أي: الزخرف الباطل لأنفسهم {وليقترفوا} أي: يكتسبوا {ما هم مقترفون} من الآثام فيعاقبوا عليها ونزل لما قال مشركوا قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود وإن شئت من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك. {أفغير الله} أي: قل لهم يا محمد أفغير الله {أبتغي} أي: أطلب {حكماً} أي: قاضياً بيني وبينكم {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب} أي: الأكمل المعجز وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء {مفصلاً} أي: مبيناً فيه الحق من الباطل {والذين آتيناهم الكتاب} أي: المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور {يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} لما عندهم به من البشارة في كتبهم ولما له من موافقتهم في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب وتفيض الدموع وتصدع الصدور مع ما يزيد به على ما في كتبهم من التفصيل بما يفهم المعارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية وإنما وصف جميعهم بالعلم لأنّ أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن بأدنى تأمل. وقيل: المراد مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الله بن سلام وأصحابه. وقرأ ابن عامر وحفص بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {فلا تكونن} يا محمد {من الممترين} أي: الشاكين في أنّ علماء أهل الكتاب يعلمون أنّ هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله، وقيل: فلا تكونن في شك مما قصصنا فيكون من باب التحريض فإنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط، وقيل: الخطاب وإن كان في الظاهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أنّ المراد به غيره أي: فلا تكونن أيها الإنسان السامع لهذا القرآن في شك إنه منزل من عند الله لما فيه من الإعجاز الذي لا يقدر على مثله إلا الله تبارك وتعالى: {وتمت كلمات ربك} أي: بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بغير ألف بين الميم والتاء، والباقون بالألف {صدقاً} في الأخبار والمواعيد لا يقدر أحد أن يبدي في شيء منها خدشاً بتخلف مّا عن مطابقة الواقع {وعدلاً} أي: في الأقضية والأحكام ونصبهما على التمييز ويحتمل الحال والمفعول له {لا مبدل لكلماته} بنقض أو خلف بل كل ما أخبرت به فهو كائن لا محالة رضي من رضي وسخط من سخط، وقيل: المراد بالكلمات القرآن لا مبدل له لا يزيد فيه المغيرون ولا ينقصون {وهو السميع} لكل ما يقال {العليم} بكل ما يفعل. {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} أي: دينه وأكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة، وقيل: الأرض مكة وذلك أنّ المشركين جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة فقالوا للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فكيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت، وقيل: لا تطعهم في اعتقاداتهم الفاسدة فإنك إن تطعهم يضلوك عن سبيل الله أي: يضلوك عن طريق الحق ومنهج الصدق ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي: لأنهم ما {يتبعون} في مجادلتهم لك {إلا الظنّ} وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق {وإن} أي: ما {هم إلا يخرصون} أي: يكذبون على الله عز وجل فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه وتحليل الميتة وتحريم البحائر ونحو ذلك.F {إنّ ربك هو} أي: لا غيره {أعلم} أي: عالم {من يضل عن سبيله وهو} أي: لا غيره {أعلم} أي: عالم {بالمهتدين} فيجازي كلاً منهم بما يستحقه. وقوله تعالى: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرّمون الحلال ويحللون الحرام والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه ولا تأكلوا مما ذكر عليه اسم غيره تعالى أو مات حتف أنفه {إن كنتم بآياته مؤمنين} أي: إن كنتم محققين الإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه فإنّ الإيمان يقتضي استباحة ما أحله الله تعالى واجتناب ما حرمه. {وما لكم} أي: أيّ غرض لكم في {أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} من الذبائح {وقد فصل} أي: بين {لكم ما حرّم عليكم} أي: مما لم يحرم في آية حرمت عليكم الميتة تفصيلاً واضح البيان ظاهر البرهان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الفاء وكسر الصاد والباقون بفتحهما، وقرأ نافع وحفص بفتح الحاء والراء والباقون بضم الحاء وكسر الراء {إلا ما اضطررتم إليه} أي: مما حرم عليكم فإنه أيضاً حلال حال الضرورة {وإنّ كثيراً} من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم: كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم {ليضلون بأهوائهم} أي: بما تهوى أنفسهم من تحليل الميتة وغيرها، وقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بفتحها {بغير علم} يعتمدونه في ذلك، وقيل: المراد بذلك عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وأباح الميتة وغير دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} أي: الذين تجاوزوا الحق إلى الباطل والحرام إلى الحلال. {وذروا} أي: اتركوا {ظاهر الإثم وباطنه} أي: ما أعلنتم به وما أسررتم به من الذنوب كلها، وقيل: المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وبباطنه أفعال القلوب فيدخل فيه الحسد والكبر والعجب وإرادة الشرّ للمسلمين ونحو ذلك، وقيل: ظاهر الإثم الزناة في الحوانيت وباطنه المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً {إنّ الذين يكسبون الإثم} في الدنيا بارتكاب المعاصي {سيجزون} في الآخرة {بما كانوا يقترفون} أي: يكسبون وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب ومذهب أهل السنة إنه إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله أمّا إذا تاب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال ابن عباس: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء: الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام، واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركت التسمية عمداً أم نسياناً وهو قول ابن سيرين والشعبيّ واحتجوا بظاهر الآية وذهب قوم إلى حلها مطلقاً، ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الشافعي وأحمد وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامداً لم تحل أو ناسياً حلت وهو مذهب مالك، ومن قال بالإباحة مطلقاً قال المراد من الآية الميتات وما ذبح على غير اسم الله بدليل قوله تعالى: {وإنه لفسق} أي: ما ذكر عليه اسم غير الله كما قال تعالى في آخر السورة: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} إلى قوله: {أو فسقاً أهل لغير الله به} (الأنعام، 145) والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه لا تأكلوا واحتجوا أيضاً في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قالوا: يا رسول الله إنّ هنا أقواماً حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فلا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا» فلو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح {وإنّ الشياطين ليوحون} أي: يوسوسون {إلى أوليائهم} من الكفار {ليجادلوكم} في تحليل الميتة بقولهم: تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله وهذا يؤيد التأويل بالميتة {وإن أطعتموهم} أي: باستحلال ما حرم {إنكم لمشركون} أي: مثلهم في الشرك، قال الزجاج: فيه دليل على أنّ كل من أحل شيئاً مما حرّم الله أو حرّم شيئاً مما أحلّ الله فهو مشرك. {أو من كان ميتاً} أي: بالكفر {فأحييناه} أي: بالإيمان وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جعل الإيمان حياة لأنّ الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده، ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبه بالحياة، وقرأ نافع بتشديد الياء والباقون بالتخفيف {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} أي: يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان، وقال قتادة: هو كتاب الله القرآن بينة من الله مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي {كمن مثله} أي: كمن هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 {في الظلمات} فمثل زائدة {ليس بخارج منها} وهو الكافر أي: ليس مثله. نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأبي جهل بن هشام وذلك إنّ أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يقول: يا أبا يعلى ما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسفه آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله، وقيل: في عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر وأبي جهل. {كذلك} أي: كما زين للمؤمنين إيمانهم {زين للكافرين ما كانوا يعملون} أي: من الكفر والمعاصي، قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى: زينا لهم أعمالهم وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان وردّ بالآية المذكورة. {وكذلك} أي: كما جعلنا فساق أهل مكة أكابرها {جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} أي: عظماءها، وأكابر جمع أكبر كأفضل وأفاضل وأسود وأساود وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم كما قال في قصة نوح: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} (الشعراء، 111) وجعل فساقهم أكابرهم {ليمكروا فيها} بالصدّ عن الإيمان وذلك أنهم أجلسوا على طرق مكة أربع نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقولون لكل من يقدم: إياكم وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب فكان هذا مكرهم {وما يمكرون إلا بأنفسهم} لأنّ وباله يحيق بهم {وما يشعرون} أي: وما لهم نوع شعور بذلك. {وإذا جاءتهم} أي: أهل مكة {آية} على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم {قالوا لن نؤمن} به {حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} أي: من النبوّة وذلك أنّ الوليد بن المغيرة قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً فنزلت، وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل حين قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، والله لا نرضى إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. وقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} استئناف للردّ عليهم بأن النبوّة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالته من علم أنه يصلح لها وحيث مفعول به لفعل محذوف دل عليه أعلم لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به أي: يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه فيضعها وهؤلاء ليسوا أهلاً لها، وقرأ ابن كثير وحفص بنصب التاء ورفع الهاء ولا ألف قبل التاء على التوحيد، والباقون بكسر التاء والهاء وألف قبل التاء على الجمع {سيصيب الذين أجرموا} بقولهم ذلك {صغار} أي: ذل وهوان {عند الله} يوم القيامة، وقيل: تقديره من عند الله {وعذاب} أي: مع الصغار {شديد} أي: في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالنار {بما} أي: بسبب ما {كانوا يمكرون} من صدّهم الناس عن الإيمان وطلبهم ما لا يستحقونه. بأن يقذف في قلبه نوراً فينفسح له ويقبله. ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن ينشرح له قلبه وينفسخ» قيل: فهو لذلك أمارة، قال: «نعم الإنابة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقي الموت» {ومن يرد} أي: الله {أن يضله يجعل صدره ضيقاً} أي: عن قبول الإيمان حتى لا يدخله، وقرأ ابن كثير بسكون الياء، والباقون بتشديدها مع الكسر، وقوله تعالى: {حرجاً} قرأه نافع وأبو بكر بكسر الراء أي: شديد الضيق، والباقون بالفتح وصفاً للمصدر، وفي الآية دليل على أنّ جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر {كأنما يصعد في السماء} أي: يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء شبه مبالغته في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه، وقرأ ابن كثير بسكون الصاد وتخفيف العين من غير ألف بعد الصاد، وقرأ شعبة بتشديد الصاد وتخفيف العين وألف بعد الصاد بمعنى يتصاعد {كذلك} أي: مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان {يجعل الله الرجس} أي: العذاب أو الشيطان أي: يسلطه {على الذين لا يؤمنون} وقال الزجاج: الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب. {وهذا} أي: الدين الذي أنت عليه يا محمد {صراط} أي: طريق {ربك مستقيماً} لا عوج فيه ونصبه على الحال المؤكدة للجملة والعامل فيها معنى الإشارة {قد فصلنا} أي: بينا {الآيات لقوم يذكرون} فيه إدغام التاء في الأصل في الذال أي: يتعظون فيعلمون أن القادر على كل شيء هو الله عز وجل وأن كل ما يحدث من خير أو شرّ فهو بقضائه وقدره وخلقه وإنه تعالى عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون. {لهم} أي: المتذكرين {دار السلام} هي الجنة وأضافها لنفسه في قول جميع المفسرين فإنّ السلام كما قال الحسن هو الله تعالى تشريفاً لهم أو {تحيتهم فيها سلام} (يونس، 10) أو أراد بها دار السلامة {عند ربهم} أي: ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره {وهو وليهم} أي: المتكفل بتولي أمورهم ولا يكلهم إلى أحد سواه {ما} أي: بسبب ما {كانوا يعملون} من الأعمال الصالحة التي كانوا يتقرّبون بها إليه في الدنيا. {و} اذكر يا محمد {يوم نحشرهم} أي: الخلق {جميعاً} أي: لا نترك منهم أحداً، وقرأ حفص بالياء والباقون بالنون، وقوله تعالى: {يا معشر الجنّ} فيه حذف تقديره ويقال لهم: يا معشر الجنّ، والمعشر الجماعة والمراد من الجنّ الشياطين {قد استكثرتم من الإنس} أي: من إضلالهم وإغوائهم حتى صار أكثرهم أتباعكم {وقال أولياؤهم} أي: الذين أطاعوهم {من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} أي: انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشهوات والجنّ بطاعة الإنس لهم {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} أي: إنّ ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين ووقت محدود ثم ذهب وبقيت الحسرة والندامة قال الحسن: الأجل الموت، وقيل: هو وقت البعث للحساب في القيامة {قال} الله تعالى على لسان الملائكة لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجنّ والإنس {النار مثواكم} أي: مأواكم {خالدين فيها} أي: إلى ما لا آخر له فإنّ الجزاء من جنس العمل {إلا ما شاء الله} أي: من الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير. فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم، وقيل: إلا ما شاء الله قبل الدخول قدر مدّة بعثهم ووقوفهم للحساب وقال ابن عباس: الاستثناء يرجع إلى قوم سبق في علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار، قال البغوي: فما بمعنى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 على هذا التأويل {إنّ ربك حكيم} في صنعه {عليم} بعواقب أمور خلقه وما هم صائرون إليه. {وكذلك} أي: كما متعنا عصاة الإنس والجنّ بعضهم ببعض {نولى} من الولاية {بعض الظالمين بعضاً} أي: على بعض. روي عن ابن عباس في تفسيرها: هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكسبون} من الكفر والمعاصي. {يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم} أي: من مجموعكم وهم الإنس إذ الرسل منهم خاصة ولكن لما جمع الجنّ مع الإنس في الخطاب صح ذلك ونظيره قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن، 22) فإنّ ذلك يخرج من الملح دون العذب أو إن رسل الجنّ نذرهم الذين يسمعون كلام الرسول فيبلغون قومهم كما قال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ} (الأحقاف، 29) الآية وتعلق بظاهر الآية قوم فقالوا: بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم {يقصون عليكم آياتي} أي: يخبرون بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي {وينذرونكم لقاء يومكم هذا} أي: ويحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة {قالوا شهدنا على أنفسنا} أي: اعترفوا بأنّ الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا وإنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى: {وغرّتهم الحياة الدنيا} أي: إنما كان ذلك بسبب أنهم غرّتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} أي: في الدنيا. فإن قيل: كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا في آية أخرى وهي قولهم: {وا ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام، 23) أجيب: بتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول فيقرون في بعضها ويجحدون في بعض آخر. فإن قيل: لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ أجيب: بأن الأولى حكاية لقولهم: كيف يقولون وكيف يعترفون؟ والثانية ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة إمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيراً للسامعين عن مثل حالهم. {ذلك} أي: إرسال الرسل {أنّ} أي: لأجل أن {لم يكن ربك مهلك القرى بظلم} أي: بسبب ظلم ارتكبوه {وأهلها غافلون} أي: لم يتنبهوا برسول يبين لهم. {س6ش132/ش137 وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا?? وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ? إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن? بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍءَاخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ ?تٍ? وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا? عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ? فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ? عَاقِبَةُ الدَّارِ? إِنَّهُ? يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَجَعَلُوا? لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَا?نْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا? هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآ?ـ?ِنَا? فَمَا كَانَ لِشُرَكَآ?ـ?ِهِمْ فَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ? وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآ?ـ?ِهِمْ? سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا? عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ? وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ? فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {ولكل} أي: من العاملين بطاعة أو معصية {درجات} أي: جزاء {مما عملوا} أي: من خير وشر إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانخفاض كتفاضل الدرج {وما ربك بغافل عما يعملون} أي: عن شيء يعمله أحد من الفريقين بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل من ثواب أو عقاب، وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة، والباقون بالياء على الغيبة. {وربك الغني} أي: الغنى المطلق عن كل عابد وعبادته فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها {ذو الرحمة} أي: التجاوز عن خلقه فمن رحمته إرسال الرسل وتأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون ويرجعون {إن يشأ يذهبكم} يا أهل مكة بالإهلاك ففيه وعيد وتهديد لهم {ويستخلف من بعدكم} أي: بعد إهلاككم {ما يشاء} أي: خلقاً غيركم أمثل وأطوع منكم {كما أنشأكم من ذرية} أي: نسل {قوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 آخرين} أذهبهم لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام ولكنه أبقاكم رحمة بكم. {إنما توعدون} من مجيء الساعة والبعث بعد الموت والحشر للحساب يوم القيامة {لآت} لا محالة {وما أنتم بمعجزين} أي: فائتين عذابنا. {قل} يا محمد لقومك من كفار قريش {يا قوم اعملوا على مكانتكم} أي: حالتكم التي أنتم عليها {إني عامل} على حالتي التي أنا عليها والمعنى: اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد {فسوف تعلمون} غداً في القيامة {من} موصولة مفعول العلم {تكون له عاقبة الدار} أي: العاقبة المحمودة في الدار الآخرة أنحن أم أنتم {إنه لا يفلح} أي: يسعد {الظالمون} أي: الكافرون. {وجعلوا} أي: كفار مكة {مما ذرأ} أي: خلق {من الحرث} أي: الزرع {والأنعام نصيباً فقالوا هذا بزعمهم وهذا لشركائنا} وذلك أنّ المشركين كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها فإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردّوه إلى الأوثان وقالوا: إنها محتاجة وكان إذا هلك وانتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به وإذا هلك شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله فذلك قوله تعالى: {فما كان لشركائهم} أي: ما جعلوه لها من الحرث والأنعام {فلا يصل إلى الله} أي: لجهته فلا يعطونه للمساكين ولا ينفقونه على الضيفان {وما كان فهو يصل إلى شركائهم} وفي قوله تعالى: {مما ذرأ} تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا مع الخالق تعالى في خلقه جماداً لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له. وفي قوله تعالى: {بزعمهم} تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به، وقرأ الكسائي برفع الزاي والباقون بالنصب {ساء} أي: بئس {ما يحكمون} حكمهم هذا. {وكذلك} أي: ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم {زين لكثير من المشركين قتل أولادهم} أي: بالوأد خشية الإملاق {شركاؤهم} من الجن أو من السدنة أي: الخدمة، وقرأ غير ابن عامر بفتح الزاي والياء ونصب لام قتل وكسر دال أولادهم وشركاؤهم بالواو مضمومة الهمزة على أنه فاعل، وقرأ ابن عامر بضم الزاي وكسر الياء ورفع لام قتل ونصب دال أولادهم وشركائهم بالياء مكسورة الهمزة بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله قال البيضاوي تبعاً للزمخشري: وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورة الشعر. اه. وقد أنكر جماعة على الزمخشري في ذلك بأن القراءة المذكورة صحيحة متواترة وتركيبها صحيح في العربية فلا يجوز الطعن فيها ولا في ناقلها. قال التفتازاني: وهذا على عادته يطعن في متواتر القراآت السبع ويسند الخطأ تارة إليهم كما هنا وتارة إلى الرواية عنهم وكلاهما خطأ لأنّ القراآت متواترة، وكذا الروايات عنهم، وأطال في بيان ذلك وقال ابن مالك في كافيته: إضافة المصدر إلى الفاعل مفصولاً بينهما بمفعول المصدر جائزة في الاختيار إذ لا محذور فيها مع أنّ الفاعل كجزء من عامله فلا يضر فصله وإضافة القتل إلى الشركاء لأمرهم {ليردوهم} أي: ليهلكوهم بذلك الفعل الذي أمروهم به، والإرداء في اللغة الإهلاك، وقال ابن عباس: ليردوهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 في النار {وليلبسوا} أي: وليخلطوا {عليهم دينهم} قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم وكان على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فوضعوا لهم هذه الأصنام وزينوها لهم {ولو شاء الله} عصمة هؤلاء من ذلك القبيح الذي زين لهم {ما فعلوه} فجميع الأشياء بمشيئته وإرادته {فذرهم} أي: اتركهم يا محمد {وما يفترون} أي: وما يختلقون من الكذب على الله فإن الله لهم بالمرصاد، وفي ذلك تهديد لهم كما مرّ. أي: المشركون سفهاً وجهلاً {هذه} إشارة إلى قطعة من أموالهم عينوها لآلهتهم {أنعام وحرث حجر} أي: حرام محجور عليه لا يصل أحد إليه وهو وصف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات {لا يطعمها} أي: لا يأكل منها {إلا من نشاء} أي: من خدمة الأوثان والرجال دون النساء {بزعمهم} أي: لا حجة لهم فيه {وأنعام حرمت ظهورها} أي: فلا يركبونها كالبحائر والسوائب والحوامي {وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها} أي: عند ذبحها وإنما كانوا يذكرون عليها اسم الأصنام، وقيل: لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل خير لأنّ العادة لما جرت بذكر الله على الخير ذم هؤلاء على ترك فعل الخير ونسبوا ما فعلوه إلى الله تعالى {افتراء عليه} أي: اختلافاً وكذباً إنه أمرهم بها {سيجزيهم} أي: بوعد صادق لا خلف فيه {بما} أي: بسبب ما {كانوا يفترون} .u {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام} أي: أجنة البحائر والسوائب وقوله تعالى: {خالصة} حلال {لذكرونا} أي: خاصة بهم دون الإناث كما قال تعالى: {ومحرم على أزواجنا} أي: النساء، وحذف الهاء من محرم إما حملاً على اللفظ أو تخفيفاً لأنّ المراد بخالصة المبالغة {وإن يكن} أي: ما في بطونها {ميتة فهم فيه شركاء} أي: الذكور والإناث فيه سواء أي: أنّ ما ولد منها حياً فهو للذكور دون الإناث وما ولد منها ميتاً أكله الذكور والإناث جميعاً، وقرأ ابن عامر وشعبة بالتأنيث في تكن والباقون بالتذكير، وقرأ ابن كثير وابن عامر ميتة بالرفع على أنّ تكن تامة والباقون بالنصب على أنها ناقصة {سيجزيهم} الله {وصفهم} أي: سيكافئهم على وصفهم بالكذب على الله تعالى بالتحليل والتحريم {إنه} أي: الله {حكيم} في صنعه {عليم} بخلقه. {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً} أي: جهلاً {بغير علم} نزلت في ربيعة ومضر وبعض من العرب من غيرهم كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر، وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك وسبب حصول هذه السفاهة هو قلة العلم بل عدمه بأنّ الله هو رازق أولادهم لا هم لأنّ الجهل كان غالباً عليهم قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا سموا جاهلية، وسبب هذا الخسران أنّ الولد نعمة عظيمة أنعم الله تعالى بها على الوالد فإذا تسبب في إزالة هذه النعمة وإبطالها فقد استوجب الذم وخسر في الدنيا والآخرة، أما خسارته في الدنيا فقد سعى في نقص عدده وإزالة ما أنعم الله تعالى به عليه وأما خسارته في الآخرة فقد استوجب بذلك العذاب العظيم، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف {وحرموا ما رزقهم الله} وتفضل به عليهم رحمة لهم من تلك الأنعام والغلات بغير شرع ولا نفع بوجه {افتراء} أي: تعمداً للكذب {على الله} وهذا أيضاً من أعظم الجهالة لأنّ الجراءة على الله والكذب عليه من أعظم الذنوب والكبائر ولهذا قال تعالى: {قد ضلوا} أي: في فعلهم عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الحق والرشاد {وما كانوا مهتدين} أي: إلى طريق الحق والصواب في فعلهم. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً} إلى قوله: {وما كانوا مهتدين} . وروي عن مهدي بن ميمون أنه قال: سمعت بأرجاء العطاردي يقول: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر وإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه في رجب. {وهو الذي أنشأ} أي: خلق {جنات} أي: بساتين {معروشات} أي: مبسوطات على الأرض كالبطيخ والقثاء {وغير معروشات} بأن ارتفعت على ساق كالنخل وشجر الرمان، وقال الضحاك: كلاهما في الكرم خاصة لأنّ منه ما يعرش بأن يبقى على وجه الأرض منبسطاً ومنه ما لم يعرش بأن يرتفع على ساق، وقيل: المعروشات ما عرشه الناس في البساتين، واهتموا به فعرشوه من كرم وغيره، وغير المعروشات هو ما أنبته الله تعالى في البراري والجبال من كرم أو شجر {و} أنشأ {النخل والزرع مختلفاً أكله} أي: ثمره وحبه في الهيئة والطعم منها الحلو والحامض والجيد والرديء، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه، أو للنخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفاً عليه، أو للجميع على تقدير كل ذلك أو كل واحد منها، ومختلفاً حال مقدرة لأنه لم يكن كذلك عند الإنشاء، وقرأ نافع وابن كثير بجزم الكاف، والباقون بالرفع {والزيتون والرمان متشابهاً} أي: ورقهما {وغير متشابه} أي: في طعمهما، وقيل: متشابهين في المنظر مختلفين في الطعم. ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي وهو الانتفاع بها فقال تعالى: {كلوا من ثمره} أي: كل واحد من ذلك {إذا أثمر} أي: ولو قبل نضجه وهذا أمر إباحة وأما قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} فالأمر فيه للوجوب والآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة والأمر بإتيانها يوم الحصاد ليهتم به حينئذٍ حتى لا يؤخره عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقيه، وقيل: الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة فالحق ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العشر ونصف العشر، وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم من ثمره والباقون بنصبهما، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح حاء حصاده والباقون بكسرها ومعناهما واحد {ولا تسرفوا} أي: بإعطاء كله فلا يبقى لعيالكم شيء. روي أنّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئاً فنزلت {إنه لا يحب المسرفين} أي: المتجاوزين ما حدّ لهم، وفي ذلك وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء، قال مجاهد: الإسراف ما قصرت به عن حق الله تعالى وقالوا: لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل أنفقه في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً، ولو أنفق درهماً واحداً أو مداً في معصية كان مسرفاً وقوله تعالى: {ومن الأنعام} عطف على جنات أي: وأنشأ من الأنعام {حمولة} أي: صالحة للحمل عليها كالإبل الكبار والبغال {وفرشاً} أي: تصلح للحمل كالإبل الصغار والعجاجيل والغنم سميت فرشاً لأنها كالفرش للأرض لدنوها منها، وقيل: هو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش {كلوا مما رزقكم الله} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 مما أحله لكم من هذه الأنعام والحرث {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أي: طرائقه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون {إنه} أي: الشيطان {لكم عدو مبين} أي: بين العداوة. وقوله تعالى: {ثمانية أزواج} أي: أصناف بدل من حمولة وفرشاً والزوج لغة الفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه فيطلق لفظ الزوج على الواحد كما يطلق على الاثنين فيقال للذكر: زوج، وللأنثى: زوج {من الضأن} زوجين {اثنين} أي: ذكر وأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم والذكر ضائن والأنثى ضائنة والجمع ضوائن {ومن المعز} زوجين {اثنين} أي: ذكر وأنثى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالسكون والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه وهي ذوات الشعر من الغنم، وقال البغوي: جمع الماعز معيز وجمع الماعزة مواعز {قل} يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة تارة ونسبوا ذلك لله تعالى {الذكرين} من الضأن والمعز {حرم} الله عليكم {أم الأنثيين} منهما {أما} أي: أم حرم ما {اشتملت} أي: انضمت {عليه أرحام الأنثيين} ذكراً كان أو أنثى {نبئوني} أي: أخبروني {بعلم} عن كيفية ذلك بأمر معلوم من جهة الله تعالى على تحريم ما حرمتم {إن كنتم صادقين} في دعواكم والاستفهام للإنكار والمعنى: من أين جاء التحريم فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام أو من قبل اشتمال الرحم فالزوجان حرام فمن أين التخصيص. تنبيه: اتفق القراء على أنّ في همزة الوصل وهي التي بين همزة الاستفهام ولام التعريف وجهين وهما البدل والتسهيل والبدل هو مدها مبدلة والتسهيل هو أن تقصرها مسهلة. {ومن الإبل اثنين} ذكراً أو أنثى {ومن البقر اثنين} كذلك {قل} يا محمد لهؤلاء الذين اختلفوا جهلاً وسفهاً {آلذكرين حرم} الله عليكم {أم الأنثيين} منهما {أما} أي: أم حرّم ما {اشتملت} أي: انضمت {عليه أرحام} الأنثيين ذكراً كان أو أنثى {أم كنتم} أي: بل أكنتم {شهداء} أي: حاضرين {إذ وصاكم الله بهذا} أي: حين وصاكم بهذا التحريم إذا أنتم لا تؤمنون بي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا بالمشاهدة والسماع فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله تعالى. ولما احتج عليهم بهذه الحجة وبيّن أنه لا سند لهم في ذلك قال تعالى: {فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى} أي: تعمد {على الله كذباً} كعمرو بن لحي فإنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدأ شيئاً لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين الله ما ليس منه فهو داخل في هذا الوعيد {ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} أي: لا يرشد ولا يوفق من كذب عليه وأضاف إليه ما لم يشرع لعباده. ولما بين سبحانه وتعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التحريم والتحليل من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبين أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء الجهلة الذين يحللون ويحرمون من عند أنفسهم {لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً} أي: طعاماً محرّماً مما حرمتموه. فائدة: في ما أوحي إليّ في مقطوعة من ما في الرسم {على طاعم} أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى {يطعمه} أي: يتناوله أكلاً أو شرباً أو داء أو غير ذلك {إلا أن يكون} أي: ذلك الطعام {ميتة} وهي كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة تكون بالتأنيث والباقون بالتذكير ورفع ميتة ابن عامر على أنّ كان هي التامة، وعلى هذه القراءة يكون قوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً} عطفاً على أن مع ما في حيزه أي: إلا وجود ميتة أو دماً مسفوحاً أي: مصبوباً كالدم في العروق لا كالكبد والطحال {أو لحم خنزير فإنه} أي: الخنزير {رجس} أي: نجس فالضمير يعود على المضاف إليه لأنّ اللحم دخل في قوله {ميتة} وحينئذٍ ففي الآية دلالة على نجاسة الخنزير وهو حي فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى ثم إني رأيت البقاعي في تفسيره جرى على ذلك وقوله تعالى: {أو فسقاً أهل لغير الله به} أي: ذبح على اسم غيره عطف على لحم خنزير وما بينهما اعتراض للتعليل. تنبيه: ظاهر الآية أنّ المحرمات محصورة في هذه الأربعة وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوانات غيرها وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على اسم غير الله تعالى، ويروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهم لأنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات إلا بوحي وثبت أنّ الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة أشياء وقال تعالى في (البقرة، 173) {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} وإنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم ولكن الذي ذهب إليه جمهور العلماء أنّ التحريم لا يختص بهذه فقط بل المحرّم ما كان بنص كتاب أو سنة، وقد وردت السنة بتحريم أشياء غير ذلك منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطيور وورد النهي عن أكل الهر وأكل ثمنه ويحرم أيضاً كل ما أمر بقتله كالحدأة والغراب الأبقع أو نهي عن قتله كالهدهد والخفاش وما لا نص فيه بتحريم أو تحليل أو بما يدل على أحدهما كالأمر بالقتل والنهي عنه إن استطابته عرب ذوو يسار وطباع سليمة حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا يحل فإن اختلفوا في استطابته اتبع الأكثر فإن استووا فقريش لأنهم قطب العرب وفيهم الفتوّة فإن اختلفت أو لم تحكم بشيء اعتبر الأشبه به من الحيوانات فإن استوى الشبهان أو لم يوجد ما يشبهه فحلال لهذه الآية وما جهل اسمه عمل بتسمية العرب له مما هو حلال أو حرام. ولما حرّم الله تعالى هذه الأشياء أباح أكلها عند الاضطرار بقوله تعالى: {فمن اضطر} أي: حصل له جوع خشي منه التلف {غير باغ} أي: على مضطر مثله {ولا عاد} أي: ولا متجاوز قدر الضرورة، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بالكسر {فإنّ ربك غفور} لا يؤاخذه بالأكل {رحيم} به حيث أباح له ذلك. {وعلى الذين هادوا} أي: اليهود واليهود علم على قوم موسى عليه الصلاة والسلام وسموا به اشتقاقاً من هادوا أي: مالوا إما عن عبادة العجل وإما عن دين موسى عليه السلام أو من هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير لكثرة انتقالهم عن مذاهبهم وقيل: لأنهم يتهوّدون أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 يتحرّكون عند قراءة التوراة وقيل: معرب من يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة ثم نسب إليه فقيل: يهودي ثم حذف الياء في الجمع فقيل: يهود {حرّمنا} أي: بسبب ظلمهم عليهم {كل ذي ظفر} أي: ما هو كالإصبع للآدمي من دابة أو طير وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم فلما ظلموا حرّم عليهم فعم التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (النساء، 160) {ومن البقر والغنم} أي: التي هي ذوات الأظلاف {حرّمنا عليهم شحومهما} أي: الصنفين والمراد شحم الجوف وهو الثروب قال الجوهري: هو شحم قد غشي الكرش والأمعاء رقيق ثم استثنى من الشحوم ما ذكره بقوله: {إلا ما حملت ظهورهما} أي: إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما {أو الحوايا} أي: ما حملته الحوايا وهي الأمعاء التي هي متعاطفة ملوية جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن، وقيل: جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء فهو فواعل {أو ما اختلط} أي: من الشحوم {بعظم} مثل شحم الإلية فإن ذلك لا يحرم عليهم. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح وهو بمكة: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: «لا هو حرام» أي: بيعها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومهما أجملوه أي: أذابوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه» {ذلك} أي: التحريم العظيم وهو تحريم الطيبات {جزيناهم} به {ببغيهم} أي: بسبب مجاوزتهم الحدود {وإنا لصادقون} أي: في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم. {فإن كذبوك} أي: اليهود يا محمد فيما أخبرناك به عنهم {فقل} لهم {ربكم ذو رحمة واسعة} أي: بتأخير العذاب عنكم فلم يعاجلكم بالعقوبة في ذلك تلطفاً بدعائهم إلى الإيمان {ولا يرد بأسه} أي: عقابه {عن القوم المجرمين} إذا جاء وقته وقيل: ذو رحمة واسعة للمطيعين وذو بأس شديد للمجرمين. وقوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا} إخبار عن مستقبل وقوع مخبره يدل على إعجازه، ولما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} أرادوا أن يجعلوا قولهم: لو شاء الله ما أشركنا حجة لهم على إقامتهم على الشرك وقالوا: إن الله قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن فيه حتى لا نفعله فلولا أنه رضي ما نحن فيه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيباً: لهم: {كذلك كذب الذين من قبلهم} أي: من كفار الأمم الماضية {حتى ذاقوا بأسنا} أي: عذابنا ويستدل أهل القدر بهذه الآية يقولون: إنهم لما قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا} كذبهم الله ورد عليهم فقال: {كذلك كذب الذين من قبلهم} وأجاب أهل السنة بأن التكذيب ليس في قولهم لو شاء الله ما أشركنا بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم: إن الله أمرنا بها ورضي ما نحن عليه كما أخبر تعالى عنهم في سورة الأعراف {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا وا أمرنا بها} (الأعراف، 28) فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى: {قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} (الأعراف، 28) والدليل على أنّ التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} قوله تعالى: {كذب الذين من قبلهم} بالتشديد ولو كان كذلك خبراً من الله عن كذبهم في قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} لقال: كذب الذين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قبلهم بالتخفيف وكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب، وقال الحسين بن الفضل: لو ذكروا هذه المقالة تعظيماً وإجلالاً لله تعالى ومعرفة منهم لما عابهم بذلك لأنّ الله تعالى قال: {ولو شاء الله ما أشركوا} (الأنعام، 107) وقال تعالى: {وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} (الأنعام، 111) والمؤمنون يقولون ذلك ولكنّ المشركين قالوا تكذيباً وتحريضاً وجدلاً من غير معرفة بالله وبما يقولون نظيره قوله تعالى: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} (الزخرف، 20) قال الله تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (الزخرف، 20) وقد علم من ذلك أن أمر الله تعالى بمعزل عن مشيئته وإرادته فإن مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإنّ مشيئته لا تكون عذراً لأحد. {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين ما ذكر {هل عندكم} أيها الجهلة {من علم} أي: من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم من تحريم ما حرمتم وإنّ الله راض بشرككم {فتخرجوه لنا} أي: فتنظروه لنا وتبينوه لنا كما بينا لكم خطأكم {إن} أي: ما {تتبعون} في ذلك {إلا الظن} أي: فيما أنتم عليه ولا علم عندكم {وإن أنتم إلا تخرصون} أي: وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على الله تعالى الباطل. {قل} لهم حين عجزوا عن إظهار الحجة {فلله الحجة البالغة} أي: التامة على خلقه بإنزال الكتب وإرسال الرسل، قال الربيع بن أنس: لا حجة لأحد عصى الله وأشرك به على الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده {فلو شاء} الله هدايتكم {لهداكم أجمعين} ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء هداية بعض وضلال بعض آخر فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه لا يسئل عما يفعل. {قل} لهم {هلم} أي: أحضروا {شهداءكم الذين يشهدون} لكم {إنّ الله حرّم هذا} أي: ما تقدّم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أنّ الله أمرهم به، وهلم اسم فعل لا يتصرّف يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وعند بني تميم فعل مؤنث ويثنى ويجمع {فإن شهدوا} أي: فإن تجرؤوا على الشهادة كذباً {فلا تشهد معهم} أي: فاتركهم ولا تسلم لهم فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا} إنما وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وإن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقاً بها {و} لا تتبع أهواء {الذين لا يؤمنون بالآخرة} التي هي دار الجزاء فإنهم لو جوّزوها ما اجترؤوا على ذلك {وهم بربهم يعدلون} أي: يشركون فيجعلون له عديلاً. {قل} لهم {تعالوا} أي: أقبلوا علي {أتل} أي: أقرأ {ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً} وذلك أنهم سألوا وقالوا: أي الذي حرم الله؟ فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ذلك. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به} والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك؟ أجيب: بأنّ موضع أن رفع أي: هو أن لا تشركوا، وقيل: نصب واختلفوا في وجهه فقيل: معناه حرّم عليكم أن تشركوا ولا صلة كقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} (الأعراف، 12) أي: ما منعك أن تسجد، وقيل: تم الكلام عند قوله: {حرّم ربكم} ثم قال: {عليكم أن لا تشركوا به شيئاً} على وجه الإغراء، وقال الزجاج: يجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى أي: أتل عليكم تحريم الشرك وجائز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا {وبالوالدين إحساناً} أي: فأحسنوا بهم إحساناً، وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} أي: من أجل فقر تخافونه، والمراد بالقتل وأد البنات وهنّ أحياء وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك وحرمه عليهم وقوله تعالى: {نحن نرزقكم وإياهم} منع لموجبية ما كانوا يفعلونه لأجله واحتجاج عليهم لأنّ الله تعالى إذا تكفل برزق الوالد والولد وجب على الوالد القيام بحق الولد وتربيته والاتكال في أمر الرزق على الله {ولا تقربوا الفواحش} أي: سائر المعاصي {ما ظهر منها وما بطن} أي: علانيتها وسرها، وقيل: المراد الزنا علانيته وسره وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم الله عز وجل الزنا في السر والعلانية، وأجاب الأوّل بأنّ السبب إذا كان خاصاً لا يمنع من حمل اللفظ على العموم ثم صرح بالقتل لشدة أمره بالتخصيص بعد التعميم فقال: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله} عليكم قتلها {إلا بالحق} وهي التي أبيح قتلها بردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم أو نحو ذلك قال صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» وقوله تعالى: {ذلكم} إشارة إلى ما ذكر مفصلاً {وصاكم به} أي: أمركم به وأوجبه عليكم {لعلكم تعقلون} أي: تتدبرون ما في هذه التكاليف من الفوائد والمنافع فإنّ كمال العقل هو التدبر.k {ولا تقربوا مال اليتيم} أي: بنوع من أنواع عمل فيه أو غيره {إلا بالتي} أي: بالخصلة التي {هي أحسن} بماله كحفظه وتنميته وتثميره ويستمرّ ذلك {حتى يبلغ أشدّه} وهو سن يبلغ به أو إن حصول عقله عادة وهو البلوغ بالسن أو الاحتلام أو عقل يحصل به رشده. وقيل: الأشدّ من الثماني عشر إلى ثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين، وقيل: إلى ستين {وأوفوا} أي: أتموا {الكيل والميزان بالقسط} أي: العدل من غير تفريط ولا إفراط {لا نكلف نفساً إلا وسعها} أي: طاقتها في إيفاء الكيل والميزان لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه ولا يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عليه بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه، وذكره عقب الأمر معناه: أنّ إيفاء الحق عسر فعليكم بما في وسعكم وما وراء الوسع معفوّ عنه {وإذا قلتم} أي: في حكم، أو شهادة، أو غير ذلك {فاعدلوا} فيه بالصدق {ولو كان} المقول له أو عليه {ذا قربى} أي: من ذوي قرابتكم {وبعهد الله أوفوا} أي: ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع {ذلكم} أي: الذي ذكر في هذه الآيات {وصاكم} بالعمل {به لعلكم تذكرون} أي: تتعظون فتأخذون بما أمرتكم به، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد. {وإنّ هذا} الذي وصيتكم به {صراطي مستقيماً} والإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوّة وبيان الشريعة، وقرأ ابن عامر بتخفيف النون والباقون بالتشديد، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف وفتحها الباقون على تقدير اللام، وفتح الياء من صراطي ابن عامر وسكنها الباقون، وتقدّم مذهب قنبل في الصراط بالسين ومذهب خلف في إشمام الصاد {فاتبعوه} أي: بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 {ولا تتبعوا السبل} أي: الطرق المخالفة لدين الإسلام {فتفرّق} فيه حذف إحدى التاءين أي: فتميل {بكم} أي: هذه الطرق المضلة {عن سبيله} أي: طريقه التي ارتضاها لعباده وبها أوصى {ذلكم} أي: الأمر العظيم من اتباعه {وصاكم به لعلكم تتقون} الضلال والتفرق عن الحق. روي «أنه صلى الله عليه وسلم خط خطاً» ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} » . {ثم آتينا موسى الكتاب} أي: التوراة. فإن قيل: ثم للترتيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن أجيب: بأنّ ثم لترتيب الإخبار أي: ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب فدخل ثم لترتيب الخبر لا لتأخير النزول، وقوله تعالى: {تماماً} حال أي: لم ينقص الكتاب عما يصلحهم شيئاً {على} الوجه {الذي أحسن} أي: أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بين من الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك العام. روي أنّ الله تعالى لم يهلك قوماً هلاكاً عامّاً بعد نزول التوراة، وقيل: تماماً على المحسنين من قوم موسى فيكون الذي بمعنى من أي: على من أحسن من قومه وكان فيهم محسن ومسيء، وقيل: الذي أحسن هو موسى عليه السلام أي: إتماماً للنعمة عليه لإحسانه بالعبادة أو الذي بمعنى ما أي: ما أحسن، وقوله تعالى: {وتفصيلاً} عطف على تماماً أي: وبياناً {لكل شيء} أي: يحتاج إليه في الدين {وهدى} أي: فيه هدى من الضلالة {ورحمة} أي: إنزاله عليهم رحمة لهم {لعلهم} أي: بني إسرائيل {بلقاء ربهم} أي: بالبعث والجزاء {يؤمنون} أي: ليكون حالهم بعد إنزال الكتاب لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره حال من يرجو أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه وليذكروا ما أنعم به عليهم من إخراجهم من مصر من العبودية والرق. {وهذا} أي: القرآن {كتاب} أي: عظيم {أنزلناه} إليكم أي: بلسانكم حجة عليكم {مبارك} أي: كثير الخير والنفع والبركة {فاتبعوه} أي: اتبعوا ما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام {واتقوا} الكفر {لعلكم ترحمون} أي: بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه، ثم بيّن تعالى المراد من إنزاله فقال: {أن} أي: كراهة أن {تقولوا إنما أنزل الكتاب} أي: التوراة والإنجيل {على طائفتين من قبلنا} أي: اليهود والنصارى {وإن كنا} أي: وقد كنا وإن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة بينها وبين النافية في خبر كان أي: وإنه كنا {عن دراستهم} قراءتهم لكتابهم قراءة مردودة {لغافلين} أي: لا نعرف حقيقتها ولا ثبت عندنا حقيقتها ولا هي بلساننا. {أو تقولوا} أي: أيها العرب لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلاعلى المكتوب إليه فلم نتبعه و {لو أنا} أهلنا لما أهلوا له حتى {أنزل علينا الكتاب} أي: جنسه {لكنا أهدى منهم} أي: لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق {فقد جاءكم بينة من ربكم} أي: القرآن فيه بيان وحجة واضحة تعرفونها على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك {وهدى} من الضلالة لمن تدبره {ورحمة} أي: وهو رحمة ونعمة أنعم بها عليكم فتأمّلوا فيه واعملوا به {فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف} أي: أعرض {عنها} فضل وأضل {سنجزي الذين يصدفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 عن آياتنا} ولا يتوبون {سوء العذاب} أي: شدّته {بما كانوا يصدفون} أي: بسبب إعراضهم. {هل ينظرون} أي: ما ينظر هؤلاء المكذبون {إلا أن تأتيهم الملائكة} أي: لقبض أرواحهم أو بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث {أو يأتي ربك} أي: أمره بالعذاب {أو يأتي بعض آيات} أي: علامات {ربك} الدالة على الساعة كطلوع الشمس من مغربها، وعن حذيفة والبراء بن عازب: «كنا نتذاكر الساعة إذ طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا: كنا نتذاكر الساعة، فقال: «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وناراً تخرج من عدن» {يوم يأتي بعض آيات ربك} وهو طلوع الشمس من مغربها كما في حديث الصحيحين {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل} صفة نفساً {أو} نفساً لم تكن {كسبت في إيمانها خيراً} أي: طاعة لا ينفعها توبتها قال صلى الله عليه وسلم «يدا الله مبسوطتان لمسيء الليل ليتوب بالنهار ولمسيء النهار ليتوب بالليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وقال صلى الله عليه وسلم «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله جعل بالمغرب باباً مسيرة عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله» وقال صلى الله عليه وسلم «ثلاث إذا أخرجن فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها» . {قل انتظروا} بعض هذه الأشياء {إنا منتظرون} ذلك وحينئذٍ لنا الفوز عليكم ولكم الويل {إنّ الذين فرّقوا دينهم} أي: بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وافترقوا فيه قال صلى الله عليه وسلم «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة» رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححاه وفي بعض الروايات قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» وقرأ حمزة بتخفيف الراء وألف قبلها والباقون بتشديدها ولا ألف {وكانوا شيعاً} أي: فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة كأهل الكتاب فإنهم ابتدعوا في دينهم بدعاً أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضاً فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض وكالمجوس الذين فرّقوا دينهم باعتقاد أن إلا له إثنان النور والظلمة وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم قسماً يتوسل به في زعمهم إليه، وقيل: هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «يا عائشة إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة» وعن العرباض بن سارية قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنّ من يعيش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 بدعة ضلالة» . وروي: «إنّ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها» {لست منهم في شيء} أي: من السؤال عنهم فلا تتعرّض لهم {إنما أمرهم إلى الله} يتولى جزاءهم {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} فيجازيهم به وهذا منسوخ بآية السيف. {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} أي: عشر حسنات أمثالها فضلاً من الله تعالى {ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها} أي: جزاءها قضية للعدل {وهم لا يظلمون} أي: بنقص الثواب وزيادة العقاب، وما ذكر في أضعاف الحسنات هو أقل ما عد من الأضعاف فقد قال صلى الله عليه وسلم «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل» وقال صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فله سيئة مثلها وأغفر ومن تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن لقيني بقراب أهل الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة» وقال صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة وإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: الآية في غير الصدقات من الحسنات، فأمّا الصدقات فإنها تضاعف سبعمائة ضعف. {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك {إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون، وقوله تعالى: {ديناً} بدل من محل إلى صراط مستقيم، والمعنى: وهداني صراطاً كقوله تعالى: {ويهديكم صراطاً مستقيماً} (الفتح، 20) {قيماً} أي: مستقيماً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح القاف وكسر الياء مشدّدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء مخففة على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوماً فاعل لإعلال فعله كالقيام، وقوله تعالى: {ملة إبراهيم} عطف بيان لديناً إذ الملة بالكسر لدين وإن فرق بينهما بأن الملة لا تضاف إلا إلى النبيّ الذي تستند إليه، والدين لا تختص إضافته بذلك، وقوله تعالى: {حنيفاً} حال من إبراهيم أي: مائلاً من الضلالة إلى الاستقامة والعرب تسمي كل مرجح أو اختتن حنيفاً تنبيهاً على أنه دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: {وما كان} إبراهيم صلى الله عليه وسلم {من المشركين} ردّ على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر الله تعالى أنّ إبراهيم لم يكن من المشركين. {قل} يا محمد {إنّ صلاتي ونسكي} أي: عبادتي من حج وغيره {ومحياي ومماتي} أي: وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطاعة أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير أو الحياة والممات أنفسهما، وقرأ نافع: ومحياي بسكون الياء بخلاف عن ورش إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بالفتح، وفتح الياء من مماتي نافع وسكنها الباقون {رب العالمين} . {لا شريك له} في ذلك {وبذلك} أي: وبهذا التوحيد {أمرت وأنا أوّل المسلمين} أي: من هذه الأمّة لأنّ إسلام كل نبيّ مقدّم على إسلام أمّته، وقرأ نافع بمد أنا قبل الهمزة المفتوحة وقالون بالمدّ والقصر لأنها عنده مدّ منفصل والباقون لا مدّ أصلاً. {قل} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك {أغير الله أبغي} أي: أطلب {رباً} أي: إلهاً فأشركه في عبادتي وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم والهمزة للإنكار أي: منكر أن أبغي رباً غيره {وهو رب كل شيء} فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره كما قال تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} (الزمر، 64) {ولا تكسب كل نفس} ذنباً {إلا عليها} أي: إثم الجاني عليه لا على غيره وقوله تعالى: {ولا تزر} أي: ولا تحمل نفس {وازرة} أي: آثمة {وزر} نفس {أخرى} جواب عن قولهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم {ثم إلى ربكم مرجعكم} يوم القيامة {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} في الدنيا فيتبين الرشد من الغي والمحق من المبطل. {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} جمع خليفة لأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم أو يخلف بعضهم بعضاً فيها أو هم خلفاء الله تعالى في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} أي: في الشرف والرزق {ليبلوكم} أي: ليختبركم {في ما آتاكم} أي: أعطاكم ليظهر المطيع منكم والعاصي. فائدة: في تكتب مقطوعة عن ما {إنّ ربك سريع العقاب} لمن عصاه لأنّ ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده {وإنه لغفور} للمؤمنين {رحيم} بهم وصف الله تعالى العقاب ولم يضفه إلى نفسه ووصف تعالى ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيهاً على إنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مسامح فيها فنسأل الله العظيم أن يسامحنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا وأن يفعل ذلك بوالدينا وأقاربنا وأحبابنا وأصحابنا وجميع المسلمين ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. سورة الأعراف مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى {واسئلهم عن القرية} إلى قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل} محكمة كلها وقيل: إلا قوله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} وعدد آياتها مائتان وخمس آيات وكلماتها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وحروفها أربعة عشر ألفاً وثلاثمائة وعشرة أحرف. {بسم الله} الواحد الذي لا يقدر أحد قدره {الرحمن} الذي عمّ بنعمة البيان من أوجب عليهم شكره {الرحيم} الذي خص أهل ودّه فاجتنبوا نهيه وامتثلوا أمره. {المص} سبق الكلام على معاني الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وقوله تعالى: {كتاب} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أو هذا أو خبر المص والمراد بالكتاب السورة أو القرآن وقوله تعالى: {أنزل إليك} صفة والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {فلا يكن في صدرك حرج} أي: ضيق {منه} أي: لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به مخافة أن تكذب لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم كان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، وقيل: الحرج الشك والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمته وسمي الشك حرجاً لأنّ الشاك ضيق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وقوله تعالى: {لتنذر} متعلق بأنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 أي: للإنذار به {وذكرى} أي: وتذكرة {للمؤمنين} به وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء، قال بعض المفسرين: وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم تقديره كتاب أنزلناه إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ويدل لهذا تعلق لتنذر بأنزل وقوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} يعني القرآن والسنة لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم، الآيات: 2 ـ 3) ولقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر، 7) أي: قل لهم يا محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وذروا ما أنتم عليه من الشرك {ولا تتبعوا من دونه} أي: ولا تتخذوا من دون الله أي: غيره {أولياء} تطيعونهم من شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة {قليلاً ما تذكرون} أي: تتعظون، وقرأ ابن عامر بياء قبل التاء وتخفيف الذال، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال ولا ياء قبل التاء والباقون بتشديد الذال ولا ياء قبل التاء. {وكم من قرية أهلكناها} أي: أهلكنا أهلها، وقيل: لا يحتاج إلى تقدير مضاف لأنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها وإنما يقدّر في فجاءها لأجل قوله تعالى: {أو هم قائلون} وكم خبرية مفعول أهلكنا وهي للتكثير والإهلاك على حقيقته أو يقدّر أردنا إهلاكها لقوله تعالى: {فجاءها} أي: أهلها {بأسنا} أي: عذابنا فإنّ مجيء البأس قبل الإهلاك فتقدر الإرادة، وقيل: الإهلاك الخذلان وعلى هذا فلا حاجة إلى تقدير {بياتاً} أي: وقت الاستكان في البيوت ليلاً كما جاء قوم لوط عليه السلام {أو هم قائلون} أي: نائمون وقت القائلة وهي نصف النهار أو مستريحون من غير نوم كما أهلكنا قوم شعيب عليه السلام أي: مرّة جاءها ليلاً ومرّة نهاراً وإنما خص هذين الوقتين لأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإنّ عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة. {فما كان دعواهم} أي: قولهم {إذ جاءهم بأسنا} أي: عذابنا {إلا أن قالوا} أي: إلا قولهم {إنا كنا ظالمين} أي: فيما كنا عليه حيث لم نتبع ما أنزل إلينا من ربنا وذلك حين لا ينفعهم الاعتراف. {فلنسئلنّ الذين أرسل إليهم} أي: المرسل إليهم وهم الأمم يسألهم الله تعالى عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل {ولنسئلن المرسلين} أي: عما أجيبوا به كما قال تعالى {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} (المائدة، 109) وقيل: نسأل المرسلين عن الإبلاغ والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والمنفي في قوله تعالى: {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} (القصص، 78) سؤال الاستعلام الأوّل في موقف الحساب، وهذا عند حصولهم على العقوبة. {فلنقصنّ عليهم} أي: الرسل والمرسل إليهم {بعلم} لنخبرنهم عن علم بما فعلوه باطناً وظاهراً وبما قالوه سراً وعلانية {وما كنا غائبين} عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم وأقوالهم. {والوزن} أي: لصحائف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ينظر إليها الخلائق إظهاراً للعدل وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم ويؤيده ما روي أنّ رجلاً يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مدّ البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة والبطاقة رقعة صغيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 تجعل في طيّ الثوب يكتب فيها ثمنه، وقيل: توزن الأعمال. روي عن ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان، وقيل: توزن الأشخاص لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» وقوله تعالى: {يومئذٍ} أي: يوم السؤال المذكور وهو يوم القيامة خبر المبتدأ الذي هو الوزن، وقوله تعالى: {الحق} أي: العدل السوي صفته {فمن ثقلت موازينه} أي: رجحت على ما يعهد في الدنيا بصحائف الأعمال أو حسناته أو به على الأقوال الماضية، وعن الحسن: وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يرجح ويثقل وحق لميزان توضع فيه السيآت أن يخف. فإن قيل: الميزان واحد فما وجه الجمع؟ أجيب: بأنّ العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل: إنما جمعه لأنّ الميزان يشتمل على الكفتين واللسان والساهون ولا يتم الوزن إلا بذلك كله، وقيل: جمع لاختلاف الموزونات وتعدد الجمع فهو جمع موزون أو ميزان {فأولئك هم المفلحون} الفائزون بالنجاة والثواب. {ومن خفت} أي: طاشت {موازينه} أي: السيآت أي: بسببها {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} أي: بتصييرها إلى النار {بما كانوا بآياتنا يظلمون} أي: يجحدون. {ولقد مكناكم} يا بني آدم {في الأرض} أي: في مسكنها وزرعها والتصرف فيها {وجعلنا لكم فيها معايش} جمع معيشة أي: أسباباً تعيشون بها أيام حياتكم من أنواع التجارات والصنائع والمآكل والمشارب وذلك بفضل الله تعالى وإنعامه على عبيده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بيّن تعالى أنه مع هذا الإفضال على عبيده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكرها كما ينبغي فقال تعالى: {قليلاً ما تشكرون} أي: على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأنّ الإنسان قد يذكر نعمة الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر تصور النعمة وإظهارها ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها. {ولقد خلقناكم} أي: أباكم آدم {ثم صوّرناكم} أي: أباكم آدم والمراد يعني: خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صوّرناه فنزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويرهم، وقيل: خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صوّرناكم في أرحام النساء {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} . فإن قيل: ثم للترتيب والتراخي وهي ظاهرة على القول الأوّل فما وجهه على الثاني؟ أجيب: بأنها تكون بمعنى الواو أي: وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية بالانحناء {فسجدوا} أي: الملائكة كلهم لآدم {إلا إبليس} أبا الجن كان بين الملائكة {لم يكن من الساجدين} أي: ممن سجد. {قال} الله تعالى لإبليس {ما منعك أن لا تسجد} أي: أن تسجد {إذ أمرتك} فلا زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى: {لا أقسم} (البلد، 1) أي: أقسم، وقوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} (الأنبياء، 95) أي: يرجعون نعم إن حمل ما منعك على ما حملك لم تكن زائدة {قال} إبليس مجيباً له تعالى: {أنا خير منه} . فإن قيل: كيف يكون قوله: {أنا خير منه} جواباً لما منعك وإنما الجواب أن يقول منعني كذا؟ أجيب: بأنه جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 لمثله كأنه قال المانع: إني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به فهو الذي سنّ التكبر وقال: بالحسن والقبح العقليين أوّلاً وعلل الخيرية بقوله تعالى: {خلقتني من نار} فهي أغلب أجزائي وهي مشرقة مضيئة عالية غالبة {وخلقته من طين} أي: هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب فكل منهما مركب من العناصر الأربعة فالإضافة إلى ما ذكر باعتبار الجزء الغالب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أوّل من قاس إبليس فأخطأ فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس، قال ابن سيرين: ما عبدت الشمس إلا بالقياس وإنما أخطأ إبليس لأنه رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} (ص، 75) أي: بغير واسطة وباعتبار الصورة كما نبه عليه تعالى بقوله: {ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر، 29) وباعتبار الغاية وهي ملاكه ولذلك أمر الملائكة بالسجود لما تبين لهم أنه أعلم منهم وإنّ له خواص ليست لغيره، وقال محمد بن جرير: ظن الخبيث أنّ النار خير من الطين ولم يعلم أنّ المفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الله الطين عن النار بوجوه منها: أنّ من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثته الاجتباء والمنزلة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثته اللعنة والشقاوة ولأنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرّقها ولأنّ التراب سبب الحياة لأنّ حياة الأشجار والنبات لا تكون إلا مع الطين والنار سبب الهلاك. فإن قيل: لم سأله الله تعالى عن المانع من السجود وهو عالم بما منعه؟ أجيب: بأنه للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه أصل آدم عليه الصلاة والسلام. {قال} الله تعالى لإبليس {فاهبط منها} أي: من الجنة، وقيل: من السماء إلى الأرض، والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سبيل القهقري والهوان والاستخفاف {فما يكون} أي: فما يصح {لك أن تتكبر فيها} عن أمري لأنّ الجنة أو السماء مكان الخاشع المطيع لأمر الله تعالى وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة والسماء وأنه تعالى إنما طرد إبليس لتكبره لا لمجرّد المعصية قال صلى الله عليه وسلم كما رواه البيهقيّ: «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» وعن عمر رضي الله عنه: من تواضع رفع الله حكمته، ومن تكبر وعلا طوره هضمه الله إلى الأرض {فأخرج} منها {إنك من الصاغرين} أي: الكفرة الأذلاء المهانين والصغار الذل والمهانة، قال الزجاج: استكبر عدوّ الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة، وقيل: كان له ملك الأرض فأخرجه الله منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفاً كهيئة السارق مثل شيخ عليه إطمار رثة يروغ فيها حتى يخرج منها. {قال} إبليس عند ذلك {أنظرني} أي: أخرني ولا تمتني ولا تعجل عقوبتي {إلى يوم يبعثون} أي: الناس وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، وهذا من جهالة إبليس الخبيث لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يذوق الموت فطلب البقاء والخلود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 فلم يجب إلى ما سأل بل أجابه الله تعالى بقوله: {قال إنك من المنظرين} لا إلى ذلك الوقت بل إلى الوقت المعلوم كما بينه تعالى في سورة الحجر بقوله تعالى: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} (الحجر، 37 ـ 38) وذلك هو النفخة الأولى التي يموت فيها الخلق. فإن قيل: لم أجيب إلى الإنظار وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ أجيب: بأنه أجابه لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من عظيم الثواب وحكمة ما خلق الله تعالى من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده. {قال} أي: إبليس {فبما أغويتني} أي: فبإغوائك لي والباء للقسم أي: أقسم بإغوائك وجوابه {لأقعدنّ لهم} أي: لبني آدم {صراطك المسقيم} أي: على الطريق الموصل إليك وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان تكليفاً والتكليف من أحسن أفعال الله تعالى لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً لأن يقسم به ويجوز أن تتعلق الباء بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ أي: فبسبب إغوائك أقسم. {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} أي: من جميع الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة ربه، وقيل: لم يقل من تحتهم لأنّ الإتيان منه يوحش، وعنه إنه قال: من بين أيديهم من قبل الآخرة فيخبرهم أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم من قبل الدنيا فيزينها، لهم وعن أيمانهم أي: من قبل حسناتهم أي: فيبطؤهم، عنها، وعن شمائلهم من قبل سيآتهم أي: فيزين لهم المعاصي يدعوهم إليها. وإنما عدى الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عروضهم ونظيره قوله: جلست عن يمينه وعن شقيق ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أمّا من بين يدي فيقول: لا تخف إنّ الله غفور رحيم فأقرأ {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} (طه، 82) ، وأمّا من خلفي فيخوفني الضيعة على من خلفي فأقرأ: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود، 6) ، وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ: {والعاقبة للمتقين} (القصص، 83) ، وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} (سبأ، 54) {ولا تجد أكثرهم شاكرين} أي: مطيعين. فإن قيل: كيف علم الخبيث ذلك؟ أجيب: بأنه إنما قال ذلك ظناً لقوله تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه} (سبأ، 20) لما رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّداً وهو الشيطان والنفس والهوى ومبدأ الخير واحداً وهو الملك الملهم، وقيل: سمع ذلك من الملائكة. {قال} الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه بسبب عصيانه ومخالفته {أخرج منها} أي: الجنة أو السماء كما مرّ فإنه لا ينبغي أن تسكن فيها {مذؤماً} أي: محقوراً ممقوتاً {مدحوراً} أي: مبعداً مطروداً عن الرحمة وقوله تعالى: {لمن تبعك منهم} أي: من الناس اللام فيه موطئة للقسم وجوابه {لأملأنّ جهنم منكم أجمعين} وهو سادّ مسدّ جواب الشرط وهو من تبعك أي: لأملأن جهنم منك بذريّتك ومن الناس وفيه تغليب الحاضر على الغائب. {ويا آدم} أي: وقلنا يا آدم {اسكن} فهذه القصة معطوفة على قوله تعالى: {قلنا للملائكة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وقوله تعالى: {أنت} تأكيد للضمير في اسكن ليعطف عليه {وزوجك} أي: حواء بالمدّ وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة {الجنة فكلا من حيث شئتما} من ثمار الجنة أي: من أيّ مكان شئتما. فإن قيل: قال تعالى في سورة البقرة: {وكلا} (البقرة، 35) بالواو وهنا بالفاء فما الفرق؟ أجاب الفخر الرازي: بأن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع {ولا تقربا هذه الشجرة} أي: بالأكل منها مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها وهي الحنطة، وقيل: شجرة الكرم، وقيل: غيرهما {فتكونا من الظالمين} أي: بالأكل منها أي: فتصيرا بذلك من الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم عطفاً على تقربا والنصب على جواب النهي. {فوسوس لهما الشيطان} أي: إبليس بما مكنه الله تعالى منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقي له في سره ما يميل به قلبه إلى ما يريد وهو أحقر وأذلّ من أن يكون له فعل وإنما الكل بيد الله سبحانه وتعالى وهو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم فإن {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} (الأعراف، 178) ثم بين علة الوسوسة بقوله تعالى: {ليبدي} أي: ليظهر {لهما ما ووري} أي: ستر وغطى {عنهما من سوآتهما} أي: عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوجة من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع قالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت منه صلى الله عليه وسلم ولا رأى مني» أي: الفرج. {وقال} أي: إبليس لآدم وحواء {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة} أي: عن الأكل منها {إلا أنّ} أي: كراهة أن {تكونا ملكين} أي: في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم {أو تكونا من الخالدين} أي: الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً كما في آية أخرى، {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} (طه، 12) {وقاسمهما} أي: أقسم لهما بالله على ذلك وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة، وقيل: أقسما له بالقبول، وقيل: أقسما عليه بالله إنه لهما لمن الناصحين فأقسم لهما {أني لكما لمن الناصحين} فجعل ذلك مقاسمة وقال قتادة: حلف لهما بالله حين خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله تعالى فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم فاتبعاني أرشدكما وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف وإن الأغلب أنّ كل حلاف كاذب وأنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه ولا يظنّ ذلك إلا وهو معتاد للكذب، وقال بعض العلماء: من خادعنا بالله خدعنا له، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه وكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق فقيل له: إنهم يخدعونك فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له وإبليس لعنه الله تعالى أوّل من حلف بالله تعالى كاذباً فلما حلف ظن آدم أنّ أحداً لا يحلف بالله تعالى كاذباً فاغتر به. {فدلاهما بغرور} أي: خدعهما، يقال: ما زال يدلي لفلان بالغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف القول الباطل وقيل: حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش {فلما ذاقا الشجرة} أي: أكلا من ثمرها وفي ذلك دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصداً إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 معرفة طعمه إذ الذوق يدل على الأكل اليسير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قبل ازدرادهما أخذتهما العقوبة والعقوبة هي قوله تعالى: {بدت} أي: ظهرت {لهما سوآتهما} أي: عوراتهما وتجافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من سوأة صاحبه بأن رأى قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وكانا لا يريان ذلك وسمى كل منهما سوأة لأنّ انكشافه يسوء صاحبه، قال وهب: كان لباسهما من النور يحول بينهما وبين النظر، وقال قتادة: كان ظفراً ألبسهما الله من الظفر لباساً فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا {وطفقا} أي: أقبلا وجعلا {يخصفان} أي: يلزقان {عليهما من ورق الجنة} أي: من ورق التين قال البغوي: حتى صار كهيئة الثوب، قال الزجاج: يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما. روي عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها فانطلق هارباً في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها: أرسليني، فقالت: لست بمرسلتك، فناداه الله عز وجل: يا آدم أمني تفرّ، فقال: لا يا رب ولكني استحييتك» {وناداهما} أي: خاطبهما {ربهما} بقوله: {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} أي: عن الأكل من ثمرها {وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدو مبين} أي: بين العداوة لكما وقد بان لكما عداوته بترك السجود تعنتاً وحسداً، وفي ذلك عتاب على مخالفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ ودليل على أنّ مطلق النهي للتحريم، قال محمد بن قيس: لما أكل آدم من الشجرة ناداه ربه يا آدم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني، وقال لحواء: لم أطعمت آدم؟ قالت: أمرتني الحية، وقال للحية: لم أمرتيها؟ قالت: أمرني إبليس، قال الله تعالى: أمّا أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين في كل شهر، وأمّا أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك، وأمّا أنت يا إبليس فملعون مدحور. وفي رواية لابن عباس: إنه قال لحواء: فإني أعطيتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً. {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} أي: ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدوّنا وعدوك فإن لم تتب علينا نستمر عاصين {وإن لم تغفر لنا} أي: فهو ما عملنا عيناً وأثراً {وترحمنا} أي: فتعلي درجاتنا {لنكونن من الخاسرين} في الأرض فأعربت الآية أنهما فزعا إلى الإنصاف وبالاعتراف بذنبهما وإن كان إنما هو خلاف الأولى لأنه بطريق النسيان كما في سورة طه قال قتادة: قال آدم أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك؟ قال: أدخلك الجنة، وأمّا إبليس فلم يسأل التوبة وسأل النظرة فأعطى كل واحد منهما ما سأله، وقال الضحاك في قوله تعالى: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه تعالى: وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية، ورد بأن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله تعالى في أعلى الدرجات ولكن يؤاخذون بما لم يؤاخذ به غيرهم وإنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل فهم بسبب ذلك خائفون وجلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاصي بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا إنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم مع طهارتهم ونزاهتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله تعالى ذنوب بالنسبة إلى أحوالهم فقالا ذلك على عادة المقرّبين في استعظام الصغير من السيئات وتحقير العظيم من الحسنات وقد تقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة ومن جملة ذلك أن آدم إنما أكل من الشجرة قبل النبوّة. {قال} الله تعالى {اهبطوا} أي: آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذرّيتكما ويدل لذلك قوله تعالى في سورة طه: {اهبطا} (طه، 123) بضمير التثنية {بعضكم} أي: بعض الذرّية {لبعض عدوّ} أي: من ظلم بعضهم بعضاً، وقيل: يعود الضمير لآدم وحواء وإبليس، وقيل: لآدم وحواء وإبليس والحية، وعلى هذين فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس {ولكم في الأرض} أي: جنسها {مستقر} أي: موضع استقرار {و} لكم فيها {متاع} أي: تمتع {إلى حين} أي: انقضاء آجالكم، وقيل: إلى انقطاع الدنيا، وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها: خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني منك فلما توفي غسلته الملائكة بسرنديب بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه: هذه سنتكم من بعده. {قال} الله تعالى {فيها} أي: الأرض {تحيون} أي: تعيشون أيام حياتكم {وفيها تموتون} أي: وفيها وفاتكم وموضع قبوركم {ومنها تخرجون} أي: يوم القيامة تخرجون للحشر والجزاء، وقرأ ابن ذكوان وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء والباقون بضم التاء وفتح الراء. {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة من مطر ونحوه ونظيره قوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام} (الزمر، 6) وقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} (الحديد، 25) وقيل: كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء {يواري} أي: يستر {سوأتكم} أي: عوراتكم. روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها وكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء يطوفون بالليل عراة قال قتادة: كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول: *اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله* فنزلت، قال البيضاوي: ولعله سبحانه ذكر قصة آدم تقدمة لذلك حتى نعلم أنّ انكشاف العورة أوّل سوء أصاب الإنسان من الشيطان وإنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم {وريشاً} أي: ولباساً تتجملون به والريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى: وأنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأنّ الزينة غرض صحيح. كما قال تعالى: {لتركبوها وزينة} (النحل، 8) وقال تعالى: {ولكم فيها جمال} (النحل، 6) وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله جميل يحب الجمال» وقال ابن عباس: وريشاً أي: مالاً، يقال: تريش الرجل تموّل، ولما ذكر سبحانه وتعالى اللباس الحسي وقسمه إلى ساتر ومزين أتبعه اللباس المعنوي فقال: {ولباس التقوى} قال ابن عباس: هو العمل الصالح ثم زاد الله تعالى في تعظيم المعنوي بقوله: {ذلك خير} أي: ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب لكونه أهم اللباسين لأنّ نزعه يكشف العورة الحسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 والمعنوية فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوآت ولو كان متقياً وليس عليه إلا خريقة ثوب تواري عورته كان في غاية الجمال والكمال وأنشدوا في المعنى: u *إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى ... عريت وإن وارى القميص قميص* وقال قتادة: لباس التقوى هو الإيمان، وقال الحسن: هو الحياء لأنه يبعث على التقوى، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: هو السمت الحسن، وقال ابن الزبير: هو خشية الله تعالى والعمل الصالح يشمل هذه الأمور كلها، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب السين عطفاً على لباساً والباقون بالرفع على الابتداء والخبر ذلك خير {ذلك} أي: إنزال اللباس {من آيات الله} الدالة على فضله ورحمته {لعلهم يذكرون} فيعرفون نعمة الله فيتعظون ويتورعون عن القبائح وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة إظهاراً وإشعاراً بأنّ الستر باب عظيم من أبواب التقوى. {يا بني آدم} أي: الذي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي ثم أسكنته جنتي وأنزلته منها إلى دار محنتي {لا يفتننكم} أي: يضلنكم {الشيطان} أي: البعيد المحترق بالذنوب أي: لا تتبعوه فتفتتنوا فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار {كما أخرج أبويكم من الجنة} بفتنته بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها وقد علمتم أنّ الدفع أسهل من الرفع وقوله تعالى: {ينزع عنهما لباسهما} حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأنّ نزع لباسهما بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقال ابن عباس وقتادة: كان لباسهما الظفر فلما أصابا المصيبة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه: كان نوراً يحول بينهما وبين النظر وتقدّم بعض ذلك، وقال مجاهد: كان لباسهما التقوى، وقيل: كان لباسهما من ثياب الجنة قال بعض المفسرين: وهذا أقرب لأنّ إطلاق اللباس يطلق عليه وإنّ النزع لا يكون إلا بعد اللبس، اه. وتقدّم الكلام على قوله: {ليريهما سوآتهما إنه} أي: الشيطان {يراكم هو وقبيله} أي: جنوده وقال ابن عباس: قبيله ولده، وقال أبو زيد: نسله وإنما أعاد الكناية في قوله: هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضها بعضاً {من حيث لا ترونهم} أي: للطافة أجسامهم أو عدم ألوانهم، وعن ابن عباس أنه قال: إنّ الله تعالى جعلهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم، وجعل صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى كما قال تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس} (الناس، 5) فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وعن مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى، وعن ابن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى ومنع الرؤية إذا كانوا على خلقتهم الأصلية وإلا فقد يرون وأعند تشكلهم بصورة حيوان أو طير أو غير ذلك فإنّ للجنّ قوّة التشكل وهذا أمر شائع ذائع، وقد رؤي إبليس على صورة شيخ وتمثل لكثير من العباد على صورة حية بل قال شيخنا القاضي زكريا: والحق جواز رؤيتهم حتى من تلك الجهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة وتكون الآية مخصوصة بها فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض {إنا جعلنا الشياطين أولياء} أي: أعواناً وقرناء {للذين لا يؤمنون} لما بينهم من التناسب في الطباع. {وإذا فعلوا فاحشة} كالشرك وطوافهم بالبيت عراة فنهوا عنه {قالوا} معللين لارتكابهم إياها بأمرين: أحدهما قولهم: {وجدنا عليها} أي: الفاحشة {آباءنا} فاقتدينا بهم والثاني قولهم: {وا أمرنا بها} افتراء عليه سبحانه وتعالى فأعرض الله تعالى عن الأوّل لظهور فساده ورد عن الثاني بقوله: {قل} لهم يا محمد {إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال {أتقولون على الله ما لا تعلمون} أنه قاله فإنكم لم تسمعوا كلام الله من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وبين عباده وهو استفهام إنكاري يتضمن النهي عن الافتراء على الله، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية في الوصل والباقون بالتحقيق. {قل} يا محمد لهؤلاء الذين يقولون ذلك {أمر ربي بالقسط} أي: بالعدل وهو الوسط من كلام المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط وقال ابن عباس: بلا إله إلا الله {وأقيموا} أي: وقل لهم أقيموا {وجوهكم} لله {عند كل مسجد} أي: أخلصوا له سجودكم. فإن قيل: أمر ربي خبر وأقيموا وجوهكم أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. أجيب: بأنّ فيه إضماراً وحذفاً تقديره: قل أمر ربي بالقسط، وقل: أقيموا كما تقدّم تقديره فحذف قل لدلالة الكلام عليه، وقيل: معنى الآية وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقيل: معناه صلوا في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم {وادعوه} أي: اعبدوه {مخلصين له الدين} أي: الطاعة ولا تشركوا به شيئاً فإنّ إليه مصيركم و {كما بدأكم} أي: كما أنشأكم ابتداء {تعودون} أي: يعيدكم أحياء يوم القيامة حالة كونكم فريقين. {فريقاً هدى} أي: خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية {وفريقاً حق} أي: ثبت ووجب {عليهم الضلالة} أي: بمقتضى القضاء السابق، وقيل: إنّ الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن، 2) ثم يعيدكم يوم القيامة، كما خلقكم كافراً ومؤمناً وقيل: يبعثون على ما كانوا عليه. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث كل عبد على ما مات عليه» المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقيل: من ابتدأ الله خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل عمل أهل السعادة كما أنّ إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة، ومن ابتدأ الله خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل عمل أهل الشقاوة كما أنّ السحرة كانوا يعملون عمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم» وانتصاب فريقاً بفعل يفسره ما بعده أي: وخذل فريقاً وقوله تعالى: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} أي: دونه تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالهم {ويحسبون} أي: يظنون {أنهم} مع ضلالهم {مهتدون} أي: على هداية وحق وفيه دليل على أنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء. {يا بني آدم خذوا زينتكم} أي: ما يستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة {عند كل مسجد} أي: كلما صليتم أو طفتم وكانوا يطوفون عراة، وعن طاووس رحمه الله: لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما أحدهم كان يطوف عرياناً ويضع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل: تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب، وقيل: الزينة المشط، وقيل: الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل فقيل لهم: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} بتحريم الحلال أو بالتعري في الطواف أو بإفراط الطعام أو الشره عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت ما أخطاك خصلتان سرف ومخيلة. وروي أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له: لقد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه، فقال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف، 31) فقال النصراني: ولا يؤثر عن نبيكم شيء في الطب؟ فقال: جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، قال: وما هي؟ قال قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء فأعط كل بدن ما عوّدته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً» {إنه لا يحب المسرفين} أي: لا يرتضي فعلهم ففي الآية الوعيد الشديد على الإسراف. {قل} يا محمد لهؤلاء الجهلة من الذين يطوفون بالبيت عراة {من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} من الثياب كل ما يتجمل به فيدخل تحته أنواع الملبوس والحلي ولولا النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير للرجال لدخل في هذا العموم ولكن ورد النص في تحريمه على الرجال دون النساء {و} قل أيضاً لهؤلاء الجهلة الذين كانوا لا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم من حرّم {الطيبات من الرزق} التي أخرج لعباده وخلقها لهم فيدخل تحت ذلك كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما ورد نص بتحريمه وقد دلت الآية على أنّ الأصل في الملابس وأنواع التجملات والمطاعم الإباحة إلا ما ورد النص بخلافه لأنّ الاستفهام في من للإنكار {قل هي} أي: الزينة والطيبات {للذين آمنوا في الحياة الدنيا} أي: بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع ولذا لم يقل تعالى: للذين آمنوا وغيرهم {خالصة يوم القيامة} لا يشاركهم فيها غيرهم. وقرأ نافع برفع التاء على أنها خبر بعد خبر والباقون بالفتح على الحال {كذلك} أي: مثل هذا التفصيل البديع {نفصل الآيات} أي: نبين أحكامها ونميز بعض المشتبهات من بعض {لقوم يعلمون} أي: يتدبرون فإنهم المنتفعون بها. {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات من الرزق وغير ذلك مما أحل الله تعالى {إنما حرم ربي الفواحش} أي: الكبائر والكبيرة ما توعد عليها بنحو لعن أو غضب بخصوصها في الكتاب أو السنة غالباً كالزنا جمع فاحشة {ما ظهر منها وما بطن} أي: جهرها وسرها، وقرأ حمزة بسكون الباء والباقون بفتحها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 {و} حرم {الإثم} أي: الصغائر وهي ما عدا الكبائر كالنظر إلى بدن أجنبية {و} حرم {البغي} على الناس أي: الظلم أو الكبر وأفرده بالذكر مع أنه من الكبائر للمبالغة وقوله تعالى: {بغير الحق} متعلق بالبغي مؤكد له معنى {و} حرم {أن تشركوا با ما لم ينزل به} أي: بالإشراك {سلطاناً} أي: حجة وفي ذلك تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم ما لم يدل عليه برهان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والباقون بالتشديد {و} حرم {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} في تحريم ما لم يحرم وغيره. {ولكل أمّة أجل} أي: وقت معلوم وفي ذلك وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم الماضية {فإذا جاء أجلهم} أي: حان وقتهم {لا يستأخرون ساعة} عنه {ولا يستقدمون} ساعة عليه وإنما ذكرت الساعة وإن كان دونها كذلك لأنها أقل اسم للأوقات في العرف وذلك حين سألوا نزول العذاب فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وورش وقنبل سهلاً الثانية وأبدلاها حرف مد والباقون بالتحقيق فيهما. {يا بني آدم إمّا} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {يأتينكم رسل منكم} أي: من نوعكم من عند ربكم {يقصون عليكم آياتي} أي: يقرؤن عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي وجواب الشرط قوله تعالى: {فمن اتقى} الشرك ومخالفة رسلي {وأصلح} عمله الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيت عنه {فلا خوف عليهم} حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب {ولا هم يحزنون} أي: يتجدّد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم لأنّ الله يعطيهم ما تقر به أعينهم {والذين كذبوا بآياتنا} أي: جحدوها وكذبوا رسلنا {واستكبروا} أي: تكبروا {عنها} أي: عن الإيمان بها لأنّ كل مكذب وكافر متكبر قال تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} (الصافات، 35) {أولئك} هؤلاء البعداء البغضاء {أصحاب النار هم فيها خالدون} أي: لا يخرجون منها أبداً وإدخال الفاء في خبر المبتدأ الأوّل دون خبر الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد. {فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذباً} أي: بنسبة الشريك والولد إليه أو قال عليه ما لم يقله {أو كذب بآياته} أي: القرآن {أولئك ينالهم} أي: يصيبهم {نصيبهم} أي: حظهم {من الكتاب} أي: مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرزق والأجل وغير ذلك {حتى إذا جاءتهم} أي: هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب {رسلنا} أي: ملك الموت وأعوانه {يتوفونهم} بقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم وقوله تعالى: {قالوا} جواب إذا أي: قال الرسل لهم تبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً {أين ما كنتم تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: غيره ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم، وقيل: إنّ هذا يكون في الآخرة أي: إذا جاءتهم ملائكة العذاب يتوفونهم أي: يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار {قالوا} أي: الكفار مجيبين للرسل {ضلوا} أي: غابوا {عنا} وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا {وشهدوا على أنفسهم} أي: بالغوا في الاعتراف عند الموت أو عند معاينة العذاب {أنهم كانوا كافرين} أي: جاحدين وحدانية الله تعالى. قال الله تعالى لهم يوم القيامة أو أحد من الملائكة {ادخلوا في أمم} أي: في جملة جماعات وفرق أمّ بعضها بعضاً {قد خلت} أي: مضت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وسلفت {من قبلكم من الجنّ والإنس} أي: كفار الأمم الماضية من الفريقين، وقوله تعالى: {في النار} متعلق بادخلوا {كلما دخلت أمّة} أي: جماعة النار {لعنت أختها} أي: التي ضلت بالاقتداء بها {حتى إذا ادّاركوا} أي: تلاحقوا واستقرّوا {فيها} أي: النار {جميعاً قالت أخراهم} أي: منزلة أو دخولاً وهم الأتباع {لأولاهم} أي: لأجلهم وهم المتبعون إذ الخطاب مع الله تعالى لا معهم {ربنا هؤلاء} أي: الأوّلون {أضلونا} أي: لأنهم أوّل من سنّ الضلال. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء في الوصل، والباقون بالتحقيق {فآتهم} أي: أذقهم بسبب ذلك {عذاباً ضعفاً} أي: يكون بقدر عذاب غيرهم مرّتين لأنهم ضلوا وأضلوا ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ومنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل، ثم أكدوا شدّة العذاب بقولهم: {من النار قال} الله تعالى: {لكل} أي: منكم ومنهم {ضعف} أي: عذاب مضعف أمّا القادة فبكفرهم وتضليلهم وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم لهم {ولكن لا تعلمون} أي: ما أعدّ الله تعالى لكل فريق من العذاب. وقرأ شعبة: يعلمون بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب. {وقالت أولاهم} أي: في الكفر وهم القادة {لأخراهم} أي: الأتباع {فما كان لكم علينا من فضل} أي: لأنكم لم تكفروا بسببنا فقد جاءتكم الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم فنحن وأنتم سواء قال الله تعالى لهم: {فذوقوا العذاب بما} أي: بسبب ما {كنتم تكسبون} أي: من الكفر والأعمال الخبيثة. {إنّ الذين كذبوا بآياتنا} أي: بدلائل التوحيد فلم يصدّقوا ولم يتبعوا رسلي {واستكبروا عنها} أي: وتكبروا عن الإيمان بها والانقياد لها والعمل بمقتضاها {لا تفتح لهم أبواب السماء} لصعود أعمالهم ولا لدعائهم ولا لأرواحهم ولا لنزول البركات عليهم لأنها طهارة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع ملائكة العذاب أغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين بخلاف المؤمن فيفتح له ويصعد بروحه إلى السماء السابعة كما ورد في حديث. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكون الفاء وتخفيف التاء بعدها إلا أنّ أبا عمرو يقرأ بالتاء على التأنيث وحمزة والكسائي بالياء على التذكير، وقرأ الباقون بالتأنيث وفتح الفاء وتشديد التاء بعدها {ولا يدخلون الجنة} أي: التي هي أطهر المنازل وأشرفها {حتى} يكون ما لا يكون بأن {يلج} أي: يدخل {الجمل} على كبره {في سم الخياط} أي: ثقب الإبرة وهو غير ممكن فكذا دخولهم الجنة فهو تعليق على محال، وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: زوج الناقة استجهالاً للسائل وإشارة إلى أنّ طلب معنى آخر تكلف {وكذلك} أي: ومثل ذلك الجزاء بهذا العذاب وهو أنّ دخولهم الجنة محال عادة {نجزي المجرمين} أي: الكافرين لأنه تقدّم من صفتهم إنهم كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار. ولما بين تعالى أنّ الكفار لا يدخلون الجنة أبداً بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعدّ الله لهم فيها فقال تعالى: {لهم من جهنم مهاد} أي: فراش وأصل المهاد والمهد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالبساط {ومن فوقهم غواش} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أي: أغطية من النار جمع غاشية والتنوين فيه عوض عن الياء التي هي حرف علة. وقيل: عن حركتها {وكذلك نجزي الظالمين} عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الإجرام. وقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} مبتدأ وقوله تعالى: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} أي: طاقتها من العمل اعتراض بينه وبين خبره وهو {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} وإنما حسن وقوع ذلك بين المبتدأ والخبر لأنه من جنس هذا الكلام لأنّ الله تعالى لما ذكر عملهم الصالح دل ذلك على أنّ ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم قدرها ومحلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة وأتبع الوعيد بالوعد على عادته فقال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} أي: غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فمن كان في قلبه على أخيه غل في الدنيا نزع فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف، وعن عليّ رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ليقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» وقال السديّ في هذه الآية: إنّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فنزع ما في صدورهم من غل وهو الشراب الطهور واغتسلوا من الآخر فجرت عليهم بنضرة النعيم فلا يشعثوا ولا يشحنوا بعدها أبداً، وقيل: إنّ درجات الجنة متفاوتة في العلوّ والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض فأخرج الله تعالى الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة العالية {تجري من تحتهم الأنهار} أي: من تحت قصورهم زيادة في لذتهم وسرورهم {وقالوا الحمد الذي هدانا لهذا} أي: إن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا: الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا به رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} أي: لولا هداية الله وتوفيقه، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه قوله تعالى: {وما كنا لنهتدي} وتقديره: لولا هداية الله لنا موجودة لشقينا أو ما كنا مهتدين، وقرأ ابن عامر بحذف الواو قبل ما والباقون بالواو. وإذا دخل أهل النعيم الجنة ورأوا ما أعدّ الله تعالى لهم من النعيم قالوا: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك سروراً واعتباطاً بما نالوا وتلذذوا بالتكلم به وتبجحاً بأنّ ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال والباقون بالإدغام {ونودوا} إذا رأوها من بعيد أو بعد دخولها والمنادي هو الله تعالى أو الملائكة ينادون بأمر الله تعالى {أن تلكم الجنة} التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا. وروي أنّ رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإنّ لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً» فذلك قوله تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة} {أورثتموها} أي: أعطيتموها {بما كنتم تعملون} أي: بسبب أعمالكم الصالحة التي عملتموها لأنّ الجنة جعلت جزاء وثواباً لكم على الأعمال الصالحة ولا يعارض هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يدخل الجنة أحد بعمله إنما يدخلونها برحمة الله تعالى» فإنّ الباء في الحديث للعوض وهي الداخلة على الأثمان نحو شريت الفرس بألف فلا تكون الجنة مشتراة له بعمله فيكون عمله ثمناً لها أو إنّ دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال أو أنّ العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله وجعلها الله تعالى ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار أمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من الجنة والمؤمن يرث الكافر منزله من النار» وأن في المواضع الخمسة التي فيها المناداة والتأذين هي المخففة أو المفسرة لأنّ المناداة والتأذين من القول، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام. {ونادى أصحاب} أي: أهل {الجنة أصحاب} أي: أهل {النار} أي: يقول أهل الجنة يا أهل النار {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا} أي: في الدنيا على لسان الرسل من الثواب على الإيمان به وبرسله وطاعته {حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم} أي: من العذاب على الكفر {حقاً قالوا} أي: قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة {نعم} وجدنا ذلك حقاً وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. فإن قيل: الجنة في السماء والنار في الأرض فكيف يصح أن يقع هذا النداء؟ أجيب: بأن الله قادر على أن يقوّي الأصوات والأسماع فيصير البعيد كالقريب. فإن قيل: هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض؟ أجيب: بأن ظاهر الآية العموم ويحتمل في كل واحد من أهل الجنة ينادي من كان يعرف من الكفار في دار الدنيا والله أعلم بحقيقة ذلك، وقرأ الكسائي بكسر العين والباقون بالفتح وهما لغتان {فأذن مؤذن} أي: وهو إسرافيل صاحب الصور كما قاله ابن عباس، وقيل: واحد من الملائكة وأصل الأذان في اللغة الإعلام والمعنى نادى مناد {بينهم} أي: الفريقين أسمعهم {أن لعنت الله على الظالمين} وقرأ البزيّ وابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد أنّ ونصب التاء والباقون بتخفيف أن ورفع التاء ثم فسر الظالمين منهم بقوله تعالى: {الذين يصدّون عن سبيل الله} أي: يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام {ويبغونها} أي: يطلبون السبيل {عوجاً} أي: معوجة، قال ابن عباس: يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله، والعوج بكسر العين في الدين والأمر وكل ما لم يكن قائماً وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح {وهم بالآخرة كافرون} أي: بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها. {وبينهما} أي: أهل الجنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وأهل النار {حجاب} لقوله تعالى: {فضرب بينهم بسور} (الحديد، 13) أو بين الجنة والنار ليمتنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى {وعلى الأعراف} وهو سور الجنة جمع عرف وهو المكان المرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من جسده، وقال السدي: هي ذلك السور أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس أي: أهل الجنة والنار {رجال} أي: طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيآتهم كما في الحديث: «فقصرت بهم سيآتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هناك حتى يقضي الله تعالى فيهم ما يشاء ثم يدخلون الجنة بفضل الله تعالى ورحمته وهم آخر من يدخل الجنة» ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ثم قال: إن الميزان تخف بمثقال حبة أو ترجح قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، وقيل: هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فقتلوا فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة، وقيل: هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم، وقيل: هم أطفال المشركين {يعرفون} أي: أصحاب الأعراف {كلاً} من أهل الجنة والنار {بسيماهم} أي: بعلاماتهم وهي بياض الوجوه للمؤمنين وسوادها للكافرين لرؤيتهم لهم إذ موضعهم عال {ونادوا} أي: ونادى أصحاب الأعراف {أصحاب الجنة أن سلام عليكم} إذا نظروا إليهم سلموا عليهم {لم يدخلوها} أي: أصحاب الأعراف الجنة {وهم يطمعون} في دخولها، قال الحسن: لم يطمعهم إلا لكرامة يريدها بهم. وروى الحاكم عن حذيفة قال: بينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال: قوموا ادخلوا الجنة فقد غفرت لكم، وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء وعلى هذا إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم. وحكى ابن الأنباري أنهم أنبياء وعلى هذا إنما أجلسهم على ذلك العالي تمييزاً لهم على أهل القيامة وإظهاراً لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار، وقال أبو مخلد: هم ملائكة يرون في صورة الرجال، والأقوال الأول تدل على أنّ أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله، والأقوال الأخيرة تدل على أنهم أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل. {وإذا صرفت أبصارهم} أي: أصحاب الأعراف {تلقاء} أي: جهة {أصحاب النار} فنظروا لهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب {قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} أي: الكافرين في النار قال ابن عباس: إنّ أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أصحاب النار وما هم فيه تضرّعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم. وقرأ قالون وأبو عمرو والبزي بإسقاط الهمزة الأولى وأبدلها ورش وقنبل حرف مدّ وسهلاها والباقون بالتحقيق. {ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} أي: كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار {يعرفونهم بسيماهم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 أي: بسيما أهل النار {قالوا} أي: أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار {ما أغنى عنكم جمعكم} أي: ما كنتم تجمعون من الأموال في الدنيا أو كثرتكم واجتماعكم فيها {وما كنتم تستكبرون} أي: وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً، قال الكلبيّ: ينادونهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤون بهم مثل سلمان الفارسيّ وخبيب وصهيب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار: {أهؤلاء} لفظ استفهام أي: أهؤلاء الضعفاء {الذين أقسمتم} أي: حلفتم بالله {لا ينالهم الله برحمة} أي: لا يدخلون الجنة، وقد قيل لهم: {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وقيل: أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون أنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة الذين حبسوا أهل الأعراف: ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وهذا ظاهر على الأقوال الأول، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر تنوين رحمة في الوصل وابن ذكوان بوجهين الضم والكسر والباقون بالضم. {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء} أي: صبوه وهو دليل على أنّ الجنة فوق النار {أو مما رزقكم الله} أي: من سائر الأشربة ليلاً ثم الإفاضة لأنّ الإفاضة ملائمة للماء وسائر المائعات فحملت الإفاضة على إفاضة جميع المائعات أو من سائر المشروب والمأكول بتضمين أفيضوا ألقوا كقوله: *علفتها تبناً وماء بارداً ... حتى غدت همالة عيناها* أي: فائضة عيناها. {قالوا} أي: أهل الجنة مجيبين لهم {إنّ الله حرّمهما} أي: منعهما {على الكافرين} أي: منعهم طعام الجنة وشرابها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه ويحظر كقوله: *حرام على عينيّ أن تطعم الكرى* وقيل: لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب وعذبهم الله في الآخرة بشدّة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا من طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأنّ الله تعالى حرّم طعام الجنة وشرابها على الكافرين ثم وصف الله تعالى الكافرين بقوله: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} وهو ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية، وقيل: كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم وهزؤوا به، واللهو هو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف له واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به {وغرّتهم الحياة الدنيا} أي: وخدعهم عاجل ما هم فيه من رغد العيش والدعة وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسوله ومن الأخذ بنصيبهم في الآخرة حتى أتتهم المنية وهم على ذلك والغرّة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال، وقيل: الجاه ونيل الشهوات فإذا حصل له ذلك صار محجوباً عن الدين وطلب الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال: {فاليوم} أي: يوم القيامة {ننساهم} أي: نتركهم في النار ونعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 عنهم فلا نجيب دعاءهم ولا نرحم ضعفهم {كما نسوا لقاء يومهم هذا} أي: كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا كفعل الناسين فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا له وأعرضوا عن الإيمان فقابل الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأنّ الله تعالى لا ينسى شيئاً فهو كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40) {وما كانوا بآياتنا يجحدون} أي: وما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى. {ولقد جئناهم} أي: هؤلاء الكفار {بكتاب} أي: قرآن أنزلناه عليك يا محمد {فصلناه} أي: بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة {على علم} أي: عالمين وجه تفصيله، وقوله تعالى: {هدى ورحمة لقوم يؤمنون} أي: به حال من منصوب فصلناه كما أنّ على علم حال من مرفوعه. {هل ينظرون} أي: ما ينظرون {إلا تأويله} أي: إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد {يوم يأتي تأويله} أي: يوم القيامة لأنه يوم الجزاء {يقول الذين نسوه من قبل} أي: تركوه ترك الناسي {قد جاءت رسل ربنا بالحق} أي: قد تبين لهم واعترفوا يوم القيامة بأنّ ما جاءت به الرسل من الإيمان والحشر والنشر والبعث والثواب والعقاب حق حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف. ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} اليوم {أو نردّ} أي: أو هل نردّ إلى الدنيا وقولهم: {فنعمل غير الذي كنا نعمل} فيها فنبدل الكفر بالإيمان والتوحيد والمعاصي بالطاعة والإنابة جواب الاستفهام الثاني {قد خسروا أنفسهم} أي: إذ صاروا إلى الهلاك لأنهم كانوا في الدنيا أوّل مرّة فلم يعملوا بطاعة الله ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله فيهم {وضل} أي: ذهب {عنهم ما كانوا يفترون} أي: من دعوى الشريك فلم ينفعهم. {إنّ ربكم} أي: سيدكم ومولاكم ومصلح أموركم وموصل الخيرات إليكم ودافع المكاره عنكم هو {الله الذي خلق السموات والأرض} أي: ابتدعهما وأنشأ خلقهما على غير مثال سبق {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا، وقيل: من أيام الآخرة كل يوم ألف سنة. فإن قيل: اليوم من أيام الدنيا عبارة عن مقدار من الزمان وذلك المقدار من طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن إذ ذاك شمس ولا قمر ولا سماء. أجيب: بأنّ معنى ذلك في مقدار ستة أيام فهو كقوله تعالى: {لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} (مريم، 62) أي: على مقادير البكر والعشيّ في الدنيا لأن الجنة لا ليل فيها ولا نهار قال سعيد بن جبير: كان الله عز وجل قادراً على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهنّ في ستة أيام تعليماً لخلقه التثبت والتأني في الأمور، وقد جاء في الحديث: «التأني من الله والعجلة من الشيطان» . واختلف العلماء في اليوم الذي ابتدأ الله خلق الأشياء فيه فقيل: هو يوم السبت لخبر مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجرة يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق الله آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار وفيما بين العصر إلى الليل» ، وقيل: يوم الأحد لقول بعضهم سمي يوم الإثنين لأنه ثاني الأيام والخميس لأنه خامس الأيام قال الإسنوي: والصواب الأول للخبر المذكور {ثم استوى على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 العرش} أي: استوى أمره وقال أهل السنة: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به ونكل فيه العلم إلى الله تعالى والمعنى أنّ له سبحانه وتعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزه عن الاستقرار والتمكن، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه، 5) فأطرق رأسه ملياً وعلاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج. وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة أمرّوها كما جاءت اقرؤها بلا كيف وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية والعرش في اللغة السرير، قال كعب: إنّ السموات في العرش كالقنديل معلقاً بين السماء والأرض، وقال الطائي: العرش ياقوتة حمراء، وشذ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك، وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوّز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} (هود، 7) أتراه كان الملك على الماء وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى ويحتج بقول الشاعر: *قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق* وقال آخر: *هما استويا بفضلهما جميعاً ... على عرش الملوك بغير زور* وهذا منكر عند أهل اللغة، قال ابن الأعرابيّ: لا يعرف استولى فلان على كذا إلا إذا كان بعيداً منه غير متمكن منه ثم تمكن منه والله تعالى لم يزل مستولياً على الأشياء، والبيتان قال ابن فارس اللغوي: لا يعرف قائلهما ولو صحا لا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم يكن مستولياً نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة، وقيل: هو ما علا فأظل ومنه عرش الكرم {يغشي الليل النهار} أي: يغطيه ولم يذكر عكسه، إما للعلم به وإما لأنّ اللفظ يحتملهما بأن يكون المعنى بأنه يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين {يطلبه} أي: يطلب كل منهما الآخر طلباً {حثيثاً} أي: سريعاً فهو صفة مصدر محذوف ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل بمعنى حاثاً أو المفعول بمعنى المحثوث {والشمس والقمر والنجوم مسخرات} أي: مذللات لما يراد منهنّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبر لهنّ {بأمره} أي: بقضائه وتصريفه. وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر والباقون بالنصب عطفاً على السموات، ومسخرات منصوب بالكسرة {ألا له الخلق} جميعاً {والأمر} كله فإنه الموجد والمتصرّف في ذلك، وفي هذا ردّ على من يقول: إنّ الشمس والقمر والكواكب تخلق له الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه، واستخرج سفيان، بن عيينة من هذا أنّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق فقال: إنّ الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر أي: إن جعل الأمر وهو كلامه من جملة ما خلقه فهو كفر لأنّ المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق {تبارك الله رب العالمين} أي: تعالى بالوحدانية وتعظم بالتفرّد في الربوبية، قال البيضاوي: وتحقيق الآية والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 أعلم أنّ الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين الله تعالى لهم أنّ المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى: {فقضاهنّ سبع سموات في يومين} وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيآت المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادّة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله تعالى: {خلق الأرض في يومين} (فصلت، 9) أي: ما في جهة السفل في يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة أي: وهي النبات والحيوان والمعدن بتركيب موادها أوّلاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله: {خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام} (فصلت، 10) أي: مع اليومين الأوّلين اللذين خلق فيهما السموات لقوله تعالى في سورة السجدة: {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} ثم لما ثم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرّح بما هو نتيجة ذلك فقال: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} ، ثم أمرهم أن يدعوه متذللين مخلصين بقوله تعالى: {ادعوا ربكم} لأنّ الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أنّ ربه سبحانه وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى: {تضرّعاً} أي: ادعوا ربكم تذللاً واستكانة وهو إظهار الذل في النفس والخشوع يقال: ضرع فلان لفلان إذا ذل له وخشع {وخفية} أي: سرّاً في أنفسكم وهو ضدّ العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفياً لهذه الآية، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم» قال أبو موسى: وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوّة إلا بالله في نفسي، فقال: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟» قلت: بلى، قال: «لا حول ولا قوّة إلا بالله» ، وقال الحسن: بين دعوة السرّ والجهر سبعون ضعفاً ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء لا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنّ الله تعالى يقول: {ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية} فإنّ الله تعالى أثنى على زكريا عليه الصلاة والسلام فقال: {إذ نادى ربه نداءً خفياً} (مريم، 3) وعن الحسن أيضاً: إنّ الله يعلم التقيّ والدعاء الخفيّ إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر الناس به وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوّار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يفعلوه في السرّ فيكون علانية أبداً {إنه} تعالى {لا يحب المعتدين} أي: المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أنّ الداعي ينبغي له أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 والسلام والصعود إلى السماء.n روي أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهمّ إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بنيّ إسأل الله الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» وقيل: أراد به الاعتداء في الجهر، قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح، وعنه صلى الله عليه وسلم «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ: {إنه لا يحبّ المعتدين} . {ولا تفسدوا في الأرض} أي: بالشرك والمعاصي {بعد إصلاحها} أي: ببعث الرسل وشرع الأحكام، وقيل: لا تفسدوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وعلى هذا فمعنى قوله تعالى: {بعد إصلاحها} أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب {وادعوه خوفاً} منه ومن عذابه {وطمعاً} أي: فيما عنده من مغفرته وثوابه، وقال ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل {إنّ رحمت الله قريب من المحسنين} أي: المطيعين، وفي ذلك ترجيح الطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة وتذكير قريب المخبر به عن رحمة لإضافتها إلى الله تعالى، وقال سعيد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ، وقيل: إنّ تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة، وقيل: ذكره للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره حيث يجب التأنيث في الأوّل فيقال فيه: فلانة قريبة مني ويجوز في الثاني فيقال: فلانة قريبة وقريب مني في المكان وكون الرحمة قريباً من المحسنين لأنّ الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينهم وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان. فائدة: رحمت تكتب بالتاء المجرورة فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء وأمالها الكسائي في الوقف، وقوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح} عطف على ما قبله والمعنى: إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع {نشراً بين يدي رحمته} أي: متفرّقة قدام المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثراً. وقرأ عاصم بالباء الموحدة وسكون الشين أي مبشراً، وحمزة والكسائي بالنون مفتوحة وسكون الشين على أنه مصدر في موضع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان، وابن عامر بالنون مضمومة وسكون الشين تخفيفاً، والباقون بضم النون والشين جمع نشور بمعنى ناشر {حتى إذا أقلت} أي: حملت الرياح {سحاباً ثقالاً} أي: بالمطر يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً {سقناه} أي: السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ وفيه التفات عن الغيبة ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل على اللفظ على الوصف لقيل: ثقيلاً، والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، قال السدي: إن الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح فتأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه ثم تنشره فتبسطه في السماء كما يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك {لبلد ميت} لا نبات فيه أي: لإحيائه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بتخفيف الياء والباقون بالتشديد {فأنزلنا به} أي: بالبلد أو السحاب {الماء فأخرجنا به} أي: بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سبباً لإخراج الثمرات {من كل الثمرات} أي: من كل أنواعها، قال الأزهري: قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى: البلد هو كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد {كذلك} أي: مثل هذا الإخراج {نخرج الموتى} أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودرس آثارهم {لعلكم تذكرون} أي: لكي تعتبروا وتتذكروا والخطاب لمنكري البعث يقول: إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأوراق والثمار ثم إن الله أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها. قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله تعالى عليهم مطراً كمني الرجال من ماء تحت العرش فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} (يس، 52) وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد. {والبلد الطيب} أي: والأرض الكريمة التربة السهلة السمحة {يخرج نباته بإذن ربه} أي: بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنها وقعت في مقابلة {والذي خبث} أي: والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة {لا يخرج} نباته {إلا نكداً} أي: عسراً بمشقة وكلفة قال المفسرون: وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة وشبه نزول القرآن على قلبه بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والأثمار فكذلك المؤمن إذا سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهر منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدّقه ولا يزيده إلا عتواً وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة، وقيل: هو مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم طيب ومنهم خبيث {كذلك} أي: كما بينا ما ذكر {نصرّف} أي: نبين {الآيات} الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة {لقوم يشكرون} نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بسماع القرآن. ولما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدّمة دلائل آثار قدرته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الأدلة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما جرى لهم مع أممهم فقال: {لقد} جواب قسم محذوف تقديره: والله لقد {أرسلنا نوحاً} عليه السلام {إلى قومه} ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 التوقع فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو أوّل نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نجاراً بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو ابن أربعين سنة، وقيل: وهو ابن مائة سنة، وقيل: وهو ابن مائتين وخمسين سنة، وقال ابن عباس: سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه، واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان، وقيل: لأنه مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني، أو أعبت الكلب. وفي ذكر القصص تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن إعراض قومه عن قبول الحق فقط بل قد أعرض عنه غالب الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت للخسار والهلاك في الدنيا والآخرة والعذاب الأليم فمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة وفيه دليل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحداً من علماء زمانه وقد أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد فعلم بذلك أنه إنما أتى من عند الله وأنه أوحى إليه بذلك فكان ذلك دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على صحة نبوّته صلى الله عليه وسلم {فقال} نوح حال إرساله لقومه {يا قوم اعبدوا الله} أي: اعبدوه وحده لقوله تعالى: {مالكم من إله غيره} فإنه الذي يستحق العبادة لا غيره. وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء على أنه صفة لإله والباقون برفعهما على البدل من محله {إني أخاف عليكم} إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته {عذاب يوم عظيم} هو يوم القيامة أو يوم نزول الطوفان وإهلاكهم فيه، وقال: أخاف، على الشك وإن كان يقيناً من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون. {قال الملأ من قومه} أي: الأشراف منهم فإنهم يملؤون العيون منظراً {إنا لنراك في ضلال} أي: خطأ وزوال عن الحق {مبين} أي: بين. {قال} نوح مجيباً لهم: {يا قوم ليس بي ضلالة} أي: ليس بي شيء مما تظنون من الضلال. فإن قيل: لم لم يقل ليس بي ضلالة كما قالوا؟ أجيب: بأنّ الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كما لو قيل: ألك ثمر فقلت: ما لي ثمرة فقد بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات وقوله تعالى: {ولكني رسول من ربّ العالمين} استدراك باعتبار ما يلزمه وهو كونه كأنه قال: ولكني على هدى في الغاية لأني رسول الله. {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه، ويقال: نصحته ونصحت له كما يقال: شكرته وشكرت له وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وإنما وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فتقصد للنفعين جميعاً ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسوله وقيل: حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، وقال بعض المفسرين: والفرق بين إبلاغ نصيحة الرسالة وبين النصيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 هو أن تبليغ الرسالة أن يعلمهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم وأما النصيحة فهي أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه وقرأ أبو عمرو بسكون الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ كقوله تعالى: {لقد أبلغتكم رسالات ربي} وقرأ الباقون بفتح الباء وتشديد اللام من التبليغ كقوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (النساء، 67) {وأعلم من الله ما لا تعلمون} أي: من صفات الله وأحوال قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه وإنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين، وقوله تعالى: {أو عجبتم} الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي: أكذبتم وعجبتم {أن جاءكم} أي: من أن جاءكم {ذكر} أي: موعظة {من ربكم على رجل} أي: على لسان رجل {منكم} أي: من جنسكم أو من جملتكم تعرفون نسبه وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة {لينذركم} أي: لأجل أن ينذركم عاقبة الكفر والمعاصي {ولتتقوا} أي: ولأجل أن تتقوا الله {ولعلم ترحمون} بالتقوى إن وجدت منكم لأنّ المقصود إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجبة والرحمة من الله تعالى محض تفضيل وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله. {فكذبوه} أي: نوحاً {فأنجيناه والذين} آمنوا به {معه} من الغرق وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل: تسعة بنوه الثلاثة سام وحام ويافث وستة ممن آمن به، وقوله تعالى: {في الفلك} متعلق بمعه كأنه قيل: والذين استقرّوا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك أو بأنجيناه أي: أنجيناهم في السفينة من الطوفان {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} بالطوفان {إنهم كانوا قوماً عمين} أي: عمي القلوب عن الحق غير مستبصرين يقال: رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير: *وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم* {وإلى عاد} أي: وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى {أخاهم هوداً} أي أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وقيل: هو ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، واختلف في سبب الأخوة من أين حصلت على وجهين: الأوّل: قال الزجاج: إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة، والمعنى: إنا أرسلنا إلى عاد واحداً من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك والجنّ، والوجه الثاني: أنّ أخاهم بمعنى صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت {قال يا قوم اعبدوا الله} أي: وحدوه ولا تجعلوا معه إلهاً آخر {مالكم من إله غيره} . فإن قيل: لم حذف العاطف من قوله: قال ولم يقل: فقال كما في قصة نوح؟ أجيب: بأنّ هذا على تقدير سؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 سائل قال: فما قال لهم هود، فقيل: قال: يا قوم، وقيل: إنّ نوحاً كان مواظباً على دعوته قومه غير متوان فيها لأن الفاء تدل على التعقيب وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عنه بقوله: {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} {أفلا تتقون} الله أي: أفلا تخافون عقابه فتؤمنون ولما كانت هذه القصة معطوفة على قصة نوح وقد علم ما حل بهم من الغرق حسن قوله هنا: {أفلا تتقون} أي: أفلا تخافون ما نزل بهم من العذاب ولما لم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأحقاف، 21) {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة} أي: في حمق وجهالة وضلالة عن الصواب. فإن قيل: لم قال قوم نوح: إنا لنراك في ضلال مبين، وقوم هود: إنا لنراك في سفاهة؟ أجيب: بأنّ نوحاً لما خوّف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء قال له قومه: إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في هذه الأرض، وأمّا هود عليه السلام لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا: إنا لنراك في سفاهة {وإنا لنظنك من الكاذبين} أي: في ادعائك أنك رسول من رب العالمين. {قال} هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه {يا قوم ليس بي سفاهة} أي: ليس الأمر كما تزعمون أنّ بي سفاهة {ولكني رسول من رب العالمين} . {أبلغكم رسالات ربي} أي: أؤدي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه {وأنا لكم ناصح} أي: فيما آمركم به من عبادة الله تعالى {أمين} أي: مأمون على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما إئتمن عليه. فإن قيل: لم قال نوح: وأنصح لكم بصيغة الفعل وقال هود: وأنا لكم ناصح بصيغة اسم الفاعل؟ أجيب: بأنّ صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة وكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} (نوح، 5) فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال: {وأنصح لكم} وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلهذا قال: {وأنا لكم ناصح أمين} . فإن قيل: مدح الذات بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء؟ أجيب: بأنه فعل هود ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم: {وإنا لنظنك من الكاذبين} فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها. {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم} سبق تفسيره. تنبيه: في إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقالتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وهكذا ينبغي لكل ناصح {واذكروا} نعمة الله عليكم {إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} أي: خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً في الأرض فإنّ شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج وهو موضع بالبادية بها رمل إلى شحر عمان وهو بفتح الشين المعجمة وكسرها وبالحاء المهملة ساحل البحر بين عمان وعدن {وزادكم في الخلق بسطة} أي: طولاً وقوّة قال الجلال المحلى في سورة الفجر: كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع وقامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 القصير ستين ذراعاً، وقال أبو حمزة اليماني: سبعون ذراعاً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانون ذراعاً، وقال مقاتل: كان طول كل رجل اثني عشر ذراعاً، أخرج ابن عساكر عن وهب بذراعهم أي: على الأقوال كلها، وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظمية وكان عين الرجل ـ أي: بعد موته ـ تفرخ فيها الضباع وكذا مناخرهم، وقرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد وأبو عمرو وهشام وقنبل وحفص وخلف بالسين وأمّا ابن ذكوان وخلاد فقرآ بالسين والصاد {فاذكروا آلاء الله} أي: أنعمه أي: اعملوا بما يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام {لعلم تفلحون} أي: تفوزون بالنعيم المقيم في الآخرة. {قالوا} أي: قوم هود مجيبين له {أجئتنا} يا هود {لنعبد الله وحده ونذر} أي: نترك {ما كان يعبد آباؤنا} أي: من الأصنام استبعدوا اختصاص الله تعالى بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم ومعنى المجيء في أجئتنا إما لأن هوداً كان معتزلاً عن قومه كما كان يفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بحراء قبل البعثة فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم أو يريدون به الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك أو أن المقصود على المجاز كما تقول: ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة الذهاب {فأتنا بما تعدنا} أي: من العذاب {إن كنت من الصادقين} أي: في قولك: إني رسول الله. {قال} هود مجيباً لهم {قد وقع عليكم} أي: نزل عليكم {من ربكم رجس} عقاب {وغضب} أي: سخط {أتجادلونني في أسماء سميتموها} أي: وضعتموها {أنتم وآباؤكم} أي: من عند أنفسكم، والاستفهام للإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة فعبدوها من دون الله {ما نزل الله بها} أي: بعبادتها {من سلطان} أي: حجة وبرهان لأنّ المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وإنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إمّا بإنزال آية أو نصب دليل {فانتظروا} أي: نزول العذاب بسبب تكذيبكم لي {إني معكم من المنتظرين} ذلك فأرسلت عليهم الريح العقيم. {فأنجيناه} أي: هوداً {والذين معه} أي: من المؤمنين {برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} أي: استأصلناهم وقوله تعالى: {وما كانوا مؤمنين} عطف على كذبوا. روي أنّ قوم هود كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم هوداً فكذبوا وازدادوا عتواً فأمسك الله تعالى القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس حينئذ مسلمهم وكافرهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله تعالى الفرج فجهزوا إلى الحرم قيل بن عنز ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان بمكة إذ ذاك العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له وكان اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة فتسميتهما جرادتين فيه تغليب والقينة الأمة مغنية أو غير مغنية فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحى أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله فعلم القينتين معاوية: v *ألا يا قل ويحك قم فهينم* والهينمة الصوت الخفي أي: أخف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الدعاء. *لعل الله يمنحنا غماما والغمام هنا المطر. *فيسقي أرض عاد إن عاداً ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما* *من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما* فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثداً لا يقدمنّ معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهمّ اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك فقال: اخترت السوداء فإنها أكثر ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له: المغيث فاستبشروا به وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود ومن معه من المؤمنين وأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. يروى أنّ النبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذا هلك قومه هاجر والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله تعالى فيها حتى يموتوا، وروي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة. {وإلى ثمود} أي: وأرسلنا إلى ثمود قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل: سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وكان مسكنهم الحجر وهو بكسر الحاء موضع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى واتفق القرّاء السبعة هنا على عدم صرف ثمود مراداً به القبيلة وقرىء مصروفاً في غير هذه السورة بتأويل الحيّ أو باعتبار الأصل وهو أنه اسم لأبيهم الأكبر أو للماء القليل {أخاهم صالحاً} أي: أخاهم في النسب لا في الدين وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود {قال} لهم صالح حين أرسله الله تعالى إليهم {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} أي: فلا يستحق أن يعبد سواه {قد جاءتكم بينة من ربكم} أي: معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي وصدق ما أقول وأدعو إليه من عبادة الله تعالى ثم فسر تلك البينة بقوله: {هذه ناقة الله لكم آية} أي: علامة على صدقي أو آية نصبت على الحال عاملها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل كأنه قال: أشير إليها آية ولكم بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا وليس الخبر كالمعاينة كأنه قال لكم خصوصاً وإنما أضيفت إلى الله تعالى تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها كما يقال: بيت الله ولأنها جاءت من عند الله تعالى بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية {فذروها} أي: أتركوها {تأكل في أرض الله} أي: العشب فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات إنباتكم {ولا تمسوها بسوء} أي: بشيء من أنواع الأذى لا بعقر ولا بغيره وقوله: {فيأخذكم عذاب أليم} أي: بسبب أذاها جواب النهي. {واذكروا إذ جعلكم خلفاء} في الأرض {من بعد عاد} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 إن الله تعالى أهلك عاداً وجعلكم تخلفونهم في الأرض وتعمرونها {وبوّأكم} أي: أسكنكم وأنزلكم {في الأرض} أي أرض الحجر {تتخذون من سهولها قصوراً} أي: تبنون القصور من سهولة الأرض لأنّ القصور إنما تبنى من اللبن والآجرّ المتخذ من الطين السهل اللين غالباً {وتنحتون الجبال بيوتاً} أي: وتنقبون في الجبال البيوت وكانوا في الصيف يسكنون بيوت الطين وفي الشتاء بيوت الجبال. وقرأورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء والباقون بخفضها {فاذكروا آلاء الله} أي: فاذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها فإنكم منعمون مرفهون بمساكن في الصيف ومساكن في الشتاء {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} والعثو أشد الفساد، وقال قتادة: معناه لا تسيروا مفسدين في الأرض، وقيل: أراد به النهي عن عقر الناقة. {قال الملأ الذين استكبروا من قومه} أي: تكبروا عن الإيمان به {للذين استضعفوا} أي: للذين استضعفوهم واستبذلوهم وقوله تعالى: {لمن آمن منهم} بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين، وقرأ ابن عامر: وقال الملأ بالواو والباقون بلا واو {أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه} أي: أنّ الله أرسله إلينا وإليكم قالوا: ذلك على الاستهزاء {قالوا} أي: الضعفاء {إنا بما أرسل به} أي صالح من الدين والهدى {مؤمنون} أي: مصدّقون وإنما عدلوا عن الجواب السويّ الذي هو نعم تنبيهاً على أنّ إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي لب. {قال} الملأ: {الذين استكبروا} عن أمر الله تعالى والإيمان به وبرسوله صالح عليه السلام {إنا بالذي آمنتم به كافرون} أي: جاحدون متكبرون. {فعقروا الناقة} أي: عقرها فدار بأمرها فأسند العقر إليهم والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقراً فإنه قتلها بالسيف فإنّ ناحر البعير يعقره ثم ينحره {وعتوا عن أمر ربهم} أي: تكبروا عن أمر ربهم وعصوه وكذبوا نبيهم صالحاً عليه السلام {وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا} أي: من العذاب {إن كنت من المرسلين} أي: إن كنت تزعم أنك رسول الله فإنّ الله ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب. {فأخذتهم الرجفة} أي: الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء {فأصبحوا في دارهم جاثمين} أي: باركين على الركب ميتين. روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى أنّ الرجل كان يبني البيت المحكم فينهدم في حياته فينحتون البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام من أشرافهم غلاماً شاباً فدعاهم إلى الله تعالى حتى كبر لا يتبعه إلا قليل مستضعفون فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر عليهم التحذير والتخويف سألوه آية فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم في السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، قال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوهم الاستجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها: الكاثبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 مخترجة جوفاء وبراء ـ والمخترجة هي التي شاكلت البخت، والجوفاء ذات الجوف، والوبراء ذات الوبر ـ فإن فعلت ذلك صدّقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتؤمنن ولتصدّقنّ فقالوا: نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة أي: تحرّكت للولادة تمخض النتوج بولدها فانصدعت أي: انشقت عن ناقة عشراء وهي التي مرّ عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظماً وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندح ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن أسد والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج وهو بتقديم الحاء المهملة مثل التفسح وهو أن تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاؤا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون، وكانت تصيف أي: تقيم زمن الصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو أي: تقيم زمن الشتاء ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزين عقرها لهم امرأتان عنيزة بنت غنم وصدقة بنت المختار لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقبها وهو بفتح السين والقاف ولدها الذكر جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه، وانفجت وهو بتشديد الجيم أي: انفتحت الصخرة بعد رغائه فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غداً وجوهكم مصفرّة وبعد غد وجوهكم محمرّة واليوم الثالث وجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين فلما كان اليوم الرابع واشتدّ الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالإنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا. وسيأتي لهذه القصة زيادة إن شاء الله تعالى في سورة النمل. ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم» وقال صلى الله عليه وسلم لعليّ: «أتدري من أشقى الأوّلين» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «عاقر ناقة صالح عليه السلام، أتدري من أشقى الآخرين» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «قاتلك» {فتولى} أي: أعرض صالح {عنهم} وفي هذا التولي قولان: أحدهما: أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدلّ عليه قوله تعالى: {فأصبحوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 في دارهم جاثمين فتولى عنهم} والفاء للتعقيب فدلّ على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم. والقول الثاني: أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل هلاكهم ويدلّ عليه أنه خاطبهم {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} وهذا الخطاب لا يليق إلا بالإحياء، وعلى هذا القول يحتمل أنّ في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم سالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. وأجيب من جهة الأوّل: بأنه خاطبهم بعد هلاكهم تقريعاً وتوبيخاً كما خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيحين وفيه فقال عمر: يا رسول الله تكلم أمواتاً قد جيفوا، فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون» وقيل: إنما خاطبهم صالح عليه السلام بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجروا عن مثل تلك الطريقة. وروي أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت، وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار، وروي أنه رجع بمن معه من المسملين فسكنوا ديارهم وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة. {ولوطاً} أي: وأرسلنا لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم {إذ قال لقومه} أي: وقت قوله لهم، وقيل: معناه واذكر لوطاً ويبدل منه إذ قال لقومه وهم أهل سذوم، قال التفتازانيّ: هو بفتح السين قرية قوم لوط والذال المعجمة في رواية الأزهري دون غيره، اه. وصوّبه صاحب القاموس وغلط الجوهريّ في قوله: إنها مهملة وذلك أنّ لوطاً عليه السلام لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام فنزل إبراهيم عليه السلام أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن وهو بضم الهمزة والدال وتشديد النون نهر وكورة بأعلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أرض سذوم يدعوهم إلى الله تعالى وينهاهم عن فعلهم القبيح وهو قوله تعالى: {أتأتون الفاحشة} أي: أتفعلون الفاحشة الخبيثة التي هي غاية القبح وكانت فاحشتهم إتيان الذكر في أدبارهم كما سيأتي {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} أي: ما فعلها أحد قبلكم والباء للتعدية ومن الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض والجملة استئناف مقرّر للإنكار وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ، قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان من قوم لوط. ثم بين الفاحشة بقوله: {أئنكم لتأتون الرجال} أي: في أدبارهم {شهوة من دون النساء} أي: إن أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء. وقرأ نافع وحفص بكسر الهمزة ولا ياء بينها وبين النون على الحبر وشهوة إمّا مفعول له وإمّا مصدر في موضع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لا قضاء الوطر، وقرأ ابن كثير بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة مسهلة ولا مدّ بينهما، وأبو عمرو كذلك إلا أنه يمدّ بين الهمزتين وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مدّ والباقون بتحقيقهما من غير مدّ بينهما وقوله: {بل أنتم} أيها القوم {قوم مسرفون} أي: مجاوزون الحلال إلى الحرام إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتباع الشهوات وإنما ذمّهم الله تعالى وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث لأن الله تعالى خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمارة الدنيا وجعل النساء محلاً لتلك الشهوة وموضع النسل فإذا تركهنّ ووضع الشيء في غير محله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الذي خلق له فقد أسرف وجاوز واعتدى لأنّ وضع الشيء في غير محله الذي وضع له إسراف لأن أدبار الرجال ليست محلاً للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان. روي أنّ أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس لعنه الله تعالى لأنّ بلادهم أخصبت بالزرع والثمار وانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شاب ثم دعا إلى نفسه فكان أوّل من نكح في دبره، وقال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فأذوهم فعرض لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ، وقال لهم: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فلما ألحّ عليهم قصدوهم فأصابوا غلماناً حساناً فاستخنثوا واستحكم ذلك فيهم. [وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ] له حين وبخهم على فعلهم القبيح وارتكابهم ما حرّم الله تعالى عليهم من العمل الخبيث {إلا أن قالوا} أي: قال بعضهم لبعض {أخرجوهم من قريتكم} أي: ما جاؤوا بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بنصيحته وكلامه من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم وقولهم: {إنهم أناس يتطهرون} أي: يتنزهون عن فعلكم وعن أدبار الرجال سخرية بهم وبتطهيرهم من الفواحش وافتخاراً بما كانوا فيه من القاذورات كما تقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتنزه. {فأنجيناه} أي لوطاً {وأهله} أي: من آمن به، وقوله تعالى: {إلا امرأته} استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر موالية لأهل سذوم {كانت من الغابرين} أي: من الذين غبروا أي: بقوا في ديارهم فهلكوا. وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت وإنما قال تعالى: {من الغابرين} ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الذكور على الإناث. {وأمطرنا عليهم مطراً} أي: نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله تعالى: {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} (الحجر، 74) أي: قد عجنت بالكبريت والنار، يقال: مطرت السماء وأمطرت، وقال أبو عبيدة: يقال في العذاب: أمطر وفي الرحمة مطر، وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم {فانظر} أي: أيها الإنسان {كيف كان عاقبة المجرمين} . روي أنّ تاجراً منهم كان في الحرم فوقف الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه، وقال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة كما قال تعالى: {فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل} (الحجر، 74) . {وإلى مدين} أي: وأرسلنا إلى ولد مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام {أخاهم} في النسب لا في الدين {شعيباً} بن ميكيل بن يشجر بن مدين وكان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه عليه السلام وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان {قال} أي: شعيب عليه السلام {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة} أي: معجزة تدلّ على صدق ما جئت به {من ربكم} أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به. فإن قيل: ما كانت معجزته إذ لم تذكر له معجزة؟ أجيب: بأنه قد وقع العلم بأنه كان له معجزة لقوله: {قد جاءتكم بينة من ربكم} ولأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 لا بدّ لمدّعي النبوّة من معجزة تشهد له وتصدّقه وإلا لم تصح دعواه وكان متنبئاً لا نبياً غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه ومن معجزات شعيب عليه السلام الواردة في غير القرآن ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفع إليه الغنم وولادة الغنم الدرع حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها والدرع بوزن الصرد وهي الغنم التي أوائلها سواد وأواخرها بياض ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزة لشعيب وهذا أولى من جعله كرامة لموسى أو إرهاصاً وهو علامة تظهر قبل النبوّة وقيل: أراد بالبينة الموعظة وهي قوله تعالى: {فأوفو الكيل والميزان} أي: أتموهما {ولا تبخسوا} أي: تنقصوا {الناس أشياءهم} فتطففوا الكيل والوزن يقال: بخس فلان الكيل والوزن إذا نقصه وطففه. فإن قيل: هلا قال المكيال والميزان كما في سورة هود؟ أجيب: بأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال أو سمى ما يكال به بالكيل، أو أريد وأوفوا كيل المكيال ووزن الميزان وإنما قال {أشياءهم} لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه كما يفعل أمراء الجور {ولا تفسدوا في الأرض} أي: بالكفر والمعاصي {بعدإصلاحها} أي: بعدما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع {ذلكم} أي: الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان ووفاء الكيل والميزان وترك المظالم والبخس {خير لكم} أي: مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس {إن كنتم مؤمنين} أي: مصدّقين بما أقول لكم ومعنى {خير لكم} أي: في الإنسانية وحسن ما يتحدّث به وجمع المال لأنّ الناس ترغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والتسوية. {ولا تقعدوا بكل صراط} أي: طريق من طرف الدين {توعدون} أي: تمنعون الناس من الدخول فيه وتهدّدونهم على ذلك وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرقات فيخبرون من أتى عليهم أنّ شعيباً الذي تريدونه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم وقيل: كانوا يقطعون الطريق على الناس أو يقعدون لأخذ المكس منهم وقوله تعالى: {وتصدّون} أي: تصرفون الناس {عن سبيل الله} أي: دينه {من آمن به} دليل على أنّ المراد بالطريق سبيل الحق. فإن قيل: صراط الحق واحد قال تعالى: {وأنّ هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام، 153) فكيف قيل: بكل صراط؟ أجيب: بأنّ صراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة وكانوا إذا رأوا أحد يشرع في شيء منها أوعدوه وصدوه {وتبغونها} أي: تطلبون الطريق {عوجاً} أي: تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة عن الحق غير مستقيمة لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها أو يكون ذلك تهكماً بهم وإنهم يطلبون لها ما هو محال فإنّ طريق الحق لا يعوج {واذكروا} نعمة الله عليكم وآمنوا به {إذ كنتم قليلاً فكثركم} أي: كثر عددكم بعد القلة أو كثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف قيل: إنّ مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط عليهما السلام فولدت فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة والنماء فكثروا ونموا {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} قبلكم بتكذيبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 رسلهم أي: آخر أمرهم من الهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسوله. {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا} به أي: وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بي وصدقت برسالتي وفرقة كذبت وجحدت برسالتي {فاصبروا} أي: فتربصوا {حتى يحكم الله بيننا} أي: بين الفرقتين فيعز المؤمنين أي: المصدّقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم وفي هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين {وهو خير الحاكمين} أي: لا حيف في حكمه ولا معقب له لأنه تعالى منزه عن الجور والميل في حكمه وإنما قال: {خير الحاكمين} لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكماً على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة. أي: الجماعة {الذين استكبروا} أي: تكبروا {من قومه} عن الإيمان بالله ورسوله وتعظموا عن اتباع شعيب عليه الصلاة والسلام {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن} أي: ترجعن {في ملتنا} أي: لا بدّ من أحد الأمرين إمّا إخراجك ومن اتبعك على دينك من بلدنا أو عودكم في الكفر. فإن قيل: شعيب لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه؟ أجيب: بأنّ أتباع شعيب كانوا على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيباً وأتباعه جميعاً فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً فاستعمل العود في حقهم على سبيل المجاز وجرى بعضهم على أن العود يستعمل بمعنى صار كما يستعمل بمعنى رجع فلا يستلزم الرجوع إلى حالة سابقة بل هو انتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة كما قال القائل: *فإن تكن الأيام تحسن مرّة ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب* راد فقد صارت لهنّ دنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهنّ قبل الإحسان {قال} لهم شعيب على سبيل الاستفهام الإنكاري {أولو كنا كارهين} أي: كيف نعود فيها ونحن كارهون لها، وقيل: لا نعود فيها وإن أكرهتمونا وجبرتمونا على الدخول فيها لا نقبل ولا ندخل. {قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} والجواب عن هذا مثل ما أجيب به عن الأوّل وهو أن نقول: إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة إلا أن شعيباً نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً مما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} أي: إلا أن يشاء خذلاننا وارتدادنا فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا وفيه دليل على أنّ الكفر بمشيئة الله تعالى، وقيل: أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون {وسع ربنا كل شيء علماً} أي: وسع علمه كل شيء فلا يخفى عليه شيء مما كان وما يكون منا ومنكم {على الله توكلنا} في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار ولما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال: {ربنا افتح} أي: اقض وافصل واحكم {بيننا وبين قومنا بالحق} أي: بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف {وأنت خير الفاتحين} أي: الحاكمين. {وقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي: قال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم {لئن اتبعتم شعيباً} أي: على دينه وتركتم دينكم وما أنتم عليه {إنكم إذاً لخاسرون} أي: مغبونون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف أو لاستبدال ضلالته بهداكم وجواب القسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتم شعيباً وجواب الشرط قوله: {إنكم إذاً لخاسرون} فهو سادّ مسدّ الجوابين. {فأخذتهم الرجفة} أي: الزلزلة الشديدة {فأصبحوا في دارهم} أي: مدينتهم {جاثمين} أي: باركين على الركب ميتين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فدخلوا في الأسراب ليتبرّدوا فيها فوجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد وصاروا رماداً، وروي أنّ الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحرّ سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فأتاهم وأخبرهم فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك قوله تعالى: {عذاب يوم الظلة} (الشعراء، 189) وقال قتادة: بعث الله تعالى شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا جميعاً، قال أبو عبدا الله البجلي: كان أبو جاد وهوّز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة كلمن فلما هلك قالت ابنته شعراً ترثيه وتبكيه: *كلمن قد هدّركني ... هلكه وسط المحله* *سيد القوم أتاه ال ... حتف نار تحت ظله* *جعلت ناراً عليهم ... دارهم كالمضمحله* وقوله تعالى: {الذين كذبوا شعيباً} مبتدأ خبره {كأن} مخففة واسمها محذوف أي: كأنهم {لم يغنوا} أي: لم يبقوا وينزلوا {فيها} أي: في ديارهم يوماً من الدهر يقال: غنيت بالمكان أي: أقمت به والمغاني المنازل التي بها أهلها واحدها مغني قال الشاعر: *ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد* أراد أقاموا فيه وقيل: كأن لم يعيشوا فيها متنعمين يقال: غني الرجل إذا استغنى وهو من الغنى الذي هو ضدّ الفقر قال الشاعر: *غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ... وكل سقانا بكاسيهما الدهر* *فما زادنا بغياً على ذي قرابة ... غنى ولا أزرى بأحسابنا الفقر* قال الزجاج: معنى غنينا عشنا والتصعلك الفقر يقال للفقير: صعلوك {الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} أي: ديناً ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين وأكد ذلك بإعادة الموصول وغيره للردّ عليهم في قولهم السابق. {فتولى} أي: أعرض شعيب {عنهم} أي: عن قومه {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} أي: قال ذلك لما تيقن نزول العذاب بهم تأسفاً وحزناً عليهم لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان ثم أنكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 على نفسه فقال: {فكيف آسى} أي: أحزن {على قوم كافرين} لأنهم ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بسبب كفرهم، وقيل: قال ذلك اعتذاراً عن عدم شدّة حزنه عليهم والمعنى: لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح فلم يصدّقوا قولي فكيف أحزن عليهم وقوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبيّ} فيه إضمار وحذف تقديره: فكذبوه {إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء} قال ابن مسعود: البأساء الفقر والضرّاء المرض، وقيل: البأساء الشدّة وضيق العيش والضرّاء سوء الحال {لعلهم يضرّعون} أي: فعلنا بهم ذلك لكي يتضرّعوا ويتوبوا والتضرّع التذلل والخضوع والانقياد لأمر الله. {ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة} أي: أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدّة السلامة والسعة كقوله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} (الأعراف، 168) فأخبر الله تعالى بهذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله تعالى: {حتى عفوا} أي: كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم يقال: عفا الشعر إذا كثر وطال ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «وأعفوا اللحى» أي: وفروها وأكثروا شعرها {وقالوا} كفراً للنعمة {قد مس آباءنا الضرّاء والسرّاء} وهذه عادة الدهر قديماً وحديثاً لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدّة والضرّاء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى: {فأخذناهم بغتة} أي: فجأة أينما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم {وهم لا يشعرون} أي: بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة وغيرها من القصص اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب ويرجع إلى الله تعالى ويزداد الذين آمنوا إيماناً. {ولو أنّ أهل القرى} أي: المكذبين {آمنوا} أي: بالله ورسوله {واتقوا} أي: الشرك والمعاصي {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} أي: لأتيناهم بالخير من كل جهة، وقيل: بركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار والأنعام وجميع ما فيها من الخيرات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه وإنعامه على عباده. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف {ولكن كذبوا} أي: فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا الرسل {فأخذناهم} أي: عاقبناهم بأنواع العذاب {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكسبون} من الكفر والمعاصي. وقوله تعالى: {أفأمن أهل القرى} عطف على قوله تعالى: {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} وما بينما اعتراض والمعنى: أبعد ذلك أمن أهل القرى {أن يأتيهم بأسنا} أي: عذابنا {بياتاً} أي: ليلاً وقوله تعالى: {وهم نائمون} حال من ضمير هم البارز أو المستتر في بياتاً. {أو أمن أهل القرى} هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وزجر وتهديد والمراد بالقرى مكة وما حولها وقيل: هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو والباقون بفتح الواو {أن يأتيهم بأسنا ضحى} أي: نهاراً لأن الضحى صدر النهار {وهم يلعبون} أي: وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم وقوله تعالى: {أفأمنوا مكر الله} تقرير لقوله تعالى: {أفأمن أهل القرى} ومكر الله استعارة لاستدراج العبد بالنعم في الدنيا وأخذه من حيث لا يحتسب {فلا يأمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 مكر الله إلا القوم الخاسرون} أي: إنه لا يأمن استدراجه إياهم بالنعم وأخذهم بغتة إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين فعلى العاقل أن يكون في خوفه من الله تعالى كالمحارب الذي يخاف من عدوّه المتمكن البيات والغيلة، وعن الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى أنّ ابنته قالت له: مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا ابنتاه إن أباك يخاف البيات أراد قوله تعالى: {أن يأتيهم بأسنا بياتاً} : {أولم يهد} أي: يتبين {للذين يرثون الأرض} أن يسكنونها {من بعد} هلاك {أهلها} الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم فيها {أن لو نشاء أصبناهم} بالعذاب {بذنوبهم} كما أصبنا من قبلهم والهمزة للتوبيخ وأن لو نشاء مرفوع بأنه فاعل يهد أي: أولم يهد للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن وهو أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي: بسببها كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين منهم كما أهلكنا المورثين وإنما عدى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين كما مرّ. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية واواً في الوصل والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى: {ونطبع} أي: نختم {على قلوبهم} معطوف على ما دلّ عليه {أولم يهد} كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعاً بمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم {فهم لا يسمعون} موعظة أي: لا يقبلونها ومنه سمع الله لمن حمده قال الشاعر: *دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول* أي: يقبله ويستجيبه. {تلك القرى} أي: القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب {نقص عليك} يا محمد {من أنبائها} أي: نخبرك عنها وعن أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم أننا ننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم ومخالفتهم رسلهم وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم {ولقد جاءتهم} أي: أهل تلك القرى {رسلهم بالبينات} أي: بالمعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام وأمال حمزة وابن ذكوان الألف وسكن السين أبو عمرو ورفعها الباقون {فما كانوا ليؤمنوا} أي: عند مجيئهم بها {بما كذبوا} أي: كفروا به {من قبل} أي: قبل مجيء الرسل بل استمرّوا على الكفر واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالتهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم {كذلك} أي: كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك. {وما وجدنا لأكثرهم} أي: لأكثر الناس على الإطلاق أو لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية الذين قصصنا خبرهم عليك، وأكد الاستغراق فقال: {من عهد} أي: من وفاء بالعهد الذي عهدناه إليهم وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق، والآية على الأوّل اعتراض وعلى الثاني من تتمة الكلام السابق {وإن} مخففة أي: وإنا {وجدنا} أي: في علمنا في عالم الشهادة {أكثرهم لفاسقين} أي: خارجين عن دائرة العهد طبق ما كنا نعلمه منهم في عالم الغيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم. {ثم بعثنا من بعدهم} أي: الرسل المذكورين وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام أو الأمم المهلكين {موسى} عليه السلام {بآياتنا} أي: بحجتنا الدالة على صدقه كاليد والعصا {إلى فرعون} هو علم جنس لملوك مصر ككسرى لملوك فارس وقيصر لملوك الروم والنجاشي لملوك الحبشة، وكان اسم فرعون موسى: قابوس، وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط {وملائه} أي: عظماء قومه وخصهم بالذكر لأنهم إذا أذعنوا أذعن من دونهم فكأنهم المقصودون والإرسال إليهم إرسال إلى الكل {فظلموا} أي: كفروا {بها} أي: بسبب رؤيتها خوفاً على رياستهم ومملكتهم الفانية أن تخرج من أيديهم {فانظر} أيها المخاطب بعين البصيرة {كيف كان عاقبة المفسدين} أي: آخر أمرهم أي: كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم. {وقال موسى} لما دخل على فرعون {يا فرعون} خاطبه بما يعجبه امتثالاً لأمر الله تعالى له أن يلين في خطابه وذلك لأن فرعون كان لقب مدح لمن ملك مصر {إني رسول} أي: مرسل إليك وإلى قومك ثم بين مرسله بقوله تعالى: {من ربّ العالمين} أي: الإله الذي خلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم، وقوله تعالى: {حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} جواب لتكذيب فرعون إياه في دعوى الرسالة وإنما لم يذكره لدلالة قوله تعالى: {فظلموا بها} (الأعراف، 103) والحق هو الثابت الدائم والحقيق. مبالغة فيه وكأن المعنى: أنا ثابت مستمرّ على أن لا أقول على الله إلا الحق قرأ نافع عليّ بالتشديد فحقيق مبتدأ خبره أن وما بعدها والباقون بالسكون وعلى هذا تكون على بمعنى الباء أو يضمن حقيق معنى حريص وأن لا مقطوعة في الرسم أي: النون من لام الألف {قد جئتكم ببينة} أي: معجزة {من ربكم} على صدقي فيما أدعي من الرسالة وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه السلام لما فرّغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم قوله: {فأرسل معي بني إسرائيل} أي: فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدّسة التي هي وطن آبائهم وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما {قال} فرعون لعنه الله مجيباً لموسى عليه السلام {إن كنت جئت بآية} أي: علامة على صحة رسالتك {فأت بها إن كنت من الصادقين} أي: في عداد أهل الصدق العريقين فيه لتصح دعواك عندي وتثبت. {فألقى عصاه فإذا هي} أي: العصا {ثعبان مبين} أي: ظاهر أمره لا شك فيه أنه ثعبان، والثعبان الذكر العظيم من الحيات. فإن قيل: أليس قال الله تعالى في موضع: {كأنها جان} (النمل، 10) والجان الحية الصغيرة؟ أجيب: بأنها كانت كالجان في الخفة والحركة وهي في جثتها حية عظيمة. روي أنه لما ألقاها صارت حية عظيمة صفراء شقراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعاً وارتفعت عن الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث قيل: أخذته البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرّة وقد قيل: إنه كان يأكل الموز حتى لا يتغوّط وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال: هل معك آية أخرى قال: نعم. {ونزع يده} أي: أخرجها من جيبه، وقيل: من تحت إبطه بعد أن أراه إياها محترقة أدماً كما كانت وهي عنده {فإذا هي بيضاء} نورانية {للناظرين} لها شعاع غلب شعاع الشمس قال ابن عباس: كان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ثم ردّها إلى جيبه فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيباً في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى: {من غير سوء} (طه، 22) أي: من غير برص. فإن قيل: بم يتعلق قوله تعالى: {للناظرين} ؟ أجيب: بأنه يتعلق بقوله تعالى: {بيضاء} والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب. فإن قيل: أحد هذين الأمرين إمّا العصا وإمّا اليد كان كافياً فما فائدة الجمع بينهما؟ أجيب: بأنّ كثرة الدلائل توجب القوّة في اليقين وزوال الشك وقول بعض الملحدين: المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد وهو أنّ حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة من حيث أنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن أنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف: لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي: قوة كاملة ومرتبة ظاهرة مردود إذ حمل هاتين المعجزتين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان. {قال الملأ} أي: الأكابر {من قوم فرعون إنّ هذا} أي: موسى {لساحر عليم} أي: عالم بالسحر ماهر فيه قد أخذ بأعين الناس ويريهم الشيء بخلاف ما هو عليه حتى يخيل إليهم أنّ العصا صارت حية وأنّ الآدم أبيض كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان. فإن قيل: قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قول الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء وقال أي: فرعون للملأ حوله: {إن هذا لساحر عليم} (الشعراء، 34) فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: عن ذلك بجوابين: الأوّل: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولاً ثم إنهم قالوه بعده فأخبر الله عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء. الثاني: أن فرعون قال هذا القول ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامّة فأخبر الله تعالى هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون {يريد} أي: موسى {أن يخرجكم} أيها القبط {من أرضكم} أي: أرض مصر {فماذا تأمرون} أي: أيّ شيء تشيرون أن نفعل به فقوله: {فماذا تأمرون} من قول فرعون وإن لم يذكر، وقيل: من قول الملأ وتمّ كلام فرعون عند قوله: {يريد أن يخرجكم من أرضكم} فقال الملأ مجيبين له: فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم، والمعنى: فما تأمرون أن نفعل به والقول الأوّل أصح لسياق الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {قالوا أرجئه} أي: موسى {وأخاه} هارون عليهما السلام أي: أخر أمرهما ولا تعجل فيه حتى ننطر فى أمرهما والإرجاء في اللغة التأخير وقيل: الحبس أي: احبسه وأخاه ورد بأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعدما رأى من أمر العصا ما رأى.v الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بهمزة ساكنة والباقون بغير همز {وأرسل في المدائن} جمع مدينة واشتاقها من مدن بالمكان أي: أقام به أي: مدائن صعيد مصر {حاشرين} أي: أرسل رجالاً من أعوانك وهم الشرط بضم الشين وفتح الراء طائفة من أعوان الولاة يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدّقناه واتبعناه وإن غلبوه علمنا أنه ساحر فذلك قوله تعالى: {يأتوك} أي: الشرط {بكل ساحر عليم} أي: ماهر بصناعته والباء يحتمل أن تكون بمعنى مع ويحتمل أن تكون باء التعدية، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها ولا ألف قبلها والباقون بتخفيف الحاء مكسورة وألف قبلها ولا ألف بعدها ولم يختلفوا في سورة الشعراء أنه سحار، قيل: الساحر الذي يعلم السحر ولا يعلم والسحار من يديم السحر، روي أنّ فرعون لما رأى من سلطان الله وقدرته في العصا ما رأى قال: إنا لا نقاتل موسى إلا بمن هو أقوى منه فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل وبعث بهم إلى مدينة يقال لها: الفرما يعلمونهم السحر فعلموهم سحراً كثيراً وواعد فرعون موسى موعداً ثم بعث السحرة الذين أرسلهم فجاؤوا ومعلمهم معهم فقال فرعون للمعلم: ما صنعت؟ فقال: علمتهم سحراً لا تطيقه أهل الأرض إلا أن يأتي أمر من السماء فإنهم لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحر إلا أتي به وهذا يدل على أنّ السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وهو يدل على صحة ما يقوله المتكلمون وهو أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان لما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة للسحر في الحقيقة، ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت معجزته من جنس الفصاحة. واختلفوا في عدد السحرة الذي جمعهم فرعون فمن مقل ومن مكثر وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد ولذلك اختلف في عددهم، فقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط وهما رؤساء القوم وسبعون من بني إسرائيل، وقال الكلبي: كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام وكانوا سبعين غير رئيسهم، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً، وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال عكرمة: كانوا سبعين ألف، وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفاً، وقال مقاتل: كان رئيس السحرة شمعون، وقال ابن جريج: كان رئيسهم يوحنا. {وجاء السحرة فرعون} أي: بعدما أرسل الشرط في طلبهم {قالوا أئن لنا لأجراً} أي: جعلاً وعطاءً تكرمنا به {إن كنا نحن الغالبين} لموسى. فإن قيل: هلا قيل: فقالوا بالفاء؟ أجيب: بأنه على تقدير: سائل سأل ما قالوا إذا جاؤوا؟ فأجيب: بقوله: {أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين} وقرأ ابن كثير وحفص بهمزة مكسورة ونون مشدّدة بعدها على الخبر والباقون بهمزتين وسهل الثانية أبو عمرو وأدخل ألفاً بينهما والباقون بتحقيقهما وأدخل بينهما ألفاً هشام والباقون بغير ألف بينهما. {قال} لهم فرعون {نعم} أي: لكم الأجر والعطاء وقرأ الكسائي بكسر العين والباقون بالفتح وقوله تعالى: {وإنكم لمن المقرّبين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 عطف على محذوف سدّ مسدّ الجواب كأنه قيل: جواباً لقولهم: {أئن لنا لأجراً} إنّ لكم أجراً وإنكم لمن المقربين أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة أني أجعلكم من المقرّبين عندي، قال الكلبيّ: تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج من عندي الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى وتدل أيضاً على أنّ كل السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب. {قالوا} أي: السحرة {يا موسى إمّا أن تلقى} أي: عصاك {وإمّا أن نكون نحن الملقين} أي: عصينا وحبالنا فراعوا مع موسى عليه السلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء فعوضهم الله تعالى حيث تأدّبوا مع نبيه عليه السلام أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أوّلاً وأظهروا ما يدل على رغبتهم. {قال} لهم موسى {اتقوا} أنتم فقدّمهم على نفسه في الإلقاء. فإن قيل: كيف جاز لنبيّ الله تعالى موسى عليه السلام أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر حرام أو كفر؟ أجيب: عن ذلك بأجوبة: أحدها: إنّ معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا، الثاني: أنّ القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصيّ وعلم موسى عليه السلام أنه لا بدّ وأن يفعلوا ذلك ووقع التحير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده الله تعالى من التأييد والتقوية وأنّ المعجزة لا يغلبها سحر أبداً، الثالث: أنه عليه السلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولاً {لما ألقوا} حبالهم وعصيهم {سحروا} أي: صرفوا {أعين الناس} عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي هو فعل الله تعالى وذلك لأنّ السحر ليس فيه قلب الأعيان وإنما فيه صرف أعين الناس عن إدراك ذلك الشيء بسبب التمويهات والمعجزة قلب ذلك الشيء حقيقة كقلب عصا موسى عليه السلام فإذا هي حية تسعى {واسترهبوهم} أي: أرهبوهم والسين زائدة قاله المبرد، وقال الزجاج: استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب {وجاؤوا} أي: السحرة {بسحر عظيم} . روي أنّ السحرة قالوا: قد عملنا سحراً لا تطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات تسعى كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصى زئبقاً ليضيء وألقوها على الأرض فلما أثر حرّ الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات تتحرّك وتلتوي باختيارها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 ويقال: إن الأرض كان سعتها ميلاً في ميل فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليه السلام لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة ويقين من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم وكان عالماً بأنّ ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخيل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى عليه السلام وإنما كان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليه السلام أن يتفرّقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسة خيفة موسى. {وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك} فألقاها فصارت حية عظيمة قد سدّت الأفق قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالاسكندرية وقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاهاً ثمانين ذراعاً {فإذا هي تلقف} بحذف إحدى التاءين من الأصل أي: تبتلع {ما يأفكون} أي: ما يزوّرونه من الإفك وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه. روي أنها ابتلعت كل ما أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً واحداً حتى ابتلعت الكل ثم أقبلت على الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام عليهم فمات منهم بسبب ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفاً ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت في يده عصا كما كانت أوّل مرة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه أمر من السماء وليس بسحر وعرفوا أنّ ذلك ليس في قدرة البشر وقوّتهم فعند ذلك خروا سجداً وقالوا: آمنا برب العالمين وذلك قوله تعالى: {فوقع الحق} أي: فظهر الحق الذي جاء به موسى {وبطل ما كانوا يعملون} أي: من السحر وذلك أنّ السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت وتلاشت في عصا موسى علموا أنّ ذلك من أمر الله تعالى وقدرته وقرأ حفص: تلقف بسكون اللام وتخفيف القاف والباقون بفتح اللام وتشديد القاف وشدّد التاء البزيّ. {فغلبوا} أي: فرعون وجموعه {هنالك} أي: عند ذلك الأمر العظيم العالي الرتبة {وانقلبوا صاغرين} أي: رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين {وألقي السحرة ساجدين} أي: أنّ الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه، قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا. قال فرعون: إياي تعنون قالوا: لا بل. {رب موسى} فقال: إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا: {وهارون} زالت الشبهة وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء قال مقاتل: قال موسى لكبير السحرة: أتؤمن بي إن غلبتك فقال: لآتينّ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومننّ بك وفرعون ينظر إليهما ويسمع كلامهما فهذا قوله: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة} ويقال: إنّ الحبال والعصيّ التي كانت مع السحرة كانت حمل ثلثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى عليه السلام كلها قال بعضهم لبعض: هذا أمر خارج عن هذا السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا وصدّقوا. فإن قيل: كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان؟ أجيب: بأنّ الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان والمعرفة خرّوا سجداً لله تعالى شكراً على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 تعالى وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم قال قتادة: كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة، وعن الحسن: نرى من ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء الكفار نشؤوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى. {قال فرعون} للسحرة منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله: {آمنتم} أي: صدقتم {به} أي: بموسى أو بالله تعالى والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ. فائدة: هنا ثلاث همزات جميع القراء بإبدال الثالثة ألفاً وحقق الثانية شعبة وحمزة والكسائي وسهلها نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وأمّا حفص فإنه أسقط الأولى وأبدلها قنبل في الوصل واواً {قبل أن آذن لكم} أي: قبل أن آمركم بذلك وآذن لكم فيه {إنّ هذا لمكر مكرتموه} أي: إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى {في المدينة} أي: مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع، وذلك أنّ فرعون رأى موسى يحدّث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطؤوا عليه وعلى أهل مصر ليستولوا على مصر كما قال: {لتخرجوا منها أهلها} أي: القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل وقوله تعالى: {فسوف تعلمون} فيه وعيد وتهديد أي: فسوف تعلمون ما أفعل بكم ثم فسر ذلك الوعيد بقوله: {لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف} أي: يخالف الطرف الذي تقطع منه اليد الطرف الذي تقطع منه الرجل، قال الكلبي: لأقطعنّ أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى {ثم لأصلبنكم} أي: أعاقبكم ممددة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم {أجمعين} أي: لا أترك منكم أحداً تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم قال ابن عباس: أوّل من صلب وقطع الأيدي والأرجل فرعون أي: إنه أوّل من سنّ ذلك فشرعه الله تعالى للقطاع تعظيماً لجرمهم ولذلك سماه محاربة الله ورسوله ولكن على التعاقب لفرط رحمته. {قالوا} أي: السحرة مجيبين لفرعون حين وعدهم بما ذكر {إنا إلى ربنا} بعد موتنا على أيّ وجه كان {منقلبون} أي: راجعون إليه في الآخرة. {وما تنقم} أي: تنكر {منا} أي: في فعلك ذلك بنا وتعيب علينا {إلا أن آمنا} أي: إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان {بآيات ربنا لما جاءتنا} لم نتأخر عن معرفة الصدق وهذا موجب الإكرام لا الإنتقام ثم فزعوا إلى الله تعالى فقالوا: {ربنا أفرغ علينا صبراً} عندما توعدهم فرعون به أي: اصبب علينا صبراً كاملاً تاماً ولهذا أتى بلفظ التنكير أي: صبراً وأيّ صبر عظيم {وتوفنا مسلمين} أي: واقبضنا على دين الإسلام وهو دين خليلك عليه السلام قال ابن عباس: كانوا في أوّل النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء، قال الطيبيّ: إنّ فرعون قطع أيديهم وأرجلم وصلبهم، وقال غيره: إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} (القصص، 35) . تنبيه: في الآية فوائد الأولى قولهم: {أفرغ علينا صبراً} أكمل من قولهم أنزل علينا صبراً لأن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله تعالى كل الصبر لا بعضه، الثانية: إنّ قولهم صبراً مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على تمام الكمال أي: صبراً تاماً كاملاً، الثالثة: إن ذكر الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أنّ فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى وقضائه، الرابعة: احتج القاضي بهذه الآية على أنّ الإيمان والإسلام واحد فقال: إنهم قالوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 أوّلاً: آمنا بآيات ربنا، ثم قالوا ثانياً: وتوفنا مسلمين فوجب أن يكون ذلك الإيمان هو ذلك الإسلام وذلك يدل على أنّ أحدهما هو الآخر واعلم أنّ فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرّض لموسى لأنه كان كلما رأى موسى عليه السلام خافه أشدّ الخوف فلهذا السبب لم يتعرّض له إلا أن القوم لم يعرفوا ذلك فقالوا له: {أتذر موسى وقومه} كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى: {وقال الملأ} أي: الأشراف {من قوم فرعون} له {أتذر} أي: تترك {موسى وقومه} من بني إسرائيل {ليفسدوا في الأرض} أي: أرض مصر وأراد بالفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قولهم: {ويذرك وآلهتك} أي: معبوداتك أي: فلا يعبدك ولا يعبدها، قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة حسنة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلاً، وقال السدي: كان فرعون اتخذ لقومه أصناماً وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم: أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله: {أنا ربكم الأعلى} . فإن قيل: إنّ فرعون إن لم يكن كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسل إليه وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السموات والأرض لأنّ فساد معلوم بالضرورة؟ أجيب: بأن الأقرب أن يكون دهرياً منكر الوجود الصانع وكان يقول: مدبر هذا السفلي هو الكواكب واتخذ أصناماً على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه: إنه المطاع المخدوم في الأرض ولهذا قال: {أنا ربكم الأعلى} {قال} فرعون مجيباً لملئه حين قالوا له: أتذر موسى وقومه {سنقتل أبناءهم} أي: المولودين {ونستحيي نساءهم} أي: نتركهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم إنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكك على يديه. وقرأ نافع وابن كثير بفتح النون وسكون القاف وضم التاء مخففة والباقون بضم النون وفتح القاف وكسر التاء مشدّدة {وإنا فوقهم قاهرون} أي: غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظرة فأعادوا عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل لموسى فأمرهم بالصبر كما قال تعالى: {قال موسى لقومه} أي: بني إسرائيل {استعينوا بالله واصبروا} أي: استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله تعالى هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم {إنّ الأرض} أي: أرض مصر وإن كانت الأرض كلها {} تعالى لأنّ الكلام فيها {يورثها من يشاء من عباده} وفي هذا تسلية لهم وتقريراً للأمر بالاستعانة بالله عز وجل والتثبت في الأمر وقوله تعالى: {والعاقبة} أي: المحمودة {للمتقين} لأنّ الله تعالى وعدهم بالنصر وتذكير لما وعدهم به من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له ولما سمع بنو إسرائيل ما قال فرعون من توعده لهم بالقتل مرّة ثانية. {قالوا} لموسى {أوذينا من قبل أن تأتينا} أي: بالرسالة وذلك إن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يأخذ منهم الجزية وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى نصف النهار ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فلما جاء موسى بالرسالة وجرى له ما جرى شدد فرعون في استعمالهم فكان يستعملهم جميع النهار بلا أجر وأراد أن يعيد القتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 عليهم فقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا {ومن بعد ما جئتنا} أي: بالرسالة. فإن قيل: ظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر أجيب: عن هذا الإيهام بأنّ موسى عليه السلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدّة والمشقة فظنوا أنّ ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنّ المشقة قد زادت عليهم قالوا ذلك أي: فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه {قال} موسى عليه السلام مجيباً لهم: {عسى ربكم أن يهلك عدوّكم} أي: فرعون وقومه {ويستخلفكم في الأرض} أي: يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم، قال البيضاوي: ولعله أتى بفعل الطمع أي: بعسى لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. وقد روي أنّ مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام ثم سبب عن الاستخلاف قوله تعالى مذكراً لهم محذراً من سطواته تعالى: {فينظر} أي: وأنتم خلفاء متمكنون {كيف تعملون} أي: يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إبقاعكم للأعمال ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداته. روي عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان فطلب زيادة لعمرو فلم يجد فقرأ عمرو هذه الآية ثم دخل عليه بعدما استخلف فذكر له ذلك وقال: قد بقي فينظر كيف تعملون. {ولقد أخدنا آل فرعون} أي: فرعون وقومه {بالسنين} أي: بالقحط والجوع سنة بعد سنة فإنّ السنة تطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اجعلها عليهم كسني يوسف» {ونقص من الثمرات} أي: بالعاهات، قال قتادة: أمّا السنين فلأهل البوادي وأمّا نقص الثمرات فلأهل الأمصار، وعن كعب يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة {لعلهم يذكرون} أي: يتعظون فيؤمنون ويرجعون عما هم عليه من الكفر والمعاصي لأنّ الشدّة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى من الخيرات والدليل على ذلك قوله تعالى: {وإذا مسكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه} (الإسراء، 67) وقوله تعالى: {وإذا مسه الشرّ فذو دعاء عريض} (فصلت، 51) وقال سعيد بن جبير: عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في نفسه ثلثمائة وعشرين سنة ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية ثم بين سبحانه وتعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال: {فإذا جاءتهم الحسنة} قال ابن عباس: العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة {قالوا لنا هذه} أي: نحن مستحقوه على العادة التي جرت من كثرة نعمتنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله تعالى فيشكروه على أنعامه {وإن تصبهم سيئة} أي: قحط وجدب ومرض وبلاء ورأوا ما يكرهونه في أنفسهم {يطيروا} يتشاءموا وأصله يتطيروا {بموسى ومن معه} من المؤمنين، ويقولون: ما أصابنا إلا بشؤمهم وهذا إغراق في وصفهم في الغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات وهي لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوّاً وانتهاكاً في البغي وإنما عرّف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد إلا بالتبع {ألا إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 طائرهم عند الله} أي: سبب خيرهم وشرهم عنده تعالى وهو حكمه ومشيئته أو سبب شؤمهم عند الله تعالى وهو أعمالهم المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أي: إنّ ما يصيبهم من الله تعالى وذلك لأنّ أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطعونها عن قضاء الله تعالى وتقديره: والحق أنّ الكل من الله تعالى لأنّ كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وبهذا الطريق يكون الكل من الله تعالى فإسناده إلى غير الله تعالى يكون جهلاً بكمال الله تعالى.H {وقالوا} أي: فرعون وقومه القبط لموسى عليه السلام {مهما تأتنا به} وقوله تعالى: {من آية} أي: من عند ربك بيان لمهما وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا: {لتسحرنا بها} أي: لتصرفنا عما نحن عليه من الدين {فما نحن لك بمؤمنين} أي: بمصدّقين. تنبيه: اختلف في أصل مهما فقيل: أصلها ما ما الأولى ما الشرطية والثانية ما الزائدة ضمت إليها للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين فصارت مهما هذا قول الخليل والبصريين، وقيل: أصلها مه التي بمعنى اكفف وما الجزائية كأنهم قالوا: اكفف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فهو كذا وكذا هذا قول الكسائي فهي مركبة على هذين القولين والمعتمد الذي جرى عليه ابن هشام وغيره أنها بسيطة لأنّ دعوى التركيب لم يقم عليها دليل ووزنها فعلى وألفها للإلحاق أو للتأنيث والضميران في به وبها راجعان لمهما إلا أن أحدهما ذكر باعتبار اللفط والثاني أنث باعتبار المعنى لأنه في معنى الآية ونحوه قول زهير: *ومهما يكن عند امرىء من خليقة ... وإذ خالها تخفى على الناس تعلم* قال في الكشاف: وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها في غير موضعها ويحسب أنها بمعنى متى ما ويقول: مهما جئتني أعطيتك قال ابن عباس: إنّ القوم لما قالوا مهما تأتنا به من آية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها البتة وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فقال تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان} وقال سعيد بن جبير: لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر فتابع الله تعالى عليهم الآيات فأخذهم أوّلاً بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال: يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإنّ قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله تعالى عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله تعالى المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء وركب ذلك الماء على أرضهم فلم يقدروا أن يحرثوا ولا يعملوا شيئاً ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 السلام فقال: اكشف عنا العذاب فقد صار بحراً واحداً فإن كشف هذا العذاب آمنا بك فأزال الله تعالى عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم ير مثله قط فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل، وقيل: المراد بالطوفان الجدري وهو بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما قروح في البدن تنفط وتنضح، وقيل: هو الموتان وهو بضم الميم موت في الماشية، وقيل: هو الطاعون فنكثوا العهد {و} لم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم {الجراد} فأكل النبات والثمار وأرواق الشجر حتى كان يأكل الأبواب وسقوف البيوت ومسامير الأبواب من الحديد وابتلي الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً فضجوا من ذلك وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك فأعطوه عهد الله وميثاقه فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، وفي الخبر مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم، ويقال: إنّ موسى عليه السلام برز إلى الفضاء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت، وقيل: أرسل الله تعالى ريحاً فاحتمل الجراد فألقاه في البحر وكان قد بقي من زرعهم وغلاتهم بقية فقالوا: قد بقي لنا ما يكفينا فما نحن بتاركي ديننا {و} لم يؤمنوا وأقاموا أشهراً في عافية وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة فأرسل الله تعالى عليهم {القمل} واختلفوا في القمل، فعن ابن عباس أنه السوس الذي يخرج من الحنطة، وعن قتادة أنه أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. وعن عكرمة أنه الحمنان وهو ضرب من القراد، وعن عطاء القمل المعروف فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان أحدهم يأكل طعاماً فيمتلىء قملاً، وكان أحدهم يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يردّ منها إلا شيئاً يسير، وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه به موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً فأخذت أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري ومنعهم النوم والقرار فصاحوا وصرخوا هم وفرعون إلى موسى عليه السلام وقال: إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء فدعا موسى فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا: ما كنا أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم جعل الرمل دواب {و} لم يؤمنوا فدعا موسى عليه السلام عليهم بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم {الضفادع} فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحدهم عن ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى رقبته ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه وكان يثب في قدورهم فيفسد عليهم طعامهم ويطفىء نيرانهم وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفدع فيكون عليه ركاماً حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر ويفتح فاه إلى أكلة فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ولا يعجن عجيناً ولا يفتح قدراً إلا امتلأت ضفادع، وعن ابن عباس أنّ الضفادع كانت بريّة فلما أرسلها الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 إلى آل فرعون سمعت فأطاعت فجعلت تلقي نفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور فأثابها الله تعالى بحسن طاعتها برد الماء فلقوا منها أذى شديداً فشكوا إلى موسى عليه السلام وقالوا: ارحمنا هذه المرّة فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بأن أماتها وأرسل الله المطر والريح فاحتملها إلى البحر بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ثم نكثوا العهد {و} لم يؤمنوا وعادوا لكفرهم وأعمالهم الخبيثة فدعا عليهم موسى بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم {الدم} فصارت مياههم كلها دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه ماء عبيطاً أحمر فشكوا إلى فرعون وقالوا: ليس لنا شراب، فقال: إنه سحركم، فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دماً عبيطاً وكان فرعون لعنه الله تعالى يجمع بين القبطيّ والإسرائيليّ على الإناء الواحدة فيكون ما يلي الإسرائيليّ ماء وما يلي القبطيّ دماً ويقومان إلى الجرّة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دم حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي للمرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول: اسقيني من مائك فتصبّ لها من قربتها فيعود في الإناء دماً حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتأخذ في فيها ماء وإذا مجته في فيها صار دماً واعترى فرعون العطش حتى أنه كان ليضطرّ إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دماً فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فأتوا موسى وشكوا إليه ما يلقونه وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه السلام ربه فكشف عنهم، وقيل: الدم الذي سلط عليهم هو الرعاف، وقوله تعالى: {آيات} نصب على الحال {مفصلات} أي: مبينات لا تشكل على عاقل إنها آيات الله تعالى ونقمته عليهم أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل آيتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً كما مرّت الإشارة إلى ذلك وقيل: إنّ موسى عليه السلام لبث فيهم بعدما غلب السحرة وآمنوا به عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل {فاستكبروا} عن الإيمان فلم يؤمنوا {وكانوا} أي: فرعون وقومه {قوماً مجرمين} أي: كافرين. { ولما وقع عليهم الرجز} أي: نزل بهم العذاب وهو ما ذكره الله تعالى من الطوفان وما بعده، وقال سعيد بن جبير: الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدّمت فنزل بهم الطاعون فمات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً وتركوا غير مدفونين، قال الإمام الرازي: والقول الأوّل أقوى لأنّ لفظ الرجز مفرد محلى بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدّم ذكرها وأمّا غيرها فمشكوك فيه فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه، وعن أسامة بن زيد: الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه {قالوا يا موسى ادع لنا ربك} ولم يقولوا ربنا كبراً وعتواً {بما عهد عندك} أي: بعهده عندك وهو النبوة وسميت عهداً لأن الله تعالى عهد أن يكرم النبيّ وهو عهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 أن يستقل بأعبائها أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك به في آياتك والباء إمّا أن تتعلق بقوله: {ادع لنا ربك} على وجهين: أحدهما: أسعفنا إلى ما نطلب منك من الدعاء لك بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك وإمّا أن يكون قسماً مجاباً بقوله تعالى: {لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك} أي: أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك {ولنرسلنّ معك بني إسرائيل} أي: لنصدّقنك بما جئت به ولنخلين بني إسرائيل ليذهبوا حيث شاؤوا. {فلما كشفنا عنهم الرجز} أي: بدعاء موسى عليه السلام {إلى أجل هم بالغوه} أي: إلى حدّ من الزمان هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليمّ وقوله تعالى: {إذا هم ينكثون} جواب لما أي: فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث من غير توقف وتأمّل فيه. فإن قيل: إنّ الله تعالى علم من حال هؤلاء أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها؟ أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عما يفعل قال تعالى: {فانتقمنا منهم} أي: كافأناهم على سوء صنيعهم وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب لأنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرّات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم وبلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم كما قال تعالى: {فأغرقناهم في اليمّ} أي: في البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأنّ المنتفعين به يقصدونه قال الأزهريّ: ويقع اليمّ على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى: {فاقذفيه في اليمّ} (طه، 39) والمراد نيل مصر وهو عذب، وإغراقهم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} الدالة على وحدانيتنا وصدق رسولنا {وكانوا عنها} أي: الآيات {غافلين} أي: لا يتدبرونها، وقيل: الضمير في عنها يرجع للنقمة التي دل عليها قوله تعالى: {انتقمنا} أي: وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين. فإن قيل: الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة أجيب: بأنّ المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها. فإن قيل: أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام بهذين دون غيرهما؟ أجيب: بأنه ليس في بيان أنه تعالى انتقم منهم بهذين دلالة على نفي ما عداهما. قال الرازي: والآية تدل على أنّ الواجب في الآيات النظر فيها فلذلك ذمّهم بأنهم غفلوا عنها وذلك يدل على أنّ التقليد طريق مذموم ولما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين تعالى ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} أي: بالاستعباد وذبح الأبناء وأخذ الجزية والأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل {مشارق الأرض ومغاربها} أي: أرض الشأم وهي من الفرات إلى بحر سرف الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله كما نقله البقاعي في المائدة عن التوراة، وقيل: المراد جملة الأرض لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان عليهما السلام وقد ملكا الأرض ويدل للأوّل قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 تعالى: {التي باركنا فيها} أي: بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشأم {وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل} أي: مضت عليهم واستمرّت من قولهم تم عليه الأمر إذا قضي وهي قوله تعالى: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض} (القصص، 5) الخ.. والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت عليهم إنجاز الوعيد الذي تقدّ بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز تماماً للكلام لأنّ الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق فإذا حصل الموعود به فقد تمّ ذلك الوعد وكمل. فائدة: رسمت كلمة بالتاء المجرورة ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف الباقون بالتاء وإنما حصل لهم ما ذكر {بما صبروا} أي: بسبب صبرهم وحسبك بها حاثاً على الصبر ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله تعالى له الفرج {ودمّرنا} أي: أهلكنا، قال الليث: الدمار الهلاك التامّ {ما كان يصنع فرعون وقومه} في أرض مصر من القصور والعمارات {وما كانوا يعرشون} أي: من الجنان وما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بالجرّ وهذا آخر ما قص الله تعالى من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون واستعبادهم ومعاينتهم الآيات العظام بقوله تعالى: أي: قطعناه بهم. روي أنّ جوازهم كان يوم عاشوراء وأنّ موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدوّهم ومع النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم لم يراعوها حق رعايتها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله تعالى: {فأتوا على قوم} أي: مرّوا عليهم {يعكفون على أصنام لهم} أي: يقيمون على عبادتها، قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل قيل: كانوا قوماً من لخم وكانوا نزولاً بالرقة، وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف والباقون بالضم {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض: لإنه كان مع موسى السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل وهو قولهم: {يا موسى} سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة {اجعل لنا إلهاً} أي: صنماً نعتكف عليه وهذا يدل على غاية جهلهم وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعدما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وهو عبادتهم غير الله سبحانه وتعالى فحملهم جهلهم إلى أن قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً {كما لهم آلهة} وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة تذكرة لحال الإنسان وإنه ظلوم جهول كنود إلا من عصمه الله {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ، 13) {قال} موسى ردّاً عليهم {إنكم قوم تجهلون} وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعدما رأوا من الآيات العظمى والمعجزة الكبرى لأنه جهل أعظم مما رأى منهم وأشنع. {إنّ هؤلاء} أي: القوم {متبر} أي: هالك مدمر {ما هم فيه} أي: إنّ الله تعالى يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 رضاضاً {وباطل} أي: مضمحل {ما كانوا يعملون} أي: من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى لأن الاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله تعالى من القلب، والمقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب، فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب. {قال} موسى عليه السلام مجيباً لهم على سبيل الإنكار عليهم والتعجب {أغير الله أبغيكم إلهاً} وأصله: أبغي لكم أي: أطلب لكم معبوداً {وهو} أي: والحال أنه هو وحده {فضلكم على العالمين} إذ الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره وفي تفضيلهم على العالمين قولان: الأوّل: أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم إلا ما يخصه العقل من الأنبياء والملائكة، والثاني: أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال مثاله: رجل يعلم علماً واحداً وآخر يعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك العلم في الحقيقة. {وإذ أنجيناكم من آل فرعون} أي: واذكروا صنعه معكم في هذا الوقت وقرأ ابن عامر بحذف الياء والنون والباقون بإثباتهما وقوله تعالى: {يسومونكم} أي: يكلفونكم ويذيقونكم {سوء العذاب} أي: أشدّه استئناف لبيان ما أنجاهم أو حال من المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما وقوله تعالى: {يقتلون أبناءكم ويستحيون} أي: يستبقون {نساءكم} بدل من يسومونكم سوء العذاب {وفي ذلكم} أي: الإنجاء أو العذاب {بلاء} أي: نقمة أو محنة {من ربكم عظيم} أي: أفلا تتعظون وتنتهون عما قلتم. {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} نكلمه عند انتهائها بأن يصوم أيامها، روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك سأل ربه فأمر بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فصامه فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوّك فقالت الملائكة: كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فأمره الله تعالى بعشرة أخرى ليكلمه الله بخلوف فمه كما قال تعالى: {وأتممناها بعشر} أي: من ذي الحجة {فتم ميقات ربه} أي: وقت وعده بتكليمه إياه {أربعين ليلة} وقيل: أمره أن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصلها هنا، وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف قبل العين والباقون بألف. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} مع أن كل أحد يعلم أنّ الثلاثين مع العشر تكون أربعين؟ أجيب: بأنه تعالى إنما قال: {أربعين ليلة} إزالة لتوهم أنّ ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام. تنبيه: الفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدّر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدره مقدّر أم لا وقوله تعالى: {أربعين} نصب على الحال أي: تمّ بالغاً هذا العدد وليلة نصب على التمييز {وقال موسى لأخيه} وقوله: {هرون} عطف بيان لأخيه أي: قال له عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة: {اخلفني} أي: كن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 خيلفتي {في قومي وأصلح} أي: ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحاً {ولا تتبع سبيل المفسدين} أي: ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه. فإن قيل: إنّ هارون كان شريك موسى عليهما السلام في النبوّة فكيف جعله خليفة لنفسه فإنّ شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته، وردّ الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدون يكون إهانة له؟ أجيب: بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر إلا أنّ موسى عليه السلام كان هو الأصل في تلك النبوّة. فإن قيل: لما كان هارون نبياً والنبيّ لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصى إليه بالإصلاح؟ أجيب: بأنّ المقصود من هذا الأمر التأكيد كقول الخليل: {ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة، 26) {ولما جاء موسى لميقاتنا} أي: للوقت الذي وعدناه للكلام فيه {وكلمه ربه} دلت الآية الكريمة على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى، قال الزمخشريّ في كشافه: وكلمه ربه من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح، اه. وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأنّ ذلك الجرم كالشجرة لا يقول: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهب بعض الحنابلة والحشوية إلى أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، قال الإمام الرازي: وهذا القول أخس من أن يلتفت إليه العقل والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنّ كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأنّ موسى سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية، قالوا: كما أنه لا يبعد رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسماً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنّ كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً. وفيما روي أنّ موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أنّ سماع كلامه تعالى القديم ليس من جنس كلام المحدثين وهل كان سبحانه وتعالى كلم موسى وحده أو مع أقوام آخرين؟ ظاهر الآية يدل للأوّل لأنّ قوله تعالى: {وكلمه ربه} يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عمن عداه، وقال القاضي: بل السبعون المختارون سمعوا أيضاً كلام الله تعالى، قال: لأنّ الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكل وأيضاً فإنّ تكليم الله تعالى على هذا الوجه معجز وقد تقدّمت نبوّة موسى عليه السلام فلا بدّ من ظهور هذا المعنى لغيره، ولما سمع عليه السلام كلام ربه اشتاق إلى رؤيته سبحانه وتعالى {قال رب أرني أنظر إليك} قال في الكشاف: ثاني مفعولي أرني محذوف أي: أرني نفسك أنظر إليك. فإن قيل: الرؤية عين النظر فكيف قيل: أرني أنظر إليك؟ أجيب: بأنّ معنى أرني نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وفي هذا دليل على أنّ رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصاً ما يقتضي الجهل بالله تعالى ولذلك ردّه بأن {قال} له {لن تراني} دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إليّ تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على بعد في الرائي لم يوجد فيه بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين: قالوا: {أرنا الله جهرة} (النساء، 153) كما قاله الزمخشري أشدّ خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ويزيل شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا: اجعل لنا إلهاً والاستدلال بالجواب وهو قوله تعالى: {لن تراني} على استحالتها أشدّ خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أنه لا يراه أبداً وأن لا يراه غيره أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالته فإنّ أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة قالوا: لن تكون لتأبيد النفي وهو خطأ لأنها لو كانت للتأبيد لزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى: {فلن أكلم اليوم إنسياً} (مريم، 26) ولزم التكرار بذكر أبداً في قوله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} (البقرة، 95) ولن تجتمع مع ما هو لانتهاء الغاية نحو قوله تعالى: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} (يوسف، 80) وأمّا تأبيد النفي في قوله تعالى: {لن يخلقوا ذباباً} (الحج، 73) فلأمر خارجيّ لا من مقتضيات لن ولا تقتضي تأكيد النفي أيضاً خلافاً للزمخشريّ في كشافه بل قولك: لن أقوم، محتمل لأن تريد به أنك لا تقوم أبداً وأنك لا تقوم في بعض الأزمنة المستقبلة وهو موافق لقولك: لا أقوم، في عدم إفادة التأكيد وقوله تعالى: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيق الرؤية وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على جوازها لأنّ استقرار الجبل عند التجلي ممكن بأن يجعل الله تعالى له قوّة على ذلك والمعلق على الممكن ممكن وتراني في الحرفين الياء ثابتة وقفاً ووصلاً، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون والباقون بالضم، قال وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق: لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والرعد والبرق حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى ملائكة السموات أن يعرضوا على موسى عليه السلام فمرّت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم مرّت به ملائكة السماء الثانية كأمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع مما رأى وسمع واقشعرّت كل شعرة في جسده ورأسه ثم قال: لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له رئيس الملائكة: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كلجب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى عليه السلام واشتدّ فزعه وأيس من الحياة فقال له رأس الملائكة: مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم مرّت به ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مرّوا به ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من الذين مرّوا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعب قلبه واشتد بكاؤه فقال له رأس الملائكة: يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الخامسة لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه فقال له رأس الملائكة: يا ابن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ثم مرّت به ملائكة السماء السادسة وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة الطويلة نور أشدّ ضوأً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 كلهم يقولون بشدّة أصواتهم: سبوح قدّوس ربّ العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول: يا رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن مكثت احترقت، فقال له رأس الملائكة: قد أوشك يا ابن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدا نور العرش انصدع نور الجبل من عظمة الله تعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون: سبحان الملك القدّوس رب العزة أبداً لا يموت بشدّة أصواتهم فارتج الجبل واندك وذلك قوله تعالى: {فلما تجلى ربه} أي: «أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر» كما في حديث صححه الحاكم {للجبل} أي: جبل زبير بفتح الزاي والإضافة فيه بيانية لقول الجوهري: الزبير اسم للجبل الذي كلم الله تعالى عليه السلام عليه {جعله دكاً} أي: مدكوكاً مفتتاً، وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً مستوياً بالأرض والدك والدق أخوان، وقال ابن عباس: جعله تراباً، وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه، وقال الكلبي: كسر جبالاً صغاراً، قال البغويّ: ووقع في بعض التفاسير صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحرا. وقرأ حمزة والكسائيّ بألف بعد الكاف وهمزة مفتوحة من غير تنوين وصلاً ووقفاً أي: مستوياً ومنه ناقة دكاء للتي لا سنام لها والباقون بالتنوين بعد الكاف والوقف على ألف التنوين {وخرّ} أي: وقع {موسى صعقاً} أي: مغشياً عليه من هول ما رأى غشية كالموت، وروي أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشيّ عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون له: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة {فلما أفاق} من غشيته {قال} تعظيماً لما رأى {سبحانك} أي: تنزيهاً لك من النقائص كلها {تبت إليك} أي: من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقيل: لما كانت الرؤية مختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمنعها قال: سبحانك تبت إليك من سؤالي ما ليس لي، وقيل: لما سأل الرؤية ومنعها قال: تبت إليك من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين {وأنا أوّل المؤمنين} أي: في زماني، وقيل: أنا أوّل من أمن إنك لا ترى في الدنيا أي: لكل الأنبياء وإلا فالرؤية ثابتة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على الصحيح وللزمخشري هنا في كشافه على مذهبه الفاسد في عدم الرؤية مطلقاً تأويلات فلتحذر. {قال يا موسى إني اصطفيتك} أي: اخترتك {على الناس} أي: الموجودين في زمانك وهارون وإن كان نبياً مرسلاً كان مأموراً باتباعه ولم يكن كليماً ولا صاحب شرع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح ياء إني والباقون بالسكون وقوله تعالى: {برسالاتي} أي: بأسفار التوراة، قرأه نافع وابن كثير بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف بعد اللام على الجمع {وبكلامي} أي: وبتكليمي إياك {فخذ ما آتيتك} أي: ما أعطيتك من الرسالة {وكن من الشاكرين} لأنعمي لأنّ موسى عليه السلام لما منع الرؤية عدّد الله تعالى عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له: إن كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية قال الإمام الرازي: وهذا أيضاً أحد ما يدل على أنّ الرؤية جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة. وروي أنّ موسى عليه السلام كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له زوجته: أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرّت ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوّجي بعدي لأنّ المرأة لآخر أزواجها {وكتبنا له} أي: لموسى {في الألواح} أي: ألواح التوراة، قال البغوي: وفي الحديث: «كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنتا عشرة ذراعاً» وجاء في الحديث: «خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده» والمراد بيده قدرته، وقيل: كانت من زبرجدة خضراء، وقيل: من ياقوتة حمراء، وقيل: من صحرة صماء لينها الله تعالى لموسى فقطعها بيده، وأمّا كيفية الكتابة فقال ابن جريج: كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور، وقال وهب: سمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر وكان ذلك في أوّل يوم من ذي القعدة، وقيل: إنّ موسى خرّ صعقاً ـ يوم عرفة وأعطى التوراة يوم النحر وكانت الألواح عشرة على طول موسى، وقيل: كانت تسعة، وقيل: سبعة، وقال مقاتل: وكتبنا له في الألواح كنقش الخاتم، وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام أي: لم يحفظها ويقرأها عن ظهر قلب إلا هؤلاء الأربعة، قال الإمام الرازي: وليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح وعلى كيفية تلك الكتابة فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قويّ وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه. وأمّا قوله تعالى: {من كل شيء} فلا شبهة أنه ليس على العموم بل مما يحتاج إليه موسى عليه السلام وقومه من أمر الدين وقوله تعالى: {موعظة وتفصيلاً} أي: تبييناً {لكل شيء} بدل من الجار والمجرور قبله أي: كتبنا كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام وقوله تعالى: {فخذها} على إضمار القول عطفاً على كتبنا أو بدلاً من قوله: {فخذ ما آتيتك} (الأعراف، 144) والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو الرسالة وعن كعب الأحبار أنّ موسى عليه السلام نظر في التوراة فقال: إني أجد أمّة هي خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأوّل والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمّتي قال: هي أمّة محمد يا موسى، قال: يا رب إني أجد أمّة هم الحامدون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا: نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأوّلون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجابون والمستجاب لهم الشافعون والمشفعون لهم فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 يا رب إني أجد أمّة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط وادياً حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غرّ محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمّتي قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحداً إلا مرحوماً فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصطفون في صلاتهم كصفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم إلا من برىء من الحسنات مثل ما برىء الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، فلما عجب موسى من الخير الذي أعطاه الله محمداً وأمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله تعالى إليه {إني اصطفيتك} الخ فرضي موسى كل الرضا، ومعنى {بقوّة} أي: بجدّ وعزيمة {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} أي: بأحسن ما فيها. فإن قيل: ظاهر هذا يقتضي أنّ فيها ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز لهم الأخذ به وذلك متناقض وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأوّل: أنّ تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاد والعفو والانتصار والصبر فمرهم أن يحملوا أنفسهم بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} (الزمر، 55) وقوله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (الزمر، 18) هذا ما أجاب به في الكشاف وتبعه البيضاوي والإمام الرازي لكن قال التفتازاني: هذا ينافي ما تقرر من أن المكتوب على بني إسرائيل هو القصاص قطعاً والجواب بأنه مثال للحسن والأحسن لا لكونه في التوراة بعيد جداً. فإن قيل: يلزم عليه أيضاً منع الأخذ بالحسن وذلك يقدح في كونه حسناً. أجيب عن هذا: بأن الأخذ بالحسن الثاني على سبيل الندب فلا يقدح في منع الأخذ بالحسن، الثاني: أن الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هؤلاء الثلاثة الواجب، الثالث: أن المراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة وهو المأمور به كقولهم: الصيف أحر من الشتاء أي: هو في حره أبلغ من الشتاء في برده فكذا هنا المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح {سأريكم دار الفاسقين} أي: دار فرعون وقومه وهي مصر كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل ما نكل بهم، وقيل: منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم، وقيل: المراد دارهم في الآخرة وهي جهنم. {سأصرف عن آياتي} المنصوبات في الآفاق والأنفس كغلق السموات والأرض وما بينهما {الذين يتكبرون في الأرض} أي: أصرفها عنهم بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وقال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن، وقوله تعالى: {بغير الحق} صلة يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل فإن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 على المبطل وفي الكلام المشهور: التكبر على المتكبر صدقة {وإن يروا كل آية} أي: منزلة أو معجزة {لا يؤمنوا بها} أي: لعنادهم وتكبرهم {وإن يروا سبيل} أي: طريق {الرشد} أي: الهدى الذي جاء من عند الله {لا يتخذوه سبيلاً} أي: طريقاً يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد بل إن سلكوه فعن غير قصد. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء والشين والباقون بضمّ الراء وسكون الشين {وإن يروا سبيل الغيّ} أي: الضلال {يتخذوه سبيلاً} أي: بغاية الشهوة والتعمد والاعتماد لسلوكه {ذلك} أي: هذا الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرسالة {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي: الدالة على وحدانيتنا {وكانوا عنها غافلين} أي: كان دأبهم وديدنهم معاملتهم إيانا بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم، وعن الفضيل بن عياض ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت عليهم بركة الوحي» . {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} أي: وكذبوا بلقائهم الدار الآخرة التي هي موعد الثواب فهو من إضافة المصدر إلى المفعول به ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الدار الآخرة {حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة فلا ثواب لهم لعدم شرطه {هل} أي: ما {يجزون إلا} جزاء {ما كانوا يعملون} أي: من التكذيب والمعاصي. {واتخذ قوم موسى من بعده} أي: بعد ذهابه إلى المناجاة {من حليهم} أي: الذي استعاروه من القبط بسبب عرس فبقي عندهم. فإن قيل: كيف قال: من حليهم وكان معهم معاراً؟ أجيب: بأنه لما أهلك الله تعالى قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين} (الدخان، الآيات: 25 26 27 28) وقرأ حمزة والكسائي بكسر الحاء والباقون بضمها {عجلاً} أي: صاغه لهم منه السامري وقوله تعالى: {جسداً} بدل منه أي: صار جسداً ذا لحم ودم {له خوار} أي: صوت البقر. روي أنّ السامريّ لما صاغ العجل ألقي في فمه قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فصار حياً له خوار، وقيل: صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح جوفه ويصوت. وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأنّ المراد اتخاذهم إياه إلهاً، وقيل: إنه ما خار إلا مرّة واحدة، وقيل: إنه كان يخور كثيراً فإذا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم، وقال وهب: كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرّك، قال السدي: كان يخور ويمشي. وقوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً} تقريع على فرط ضلالهم وإفراطهم بالنظر لأن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جماداً أو حيواناً ناقصاً عاجزاً وعلى كلا التقديرين لا يصلح أن يعبد، ثم وصفهم الله تعالى بالظلم بقوله: {اتخذوه} أي: العجل إلهاً {وكانوا ظالمين} أي: واضعين الأشياء في غير موضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم ولا أوّل مناكيرهم واختلفوا هل كل قوم موسى عبدوا العجل أو بعضهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 قال الحسن: كلهم عبدوا العجل غير هارون، واحتج عليه بوجهين: الأوّل: عموم هذه الآية، والثاني: قول موسى عليه السلام في هذه القصة: {رب اغفر لي ولأخي} (الأعراف، 151) قال: خص نفسه وأخاه بالدعاء وذلك يدلّ على أنّ من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان ما كان الأمر كذلك، وقال غيره: بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه وإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين والدليل عليه قوله: {ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون} (الأعراف، 159) . {ولما سقط في أيديهم} أي: ولما ندموا على عبادة العجل، تقول العرب لكل نادم على أمر قد سقط في يده، وذلك لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب فخذه فتصير يده ساقطة لأنّ السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل {ورأوا} أي: علموا {أنهم قد ضلوا} عن الطريق الواضح باتخاذ العجل {قالوا} توبة ورجوعاً إلى الله تعالى كما قال أبوهم آدم عليه السلام {لئن لم يرحمنا ربنا} الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فيكف غضبه ويديم إحسانه {ويغفر لنا} أي: يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل {لنكوننّ من الخاسرين} أي: فينتقم منا بذنوبنا وهذا كلام من اعترف بعظيم ما قدم عليه من الذنوب وندم على ما صدر منه ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى عليه السلام إليهم كما قال تعالى: {ولما رجع موسى} أي: من مناجاته {إلى قومه غضبان} أي: من جهتهم {أسفاً} أي: لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأنّ السامريّ قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفاً، قال أبو الدرداء: الأسف أشدّ الغضب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الأسف الحزن والأسيف الحزين، قال الواحدي: والقولان متقاربان لأنّ الغضب من الحزن والحزن من الغضب وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب في يرحمنا ويغفر لنا ونصب ربنا والباقون بالغيبة ورفع الباء {قال} موسى لهم: {بئسما خلفتموني من بعدي} أي: بئس الفعل فعلكم بعد فراقي إياكم وهذا الخطاب يحتمل أن يكون لعبدة العجل من السامري وأتباعه أي: بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله تعالى وأن يكون لهارون والمؤمنين أي: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم. فائدة: اتفقوا على وصل بئسما هنا في الرسم {أعجلتم أمر ربكم} أي: أتركتموه غير تام كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدي تعديته أو أعجلتم أمر ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. روي أن السامريّ قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال: هذا إلهكم وإله موسى إنّ موسى لن يرجع وإنه قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا {وألقى الألواح} أي: ألواح التوراة أي: طرحها من شدّة الغضب وفرط الضجر أي: عند استماعه حديث العجل حمية للدين وكان في نفسه حديداً شديد الغضب. روي أنّ التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها أي: ستة أسباع ما فيها لا ستة أسباعها نفسها لقوله بعد وأخذ الألواح وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع فرفع ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 والحرام قال الرازي: ولقائل أن يقول: ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فإمّا أنه ألقاها بحيث تكسرت فهذا ليس في القرآن وأنه جراءة عظيمة على كتاب الله ومثله لا يليق بالأنبياء {وأخذ برأس أخيه} أي: بشعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله {يجره} أي: أخاه {إليه} غضباً وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى بثلاث سنوات وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ألين منه جانباً ف {قال} هارون عند ذلك {ابن أمّ} قراءة ابن عامر وشعبة والكسائي بكسر الميم وأصله يا ابن أمي فحذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء والباقون بالنصب زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيهاً بخمسة عشر. فإن قيل: هارون وموسى من أب وأمّ فلماذا ناداه بالأمّ فقط؟ أجيب: بأنه إنما ذكرها لأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها ليرققه عليه والطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون: أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستحقاق والمثبتون لعمة الأنبياء يقولون: أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا: جر رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة. فإن قيل: فلماذا قال يا ابن أمّ {إنّ القوم} الذين عبدوا العجل {استضعفوني} أي: إني قد بذلت وسعي في كفهم فاستذلوني وقهروني {وكادوا} أي: قاربوا {يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء} أي: فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله وأصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال: شمت فلان بفلان إذا سرّ بمكروه نزل به أي: لا تسرّ الأعداء بما تنال مني من مكروه فكيف فعل بأخيه ذلك؟ أجيب: بأنّ هارون إنما قال ذلك خوفاً من أن يتوهم جهال بني إسرائيل أنّ موسى غضبان عليه كما هو غضبان على عبدة العجل أي: فلا تفعل بي ما تشمت به أعدائي فهم أعداؤك فإنّ القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} أي: الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم بالمؤاخذة أو بنسبة التقصير ولما اعتذر له أخوه وذكر شماتة الأعداء. {قال رب اغفر لي} أي: ما حملني عليه مما صنعت بأخي {ولأخي} أي: اغفر له ما فرط في كفهم عن عبادة العجل إن كان وقع منه تفريط وضمه إلى نفسه في الاستغفار ترضية له ودفعاً للشماتة عنه {وأدخلنا في رحمتك} أي: بمزيد الإنعام علينا {وأنت أرحم الراحمين} فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا قال الله تعالى: {إنّ الذين اتخذوا العجل} أي: إلهاً يعبدونه من دون الله تعالى فهذا هو المفعول الثاني من مفعولي اتخذوا {سينالهم غضب} أي: عقوبة {من ربهم وذلة في الحياة الدنيا} وهي خروجهم من دارهم، وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأوّل أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين باشروا عبادة العجل. فإن قيل: أولئك تاب الله عليهم بسبب أن قتلوا أنفسهم في معرض التوبة على ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة؟ أجيب: بأنّ ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو استسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ، وقيل: خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب. فإن قيل: السين في قوله: سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي؟ أجيب: بأنّ هذا إنما هو خبر عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله تعالى في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقته وهو القتل الذي أمرهم الله تعالى به بعد ذلك، والطريق الثاني: أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فوصف اليهود الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم باتخاذ العجل وإن كان ما فعل ذلك إلا آباؤهم لأنهم رضوا بفعلهم ولأنّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقب يقولون للأمم: أفعلتم كذا وكذا؟ وإنما فعله من مضى من آبائهم. ثم حكم عليهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا كما قال تعالى في صفتهم: {ضربت عليهم الذلة والمسكنة} (البقرة، 61) {وكذلك} أي: كما جزيناهم {نجزي المفترين} أي: كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله في الآخرة والذلة في الدنيا، قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية لأنّ المبتدع مفتر في دين الله. {والذين عملوا السيئات} أي: عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب حتى الكفر {ثم تابوا} أي: رجعوا عنها إلى الله تعالى {من بعدها} أي: من بعد أعمالهم السيئة {وآمنوا} أي: وصدقوا بالله تعالى بأنه لا إله غيره وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب وإن عظمت {إنّ ربك} أي: يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب {من بعدها} أي: التوبة {لغفور} أي: ستور عليهم محاء لما كان منهم {رحيم} بهم أي: منعم عليهم بالجنة وفي الآية دليل على أنّ السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأنّ الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته فإنّ عفوه وكرمه أعظم وأجل وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين التائبين، وتقدير الآية: أنّ من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله تعالى وأخلص التوبة فإنّ الله يغفرها له ويقبل توبته. {ولما سكت} أي: سكن {عن موسى الغضب} أي: باعتذار هارون وبتوبتهم فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال: رب اغفر لي ولأخي، وفي هذا الكلام استعارتان استعارة بالكناية في الغضب عن الشخص الناطق واستعارة تصريحية أو تخييلية في السكوت عن طفء غضب موسى وسكون هيجانه وغليانه، وقال عكرمة: إنّ المعنى: سكت موسى عن الغضب فقلب كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة {أخذ الألواح} أي: وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه عليه فكذلك أخذ الألواح التي ألقاها منبهاً على زوال غضبه، قال الإمام الرازي: وظاهر هذا يدلّ على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك اه. ومرّت الإشارة إلى ما يدلّ على الجمع بين ما هنا وبين ما مرّ {وفي نسختها} أي: ما نسخ فيها من كتب والنسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتاباً من كتاب حرفاً بحرف فقد نسخت ذلك الكتاب فهو نقلك ما في الأصل إلى الفرع لأن الألواح نسخت من اللوح المحفوظ والنسخة فعلة بمعنى مفعولة كالخطبة، وقيل: إنّ موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسرت صام أربعين يوماً فردّت عليه في لوحين، وعلى قول من قال: إنّ الألواح لم تكسر وأخذها موسى بعينها بعدما ألقاها يكون المعنى: وفي نسختها أي: المكتوب فيها {هدى} أي: بيان للحق {ورحمة} أي: إرشاد إلى الصلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 والخير، وقال ابن عباس: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب {للذين هم لربهم يرهبون} أي: يخافون. فإن قيل: التقدير: الذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله: {لربهم} ؟ أجيب بأوجه: الأوّل: أنّ تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله تعالى: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} (يوسف، 43) الثاني: أنها لام الأجل والمعنى: للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة، الثالث: أنه قد يزاد حرف الجرّ في المفعول وإن كان الفعل متعدّياً كقولك: قرأت السورة وقرأت بالسورة. {واختار موسى قومه} أي: من قومه فحذف الجارّ وأوصل الفعل إليه فنصب يقال اخترت من الرجال زيداً، واخترت الرجال زيداً، وأنشدوا قول الفرزدق: *منا الذي اختير الرجال سماحة ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع* قال أبو علي: والأصل في هذا الباب أنّ في الأفعال ما يتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف الجرّ ثم يتسع فيحذف حرف الجرّ فيتعدّى إلى المفعول الثاني من ذلك قولك: اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال: اخترت الرجال زيداً، وأستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر: *أستغفر الله ذنباً لست محصيه* ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر: *أمرتك الخير فافعل ما أمرت به* قال الرازي: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الخير على ما هو المقصود منه وقوله: {سبعين رجلاً لميقاتنا} عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكر من التكلفات {فلما أخذتهم الرجفة} . روي أنّ الله تعالى أمره أن يأتيه في سبعين رجلاً من بني إسرائيل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا فقال: لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب معه الباقون. روي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج إلى طور سينا لميقات ربه وكان أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه وافعل لا تفعل فلما فرغ من أمره ونهيه وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: له لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي الرجفة فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه {قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل} أي: من قبل خروجهم إلى الميقات {وإياي} معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني إذا رجعت إليهم وما هم معي وعنى بذلك: أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالإنقاذ منهما فإن ترحمت عليهم مرّة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك، وقال وهب: لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 أخذتهم الرجفة حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتدّ عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكا وناشد ربه فكشف الله تعالى عنهم تلك الرجفة واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم وذلك قوله تعالى: {قال} أي: موسى {رب لو شئت أهلكتهم من قبل} أي: من قبل عبادة العجل وإياي بقتلي القبطي {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} أي: عبدة العجل وظنّ موسى أنهم عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل وقال هذا على طريق السؤال، وقال المبرد: هو استفهام استعطاف أي: لا تهلكنا وقد علم موسى عليه السلام أنّ الله تعالى أعظم من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره، وقيل: بما فعل السفهاء من العناد والتجاسر على طلب الرؤية وكان ذلك قاله بعضهم {إن هي} أي: ما هي {إلا فتنتك} قال الواحدي: الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول: إن هو إلا زيد، والمعنى: أنّ تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي: اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله تعالى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} لأنّ معناه لا تهلكنا بفعلهم فإنّ تلك الفتنة كانت اختباراً منك وابتلاء أضللت بها قوماً فافتتنوا بأن أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به وأسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية هديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك فذلك معنى قوله: {تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} ولما أثبت أنّ الكل بيده تعالى استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال: {أنت} أي: وحدك {ولينا} نعتقد أن لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء ونحن على بصيرة من أنّ أفعالك لا تعلل بالأغراض وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرّنا ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك {فاغفر لنا} أي: امح ذنوبنا {وارحمنا} أي: اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء {وأنت خير الغافرين} أي: لأنّ غيرك يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو للثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه وأنت منزه عن ذلك فتغفر السيئة وتبدلها حسنة. أي: أوجب أو أثبت أو اقسم {لنا} أي: في مدّة إحيائك لنا {في هذه الدنيا} أي: الحاضرة والدنية {حسنة} أي: حسن معيشة وتوفيق طاعة {وفي الآخرة} أي: واكتب لنا في الحياة الآخرة حسنة وهي الجنة ثم علل ذلك بقوله: {إنا هدنا} أي: تبنا {إليك} أي: عما لا يليق بجنابك وأصل الهود الرجوع برفق والهود جمع هائد وهو التائب ولبعضهم: *يا راكب الذنب هدهد ... واسجد كأنك هدهد* قال بعضهم: وبه سميت اليهود وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم ثم صار اسم ذم بعد نسخها {قال} الله تعالى لموسى: {عذابي أصيب به من أشاء} من خلقي أذنب أو لم يذنب لا اعتراض علي {ورحمتي وسعت} عمت وشملت {كل شيء} من خلقي في الدنيا ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيحين «إنّ رحمتي سبقت غضبي» وفي رواية «غلبت غضبي» وأمّا في الآخرة فقال تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} الله {ويؤتون الزكاة} وخصها بالذكر لنفعها المتعدّي ولأنها كانت أشق عليهم، قال قتادة: لما نزل {ورحمتي وسعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 كل شيء} قال إبليس: أنا من ذلك الشيء فقال تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة} {والذين هم بآياتنا يؤمنون} ولا يكفرون بشيء منها فأيس إبليس منها وتمناها اليهود والنصارى وقالوا: نحن نتقي ونؤمن بآيات ربنا فأخرجهما الله تعالى بقوله: {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ} وإنما سماه رسولاً بإضافته إلى الله عز وجل لأنه الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه لرسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ونبياً لأنه رفيع الدرجة عند الله ثم وصفه بالأميّ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ وهي صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون أي: الخط والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان كذلك، قال أهل التحقيق: وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه: الأوّل: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فلا بدّ وأن يزيد فيها أو أن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك معجزة وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} (الأعلى، 6) الثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لكان متهماً في أنه ربما طالع كتب الأوّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} (العنكبوت، 48) الثالث: تعلم الخط شيء سهل فإن أقلّ الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق ومع تلك القوّة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات وهذا الاتباع تارة يكون بالقوّة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلى الله عليه وسلم وتارة يخرج من القوّة إلى الفعل كمن لحق زمان دعوته فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك وعرّفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ريب ولا يتعلل في أمره بعلة ولذلك اتبعه. {الذي يجدونه} أي: علماء بني إسرائيل {مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} باسمه ونعته ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسداً منهم له وخوفاً على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله تعالى حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء، انتهى.l شرح غريب ألفاظه: الفظ: السيء الخلق، والغليظ: الجافي القاسي، والسخاب بالسين والصاد: الكثير الصياح، والاعوجاج: ضدّ الاستقامة والملة العوجاء: الكفر، والقلب الأغلف: الذي لا يصل إليه شيء ينفعه كأنه في غلاف. وقوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف} قال الزجاج: يجوز أن يكون استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوباً عندهم إنه يأمرهم بالمعروف قال الرازي: ومجامع المعروف في قوله عليه الصلاة والسلام «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» وذلك لأنّ الموجود إمّا واجب الوجود لذاته وإمّا ممكن لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخشوع والخضوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأنّ الانتفاع مشروط بالحياة ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله ومن حيث إنّ كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إنّ لله سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه برّ الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أنّ قوله صلى الله عليه وسلم «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف {وينهاهم عن المنكر} وهو ضد الأمور المذكورة، وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وبصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر أي: عبادة الأوثان وقطع الأرحام {ويحل لهم الطيبات} أي: ما حرم عليهم في شرعهم كالشحوم {ويحرم عليهم الخبائث} كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة {ويضع عنهم إصرهم} أي: ثقلهم الذي كان يحمل عليهم، وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة الممدودة والصاد وألف بعد الصاد عى الجمع والباقون بكسر الهمزة وسكون الصاد ولا ألف بعدها على التوحيد {والأغلال التي كانت عليهم} أي: ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم من الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة من البدن والثوب بالمقراض وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق كما أنّ اليد لا تمتدّ مع وجود الغل فكذلك لا تمتدّ إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» {فالذين آمنوا به} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم {وعزروه} أي: وقروه وعظموه وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه {ونصروه} على أعدائه {واتبعوا النور الذي أنزل معه} أي: القرآن سمي نوراً لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 اليقين والعلم، وقيل: الهدى والبيان والرسالة، وقيل: الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور. فإن قيل: كيف يمكن حمل النور هنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل مع جبريل عليه السلام؟ أجيب: بأنّ معناه أنه أنزل مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قال: {أولئك هم المفلحون} أي: الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة. ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبيّ الكريم حثاً على الإيمان وإيجاباً له على وجه يعلم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدّم زمانه أو تأخر قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم} الخطاب عام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى كافة الثقلين بل وإلى الملائكة قاله السبكي والبقاعيّ وغيرهما وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وإن خالف في ذلك بعضهم، وأما سائر الرسل فمبعوثون إلى أقوامهم فقط لقوله صلى الله عليه وسلم «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طيبة مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوّي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه وأخبأت شفاعتي لأمتي» . فإن قيل: كان آدم عليه السلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ونوح عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم؟ أجيب: بأنّ ذلك لم يكن لعموم رسالتهما بل للحصر المذكور فليس ذلك من باب عموم الرسالة، وقوله: {جميعاً} حال من إليكم أي: إن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والإتباع لي وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق وتغلغل في كل نفق ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا بحر ولا بر في مشارق الأرض ومغاربها إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائله عنهم يوم القيامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة» ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مستشفعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» ، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر» ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» والفخر ادعاء العظمة والكبر والشرف أي: لا أقول تبجحاً ولكن شكراً وتحدّثاً بالنعمة وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً وأما يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه وما أحال بعض الأكابر على بعض إلا علما منهم بأن الختام يكون به ليكون أظهر للاعتراف بإمامته والانقياد لطاعته لأنّ المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم تظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى كافة الخلق فيظهر سر هذه الآية {الذين يتبعون الرسول} قال البقاعيّ: ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات ما يدل على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجنّ والملائكة أيد ذلك بقوله: {الذي له ملك السموات والأرض} فيكون محله جرّاً على الوصف وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله: {إليكم جميعاً} لأنه متعلق المضاف إليه فهو كالمتقدّم عليه قال الزمخشريّ: والأحسن أن يكون محله نصباً بإضمار أعني وهذا الذي يسمى النصب على المدح، قال البيضاوي: أو مبتدأ خبره {لا إله إلا هو} أي: فالكل منقادون لأمره خاضعون له ثم علل ذلك بقوله: {يحيي ويميت} أي: له هاتان الصفتان مختصاً بهما ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر، قال البقاعيّ: وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أوّل الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة اه. وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس: {إني رسول الله إليكم جميعاً} أمر الله تعالى جميع خلقه بالإيمان به وبرسوله بقوله: {فآمنوا با ورسوله} وذلك أن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عليه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله ثم وصفه تعالى بقوله: {النبيّ الأميّ} وتقدّم معناهما {الذي يؤمن با وكلماته} أي: بما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه وقال قتادة: المراد بكلماته القرآن، وقال مجاهد: عيسى بن مريم لأنه خلق بقوله: كن فكان ولم يكن من نطفة تمنى، ولهذا سمي كلمة الله وقيل: هو الكلمة التي تكون عنها عيسى وجميع خلقه وهي قوله: {كن} {واتبعوه} أي: واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا وترشدوا جعل تعالى رجاء الاهتداء أثر الإيمان والاتباع تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شريعته فهو بعد في خطيئة الضلالة. {ومن قوم موسى} أي: من بني إسرائيل {أمة} أي: جماعة {يهدون بالحق} أي: يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق {وبه} أي: بالحق {يعدلون} أي: يحكمون والمراد بتلك الأمّة الثابتون على الإيمان القائلون بالحق من أهل زمان موسى عليه السلام اتبع ذكر المرتابين الكافرين من بني إسرائيل بذكر أضدادهم كما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشرّ وتزاحم أهل الحق والباطل مستمر وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه {واعترض} بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة، وأجيب: بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى: {إنّ إبراهيم كان أمّة} (النحل، 12) وقيل: إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل عليه السلام: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد النبي الأميّ فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله إنّ موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فردّ محمد على موسى صلى الله عليهما وسلم السلام ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة ولم تكن فريضة نزلت غير الصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت ولا يتظالموا ولا يتحاسدوا ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد قال بعض المحققين: هذا القول ضعيف وإن كان البغوي صححه لوجوه: الأوّل: كونه أقرأهم عشر سور وقد نزل عليه أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضها، الثاني: كون جبريل ذهب إليهم به ليلة الإسراء لم يرد بذلك نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث، الثالث: أنّ أحداً منهم لا يصل إلينا ولا يصل إليهم منا أحد فمن الذي أوصل خبرهم إلينا فثبت بذلك بطلان هذا القول. فإن قيل: إنّ يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم أجيب: بالمنع فمن أين يعرف أنه لم يصل خبرنا إليهم ثم قال: فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون قد نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه. {وقطعناهم} أي: فرقنا بني إسرائيل وقوله تعالى: {اثنتي عشرة} حال وتأنيثه حملاً على الأمة {أسباطاً} بدل منه ولذلك جمع قبائل والأسباط أولاد الولد وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام {أمماً} بدل بعد بدل أو نعت لأسباطاً أي: وقطعناهم أمماً لأنّ كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى لا تكاد تأتلف {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه} أي: حين استسقوه في التيه {أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست} أي: انفجرت والمعنى واحد وهو الانفتاح بسعة وكثرة يقال: بجست الماء فانبجس أي: فجرته فانفجر قاله الجوهري، وعلى هذا التقرير فلا تباين بين الانبجاس المذكور هنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة، وقال آخرون: الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ثم صار كثيراً وهذا الفرق مروي عن عمرو بن العلاء. فإن قيل: هلا قيل: فضربه فانبجست؟ أجيب: بأنه إنما حذف ذلك للإيماء على أن موسى لم يتوقف في الامتثال وإن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته {منه} أي: من الحجر {اثنتا عشرة عيناً} أي: بعدد الأسباط {قد علم كل أناس} أي: كل سبط منهم {مشربهم} أي: لا يدخل سبط على سبط في مشربهم {وظللنا عليهم الغمام} أي: في التيه ليقيهم من حر الشمس {وأنزلنا عليهم المنّ} الترنجبيل {والسلوى} أي: الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جعل الله تعالى ذلك طعاماً لهم في التيه، وقيل: المنّ الخبز والسلوى الإدام، وقال ابن يحيى: السلوى طائر يشبه السماني وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية يموت إذا سمع صوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 الرعد كما أنّ الخطاف يقتله البرد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض {كلوا} أي: وقلنا لهم كلوا {من طيبات ما رزقناكم} مما لم تعالجوه نوع معالجة وقوله تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} فيه حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فامتنعوا من ذلك وسئموه وقالوا: لن نصبر على طعام واحد وسألوه غير ذلك لأنّ المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصياً بفعل ذلك فلهذا قال تعالى: {وما ظلمونا} أي: بفعل شيء مما قابلوا به الإحسان بالكفران ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمخالفتهم ما أمروا به وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة. {وإذ قيل لهم} أي: واذكر يا محمد لقومك إذا قيل لبني إسرائيل {اسكنوا هذه القرية} أي: بيت المقدس {وكلوا منها} أي: من القرية {حيث شئتم وقولوا} أمرنا {حطة وادخلوا الباب} أي: باب القرية {سجداً} أي: سجوداً نحناء وقوله تعالى: {نفغر لكم} قرأه نافع وابن عامر بضم التاء وفتح الفاء على التأنيث والباقون بنون مفتوحة وكسر الفاء وقوله تعالى: {خطاياكم} قرأه نافع بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة وبعد الهمزة تاء مضمومة على الجمع وابن عامر كذلك إلا أنه يقصر الهمزة على التوحيد وأبو عمرو بفتح الخاء والطاء وبعد الطاء ألف بعدها ياء وبعد الياء ألف على وزن قضاياكم والباقون بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة بعدها تاء مكسورة {سنزيد المحسنين} أي: بالطاعة ثواباً. {فبدّل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم} فقالوا حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم أي: أدبارهم {فأرسلنا عليهم رجزاً} أي: عذاباً {من السماء بما كانوا يظلمون} أي: وهذه القصة أيضاً تقدّمت في سورة البقرة لكن ألفاظ هذه الآية تخالف الآية المذكورة في (البقرة، 58) من وجوه: الأوّل: أنه قال هناك: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} وهنا قال: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} والثاني: أنه قال هناك: {فكلوا} بالفاء وقال هنا: {وكلوا} بالواو، والثالث: أنه قال هناك: {رغداً} وأسقطه هنا، والرابع: أنه قال هناك: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} وقال هنا: على التقديم والتأخير، والخامس: أنه قال هناك: {نغفر لكم خطاياكم} وقال هنا: {نغفر لكم خطيئاتكم} والسادس: أنه قال هناك: {وسنزيد المحسنين} وهنا: حذف الواو، والسابع: أنه قال هناك: {فأنزلنا على الذين ظلموا} وقال هنا: {فأرسلنا عليهم} الثامن: أنه قال هناك: {بما كانوا يفسقون} وقال هنا: {بما كانوا يظلمون} ولا منافاة بين هذه الألفاظ المختلفة أمّا الأول: وهو أنه قال هناك: {ادخلوا هذه القرية} وقال هنا: {اسكنوا} فلا منافاة بينهما لأنّ كل ساكن في موضع فلا بدّ من الدخول فيه، وأمّا الثاني: وهو قوله هناك: {فكلوا} بالفاء، وقال هنا: {وكلوا} بالواو فالفرق بينهما أنّ للدخول حالة مقتضية للأكل عقب الدخول فحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلاً متى شاؤوا فظهر الفرق، وأمّا الثالث: وهو أنه ذكر هناك: {رغداً} وأسقطه هنا فلأنّ الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل والأكل مع السكنى والاستمرار ليس كذلك فحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 دخول لفظ رغداً هناك: دون هنا، وأمّا الرابع: وهو قوله هناك: {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} وقال هنا على التقديم والتأخير فلا منافاة في ذلك لأنّ المقصود من ذلك تعظيم أمر الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير، وأمّا الخامس: وهو أنه قال هناك: {خطاياكم} وقال هنا: {خطيئاتكم} فهو إشارة إلى أنّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة أم كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرّع، وأمّا السادس: وهو قوله تعالى هناك: {وسنزيد} بالواو وقال هنا بحذفها فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: ماذا حصل بعد الغفران؟ فقيل: إنه سيزيد المحسنين، وأما السابع: وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما تقدّم من الفرق بين انبجست وانفجرت. وأما الثامن وهو الفرق بين قوله تعالى: {يفسقون} وبين قوله تعالى: {يظلمون} فلأنهم لما ظلموا أنفسهم فيما غيروا وبدّلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله فوصفوا بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين لأنهم خرجوا عن طاعة الله فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين هذا ملخص كلام الرازي رحمه الله تعالى ثم قال: وتمام العلم بذلك عند الله تعالى. {واسألهم} أي: اسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع {عن القرية} أي: عن خبرها وما وقع بأهلها لا سؤال استفهام لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد علم حال هذه القرية بوحي من الله تعالى إليه وإخباره إياه بحالهم وإنما القصد من هذا السؤال تقرير اعتداء اليهود وإقدامهم على الكفر والمعاصي قديماً، وأن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث الآن في زمانه، بل إصرارهم على الكفر كان حاصلاً في قديم الزمان، وفي الإخبار بهده القصة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أمياً لم يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأوّلين ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وأنهم بسبب مخالفتهم لأمر الله تعالى مسخوا قردة، واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطىء البحر، وقال الزهري: هي طبرية الشام، وقيل: مدين والعرب تسمي المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني: رجلين من أهل المدن. {التي كانت حاضرة البحر} أي: مجاورة بحر القلزم على شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} (البقرة، 196) {إذ} أي: حين {يعدون} أي: يعتدون {في السبت} أي: يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد فيه وقد نهوا عنه، وقوله تعالى: {إذ تأتيهم حيتانهم} ظرف ليعدون {يوم سبتهم شرعاً} أي: ظاهرة على الماء كثيرة جمع شارع، وقال الضحاك: متتابعة، وعن الحسن تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض والحيتان السمك وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 والاشتغال بالتعبد، فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله: {يوم سبتهم} معناه يوم تعظيمهم أمر السبت يدل عليه قوله تعالى: {ويوم لا يسبتون} أي: لا يعظمون السبت أي: سائر الأيام {لا تأتيهم} أي: الحيتان ابتلاء من الله تعالى {كذلك} أي: مثل ذلك البلاء الشديد {نبلوهم بما} أي: بسبب ما {كانوا يفسقون} وقوله تعالى: {وإذ} معطوف على إذ قبله {قالت أمة} أي: جماعة {منهم} أي: من أهل القرية لم تصد ولم تنه لمن نهى {لم تعظون قوماً الله مهلكهم} في الدنيا بعذاب من عنده لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ {أو معذبهم عذاباً شديداً} في الآخرة لتماديهم في العصيان {قالوا} أي: الواعظون موعظتنا {معذرة} نعتذر بها {إلى ربكم} أي: لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي فإنّ النهي عن المنكر يجب وإن علم الناهي أن مرتكبه لا يقلع عن معصيته وقيل: إذا علم الناهي حال المنهي وأنّ النهي لا يؤثر فيه سقط النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر أو الجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه كان ذلك عبثاً منك ولم يكن إلا سبباً للتلهي بك {ولعلهم يتقون} أي: وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد؛ إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك. {فلما نسوا} أي: تركوا ترك الناسي {ما ذكروا} أي: وعظوا {به} ولم يرجعوا {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} أي: بالاعتداء ومخالفة أمر الله تعالى {بعذاب بئيس} أي: شديد {بما} أي: بسبب ما {كانوا يفسقون} . روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أسمع الله تعالى يقول: {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} فلا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي، قال عكرمة: فقلت جعلني الله تعالى فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، قالوا: لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم، قال: فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فألبسنيهما، وقال نجت الساكتة، وقال عمار بن زيان: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم، والذين قالوا معذرة، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن. فإن قيل: إنّ ترك الوعظ معصية والنهي أيضاً عنه معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله تعالى: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} ولهذا قال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان. أجيب: بأنّ هذا غير لازم لأنّ النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. {فيما عتوا عما نهوا عنه} قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان أي: فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه وتمرّدوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرّم الله تعالى عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله. {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} أي: صاغرين فكانوها كقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل، 40) وهذا يقتضي أنّ الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى. وروي أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 يوم السبت فابتلوا به وحرّم الله عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً تسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال: إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثاً ثلثاً نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً، وثلثاً قالوا: لم تعظون قوماً؟ وثلثاهم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للناس شأناً فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه ويبكي فيقول: ألم ننهك فيقول برأسه بلى، وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير. واختلفوا في أنّ الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية على شيء من ذلك، وعن الحسن: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة، وعن جابر: بين العبد وبين رزقه حجاب فإن صبر خرج إليه وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدّر له. قال الزمخشريّ: هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله تعالى جعل موعداً والساعة أدهى وأمرّ وقوله تعالى: {وإذا} عطف على واسألهم أي: واذكر لهم حين {تأذن} أي: اعلم {ربك} وأجري مجرى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بجوابه وهو {ليبعثن عليهم} أي: اليهود {إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} أي: بالإهانة والذل وأخذ الجزية منهم فبعث الله تعالى عليهم سليمان وبعده بختنصر فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية، وكانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ولا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر حتى ينزل عيسى بن مريم فإنه لا يقبل الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. فإن قيل: إنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته أخذ الجزية أو الإسلام أجيب: بأنّ شريعته بذلك مغياة بنزول عيسى عليه السلام وقوله تعالى: {إنّ ربك سريع العقاب} أي: لمن أقام على الكفر كهيئة الدليل على أنه يجمع لهم مع ذل الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمراً عليهم في الدنيا والآخرة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وإنه لغفور} أي: لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام {رحيم} بهم. {وقطعناهم} أي: فرقناهم {في الأرض أمماً} أي: فرقاً بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة قط و {أمماً} مفعول ثانٍ أو حال وقوله تعالى: {منهم الصالحون} صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 بالمدينة ونظراؤهم {ومنهم} أي: أناس {دون ذلك} أي: منحطون عن الصلاح فهم كفرتهم وفسقتهم {وبلوناهم} أي: اختبرناهم جميعاً الصالح وغيره {بالحسنات} أي: بالخصب والعافية {والسيآت} أي: بالجور والشدّة {لعلهم يرجعون} أي: كي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيآت يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب. {فخلف من بعدهم} أي: هؤلاء الذين وصفناهم {خلف} والخلف القرن الذي يجيء من بعد وهو بسكون اللام شائع في الشر وبفتحها في الخير يقال: خَلَف صدق بفتح اللام وخلْف سوء بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت: *لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأوّلنا في طاعة الله تابع* وقال لبيد في الذم: *ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب* فحرك اللام والخلف مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع والمراد به الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {ورثوا الكتاب} أي: التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها {يأخذون عرض هذا الأدنى} أي: هذا الشيء الفاني الأدنى أي: الدنيا وما يتمتع به فيها وفي قوله: {هذا الأدنى} تخسيس وتحقير، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب، وإما من دون الحال وسقوطها وقلتها والعرض بالفتح جميع متاع الدنيا كما يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير وجمعه عروض. والمعنى: أنهم يأخذون حطام الدنيا وهو الشيء التافه الخسيس الحقير؛ لأنّ الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنه حرام {و} مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم وإصرارهم عليه {يقولون سيغفر لنا} أي: لا يؤاخذهم الله تعالى بذلك فيتمنون على الله الأمانيّ الباطلة، وعن شدّاد بن أوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» ؛ لأنّ اليهود كانوا يقومون على الذنوب ويقولون: سيغفر لنا، وهذا هو التمني بعينه. وقوله تعالى: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} الواو فيه للحال أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار وقوله تعالى: {ألم يؤخذ} استفهام تقرير {عليهم ميثاق الكتاب} أي: التوراة والإضافة بمعنى في {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} أي: المعلوم شأنه وليس من المعلوم إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وقوله تعالى: {ودرسوا ما فيه} أي: ما في ذلك الميثاق الذي في الكتاب أو الكتاب بتقرير القراءة للحفظ عطف على {ألم يؤخذ} من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و {ألم يؤخذ} اعتراض {والدار الآخرة خير} أي: وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير {للذين يتقون} الله ويخافون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 عقابه {أفلا يعقلون} أي: حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدل ما يسعدهم ويبقى أنّ الدار الآخرة خير، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ويكون المراد الإعلام بتناهي الغضب، والباقون بالياء على الغيبة. {والذين يمسكون بالكتاب} يقال: مسكت بالشيء وتمسكت به وأمسكت به والتمسك بالكتاب العمل بما فيه وإحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه وقرأ شعبة بسكون الميم وتخفيف السين والباقون بفتح الميم وتشديد السين {وأقاموا الصلاة} أي: وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهاً على عظم قدرها وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى وهذه الآية نزلت في الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وقوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر المصلحين} الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي: أجرهم. {وإذ} أي: إذ يا محمد {نتقنا} أي: رفعنا {الجبل فوقهم} أي: من أصله {كأنه ظلة} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال {وظنوا} أي: أيقنوا {أنه واقع بهم} أي: ساقط عليهم بوعد الله بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة. روي أنهم لم يقبلوا أحكام التوراة لعظمها وثقلها فرفع الله تعالى الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم فكان فرسخاً في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعنّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل واحد منهم ساجداً على حاجبه وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، وقوله تعالى: {خذوا} هو على إضمار القول أي: قلنا لهم خذوا أو قائلين خذوا {ما آتيناكم} أي: من الكتاب وقوله تعالى: {بقوّة} أي: بجد وعزم على تحمل مشاقه حال من واوخذوا {واذكروا ما فيه} أي: بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي {لعلكم تتقون} أي: فضائح الأعمال ورذائل الأخلاق {وإذ} أي: واذكر يا محمد حين {أخذ ربك من بني آدم} وقوله تعالى: {من ظهورهم} بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار كما قاله السيوطي، أو بدل بعض كما قاله البيضاوي {ذريّاتهم} أي: بأن أخرج بعضهم من صلب بعض نسلاً بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر، ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً عرفوا به، كما جعل للجبال عقولاً حين خوطبوا بقوله تعالى: {يا جبال أوبي معه والطير} (سبأ، 10) كما جعل تعالى للبعير عقلاً حتى سجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا للشجرة حين سمعت لأمره وانقادت، وكذا للنملة حين قالت: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل، 18) . وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر بألف بعد الياء وكسر التاء على الجمع والباقون بغير ألف وفتح التاء على التوحيد. {وأشهدهم على أنفسهم} قال: {ألست بربكم قالوا بلى} أنت ربنا، وعن مسلم بن يسار الجهني أنه قال: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها فقال: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّية» فقال: خلفت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرّية، فقال: هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 إلى النار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذرّيته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور، وعرضهم على آدم فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: ذرّيتك، فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: يا رب من هذا؟ قال: داود، قال: يا رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين سنة جاءه ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذرّيته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذرّيته، وخطىء فخطئت ذرّيته» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أبصر آدم في ذرّيته قوماً لهم نور، فقال: يا رب من هم؟ فقال: الأنبياء، ورأى واحداً هو أشدّهم نوراً، فقال: يا رب من هو؟ قال: داود، قال: فكم عمره؟ قال: ستون سنة، قال آدم: هو قليل، وكان عمر آدم ألف سنة، فقال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست قد وهبتها من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئاً، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها» . وعن مقاتل أنّ الله تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرّية بيض كهيئة الذرّ تتحرك، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فخرج منه ذرّية سود كهيئة الذرّ، فقال: يا آدم هؤلاء ذرّيتك، ثم قال لهم: ألست بربكم، قالوا: بلى، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، وقال تعالى فيمن نقض العهد الأوّل {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} (الأعراف، 102) وقال بعض المفسرين: إنّ أهل السعادة أقروا طوعاً، وقالوا: بلى، وأهل الشقاوة قالوا بغتة وكرهاً، وذلك معنى قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} (آل عمران، 83) واختلفوا في موضع الميثاق، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ببطن نعمان، وهو واد إلى جنب عرفة، وعنه أيضاً أنه بدهناء من أرض الهند، وهو الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام، وقال الكلبي: بين مكة والطائف. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم} وإنما أخرجه من ظهر آدم؟ أجيب: بأن الله تعالى أخرج ذرّية آدم بعضهم من ظهور بعض على ما يتوالدون فالأبناء من الآباء في الترتيب، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره، فالمخرج من ظهورهم مخرج من ظهره. وقوله: {شهدنا} أي: على أنفسنا بذلك وإنما أشهدهم على أنفسهم كراهة {أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا} التوحيد {غافلين} أي: لعدم الأدلة، فلذلك أشركنا، وقوله تعالى: {أو يقولوا} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 لو لم ترسل إليهم الرسل، عطف على {أن يقولوا} ، وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أي: قبل أن نوجد {وكنا ذرّية من بعدهم} أي: فلم نعرف لنا مربياً غيرهم، فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر، ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} أي: من آبائنا، قال أبو حيان: والمعنى أنّ الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمن العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان: إحداهما: كنا غافلين، والأخرى: كنا تبعاً لأسلافنا، فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا، انتهى. فإن قيل: كيف يكون ذكر الميثاق عليهم حجة فإنهم لما أخرجوا من ظهر آدم ركب فيهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، فلما أعيدوا إلى صلبه بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق؟ أجيب: بأن التذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس، وبذلك قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمتهم الحجة، ولا تسقط الحجة بنسيانهم وعدم حفظهم بعد إخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات. والمقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعدما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال كما قال تعالى: {وكذلك} أي: ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع {نفصل الآيات} أي: كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجنابنا جهلاً لعدم الدليل {ولعلهم يرجعون} أي: عن التقليد واتباع الباطل. {واتل} أي: يا محمد {عليهم} أي: اليهود {نبأ} أي: خبر {الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} أي: خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين سئل أن يدعو على موسى، وأهدي إليه شيء، فدعا فانقلبت عليه، واندلع لسانه على صدره {فاتبعه الشيطان} أي: لحقه وأدركه وصيره لنفسه تابعاً في معصية الله تعالى، فخالف أمر ربه وأطاع الشيطان وهواه {فكان من الغاوين} أي: من الضالين الهالكين. وقصته على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنّ موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إنّ موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله تعالى أن يردّهم عنا، فقال: ويلكم نبيّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما لا تعلمون؟ وأني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي، فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أوامر ربي، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له في المنام: لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد وامرت ربي، وإني نهيت أن أدعو عليهم، فأهدوا إليه هدية، فقبلها وراجعوه فقال: حتى أوامر ربي، فوامر فلم يؤمر بشيء، فقال: قد وامرت ربي فلم يأمرني بشيء، فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى، فلم يزالوا يتضرّعون إليه حتى فتنوه، فافتتن، فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 بني إسرائيل يقال له: حسبان، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت، فنزل عنها وضربها فقامت، فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت، فضربها فأذن الله تعالى لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي؟ ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم؟ فلم ينزجر فخلى الله تعالى سبيل الأتان، فانطلقت به حتى أشرف على جبل حسبان، فجعل يدعو عليهم فلا يدعو بشر إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، فقال: هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهب الآن مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، احملوا النساء وزينوهنّ وأعطوهنّ السلع، ثم أرسلوهنّ إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه، ومروهنّ أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنه إن زنا رجل بواحدة كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حتى أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال: إني لأظنك أن تقول هذه حرام عليك، قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فو الله لا نطيعك، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في الوقت فهلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار وقيل: الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت كان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولاً في ذلك الزمان ورجا أن يكون هو فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وقيل: إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطى ثلاث دعوات مستجابات وكان له امرأة وكان له منها أولاد فقالت له: اجعل لي منها دعوة فقال لها: لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فصارت أجمل النساء في بني إسرائيل فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عنه فغضب ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة وقد عيرنا الناس ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله تعالى فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات كلها وقيل غير ذلك، ويدل للقول الأوّل قوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه} أي: منازل الأبرار {بها} أي: بسبب تلك الآيات {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي: مال إلى الدنيا، قال البيضاوي: أو السفالة، قال الجوهري: السفالة بالضم نقيض العلو، وبالفتح النذالة {واتبع هواه} أي: في آثار الدنيا، واسترضى قومه، وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى، ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيهاً على أنّ المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه، وأنّ عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأنّ السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من هذه الأسباب وسايط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وهذه الآية من أشدّ الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنه بعد أن خص هذا الرجل بآياته، وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين، فصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله تعالى في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم، وإليه الإشارة بقوله: «من ازداد علماً ولم يزدد هدى فلم يزدد من الله إلا بعداً» {فمثله} أي: فصفته التي هي مثل في الخسة {كمثل الكلب} أي: كمثله في أخس أوصافه وهو {إن تحمل عليه} أي: بالطرد والزجر {يلهث} أي: يدلع لسانه {أو} إن {تتركه يلهث} فهو يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك، وليس غيره من الحيوان كذلك، قيل: كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال والراحة؛ لأنّ اللهث طبيعة أصلية فيه، فكذلك حال من كذب بآيات الله إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، وكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه، وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضاً؛ لأنّ الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه» ، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين. وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب {ذلك} أي: المثل {مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} فعم بهذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها، ووجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا بل هم في ضلال على كل حال {فاقصص القصص} أي: فأخبر يا محمد قومك بهذه الأخبار التي سبقت بها مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم {لعلهم يتفكرون} أي: يتدبرون فيها فيؤمنون. {ساء} أي: بئس {مثلاً القوم} أي: مثل القوم {الذين كذبوا بآياتنا} أي: بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها {وأنفسهم كانوا يظلمون} أي: كان ذلك في طبعهم جبلة لهم لا يقدر غير الله تعالى على تغييره، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّاها إلى غيرها. وقوله تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى، وأنّ هداية الله تعالى تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء، والإفراد في الأوّل والجمع في الثاني باعتبار اللفظ والمعنى، تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقتهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإخبار عمن هدى الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للقول بالنعم الآجلة والعنوان له. أي: خلقنا {لجهنم كثيراً من الجنّ والإنس} أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، وهم الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، ومن خلقه الله تعالى للنار فلا حيلة له في الخلاص منها. روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبيّ من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء، ولم يدركه، فقال: أو غير ذلك يا عائشة إنّ الله خلق الجنة، وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم» أخرجه مسلم. قال النووي في «شرح مسلم» : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أنّ من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة؛ لأنه ليس مكلفاً، وتوقف فيه من لا يعتد به لهذا الحديث، وأجاب العلماء عنه بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله نهانا عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عنها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص قوله: أعطه فإني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً، قال بعضهم: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنّ أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم ذلك أخبر به، قال: وأما أطفال المشركين، ففيهم ثلاثة مذاهب، قال الأكثرون: هم في النار تبعاً لآبائهم، وتوقف طائفة منهم، والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون: أنهم من أهل الجنة، واستدلوا بأشياء منها حديث «إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة، وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين، قال: وأولاد المشركين» رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (الإسراء، 15) ولا يتوجه على المولود التكليف، ولا يلزمه قبول قول المرسل حتى يبلغ، وهذا متفق عليه. وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها؛ لأنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، ولا مزيد على بيان الله تعالى؛ ولأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار، فلما عمل بما يوجب عليه دخول النار به علم أنّ له من يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى. وقالت المعتزلة: إن اللام في قوله: {لجهنم} ، لام العاقبة، واستدلوا لذلك بآيات وأشعار، فمن الآيات قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً} (القصص، 8) وهم ما التقطوه لهذا الغرض، ومنها قول موسى: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك} (يونس، 88) ومن الأشعار قول بعضهم: *وللموت تغذ والوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن* وقال آخر: *أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها* وقال آخر: *له ملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب* وقال آخر: *وأمّ شمال فلا تجزعي ... فللموت ما تلد الوالدات* وهذا مردود؛ لأنّ المصير إلى التأويل إنما يحسن إذا ثبت الدليل العقلي على امتناع حمل اللفظ على ظاهره، فإذا لم يثبت كان المصير إلى التأويل في هذا المقام عبثاً، فالحق مذهب أهل الحق جعلنا الله تعالى وأهل مودّتنا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله، ثم وصف الله تعالى هؤلاء الذين أضلهم بقوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها} أي: لا يبصرون بها طريق الحق والهدى {ولهم آذان لا يسمعون بها} أي: الآيات والمواعظ سماع تأمّل وتذكر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وقال أهل المعاني: إنّ الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا، ولهم أعين يبصرون بها المرئيات، وآذان يسمعون بها الكلمات، وهذا لا شك فيه، ولما وصفهم الله تعالى بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدرّاكة علم أنّ المراد من ذلك يرجع إلى مصالح الدين، وما فيه نفعهم في الآخرة، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له، ومنه قوله الشاعر: *وعوراء الكلام صممت عنها ... وإني إن أشاء بها سميع* فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع ولما سلب عنهم هذه المعاني كانت النتيجة {أولئك} أي: البعداء من المعاني الإنسانية {كالأنعام} في أنها لا تفهم ولا تعقل ذلك؛ لأنّ الإنسان وسائر الحيوانات مشتركة في هذه الحواس الثلاث التي هي القلب والبصر والسمع، وإنما فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدّي إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشرّ، فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه كان لا فرق بينه وبين البهائم التي لا تدرك شيئاً، ولما كانوا قد زادوا على ذلك بفقد نفع هذه الحواس قال تعالى: {بل هم أضلّ} سبيلاً من الأنعام؛ لأنّ الأنعام تعرف ما يضرّها وما ينفعها، فإذا رأت ناراً مثلاً لا تقع فيها، وإذا رأت كلأ مثلاً دخلت فيه، والكافر لا يعرف ذلك؛ ولأنّ الحيوان لا قدرة له على تحصيل هذه الفضائل؛ والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخس حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها؛ ولأنّ الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع، ولأنّ الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه؛ ولأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد، فأما إذا كان معها مرشد فقل أن تضل، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب، وهم يزدادون في الضلالة. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {أولئك هم الغافلون} قال عطاء: عما أعدّ الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. {والأسماء الحسنى} ذكر ذلك في أربع سور أوّلها هذه السورة، وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى} (الإسراء، 110) وثالثها في أوّل طه وهو قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} (طه، 8) ورابعها في آخر الحشر في قوله تعالى: {هو الله الخالق البارىء المصوّر له الأسماء الحسنى} (الحشر، 24) والحسنى مؤنث الأحسن كالكبرى والصغرى {فادعوه بها} أي: فسموه بتلك الصفات، وللدعاء شروط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها، ومنها أن يستحضر في قلبه عظمة المدعو سبحانه وتعالى، ومنها أن يخلص إليه في دعائه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر» وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «يا الله يا رحمن» فقال المشركون: إنّ محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله تعالى هذه الآية. والأسماء الحسنى كما في الحديث «الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 البارىء المصوّر الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذلّ السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العليّ الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القويّ المتين الوليّ الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحيّ القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر المقدّم المؤخر الأوّل الآخر الظاهر الباطن الوال المتعال البرّ التوّاب المنتقم العفوّ الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنيّ المغني المانع الضارّ النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» ، رواه الترمذي. قال النووي: اتفق العلماء على أنّ هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه تعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وقوله: «من أحصاها دخل الجنة» المراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في حديث آخر: «أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم: «إنّ لله تعالى ألف اسم» قال ابن العربي: وهذا قليل وقوله صلى الله عليه وسلم «من أحصاها دخل الجنة» قال البخاري: من حفظها، وهو قول أكثر المحققين، وتعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة، وقيل: من أحضر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها، وقوله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله وتر يحب الوتر» الوتر الفرد، ومعناه في وصف الله تعالى: الواحد الذي لا شريك له ولا نظير واختلفوا هل الاسم الأعظم الله أو الحيّ القيوم وهل الاسم عين المسمى أو غيره؟ وفي ذلك خلاف، وقد حققت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة {وذروا} أي: اتركوا {الذين يلحدون} أي: يميلون عن الحق {في أسمائه} أي: حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم كاللات من الله والعزى من العزيز، ومنات من المنان، وقال أهل المعاني: الإلحاد في أسمائه تعالى هو أن تسميه بما لم يسم الله به نفسه، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة؛ لأن أسماءه تعالى كلها توقيفية فيجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا عاقل، ويجوز أن يقال: يا حكيم، ولا يجوز أن يقال: يا طبيب {سيجزون} أي: في الدنيا والآخرة {ما كانوا يعملون} في هذا وعيد شديد لمن ألحد في أسمائه تعالى وهذا قبل الأمر بالقتال، وقرأ حمزة: «يَلحَدون» بفتح الياء والحاء من لحد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد. ولما ذكر سبحانه وتعالى إنه خلق للنار طائفة ضالين مضلين ملحدين عن الحق ذكر أنه خلق للجنة أمة هادين في الحق عادلين في الأمر بقوله تعالى: {وممن خلقنا أمة} أي: جماعة {يهدون بالحق وبه} أي: بالحق خاصة {يعدلون} أي: يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص؛ لأنا وفقناهم فكشفنا عن أبصارهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك، واستدل بذلك على صحة الإجماع؛ لأنّ المراد منه إنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة، وأكثر المفسرين إنهم أمّة محمد صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» رواه الشيخان، وعن معاوية رضي الله تعالى عنه قال وهو يخطب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال من أمّتي أمّة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم، وعن الكلبيّ هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين. {والذين كذبوا بآياتنا} أي: القرآن أو غيره من أهل مكة أو غيرهم {سنستدرجهم} أي: سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستبعاد والاستنزال درجة بعد درجة {من حيث لا يعلمون} أي: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون، وذلك أنّ الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرّة أغفل ما يكونون. وقيل: سنقرّبهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم؛ لأنهم كانوا إذا أتوا بذنب فتح الله تعالى عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا، فيزدادوا بذلك تمادياً في الغيّ والضلالة ويتدرجوا في الذنوب والمعاصي بسبب ترادف النعم يظنون أن تواتر النعم يقرب من الله تعالى، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى فيأخذهم الله تعالى أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهمّ إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} . {وأملي لهم} أي: أمهلهم وأطيل مدّة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة {إنّ كيدي} أي: أخذي {متين} أي: شديد وإنما سماه كيداً؛ لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان. {أو لم يتفكروا} فيعلموا {ما بصاحبهم} محمد صلى الله عليه وسلم {من جنة} أي: جنون. روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم: إنّ صاحبكم لمجنون بات يهوّت إلى الصباح، فنزلت، ومعنى: يهوّت: يصوّت، يقال: هيت به وهوت به أي: صاح قاله الجوهريّ، وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال؛ لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله تعالى وإنذارهم بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر، فعند ذلك نسبوه إلى الجنون، فبرّأه الله تعالى من الجنون بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هو إلا نذير مبين} أي: بين الإنذار بحيث لا يخفى على ناظر {أولم ينظروا} أي: نظر اعتبار واستدلال {في ملكوت السموات والأرض} أي: ملكهما البالغ {وما} أي: وفيما {خلق الله من شيء} أي: غيرهما مما يقع عليه الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدل لهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها؛ ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه، وقوله تعالى: {وأن عسى أن يكون قد اقترب} أي: دنا {أجلهم} عطف على ملكوت، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون ولا يصح أن تكون أن مصدرية خلافاً للبيضاوي قال التفتازانيّ: لأنّ المصدرية لا تدخل الأفعال غير المتصرّفة التي لا مصادر لها، والمعنى أولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها، فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب، فلعل أجلهم قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار، فيجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز والنعيم الدائم {فبأيّ حديث} أي: كتاب {بعده} أي: الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {يؤمنون} أي: يصدّقون، وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ ولا بعد كتابه كتاب؛ لأنه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعده صلى الله عليه وسلم فإن قيل: قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} يدل على أنّ القرآن حادث كما تمسك به بعض المعتزلة أجيب: من جهة أهل السنة: بأنّ ذلك محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حداثتها. ثم ذكر تعالى علة إعراضهم عن الإيمان بقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} بوجه من الوجوه أي: إنّ إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم ولو هداهم لآمنوا {ويذرهم} أي: يتركهم {في طغيانهم} أي: ضلالهم وتماديهم في الكفر {يعمهون} أي: يتردّدون متحيرين لا يهتدون سبيلاً، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: «ونذرهم» بالنون والباقون بالياء، وجزم حمزة والكسائيّ الراء قال سيبويه: إنه عطف على محلّ الفاء وما بعدها من قوله تعالى: {فلا هادي له} ؛ لأنّ موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط، ورفعها الباقون استئنافاً، وهو مقطوع عما قبله. ولما بيّن تعالى التوحيد والنبوّة والقضاء والقدر أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن مبيناً ما اشتمل عليه عامة الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في أشراك الشبه بقوله تعالى: {يسألونك} يا محمد سؤال استهزاء {عن الساعة} أي: عن وقتها، واختلفوا في ذلك السائل، فقال ابن عباس: إنّ قوماً من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبياً كما تقول، فإنا نعلم متى هي، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن وقتادة: إنّ قريشاً قالوا: يا محمد بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟ والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لأنّ حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسميت بالساعة لهذا السبب، أو لأنها على طولها عند الله تعالى كساعة واحدة، وقوله تعالى: {أيان} سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى {مرساها} قال ابن عباس منتهاها والمرسى هنا مصدر بمعنى الإرساء كقوله تعالى: {بسم الله مجراها ومرساها} (هود، 41) أي: إجراؤها وإرساؤها، والإرساء الإثبات يقال: رسا يرسو إذا ثبت قال الله تعالى: {والجبال أرساها} (النازعات، 32) {قل} لهم يا محمد {إنما علمها} أي: متى تكون {عند ربي} أي: لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة إلا الله تعالى استأثر الله تعالى بعلمها، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولهذا لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: متى الساعة، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» قال المحققون: والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون، كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال: {لا يجليها} أي: يظهرها {لوقتها} أي: في وقتها المعين، فاللام بمعنى في وهو أولى من قول البيضاوي إنها للتأقيت {إلا هو} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 أي: لا يقدر على إظهار وقتها المعيّن بالإعلام والإخبار إلا هو {ثقلت} أي: عظمت {في السموات والأرض} أي: ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السموات والأرض، وكل شيء خفي فهو ثقيل شديد، وقال الحسن: إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض، وإنما ثقلت عليهم؛ لأنّ فيها فناءهم وموتهم، وذلك ثقيل على القلوب وقوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} تأكيد أيضاً لما تقدّم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا فجأة على حين غفلة من الخلق. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة والرجل قد رفع الأكلة إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومنّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه» اللقحة بفتح اللام وكسرها الناقة القريبة العهد بالنتاج وقوله: يليط حوضه، ويروى: يلوط حوضه أي: يطينه ويصلحه، يقال: لاط حوطه يليطه ويلوطه إذا طينه، والأكلة بضمّ الهمزة اللقمة. وفي رواية «أنّ الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم بسلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» ، رواه بمعناه الشيخان. {يسألونك} أي: يسألك قومك عن الساعة {كأنك حفيّ عنها} أي: عالم بها من قولهم: أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها، وقيل: الحفي البارّ اللطيف ومنه قوله سبحانه وتعالى: {إنه كان بي حفياً} (مريم، 47) أي: بارّاً لطيفاً مجيب دعائي إذا دعوته أي: يسألونك كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم، وهذا قول الحسن ويؤيده ما روي في تفسيره: أنّ قريشاً قالت لمحمد صلى الله عليه وسلم إنّ بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة. والمعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ فتحفى بهم أي: فتخصهم لأجل قرابتك بتعليم وقتها، وتروي علمها عن غيرهم ولو أخبرت بوقتها لمصلحة علمها الله تعالى في إخبارك به لكنت مبلغه القريب والغريب من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك. وقيل: كأنك حفيّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره أي: إنك تكره السؤال عنها؛ لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ولم يؤته أحداً من خلقه كقوله تعالى: {قل} يا محمد {إنما علمها عند الله} أي: استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا هو. فإن قيل: قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} وقوله تعالى ثانياً: {يسألونك كأنك حفيّ عنها} فيه تكراراً. أجيب: بأنه لا تكرار؛ لأنّ السؤال الأوّل عن وقت قيام الساعة، والثاني عن كنه ثقل الساعة وشدّتها ومهابتها، فلا يلزم التكرار. وقيل: ذكر الثاني للتأكيد ولما جاء به من زيادة قوله: {كأنك حفيّ عنها} وعلى هذا تكرار العلماء الحذاق في كتبهم لا يحلون المكرر من فائدة، ومنهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى. فإن قيل: لم أجاب عن الأوّل بقوله: {إنما علمها عند ربي} وعن الثاني بقوله: {إنما علمها عند الله} ؟ أجيب: بأنّ السؤال الأوّل لما كان واقعاً عن وقت قيام الساعة، والثاني كان واقعاً عن مقدار شدّتها ومهابتها عبر عن الجواب فيه بقوله: علم ذلك عند الله؛ لأنه أعظم أسمائه مهابة وعظمة ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي: لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفيت معرفة علم وقت قيامها المغيب عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 الخلق، وقيل: لا يعلمون أنّ علمها عند الله وإنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه. وروي أنّ أهل مكة قالوا: يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيصة قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت، فأنزل الله تعالى: لهم {لا أملك لنفسي نفعاً} اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه {ولا ضرّاً} أي: ولا أقدر أدفع عن نفسي ضرّاً نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة أو من الأرض الجدبة {إلا ما شاء الله} من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق عصفت ريح في الطريق ففرّت الدواب منها فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيها غيظ للمنافقين وقال صلى الله عليه وسلم «انظروا أين ناقتي» فقال عبد الله بن أبيّ المنافق مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولم يعرف أين ناقته؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنّ ناساً من المنافقين قالوا: كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية {ولو كنت} أي: من ذاتي {أعلم الغيب} أي: جنسه {لاستكثرت} أي: أوجدت لنفسي كثيراً {من الخير وما مسني السوء} أي: ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب واجتناب المضارّ حتى لا يمسني سوء {إن} أي: ما {أنا إلا نذير} بالنار للكافرين {وبشير} بالجنة {لقوم يؤمنون} أي: يصدّقون، وقيل: لقوم يؤمنون متعلق بنذير وبشير؛ لأنهم المنتفعون بهما {هو الذي خلقكم} أي: ولم تكونوا شيئاً {من نفس واحدة} أي: خلقها ابتداء من تراب، وهي آدم عليه السلام {وجعل منها} أي: من جسدها من ضلع من أضلاعها، وقيل: من جنسها لقوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} (الشورى، 11) {زوجها} أي: حوّاء، قالوا: والحكمة في كونها خلقت منه أنّ الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضمّ {ليسكن إليها} أي: ليأنس بها ويطمئن إليها إطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير في يسكن بعد أن أنث في قوله تعالى: {من نفس واحدة} ذهاباً إلى معنى النفس ليناسب تذكير الضمير في قوله تعالى: {فلما تغشاها} أي: جامعها، ولئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى، والأمر بخلافه إزالة لاستيحاشه، فكانت نسبة المؤانسة إليه أولى {حملت حملاً خفيفاً} أي: خف عليها ولم تلق منه ما يلقى الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة {فمرّت به} أي: فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ولم يعقها عن شيء من ذلك لخفته {فلما أثقلت} أي: صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها {دعوا الله} أي: آدم وحوّاء عليهما السلام {ربهما} مقسمين {لئن آتيتنا صالحاً} أي: ولداً سوياً لا عيب فيه {لنكونن من الشاكرين} أي: نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوّزا أن يكون غير سوي لقدرة الله تعالى على كل ما يريد لأنه الفاعل المختار. فائدة: اتفق القراء على إدغام تاء التأنيث الساكنة في الدال. {فلما آتاهما صالحاً} أي: جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوّة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً {جعلا} أي: النوعان من أولادهما الذكور والإناث؛ لأنّ صالحاً صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 والقليل والكثير، فكأنه قيل: فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان {له شركاء} أي: بعضهم أصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم شمساً وبعضهم غير ذلك، وقيل: جعل أولادهما له شركاء {فيما آتاهما} أي: فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون} . {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون} أي: الأصنام. فإن قيل: كيف وحد {يخلق} ، ثم جمع فقال: {وهم يخلقون} ؟ أجيب: بأنّ لفظ ما يقع على الواحد والاثنين والجمع، فوحد بحسب ظاهر اللفظ، وجمع باعتبار المعنى. فإن قيل: كيف جمع الواو والنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس؟ أجيب: بأنه لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع على ما يعتقدونه، وقيل: لما حملت حوّاء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك؟ ولعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك وذكرت لآدم فهُمّا منه، وهو بضمّ الهاء وتشديد الميم من الهم وهو هنا الحزن، ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله على أن يجعله خلقاً مثلك، ويسهل عليك خروجه فسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس حارثاً في الملائكة، ففعلت ولما ولدته سمته عبد الحرث. فإن قيل: قد قال البيضاويّ: وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء، ويحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لآل قصيّ من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصيّ وكان له زوج من جنسها عربية قرشية فطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد شمس وعبد مناف وعبد قصيّ وعبد الدار، ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما اه أجيب: بأنه نظر في ذلك إلى الظاهر وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحرث فإنه يعيش، فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» رواه الحاكم وقال: صحيح، والترمذيّ وقال حسن غريب. وروي عن ابن عباس أنه قال: كانت حواء تلد لآدم فتسميه: عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث، فسمياه فعاش، وجاء في حديث «خدعهما إبليس مرتين: مرّة في الجنة ومرّة في الأرض» ، وهو قول كثير كمجاهد وسعيد بن المسيب وهذا كما قال البغويّ: ليس إشراكاً في العبادة، ولا أنّ الحرث ربهما فإنّ آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ولكن قصد إلى أنّ الحرث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمّه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به إنه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على وجه أنّ الضيف يملكه قال الشاعر: *وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا* وتقول للغير: أنا عبدك، قال الرازي: ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان عبد ودود فلان، وقال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: {إنه ربي} (يوسف، 23) ولم يرد به معبوده كذلك هذا فقوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون} ابتداء كلام، وأريد به إشراك أهل مكة، وقرأ نافع وشعبة: «شركاً» بكسر الشين وسكون الراء وألف منونة بعد الكاف في الوصل وفي الوقف بغير تنوين أي: شركة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 والباقون بضمّ الشين وفتح الراء وبعد الكاف ألف بعدها همزة مفتوحة. فإن قيل: المطاع إبليس فكيف يعير بالجمع؟ أجيب: بأنّ من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين، هذا إن حملت هذه الآية على القصة المشهورة، أمّا إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل. {ولا يستطيعون} أي: الأصنام {لهم} أي: لعابديهم {نصراً} أي: لا تقدر على النصر لمن أطاعها أو عبدها، ولا تضر من عصاها، والمعبود الذي تجب عبادته يكون قادراً على إيصال النفع والضر، وهذه الأصنام ليست كذلك، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها؟ {ولا أنفسهم ينصرون} أي: وهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها مكروهاً، فإنّ من أراد كسرها قدر عليه، وهي لا تقدر على دفعه عنها. والاستفهام للتوبيخ. ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {وإن تدعوهم} أي: المشركين {إلى الهدى} أي: إلى الإسلام {لا يتبعوكم} أي: لأنّ الله تعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلوا الهداية، وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة، والباقون بفتح التاء مشدّدة وكسر الباء الموحدة {سواء عليكم أدعوتموهم} إلى الهدى {أم أنتم صامتون} أي: ساكتون عن دعائهم، فهم في كلا الحالتين لا يؤمنون. وقيل: الضمير في تدعوهم للأصنام أي: إنّ هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع من دعاها إلى خير وهدى، وذلك أنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في شدّة وبلاء تضرّعوا إلى أصنامهم، وإذا لم يكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا فقيل لهم: لا فرق بين دعائكم إلى الأصنام وسكوتكم عنها، فإنها عاجزة في كل حال. {إنّ الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله عباد} أي: مملوكة {أمثالكم} فهي لا تملك ضرّاً ولا نفعاً. فإن قيل: كيف وصفها بأنها عباد مع أنها جماد؟ أجيب: بأنّ المشركين لما ادّعوا أنّ الأصنام تضرّ وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتاً لهم وتوبيخاً ولذلك قال: {فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} في كونها آلهة، ولم يقل: فادعوهنّ فليستجبن، وقال: {إنّ الذين} ، ولم يقل: التي، وبأنّ هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين؛ لأنهم لما نحتوها بصورة الإناسي قال لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم، فلا يستحقون عبادتكم كما إنه لا يستحق بعضكم عبادة بعض، فلم جعلتم أنفسكم عبيداً، وجعلتموها آلهة وأرباباً. ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم بقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها أم} أي: بل الله {لهم أيد يبطشون بها أم} أي: بل الله {لهم أعين يبصرون بها أم} أي: بل الله {لهم آذان يسمعون بها} وهذا الاستفهام إنكاري أي: ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالاً منهم؟ إذ لا يليق بالإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الأرذل، ونظير هذا قول إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} (مريم، 42) وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقال: إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى. أجيب: بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالاً من الصنم؛ لأنّ الإنسان له رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس ألادون جهل، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال {قل ادعوا} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ادعوا {شركاءكم} أي: إلى هلاكي {ثم كيدون} قال الحسن: كانوا يخوّفونه صلى الله عليه وسلم بآلهتهم فقال الله تعالى له: قل لهم ادعوا شركاءكم ثم كيدون أي: ليظهر لكم أنها لا قدرة لها على إيصال المضارّ إليّ بوجه. وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وهشام له فيها وجهان: الإثبات والحذف، وصلاً ووقفاً، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً. ثم تهكم عليهم صلى الله عليه وسلم بقوله: {فلا تنظرون} أي: فأعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم، فإنكم لا تقدرون على ذلك، وعلل عدم قدرتهم على ذلك بقوله: {إنّ وليي الله} الذي يتولى حفظي ونصري هو الله {الذي نزل الكتاب} المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين وهو القرآن {وهو} أي: الله سبحانه {يتولى الصالحين} أي: بنصره وحفظه، فلا يضرهم عداوة من عاداهم، قال ابن عباس: يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه، فمن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه وفي هذا مدح للصالحين، وأنّ من تولاه الله تعالى بحفظه لا يضره شيء، وعن عمر بن عبد العزيز أنه ما كان يدخر لأولاده شيئاً، فقيل له فيه، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه هو الله تعالى، ومن كان الله تعالى له ولياً فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال الله تعالى: {فلن أكون ظهيراً للمجرمين} ومن رده الله تعالى لم أكن مشتغلاً بمهماته {والذين تدعون من دونه} أي: الله {لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون} أي: فكيف أبالي بهم؟ فإن قيل: هذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدّمة فما الفائدة في تكريرها؟ أجيب: بأنّ الأوّل مذكور على جهة التقريع، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل: الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك، فلا تكون صالحة للإلهية {وإن تدعوهم} أي: الأصنام {إلى الهدى لا يسمعوا} دعاءكم {وتراهم} يا محمد {ينظرون إليك} أي: يقابلونك كالناظر {وهم لا يبصرون} لأنهم صوّروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه، وقال الحسن: المراد بهذا المشركون، ومعناه إن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنّ آذانهم قد صمت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون أي: ببصائر قلوبهم. ولما بيّن تعالى أن الله هو الذي يتولاه، وإنّ الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار بين ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس بقوله تعالى: {خذ العفو} أي: اقبل الميسور من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسّس وذلك مثل قبول الاعتذار، ويدخل في ذلك ترك التشديد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضاً التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة، قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران، 159) وقال صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 الشاعر: *خذي العفو مني تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب* وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية: قال عليه الصلاة والسلام: يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: «إنّ الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» {وأمر بالعرف} أي: بالمعروف قال عطاء: بلا إله إلا الله {وأعرض عن الجاهلين} أي: فلا تقابلهم بالسفه، وذلك مثل قوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان، 63) وذلك سلام المتاركة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني بمكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» . قال أبو زيد لما نزل قوله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «كيف يا رب والغضب» فنزل {وإما} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {ينزغنك من الشيطان نزغ} أي: وسوسة وقوله تعالى: {فاستعذ} أي: فاستنجد {با} جواب الشرط وجواب الأمر محذوف أي: يدفعه عنك. تنبيه: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية، وقالوا: لولا أنه يجوز من النبي الإقدام على المعصية والذنب لم يحتج إلى الاستعاذة، وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول إنّ معنى هذا الكلام إن حصل في قلبك نزغ فاستعذ بالله كما أنه تعالى قال: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر، 65) ولم يدل ذلك على أنه أشرك الثاني على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله تعالى قد عصم قلب نبيه صلى الله عليه وسلم من قبولها وثباتها في قلبه وإنما القادح لو قبل صلى الله عليه وسلم وسوسة والآية لا تدل على ذلك. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من إنسان إلا ومعه شيطان» وفي رواية: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي إلا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وفي رواية: «لكنه أسلم بعون الله فلقد أتاني فأخذت بحلقه ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحاً» قال النووي: يروى بفتح الميم وضمها فمن ضمها معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتحها قال معناه: إنّ القرين أسلم أي: صار مسلماً فلا يأمرني إلا بخير الثالث: أنّ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره أي: وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل، 98) {إنه سميع} للقول {عليم} بالفعل، وفي الآية دليل على أنّ الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معنى الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر {إنّ الذين اتقوا إذا مسهم} أي: أصابهم {طيف} أي: شيء ألمّ بهم {من الشيطان تذكروا} عقاب الله وثوابه {فإذا هم مبصرون} الحق من غيره، فيرجعون. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بياء ساكنة بعد الطاء والباقون بألف بعد الطاء بعدها همزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 مكسورة {وإخوانهم} أي: وإخوان الشياطين من الكفار {يمدّونهم} أي: يمدّهم الشياطين {في الغيّ} أي: يزيدونهم في الضلالة بالتزيين والحمل عليها {ثم لا يقصرون} أي: لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها، وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين؛ لأنّ المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر، والكافر مستمرّ في ضلاله لا يتذكر ولا يرعوي {وإذا لم تأتهم} أي: أهل مكة {بآية} أي: مما اقترحوها كقولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} (الإسراء، 90) {قالوا لولا اجتبيتها} أي: هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه، فإنهم كانوا يقولون: إنّ هذا الإفك مفترى، تقول العرب: اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة؟ قال الله تعالى: {قل} : يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات {إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} أي: ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي، فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح. ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة، فكان طلب الزيادة من باب التعنت، فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أوّلها قوله: {هذا بصائر من ربكم} أي: هذا القرآن فيه حجة وبرهان، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان، ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب. وثانيها: {وهدى} أي: وهو هدى. وثالثها: {ورحمة} أي: وهو رحمة {لقوم يؤمنون} . فإن قيل: ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث؟ أجيب: بأنهم متفاوتون في درجات العلوم، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر، وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين، وهم أصحاب حق اليقين، فالقرآن في حق القسم الأوّل، وهم السابقون بصائر، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة. {وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} أي: عن الكلام {لعلكم ترحمون} أي: لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمرتم به من أوامره، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب قوم إلى أنها نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن، وقال قوم: نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام. وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصعات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وقال الكلبي: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، وعن ابن مسعود أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرفوا قال: أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله، وهو قول الحسن والزهري: إن الآية نزلت في القرآن في الصلاة. وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد إنّ الآية نزلت في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة، وقال عمر بن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 العزيز: الإنصات لكل واعظ، وقيل: معناه وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له وأنصتوا، وقيل: معنى فاستمعوا له فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه، قال البغوي: والأوّل أولاها وهو أنها في القراءة في الصلاة لأنّ الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة، قال البيضاوي: وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقاً وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف، اه. أي: مردود بخبر الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» وقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك} عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما، والمراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة الله تعالى جل جلاله؛ لأنّ الذكر باللسان إذا كان عارياً عن ذكر القلب كان عديم الفائدة؛ لأنّ فائدة الذكر حضور القلب وإشعاره عظمة المذكور تعالى، قال الرازي: سمعت بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر أمره أربعين يوماً بالخلوة والتصفية، ثم عند استكمال هذه المدّة وحصول التصفية الكاملة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين، ويقول للمريد: اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم تشوّقه، فاعلم أنّ الله تعالى إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب، اه. وقيل: ذلك أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام من قراءة الفاتحة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى {تضرعاً} أي: تذللاً {وخيفة} أي: خوفاً منه. فائدة: إنما قال تعالى: {واذكر ربك} ولم يقل: واذكر إلهك ولا غيره من الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه رباً، وأضاف نفسه إليه، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان، والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً مسروراً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم، لأنّ لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام إنعام الله تعالى عليه، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامه كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها} (إبراهيم، 34) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء، فإذا سمع بعد ذلك قوله: {تضرعاً وخيفة} عظم الخوف وحينئذٍ يحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف، وعنده يكمل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» وهذا جرى عليه بعضهم في حالة الصحة، فيكون الخوف والرجاء مستويان. والذي جرى عليه الغزالي وهو التحقيق أنه إن قوي رجاؤه يقوى جانب الخوف والعكس بالعكس، وأما حال المرض فيكون جانب الرجاء أرجح، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: «كيف تجدك» ؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يجتمعان في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف» {ودون الجهر من القول} أي: ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر أي: قصداً بينهما، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص {بالغدوّ} جمع غدوة، وقيل: إنه مصدر {والآصال} جمع أصيل، وهو ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو آخر الموت إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 اليقظة التي هي كالحياة فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أوّل أعماله ذكر الله تعالى، وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب الذكر؛ لأنها حالة تشبه الموت، ولعله لا يقوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله تعالى، وهو المراد من قوله تعالى: {ولا تكن من الغافلين} عن ذكر الله. وقيل: إنما خصا بالذكر؛ لأنّ الصلاة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر مكروهة، واستحب للعبد أن يذكر الله تعالى فيهما ليكون في جميع أوقاته مشتغلاً بما يقرّبه إلى الله تعالى من صلاة وذكر، وقيل: إنّ أعمال العباد تصعد أوّل النهار وآخره، فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب، فاستحب له الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله بالذكر وختامه بالذكر. {إنّ الذين عند ربك} أي: الملائكة المقرّبين بالفضل والكرامة {لا يستكبرون} أي: لا يتكبرون {عن عبادته} لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه {ويسبحونه} أي: وينزهونه عن جميع النقائص، ويقولون: سبحان الله ربنا {وله يسجدون} أي: ويخضعون له بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأعمال تنقسم إلى قسمين: أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فأعمال القلوب هي تنزيه الله تعالى عن كل ما سواه، وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله: {ويسبحونه} وعبر عن أعمال الجوارح بقوله: {وله يسجدون} ليوافق الملائكة المقرّبين في عبادتهم، وعن معدان قال: سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: حدّثني حديثاً ينفعني الله به قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة» ، وفي رواية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته في غير وقت صلاة» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو: «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة» حديث موضوع. سورة الأنفال مدنية وقيل: إلا {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآيات السبع فمكية، وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانون حرفاً. {بسم الله} الذي له العظمة الظاهرة والحكمة الباهرة {الرحمن} الذي عم جميع خلقه بنعمه المتواترة {الرحيم} الذي خص من أراد من عباده بما يرضيه فكان حامده وشاكره. {يسألونك} يا أشرف الخلق يا محمد {عن الأنفال} أي: الغنائم لمن هي؟ وكيف مصرفها؟ وإنما سميت الغنيمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 نفلاً؛ لأنها عطية من الله تعالى وفضل منه كما يسمى به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه {قل} يا محمد لهم {الأنفال والرسول} يجعلانها حيث شاءا وأكثر المفسرين أن سبب نزولها اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم؟ فقال الشبان: هي لنا؛ لأنا باشرنا القتال، وقال الشيوخ: كنا ردأً لكم ولو انكشفتم لفئتم إلينا، فنزلت، وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غنا ـ وهو بفتح الغين المعجمة والمد النفع ـ أن ينفله فسار شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، ثم طلبوا نفلهم، وكان المال قليلاً، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردأ أي: عوناً لكم وفئة تنحازون إلينا، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، رواه الحاكم في المستدرك، وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا معاشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح ذات البين، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إنه قال: لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير، وقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال: هذا ليس لي ولا لك اطرحه في القبض، وهو بفتحتين: ما قبض من الغنائم فطرحته، وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلاً حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي اذهب فخذه» وقيل: إنها نزلت فيما يصل من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع، فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء. واختلفوا هل هذه الآية منسوخة أو لا؟ فقال مجاهد وعكرمة: هي منسوخة بقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه وللرسول} (الأنفال، 41) الآية فكانت الغنائم يومئذٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنسخها الله تعالى بالخمس، وقال بعضهم: هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراماً على الأمم الذين من قبلنا في شرائع أنبيائهم، وأباحها الله تعالى بهذه الآية لهذه الأمة، وجعلها ناسخة لشرع من قبلنا، ثم نسخت بآية الخمس، وقال عبد الله بن زيد بن أسلم: هي ثابتة غير منسوخة، ومعنى الآية: قل الأنفال لله وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى، وقد بيّن الله تعالى مصارفها في قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه} الآية. فإن قيل: ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول؟ أجيب: بأنّ معناه أن حكم الغنيمة مختص بالله ورسوله بأمر الله يقسمها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى فيها وليس الأمر في قسمها مفوّضاً إلى رأي أحد {فاتقوا الله} بطاعته، واتركوا مخالفته واتركوا المخاصمة والمنازعة في الغنائم {وأصلحوا ذات بينكم} أي: وأصلحوا الحال فيما بينكم بالمودّة وترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله {وأطيعوا الله ورسوله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه {إن كنتم مؤمنين} حقاً، فإنّ الإيمان يقتضي ذلك. {إنما المؤمنون} أي: الكاملون في الإيمان {الذين إذا ذكر الله} أي: وعيده {وجلت} أي: خافت وخضعت ورقت {قلوبهم} أي: أنّ المؤمن إنما يكون مؤمناً كاملاً إذا كان خائفاً من الله تعالى، ونظيره قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 تعالى: {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} (المعارج، 27) وقوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} (المؤمنون، 2) . فإن قيل: إنه تعالى قال هنا: {وجلت قلوبهم} وفي آية أخرى {وتطمئن قلوبهم بذكر الله} (الرعد، 28) فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: بأنه لا منافاة بينهما؛ لأنّ الوجل هو خوف العقاب، والاطمئنان إنما يكون من اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، وهذا مقام الخوف والرجاء، وقد اجتمعا في آية واحدة وهي قوله تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ريهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} (الزمر، 23) عند رجاء ثواب الله. قال أهل التحقيق: الخوف على قسمين: خوف العقاب وهو خوف العصاة، وخوف الجلال والعظمة، وهو خوف الخواص؛ لأنه تعالى غني بذاته عن كل الموجودات وما سواه من المخلوقات محتاجون إليه، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني هابه وخافه، وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة وذلك الخوف، وأما العصاة فيخافون عقابه، والمؤمن إذا ذكر الله وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} أي: تصديقاً ويقيناً؛ لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين: الوجه الأوّل: وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي إن كل من كانت عنده الدلائل أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً؛ لأنّ عند حصول كثرة الدلائل وقوّتها يزول الشك ويقوى اليقين، فتكون معرفته بالله أقوى، فيزداد إيمانه، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح» . الوجه الثاني: وهو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله، ولما كانت التكاليف متوالية في زمنه صلى الله عليه وسلم فكلما تجدد تكليف كانوا يزدادون تصديقاً وإقراراً، ومن المعلوم أن من صدّق إنساناً في شيئين كان أكثر ممن يصدّقه في شيء واحد، فقوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} معناه: أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد، فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق. فإن قيل: إن تلك الآيات لا توجب الزيادة وإنما الموجب هو سماعها أو معرفتها أجيب: بأن ذلك هو المراد من الآية، واختلفوا هل الإيمان يقبل الزيادة والنقصان أو لا؟ فالذين قالوا: إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا: لا يقبل الزيادة ولا النقصان، والذين قالوا: إنه مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل قالوا: يقبل الزيادة والنقصان، واحتجوا بهذه الآية من وجهين: الأوّل: أنّ قوله تعالى: {زادتهم إيماناً} يدل على أنّ الإيمان يقبل الزيادة، ولو كان عبارة عن التصديق فقط لما قبل الزيادة، وإذا قبل الزيادة فقد قبل النقص. الوجه الثاني: أنه تعالى ذكر في هذه الآية أوصافاً متعدّدة من أحوال المؤمنين، ثم قال بعد ذلك: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وذلك يدل على أنّ تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» ففي الحديث دليل على أنّ للإيمان أدنى وأعلى، فيكون قابلاً للزيادة والنقص، وقال عمير بن حبيب: إن للإيمان زيادة ونقصاناً، قيل له: فما زيادته وما نقصانه فقال: إذا ذكرنا الله وحمدناه، فذلك زيادته، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 للإيمان فرائض وشرائط وحدوداً وسنناً فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، ثم وصف الله تعالى المؤمنين الكاملين بصفة أخرى ثالثة، وهي الاتكال عليه بقوله تعالى: {وعلى ربهم يتوكلون} أي: يفوّضون جميع أمورهم إليه لا يرجون غيره، ولا يخافون سواه؛ لأنّ المؤمن إذا كان واثقاً بوعد الله تعالى ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره، وهذا الحال مرتبة عالية ودرجة شريفة، وهي أنّ الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، وهذه الصفات الثلاث مرتبة على أحسن صفات الترتيب، فإنّ المرتبة الأولى هي الوجل عند ذكر الله، والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات تكاليفه، والمرتبة الأخيرة الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله، ثم إنّ هذه المراتب الثلاث أحوال معتبرة في القلوب والبواطن، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر فقال: {الذين يقيمون الصلاة} أي: الذين يؤدّونها بحقوقها {ومما رزقناهم} أي: أعطيناهم {ينفقون} في طاعة الله؛ لأنّ رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، ويدخل في ذلك صلاة الفرض والنفل والزكاة والصدقات والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر، ثم قال تعالى: {أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفات الخمسة {هم المؤمنون حقاً} لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ومحاسن أفعال الجوارح التي المعيار عليها، وهي الصلاة والصدقة و {حقاً} مصدر مؤكد للجملة التي هي {أولئك هم المؤمنون} كقوله: هو عبد الله حقاً، أي: أحق ذلك حقاً. تنبيه: اختلف العلماء في أنه هل للشخص أن يقول: أنا مؤمن حقاً، أو لا؟ فقال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه: الأولى أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، ولا يقول: أنا مؤمن حقاً، وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: الأولى أن يقول: أنا مؤمن حقاً، ولا يجوز أن يقول: إن شاء الله تعالى، واستدل للأوّل بوجوه: الأوّل أن قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ليس على سبيل الشك، ولكن الشخص إذا قال: أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب، فإذا قال: إن شاء الله تعالى زال ذلك العجب، وحصل الانكسار له. الثاني إنّ الله تعالى ذكر في أوّل الآية ما يدل على الحصر وهو قوله تعالى: {إنما المؤمنون هم} كذا وكذا وكلمة إنما تفيد الحصر، وذكر في آخر الآية قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وهذا أيضاً يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إنّ الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، فكان الأولى له أن يقول: إن شاء الله تعالى، وعن الحسن أنّ رجلاً سأله: أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن بها، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية فلا أدري أنا منهم أم لا؟ وقال سفيان الثورّي: من زعم أنه مؤمن حقاً عند الله، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية، وهذا إلزام منه أي: كما لا نقطع أنه من أهل الجنة قطعاً، فلا نقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 أنه مؤمن حقاً. الثالث: أنّ قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى للتبرّك، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع العلم القطعيّ بأنه لاحق بأهل القبور. الرابع: أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا إذا ختم له بالإيمان، ومات عليه، وهذا لا يحصل إلا عند الموت، فلهذا السبب حسن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة. الخامس: أنّ ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} (الفتح، 27) وهو تعالى منزه عن الشك والريب، فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده فالأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله تعالى حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان، واستدلّ الثاني بوجهين: الأول: أنّ المتحرك يجوز أن يقول: أنا متحرّك، ولا يجوز أن يقول أنا متحرّك إن شاء الله تعالى، وكذا في القول في القائم والقاعد فكذا هنا. الثاني: أنه تعالى قال: {أولئك هم المؤمنون حقاً} فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقاً، فكان قوله: إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله تعالى لهم به، وذلك لا يجوز، وأجاب الأوّل عن قولهم: المتحرّك لا يجوز أن يقول: أنا متحرك إن شاء الله تعالى بالفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً إذ الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة، والحركة فعل للإنسان نفسي، فحصل الفرق بينهما، وعن قولهم: إنه تعالى قال: {أولئك هم المؤمنون حقاً} فحكم لهم بكونهم مؤمنين حقاً إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة على الحقيقة، ونحن لا نعلم ذلك، فثبت حينئذ أنّ الصواب مع أصحاب القول الأوّل: {لهم} أي: للموصوفين بتلك الصفات {درجات} أي: منازل في الجنة {عند ربهم} بعضها أعلى من بعض؛ لأنّ المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ بتلك الأوصاف المذكورة، فلهذا تتفاوت منازلهم في الجنة على قدر أعمالهم. قال عطاء: درجات الجنة يرتفعون فيها بأعمالهم، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام» ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مائة درجة لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهنّ لوسعتهم» {ومغفرة} أي: لما فرط منهم {ورزق كريم} أعدّ لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده. فإن قيل: أليس المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل، وحرمانه منها فإنه يتألم قلبه ويتنغص عيشه وذلك يحيل كون الثواب رزقاً حسناً؟ أجيب: بأنّ استغراق كل أحد في سعادته الحاضرة تمنعه من حصول النظر إلى غيره، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم، وقوله تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج واختلفوا في تقدير ذلك، فقال المبرد: تقديره الأنفال لله والرسول وإن كرهوا كما أخرجك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له. قال الرازي: وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وقال عكرمة: تقديره فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإنّ ذلك خير لكم كما أنّ إخراج محمد من بيته خير لكم، وإن كرهه فريق منكم، وقال الكسائيّ: الكاف متعلق بما بعده، وهو قوله: {يجادلونك في الحق} ، والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه، وقيل: الكاف بمعنى على تقديره امض على الذي أخرجك ربك، وقيل: الكاف بمعنى إذ تقديره واذكر إذ أخرجك ربك من بيتك بالحق {وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون} الخروج والجملة حال من كاف أخرجك، وقيل: كما خبر مبتدأ محذوف أي: هذه الحالة في كراهتهم لها مثل إخراجك في حال كراهتهم، وقد كان خيراً لهم، فكذلك هذه أيضاً، وذلك أنّ أبا سفيان قدم بعير من الشام في أربعين راكباً منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهريّ، وفيها تجارة كثيرة، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم لقيّ العير لكثرة المال وقلة العدوّ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أنّ محمداً وأصحابه قد خرجوا لعيرهم، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة، وكانت عاتكة أخت العباس بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رأت رؤيا فقالت لأخيها العباس: إني رأيت عجباً رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس قد اجتمعوا عليه، ورأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها ورمى أي: رمى بها إلى فوق فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة، فقال العباس: اكتميها فلا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان صديقاً له، فذكرها له واستكتمه فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش، قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا قال: فلما فرغت من طوافي أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه الفتنة فيكم؟ قلت: وما ذاك، قال: الرؤيا التي رأت عاتكة، قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث فنتربص بكم الثلاث فإن بك ما قالت حقاً فسيكون وإن تمض الثلاث، ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب، قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير أمر إلا أني جحدت ذلك وأنكرته أن لا تكون عاتكة رأت شيئاً، ثم تفرقنا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت، قال: قلت: والله ما كان مني إليه من شيء وأيم الله تعالى لأتعرّضن له فإن عاد لأكفينكنه، قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أنّ قد فاتني منه أمر أحبّ أن أدركه منه قال: فدخلت المسجد، فرأيته قال: فوالله إني لأمشي نحوه لأتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان أبو جهل رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ قال: قلت: ماله لعنه الله أكان هذا فرقاً مني أن أشاتمه قال: فإذا هو سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد حوّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 رحله وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش هذه أموالكم مع أبي سفيان، وقد عرض لها محمد وأصحابه، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء، وهو بالمدّ: الإسراع منصوب على الإغراء أي: الزموا الإسراع على كل صعب وذلول أي: أسرعوا مجتمعين ولا تقفنّ لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل لا في العير ولا في النفير فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس، فقال: والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير فإنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر، وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة، ونزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريشاً، فاستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: ما تقولون؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم، وقال: إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدّو فقام عند غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا الكلام وأمالاه إلى المضيّ إلى العدوّ، ثم قام سعد بن عبادة، فقال: انظر أمرك فاقض فوالله لو سرت إلى عدن أبين، وهي مدينة معروفة باليمن، وأبين بوزن أبيض اسم رجل من حمير عدن بها أي: أقام، ما تخلف عنك رجل من الأنصار. ثم قال المقداد بن عمرو: يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» وهو يريد الأنصار؛ لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل» ، قال: قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالله الذي بعثك بالحق نبياً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدوّنا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعلّ الله تعالى يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد رضي الله عنه، قال: سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدّثه عن أهل بدر قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى» قال عمر فوالذي بعثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 بالحق نبياً ما أخطأ الحدود التي حدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً» فقال عمر: كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها، فقال: «ما أنتم أسمع لما أقول لهم منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئاً» . وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه أي: قيده وكان العباس حينئذ مأسوراً مقيداً لا يصلح، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لم؟ قال: لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكانت الكراهة من بعضهم لقوله تعالى: {وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون} . {يجادلونك في الحق} أي: القتال {بعدما تبين} إنك لا تصنع شيئاً إلا بأمر ربك {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} إليه أي: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك أنّ المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك، وقالوا: لم يعلمنا أنا نلقى العدوّ فنستعد للقائهم، وإنما خرجنا لطلب العير، إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان، وفيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم. {وإذ} أي: واذكر إذ {يعدكم الله إحدى الطائفتين} أي: العير أو النفير، وإحدى ثاني مفعولي «يعدكم» وقد أبدل منها {أنها لكم} بدل اشتمال {وتودّون} أي: تريدون {أن غير ذات الشوكة} أي: القوة والشدة والسلاح وهي العير {تكون لكم} لقلة عددها وعددها إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً بخلاف النفير لكثرة عددهم وعددهم. وقرأ أبو عمرو بادغام التاء في التاء بخلاف عنه {ويريد الله أن يحق الحق} أي: يظهره {بكلماته} أي: بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر {ويقطع دابر الكافرين} أي: يستأصلهم، والمعنى أنكم تريدون أن تصيبوا مالاً، ولا تلقوا مكروهاً والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين {ليحق الحق} أي: يثبت الإسلام {ويبطل الباطل} أي: يمحق الكفر {ولو كره المجرمون} أي: المشركون ذلك. فإن قيل: قوله تعالى: {ليحق الحق} بعد قوله: {أن يحق الحق} يشبه التكرار أجيب: بأنّ المعنيين متباينان وذلك أنّ الأوّل لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة على غيرها ونصره عليها. {إذ} أي: واذكر إذ {تستغيثون ربكم} واستغاثتهم أنهم لما عملوا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون ربنا انصرنا على عدوّك أغثنا يا غياث المستغيثين. وعن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمئة أي وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء، والباقون بالإدغام، {فاستجاب لكم أني} أي: بأني فحذف الجارّ وسلط عليه استجاب فغصب محله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 {ممدّكم بألف من الملائكة مردفين} أي: متتابعين يردف بعضهم بعضاً، وقرأ نافع بفتح الدال، وقيل: بالفتح والكسر، والباقون بالكسر، وعدهم بالألف أوّلاً، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف كما في آل عمران، فقيل: نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وميكائيل عليه السلام على الميسرة، وفيها عليّ رضي الله تعالى عنه في صور الرجال عليهم عمائم بيض وثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، فقاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين. وروي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم. وروي أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتدّ في طلب رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقياً وشق وجهه، فحدّث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت ذاك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين» ، وعن أبي داود المازنيّ تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: «قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف» . وقيل: إنهم لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح عليه السلام بصيحة واحدة، وقيل: يدلّ على هذا قوله تعالى: {وما جعله الله إلا بشرى} لكم أي: وما جعل الإرداف بالملائكة إلا بشرى لكم {ولتطمئن به قلوبكم} فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم، والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا فيما سواه لما تقدّم {وما النصر إلا من عند الله} أي: لا من عند غيره، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها فهي وسايط لا تأثير لها، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة. {إنّ الله عزيز} أي: إنه تعالى قويّ منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كلّ شيء ويغلبه {حكيم} في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده. {إذ} أي: واذكر إذ {يغشاكم النعاس} وهو النوم الخفيف {أمنة} أي: أمناً مما حصل لكم من الخوف من عدوّكم {منه} أي: من الله تعالى؛ لأنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عددهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم، وعطشوا عطشاً شديداً ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش، وتمكنوا من قتال عدوّهم كان ذلك النوم نعمة في حقهم؛ لأنه كان خفيفاً بحيث لو قصدهم العدوّ لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: النعاس في القتال أمنة من الله تعالى، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الشين مخففة وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والشين مع التخفيف فيهما، والباقون بضم الياء وكسر الشين مشدّدة، ورفع السين من النعاس ابن كثير وأبو عمرو ونصبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الباقون على أن الله تعالى هو الفاعل {وينزل عليكم من السماء ماء} أي: مطراً {ليطهركم به} أي: من الأحداث والجنابات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، وذلك أنّ المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، فناموا فاحتلم أكثرهم، وكان المشركون قد سبقوهم على ماء بدر، فنزلوا عليه وأصبح المسلمون على غير ماء وبعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم العطش، فوسوس إليهم الشيطان، أو قال لهم المنافقون: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأنتم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين، فكيف ترجون أن تظهروا على عدوّكم وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة؟ فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله تعالى مطراً أسال منه الوادي، فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضؤوا وسقوا الدواب وملؤوا الأسقية وطفىء الغبار وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك، وكان دليلاً على حصول النصر والظفر وزالت عنهم وسوسة الشيطان كما قال تعالى: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي: وسوسة الشيطان التي ألقاها في قلوبكم، وقيل: الجنابة؛ لأنها من تخييله. فإن قيل: يلزم على هذا التكرار فإنّ هذا تقدّم في قوله تعالى: {ليطهركم به} وأجيب عنه: بأنّ المراد من قوله تعالى: {ليطهركم به} حصول الطهارة الشرعية ومن قوله تعالى {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أن الرجز هو عين المنيّ، فإنه شيء مستخبث، وطابت أنفسهم كما قال تعالى: {وليربط} أي: يحبس {على قلوبكم} باليقين والصبر ولبدت الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام كما قال تعالى: {ويثبت به الأقدام} أي: أن تسوخ في الرمل، والضمير في «به» للماء ويجوز كما قال الزمخشريّ أن يكون للربط؛ لأنّ القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت الأقدام في مواطن القتال وقوله تعالى: {إذ يوحي ربك} متعلق بيثبت أو بدل من «إذ يعدكم» {إلى الملائكة} أي: الذين أمدّ بهم المسلمين وقوله تعالى: {إني} أي بأني {معكم} أي: بالعون والنصرة مفعول يوحي {فثبتوا الذين آمنوا} أي: قوّوا قلوبهم بأن تقاتلوا المشركين معهم، وقيل: بالتبشير والإعانة، فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف ويقول: أبشروا فإنّ الله تعالى ناصركم عليهم فإنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه، وقيل: بإلقاء الإلهام في قلوبهم كما أنّ للشيطان قوّة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر ويسمى ما يلقيه الشيطان وسوسة وما يلقيه الملك إلهاماً. ثم بين تعالى المعية بقوله تعالى: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} أي: الخوف فلا يكون لهم ثبات وكان ذلك نعمة من الله تعالى على المؤمنين حيث ألقى الخوف في قلوب المشركين، وقرأ ابن عامر والكسائي برفع العين، والباقون بالسكون وقوله تعالى: {فاضربوا} خطاب للمؤمنين وللملائكة {فوق الأعناق} أي: أعاليها التي هي المذابح والمفاصل والرؤوس، فإنها فوق الأعناق وقيل: المراد الأعناق، وفوق صلة، أو بمعنى على أي: اضربوا على الأعناق {واضربوا منهم كل بنان} قال ابن عطية: يعني: كل مفصل، وقال ابن عباس: يعني: الأطراف، والبنان جمع بنانة وهي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وقال ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 الأنباري: كانت الملائكة لا تعلم كيف تقاتل بني آدم فعلمهم الله تعالى: قيل: إنما خصت الرأس والبنان بالذكر؛ لأنّ الرأس أعلى الجسد وأشرف الأعضاء، والبنان أضعف الأعضاء، فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد. وقيل: أمرهم بضرب الرأس وبه هلاك الإنسان وبضرب البنان وبه تبطل حركته عن القتال؛ لأنّ بالبنان يتمكن من مسك السيف والسلاح وحمله والضرب به فإذا قطع بنانه تعطل ذلك كله. {ذلك} أي: التسليط العظيم الذي وقع من القتل والأسر يوم بدر، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد {بأنهم} أي: الذين تلبسوا بالكفر {شاقوا الله} الذي لا يطاق انتقامه {ورسوله} أي: خالفوهما في الأوامر والنواهي والمشاقة المخالفة وأصلها المجانبة كأنهم صاروا في شق وجانب غير الذي يرضيانه {ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب} له فإنّ الذي أصابهم في ذلك اليوم من الأسر والقتل شيء قليل في جنب ما أعدّ الله تعالى لهم من العقاب يوم القيامة، وقوله تعالى: {ذلكم} خطاب للكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في شاقوا أي: ذلكم الذي عجل لكم ببدر من القتل والأسر {فذوقوه} عاجلاً {وأنّ للكافرين} آجلاً في الآخرة {عذاب النار} ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أنّ الكفر سبب للعاجل والآجل. {يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً} أي: مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون أي: يدبون دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً سمي به، وجمع على زحوف، وانتصابه على الحال وهو مصدر موصوف به كالعدل والرضا ولذلك لم يجمع {فلا تولوهم الأدبار} أي: منهزمين منهم وإن كنتم أقل منهم. {ومن يولهم يومئذٍ} أي: يوم لقائهم {دبره} أي: يجعل ظهره إليهم منهزماً {إلا متحرفاً} أي: منعطفاً {لقتال} بأن يريهم أنه منهزم خداعاً ثم يكر عليهم وهو باب من مكايد الحرب {أو متحيزاً} منضماً وصائراً {إلى فئة} أي: جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها على القرب يستنجد بها. ومنهم من لا يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرّوا إلى المدينة فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون، فقال: «بل أنتم العكارون» وفي رواية «الكرارون» أي: المتعاطفون إلى الحرب، وأنا فئتكم. وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر: أنا فئتك {فقد باء} أي: رجع {بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} أي: المرجع هي، وعن ابن عباس أنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر هذا إذا لم يزد العدد على الضعف لقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً} (الأنفال، 66) وقيل: هذا في أهل بدر خاصة؛ لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان معهم قاله مجاهد. ولما انصرف المسلمون من قتال بدر كان الرجل يقول: أنا قتلت فلاناً، ويقول الآخر: أنا قتلت فلاناً، فنزل قوله تعالى: {فلم تقتلوهم} أي: بقوّتكم {ولكنّ الله قتلهم} أى: بنصره إياكم بأن هزمهم لكم. قال البيضاوي تبعاً للزمخشريّ: والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم، اه. ورده ابن هشام بأنّ الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه الفاء، واختلف في سبب نزول قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 {وما رميت} يا محمد {إذ رميت ولكنّ الله رمى} على ثلاثة أقوال: الأوّل وهو قول أكثر المفسرين نزلت في يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب إلى قتال بدر نزلوا بدراً ووردت عليهم روّاد قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاصي بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أين قريش؟ فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى الكثيب العقنقل، وهو الكثيب العظيم المتداخل الرمل، قاله الجوهريّ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: ما عدّتهم، قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يوماً عشرة ويوماً تسعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وعدّا جماعة أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» فلما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام: «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهمّ إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه السلام، وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعليّ رضي الله عنه: «أعطني قبضة من حصباء الوادي» فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» أي: قبحت، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخره، فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، والمعنى إنّ الرمية التي رميتها بلغ أثرها إلى ما لا يبلغه أثر البشر لكونها كانت برمي الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم؛ لأن كفاً من الحصباء لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية البشر فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه ونفاها عنه؛ لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله تعالى، فكان الله تعالى هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً. القول الثاني: إنها نزلت يوم خيبر، روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر، فرمى سهماً، فأقبل السهم حتى قتل لبابة بن أبي الحقيق وهو على فرسه فنزلت. القول الثالث: إنها نزلت في يوم أحد في قتل أبيّ بن خلف، وذلك إنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وفتته وقال: يا محمد من يحيي هذه وهي رميم؟ فقال صلى الله عليه وسلم «يحييه الله، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك النار» فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ عندي فرساً أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» فلما كان يوم أحد أقبل أبيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استأخروا» ورماه بحربة كسر ضلعاً من أضلاعه، فمات ببعض الطريق فنزلت، والأصح الأوّل وإلا أدخل في أثناء القصة كلاماً أجنبياً عنها، وذلك لا يليق، وقال الرازي: لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {ولكن الله قتلهم} ، {ولكن الله رمى} بكسر النون مخففة ورفع الهاء من اسم الله فيهما والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الهاء وقوله تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً} معطوف على قوله تعالى: {ولكن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 رمى} أي: ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، ثم ختم الله تعالى هذه الآية بقوله تعالى: {إنّ الله سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوال قلوبكم وهذا جرى مجرى التحذير والترهيب؛ لئلا يغترّ العبد بظواهر الأمور ويعلم أنّ الخالق تعالى يطلع على ما في الضمائر والقلوب، وقوله تعالى: {ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع أي: الغرض ذلكم، وقوله تعالى: {وإنّ الله موهن كيد الكافرين} معطوف على «ذلكم» أي: المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الواو وتشديد الهاء وتنوين النون ونصب الدال، وقرأ حفص بسكون الواو وتخفيف الهاء وعدم تنوين النون وخفض الدال والباقون بسكون الواو وتخفيف الهاء مع تنوين النون ونصب الدال وقوله تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} أكثر المفسرين على أنه خطاب للكفار. روي أنّ أبا جهل لعنه الله قال يوم بدر: اللهمّ أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأهلكه الغداة، وقال السدي: إنّ المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصر أعلى الجندين وأهدى القبيلتين وأكرم الحزبين بأفضل الدين، فأنزل الله تعالى هذه الآية أي: «إن تستنصروا لأهدى القبلتين وتستقضوا، فقد جاءكم النصر والقضاء بهلاك من هو كذلك، وهو أبو جهل، ومن قتل معه دون النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقيل: خطاب للمؤمنين وذلك إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين وكثرة عددهم وعددهم استغاث بالله تعالى وطلب ما وعده الله تعالى به من إحدى الطائفتين، وتضرع إلى الله تعالى، وكذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال تعالى: {إن تستفتحوا} أي: إن تطلبوا النصر الذي تقدّم به الوعد فقد جاءكم الفتح أي: حصل ما وعدتم فاشكروا الله تعالى والزموا الطاعة. قال القاضي عياض: وهذا القول أولى؛ لأنّ قوله تعالى: {فقد جاءكم الفتح} لا يليق إلا بالمؤمنين، اه. وقال البيضاوي إنه خطاب لأهل مكة عن سبيل التهكم اه. ويدل له قوله تعالى: {وإن تنتهوا} أي: عن الكفر ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فهو خير لكم} أي: لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلتين {وإن تعودوا} أي: لقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم {نعد} أي: لنصرته عليكم {ولن تغني} أي: تدفع {عنكم فئتكم} أي: جماعتكم {شيئاً} ؛ لأنّ الله تعالى على الكافرين فيخذلهم {ولو كثرت} فئتكم {وإنّ الله مع المؤمنين} بالنصر والمعونة، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الهمزة على ولأنّ الله تعالى والباقون بالكسر على الاستئناف. {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا} أي: تعرضوا {عنه} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة أمره، فإنّ المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أنّ طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء، 80) وقيل: الضمير للجهاد {وأنتم تسمعون} أي: القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق. {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} أي: بألسنتهم {وهم لا يسمعون} سمعاً ينتفعون به، وهذه صفة المنافقين. {إنّ شر الدواب عند الله} أي: إنّ شر من دب على وجه الأرض من خلق الله عنده {الصم} عن سماع الحق {البكم} عن النطق بالحق فلا يقولونه {الذين لا يعقلون} أمر الله، وسماهم دواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} (الأعراف، 179) قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فقتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحاب اللواء، ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة. {ولو علم الله فيهم خيراً} أي: سعادة كتبت لهم أو انتفاعاً بالآيات {لأسمعهم} سماع تفهم {ولو أسمعهم} على سبيل الفرض، وقد علم أن لا خير فيهم {لتولوا} عنه ولم ينتفعوا به وارتدّوا عن التصديق والقبول {وهم معرضون} لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره، وقيل: إنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً يشهد لك بالنبوّة، فنؤمن بك، فقال الله تعالى: ولو أسمعهم كلام قصي لتولوا وهم معرضون. {ياأيها الذين آمنوا استجيبوا وللرسول} أي: أجيبوهما بالطاعة، ووحد الضمير في قوله تعالى: {إذا دعاكم} ؛ لأنّ دعوة الله تعالى تسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على أبيّ بن كعب وهو يصلي فدعاه، فعجل في صلاته ثم جاء، فقال له صلى الله عليه وسلم «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنت أصلي، قال: «ألم تجد فيما أوحي إليّ {استجيبوا وللرسول} ؟ ويؤخذ من ذلك أنّ إجابته صلى الله عليه وسلم بالقول: لا تقطع الصلاة، وهو كذلك، بل ولا بالفعل الكثير كما قاله بعض أصحابنا، وهو ظاهر الحديث أيضاً. ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب منه نبه على ذلك باللام دون إلى فقال: {لما يحييكم} من العلوم الدينية فإنها حياة القلوب والجهل موتها، قال أبو الطيب: *لا تعجبنّ الجهول حليته ... فذاك ميت وثوبه كفن* أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد، وقال السدي: هو الإيمان؛ لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال ابن إسحق: هو الجهاد أعزكم الله تعالى به بعد الذل، وقال العتبي: هو الشهادة لقوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران، 169) {واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه} أي: إنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يردّه الله تعالى، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله. وقال الضحاك: يحول بين المرء المؤمن والمعصية وبين الكافر والطاعة، وقال السدي: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه، وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه، فلا يعقل ولا يدري ما يعمل. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» {وإنه} أي: واعلموا أنه تعالى: {إليه تحشرون} لا إلى غيره فلا تتركوا مهملين معطلين فيجازيكم بأعمالكم وفي هذا تشديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة. {واتقوا فتنة} أي: ذنباً، قيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم، وقيل: افتراق الكلمة، وقيل: فتنة عذاباً، وقوله تعالى: {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} جواب الأمر، والمعنى إن إصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، ولكنها تعمكم، كما يحكى إنّ علماء بني إسرائيل لم ينهوا عن المنكر، فعمهم الله تعالى بالعذاب. فإن قيل: كيف جاز أن تدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 النون المؤكدة في جواب الأمر؟ أجيب: بأنّ فيه معنى النهي كقولك: انزل عن الدابة لا تطرحك ولا تطرحنك، وكقوله تعالى: {يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان} (النمل، 18) {واعلموا أنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه. {واذكروا} يا معاشر المهاجرين {إذ أنتم} في أوائل الإسلام {قليل} أي: عددكم {مستضعفون} أي: لا منعة لكم {في الأرض} أي: أرض مكة، وإطلاقها لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، أو لأنّ حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولهذا عبر بالناس في قوله تعالى: {تخافون أن يتخطفكم الناس} أي: تأخذكم الكفار بسرعة كما تتخطف الجوارح الصيد {فآواكم} إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون فيه على أعدائكم {وأيدكم} أي: قوّاكم {بنصره} أي: بإمداد الملائكة يوم بدر، وبمظاهرة الأنصار {ورزقكم من الطيبات} أي: الغنائم أحلها لكم، ولم يحلها لأحد قبلكم {لعلكم تشكرون} هذه النعم العظيمة. {يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} أي: بأن تضمروا خلاف ما تظهرون. روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة واسمه رفاعة، أو مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم؛ لأنّ ماله وعياله عندهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح أي: حكم سعد هو القتل، فلا تفعلوا، فقال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأمّا إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك، فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال له صلى الله عليه وسلم «يجزيك الثلث أن تتصدّق به» فنزلت هذه الآية. وعن المغيرة نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعن جابر بن عبد الله أنّ أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم الذهاب إليه، فكتب رجل من المنافقين إليه: إنّ محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فنزلت، وقيل: معنى لا تخونوا الله بأن لا تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به، وأصل الخون النقص كما أنّ أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضدّ الأمانة لتضمنه إياه، وقوله تعالى: {وتخونوا أماناتكم} أي: ما إئتمنتم عليه من الدين وغيره مجزوم بالعطف على الأوّل أي: ولا تخونوا، أو منصوب بأن مضمرة بعد الواو على جواب النهي أي: لا تجمعوا بين الخيانتين كقوله: *لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله* {وأنتم تعلمون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 أنكم تخونون أي: وأنتم علماء مميزون الحسن من القبيح. {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} أي: محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة؛ لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيره حجاباً عن خدمة المولى. ثم إنه تعالى نبه بقوله تعالى: {وإنّ الله عنده أجر عظيم} على أنّ سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا؛ لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في القوّة، وأعظم في المدّة؛ لأنها تبقى بقاء لا نهاية له فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم. قال الرازي: ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح؛ لأنّ الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد، ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة، ومعلوم أنّ ما يفضي إلى الأجر العظيم عند الله هو خير مما يفضي إلى الفتنة، اه. لكن محله في غير المحتاج إلى النكاح الواجد أهبته، وإلا فالنكاح حينئذٍ أفضل وأولى من التخلي للعبادة. ولما حذر الله تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد بقوله: , {يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله} أي: بالأمانة وغيرها {يجعل لكم فرقاناً} أي: هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل {ويكفر عنكم سيآتكم} أي: يسترها ما دمتم على التقوى {ويغفر لكم} أي: يمح ما كان منكم غير صالح عيناً وأثراً، وقيل: السيآت الصغائر، والذنوب الكبائر، وقيل: المراد ما تقدّم وما تأخر؛ لأنها في أهل بدر، وقد غفر الله تعالى لهم، وقوله تعالى: {وا ذو الفضل العظيم} تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، وإنه ليس مما توجبه تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاماً على عمله. ولما ذكر سبحانه وتعالى المؤمنين بنعمه عليهم بقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل} إلى آخره، عطف عليه قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} فذكر رسوله الله صلى الله عليه وسلم نعمه عليه، وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه، وهذه السورة مدنية، وهذا المكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكره بالمدينة مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله تعالى عليه في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وكان ذلك المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسرين إنّ قريشاً لما أسلمت الأنصار وبايعوه فرقوا أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعت رؤساؤهم كأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان وهشام بن عمرو وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبي البحتري بن هشام في دار الندوة متشاورين في أمره صلى الله عليه وسلم فدخل عليهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً قالوا: ادخل فدخل، فقال أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدّوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك مثل ما هلك من قبله من الشعراء، فصرخ عدوّ الله النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم والله لئن حبستموه في بيت ليأتينكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم قالوا: صدق الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 النجدي، فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال النجدي: بئس الرأي تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم، فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم، ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاوة لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق والله الشيخ النجدي، فقال أبو جهل لعنه الله تعالى: والله لأشيرن عليكم برأي لا رأي غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا تقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، فقال إبليس الملعون: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً القول ما قال لا أرى غيره، فتفرّقوا على قول أبي جهل مجمعين على قتله، فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب، وأخذ الله تعالى أبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} إلى قوله تعالى: {فهم لا يبصرون} (يس، 9) ومضى إلى الغار هو وأبو بكر، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت بمكة عنده، وكانت الودائع تودع عنده لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون علياً على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون إنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا بادروا إليه فرأوا علياً، فقالوا له: وأين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم تكن تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً، ثم قدم المدينة وأبطل الله مكرهم، وهذا معنى قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} {ليثبتوك} أي: يوثقوك ويحبسوك {أو يقتلوك} كلهم قتلة رجل واحد {أو يخرجوك} من مكة {ويمكرون} بك {ويمكر الله} أي: يردّ مكرهم عليهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه، وأمرك بالخروج إلى المدينة، وأخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا {وا خير الماكرين} أي: أعلمهم به، فلا ينفذ مكرهم دون مكره. قال البيضاوي: وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، اه. واعترض عليه بأنه لا يتعين في مثل ذلك المشاكلة بل يجوز أن يكون ذلك استعارة؛ لأنّ إطلاق المكر على إخفاء الله تعالى ما أوعده لمن استوجبه إن جعل باعتبار أنّ صورته تشبه صورة المكر فاستعارة، أو باعتبار الوقوع في صحبة مكر العبد فمشاكلة، وعلى هذا لا يحتاج كما قال الطيبي إلى وقوعه في صحبة مكر العبد قال: ومنه قول عليّ رضي الله عنه: من وسع الله تعالى عليه في دنياه ولم يعلم إنه مكر به فهو مخدوع في عقله. {وإذا تتلى عليهم آياتنا} أي: القرآن {قالوا} أي: هؤلاء الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} وهذا غاية مكابرتهم، وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك لفعلوه وإلا فما منعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 لو كانوا مستطيعين، وقرّعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا بسورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصاً في باب البيان، وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً؛ لأنه كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار العجم ويحدّث بها أهل مكة، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فكأنه كان قاضيهم، وقد أسره المقداد يوم بدر، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: أسيري يا رسول الله؟ فقال: «إنه كان يقول في كتاب الله تعالى ما يقول» فعاد المقداد لقوله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أغن المقداد من فضلك» فقال: ذاك الذي أردت يا رسول الله فقتله النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنشدت أخته: *ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق* فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه» {إن} أي: ما {هذا} أي: القرآن {إلا أساطير الأوّلين} أي: أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم، وما سطر الأوّلون في كتبهم، والأساطير جمع أسطورة وهي المكتوبة من قولهم سطرت أي: كتبت وقيل: أساطير جمع أسطور وأسطار جمع سطر. {وإذ قالوا اللهمّ إن كان هذا} أي: الذي يقرؤه محمد {هو الحق} المنزل {من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} أي: مؤلم على إنكاره غير الحجارة قاله النضر وغيره، استهزاء وإيهاماً أنه على بصيرة وجزم ببطلانه. وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال: أجهل من قومي قومك قالوا: {اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية، وما قالوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه. فإن قيل: قد حكى الله تعالى هذه المقالة عن الكفار، وهي من حسن نظم القرآن، فقد حصلت المعارضة في هذا القدر، وأيضاً حكي عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل، وقالوا: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} (الإسراء، 90) الآية، وذلك أيضاً كلام الكفار، فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن وذلك يدل على حصول المعارضة، أجيب: بأنّ الإتيان بهذا القدر لا يكفي في حصول المعارضة؛ لأنه كلام قليل لا تظهر فيه وجوه المعارضة والفصاحة والبلاغة؛ لأنّ أقل ما وقع به التحدي سورة أو قدرها قال الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم} أي: بما سألوه {وأنت فيهم} أي: لأنّ العذاب إذا نزل عمّ، ولم يعذب أمّة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} أي: وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كان في هذه الأمّة أمانان أما النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة، فاللفظ وإن كان عامّاً إلا أنّ المراد بعضهم كما يقال قدم أهل البلدة الفلانية على القتال والمراد بعضهم. {وما لهم أن لا يعذبهم الله} بالسيف بعد خروجك والمستضعفين، فنفى تعالى في الآية أنه لا يعذبهم ما دام الرسول والمؤمنون فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم إذا خرجوا من بينهم، وقال الحسن: الآية الأولى منسوخة بهذه، وردّ بأنّ الأخبار لا يدخلها النسخ، واختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل: يوم فتح مكة، وقال ابن عباس: هذا العذاب هو عذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 الآخرة، والعذاب الذي نفي عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بيّن تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال: {وهم يصدّون} أي: يمنعون النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين {عن المسجد الحرام} أن يطوفوا به وذلك عام الحديبية، ونبه تعالى على أنهم يصدّونهم لادعائهم أنهم أولياؤه، فكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصد من نشاء وندخل من نشاء، ثم بيّن تعالى بطلان هذه الدعوى بقوله تعالى: {وما كانوا أولياءه} كما زعموا {إن} أي: ما {أولياؤه إلا المتقون} أي: الذين يتحرّزون عن المنكرات الذين لا يعبدون فيه غيره، وقيل: الضميران لله {ولكنّ أكثرهم} أي: الناس {لا يعلمون} أن لا ولاية لهم عليه وكأنه نبه بالأكثر على أنّ منهم من يعلم ويعاند، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم. {وما كان صلاتهم عند البيت} أي: دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة، أو ما يضعون موضعها {إلا مكاء} أي: صفيراً {وتصدية} أي: تصفيقاً، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون. وقال مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزؤون به، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته، فالمكاء جعل الأصابع في الشدق، والتصدية الصفير، وقال مقاتل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد الحرام قام رجلان عن يمينه ورجلان عن يساره يصفران ويصفقان ليخلطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته {فذوقوا العذاب} أي: عذاب القتل والأسر ببدر في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة {بما} أي: بسبب ما {كنتم تكفرون} اعتقاداً وعملاً. ولما ذكر تعالى عبادة الكفار البدنية، وهي المكاء والتصدية، ذكر عقبه عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة بقوله تعالى: {إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم} في حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم {ليصدّوا عن سبيل الله} أي: ليصرفوا عن دين الله تعالى نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا إثني عشر رجلاً منهم: أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم أيام بدر عشر جزائر، أو في أبي سفيان استأجر يوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش أي: اتخذه جيشاً، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً، أو في أصحاب العير، فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا ففعلوا {فسينفقونها ثم تكون} أي: عاقبة الأمر {عليهم حسرة} أي: ندامة لفواتها وفوات ما قصدوه {ثم يغلبون} أي: آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك كما اتفق لهم في بدر، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوّة، ولم يغن عنهم شيء من ذلك بل كان وبالاً عليهم فإنه كان سبباً لجراءتهم حتى قدموا فما كان في الحقيقة إلا قوّة للمؤمنين {والذين كفروا} أي: ثبتوا على الكفر {إلى جهنم يحشرون} أي: يساقون إليها يوم القيامة فهم في خزي في الدنيا والأخرة. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل تعالى: وإلى جهنم يحشرون؟ أجيب: بأنه أسلم منهم جماعة كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام، بل ذكر أن الذين ثبتوا على الكفر يكونون كذلك. {ليميز الله الخبيث} أي: الفريق الكافر {من الطيب} أي: من الفريق المؤمن {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً} أي: يجمعه متراكماً بعضه على بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 كقوله تعالى: {كادوا يكونون عليه لبداً} (الجن، 19) أي: لفرط ازدحامهم، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيركمه جميعاً {فيجعله في جهنم} في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة، 35) الآية، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى: {ثم تكون عليهم حسرة} وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون. وقرأ {ليميز} حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية، وقوله تعالى: {أولئك} إشارة إلى الذين كفروا {هم الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم. ولما بيّن تعالى ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى طريق الصواب. فقال: {قل} يا محمد {للذين كفروا} كأبي سفيان وأصحابه {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} أي: قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عن الكفر وقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم {وإن يعودوا} أي: إلى الكفر ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم {فقد مضت سنة الأوّلين} أي: بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، واختلفوا هل الكافر الأصلي مخاطب بفروع الشريعة؟ وهل يسقط عن المرتدّ ما مضى في حال ردّته كالكافر الأصلي كما هو ظاهر الآية؟ وهل الردّة تحبط ما مضى من العبادات قبلها، ذهب أصحاب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه مخاطب بدليل قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} (المدثر، الآيات: 42 ـ 43) الآية، وأنّ المرتدّ لا تسقط عنه العبادات الفائتة في الردّة تغليظاً عليه، وأنّ الردّة لا تحبط ما مضى، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المائدة، وعن يحيى بن معاذ أنه قال: توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب. ولما بيّن تعالى أنّ هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران، وإن عادوا فهم متوعدون سنة الأوّلين أتبعه بالأمر بقتالهم إذا أصرّوا، فقال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي: شرك كما قاله ابن عباس، وقال الربيع: حتى لا يفتن أحدكم عن دينه؛ لأنّ المؤمنين كانوا يفتنون عن دين الله في مبدأ الدعوة، فافتتن من المسلمين بعضهم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة {ويكون الدين كله} خالصاً {} تعالى وحده لا يعبد غيره {فإن انتهوا} عن الكفر {فإن الله بما يعملون بصير} أي: فيجازيهم به. {وإن تولوا} عن الإيمان {فاعلموا أنّ الله مولاكم} أي: ناصركم ومتولي أموركم {نعم المولى} هو فإنه لا يضيع من تولاه {ونعم النصير} أي: الناصر، فلا يغلب من ينصره فمن كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخالفات. {واعلموا أنما غنمتم} أي: أخذتم من الكفار الحربيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 {من شيء} مما يقع عليه اسم شيء مما هو لهم ولو اختصاصاً {فإنّ خمسه وللرسول} . واعلم أنّ الغنيمة والفيء إسمان لما يصيبه المسلمون من الحربيين والصحيح أنهما مختلفان، فالفيء ما حصل لنا مما هو لهم بلا إيجاف كجزية وعشر تجارة وما جلوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم، وتركه مرتدّ وكافر معصوم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله} (الحشر، 7) ، وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا منهم مما هو لهم بإيجاف أو سرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين، ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة، ولم تحلّ الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه، فتأتي نار من السماء تأخذه، ثم أحلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة؛ لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقل الأمر على أنها تجعل خمسة أقسام متساوية، ويؤخذ خمس رقاع ويكتب على واحدة لله أو للمصالح وعلى أربع للغانمين، ثم تدرج في بنادق مستوية، ويخرج لكل خمس رقعة، فما خرج لله أو للمصالح جعل بين أهل الخمس على خمسة أصناف، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه وذكر الله تعالى في الآية للتبرك، وأما ما كان له صلى الله عليه وسلم فهو لمصالح المسلمين كسد الثغور وأرزاق علماء بعلوم تتعلق بمصالحنا كتفسير وفقه وحديث، والصنف الثاني: ما ذكره الله تعالى بقوله: {ولذي القربى} أي: قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عمهم نوفل وعبد شمس له لقوله صلى الله عليه وسلم «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه» فيعطون ولو أغنياء، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث؛ لأنه عطية من الله تعالى تستحق بقرابة الأب كالإرث، فلا يعطي أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أنّ أمّ كل واحد منهما كانت هاشمية. والصنف الثالث: ما ذكره الله تعالى بقوله: {واليتامى} اليتيم صغير ولو أنثى لخبر: «لا يتم بعد احتلام» لا أب له وإن كان له أمّ وجد، ومن فقد أمّه فقط يقال له: منقطع، واليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه. والصنف الرابع: ما ذكره الله تعالى بقوله: {والمساكين} الصادقين بالفقراء والمسكين من له مال أو كسب لائق به يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه العمر الغالب، وقيل: سنة كمن يملك أو يكسب سبعة أو ثمانية ولا يكفيه إلا عشرة، والفقير من لا مال له أو له ذلك ولا يقع موقعاً من كفايته كمن يحتاج إلى عشرة، ولا يملك أو لا يكتسب إلا درهمين أو ثلاثة. والخامس: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وابن السبيل} وهو المسافر المحتاج، ولا معصية بسفره والأخماس الأربعة الباقية للغانمين، وهم من حضر القتال ولو في أثنائه بنية القتال وإن لم يقاتل أو حضر بلا نية وقاتل كأجير لحفظ أمتعة وتاجر ومحترف، وقوله تعالى: {إن كنتم آمنتم با} متعلق بمحذوف دل عليه واعلموا أي: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإنّ العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد؛ لأنه مقصود بالعرض، والمقصود بالذات هو العمل وقوله تعالى: {وما} عطف على بالله {أنزلنا على عبدنا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر {يوم الفرقان} أي: يوم بدر، فإنه فرق به بين الحق والباطل {يوم التقى الجمعان} أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين، وهو يوم بدر وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسعة عشر أو لسبعة عشر من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله تعالى المشركين، وقتل منهم سبعون، وأسر منهم مثل ذلك {وا على كلّ شيء قدير} فيقدر على نصر القليل على الكثير، والدليل على العزيز كما فعل ذلك بكم ذلك اليوم وقوله تعالى: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} أي: القربى من المدينة، بدل من يوم الفرقان أو من يوم التقى الجمعان، أو منصوب باذكروا مقدّراً، والعدوة الدنيا مما يلي المدينة {وهم بالعدوة القصوى} أي: البعدى من المدينة، وهي مما يلي مكة وكان الماء بها، وكان استظهار المشركين من هذا الوجه أشدّ. والقصوى تأنيث الأقصى، وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا، ولكن لم تغلب تفرقة بين الاسم والصفة، فإنها تقلب في الاسم دون الصفة على الأكثر وقيل: بالعكس وعلى الأوّل القصوى وإن كان صفة للعدوة في الآية كالدنيا لكن غلب عليها الاسمية لترك الوصف بها في أكثر الاستعمالات كما قاله ابن جني، فالقصوى بالواو على القولين شاذ بالنظر إلى اسميتها في الأوّل وإلى وصفيتها في الثاني، ومثال الصفة الخالصة حلوى تأنيث الأحلى فهي بالواو مقيسة على الأوّل شاذة على الثاني، ومثال الاسم الخالص حزوى اسم مكان فهو بالواو شاذ على الأوّل مقيس على الثاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو العدوّة وهي شط الوادي بكسر العين فيهما، والباقون بضمّ العين فيهما، وأمّا الدنيا والقصوى فأمالهما حمزة والكسائي محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين {والركب} أي: العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان {أسفل منكم} أي: أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر، وأسفل نصب على الظرفية معناه مكاناً أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل؛ لأنه خبر المبتدأ {ولو تواعدتم} أنتم والنفير للقتال {لاختلفتم في الميعاد} وذلك أنّ المسلمين خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وخرج الكفار مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم فيمنعوها من المسلمين، فالتقوا على غير ميعاد لقلتهم وكثرة عدوّهم {ولكن} جمع الله تعالى بينهم على هذه الحالة من غير ميعاد {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} في علمه وهو نصر أوليائه وإعزاز دينه وإعلاء كلمته وقهر أعدائه، وقوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة} بدل من ليقضي أو متعلق بقوله: {مفعولاً} واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي: ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالطة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، فإنّ وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.f وقرأ نافع والبزيّ وشعبة بياءين: الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، والباقون بياء واحدة مشدّدة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وإنّ الله لسميع عليم} أي: يسمع دعاءكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 ويعلم حاجتكم وضعفكم لا تخفى عليه خافية. {إذ} أي: واذكر يا محمد نعمة الله عليك إذ {يريكهم الله} أي: المشركين {في منامك} أي: نومك {قليلاً} فأخبرت أصحابك فسروا وقالوا: رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم حق، وصار ذلك سبباً لجرائتهم على عدوّهم وقوّة لقلوبهم. فإن قيل: رؤيا الكثير قليلاً غلط، فكيف يجوز على الله تعالى؟ أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسئل عما يفعل، أو أنه تعالى أراه بعضهم دون بعض، فحكم صلى الله عليه وسلم على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون، وقال الحسن: إنّ هذه الإراءة كانت في اليقظة قال: والمراد من المنام العين التي هي موضع النوم {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم} أي: ولو أراكم كثيراً لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا أي: جبنوا {ولتنازعتم} أي: اختلفتم {في الأمر} أي: أمر القتال وتفرّقت آراؤكم بين الفرار والقتال {ولكنّ الله سلم} أي: سلمكم من الفشل والتنازع فيما بينكم، وقيل: سلمكم من الهزيمة والقتل {إنه} تعالى {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما في القلوب من الجراءة والجبن والجزع وغير ذلك. {وإذ يريكموهم} أي: المؤمنون {إذ التقيتم في أعينكم قليلاً} أي: إنّ الله تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين يوم التقوا في القتال ليتأكد في اليقظة ما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم في منامه، وأخبر به أصحابه، وتقوى بذلك قلوب المؤمنين وتزداد جراءتهم ولا يجبنوا عن قتالهم. قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى اجنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، والضميران مفعولا يرى، وقليلاً حال من الثاني {ويقللكم في أعينهم} أي: ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم أي: المشركين؛ لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم، فيكون ذلك سبباً لظهور المؤمنين. قال السدّيّ: قال ناس من المشركين: إنّ العير قد انصرفت، فارجعوا، فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه، فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني جمع آكل أي: قليل يشبعهم جزور واحد، يضرب مثلاً في القلة والأمر الذي لا يعبأ به، ثم قال: فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، أراد بقوله ذلك القدرة والقوّة. فإن قيل: كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل؟ أجيب: بأنّ ذلك ممكن في قدرة الله تعالى، وإنّ الله تعالى على ما يشاء قدير، ويكون ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمعجزة هي من خوارق العادات، فلا ينكر ذلك، أو أنّ الله تعالى يستر عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في أعينهم ما يستقلون له الكثير كما أحدث في عيون الحول ما يرون له الواحد اثنين، قيل لبعضهم: إنّ الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك قال: فمالي أرى هذين الديكين أربعة، وهذا قبل: التحام القتال فلما التحم أراهم إياهم مثليهم كما في آل عمران {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} أي: في علمه، وهو إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله. فإن قيل: قد تقدّم ذلك في الآية المتقدّمة، فكان ذكره هنا محض تكرار أجيب: بأنّ المقصود من ذكره في الآية المتقدّمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم والمقصود من ذكره هنا ليس هو ذلك المعنى بل المقصود أنه تعالى ذكر هنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين الكفار، فبين تعالى أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً؛ لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سبباً لانكسارهم {وإلى الله ترجع الأمور} كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد، وفي هذا تنبيه على أنّ أمور الدنيا غير مقصودة وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاد اليوم المعاد. ولما ذكر تعالى أنواع نعمه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم} أي: قاتلتم؛ لأنّ اللقاء سبب للقتال غالباً {فئة} أي: جماعة كافرة {فاثبتوا} لقتالهم كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار هذا هو النوع الأوّل {واذكروا الله كثيراً} بقلوبكم وألسنتكم قال ابن عباس: أمر الله تعالى أولياءه بذكره في أشدّ أحوالهم تنبيهاً على أنّ الإنسان لا يجوز له أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أنّ رجلاً أقبل من المشرق إلى المغرب على أن ينفق الأموال سخاء والآخر من المغرب إلى المشرق يضرب بسيفه في سبيل الله لكان الذاكر لله أعظم أجراً، وقيل: المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر؛ لأنّ ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى {لعلكم تفلحون} أي: تظفرون بمرادكم من النصر والثبوت. فإن قيل: هذه الآية توجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرّف والتحيز. أجيب: بأنّ المراد من الثبات الجدّ في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود لا يحصل إلا بذلك التحرّف والتحيز. ثم قال تعالى مؤكداً لذلك: {وأطيعوا الله ورسوله} في سائر ما يأمران به؛ لأنّ الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات {ولا تنازعوا} أي: تختلفوا فيما بينكم {فتفشلوا} أي: تجبنوا {وتذهب ريحكم} أي: قوّتكم ودولتكم، والريح مستعارة للدولة شبهها في نفوذ أثرها بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به ادعاء، وأطلق اسم المشبه به على المشبه، وقيل: المراد بها الحقيقة؛ لأنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله تعالى، وفي حديث الشيخين «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» ، وعن النعمان بن مقرن قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل من أوّل النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر» أخرجه أبو داود {واصبروا} أي: عند لقاء العدوّ ولا تنهزموا عنه {إنّ الله مع الصابرين} بالنصر والمعونة. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف» ثم قال صلى الله عليه وسلم «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» . {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم} أي: ليمنعوا غيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها {بطراً} أي: فخراً وطغياناً في النعمة وذلك إنّ النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها في المفاخرة على الأقران وكاثر بها أبناء الزمان وأنفقها في غير طاعة الرحمن، فذلك هو البطر في النعمة، وإن صرفها في طاعة الله وابتغاء مرضاته فذلك شكرها {ورئاء الناس} أي: ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة، وأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل: لا والله حتى نقدم بدراً، وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم فيها سوق في كل عام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 ونشرب بها الخمور وتعزف علينا القينات، والعزف اللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب به قاله ابن الأثير وغيره، والقينات الجواري، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه {ويصدّون عن سبيل الله} أي: ويمنعون الناس الدخول في دين الله {وا بما يعملون محيط} لا يخفى عليه شيء؛ لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازيهم بأعمالهم. {وإذ} أي: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذ {زين لهم} أي: المشركين {الشيطان} أي: إبليس {أعمالهم} الخبيثة بأنّ شجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر بن الحرث جاء إبليس وجند من الشياطين معه راية فتمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكنانيّ وكان من أشرافهم {وقال} غارّاً لهم في أنفسهم {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} أي: مجير لكم من كنانة {فلما تراءت الفئتان} أي: التقى الفريقان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء علم عدوّ الله إبليس أنهم لا طاقة لهم بهم {نكص على عقبيه} قال الضحاك: ولى مدبراً وقال النضر بن شميل: رجع القهقرى على قفاه هارباً {وقال إني بريء منكم} قال الكلبي: لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك، وهو آخذ بيد الحرث بن هشام، فنكص عدوّ الله إبليس على عقبيه، فقال له الحرث: إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال له عدوّ الله إبليس: {إني أرى ما لا ترون} ودفع في صدر الحرث، وانطلق فانهزموا قال الحسن: رأى إبليس جبريل بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب، قال قتادة: قال إبليس: إني أرى ما لا ترون وصدق وقال: {إني أخاف الله} وكذب والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوّة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم، وذلك من عادة عدوّ الله إبليس لعنه الله لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم، وقال عطاء: خاف إبليس أن يهلكه الله تعالى فيمن يهلك، وقيل: أخاف الله عليكم، وقيل: إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل: لما رأى الملائكة تنزل من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقاً على نفسه. ولما انهزموا وبلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وقوله تعالى: {وا شديد العقاب} يجوز أن يكون من كلام إبليس أي: إني أخاف الله؛ لأنه شديد العقاب وأن يكون مستأنفاً أي: والله شديد العقاب لمن خالفه وكفر به. فإن قيل: كيف يقدر إبليس أن يتصوّر بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً؟ أجيب: بأنّ الله تعالى أعطاه قوّة، وأقدره على فعل ذلك كما أعطى الملائكة قوّة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنية لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما رؤي إبليس يوماً فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة» وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 من يوم بدر. {إذ} أي: واذكر إذ {يقول المنافقون} أي: من أهل المدينة، والمنافق هو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر كما أنّ المرائي هو من يظهر الطاعة ويخفي المعصية {والذين في قلوبهم مرض} أي: شك وارتياب، وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقع الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن، فلما خرج قريش إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا معهم إلى بدر، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا: {غرّ هؤلاء} المسلمين {دينهم} إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهماً أنهم ينصرون بسببه، فقتلوا جميعاً منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وعديّ بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن أمية بن الحجاج، قال تعالى في جوابهم: {ومن يتوكل على الله} أي: يثق به يغلب {فإنّ الله عزيز} أي: غالب على أمره {حكيم} أي: في صنعه يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن إدراكه. ولما شرح تعالى أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت بقوله تعالى: {ولو ترى} أي: عاينت وشاهدت يا محمد {إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} أي: بقبض أرواحهم عند الموت {يضربون وجوههم وأدبارهم} أي: ظهورهم وأستاههم، قال البيضاويّ: ولعلّ المراد تعميم الضرب أي: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر بمقامع من حديد {و} يقولون لهم: {ذوقوا عذاب الحريق} أي: النار. قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وجواب لو محذوف، والتقدير لرأيت منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً وعقاباً شديداً، والملائكة مرفوع بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله: يتوفى ضمير الله تعالى والملائكة مرفوعة بالابتداء ويضربون خبر. {ذلك} أي: الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق {بما} أي: بسبب ما {قدّمت} أي: كسبت {أيديكم} من الكفر والمعاصي، وإنما عبر بالأيدي دون غيرها لأنّ أكثر الأفعال تزاول بها والتحقيق إنّ الإنسان جوهر واحد وهو الفعال وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع وهو العاصي وهذه الأعضاء آلة له وأدوات في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان {وأنّ الله ليس بظلام للعبيد} فلا يعذب أحداً من خلقه بغير ذنب وظلام للتكثير لأجل العبيد أي: أنه بمعنى ذي ظلم. {كدأب} أي: دأب هؤلاء الكفار بكفرهم مثل دأب {آل فرعون} وهو عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي: داموا عليه فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال: فلان دأب في كذا أي: داوم عليه وسميت العادة دأباً لأنّ الإنسان مداوم على عادته مواظب عليها {والذين من قبلهم} أي: من قبل آل فرعون وقوله تعالى: {كفروا بآيات الله} تفسير لدأب آل فرعون {فأخذهم الله بذنوبهم} أي: بسبب كفرهم كما أخذ هؤلاء {الله الله قويّ} أي: على ما يريده فينتقم ممن كفر وكذب رسله {شديد العقاب} ممن كفر وكذب رسله وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما حلّ بهم من العقاب {بأن} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 بسبب أن {الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم} أي: مبدلاً لها بالنقمة {حتى يغيروا ما بأنفسهم} أي: بأن يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ منه. فإن قيل: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله تعالى نعمته عليهم، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة أجيب: بأنه تعالى كما يغير الحال المرضية إلى المسخوطة يغير الحال المسخوطة؟ إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كفرة عبدة أوثان فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت عليه فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب {وإنّ الله سميع} لما يقولون {عليم} بما يفعلون. {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم} أي: أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ، كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف {وأغرقنا آل فرعون} أي: هو وقومه. فإن قيل: ما فائدة تكرير هذه الآية مرّة ثانية؟ أجيب: بأنّ فيها فوائد: منها: إنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل؛ لأن الكلام الأوّل فيه ذكر أخذهم، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل. ومنها: أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله، وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها. ومنها: أنّ تكرير هذه القصة للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: {بآيات ربهم} وبيان ما أخذ به آل فرعون. ومنها: أنّ الأولى لسببية الكفر، والثانية لسببية التغيير، والنقمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم {وكل} أي: من الفرق المكذبة أو من غرقى القبط وقتلى قريش {كانوا ظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي وغيرهم بالإضلال واضعين الآيات في غير موضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل، ولما وصف تعالى كل الكفار بقوله تعالى: {وكل كانوا ظالمين} أفرد بعضهم بمزية في الشر والفساد فقال: {إنّ شرّ الدواب عند الله} في حكمه وعلمه {الذين كفروا} أي: أصرّوا على الكفر {فهم لا يؤمنون} أي: لا يتوقع منهم إيمان وقوله تعالى: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرّة} بدل البعض من الذين كفروا، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا أي: يساعدوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فحالفهم، وإنما جعلهم الله تعالى شر الدواب؛ لأنّ شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم وشر المصرين الناكثون العهود {وهم لا يتقون} الله في حذرهم. {فإمّا} فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة {تثقفنهم} أي: تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وظفرت بهم {في الحرب فشرد} قال ابن عباس: فنكل {بهم} أي: بهؤلاء الذين نقضوا العهد {من خلفهم} أي: من وراءهم من أهل مكة واليمن وغيرهما، فيخافون أن تفعل بهم كفعل هؤلاء، وقال عطاء: أثخنْ فيهم القتل حتى يخافك غيرهم {لعلهم} أي: الذين خلفهم {يذكرون} أي: يتعظون بهم. {وإمّا تخافن} أي: تعلمن يا محمد {من قوم} عاهدتهم {خيانة} في العهد بإمارات تلوح لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 كما ظهر من قريظة والنضير {فانبذ} أي: اطرح عهدهم {إليهم} ، وقوله تعالى: {على سواء} حال أي: مستوياً أنت وهم في العلم بنقض العهد، بأن تعلمهم به؛ لئلا يتهموك بالغدر إذا نصبت الحرب معهم {إنّ الله لا يحبّ الخائنين} أي: في نقض العهد أو غيره. روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية، قال الرازي: حاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بقتل من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه، من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه، قال أهل العلم: إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن عاهدهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض، إمّا أن يظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به، فإن كان الأوّل وجب الإعلام عليه على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك أن قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فحصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء، ويعلمهم بالحرب، وأمّا إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيش النبيّ صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة. ولما بيّن تعالى ما يفعله صلى الله عليه وسلم في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه، وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد، بين أيضاً حال من فاته في يوم بدر وغيره لكي لا تبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية النبيّ صلى الله عليه وسلم مبلغاً عظيماً بقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} أي: خلصوا من القتل والأسر يوم بدر {إنهم لا يعجزون} الله أي: لا يفوتونه بهذا السبق في الانتقام منهم، إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن، فاته من المشركين ولم ينتقم منه، فأعلمه الله تعالى أنهم لا يعجزونه، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص يحسبن بالياء على الغيبة على أن الفعل للذين كفروا، والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرد من صدر منه نقض العهد إلى من خاف منه النقص واتفق لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار بقوله تعالى: {وأعدوا لهم} أي: لقتالهم {ما استطعتم من قوّة} الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه، وفي المراد بالقوّة أقوال. الأوّل: الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً» أخرجه مسلم، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 صففنا لقريش وصفوا لنا: «إذا كبسوكم فعليكم بالنبل» ، وفي رواية: «ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبة أهله، ورميه بقوسه أي: نبله، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها» أخرجه الترمذي. والثاني: إنها الحصون. والثالث: إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى: {ومن رباط الخيل} مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكوراً أو إناثاً، وقال عكرمة: المراد الإناث. وروي عن خالد بن الوليد أنه قال: لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها، وعن أبي محيريز أنه قال: كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات، وقيل: ربط الفحول أولى؛ لأنها أقوى على الكرّ والفرّ، ويدلّ للأوّل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإنّ شبعه وريه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» يعني حسناته، وعن عروة البارقيّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم» ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: «ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره} {ترهبون} أي: تخوفون {به} أي: بتلك القوّة أو بذلك الرباط {عدوّ الله وعدوّكم} أي: الكفار من أهل مكة وغيرهم، وذلك إنّ الكفار إذا علموا أنّ المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم، فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سبباً لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين {و} ترهبون {آخرين من دونهم} أي: غيرهم وهم المنافقون لقوله تعالى: {لا تعلمونهم} ؛ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم {الله يعلمهم} أي: إنهم منافقون. فإن قيل: المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكر الإرهاب؟ أجيب: بأنّ المنافقين إذا شاهدوا قوّة المسلمين، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويقطع طمعهم من أن يصيروا غالبين، فيحملهم ذلك على أن يتركوا الكفر من قلوبهم، وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان، وقيل: هم اليهود، وقيل: الفرس {وما تنفقوا من شيء} وإن قل {في سبيل الله} أي: طاعته جهاداً كان أو غيره {يُوفّ إليكم} قال ابن عباس: أجره، أي: لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا {وأنتم لا تظلمون} أي: لا تنقصون من الثواب، ولما سئل ابن عباس عن هذا التفسير تلا قوله تعالى: {آتت أكلها ولم تظلم منه شيأ} (الكهف، 33) ولما بيّن تعالى ما يرهب به العدوّ من القوّة، والاستظهار بيّن جواز الصلح بقوله تعالى: {وإن جنحوا} أي: مالوا {للسلم} أي: الصلح {فاجنح} أي: فمل {لها} وعاهدهم، وتأنيث الضمير في لها لحمل السلم مع أنه مذكر على ضدّه وهو الحرب قال الشاعر: *السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جُرَعُ* فأنث ضمير السلم، في تأخذ حملاً على ضدّه وهو الحرب، وعن ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون با} (التوبة، 29) وعن مجاهد بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة، 5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 وقال غيرهما: الصحيح إنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام، وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وهذا ظاهر. وقرأ شعبة بكسر السين، والباقون بالفتح {وتوكل على الله} أي: فوض أمرك إليه فيما عقدته معهم؛ ليكون عوناً لك في جميع أحوالك {إنه هو السميع} ؛ لأقوالهم فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك، وفي غيره كما يسمعه علانية {العليم} بنياتهم فهو يعلم كل ما أخفوه كما إنه يعلم كل ما أعلنوه. {وإن يريدوا} أي: الكفار {أن يخدعوك} أي: بإظهار الصلح ليستعدوا لك {فإن حسبك} أي: كافيك {الله هو الذي أيدك بنصره} في سائر أيامك، فإن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوّل حياته إلى وقت وفاته كان أمراً إلهياً وتدبيراً علوياً، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل {و} أيدك {بالمؤمنين} أي: الأنصار. فإن قيل: فإذا كان الله تعالى مؤيده بنصره، فأيّ حاجة مع نصره تعالى إلى المؤمنين؟ أجيب: بأن التأييد ليس إلا من الله تعالى دائماً لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة، والثاني ما يحصل بذلك فالأوّل هو المراد من قوله تعالى: {أيدك بنصره} ، والثاني: هو المراد من قوله تعالى: {وبالمؤمنين} والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو الذي أقامهم بنصره ثم بيّن تعالى كيف أيده بالمؤمنين بقوله تعالى: {وألف} أي: جمع {بين قلوبهم} وذلك إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلاً من قبيلة لطم لطمةً واحدة، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً دعاة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم} أي: تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الإلفة والصلاح بينهم {ولكن الله ألف بينهم} بقدرته البالغة، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء {إنه} أي: الله تعالى {عزيز} أي: غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد {حكيم} لا يخرج شيء عن حكمته، وقيل: الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصاراً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته. {يأيها النبيّ حسبك} أي: كافيك {ا} . فإن قيل: هذا مكرّر، أجيب: بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على جميع التقديرات، فلا يلزم حصول التكرار؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى: إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى: {ومن اتبعك من المؤمنين} إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر: *فحسبك والضحاك سيف مهند* يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه، والمعنى: كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً، أو رفع عطفاً على اسم الله تعالى أي: كفاك الله وكفى المؤمنين، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن سعيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 جبير أسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فتمم الله تعالى به الأربعين فنزلت هذه الآية. {يأيها النبيّ حرّض المؤمنين} أي: حثهم {على القتال} للكفار والتحريض في اللغة، كالتحضيض، وهو الحث على الشيء {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} منهم {وإن يكن منكم مائة} صابرة {يغلبوا ألفاً من الذين كفروا} وهذا خبر بمعنى الأمر أي: ليقاتل العشرون منكم المائتين والمائة الألف قتال عشرة أمثالكم. تنبيه: تقييد ذلك بالصبر يدلّ على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها: أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً، ومنها: أن يكون قويّ القلب شديد البأس شجاعاً غير جبان، ومنها: أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، فإنّ الله تعالى استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدّمة فعند حصول هذه الشروط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة. فإن قيل: حاصل هذه العبارة المطولة إنّ الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى هذه العبارة المطولة؟ أجيب: بأنّ هذا إنما ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذين العددين. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالتاء على التأنيث والباقون بالياء على التذكير {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يفقهون} أي: جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، فلا يقاتلوا لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية، فإذا صدقتموهم في القتال لا يثبتون معكم، وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين، قال عطاء عن ابن عباس: لما نزل التكليف بهذه الآية صاح المهاجرون وقالوا: يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع، ونحن في غربة وعدوّنا في أهليهم ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، وعدوّنا ليس كذلك فنسخها الله تعالى بقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم} أيها المؤمنون {وعلم أن فيكم ضعفاً} أي: في قتال الواحد للعشرة {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} منهم {وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين} منهم {بإذن الله} أي: بإرادته تعالى، فردّوا من العشرة إلى اثنين، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز أن يفروا، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر {وا مع الصابرين} بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون، قال سفيان بن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر. {ما كان} أي: ما صح وما استقام {لنبيّ أن تكون له أسرى} قرأ أبو عمرو بالتاء على التأنيث، والباقون بالياء على التذكير {حتى يثخن في الأرض} أي: يكثر قتل الكفار، ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله؛ لأنّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتدّ بالقتل، قال الشاعر: *لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 روي أنه صلى الله عليه وسلم أتي يوم بدر بسبعين أسيراً فيهم العباس عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: كذبوك وأخرجوك فقدمهم، واضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، وإنّ الله أغناك عن الفداء، مكّن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان ـ لنسيب له ـ فلنضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم ناراً، فقال له العباس: قطعت رحمك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الله لين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} (إبراهيم، 36) ومثل عيسى في قوله: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة، 118) ومثلك يا عمر مثل نوح قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح، 26) ومثل موسى حيث قال: {ربنا اطمس على أموالهم} (يونس، 88) ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «يا أبا حفص، وكان ذلك أوّل ما كناه، أتأمرني أن أقتل العباس؟» فجعل عمر يقول: ويل لعمر ثلكته أمه، ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة ولا يغلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدّ خوفي فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إلا سهيل بن بيضاء» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم» فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فيكون مجموع ذلك ألفاً وستمائة درهم، وقال قتادة: كان الفداء يومئذٍ لكل أسير أربعة آلاف. قال عمر رضي الله تعالى عنه: فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه {تريدون} أيها المؤمنون {عرض الدنيا} بأخذ فداء من المشركين، وإنما سمي منافع الدنيا عرضاً، لأنها لا ثبات لها ولا دوام، فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة {وا يريد} لكم {الآخرة} أي: ثوابها بقهركم المشركين ونصركم الدين {وا عزيز} لا يقهر ولا يغلب {حكيم} أي: لا يصدر منه فعل إلا وهو في غاية الإتقان، قال ابن عباس: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذٍ قليل، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم، أنزل الله تعالى في الأسرى {فإمّا مناً بعد وإما فداء} (محمد، 4) فجعل الله تعالى نبيه والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا فادوهم، وإن شاءوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 أعتقوهم أي: فهذه الآية نسخت تلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الغنائم حراماً على الأنبياء والأمم، وكانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان وكانت تنزل نار من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون وأخذوا الفداء فأنزل الله تعالى. {لولا كتاب من الله سبق} أي: لولا قضاء الله سبق في اللوح المحفوظ، بأنه يحمل لكم الغنائم {لمسكم} أي: لنالكم {فيما أخذتم} أي: من الفداء {عذاب عظيم} وقال الحسن ومجاهد: لولا كتاب من الله سبق إنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحق: لم يكن من المؤمنين أحد إلا أحب الغنائم، إلا عمر بن الخطاب، فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ» . روي: لما نزلت هذه الآية كف رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم أن يأخذوا من الفداء فنزلت: {فكلوا مما غنمتم} أي: من الفداء، فإنه من جملة الغنائم {حلالاً طيباً} فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وقال صلى الله عليه وسلم «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل لنا الغنائم ذلك بأنّ الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا» . فإن قيل: ما معنى الفاء في قوله تعالى: {فكلوا} ؟ أجيب: بأنها سببية والمسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم فكلوا، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وحلالاً حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي: أكلاً حلالاً، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، ولذلك وصفه بقوله: {طيباً} . {واتقوا الله} في مخالفته {إنّ الله غفور} غفر ذنوبكم {رحيم} أباح لكم ما أخذتم، وقوله تعالى: {واتقوا الله} إشارة إلى المستقبل، وقوله تعالى: {إنّ الله غفور رحيم} إشارة إلى الحالة الماضية ولما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسارى وثق عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر الله تعالى هذه الآية استمالاً لهم، فقال عز من قائل: {يأيها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى} قرأ أبو عمرو بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف، والباقون بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعدها، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين {إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} أي: خلوص إيمان وصحة نية {يؤتكم خيراً مما أخذ منكم} من الفداء، قال ابن عباس: نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث كان العباس أسيراً يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلماً إلا أنهم ألزموني فقال صلى الله عليه وسلم «إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا» قال العباس: وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ذلك الذهب لي فقال: «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا» قال: فكلفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس: تركتني يا محمد أتكفف قريشاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأين ما دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة، وقلت لها ما أدري ما يصيبني، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 حدث بي ما حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي؟ قال: «أخبرني به ربي» فقال العباس: أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب، قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي» . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمره العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة من ربكم يعني الدعوة بقوله تعالى: {ويغفر لكم وا غفور رحيم} واختلف المفسرون في أنّ الآية نزلت في العباس خاصة أو في جملة الأسارى قال بعضهم: إنها نزلت في الكل قال الرازي: وهذا أولى؛ لأنّ ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه: أحدها: قوله تعالى: {قل لمن في أيديكم} . وثانيها: قوله تعالى: {من الأسرى} . وثالثها: قوله تعالى: {إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} . ورابعها: قوله تعالى: {يؤتكم خيراً} . وخامسها: قوله تعالى: {مما أخذ منكم} . وسادسها: قوله تعالى: {ويغفر لكم} فدلت هذه الألفاظ الستة على العموم فما الموجب للتخصيص أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول هذه الآية هو العباس إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {وإن يريدوا} أي: الأسارى {خيانتك} أي: بما أظهروا من القول {فقد خانوا الله} بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعهد {من قبل} أي: قبل بدر {فأمكن منهم} ببدر قتلاً وأسراً فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا {وا عليم} بما في بواطنهم وضمائرهم من إيمان وتصديق وخيانة {حكيم} أي: بالغ الحكمة فهو يتقن كل ما يريده فهو يوهن كيدهم ويتقن ما يقابلهم به فيلحقهم لا محالة وكذا فعل تعالى في ابن عزة الجمحي، فإنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنّ عليه بغير شيء لفقره وعياله وعاهده على أنه لا يظاهر عليه أحداً، ثم خان فظفر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيراً، فاعتذر له وسأله العفو عنه فقال: «لا، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرّتين وأمر به فضربت عنقه. {إنّ الذين آمنوا} أي: بالله ورسوله {وهاجروا} أي: وأوقعوا الهجرة من بلاد الشرك وهم المهاجرون الأوّلون هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم {وجاهدوا} أي: وأوقعوا الجهاد وهو بذل الجهد في توهين الكفر {بأموالهم} وكانوا في غاية العزة في أوّل الأمر {وأنفسهم} بإقدامهم على القتال مع شدّة الأعداء وكثرتهم وقدم المال؛ لأنه سبب قيام النفس أي: بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار، والنخيل وغيرها، وأخر قوله تعالى: {في سبيل الله} لذلك، وفي سببية أي: جاهدوا بسببه حتى لا يصدّ عنه صاد، ويسهل المرور فيه من غير قاطع {والذين آووا} أي: من هاجر إليهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأسكنوهم في ديارهم وقسموا لهم من أموالهم وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوّجوهنّ {ونصروا} أي: الله ورسوله والمؤمنين وهم الأنصار رضي الله عنهم، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من هذين الجنسين ولكن المهاجرين الأوّلون أعلى منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأهل والأوطان. @ وأشار تعالى إلى القسمين بأداة البعد لعلوّ مقامهم فقال: {أولئك} أي: العالو الرتبة {بعضهم أولى ببعض} أي: دون أقاربهم من الكفار قال ابن عباس في الميراث فكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث كانوا وصار ذلك منسوخاً بقول تعالى {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} {والذين آمنوا ولم يهاجروا} أي: آمنوا وأقاموا بمكة {ما لكم من ولايتهم من شيء} أي: فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة {حتى يهاجروا} أي: إلى المدينة {وإن استنصروكم في الدين} أي: ولم يهاجروا {فعليكم النصر} أي: فيجب عليكم أن تنصروهم على المشركين {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي: عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم {وا بما تعملون بصير} في ذلك ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة وغير ذلك مما تقدّم وترهيب من العمل بأضدادها، وفي البصير إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً، ففيه مزيد حث على الإخلاص. {والذين كفرا بعضهم أولياء بعض} أي: في النصر؛ لأن كفار قريش كانوا معادين اليهود فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاونوا عليه جميعاً وفي الميراث، فيرث بعضهم بعضاً ولا إرث بينكم وبينهم {ألا تفعلوه} أي: ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم لبعض حتى في الميراث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار {تكن} أي: تحصل {فتنة} أي: عظيمة {في الأرض} بضعف الإيمان وقوّة الكفر {وفساد كبير} في الدين، ولما تقدّمت أنواع المؤمنين المهاجر والناصر والقاعد وذكر أحكام موالاتهم أخذ يبين تفاوتهم في الفضل بقوله تعالى: {والذين آمنوا} أي: بالله ورسوله وما أتى به {وهاجروا} في الله تعالى من يعادي نبيه صلى الله عليه وسلم سابقين {وجاهدوا في سبيل الله} بما تقدّم من المال والنفس وغيرهما، فبذلوا الجهد في إذلال الكفار ولم يذكر آلة الجهاد؛ لأنها مع تقدّم ذكرها لازمة {والذين أووا} أي: من هاجر إليهم {ونصروا} أي: حزب الله {أولئك هم المؤمنون} أي: الكاملون في الإيمان {حقاً} أي: لأنهم حققوا إيمانهم بتحقيق مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق ثم وعدهم الموعد الكريم بقوله تعالى: {لهم مغفرة} أي: لزلاتهم وهفواتهم؛ لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عند التقصير وإن اجتهد ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة ذكر تزكيتهم بالرحمة بقوله تعالى: {ورزق} أي: من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة {كريم} أي: لا تبعة ولا منة فيه ثم الحق بهم في الأمرين من يستلحق بهم ويتسم بسمتهم بقوله تعالى: {والذين آمنوا من بعد} أي: بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة {وهاجروا} أي: لاحقين للسابقين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبية قال: وهي الهجرة الثانية {وجاهدوا معكم} أي: من تجاهدونه من حزب الشيطان {فأولئك منكم} أي: من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها لأنّ الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 أفهمته أداة البعد {وأولوا الأرحام} أي: ذووا القرابات {بعضهم أولى ببعض} قال ابن عباس: كانوا يتوارثون بالهجرة والإخاء حتى نزلت هذه الآية فبين الله تعالى بها أن سبب القرابة أقوى وأولى من سبب الهجرة والإخاء ونسخ بها ذلك التوارث وقوله تعالى: {في كتاب الله} أي: في حكمه في اللوح المحفوظ أو القرآن وتمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذه على توريث ذوي الأرحام وأجاب عنه الشافعي رضي الله تعالى عنه بأنه لما قال في كتاب الله كان معناه في حكم الله الذي بينه في سورة النساء، فصارت هذه السورة مقيدة بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء في قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي فللعصبات فوجب أن يكون المراد من هذا هو ذاك فقط فلا يتعدّى إلى توريث ذوي الأرحام ثم قال تعالى في ختم السورة {إن الله بكل شيء عليم} أي: إن هذه الأرحام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح وليس فيها شيء من العبث والباطل لأنّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أنّ الملائكة لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال الله تعالى مجيباً لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} أي: كما علمتم بكوني عالماً بكل المعلومات فاعلموا أنّ حكمي يكون منزهاً عن الغلط فكذا هنا وقول البيضاوي في بعض النسخ تبعاً للزمخشريّ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا» حديث موضوع. سورة التوبة مدنية إلا الآيتين من قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} وهي آخر ما نزلت وآيها مائة وثلاثون وقيل: تسع وعشرون، وعدد كلماتها ألفان وأربعمائة وسبع وتسعون كلمة وحروفها عشرة آلاف وثمانمائة وسبعة وثمانون حرفاً، ولها عدّة أسماء: التوبة، براءة، المقشقشة، البحوثة، المبعثرة، المنقرة، المثيرة، الحافرة، المخزية، الفاضحة، المنكلة، المشردة، المدمدمة، سورة العذاب وإنما سميت بذلك لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبرؤ منه والبحث عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم وأخرج في معناه عن علي أن البسملة أمان وهي نزلت لرفع الأمن بالسيف، وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب. وروى البخاريّ عن البراء أنها آخر سورة نزلت، وقيل: كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه سورة أو آية بين موضعها فتوفي ولم يبيّن موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتسامتها؛ لأنّ في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها، قال القاضي: يبعد أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام لم يبيّن كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال لأنّ القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل ولو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور، وفي آيات السورة الواحدة وذلك يخرجه عن كونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 حجة بل الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحياً، وأنه عليه الصلاة والسلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً، والقول بأنّ قصتها تشابه قصتها وتناسبها فضمت إليها إنما يتم إذا قلنا: إنهم إنما وضعوا هذه السورة من قبل أنفسهم لهذه العلة. وقيل: إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة سورة واحدة أم سورتان، فقال بعضهم: هما سورة واحدة؛ لأنّ كلتيهما نزل في القتال، ومجموعهما هو السورة السابعة من الطوال وهي سبع، وما بعدها المؤن؛ لأنهما معاً مائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال: سورتان، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا تركوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول: هما سورة واحدة. وقال بعض أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه: لعل الله لما علم من بعض الناس أنهم ينازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن أمر أن لا تكتب ههنا ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة وجب كونها آية من كل سورة، وقيل غير ذلك. والصحيح من هذه الأقوال ما ذهب إليه القاضي من أنّ القرآن مرتب من قبل الله ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل، وأنه صلى الله عليه وسلم حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً، وإنما ذكرت هذه الأقوال تشحيذاً للأذهان. وقوله تعالى: {براءة} خبر مبتدأ محذوف أي: هذه براءة. وقوله تعالى: {من الله ورسوله} من: ابتدائية متصلة بمحذوف تقديره: واصلة من الله ورسوله، ويجوز أن يكون: براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر {إلى الذين عاهدتم} أي: أوقعتم العهد بينكم وبينهم {من المشركين} أي: وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع النظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وإنما الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فغنيان عن ذلك، أمّا الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فبالذي اختاره للرسالة؛ لأنه ما فعل ذلك إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب. روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله تعالى بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى: {وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} (الأنفال، 58) الآية ونقض العهد بما يذكر في قوله تعالى {فسيحوا} أي: سيحوا آمنين أيها المشركون {في الأرض أربعة أشهر} لا يتعرّض لكم فيها ولا أمان لكم بعدها، وكان ابتداء هذه الأشهر يوم الحج الأكبر وانقضاؤها إلى عشر من ربيع الآخر، وقال الأزهري: هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم؛ لأنها نزلت في شوّال. وقيل: في ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشرين من شهر ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرم منها. قال البغوي: والأوّل هو الأصوب وعليه الأكثرون اه. وقيل: العشر من ذي القعدة إلى عشر من شهر ربيع الأوّل؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وكان نزولها في سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على موسم الحج سنة تسع ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدّي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي من أبي بكر سمع أبو بكر الرغاء فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصل العضباء: المشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته صلى الله عليه وسلم كذلك ولكن كان ذلك علماً عليها، والرغاء بالمدّ: صوت ذوات الخف قاله الجوهري، فلما لحقه قال أمير أو مأمور. وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما كان ببعض الطريق هبط جبريل، وقال: يا محمد لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك فأرسل علياً رضي الله عنه فرجع أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله أشيء نزل، قال: نعم فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي، فلما كان قبل التروية بيوم خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد ثلاث عشرة، ثم قال: أمرت بأربع آي بأن أخبروا نادى بها أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف به عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقالوا عند ذلك: أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع. فإن قيل: قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة لأن يؤدّوا عنه كثيراً ولم يكونوا من عترته، أجيب: بأنّ هذا ليس على العموم بل مخصوص بالعهود؛ لأنّ العرب عاداتها أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل من الأقارب، فلو تولاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فربما لم يقبلوا فلم يخف عليهم بتوليته علياً ذلك، ويدل على ذلك أن في بعض الروايات لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي، وقيل: لما خص أبا بكر بتولية الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب، وقيل: قرر أبا بكر على الموسم وبعث علياً خليفة لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر. فإن قيل: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ أجيب: بأنهم قالوا: قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها. {واعلموا أنكم غير معجزي الله} أي: لا تفوتونه وإن أمهلكم {وأنّ الله مخزي الكافرين} أي: مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب. {وأذان} أي: إعلام واقع {من الله ورسوله إلى الناس} إذ الأذان في اللغة الإعلام، ومنه الأذان للصلاة، فإنه إعلام بوقتها وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين. فإن قيل: لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس أجيب: بأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث. {يوم الحج الأكبر} أي: يوم عيد النحر لأنّ فيه معظم أفعاله من طواف ونحر وحلق ورمي يقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 فيه، ولأن الإعلام كان فيه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال: أي يوم هذا؟ فقالوا: يوم النحر فقال: هذا يوم الحج الأكبر. وروي أن علياً رضي الله عنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال: يومك هذا فخل سبيلها، وقيل: يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة» ، وقيل: أيام منى كلها؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقوله يوم صفين ويوم الجمل؛ لأنّ الحرب دامت في هذه الأيام ويطلق عليها يوم واحد. وقيل: هو الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده ووصف الحج بالأكبر؛ لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، وإنما قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها عن الحج. وقيل: وصف بذلك لموافقته حج النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة وودّع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم. وقيل: وصف بذلك لاجتماع أعياد الملل في ذلك اليوم. وقيل: لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين. وقوله تعالى: {إنّ الله بريء من المشركين} أي: من عهودهم فيه حذف تقديره وأذان من الله ورسوله بأنّ الله بريء من المشركين، وإنما حذف الجار لدلالة الكلام عليه. وقوله تعالى: {ورسوله} مرفوع على أنه مبتدأ حذف خبره أي: ورسوله. كذلك وحكي أنّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: ورسوله بالجرّ، فقال: إن كان الله بريء من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيّ الواقعة فحينئذٍ أمر عمر بتعليم العربية. وحكي أيضاً أنّ أعرابياً قدم في زمن عمر، فقال: من يقرئني مما أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم فأقرأه رجل براءة، فقال: {إنّ الله بريء من المشركين ورسول} هـ بالجرّ، فقال الأعرابيّ: أوقد برىء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا بريء منه، فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه مقالة الأعرابيّ فدعاه فسأله فأخبره الأعرابيّ بذلك، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابيّ فقال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {إنّ الله بريء من المشركين ورسوله} بالرفع، فقال: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود الدؤلي فوضع النحو. {فإن تبتم} أي: عن الكفر والغدر {فهو} أي: ذلك الأمر العظيم وهو المتاب {خير لكم} أي: من الإقامة على الشرك، وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لدخول النار. {وإن توليتم} أي: أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} وذلك وعيد عظيم وإعلام بأنّ الله تعالى قادر على إنزال أشدّ العذاب بهم كما قال تعالى: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي: مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة ولفظ البشارة هنا ورد على سبيل الإخبار أو على سبيل الاستهزاء كما يقال محبتهم الضرب وإكرامهم الشتم، وقوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين} استثناء من المشركين وهم بنو ضمرة حيّ من كنانة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدّتهم، وكان قد بقي من مدّتهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا كما قال تعالى: {ثم لم ينقصوكم شيئاً} أي: من عهودكم التي عاهدتموهم عليها {ولم يظاهروا} أي: ولم يعاونوا {عليكم أحداً} من عدوّكم {فأتموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 إليهم عهدهم إلى مدّتهم} أي: إلى انقضائها، ولا تجروهم مجرى الناكثين. وقوله تعالى: {إنّ الله يحب المتقين} تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى. {فإذا انسلخ} أي: انقضى وخرج {الأشهر الحرم} التي حرم الله تعالى عليهم فيها قتالهم، وضربت أجلاً لسياحتهم والتعريف مثله في {فأرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل، 16) والمراد بكونها حرماً أنّ الله تعالى حرم القتل والقتال فيها. وقيل: هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، قال البيضاويّ: وهذا يخل بالنظم أي: نظم الآية إذ نظمها يقتضي توالي الأشهر المذكورة. {فاقتلوا المشركين} أي: الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً {حيث وجدتموهم} أي: في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره. {وخذوهم} أي: بالأسر {واحصروهم} أي: بالحبس عن إتيان المسجد الحرام والتصرّف في بلاد الإسلام في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى الإسلام أو القتل {واقعدوا لهم} أي: لأجلهم خاصة، فإن ذلك من أفضل العبادات {كل مرصد} أي: طريق يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد. وانتصاب كل على الظرفية كقوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (الأعراف، 16) وقيل: بنزع الخافض، قال الحسن بن الفضل: نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء. {فإن تابوا} أي: عن الكفر بالإيمان {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم، فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق. {فخلوا سبيلهم} أي: فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك، وفي هذه الآية دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله؛ لأنه إن كان جاحداً لوجوبهما فهو مرتدّ وإلا قتل بترك الصلاة وأخذت منه الزكاة قهراً وقوتل على ذلك كما نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما توفي النبيّ صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر كفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله» فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: عقالاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أنّ الله شرح صدر أبي بكر إلى القتال، فعرفت أنه الحق. {إنّ الله غفور} أي: بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها {رحيم} به. {وإن أحد من المشركين} أي: الذين أمرت بقتالهم {استجارك} أي: طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدّة السياحة {فأجره} أي: فأمنه ودافع عنه من يقصده بسوء. {حتى يسمع كلام الله} أي: القرآن بسماع التلاوة الدالة عليه فيعلم بذلك ما يدعى إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس من كلام الخلق {ثم} إن أراد الانصراف ولم يسلم {أبلغه مأمنه} أي: الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه لينظر في أمره، ثم بعد ذلك يجوز لك قتلهم وقتالهم من غير غدر ولا خيانة. قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة. تنبيه: أحد: مرفوع بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره: وإن استجارك أحد، ولا يجوز أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 يرتفع بالابتداء؛ لأن إن من عوامل الفعل، فلا تدخل على غيره. {ذلك} أي: الأمر بالإجارة للغرض المذكور {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يعلمون} أي: لا علم لهم لأنهم لا عهد لهم بنبوّة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم، وقوله سبحانه وتعالى: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله} استفهام معناه الجحد أي: لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد {إلا الذين عاهدتم} أي: من المشركين {عند المسجد الحرام} يوم الحديبية وهم المستثنون قبل {فما استقاموا لكم} أي: أقاموا على العهد ولم ينقضوه {فاستقيموا لهم} أي: على الوفاء وهو كقوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم} (التوبة، 4) غير أنه مطلق وهذا مقيد، وما تحتمل الشرطية والمصدرية. {إنّ الله يحب المتقين} أي: من اتقى يوفي بعده لمن عاهده، وقد استقام صلى الله عليه وسلم على عهدهم حتى نقضوه بإعانة بني بكر على خزاعة. وقوله تعالى: {كيف} تكرار للاستبعاد بثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوماً أي: كيف يكون لهم عهد ثابت {وإن} أي: والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة، فهم إن {يظهروا عليكم} أي: يعلو أمرهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق {لا يرقبوا} أي: لا يراعوا {فيكم} أي: في أذاكم بكل جليل وحقير {إلا} أي: قرابة محققة قال حسان: *لعمرك إن إلّك من قريش ... كإلِّ السقب من رأل النعام* السقب: ولد الناقة، والرأل: ولد النعامة، والخطاب في لعمرك لأبي سفيان، أي: لا قرابة بينك وبين قريش كما لا قرابة بين ولد الناقة وولد النعامة. وقيل: إلا إلهاً، وقيل: جبريل {ولا ذمة} أي: عهداً بل يؤذوكم ما استطاعوا وقوله تعالى: {يرضونكم بأفواههم} أي: بكلامهم كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد {وتأبى قلوبهم} أي: عن الوفاء به لمخالفة ما فيها من الأضغان {وأكثرهم فاسقون} أي: راسخو الأقدام في الفسق. فإن قيل: الموصوفون بهذه الصفة كفار، والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم. وأيضاً الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله: وأكثرهم فائدة؟ أجيب: بأنّ الكافر قد يكون عدلاً في دينه، فلا ينقض العهد، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه فينقضه، فالمراد بالفسق هنا نقض العهد، وكان في المشركين من وفى بعهده، فلهذا قال: وأكثرهم أي: إنّ هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهد أكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم. وقال ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال: {وأكثرهم فاسقون} حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام. {اشتروا} أي: استبدلوا {بآيات الله} أي: القرآن {ثمناً قليلاً} أي: عرضاً يسيراً من الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات مع مصاحبة الكفر، وذلك أنّ أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم فنقض العهد الذي بينهم بسبب تلك الأكلة {فصدوا} أي: فتسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا {عن سبيله} أي: منعوا الناس من الدخول في دينه {إنهم ساء} أي: بئس {ما كانوا يعملون} أي: عملهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 هذا، وما دل عليه قوله تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة} فهو تفسير لا تكرير، وقيل: الأوّل عام في المنافقين، وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. {وأولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {هم المعتدون} الذين تعدوا ما حد الله لهم في دينه وما يوجبه العقد والعهد. ولما بيّن تعالى حال من لا يرقب في الله إلاً ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدّى ما حدّ الله تعالى له بين ما يصيرون به من أهل دينه بقوله تعالى: {فإن تابوا} أي: رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به {وأقاموا الصلاة} أي: المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها {وآتوا الزكاة} المفروضة عليهم طيبة بها نفوسهم {فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم {في الدين} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقوله تعالى: {ونفصل الآيات لقوم يعلمون} اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين. {وإن نكثوا} أي: نقضوا {أيمانهم} أي: عهودهم. {من بعد عهدهم} الذي عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحداً من أعدائكم {وطعنوا في دينكم} أي: وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه. {فقاتلوا أئمة الكفر} أي: الكفار بأسرهم، وإنما خص الأئمة منهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع منهم على هذه الأعمال الباطلة، وقال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وأبي جهل وسائر رؤساء قريش، وهم الذين نقضوا عهودهم وهموا بإخراج الرسول، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة وحققها الباقون، وقول البيضاوي: والتصريح بالياء لحن تبع فيه الكشاف التابع للفراء، وهو مردود، فالجمهور من النحاة والقراء على جواز قلب الهمزة الثانية حرف لين، فبعضهم على جعلها بين بين، وبعضهم على قلبها ياء خالصة، وقوله تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} قرأ ابن عامر بكسر الهمزة أي: لا تصديق لهم ولا دين وليس في ذلك دلالة على أنّ توبة المرتدّ لا تقبل، والباقون بالفتح جمع يمين أي: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان، وإلا لما طعنوا في دينكم ولم ينكثوا، وفيه دليل على أنّ الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده أي: إن شرط ذلك عليه كما هو مذهبنا وتمسك أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذا على أنّ يمين الكافر لا تكون يميناً وعند الشافعيّرخمه الله تعالى يمينهم منعقدة، ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يؤمنوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان والدليل على أنّ يمينهم منعقدة أنّ الله تعالى وصفها بالنكث في قوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم} ولو لم تكن منعقدة لما صح وصفها بالنكث وقوله تعالى: {لعلهم ينتهون} متعلق بقاتلوا أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن ينتهوا عما هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وهذا في غاية كرم الله تعالى وفضله على الإنسان وليس الغرض إيصال الأذية لهم كما هو طريقة الموحدين. ولما قال تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} أتبعه بذكر ثلاثة أسباب تبعثكم على مقاتلتهم، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع: أحدها ما ذكره تعالى بقوله: {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} أي: نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 عقد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكرة على خزاعة وهذا يدلّ على أنّ قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم وثانيها قوله تعالى: {وهموا بإخراج الرسول} من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على ما ذكر في قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} . وقيل: هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة وهذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. وثالثها قوله تعالى: {وهم بدؤوكم} أي: بالقتال {أوّل مرّة} أي: هم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم بالكتاب المنير وتحدّاهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادؤون بالقتال والبادىء أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم، وبخهم الله تعالى بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها، وتقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرّط فيها. {أتخشونهم} أي: أتخافونهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم {فا أحق أن تخشوه} فقاتلوا أعداءه {إن كنتم مؤمنين} أي: مصدقين بوعد الله تعالى ووعيده؛ لأنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: {ولا يخشون أحداً إلا الله} (الأحزاب، 39) ولما وبخهم الله تعالى على ترك القتال جدّد له الأمر به بقوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} أي: بالقتل والأسر واغتنام الأموال. فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال، 33) فكيف قال تعالى هنا: {يعذبهم الله بأيديكم} ؟ أجيب: بأن المراد بالعذاب في الآية الأولى عذاب الاستئصال، وبهذه الآية القتل والأسر. والفرق: أنّ عذاب الاستئصال قد يتعدّى إلى غير المذنب، وإنه في حقه لمزيد الثواب وعذاب القتل مقصور على المذنب وهذا كالتصريح بأنّ هذا الفعل وما عطف عليه فعله تعالى وإن كان جارياً على أيدي العباد كسباً لا يرد على ذلك أنه لا يقال يعذب الله المؤمنين بأيدي الكافرين؛ لأنّ ذلك إنما امتنع لشناعة العبارة كما لا يقال: يا خالق القاذورات والأبوال والعذرات وإن كان هو الخالق لها. {ويخزهم} أي: بالذل والفضيحة في الدنيا والعذاب في الآخرة {وينصركم عليهم} أي: يمكنكم من قتلهم وإذلالهم {ويشف صدور قوم مؤمنين} أي: طائفة من المؤمنين وهم خزاعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب. {ويذهب غيظ قلوبهم} أي: كربها ووجدها، وقد وفى الله تعالى بما وعد، والآية من المعجزات. وقوله تعالى: {ويتوب الله على من يشاء} استئناف أي: إنّ الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم مَنَّ الله تعالى عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا وحسن إسلامهم. {وا عليم} أي: يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان فهو عليم بكل شيء، فيعلم من يصلح للتوبة ومن لا يصلح لها، أو يعلم ما في قلوبكم من الإقدام والإحجام {حكيم} أي: أحكم جميع أموره. {أم حسبتم} أي: أظننتم {أن تتركوا} فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الكاذب، والخطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال، وقيل للمنافقين. وأم: بمعنى همزة الإنكار. {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} أي: علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل، وعبر تعالى بلما دون لم لدلالتها مع استغراق الزمان على أن تبين ما بعدها متوقع كائن، وقوله تعالى: {ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} عطف على جاهدوا داخل في حيز الصلة كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذي وليجة من دون الله. والوليجة: فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة: هي الخيانة. وقال عطاء: هي الأولياء. {وا خبير بما تعملون} من مولاة المشركين وغيرها، فيجازيكم عليه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ رضي الله عنه عليه القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليّ: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فأنزل الله تعالى رداً على العباس. {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مسجد الله بدخوله والقعود فيه وخدمته، فإذا دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذنه لم يعزر، لكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر، وذهب جماعة إلى أنّ المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد وترميمه عند خرابه فيمنع منه الكافر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون السين ولا ألف بعدها على التوحيد، وفي هذا دلالة على أن المراد المسجد الحرام. والباقون بفتح السين، وألف بعدها على الجمع. وفيه دلالة على أن المراد جميع المساجد، وقيل: المراد على القراءتين المسجد الحرام، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع. وقوله تعالى: {شاهدين على أنفسهم بالكفر} حال من الواو في يعمروا، أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم، قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أنّ كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف بثياب قد عملنا فيها المعاصي وكلما طافوا أسبوعاً سجدوا للأصنام فلم يزدادوا من الله إلا بعداً. وقيل: هو قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل: من أنت؟ فيقول: نصراني، واليهوديّ يقول: يهودي، والمشرك يقول: مشرك. {أولئك حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: الأعمال التي عملوها من أعمال البر وافتخروا بها مثل العمارة والحجابة والسقاية، وفك العناة مع الكفر لا تأثير لها {وفي النار هم خالدون} لجعلهم الكفر مكان الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ مرتكب الكبيرة من أهل الإيمان لا يبقى مخلداً في النار من وجهين: الأوّل قوله تعالى: {وفي النار هم خالدون} يفيد الحصر أي: هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا وارداً في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني: أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار عن كفرهم، فلو كان هذا الحكم جزاء لغير الكافر لما صح تهديد الكافر به. وفي الكشاف: أن الكبيرة تهدم الأعمال وهو جار على مذهبه الفاسد، ولما بيّن تعالى أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين المستحق لعمارتها بقوله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن با واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش} أحداً {إلا الله} أي: إنما تتم عمارتها لهؤلاء الجامعين بين الكمالات العملية والعلمية. فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم مع أنّ الإيمان به شرط في صحة الإيمان؟ أجيب: بأنه تعالى لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالتشهد وهو مشتمل على ذكره كان ذلك كافياً، ومما علم من أن الإيمان بالله تعالى قرينه وتمامه الإيمان به فكان الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مذكوراً بطريق أبلغ وهو طريق الكناية لما مرّ من مقارنتهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وقيل: إن المشركين كانوا يقولون: إنّ محمداً إنما ادّعى رسالة الله طلباً للرّياسة والملك، فلذلك ترك ذكر النبوّة فكأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوّة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرياسة. فإن قيل: كيف قال تعالى: {ولم يخش إلا الله} والمؤمن يخاف الظَلَمة والمفسدين؟ أجيب: بأن المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله تعالى عنه رضا غيره لتوقع مخوف. وإذا اعترضه أمران: أحدهما: حق الله تعالى، والآخر: حق نفسه؛ أن يخاف الله تعالى، فيؤثر حق الله تعالى على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم. ومن عمارة المساجد: ترميمها وفرشها وتنويرها بالسرج التي لا سرف فيها، وإدامة العبادة فيها والذكر. ومن الذكر درس العلم فيها، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الدنيا. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» . وفي الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» . وفي «الكشاف» : أنه صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره» . قال شيخ شيخنا ابن حجر: لم أجده هكذا، وفي الطبراني عن سلمان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره» . وروي عنه صلى الله عليه وسلم «من ألف المسجد ألفه الله تعالى» وقال صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» . وعن أنس رضي الله عنه: من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد وراح أعد الله تعالى له نزلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 من الجنة كلما غدا وراح» . وفي قوله تعالى: {فعسى أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفات {أن يكونوا من المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم والانتفاع بأعمالهم التي قد استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، فإنه تعالى بيّن أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليه الخشية من الله تعالى، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين لعل وعسى، فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بخير من عند الله ومنع للمؤمنين من أن يغترّوا بأحوالهم ويتكلوا عليها، وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن با واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} أقوالاً، فعن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال العباس حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام وبالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، فنزلت. وقيل: إن المشركين قالوا لليهود: نحن علينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه، فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل، فنزلت. وقيل: إنّ علياً قال للعباس رضي الله عنهما: يا عم، ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألست في أفضل من الهجرة أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً» وكان العباس عم النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره صلى الله عليه وسلم على ذلك. وروي أنه صلى الله عليه وسلم جاء السقاية فاستسقى، فقال العباس رضي الله عنه لابنه الفضل: يا فضل، اذهب إلى أمّك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال له صلى الله عليه وسلم «اسقني» قال: يا رسول الله يجعلون أيديهم فيه، قال: «اسقني» فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: «اعملوا فإنكم على عمل صالح» . وعن أبيّ بن عبد الله المزني رضي الله عنه قال: كنت جالساً مع ابن عباس عند الكعبة، فأتاه أعرابي، فقال: مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشربه وسقى فضله أسامة وقال: أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوه، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيذ: تمر ينقع في الماء غدوة وهو حلال، فإن غلا وخمر حرم. تنبيه: السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية، فلا بد من مضاف محذوف تقديره أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله {لا يستوون عند الله} أي: لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على كفره؛ لأنّ الله تعالى لا يقبل عملاً إلا مع إيمان به وبيّن عدم تساويهم بقوله تعالى: {وا لا يهدي القوم الظالمين} أي: الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم منهمكون في الضلال، فكيف يساوون الذين عاهدهم الله تعالى ووفقهم للحق والصواب؟ وقيل: المراد بالظالمين الذين يسوّون بينهم وبين المؤمنين. {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} أي: أعلى مرتبة وأكثر كرامة ممن لم يستجمع هذه الصفات والمراد من كون العبد عند الله بالاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه قطع العندية بحسب الجهة والمكان؛ لأنّ الأرواح البشرية إذا تطهرت من دنس الأوصاف البدنية أشرقت بأنوار الجلال وتجلى فيها أضواء عالم الكمال، وسرت من العبودية إلى العندية. وقيل: أعظم درجة عند الله ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام. فإن قيل: على هذا كيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكافر درجة؟ أجيب: بأنّ هذا ورد على حسب ما كانوا يقدّرون؛ لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله. ونظيره قوله تعالى: {الله خير أم ما يشركون} (النحل، 59) وقوله تعالى: {أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم} (الصافات، 62) {وأولئك} من هذه صفتهم {هم الفائزون} أي: بسعادة الدنيا والآخرة. {يبشرهم} أي: يخبرهم {ربهم} والبشارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستبشر بشرة وجهه عند سماع ذلك الخبر السار، ثم ذكر سبحانه وتعالى الذي يبشرهم به بقوله تعالى: {برحمة منه ورضوان} ، فهذا أعظم البشارات؛ لأنّ الرحمة والرضوان من الله تعالى سبحانه وتعالى على العبد نهاية مقصودة {وجنات} أي: بساتين كثيرة الأشجار والثمار {لهم فيها} أي: الجنات {نعيم} أي: جزاء خالص عن كدر مّا {مقيم} أي: غير منقطع. وقوله تعالى: {خالدين فيها} حال مقدرة وحقق الخلود بقوله تعالى: {أبداً} ، ولما ذكر تعالى هذه الأحوال، قال: {إنّ الله عنده أجر عظيم} وناهيك بما يصفه الله بالعظم وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونة بالعظم والاسم الأعظم، فكان أعظم الثواب؛ لأنّ إيمانهم أعظم الإيمان. وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء} أقوالاً فقال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة، وقال ابن عباس رضي الله تعنهما: لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من تعلق به أهله وولده يقولون: ننشدك الله أن لا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عندهم ويدع الهجرة فنزلت، فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقربائه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه حتى رخص لهم بعد ذلك. قال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة أي: لا تتخذوهم أولياء يمنعوكم عن الإيمان ويصدوكم عن الطاعة لقوله تعالى: {إن استحبوا} أي: اختاروا {الكفر على الإيمان} أي: أقاموا عليه، تركوا الإيمان بالله ورسوله {ومن يتولهم منكم} أي: ومن يختر المقام معهم على الهجرة والجهاد {فأولئك هم الظالمون} أي: فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله تعالى واختيار الكفار على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 المؤمنين. ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل قوله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} أي: أقرباؤكم مأخوذ من العشرة، وقيل: من العَشَرة، فإن العشرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة {وأموال اقترفتموها} أي: اكتسبتموها {وتجارة تخشون كسادها} أي: عدم نفاقها بفراقكم لها {ومساكن ترضونها} أي: تستوطنونها راضين بسكناها {أحب إليكم من الله ورسوله} أي: الهجرة إلى الله ورسوله {وجهاد في سبيله} فقعدتم لأجل ذلك عن الهجرة والجهاد، أي: إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله، ومن المجاهدة في سبيل الله {فتربصوا} أي: انتظروا متربصين وهو تهديد بليغ {حتى يأتي الله بأمره} . قال مجاهد بقضائه أي: عقوبة عاجلة أو آجلة، وقال مقاتل بفتح مكة {وا لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب {الفاسقين} أي: الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا. {لقد نصركم الله} النصرة المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم {في مواطن} أي: أماكن للحرب {كثيرة} كبدر وقريظة والنضير، والمراد بذلك غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه وبعوثه، وكانت غزواته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منها، وأمّا جميع غزواته وسراياه وبعوثه فقيل: سبعون، وقيل: ثمانون {ويوم} أي: واذكر يوم {حنين} وهو واد بين مكة والطائف أي: يوم قتالكم فيه هوازن وقوله تعالى: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بدل من يوم حنين، وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وقد بقي من شهر رمضان أيام، وخرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف، واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا ستة عشر ألفاً. وقال الكلبيّ: كانوا عشرة آلاف، وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء، وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا، وبالجملة كانوا عدداً كثيراً، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة إعجاباً بكثرتهم، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وقيل: قائلها أبو بكر رضي الله عنه، وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول بعيد جداً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان في أحواله كلها متوكلاً على الله تعالى منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم المشركون وتخلوا عن الذراري ثم تنادوا: يا حماة السوادة اذكروا الفضائل فتراجعوا وانكشف المسلمون حتى بلغ منهزمهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام بغلته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وناهيك بهذا شهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تناهي شجاعته قال البراء بن عازب: كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم واستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان، قال البراء: والذي لا إله إلا هو ما ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط قد رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس أخذ بلجام الدابة وهو يقول: أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب فطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يولي ثم قال للعباس: «وكان صيتاً صح يا عباس» فنادى: «يا عباد الله يا أصحاب الشجرة» وهم أصحاب بيعة الرضوان المذكورون في قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح، 18) يا أصحاب سورة البقرة قال الطيبي وهم المذكورون في قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} (البقرة، 285) وقيل: الذين أنزلت عليهم سورة البقرة فرجعوا جماعة واحدة يقولون: لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا حين حمي الوطيس» أي: اشتدّ الحرب ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب فرماهم ثم قال: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم أخذ قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل بها وجوههم، ثم قال: «شاهت الوجوه» . قالت سلمة بن الأكوع: فما خلق الله تعالى منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله تعالى. {فلم تغن} أي: الكثرة. {عنكم شيأ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي: برحبها أي: بسعتها لا تجدون فيها مقراً تطمئن إليه نفوسكم من شدّة الرعب، ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. {ثم وليتم مدبرين} أي: الكفار ظهوركم مدبرين أي: منهزمين، والإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال. {ثم أنزل الله سكينته} أي: رحمته التي سكنوا إليها وأمنوا. {على رسوله وعلى المؤمنين} أي: على الذين انهزموا، فردّوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما ناداهم العباس بإذنه صلى الله عليه وسلم وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الحرب. {وأنزل جنوداً} أي: ملائكة {لم تروها} بأعينكم قال سعيد بن جبير: مد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: ستة عشرة ألفاً. وروي أنّ رجلاً من بني النضير قال: للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة، وما قتلنا إلا بأيديهم، فأخبروا بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «تلك الملائكة» {وعذب الذين كفروا} بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب المال. {وذلك جزاء الكافرين} أي: ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا. روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قسم ما أفاء الله عليه يوم حنين في الناس، وفي المؤلفة قلوبهم، لم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاشر الأنصار: ألم أجدكم ضلالاً، فهداكم الله بي، وكنتم متفرّقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي» كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أنّ قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله، لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا. أما ترضون أمن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبيّ إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وعن رافع بن خديج أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطي عباس بن مرداس دون ذلك فقال العباس بن مرداس: *أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع* *فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع* *وما كنت دون امرىء منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع* قال: فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم له مائة. {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} منهم بالتوفيق للإسلام {وا غفور رحيم} فيتجاوز عنهم، ويتفضل عليهم. روي أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا قيل: سبي يومئذٍ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل ما لا يحصى فقال: إنّ عندي ما ترون إنّ خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً، والحسب ما يعدّه الإنسان من مفاخر آبائه، كنوا بذلك عن اختيار الذراري والنساء على استرجاع الأموال لأنّ تركهم في ذلّ الأسر يفضي إلى الطعن في أحسابهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين وإنّا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه أي: فليلزم شأنه وأمره ومن لا تطب نفسه ليعطنا وليكن قرضاً علينا أي: بمنزلة القرض حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه فقالوا: رضينا وسلمنا فقال: إني لا أدري لعلّ فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا. {يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} أي: ذوو نجس لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو إنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات فهي ملابسة لهم أو جعلوا كأنهم النجاسات بعينها مبالغة في وصفهم بها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن رحمه الله تعالى: من صافح مشركاً توضأ وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين والنجس مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. {فلا يقربوا المسجد الحرام} أي: لنجاستهم وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة والمنع من دخول الحرم. قال العلماء: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام: أحدها: الحرم فلا يجوز للكافر أن يدخل المسجد بحال ذمياً كان أو مستأمناً لظاهر هذه الآية وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام والإمام في الحرم لا يؤذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه الإمام أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وجوّز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم. القسم الثاني: من بلاد الإسلام الحجاز فيجوز للكافر دخوله بالإذن ولا يقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام. لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 لا أدع إلا مسلماً» فأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن قدم منهم تاجراً ثلاثاً وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول وأمّا في العرض فمن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشأم. والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمّة أو أمان لكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم لحاجة. وقوله تعالى: {بعد عامهم هذا} إشارة إلى العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونادى عليّ رضي الله عنه ببراءة وهو سنة تسع من الهجرة وقبل سنة حجة الوداع ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يقرأ على مشركي مكة أوّل براءة وينبذ إليهم عهدهم وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة لانقطاع السبيل وفقد الحمولات وذلك أنّ أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون فلما امتنعوا من دخول الحرم خافوا الفقر وضيق العيش فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {وإن خفتم عيلة} أي: فقراً وحاجة بانقطاع تجارتهم عنكم {فسوف يغنيكم الله من فضله} أي: من عطائه وتفضله من وجه آخر وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل المطر عليهم مدراراً فكثر خيرهم وأسلم أهل جدّة وصنعاء وتبالة وجرش وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله تعالى ما كانوا يخافون، وتبالة بفتح التاء وجرش بضمّ الجيم وفتح الراء وشين معجمة قريتان من قرى اليمن وقيد ذلك بقوله تعالى: {إن شاء} لتنقطع الآمال إليه تعالى ولينبه على أنه متفضل في ذلك وأنّ الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام. دون عام {إنّ الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {عليم} أي: بوجوه المصالح {حكيم} أي: فيما يعطي ويمنع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال من أين تأكلون فأمرهم الله تعالى بقتال أهل الكتاب كما قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون با ولا باليوم الآخر} (التوبة، 29) فإن قيل: اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟ أجيب: بأنّ من اعتقد أن العزير ابن الله وأنّ المسيح ابن الله فليس بمؤمن بل هو مشرك وبأنّ من كذب رسولاً من الرسل فليس بمؤمن واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء {ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله} من الشرك وأكل أموال الناس بالباطل وتبديل التوراة والإنجيل وغير ذلك {ولا يدينون دين الحق} أي: الثابت الذي هو ناسخ لسائر الأديان وهو الإسلام كما قال تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} (آل عمران، 19) {من الذين أوتوا الكتاب} أي: اليهود والنصارى بيان للذين لا يؤمنون {حتى يعطوا الجزية} وهي الخراج المضروب على رقابهم في نظير سكناهم في بلاد الإسلام آمنين مأخوذ من المجازاة لكفنا عنهم. وقيل من الجزاء بمعنى القضاء قال الله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً} (البقرة، 48) أي: لا تقضي وقوله تعالى: {عن يد} حال من الضمير أي: منقادين مقهورين يقال لكل من أعطي شيئاً كرهاً من غير طيب نفس أعطي عن يد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وهل يجوز أن يوكلوا مسلماً في دفعها أو لا ينبغي على تفسير الصغار المذكور في قوله تعالى: {وهم صاغرون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 أي: أذلاء منقادون لحكم الإسلام ويكفي في الصغار أن يجري عليهم الحكم بما لا يعتقدون حله أن يجوز التوكيل على هذا تفسيره ـ أن يجلس الآخذ ويقوم الكافر ويطأطىء رأسه ويحني ظهره ويضع الجزية في الميزان ويقبض الآخذ لحيته ويضرب لهزمتيه وهما مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن من الجانبين: مردود بأن هذه الهيئة باطلة ودعوى سنيتها أو وجوبها أشدّ بطلاناً ولم ينقل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً من ذلك وعلى تفسيرها بما ذكر يمتنع التوكيل إذا قيل بوجوبه لا باستحبابه. تنبيه: مفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ولكن ألحق بهم المجوس لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وقال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وكذا من زعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم ومن أحد أبويه كتابيّ والآخر وثنيّ وأولاد من تهوّد أو تنصر قبل النسخ أو شككنا في وقت التهوّد والتنصر أكان قبل النسخ أم بعده؟ فلا تعقد لأولاد من تهوّد أو تنصر بعد النسخ في ذلك الدين ولا لعبدة الأوثان والشمس والملائكة والسامرة والصابئون إن خالفوا اليهود والنصارى في أصول دينهم فليسوا منهم وإلا فمنهم، وعن مالك تؤخذ الجزية من كل كافر إلا المرتد، وعن أبي حنيفة إلا مشركي العرب، وأقلّ الجزية دينار لكل سنة عن كل واحد لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «خذ من كلّ حالم» ـ أي: محتلم ـ ديناراً صححه ابن حبان والحاكم وتؤخذ من زمن وشيخ هرم وأعمى وراهب وأجير وفقير عجز عن كسب فإذا تمت سنة وهو معسر ففي ذمّته حتى يوسر، وقال أبو حنيفة على الغنيّ ثمانية وأربعون درهماً وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على فقير غير كسوب ولا بدّ أن يكون المأخوذ منه حرّاً ذكراً غير صبيّ ومجنون وتلحق إفاقة مجنون كثرت فإن قلّ زمن الجنون كساعة من شهر فلا أثر لها ولو بلغ ابن ذمي ولم يعط جزية ألحق بمأمنه وإن أعطاها عقد له. وقيل: عليه كجزية أبيه ولا يحتاج إلى عقد له اكتفاء بعقد أبيه ومن مات ممن عقدت له الجزية أو أسلم أو جنّ أو حجر عليه بفلس أو سفه بعد سنة فجزيته كدين آدميّ أو في أثنائها تقسط وتسقط بالإسلام والموت عند أبي حنيفة. {وقالت اليهود عزير ابن الله} اختلفوا في قائل هذه المقالة على أقوال: أحدها قال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال: إنّ الله فقير ونحن أغنياء وثانيها قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبع دينك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أنّ عزيراً ابن الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذين القولين القائل إنما هو بعض اليهود إلا أنّ الله تعالى نسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على اسم الواحد يقال: فلان ركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحداً منها، وفلان يجالس السلاطين ولعله لم يجالس إلا واحداً. وثالثها: أنّ هذا المذهب لعله كان ثابتاً فيهم ثم انقطع فحكى الله تعالى ذلك عنهم ولا عبرة بإنكار اليهود لذلك فإنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 التكذيب واختلف في السبب الذي قالوا ذلك لأجله فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنّ اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرّع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدورهم فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه وقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردّها إليّ فعلقوا به يعلمهم ثم مكثوا ما شاء الله تعالى ثم إنّ التابوت أنزل بعد ذهابه عنهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله وقيل: لما رفع الله تعالى عنهم التوراة خرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لا يخرم منها حرفاً، فقالوا: ما جمع الله التوراة في قلبه وهو غلام إلا أنه ابنه، وقال الكلبيّ: إنّ بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيراً فاستصغره فلم يقتله فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة فبعث الله تعالى عزيراً ليجدّد لهم التوراة ويكون لهم آية بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة وأرسل إليه ملكاً بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره فلما أتاهم وقال لهم: أنا عزير كذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فاتل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره ثم إنّ رجلاً منهم قال: إنّ أبي حدّثني أنّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوا بها ما كتبه عزير فلم يجدوه غادر حرفاً فقالوا: إنّ الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.u وقرأ عاصم والكسائيّ عزير بالتنوين والباقون بغير تنوين، قال الزجاج: الوجه إثبات التنوين فقوله: عزير مبتدأ، وقوله: ابن خبره، وإذا كان كذلك فلا بدّ من التنوين في حال السعة لأنّ عزيراً ينصرف سواء كان عربياً أم عجمياً وسبب كونه منصرفاً أمران: أحدهما: أنه اسم خفيف فينصرف وإن كان أعجمياً كهود ولوط والثاني: أنه على صيغة التصغير وأنّ الأسماء الأعجمية لا تصغر. وأمّا الذين تركوا التنوين فلهم فيه أوجه: أحدها أنه أعجميّ معرفة فوجب أن لا ينصرف. وثانيها: قال الفرّاء: نون التنوين ساكنة من عزير والباء من ابن الله ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين فحذف التنوين للتخفيف، وردّ هذا الوجه بأنه مخالف لما تقرّر من أن الوجه عند ملاقاة التنوين للساكن التحريك لا الحذف. وثالثها: أنّ الابن وصف والخبر محذوف والتقدير عزير بن الله معبودنا، وردّ هذا أيضاً بأنه يؤدّي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدّر لأنّ من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر فكان المقصود بالإنكار قولهم: عزير ابن الله معبودنا وحصل تسليم كونه ابن الله ومعلوم أن ذلك كفر. {وقالت النصارى المسيح} أي: عيسى {ابن الله} واختلف في السبب الذي قالوا ذلك لأجله فقيل: إنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب، وقيل: إنّ النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال بولص لليهود: إن الحق مع عيسى وقد كفرنا ومصيرنا إلى النار ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار وكان له فرس يقاتل عليه يقال له العقاب فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه وقال للنصارى: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه الكنيسة ونصروه ودخل بيتاً فيها مكث فيه سنة لا يخرج منه ليلاً ولا نهراً حتى تعلم الإنجيل ثم خرج منه وقال: إنه نودي أنّ الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم عمد إلى ثلاث رجال اسم واحد منهم نسطورا والآخر يعقوب والآخر ملكا فعلم نسطورا أنّ عيسى ومريم والإله ثلاث وعلم يعقوب أنّ عيسى ليس بإنسان ولا جسم ولكنه ابن الله وعلم ملكا أنّ عيسى هو الإله لم يزل ولا يزال فلما اشتهر ذلك فيهم دعا كل واحد منهم وقال له: أنت خالصتي فادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من اليلاد ثم قال لهم: إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني، وقال لكل واحد منهم: سأذبح نفسي تقرّباً إلى عيسى، ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرّق أولئك الثلاثة فذهب واحد إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس وواحد إلى ناحية أخرى وأحكم كل واحد منهم مقالته ودعا الناس إليها فتبعه على ذلك طوائف من الناس فتفرّقوا واختلفوا ووقع القتال فهذا هو السبب في وقوع الكفر في طوائف النصارى هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى قال الرازي عقب هذه الحكاية: والأقرب عندي أن يقال ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف ثم إنّ القوم لأجل عداوة القوم بالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوّة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك وفشا هذا المذهب الفاسد في اتباع عيسى عليه السلام والله سبحانه وتعالى أعلم بالحقيقة {ذلك قولهم بأفواههم} أي: لا مستند لهم عليه. فإن قيل: كل قول يقال بالفم فما معنى بأفواههم؟ أجيب: بأنه قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ تفوهوا به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تدل على معان وذلك أنّ القول الدالّ على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب وما لا معنى له مقول بالفم لا غير أو بأن يراد بالقول المذهب كقولهم قول الشافعيّ رحمه الله تعالى يريدون مذهبه وما يقول به كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى تؤثر في القلوب وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له ولا ولد لم تكن لهم شبهة في انتفاء الولد قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زوراً {يضاهون} قال ابن عباس: يشابهون، وقال مجاهد: يواطئون، وقال الحسن: يوافقون {قول الذين كفروا من قبل} أي: من قبلهم ولا بدّ من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قول الذين كفروا ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً والمعنى أنّ الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم فالكفر قديم فيهم غير مستحدث أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله، وقيل: الضمير للنصارى أي: يضاهي قولهم: المسيح ابن الله قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم. وقرأ عاصم بكسر الهاء وبعدها همزة مضمومة والباقون بضمّ الهاء ولا همز بعدها وقوله تعالى: {قاتلهم الله} دعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 عليهم بالهلاك فإنّ من قاتله الله تعالى هلك أو تعجب من شناعة قولهم كما يقال لمن فعل فعلاً يتعجب منه قاتله الله ما أعجب فعله وقيل: لعنهم الله. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل شيء في القرآن مثله فهو لعن {أنى يؤفكون} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل مع قيام الدليل بأنّ الله تعالى واحد أحد فجعلوا له ولداً تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأنّ الله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم فالله تعالى عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل. {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم} أي: اتخذ اليهود أحبارهم أي: علماءهم والحبر في الأصل العالم من أي طائفة كان واختص في العرف بعلماء اليهود من ولد هرون وكان أبو الهيثم يقول: واحد الأحبار حبر بالفتح وينكر الكسر، واتخذ النصارى رهبانهم أي: عبادهم أصحاب الصوامع، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة من قلبه فظهر آثارها على وجهه ولباسه واختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع {أرباباً من دون الله} لأنهم أطاعوهم في تحريم ما أحلّ الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى كما تطاع الأرباب في أوامرهم ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به عباده كما قال تعالى: {بل كانوا يعبدون الجنّ} (سبأ، 41) وقال إبراهيم الخليل عليه السلام: {يا أبت لا تعبد الشيطان} ، وعن عدي بن حاتم أنه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية فقلت: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلون ما حرّمه فتحلونه، قلت: بلى، قال: تلك عبادتهم» قال عبد اللهبن المبارك: *وهل بدّل الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها* فإن قيل: إنه تعالى كفرهم بسبب أن أطاعوا الأحبار والرهبان فالقاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارج. أجيب: بأنّ الفاسق وإن كان يقبل دعوى الشيطان إلا أنه لا يعظمه بل يلعنه ويستخف به وأمّا هؤلاء فكانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم وقد يبالغ بعض الجهال في تعظيم شيخه بحيث يميل طبعه إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الآخر بعيداً عن الدين قد يلقي إليهم أنّ الأمر كما يقولون ويعتقدون، وعن الفضيل رضي الله تعالى عنه ما أبالي أطعت مخلوفاً في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة {والمسيح بن مريم} أي: اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن مريم فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية {وما أمروا} أي: في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا} أي: ليطيعوا على وجه التعبد {إلهاً واحداً} أي: لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة طاعة الله تعالى وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} صفة ثانية أو استئناف مقرّر للتوحيد {سبحانه عما يشركون} أي: تعالى وتنزه عن أن يكون له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال. {يريدون} أي: رؤساء اليهود والنصارى {أن يطفئوا نور الله} أي: شرعه وبراهينه الدالة على واحدانيته وتقديسه عن الولد أو القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {بأفواههم} أي: بأقوالهم الكاذبة وشركهم وفي تسمية دينه أو القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم نوراً ومعاندتهم إطفاءه بأفواههم تمثيل لحالهم في طلبهم أن يبطلوا نور الله بالتكذيب بالشرك بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه {ويأبى الله} أي: لا يرضى {إلا أن يتمّ نوره} بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام. فإن قيل: كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ أجيب: بأنه أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل {يريدون أن يطفئوا} بقوله: {ويأبى الله} وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقوله تعالى: {ولو كره الكافرون} محذوف الجواب لدلالة ما قبله أي: ولو كرهوا غلبته. {هو الذي أرسل رسوله} محمداً صلى الله عليه وسلم {بالهدى} أي: القرآن الذي أنزله عليه وجعله هادياً له {ودين الحق} أي: دين الإسلام {ليظهره} أي: ليعليه {على الدين كله} أي: جميع الأديان المخالفة له وهذا كالبيان لقوله تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره} ولذلك كرّر {ولو كره المشركون} غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضمو الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى. فإن قيل: الإسلام لم يضمّ غالباً لسائر الأديان في أرض الصين والهند والروم وسائر بلاد الكفر أجيب عن ذلك بأوجه: الأوّل: بأنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشأم وما والاها إلى ناحية الروم والمغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عُبَّاد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الهند والترك وكذا سائر الأديان فثبت أنّ الذي أخبر الله تعالى عنه في هذه الآية قد وقع وحصل فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً. الوجه الثاني: ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بجعل الإسلام غالباً على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام فإنه لا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج. الوجه الثالث: أنّ المراد إظهاره في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار، وقال ابن عباس: الهاء في {ليظهره} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها. {يأيها الذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار} أي: علماء اليهود {والرهبان} أي: عباد النصارى {ليأكلون} أي: يتناولون {أموال الناس بالباطل} كالرشا وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المراد من المال وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأن يفعلوا ما ينافى مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه بإظهار الزهد والمبالغة في التدين قال الرازي: ولعمري من تأمّل أحوال الناس في زماننا وجد هذه الآيات كأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعظمة مثل الملائكة المقرّبين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله {ويصدّون} الناس {عن سبيل الله} أي: دينه ولما كان مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه بين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين أمّا المال فهو المراد بقوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} (التوبة، 34) وأما الجاه فهو المراد بقوله: {ويصدّون عن سبيل الله} فإنهم لو أقرّوا بأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق لزمهم متابعته وحينئذ كان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم ولأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعته صلى الله عليه وسلم ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} يحتمل أن يراد بقوله: {الذين} أولئك الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع من إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ولا يؤدّون حقه ويكون اقترانهم بالمرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً ودلالة على أنّ من يأخذ منهم السحت ومن لا يعطي منكم بطيب زكاة ماله سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم وأن يراد كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين. لما روي عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلت بهذه الأرض فقال: كنا بالشأم فقرأت: {والذين يكنزون الذهب} الآية فقال معاوية: ما هذا فينا ما هذا إلا في أهل الكتاب، فقلت: إنها فيهم وفينا فصار ذلك سبباً لوحشة بيني وبينه فكتب إليّ عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي: تنح قريباً فقلت: إني والله لن أدع ما كنت أقول وأصل الكنز في كلام العرب الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال: هذا جسم مكتنزاً الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم على قولين: الأوّل: وهو ما عليه الأكثر أنه المال الذي لم تؤدّ زكاته لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني: شدقيه ـ ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا {ولا تحسبّن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} (آل عمران، 180) الآية» ، والشجاع: الحية، والأقرع صفته لطول عمره لأنّ من طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات، والزبيبتان: الزائدتان في الشدقين. وروي لما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم» وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ولا ينفقونها في سبيل الله} يريد الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 لا يؤدّون زكاة أموالهم، قال القاضي عياض تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال: الكنز هو الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كلّ هذا الآثام وأن يكون داخلاً في الوعيد والقول الثاني: إنّ المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم واحتج الذاهبون إلى هذا القول بعموم الآية وبما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: «تبا الذهب تبا للفضة» قالها ثلاثاً فقالوا له: أي مال نتخذ قال: «لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه» وقال عليه الصلاة والسلام: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» وتوفي شخص فوجد في مئزره دينار فقال صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال: «كيتان» وأجاب القائلون بالأوّل بأنّ هذا كان قبل فرض الزكاة فأمّا بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن فيه ويؤدّي ما أوجب عليه فيه ثم يعاقبه. وقد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن هذه الآية فقال: كانت قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال وقال ما أبالي لو أنّ لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» وقال صلى الله عليه وسلم «ما أدّي زكاته فليس بكنز» وكان في زمانه صلى الله عليه وسلم جماعة معهم الأموال كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدّهم من أكابر الصحابة وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه وكونه أدخل في الورع لأمور منها أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشدّ وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في طلب الحفظ ثم إنه لا ينتفع منها إلا بالقليل ومنها أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال تعالى: {إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق، آيتان: 6 ـ 7) فالطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقع في الخذلان والخسران ومنها أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه. فإن قيل: قال عليه الصلاة والسلام: «اليد العليا خير من اليد السفلى» أجيب: بأنّ اليد العليا إنما إفادته صفة الخيرية لأنه لما أعطى ذلك القليل تسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليل فحصل له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير بذلك الزيادة القليلة حصلت له المرجوحية. فإن قيل: إنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ثم قال: {ولا ينفقونها} فلم أفرد الضمير؟ أجيب: بأنّ الضمير راجع إلى المعنى دون اللفظ لأنّ كل واحد منهما جملة وافية وعدّة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات، 9) وقيل: ذهب به إلى المكنوز، وقيل: إلى الأموال، وقيل: التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث أنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء أو أن ذكر أحدهما يغنى عن الآخر كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} (الجمعة، 11) جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 الضمير للتجارة وقيل: التقدير والذهب كذلك كما أنّ قول القائل: فإني وقيار بها لغريب أي: وقيار كذلك. فإن قيل: ما السبب في كونه خصهما بالذكر من سائر الأموال؟ أجيب: بأنهما خصا من دون سائر الأموال لأنهما أشرف الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز ومن كنزا عنده لم يعدم سائر أجناس المال فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما ثم إنه تعالى لما ذكر من يكنز الذهب والفضة قال تعالى: {فبشرهم} أي: أخبرهم {بعذاب أليم} أي: مؤلم وعبر بالبشارة على سبيل التهكم. {يوم يحمى عليها} أي: الكنوز بأن تدخل {في نار جهنم} فيوقد عليها {فتكوى} أي: تحرق {بها} أي: بهذه الأموال {جباههم وجنوبهم وظهورهم} قال ابن مسعود رضي الله عنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته، وسئل أبو بكر الورّاق لم خصت الجباه والجنوب والظهور بالكي قال: لأنّ الغنيّ صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقير بجنبه تباعد عنه وولى عليه ظهره، وقيل: المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع أما من مقدمه فعلى الجبهة وأمّا من خلفه فعلى الظهر وأمّا من يمينه ويساره فعلى الجنبين، وقيل: لأنّ جمعهم وإمساكهم المال كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحة له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره كلما بردت عليه أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» وقوله تعالى: {هذا ما كنزتم} على إرادة القول أي: يقال لهم هذا ما كنزتم {لأنفسكم} أي: لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذبيها {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي: تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة» فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمّي من هم قال: «هم؟ الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم» . {إنّ عدّة الشهور} أي: عددها {عند الله اثنا عشر شهراً} وهي المحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وشهر ربيع الثاني وجمادى الأوّل وجمادى الثاني ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوّال وذو القعدة وذو الحجة، هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل وهي شهور العرب التي يعتدّ بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة واحدة تامّة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية من أجل النسىء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 فكان حجهم يقع تارة في وقته وتارة في المحرّم وتارة في صفر وتارة في غيرهما من الشهور فأعلم الله تعالى أنّ عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهراً على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تعالى: {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} أي: في علمه وحكمه {في كتاب الله} أي: في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل وهو أصل الكتب التي أنزلها الله تعالى على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً {يوم خلق السموات والأرض} أي: إنّ هذا الحكم حكم به قضاه يومئذ أي: السنة اثنا عشر شهراً {منها} أي: الأشهر {أربعة حرم} ثلاثة سواء ذو القعدة بفتح القاف وذو الحجة بكسر الحاء على المشهور فيهما وسميا بذلك لقعودهم عن القتال في الأوّل ولوقوع الحج في الثاني، والمحرّم بتشديد الراء المفتوحة سمي بذلك لتحريم القتال فيه وقيل: لتحريم الجنة فيه على إبليس ودخلته اللام دون غيره من الشهور لأنه أوّلها فعرفوه كأنه قيل: هذا الشهر الذي ابتدأ أول السنة وواحد فرد وهو رجب ويجمع على أرجاب ورجاب ورجوب ورجبات، ويقال له: الأصم والأصب، وقيل: لم يعذب الله أمّة في شهر رجب ورد عليه بأنّ الله تعالى أغرق قوم نوح فيه قاله الثعلبي، وهذا الترتيب الذي ذكرناه في عد الأشهر الحرم وجعلها من سنتين هو الصواب كما قاله النوويّ في شرح مسلم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وعدها الكوفيون من سنة واحدة فقالوا: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، قال ابن دحية: وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر صيامها مرتبة فعلى الأوّل يبتدىء بذي القعدة وعلى الثاني بالمحرم ومعنى الحديث أنّ الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسىء الذي كان في الجاهلية وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة ومعنى الحرم أنّ المعصية فيها أشدّ عقاباً والطاعة فيها أكثر ثواباً والعرب كانوا يعظمونها جدّاً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرّض له. فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز؟ أجيب: بأنّ هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلع الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة {ذلك} أي: تحريم الأشهر الأربعة {الدين القيم} أي: المستقيم وهو دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والعرب ورثوه منهما، وقيل: المراد بالدين الحساب يقال: الكيس من دان نفسه أي: حاسبها، والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدد المستوي وقال الحسن: ذلك الدين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم هنا بمعنى القائم الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه {فلا تظلموا فيهنّ} أي: الأشهر الحرم {أنفسكم} بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزراً لأنّ الله تعالى خص هذه الشهور بمزيد احترام في آية أخرى وهو قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة، 197) فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف وقال ابن عباس: إنّ المراد فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر قال الفراء: والأوّل أولى لأنّ العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فيهنّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها: والأصل فيه أنّ جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان: *لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما* قال: يلمعن ويقطرن لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ولو جمع جمع الكثرة لقال: تلمع وتقطر هذا في الاختيار ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة: *ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب* فقال: بهن، والسيوف جمع كثرة، وقيل: المراد بالظلم المقاتلة في هذه الأشهر، وقيل: النسيء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الذي أمر الله تعالى بإقامته فيه إلى شيء آخر ويغيرون تكاليف الله تعالى والجمهور على أنّ حرمة المقاتلة في الأشهر الحرم منسوخة، وعن عطاء لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأوّل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوّال وذي القعدة، وقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} أي: جميعاً في كل الشهور {كما يقاتلونكم كافة واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصرة ومن كان معه نصر لا محالة. {إنما النسيء} أي: التأخير لحرمة شهر إلى آخر كما كانت الجاهلية تفعل كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرّموا مكانه شهراً آخر ورفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرّد العدد فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمون صفر ويستحلون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع وهكذا شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي القعدة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة في ذي القعدة قبل حجة الوداع بسنة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجه في شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب بالناس في اليوم العاشر وأعلمهم أنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ـ الحديث المتقدّم ـ وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام وقد رجع المحرّم إلى موضعه الذي وضعه الله تعالى وذلك بعد دهر طويل. وروي عن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 بكر رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته لنا: «أيّ شهر هذا» قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس ذا الحجة» قلنا: بلى قال: «أيّ بلد هذا» قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس البلد الحرام» قلنا: بلى قال: «فأي يوم هذا» قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس يوم النحر» قلنا: بلى قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعلّ بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» قلنا: نعم قال: «اللهم اشهد» واختلفوا في أوّل من نسأ النسيء فقال ابن عباس: بنو مالك بن كنانة وكان يليه أبو ثمامة وجنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يقوم على جمل بالموسم فينادي إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرّم فأحلوه ثم ينادي في قابل إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرّم فحرّموه وقال الكلبي: أوّل من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وقيل: أول من فعل ذلك عمرو بن لحي وهو أوّل من سيب السوائب وقال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم «رأيت عمرو بن لحيّ يجرّ قصبه في النار» . وقوله تعالى: {زيادة في الكفر} معناه أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر فلما ضموا تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى وهو كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المتقدّمة من الكفر زيادة في الكفر لأنّ الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً فزادتهم رجساً إلى رجسهم كما أنّ المؤمن كلما أحدث طاعة ازدادا إيماناً فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون. وقرأ ورش النسيّ بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها فبقيت ياء مضمومة مشدّدة والباقون بهمزة مضمومة هذا في الوصل وأمّا الوقف فورش يقف بياء مشدّدة ساكنة وحمزة كذلك وله فيه الروم والاشمام والباقون بهمزة ساكنة {يضل به} أي: بهذا التأخير الذي هو النسيء {الذين كفروا} قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء وفتح الضاد لقوله تعالى: {زين لهم سوء أعمالهم} والباقون بفتح الياء وكسر الضاد على معنى أنهم هم الضالون لقوله تعالى: {يحلونه} أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم {عاماً} ويحرّمون مكانه شهراً آخر {ويحرّمونه عاماً} فيتركونه على حرمته وإنما فعلوا ذلك {ليواطؤا} أي: ليوافقوا {عدّة} أي: عدد {ما حرّم الله} من الأشهر فلا يزيدون على تحريم أربعة أشهر ولا ينقصون عنها ولا ينظرون إلى أعيانها {فيحلوا ما حرّم الله} بمواطأة العدة من غير مراعاة الوقت الذي يحلون إليه الأشهر الحرم {زين لهم سوء أعمالهم} قال ابن عباس: زين لهم الشيطان هذا العمل حتى حسبوا هذا القبيح حسناً {وا لا يهدي القوم الكافرين} أي: هداية موصلة إلى الاهتداء لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار، ولما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى المدينة وحث على غزوة تبوك وكان ذلك الوقت زمان عسرة وشدّة حرّ وطابت ثمار المدينة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز جلاً للناس أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فنزل: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم} بإدغام التاء في الأصل في المثلثة واجتلاب همزة الوصل إذ أصله تثاقلتم ومعناه تباطأتم وملتم عن الجهاد {إلى الأرض} والقعود فيها والاستفهام للتوبيخ، قال المحققون وإنما تثاقل الناس من وجوه: الأوّل: شدّة الزمان في الصيف والقحط، والثاني: بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به عادتهم في سائر الغزوات، والثالث: إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت، والرابع شدّة الحرّ في ذلك الوقت ثم قال لهم الله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا} وغرورها {من الآخرة} بدل الآخرة ونعيمها {فما متاع الحياة الدنيا في} جنب متاع {الآخرة إلا قليل} أي: حقير لأنّ متاع الدنيا يفقد عن قريب ونعيم الآخرة باق على الدوام فلهدا السبب كان متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليلاً وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأنّ الله تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجباً لما عاتبهم الله على التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور في قوله تعالى: {إلا} أي: بإدغام نون إن الشرطية في لا في الموضعين {تنفروا} أي: تخرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم للجهاد {يعذبكم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً في الآخرة لأنّ العذاب الأليم لا يكون إلا فيها أو بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو، وقيل: باحتباس المطر عنهم قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر فكان ذلك عذابهم {ويستبدل قوماً غيركم} أي: يأت بهم بدلكم قال ابن عباس: هم التابعون وقال سعيد بن جبير: أبناء فارس، وقال أبو روق: هم أهل اليمن، قال الرازي: وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية لأنّ الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل لذلك المطلق على صورة معينة شاهدوها وقال في الكشاف بعد ذكره ذلك والظاهر مستغن عن التخصيص {ولا تضروه شيئاً} أي: لا يقدح تثاقلكم في نصردينه شيئاً فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل: الضمير راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ولا تضروره لأنّ الله تعالى وعده أن ينصره ووعده كائن لا محالة {وا على كل شيء قدير} أي: فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا عدد كما قال تعالى: {إلا تنصروه} أي: محمداً صلى الله عليه وسلم أيها المؤمنون {فقد نصره الله} فإنه المتكفل بنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم في إعزاز دينه وإعلاء كلمته أعنتموه أو لم تعينوه فإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد وقد نصره {إذ} أي: حين {أخرجه الذين كفروا} من مكة حين مكروا به حيث تشاوروافي قتله أو إخراجه أو إثباته في دار الندوة فكان ذلك لإذن الله له في الخروج من بينهم حالة كونه {ثاني اثنين} أي: أحدهما أبو بكر رضي الله عنه لا ثالث لهما لم يبصرهما إلا الله تعالى وقوله تعالى: {إذ} بدل من إذ قبله {هما في الغار} أي: غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لما كمنا فيه ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب وذلك قبل أن يصلا إليكم ويعوّلا في النصر عليكم وقوله تعالى: {إذ} بدل ثان {يقول} صلى الله عليه وسلم {لصاحبه} أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء وقد قال له أبو بكر لما رأى أقدام المشركين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا {لا تحزن} والحزن همّ غليظ بتوجع يرق له القلب وإنما كان خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما لما وصلا الغار نزل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما لك» فقال: بأبي أنت وأمّي الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جُحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم «لا تحزن» {إن الله معنا} فقال له أبو بكر: وإنّ الله لمعنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «نعم» فجعل يمسح الدموع عن خدّه. وروي لما طلع المشركون فوق الغار وأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه الصلاة والسلام: «ما طنك باثنين الله ثالثهما» . وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين باضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه فقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أعم أبصارهم» فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يرون أحداً ويقولون لو دخلا هذا الغار تكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت. تنبيه: دلت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه منها أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من أبي بكر رضي الله عنه فلولا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «لا تحزن إنّ الله معنا» ولا شك أنّ المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وقد شرك صلى الله عليه وسلم بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفاً ومنها أن قوله: «لا تحزن» نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ومنها إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر: «أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض» قال الحسن بن الفضل: من قال إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته} أي: طمأنينته {عليه} هل هو للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لأبي بكر رضي الله عنه؟ رجح الثاني لوجوه: الأوّل: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدّمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال: {إذ يقول لصاحبه} والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه. والثاني: أنّ الحزن والخوف كانا حاصلين لأبي بكر لا للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان آمناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 ساكن القلب فيما وعده الله تعالى أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر: لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة لأبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه كان قبل ذلك ساكن النفس قويّ القلب. الثالث: إنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول صلى الله عليه وسلم لوجب أن يقال: إنّ الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان خائفاً لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: «لا تحزن إنّ الله معنا» فمتى كان خائفاً لم يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان راجعاً إلى الرسول لوجب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه: «لا تحزن» فيكون ذلك مما يدلّ على فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنها حديث الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عن عائشة رضي الله عنها وعن أبويها قالت: لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين ولم يمرّ علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان» فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجون ذلك يا رسول الله قال: «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق الشجر وهو الخبط أربعة أشهر، قالت عائشة: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» فقال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: «قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: «نعم» قال أبو بكر: فخذ إحدى راحلتيّ هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بالثمن» قالت عائشة: فجهزناهما أحبّ الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فسميت بذلك ذات النطاقين قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الرحمن بن أبي بكر وهو غلام شاب فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً عارفاً بالهداية وهو على دين كفار قريش فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما بعد صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديليّ فأخذ بهم طريق الساحل فعلم بهم سراقة بن مالك المدلجي وكان كفار قريش جعلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر كل واحد منهما لمن قتله أو أسره دية قال سراقة فتبعتهم حتى دنوت فعثرت فرسي فخررت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام فقربت بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم الآمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنّ قومك جعلوا فيك الدية وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً أقبلوا من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاً فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرّة فأخذ بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل فقام في بني عمرو بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته وصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مكان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان مربد تمر لسهل وسهيل فساومهما صلى الله عليه وسلم ليتخذه مسجداً فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجداً وصار صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول وهو ينقل اللبن: *هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر* ويقول أيضاً: *إنّ الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة* قال ابن شهاب: لم يبلغنا في الأحاديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا فإظهار خروجه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مما يدل على فضيلته وفضائله رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين وفيما ذكرناه كفاية. وأمّا الضمير في قوله تعالى: {وأيده} فاتفقوا أنه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو معطوف على قوله تعالى: {فقد نصره الله} . {بجنود لم تروها} أي: من الملائكة الكرام في الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وجميع مواطن قتاله {وجعل كلمة} أي: دعوة {الذين كفروا} إلى الكفر {السفلى} أي: المغلوبة فخيب سعيهم وردّ كيدهم {وكلمة الله} أي: إلى الإسلام {هي العليا} أي: الغالبة الظاهرة وقيل: كلمة الذين كفروا ما كانوا قدرها بينهم من الكيد بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وكلمة الله هي ما وعده بالنصر والظفر بهم فكان ما وعده الله تعالى حقاً وصدقاً {وا عزيز} في ملكه {حكيم} في أمره وتدبيره لا يمكن أن ينتقض شيء من مراده فلا محيص عن نفوذ ما أراده ولما بلغت هذه المواعظ من القلوب الواعية مبلغاً هيأها للقبول أقبل عليها سبحانه وتعالى فقال: {انفروا خفافاً وثقالاً} أي: على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها وعلى الصفة التي يثقل عليكم وهذان الوصفان يدخل تحتهما أقسام كثيرة ولهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 اختلفت عبارات المفسرين فيها فقال ابن عباس: نشاطاً وغير نشاط، وقال الحسن: شباناً وشيوخاً، وقال عطية العوفي: ركباناً ومشاة، وقال أبو صالح: فقراء وأغنياء، وقال الحكم بن عيينة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال حرة الهمداني: أصحاء وأصحاب مرض، وعن صفوان بن عمرو كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ألا إنه من يحبه الله يبتليه، وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب مرض فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعليّ أن أنفر قال: «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} (النو، 61) أي: فهي منسوخة بذلك وقال ابن عباس: نسخت بقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} (التوبة، 91) الآية، وقال السدي: لما نزلت اشتدّ شأنها على المسلمين فنسخها الله تعالى وأنزل {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (التوبة، 122) وقوله تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} أمر إيجاب للجهاد أي: ما أمكن لكم بهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال والحاجة. {ذلكم} أي: هذا الأمر العظيم {خير لكم} أي: خاص بكم ويجوز أن يكون أفعل تفضيل، أي: عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله هل يمكن بلوغ درجة المجاهد فقال: «هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر» ثم ختم تعالى الآية بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: ما حصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب صدق. ونزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: {لو كان} ما تدعوهم إليه {عرضاً} أي: متاعاً من الدينا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر {قريباً} أي: سهل المأخذ وقوله تعالى: {وسفراً قاصداً} أي: وسطاً فحذف اسم كان وهو ما قدرته، قال الزجاج: لدلالة ما تقدم عليه وإنما سمي السفر قاصداً لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له: مقتصد قال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد} (فاطر، 32) لأن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد وقوله تعالى: {قاصداً} أي: ذا قصد كقولهم: لابن وتامر {لاتبعوك} أي: وافقوك طلباً للغنيمة {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي: المسافة التي تقطع بمشقة {وسيحلفون} أي: المتخلفون {با} إذا رجعت من تبوك معتذرين {لو استطعنا} أي: لو كان لنا استطاعة بالبدن أو العدة {لخرجنا} أي: في هذه الغزاة {معكم يهلكون أنفسهم} أي: بسبب هذه الأيمان الكاذبة كما قال تعالى: {وا يعلم إنهم لكاذبون} في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج. {عفى الله عنك لم أذنت لهم} أي: عفا الله تعالى عنك يا محمد ما كان منك في ذلك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك، واختلفوا هل في ذلك معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وسلم لم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله تعالى كما تسمعون، وقال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ الله تعالى بالعفو قبل أن يعيره، وقال القاضي عياض في الشفاء: إن هذا أمر لم يتقدّم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولأعده الله تعالى معصية عليه بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك وليس عفا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» ولم تجب عليهم قط أي: لم يكن يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب، من لا يعرف كلام العرب. وقال مكي: هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك. وقال السمرقندي: إن معناه عافاك الله، وقال الرازي: إن ذلك يدل على مبالغة الله في توقيره وتعظيمه كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده عفا الله عنك ما جوابك عن كلامي ورضي الله عنك ما صنعت في أمري فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التمجيد والتعظيم أي: كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا: أصلح الله الأمير والملك ونحو ذلك. {حتى يتبين لك الذين صدقوا} أي: في اعتذارهم {وتعلم الكاذبين} أي: فيما أظهروا من الإيمان باللسان لو لم يؤذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يؤمئذ حتى نزلت براءة. {لا يستأذنك} أي: لا يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه {الذين يؤمنون با واليوم الآخر} أي: الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب {أن} أي: في أن {يجاهدوا} وإنما حسن هذا الحذف لظهوره {بأموالهم وأنفسهم} بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لا نستأذنه صلى الله عليه وسلم في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرّة بعد مرّة فأيّ فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا وكانوا بحيث لو أمرهم صلى الله عليه وسلم بالقعود لشق عليهم كما وقع لعليّ رضي الله عنه في غزوة تبوك لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ولم يرض حتى قال له صلى الله عليه وسلم «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» {وا عليم بالمتقين} أي: الذين يتقون مخالفته ويسارعون إلى طاعته. {إنما يستأذنك} يا محمد في التخلف عن الجهاد معك من غير عذر {الذين لا يؤمنون با واليوم الآخر} وهم المنافقون لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً {وارتابت} أي: شكت {قلوبهم} في الدين وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لأنه محل المعرفة والإيمان فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقاً {فهم} أي: فتسبب عن ذلك أنهم {في ريبهم يتردّدون} أي: المنافقون ويتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين. تنبيه: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآيات فقيل إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى: {إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون با ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} (النو، 62) وقيل: إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة الله تعالى وجهاد عدوهم من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 استئذان فإذا عرض لأحدهم عذر استأذن في التخلف فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً في الإذن لهم بقوله تعالى: {فأذن لمن شئت منهم} وأما المنافقون فكانوا يستأذنون في التخلف من غير عذر فعيرهم الله تعالى بهذا الاستئذان لكونه بغير عذر. {ولو أرادوا الخروج} إلى الغزو معك {لأعدّوا له} أي: قبل حلوله {عدّة} أي: قوّة وأهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها، ولما كان قوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج} يعطي معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو أتى تعالى بحرف الاستدراك فقال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم} أي: لم يرض خروجهم معك إلى الغزو {فثبطهم} أي: حبسهم بالجبن والكسل {وقيل} لهم {اقعدوا مع القاعدين} أي: مع النساء والصبيان والمرضى وأهل الأعذار ومعنى {قيل لهم} أي: قدر الله تعالى عليهم ذلك بأن ألقى في قلوبهم القعود لما كره الله انبعاثهم مع المؤمنين، وقيل القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنوه في القعود فقال لهم: اقعدوا مع القاعدين. فإن قيل: خروج المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة فإن كان فيه مصلحة فلِمَ قال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} وإن فيه مفسدة فلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {عفا الله عنك لم أذنت لهم} في ترك الخروج؟ أجيب: بأن خروجهم فيه مفسدة عظيمة بدليل قوله تعالى: {لو خرجوا فيكم} أي: معكم {ما زادوكم} بخروجهم {إلا خبالاً} أي: فساداً وشراً بتخذيل المؤمنين وتقدم الكلام على قوله: {لم أذنت لهم} . تنبيه: لا يصح أن يكون فيه الاستثناء منقطعاً لأنّ الاستثناء المنقطع يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقوله: {ما زادوكم خيراً إلا خبالاً} والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور وإذا لم يذكر ووقع الاستثناء من أعم العام كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً {ولأوضعوا} أي: أسرعوا {خلالكم} أي: بينكم فيما يخل بكم بالمشي بالنميمة {يبغونكم الفتنة} أي: يطلبون منكم ما تفتتنون به وذلك أنهم يقولون للمؤمنين: لقد جمعوا لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم، ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تجبنهم {وفيكم} أي: والحال أن فيكم {سماعون لهم} أي: عيون لهم يؤدون لهم أخباركم وما يسمعون منكم وهم الجواسيس أو مطيعون لهم يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم وذلك أنهم يلقون إليهم أنواعاً من الشبهات الموجبة لضعف القلب فيقبلونها منهم. فإن قيل: كيف يكون في المؤمنين الخالصين من يطيع المنافقين؟ أجيب: بأنهم ربما قالوا قولاً أثر في قلوب ضعفة المؤمنين في بعض الأحوال وقوله تعالى: {وا عليم بالظالمين} وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين. {لقد ابتغوا الفتنة} أي: العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك كما فعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد وحنين انصرف بمن معه وعن ابن جريج وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به. {من قبل} أي: قبل غزوة تبوك {وقلبوا لك الأمور} أي: ودبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء في إبطال أمرك {حتى جاء الحق} وهو تأييدك ونصرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 {وظهر أمر الله} أي: غلب دينه وعلا شرعه {وهم كارهون} له أي: على رغم منهم فدخلوا فيه ظاهراً، ولما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس وكان من المنافقين: «يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني: الروم نتخذ منهم سراري ووصفاء» فقال الجدّ بن قيس: يا رسول الله لقد علم قومي أني مغرم بالنساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ائذن لي بالقعود ولا تفتني وأعينك بمالي، قال ابن عباس: اعتل الجد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فيه: {ومنهم} أي: المنافقين {من يقول أئذن لي} أي: في القعود في المدينة {ولا تفتني} أي: ببنات بني الأصفر وقيل: لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم وقيل: لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها وقيل: لا تفتني بسبب ضياع المال والعيال؛ إذ لا كافل لهم بعدي قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} أي: إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف وظهور النفاق لا ما أخبروا عنه {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي: جامعة لهم لا محيص لهم عنها يوم القيامة أو هي محيطة بهم الآن لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها. {إن تصبك} يا محمد في بعض الغزوات {حسنة} أي: نصرة وغنيمة {تسؤهم} أي: تحزنهم لما في قلوبهم من الضعف والمرض {وإن تصبك مصيبة} أي: نكبة وإن صغرت في بعض الغزوات كما وقع يوم أحد {يقولوا} أي: سروراً وتبجحاً بحسن رأيهم {قد أخذنا أمرنا} أي: بالجد والحزم في القعود عن الغزو {من قبل} أي: قبل هذه المصيبة {ويتولوا وهم فرحون} أي: مسرورون بما نالك من المصيبة وسلامتهم منها قال الله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من المصائب والمكروه {لن يصيبنا إلا ما كتب الله} أي: قدره {لنا} في اللوح المحفوظ لأنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة من خير وشر فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروهاً نزل به أو يجلب لنفسه نفعاً إن أراده ما لم يقدر له {هو} أي: الله {مولانا} أي: ناصرنا وحافظنا وهو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} في جميع أمورهم لأنّ حقهم أن لا يتوكلوا على غيره ليفعلوا ما هو حقهم. {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {هل تربصون} فيه حذف إحدى التاءين من الأصل أي: تنتظرون أن يقع {بنا} أيها المنافقون {إلا إحدى الحسنيين} تثنية حسنى تأنيث أحسن أي: إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب وهما النصر أو الشهادة، وذلك أنّ المسلم إذا ذهب إلى الجهاد في سبيل الله إما أن يسلم ويغنم فيحصل له المال وإما أن يقتل في سبيل الله فتحصل له الشهادة وهي العاقبة القصوى وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» {ونحن نتربص بكم} أي: إحدى السوأيين من العواقب إما {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده} لا سبب لنا فيه كأن ينزل عليكم قارعة من السماء كما نزلت على عاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وثمود {أو} بعذاب {بأيدينا} أي: بسببنا من قتل ونهب وأسر وغير ذلك {فتربصوا} بنا ما ذكرنا من عواقبنا {إنا معكم متربصون} ما هو عاقبتكم ولا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه. {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أنفقوا طوعاً أو كرهاً} أي: من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين. وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم {لن يتقبل منكم} أي: لا تقبل منكم نفقاتكم على أيّ حال كان. فإن قيل: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: {لن يتقبل منكم} ؟ أجيب: بأن هذا أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} (مريم، 75) وروي أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مالي أعينك به فاتركني. ثم علل تعالى سبب منع القبول بقوله تعالى: {إنكم} أي: لأنكم {كنتم قوماً فاسقين} والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا با وبرسوله} أي: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم، وقرأ حمزة والكسائي: يقبل، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} أي: متثاقلون لا يأتونها قط بنشاط {ولا ينفقون} أيّ: نفقة من واجب أو غيره {إلا وهم كارهون} أي: في حال الكراهة وإن ظهر خلاف ذلك وذلك كله لعدم النية الصالحة وهذا لا ينافي طوعاً لأنّ ذلك بحسب الظاهر وهذا بحسب الواقع. {فلا تعجبك} يا محمد {أموالهم} أي: وإن أنفقوها في سبيل الله وجهزوا بها الغزاة فإنّ ذلك من غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية {ولا أولادهم} الذين يتجملون بهم فإنّ ذلك استدراج ووبال كما قال تعالى: {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} وإن كان يتراءى أنها لذيدة لأنّ ذلك من شأن الحياة وتعذيبهم فيها بسبب ما يكابدون من جمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب. فإن قيل: هذا لا يختص بالمنافق فما فائدة تخصيصه به؟ أجيب: بأنّ المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً والمنافق لا يعتقد ذلك فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والمشقة والغم والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا {وتزهق} أي: تخرج {أنفسهم} بسببها {وهم} أي: والحال أنهم {كافرون} أي: يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة وهكذا كل من أراد الله تعالى استدراجه في الغالب كثر ماله وولده فكثر إعجابه بماله وولده وبطره وكفره نعمة الله تعالى. والإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس بذلك الشيء وانقطاعه عن الله تعالى فإنه لا يبعد في حكم الله تعالى أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بذلك الشيء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «هلك المكثرون» ، وقال أيضاً: «مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 فأبليت أو تصدّقت فأبقيت» . وروي من كثر ماله اشتدّ حسابه ومن أراد من السلطان قرباً ازداد من الله بعداً والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الإطناب من الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها لأنّ الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتدّ عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا، ولما بين تعالى كون المنافقين مستجمعين لكل مضار الدنيا والآخرة خالين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر فضائحهم وقبائحهم فمنها إقدامهم على الأيمان الكاذبة كما قال تعالى: {ويحلفون} أي: المنافقون {با} للمؤمنين إذا جاؤوا معهم {إنهم لمنكم} أي: على دينكم وملتكم {وما هم منكم} أي: لكفر قلوبهم {ولكنهم قوم يفرقون} أي: يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية. {لو يجدون ملجأ} أي: حصناً يلجؤن إليه وقيل: لو وجدوا مهرباً هربوا إليه، وقيل: لو يجدون قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم وفارقوكم {أو مغارات} أي: سراديب جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي: يستتر {أو مدّخلاً} أي: موضعاً يدخلونه {لولوا إليه} والمعنى أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لدخلوا إليه وتحرّزوا فيه {وهم يجمحون} أي: يسرعون في دخول ذلك المكان إسراعاً لا يردّ وجوههم شيء ومن هذا يقال: جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لا يرده اللجام، ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من قبائح المنافقين وهو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أخذ الصدقات بقوله تعالى: {ومنهم من يلمزك} أي: يعيبك {في الصدقات} قال أبو على الفارسي: ههنا محذوف والتقدير يعيبك في تقسيم الصدقات واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري: بيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم رأس الخوارج وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين واستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه فقال له صلى الله عليه وسلم «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» . وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له الجوّاظ المنافق: ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أبا لك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» ، وقال ابن زيد قال المنافقون: والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا هواه فنزلت. وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: «ماعلمك بفلان» فقال: ما لي به علم إلا أنك تدنيه في المجلس وتجزل له العطاء فقال صلى الله عليه وسلم «إنه منافق أداريه عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره» فقال: لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه فقال صلى الله عليه وسلم «إنه مؤمن أكمل إيمانه وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 هذا فمنافق أداريه خوف فساده» . {فإن أعطوا منها} أي: من الصدقات {رضوا} أي: رضوا عنك في قسمتها {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} أي: وإن لم تعطهم عابوا عليك وسخطوا، قال أهل المعاني: إن هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق المنافقين ودناءة طباعم وذلك لأنه لشدّة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبوه إلى الجور في القسمة مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا، وقال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بينهم ما آتاه الله تعالى من قليل المال وكثيره وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله تعالى وأما المنافقون فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين، وكلمة إذا للمفاجأة أي: وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط. {ولو أنهم} أي: المنافقين {رضوا ما آتاهم الله ورسوله} أي: ما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم والصدقات أو غيرها وذكر الله تعالى للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بأمره {وقالوا} أي: مع الرضا {حسبنا الله} أي: كافينا الله من فضله {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} أي: من غنيمة أو صدقة أخرى ما يكفينا {إنا إلى الله} أي: في أنّ الله تعالى يغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس ويوسع علينا من فضله {راغبون} أي: عريقون في الرغبة ولذلك نكتفي بما يأتي من قبله كائناً ما كان وجواب لو محذوف والتقدير لكان خيراً لهم، نقل عن عيسى عليه السلام أنه مرّ بقوم يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي حملكم عليه؟ فقالوا: الخوف من عقاب الله، فقال: أصبتم، ومر على قوم يشتغلون بالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه، فقال: أنتم المحقون المحققون، ثم بين سبحانه وتعالى مصارف الصدقات تحقيقاً لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل: {إنما الصدقات} أي: الزكوات مصروفة {للفقراء} والفقير هو الذي لا يجد ما يقع موقعاً من كفايته كأنه يحتاج إلى عشرة دراهم وهو لا يجد إلا درهمين أو ثلاثاً مأخوذ من الفقار كأنه أصيب فقاره {والمساكين} جمع مسكين وهو الذي يجد ما يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه كأن يحتاج إلى عشرة وهو يجد سبعة أو ثمانية مأخوذ من السكون كأنّ العجز أسكنه والمسكين أعلى من الفقير ويدل عليه قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين} (الكهف، 79) وروي أنه صلى الله عليه وسلم تعوذ من الفقر وقيل: الفقير أعلى لقوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} والعبرة عند الجمهور في عدم كفاية الفقير والمسكين بالعمر الغالب بناء على أنه يعطى كفاية ذلك {والعاملين عليها} أي: الزكاة فيعطى العامل وإن كان غنياً ويدخل في اسم العامل الساعي وهو الذي يبعثه الإمام لأخذ الزكاة والكاتب والحاشر والعريف وهو الذي يعرف أرباب الاستحقاق والحاسب والحافظ للأموال والكيال والوزان والعداد عمال إن ميزوا أنصباء الأصناف لا المميزون للزكاة من المال وجامعوه فإن أجرتهم على المالك. {والمؤلفة قلوبهم} وهم إما ضعيف النية في الإسلام فيعطى ليقوى إسلامه أو شريف في قومه يتوقع بإعطائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 إسلام غيره أو كاف لناشر من يليه من الكفار أو مانعي الزكاة فيعطى حيث إعطاؤه أهون علينا من بعث جيش وأما مؤلفة الكفار لترغيبهم في الإسلام فلا يعطون من الزكاة ولا من غيرها للإجماع ولأنّ الله تعالى أعز الإسلام وأهله وأغنى عن التأليف. {وفي الرقاب} وهم المكاتبون كتابة صحيحة فيعطون ما يؤدّون من النجوم إن عجزوا عن الوفاء ولو لم يحل النجم لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} كقوله تعالى: {وفي سبيل الله} وهناك يعطى المال للمجاهدين فيعطى للرقاب فلا يشترى به رقاب للعتق كما قيل به: {والغارمين} وهم من لزمتهم الديون وهم ثلاثة أضرب: دين لزمه لمصلحة نفسه، ودين لزمه بضمان لا لتسكين فتنة، ودين لزمه لتسكينها وهو إصلاح ذات البين فمن استدان لمصلحة نفسه أعطى لا إن استدان في معصية إلا إن تاب عنها فيعطى إذا احتاج وكان بحيث لو قضى دينه مما معه تمسكن فيترك له ما يكفيه ويعطي ما يقضي به بقية دينه ويعطى ولو قدر على قضائه بالكسب وكذا المكاتب ويشترط حلول الدين في إعطاء الغريم وإن ضمن لا لتسكين فتنة وهو معسر ملتزم بمال على معسر أعطي ما يقضي به دينه وإذا قضى به دينه لا يرجع على الأصيل وإن ضمن بإذنه وإنما يرجع إذا غرم من عنده ويعطى معسر ملتزم بمال على موسر بلا إذن من الأصيل لأنه إذا غرم لا يرجع عليه بخلاف ما إذا ضمن بإذنه ولا يعطى موسر ملتزم بمال على موسر وإن ضمن موسر ما على معسر أعطي الأصيل دون الضامن والغارم لإصلاح ذات البين يعطى مع الغني ولو في غير دم ويعطى المستدين لقرى ضيف وعمارة مسجد وبناء قنطرة وفك أسير ونحو ذلك من المصالح العامة عند العجز عن النقد. {وفي سبيل الله} وهم الغزاة المتطوعون أي: الذين لا رزق لهم في الفيء ويعطون ولو أغنياء إعانة لهم على الغزو وتحرم الزكاة على الغازي المرتزق ولو كان عاملاً فإذا عدم الفيء واضطررنا إلى المرتزق ليكفينا شر الكفار أعانه الأغنياء لا من الزكاة {وابن السبيل} أي: الطريق وهو من ينشىء سفراً مباحاً من محل الزكاة فيعطى ولو كان كسوباً أو كان مسافراً لنزهة ويعطى أيضاً المسافر الغريب المجتاز بمحل الزكاة وإنما يعطيان إن لم يجدا معهما شيئاً يكفيهما لسفرهما وقوله تعالى: {فريضة من الله} نصب بفعله المقدر أي: فرض لهم الصدقات فريضة أو حال من الضمير المستكن في للفقراء. {والله عليم} أي: بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المسلمين {حكيم} يضع الأشياء في مواضعها وإنما أضيفت الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك وإلى الأربعة الأخيرة بفي الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى وتقييده في الأخيرة حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى ويجب تعميم الأصناف الثمانية في القسم إن أمكن بأن قسم الإمام ولو بنائبة ووجدوا لظاهر الآية سواء في ذلك زكاة الفطر وزكاة المال وإن لم يمكن بأن قسم المالك إذ لا عامل أو الإمام ووجد بعضهم كأن جعل عاملاً بأجرة من بيت المال فتعميم من وجد منهم وعلى الإمام تعميم آحاد كل صنف من الزكاة الحاصلة عنده إذ لا يتعذر عليه ذلك أو على المالك أيضاً إن انحصر الآحاد بالبلد بأن سهل عادة ضبطهم ومعرفة عددهم ووفّى بهم المال فإن أخل أحدهما بصنف ضمن وإن لم ينحصر أو لم يف بهم المال ويجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 إعطاء ثلاثة فأكثر من كل صنف لذكره في الآية بصيغة الجمع وهو المراد في سبيل الله وابن السبيل الذي هو للجنس ولا عامل في قسم المالك ويجوز حيث كان أن يكون واحداً إن حصلت به الكفاية كما يستغنى عنه فيما مرّ وتجب التسوية بين الأصناف غير العامل لا بين آحاد الصنف إلا أن يقسم الإمام وتتساوى الحاجات فتجب التسوية لأنّ عليه التعميم فعليه التسوية بخلاف المالك إذا لم ينحصروا أو لم يف بهم المال ولا يجزيه نقل الزكاة من بلد وجوبها مع وجود المستحقين فيه إلى بلد آخر أو حال الحول والمال ببادية فرقت الزكاة بأقرب البلاد إليه أمّا الإمام ولو بنائبه فله نقلها ولو امتنع المستحقون من أخذها قوتلوا وشرط أخذ الزكاة من هذه الثمانية حرّية وإسلام وأن لا يكون هاشمياً ولا مطلبياً ولا مولى لهما كما بينته السنة هذا مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وقال الرازي وغيره: لا دلالة في الآية على قول الشافعي في أنه لا بدّ من صرفها إلى جميع الأصناف لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف وأمّا أن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على الأصناف كلها فلا كما أنّ قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه} (الأنفعال، 41) الآية، يوجب قسم الخمس على الطوائف من غير توزيع بالاتفاق وما ذهب إليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه قول عكرمة وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز صرفها إلى صنف واحد هو قول عمر وحذيفة وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين وكل على هدى من ربهم. فإن قيل: كيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ أجيب: بأنه تعالى ذكر ذلك ليدل على أنّ هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستحقاقهم الحرمان وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها فمالهم ومالها وما سلطهم على التكلم فيها وبمن قاسمها. {ومنهم} أي: المنافقين {الذين يؤذون النبيّ} هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبونه وينقلون حديثه {ويقولون} إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه {هو أذن} أي: يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة للسماع كما يسمى الجاسوس عيناً لذلك واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو من المنافقين: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف له فيصدقنا فيما نقول فإنّ محمداً أذن ـ أي: أذن سامعة ـ يسمع كل ما يقال له ويقبله، وقال محمد بن إسحاق: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نبيل بن الحرث وكان رجلاً ثائر الشعر أحمر العينين أسفع الخدين مشوّه الخلقة وقد قال صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» وكان ينم حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل ذلك فقال: إنما محمد أذن فمن حدثه شيئاً صدقه فنقول: ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت. وقال الحسن: كان المنافقون يقولون: ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له. ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأذن وقوله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أذن خير لكم} تصديق لهم بأنه أذن لكن لا على الوجه الذي ذموه به بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله ثم فسر تعالى ذلك بقوله تعالى: {يؤمن با} أي: يصدّق به لما قام عنده من الأدلة {ويؤمن للمؤمنين} أي: ويصدّقهم ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين. فإن قيل: لم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى وإلى المؤمنين باللام أجيب: بأنّ الإيمان المعدى إلى الله تعالى المراد التصديق الذي هو نقيض الكفر، فعدي بالباء، والإيمان المعدي للمؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللام كما في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} (يوسف، 17) وقوله تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} (يوسف، 83) وقوله تعالى: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} (الشعراء، 111) وقوله: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} (طه، 71) وقرأ نافع: أذن في الموضعين بتسكين الذال، والباقون بالرفع {ورحمة} أي: وهو رحمة {للذين آمنوا منكم} أي: لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سرّه وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلاً بحالكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم وقرأ حمزة ورحمة بالجرّ عطفاً على خير، والباقون بالرفع، ولما بين سبحانه وتعالى كونه سبباً للخير بين أنّ كل من آذاه استوجب العذاب الأليم بقوله تعالى: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} أي: مؤلم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم أنهم مع ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال المنافقين بقوله تعالى: {يحلفون با لكم} أيها المؤمنون {ليرضوكم} أي: لترضوا عنهم واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل والكلبي: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا يعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم. وقال قتادة والسدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد ووديعة بن ثابت فوقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن أشر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له: عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام وقال والله ما يقول محمد حق وأنتم أشر من الحمير ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أنّ عامراً كذب وحلف عامر أنهم كذبة فصدّقهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يدعو اللهمّ صدق الصادق وكذب الكاذب فنزلت {وا ورسوله أحق أن يرضوه} أي: بالإرضاء بالطاعة والوفاق وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم لتلازمهما كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني أو أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله تعالى ولهذا السبب خص الله تعالى نفسه بالذكر أو لأنّ الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه أو خبر الله أو رسوله محذوف وفي كلام البيضاوي إشارة إلى أن المذكور خبر الأوّل لأنه المتبوع وفي كلام سيبويه أنه للثاني لكونه أقرب مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر {إن كانوا} أي: هؤلاء المنافقون {مؤمنين} أي: مصدّقين بوعد الله ووعيده في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 {ألم يعلموا} قال أهل المعاني: هذا خطاب لمن علم شيئاً ثم نسيه وتركه فيقال له: ألم تعلم أنه كان كذا وكذا ولما طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله تعالى: {ألم يعلموا} أنّ من شرائع الدين التي علمهم رسولنا {أنه} أي: الشأن {من يحادد الله} أي: من يخالف الله {ورسوله} وأصل المحادّة في اللغة المخالفة والمجانبة والمعاداة واشتقاقه من الحدّ يقال: حادّ فلان فلاناً أي: صار في حدّ غير حدّه، كقولك شاقه أي: صار في شق غير شقه، ومعنى {يحادد الله} أي: يصير في حدّ غير حدّ أولياء الله تعالى بالمخالفة وقوله تعالى: {فأنّ له نار جهنم} أي: على حذف الخبر أي: فحق أنّ له نار جهنم لأنّ الفاء واقعة في جواب الشرط فتقتضي جملة و {فأنّ له نار جهنم} مفرد في موضع رفع بالابتداء وقدر خبره مقدماً لأنّ أنّ لا يبتدأ بها قال الرازي أو أنّ معناه فله نار جهنم وأنّ تكررت للتوكيد واعترض بأنّ فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي ثم قال أو جواب من محذوف والتقدير ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأنّ له نار جهنم {خالداً فيها} أي: دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبداً، ثم نبه على عظم هذا الجزاء بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن {الخزي العظيم} أي: الهلاك الدائم. {يحذر} أي: يخاف {المنافقون أن تنزل عليهم} أي: المؤمنين {سورة تنبئهم} أي: تخبرهم {بما في قلوبهم} أي: بما في قلوب المنافقين من النفاق والحسد والعداوة للمؤمنين كانوا يقولون فيما بينهم ويستهزؤن ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم قال قتادة: هذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة أثارت مخازيهم ومثالبهم، قال ابن عباس: أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضاً لأنّ أولادهم كانوا مؤمنين {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {استهزؤا} أمر تهديد {إنّ الله مخرج} أي: مظهر {ما تحذرون} إخراجه من نفاقكم، قال ابن كيسان: نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدّروا وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم وعمار بن ياسر يقود ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم فضربها حذيفة حتى نحاها عن الطريق فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم قال: لم أعرف منهم أحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم» ، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال: أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله. {ولئن} اللام لام القسم {سألتهم} أي: المنافقين عن استهزائهم بك والقرآن وهم سائرون معك إلى تبوك {ليقولنّ} معتذرين {إنما كنا نخوض ونلعب} في الحديث لنقطع به الطريق ولم نقصد ذلك، قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزئان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن والثالث يضحك قيل: كانوا يقولون: إنّ محمداً يغلب الروم ويفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 مدائنهم ما أبعده من ذلك وقيل: كانوا يقولون: إنّ محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن وإنما هو قوله وكلامه فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: «احبسوا الركب عليّ فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا فقال: {إنما كنا نخوض ونلعب} أي: كنا نتحدّث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لنقطع الطريق بالحديث واللعب» قال الله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أبا} أي: بفرائضه وحدوده وأحكامه {وآياته} أي: القرآن وسائر ما يدل على الدين الذي لا يمكن تبديله ولا يخفى على بصير ولا بصيرة {ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشريفكم وإعلائكم {كنتم تستهزؤن} توبيخاً وتقريعاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به وإلزاماً للحجة عليهم ولا يعبأ باعتقادهم الكاذب، ولما كان الاستهزاء بذلك كفراً قال الله تعالى: {لا تعتذروا} أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الباطلة {قد كفرتم} أي: أظهرتم الكفر بقولكم هذا {بعد إيمانكم} أي: بعد إظهار الإيمان. فإن قيل: المنافقون لم يكونوا مؤمنين فكيف قال تعالى: {قد كفرتم بعد إيمانكم} ؟ أجيب: بأنهم كانوا يكتمون الكفر ويظهرون الإيمان فلما حصل ذلك الاستهزاء منهم وهو كفر فقد أظهروا الكفر بعدما أظهروا الإيمان كما تقرّر {إن نعف عن طائفة منكم} أي: بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} أي: مصرين على النفاق والاستهزاء قال محمد بن إسحاق: الذي عفا الله عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشي مجانباً لهم وكان ينكر بعض ما يسمع والعرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول خرج فلان إلى مكة على الجمال والله تعالى يقول: {الذين قال لهم الناس} (آل عمران، 173) يعني: نعيم بن مسعود فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهمّ إني لا أزال أسمع آية تقرأ تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب اللهمّ اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه وقرأ عاصم نعف بالنون مفتوحة وضم الفاء ونعذب طائفة بنون مضمومة وكسر الذال وطائفة بالنصب والباقون إن يعف بياء مضمومة وتعذب بضم التاء وفتح الذال وطائلة بالرفع ثم بين تعالى نوعاً آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم والمقصود منه بيان أنّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة بقوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضم من بعض} أي: متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كإبعاض الشيء الواحد كما يقول الإنسان لغيره أنا منك وأنت مني أي: أمرنا واحد لا مباينة فيه {يأمرون بالمنكر} أي: يأمر بعضهم بعضاً بالشرك والمعصية وتكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم {وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم} أي: عن الإنفاق في كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله، والأصل في هذا أنّ المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده فقبض اليد كناية عن الشح وقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملنا النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً لأن النسيان ليس في وسع البشر ولخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 فلا بدّ من التأويل وهو من وجهين: الأوّل: معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وجاء هذا على مزاوجة الكلام كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40) الثاني: النسيان ضدّ الذكر فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ترك الله تعالى ذكرهم بالرحمة والإحسان وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأنّ من نسي شيئاً لم يذكره فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم {إنّ المنافقين هم الفاسقون} أي: الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله تعالى به المنافقين حتى بالغ في ذمهم وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كرهت كسلت لأنّ المنافقين وصفوا بالكسل في قوله تعالى: {إلا وهم كسالى فما ظنك بالفسق} ، ولما بين سبحانه وتعالى كثيراً من أحوال المنافقين والمنافقات وأنه نسيهم أي: جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله تعالى أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه بقوله تعالى: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار} أي: المجاهرين في عنادهم يقال وعده بالخير وعدا وأوعده بالشر وعيداً {نار جهنم خالدين فيها} أي: مقدرين الخلود ولا شك أنّ النار المخلدة من أعظم العقوبات {هي حسبهم} أي: كافيتهم في العذاب {ولعنهم الله} أي: أبعدهم مع من أبعدهم من رحمته، ولما كان الخلود قد يتجوّز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج نفى ذلك بقوله تعالى: {ولهم عذاب مقيم} أي: دائم لا ينقطع وقوله تعالى: {كالذين من قبلكم} رجوع من الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم شبه فعل المنافقين بفعل الكافرين الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة ثم إنه تعالى وصف الكفار بأنهم كانوا أشدّ من هؤلاء المنافقين قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً بقوله تعالى: {كانوا أشدّ منكم قوّة} أي: بطشاً ومنعاً {وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم} أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضاً عن الآخرة والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان وقدّر له من خير وشر كما يقال: قسم له. {فاستمتعتم بخلاقكم} أي: فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم فهو خطاب للحاضرين {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ذم الأوّلين باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا العاجلة وحرمانهم من سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدّمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة بقوله تعالى: {وخضتم} أي: ودخلتم في الباطل والكذب على الله تعالى وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين {كالذي خاضوا} أي: كالذين خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا هذا كله إذا جعلنا الذي موصولاً اسمياً فإن جعلناه موصولاً حرفياً أول مع صلته بمصدر أي كخوضهم والفوج الجماعة. فإن قيل: أيّ فائدة في قوله تعالى: {فاستمتعوا بخلاقهم} وقوله تعالى: {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} مغن عنه كما أغنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 قوله تعالى: {كالذي خاضوا} عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ أجيب: بأنّ فائدة ذلك أن يذم الأوّلين بما مرّ ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على قبح ظلمه بقولك: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب وأمّا {خضتم كالذي خاضوا} فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة {أولئك} أي: هؤلاء الأشقياء {حبطت} أي: بطلت {أعمالهم في الدنيا} أي: بزوالها عنهم ونسيان لذاتها {والآخرة} أي: وفي الدار الآخرة لأنهم لم يسعوا لها سعيها فلم تنفعهم أعمالهم في الدارين بل يعاقبون عليها وزاد في التنبيه على بعدهما مما قصدوا لأنفسهم من النفع بقوله تعالى: {وأولئك هم الخاسرون} أي: الذين خسروا الدنيا والآخرة والمعنى أنه كما بطل أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون وتخسرون. وفي الالتفات إلى مقام الخطاب إشارة إلى تحذير كل سامع عن مثل هذه المقالة قال بعض كبراء التابعين: أدركت سبعين ممن أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وذكر أنّ مالكاً رحمه الله تعالى دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبيّ: يا شيخ قم فاركع فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهباً فقيل له في ذلك فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما» وقال تعالى: {لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} (التوبة، 54) ينظر المنافق إلى ما يسقط فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم. كما روي أنّ الله تعالى يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوى أهل المساوى فكيف بمعايب أهل المحاسن والمنافق يأخذ من الدين ما ينفع في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في العقبى مما لا يضر في الدنيا. ويذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها: دلني على موضع طاهر أصلي فيه، فقال له الراهب: طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت، قال المسلم: فخجلت منه. وقوله عز من قائل: {ألم يأتهم} فيه رجوع من الخطاب إلى الغيبة أي: ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي: قد أتاهم {نبأ} أي: خبر {الذين من قبلهم} من الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا، ولما شبه تعالى المنافقين بالكفار المتقدّمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم لرسلهم بين منهم ستة طوائف: الأولى: {قوم نوح} أهلكوا بالطوفان. {و} الثانية: {عاد} وهم قوم هود أهلكوا بالريح. {و} الثالثة: {ثمود} ، وهم قوم صالح أهلكوا بالرجفة. {و} الرابعة: {قوم إبراهيم} أهلكوا بسلب النعمة وأهلك نمروذ ببعوضة سلطها الله تعالى على دماغه فقتلته. {و} الخامسة: {أصحاب مدين} وهم قوم شعيب ويقال إنهم من ولد مدين بن إبراهيم أهلكوا بعذاب يوم الظلة. {و} السادسة: {المؤتفكات} وهم قوم لوط أي: أهلها أهلكوا بأن جعل الله تعالى أعالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم حجارة، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 والعراق واليمن وكل ذلك قريب من بلاد العرب فكانوا يمرّون عليهم ويعرفون أخبارهم وقوله تعالى: {أتتهم رسلهم} راجع إلى كل هؤلاء الطوائف {بالبينات} أي: المعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا كما فعلتم أيها الكفار والمنافقون فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم. وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع {فما كان الله ليظلمهم} بتعجيل العقوبة لهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب، ولما بالغ سبحانه وتعالى في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة ثم ذكر عقبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة ذكر بعده صفات المؤمنين بقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة وهذا في مقابلة قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} (التوبة، 67) فإن قيل: لم قال تعالى في وصف المنافقين: {بعضهم من بعض} وقال في وصف المؤمنين: {بعضهم أولياء بعض} ما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنه لما كان نفاق الإتباع حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر لسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة قال فيهم: {بعضهم من بعض} ولما كانت الموافقة الخالصة بين المؤمنين بتوفيق الله تعالى وهدايته لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأنّ بعضهم أولياء بعض فظهر الفرق بين الفريقين وظهرت الحكمة، وقوله تعالى: {يأمرون بالمعروف} أي: بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره والمعروف كل ما عرف من الشرع من خير وطاعة {وينهون عن المنكر} أي: الشرك والمعاصي، والمنكر كل ما ينكره الشرع وينفر منه الطبع في مقابلة قوله تعالى في المنافقين: {يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف} {ويقيمون الصلاة} أي: المفروضة ويتمون أركانها وشروطها {ويؤتون الزكاة} أي: الواجبة عليهم في مقابلة قوله تعالى في المنافقين: {ويقبضون أيديهم} المعبر به عن البخل وقوله تعالى: {ويطيعون الله ورسوله} أي: فيما يأمرهم به في مقابلة قوله تعالى في المنافقين: {نسوا الله فنسيهم} ، ولما ذكر تعالى ما وعد به المنافقين من العذاب في نار جهنم ذكر ما وعد به المؤمنين من الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة بقوله تعالى: {أولئك} أي: المؤمنون والمؤمنات الموصوفون بهذه الصفات {سيرحمهم الله} بوعد لا خلف فيه {إنّ الله عزيز} أي: غالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده {حكيم} أي: لا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل ما يبرمه، ولما ذكر سبحانه وتعالى الوعد على سبيل الإجمال ذكره على سبيل التفصيل بقوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} فذكر في هذه الآية أنّ الرحمة هي هذه الأنواع المذكورة في هذه الآية أوّلها قوله تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار} فهي لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة، ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى: {خالدين فيها} والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يحير في حسنها الناظر لأنه تعالى قال: {ومساكن طيبة في جنات عدن} أي: إقامة وخلود وهذا هو النوع الثاني فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الأخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. قد كثر كلام أصحاب الآثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 في صفة جنات عدن فقال الحسن: سألت عمران بن الحصين عن قوله تعالى: {ومساكن طيبة} فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمرّدة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع» ، وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر» أي: دار الله تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقرّبين من عباده، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله حدّثني عن الجنة ما بناؤها قال: «لبنة من ذهب ولبنة من فضة وبلاطها المسك الإذفر وتربتها الزعفران وحصباؤها الدر والياقوت فهي النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» . وقال ابن مسعود: جنات عدن بطنان الجنة، قال الأزهري: بطنانها وسطها، وقال عطاء عن ابن عباس: هي قصر في الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى وسائر الجنان حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الإذفر، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما: إنّ في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة قبابه على حافتيه، وقال الرازي: حاصل الكلام أنّ في جنات عدن قولين: أحدهما: أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول، وقال في «الكشاف» : وعدن علم بدليل قوله تعالى: {جنات عدن التي وعد الرحمن عباده} (مريم، 61) والقول الثاني: أنه صفة الجنة. قال الأزهري: مأخوذ من قولك: عدن بالمكان، إذا أقام به يعدن عدوناً فبهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها جنات عدن جعلنا الله تعالى ومن نحبه من أهلها وأحل علينا رضوانه فإنه المقصود الأعظم كما قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدّي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء. روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم، يقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال تعالى: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً» وهذا هو النوع الثالث وقرأ شعبة ورضوان بضم الراء، والباقون بالكسر {ذلك} أي: الرضوان أو جميع ما تقدّم {هو الفوز العظيم} الذي تستصغر دونه الدنيا وما فيها، ولما وصف الله تعالى المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد لا جرم ذكر عقبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ووعدهم بالثواب الرفيع والدرجة العالية ثم عاد إلى شرح أحوال الكفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 والمنافقين بقوله تعالى: {يأيها النبيّ جاهد الكفار} أي: المجاهرين {والمنافقين} أي: الساترين كفرهم بظهور الإسلام. فإن قيل: الآية تدلّ على وجوب مجاهدة المنافقين وهو غير جائز فإن المنافق كما مرّ من يستر كفره ويقرّ بلسانه ومن كان كذلك لم تجز محاربته ومجاهدته أجيب: بأن ليس في الآية ما يدلّ على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر وإنما تدلّ على وجوب الجهاد مع الفريقين وكيفية تلك المجاهدة إنما تعرف من دليل آخر وقد دلت الدلائل المفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ومع المنافقين بالحجة والبرهان وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. قال القاضي: وهذا ليس بشيء لأنّ إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لها تعلق بالنفاق. ولما كان صلى الله عليه وسلم مطبوعاً على الرفق وحسن الخلق قال تعالى: {واغلظ عليهم} أي: بالانتهار والمقت في الجهادين لا تعاملهم بمثل ما عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في القعود وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال: {المنافقون والمنافقات} فقدم في كل سياق الأليق به {ومأواهم} أي: مسكنهم في الآخرة {جهنم وبئس المصير} أي: المرجع هي. {يحلفون} أي: المنافقون {با ما قالوا} أي: ما بلغك عنهم من السب والمفسرون ذكروا في أسباب نزول هذه الآية وجوهاً. الأوّل: روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد: لئن كان ما يقول محمد في إخواننا الذين خلفناهم بالمدينة حقاً لنحن شرّ من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاريّ للجلاس: أجل والله إنّ محمداً صادق وأنت شرّ من الحمار، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله عز وجل ما قاله فرفع عامر يده وقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت فقال الجلاس: لقد ذكر الله تعالى التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر ثم تاب وحسنت توبته. الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وأراد به الرسول صلى الله عليه وسلم فسمع زيد بن أرقم ذلك فبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم فهم عمر رضي الله عنه بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله بن أبي وحلف أنه لم يقل. الثالث: روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الجهني على الغفاري فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قاله فنزلت {ولقد قالوا كلمة الكفر} وهي سب النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: هي كلمة الجلاس بن سويد، وقيل: هي كلمة عبد الله بن أبيّ {وكفروا بعد إسلامهم} أي: وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام {وهموا بما لم ينالوا} أي: من قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك توافق خمسة عشر منهم إذا تسنم العقبة أي: علاها بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا. وقيل: هم المنافقون هموا بقتل عامر حين ردّ على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم {وما نقموا} أي: وما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً {إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وذلك يوجب أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى فالمنافقون عملوا بضدّ الواجب فوضعوا موضع شكره صلى الله عليه وسلم أن نقموا منه. وقال ابن قتيبة معناه ليس هناك شيء ينقمون منه ولا يعيبون من الله إلا الصنيع وهذا كقول الشاعر: *ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا* وكقول النابغة: *ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب* أي: ليس فيها عيب {فإن يتوبوا} أي: من كفرهم ونفاقهم {يك خيراً لهم} في العاجل والآجل من إصرارهم على ذلك وهذا الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في يك للتوبة {وإن يتولوا} أي: يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر {يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا} بالقتل والأسر والإذلال {والآخرة} بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه وهو خلودهم في النار {وما لهم في الأرض} أي: التي لا يعرفون غيرها لسفول همتهم {من ولي} يحفظهم منه {ولا نصير} يمنعهم وأمّا السماء فهم أقل من أن يطمعوا منها في شيء ناصر أو غيره وأغلظ أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما بها من العجائب وما بها من الجنود واعلم أنّ هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف فلهذا السبب يذكرهم الله تعالى على التفصيل فيقول تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبيّ} (التوبة، 61) {ومنهم من يلمزك في الصدقات} (التوبة، 58) {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} (التوبة/ 49) {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقنّ} فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد {ولنكونن من الصالحين} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ثعلبة بن حاطب أبطأ عنه ماله بالشام فلحقه شدّة فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار لئن آتانا الله من فضله لأصدقنّ ولأؤدّينّ منه حق الله تعالى والمشهور في سبب نزول هذه الآية أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاريّ قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فراجعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما لك في رسول الله أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت» ثم أتاه بعد ذلك وقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارزق ثعلبة مالاً فاتخذ غنماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 فنمت كما تنمى الدود حتى كثرت ونزل بها وادياً من أودية المدينة واشتغل بها حتى صار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه باقي الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضاً فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضاً فصار لا يشهد لا جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «ما فعل ثعلبة» فقالوا: يا رسول الله اتخذ غنماً ما يسعها واد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ويح ثعلبة ثلاثاً» فنزلت آية الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين لأخذ الصدقة» وكتب لهما أصناف الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما: «مرّا بثعلبة وخذا صدقاته فأتياه وسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ثم رجعا إلى ثعلبة فقال كمقالته الأولى ولم يدفع إليهما شيئاً فرجعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وسأله أن يقبل صدقته فقال: إن الله تعالى منعني من أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال صلى الله عليه وسلم «لقد قلت لك فما أطعتني» فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ثم جاء بها إلى عمر أيام خلافته فلم يقبلها فلما ولى عثمان أتاه بها فلم يقبلها وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه. فإن قيل: العبد إذا تاب تاب الله عليه فلماذا منع الله تعالى من قبول صدقته أجيب: بأنّ الله تعالى لما قال: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة، 103) وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه فلهذا السبب امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ تلك الصدقة ثم قال الله تعالى: {فلما آتاهم من فضله بخلوا به} أي: منعوا حق الله تعالى منه {وتولوا} عن طاعة الله تعالى {وهم معرضون} أي: عن طاعة الله تعالى. {فأعقبهم} أي: صير عاقبتهم {نفاقاً} متمكناً {في قلوبهم إلى يوم يلقونه} أي: الله يوم القيامة {بما أخلفوا الله ما وعدوه} أي: بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح لأنّ الجزاء من جنس العمل {وبما كانوا يكذبون} أي: يجددون الكذب دائماً مع الوعد ومنفكاً عنه فقد استكملوا النفاق عاهدوا فغدروا ووعدوا فأخلفوا وحدّثوا فكذبوا وقد قال صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ـ أي: علامته ـ ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» . {ألم يعلموا} أي: المنافقون {إنّ الله يعلم سرّهم} أي: ما أسروا في أنفسهم من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه {ونجواهم} أي: ما تناجوا بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها فكيف يجترؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستمرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنّ الله تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر {وإنّ الله علام الغيوب} والعلام مبالغة في العالم والغيب ما كان غائباً عن الخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 فكيف يمكن الإخفاء عنه وقوله تعالى: {الذين} مبتدأ {يلمزون} أي: يعيبون {المطوّعين} المتنفلين {من المؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان {في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} أي: طاقتهم فيأتون به {فيسخرون منهم} أي: يستهزؤن بهم والخبر {سخر الله منهم} أي: جازاهم على سخريتهم {ولهم عذاب أليم} على كفرهم وهذا نوع آخر من أعمال المنافقين القبيحة وهو لمزهم لمن يأتي بالصدقات. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم وحث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف درهم فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله تعالى في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات بلغ ثمن ماله لهما مائة وتسعين ألف درهم، وجاء عاصم بن عدي الأنصاريّ بسبعين وسقاً من تمر وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة وجاء أبو عقيل الأنصاريّ بصاع من تمر وقال: أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخله فأخذت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا عبد الرحمن وعثمان ما يعطيان إلا رياء والله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطى من مال الصدقات فنزلت، وقوله تعالى: {أو لا تستغفر لهم} تخيير للنبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لهم وتركه قال صلى الله عليه وسلم «إني خيرت فاخترته» يعني: الاستغفار رواه البخاريّ {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} . روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: «سأزيد على السبعين» وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل لجواز أن يكون ذلك حداً يخالفه حكم ما وراءه فبين تعالى أن المراد التكثير دون التحديد وإنما خص السبعين من العدد بالذكر لأنّ العرب كانت تستكثر السبعين ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة رضي الله عنه سبعين تكبيرة ولأن آحاد السبعين سبع وهو عدد شريف فإن السموات سبع والأرضين سبع والأيام سبع والأقاليم سبع والبحار سبع والنجوم سبع وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد أي عدّة مراتبه الأصلية والفرعية مع ذكر أول فروع فروعه وهي سبعة آحاد عشرات مئين آحاد ألوف عشرات ألوف مئين ألوف آحاد ألوف الألوف وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كفروا با ورسوله} إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها {وا لا يهدي القوم الفاسقين} أي: المتمردين في كفرهم وهو كالتنبيه على عذر النبيّ صلى الله عليه وسلم في استغفاره وهو عدم يأسهم عن إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى: {ما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} (التوبة، 113) {فرح المخلفون} عن غزوة تبوك {بمقعدهم} أي: بقعودهم فهو اسم للمصدر {خلاف رسول الله} هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد والمخلف المتروك ممن مضى. فإن قيل: إنهم احتالوا حتى تخلفوا فكانوا متخلفين. لا مخلفين أجيب: بأنّ من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف حيث لم ينهض وأقام. تنبيه: قوله تعالى: {خلاف} فيه قولان: الأوّل: وهو قول الزجاج بمعنى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا قال وهو منصوب لأنه مفعول له والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني: قال الأخفش: إن خلاف بمعنى خلف ومعناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} تعريض للمؤمنين بتحملهم المشاق لوجه الله تعالى بما فعلوا من بذل أنفسهم وأموالهم وإيثارهم ذلك على السكون والراحة وكره ذلك المنافقون وكيف لا يكرهون وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان {وقالوا} أي: قال بعض المنافقين لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً {لا تنفروا} أي: لا تخرجوا إلى الجهاد {في الحرّ} وكانت غزوة تبوك في شدّة الحر فأجاب الله تعالى عن هذا بقوله تعالى: {قل نار جهنم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون} أي: يعلمون أنّ بعد هذه الدار داراً أخرى وأن بعد هذه الحياة حياة أخرى وأنّ هذه مشقة منقضية وتلك مشقة باقية ما تخلفوا ولبعضهم *مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم اربها شبه الصابي* *فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب* وقوله تعالى: {فليضحكوا قليلاً} أي: في الدنيا {وليبكوا كثيراً} أي: في الآخرة ورد بصيغة الأمر ومعناه الإخبار بأنه ستحصل لهم هذه الحالة ودليل ذلك قوله تعالى: {جزاء بما كانوا يكسبون} أي: أن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم وأعمالهم الخبيث في الدنيا. روي أن أهل النفاق يبكون في الآخرة في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم ففرحهم وضحكهم طول أعمارهم في الدنيا قليل بالنسبة إلى الآخرة لأنّ الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل. روي عن أنس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا فإنّ أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتنفرغ العيون حتى لو أن سفناً أجريت فيها لجرت» قال البيضاوي: ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغمّ والمراد من القلة العدم. {فإن رجعك} أي: ردّك {ا} من غزوة تبوك {إلى طائفة منهم} أي: ممن تخلف بالمدينة من المنافقين وإنما قال: {إلى طائفة منهم} لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف أو اعتذر بعذر صحيح، وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين وأراد بالطائفة المنافقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 منهم {فاستأذنوك للخروج} معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك {فقل} يا محمد لهؤلاء الذين طلبوا الخروج معك وهم مقيمون على نفاقهم {لن تخرجوا معي أبداً} أي: في سفر من الأسفار إنّ الله تعالى قد أغناني عنكم وأحوجكم إلي {ولن تقاتلوا معي عدوّاً} إخبار بمعنى النهي للمبالغة وقوله تعالى: {إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة} تعليل له وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم وأوّل مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك {فاقعدوا مع الخالفين} أي: المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان وغيرهم، قال الرازي: واعلم أنّ هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض إخوانه مكر وخداع ورآه مشدّداً فيه مبالغاً في تقرير موجباته فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه وأن يحترز عن مصاحبته، ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمنع المنافقين من الخروج معه إلى الغزوات إذلالاً لهم أمره بمنع الصلاة على من مات منهم إذلالاً لهم أيضاً بقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} . روي أن ابن أبي ـ رأس المنافقين ـ دعا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه فلما دخل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله أن يصلي عليه وإذا مات يقوم على قبره ثم أرسل للنبيّ صلى الله عليه وسلم يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فردّه وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه: لم تعطي قميصك للرجس النجس؟ فقال صلى الله عليه وسلم «إنّ قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً وإني أؤمّل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب» فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات جاء ابنه يعرفه وكان ابنه صحابياً خالصاً صالحاً فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «صل عليه وادفنه» فقال: إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر رضي الله عنه بينه وبين القبلة فنزلت هذه الآية وأخذ جبريل عليه السلام بثوب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {لا تصل على أحد منهم مات أبداً} قال عمر: فعجبت من جراءتي على النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك أنّ الوحي ينزل وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفدية من أسارى بدر وقد سبق شرحه، ومنها آية تحريم الخمر، ومنها آية تحويل القبلة، ومنها آية أمر النساء بالحجاب، ومنها هذه الآية، فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدارين ولهذا قال في حقه عليه الصلاة والسلام: «لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً» وإنما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن التكفين في القميص ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت تخل بالكرم وكان الله تعالى أمره أن لا يردّ سائلاً بقوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} (الضحى، 10) ولأنّ ابنه كان بالوصف المتقدم فأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنه ولأن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه صلى الله عليه وسلم ولأنها كانت مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين كان أسر ببدر والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر، قال الواحدي: مات في موضع جر لأنه صفة للنكرة كأنه قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 على أحد منهم ميت، وقوله تعالى: {أبداً} متعلق بقوله: {ولا تصل} والتقدير ولا تصل أبداً على أحد منهم منعاً كلياً دائماً، وقال البيضاوي: مات أبداً يعني: الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب لا للتمتع فكأنه لم يحيى واختلف في تفسير قوله تعالى: {ولا تقم على قبره} فقال الزجاج: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه قال الكلبي: لا تقم لإصلاح مهمات قبره وهو من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه، وقيل: لا تقم عند قبره لدفن أو زيارة والأوّل أولى لأنّ النهي للتحريم ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله تعالى: {إنهم كفروا با ورسوله وماتوا وهم فاسقون} أي: كافرون يعني: لم يتوبوا قبل موتهم عن كفرهم فسقط بذلك ما قيل: إن الفسق أدنى من الكفر فما الفائدة في وصفهم بعد ذلك بالفسق، وأجيب أيضاً: بأنّ الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً فوصف الله تعالى المنافق بالفسق بعد أن وصفه بالكفر تنبيهاً على أن طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العلم. فإن قيل: كيف همّ صلى الله عليه وسلم أن يصلي على هذا المنافق مع قيام الكفر فيه وقيل: إنه صلى عليه؟ أجيب: بأنّ التكاليف مبنية على قوله صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» فإنه كان ظاهره الإسلام فلما أعلمه الله تعالى بذلك امتنع فلم يصل على منافق بعد ذلك ولا قام على قبره حتى قبض. {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} سبق ذكر هذه الآية في هذه السورة بعينها ولكن حصل بينهما تفاوت في ألفاظ أربعة: أوّلها: أنّ في الآية المتقدّمة {فلا تعجبك} بالفاء وههنا بالواو لأنّ الآية الأولى ذكرت بعد قوله تعالى: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال والأولاد فلهذ المعنى نهاه الله تعالى عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو. ثانيها: أنه قال تعالى في الآية الأولى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} وههنا كلمة لا محذوفه لأنّ مثل هذا الترتيب يبدأ فيه بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف فيقال: لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم وهذه الآية تدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم. ثالثها: أنه تعالى قال هناك: {إنما يريد الله ليعذبهم} وههنا قال: {إنما يريد الله أن يعذبهم} فالفائذة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال وإن ورد حرف التعليل ومعناه أنه كقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله} وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله. رابعها: أنه ذكر في الآية الأولى {في الحياة الدنيا} وههنا أسقط لفظ الحياة تنبيهاً على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة مبلغاً إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دناءتها، قال الرازي: فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ والعالم بتحقيق القرآن هو الله تعالى. فإن قيل: ما الحكمة في التكرير؟ أجيب: بأنه أشدّ الأشياء جذباً وطلباً للخواطر الاشتغال بالدنيا وهي الأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرّة بعد أخرى في المطلوبية والمرغوبية كما أعاد تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 قوله في سورة النساء: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لما يشاء} (النساء، 48) مرّتين وقيل: إنما كرّر هذا المعنى لأنّ الآية الأولى في قوم منافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها وهذه الآية في قوم آخرين والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع آخرين، وقوله تعالى: {وإذا أنزلت سورة} يحتمل أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها أي: طائفة من القرآن وقيل: المراد بالسورة سورة براءة لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد {أن آمنوا با} أي: بأن آمنوا ويجوز أن تكون أن المفسرة {وجاهدوا مع رسوله} . فإن قيل: كيف يأمر المؤمنين بالإيمان فإنّ ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال؟ أجيب: بأنّ معناه الدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل، وقيل: هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم المنافقون أي: اخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأنّ الجهاد بغير الإيمان لا يفيد شيئاً ثم حكى الله تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون فقال تعالى: {استأذنك أولو الطول منهم} قال ابن عباس يعني: أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال، وقيل: هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم {وقالوا} أي: أولو الطول {ذرنا نكن مع القاعدين} أي: الذين قعدوا لعذر كالمرضى والزمنى، وقيل: مع النساء والصبيان ثم ذمّهم الله تعالى بقوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} جمع خالفة أي: النساء اللاتي تخلفن في البيوت، وقيل: الخوالف أدنياء الناس وسفلتهم يقال: فلان خالفه قومه إذا كان دونهم وإنما خص أولو الطول بالذكر لأنّ الذم لهم لازم لكونهم قادرين على السفر والجهاد وأمّا من لا مال له ولا قدرة له على السفر فلا يحتاج إلى الاستئذان قال المفسرون: كان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف {وطبع} أي: وختم {على قلوبهم} أي: هؤلاء المنافقين {فهم لا يفقهون} أي: لا يعلمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاوة والخذلان ولما شرح الله سبحانه وتعالى حال المنافقين من الفرار عن الجهاد بين حال الرسول والذين آمنوا معه بالضدّ منه بقوله تعالى: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أي: بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله تعالى والتقرب إليه وفي قوله تعالى: {لكن} فائدة وهي تقرير أنه وإن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً كقوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً} (الأنعام، 89) ، ولما وصفهم الله تعالى بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع وهو أنواع: أوّلها: ما ذكره تعالى بقوله سبحانه: {وأولئك لهم الخيرات} أي: منافع الدارين النصرة والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة، وقيل: الخيرات الحور العين لقوله تعالى: {فيهنّ خيرات حسان} (الرحمن، 70) ثانيها: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وأولئك هم المفلحون} أي: الفائزون بالمطالب المتخلصون من العقاب والعتاب وثالثها: ما ذكره بقوله تعالى: {أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} هذا بيان ما لهم من الخيرات الأخروية. {وجاء المعذرون} بإدغام التاء في الأصل في الذال أي: المعتذرون بمعنى المعذورين {من الأعراب} إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 النبي صلى الله عليه وسلم {ليؤذن لهم} في القعود لعذرهم فأذن لهم واختلف في هؤلاء المعذرين فقيل: هم أسد وغطفان قالوا: إنّ لنا عيالاً وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف، وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وسلم «سيغنيني الله عنكم» وقيل: نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله، وعن قتادة: اعتذروا بالكذب والاعتذار في كلام العرب على قسمين: يقال: اعتذر إذا كذب في عذره ومنه قوله تعالى: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} (التوبة، 94) فردّ الله تعالى عيهم بقوله: {قل لا تعتذروا} (التوبة، 94) فدلّ ذلك على فساد عذرهم وكذبهم فيه. ويقال: اعتذر إذا أتى بعذر صحيح كما في قول لبيد: *ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر* يريد: فقد جاء بعذر صحيح. وقيل: هو التعذير الذي هو التقصير، يقال: عذر يعذر إذا قصر ولم يبالغ فعلى هذا المعنى يحتمل أنهم كانوا صادقين في اعتذارهم وأنهم كانوا كاذبين، ومن المفسرين من قال: إنهم كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكره قال بعده: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} أي: في ادعاء الإيمان من منافقي الأعراب عن المجيء للاعتذار فلما فصل بينهم وميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا كاذبين. ويروى عن عمرو بن العلاء أنه لما قيل له هذا الكلام فقال: إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وجاء المعذرون} وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبه عذر جراءة على الله وهم المراد بقوله تعالى: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} {سيصيب الذين كفروا منهم} أي: من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره {عذاب أليم} في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار. ولما بين سبحانه وتعالى الوعيد في حق من توهم العذر مع أنه لا عذر له ذكر أصحاب الأعذار الحقيقة وبين أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط بقوله تعالى: {ليس على الضعفاء} كالشيوخ ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفاً نحيفاً {ولا على المرضى} كالزمنى والعرج والعمي {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} في الجهاد {حرج} أي: إثم في التخلف عنه فنفى سبحانه وتعالى عن هذه الأقسام الثلاثة الحرج فيجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج لأنّ الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بقدر قدرته إما لحفظ متاعهم أو لتكثير سوادهم بشرط أن لا يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم كان ذلك طاعة مقبولة ثم إنه سبحانه وتعالى شرط في جواز هذا التأخر عن الغزو شرطاً بقوله: {إذا نصحوا ورسوله} في حال قعودهم بالإيمان والطاعة في السرّ والعلانية وأن يحترزوا عن إلقاء الإرجافات وعن إثارة الفتن ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا إما أن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم وإما أن يسعوا إلى إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد وقوله تعالى: {ما على المحسنين} في موضع ما عليهم لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم {من سبيل} أي: طريق إلى ذمهم أو لومهم والمعنى أنه سدّ بإحسانه طريق العتاب ومن أعظم الإحسان من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله مخلصاً من قلبه فإن ما عليه من سبيل في نفسه وماله لإباحة الشرع بدليل منفصل إذ العبرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله {وا غفور} أي: محاء للذنوب {رحيم} أي: بجميع عباده، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير وإن اجتهد فلا يسعه إلا العفو ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الضعفاء والمرضى والفقراء وبين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين لله ورسوله وهو كونهم محسنين وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ذكر قسماً رابعاً من المعذورين بقوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} إلى الغزو وهم البكاؤن سبعة من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن زيد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بدرنا بالخروج أي: أسرعنا فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين وقيل: هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة أخوة معقل وسويد والنعمان وقيل: أبو موسى وأصحابه وقيل: نزلت في العرباض بن سارية، ويحتمل أنها نزلت في كل من ذكر، وقوله تعالى: {قلت لا أجد ما أحملكم عليه} حال من الكاف في أتوك بإضمار قد وقوله تعالى: {تولوا} جواب إذا {وأعينهم تفيض} أي: تسيل {من الدمع} أي: دمعها فان، ومن للبيان كقولك: أفديك من رجل، وهو أبلغ من يفيض دمعها لأنه يدلّ على أن العين صارت دمعاً فياضاً وقوله تعالى: {حزناً} منصوب على العلة {أن لا يجدوا} أي: لئلا يجدوا محله نصب على أنه مفعول له وناصبه المفعول له الذي هو حزناً {ما ينفقون} في الجهاد ولما قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} قال تعالى في حق من يعتذر: {ولا عذر له} . {إنما السبيل} أي: إنما يتوجه الطريق بالعقوبة {على الذين يستأذنونك} يا محمد في التخلف عنك والجهاد {وهم أغنياء} أي: قادرون على أهبة الخروج معك وقوله تعالى: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان {وطبع الله على قلوبهم} فلأجل ذلك الطبع قال الله تعالى: {فهم لا يعلمون} أي: ما في الجهاد من منافع الدارين، أمّا في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو، وأمّا في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع. {يعتذرون} أي: هؤلاء المنافقون {إليكم} أي: في التخلف {إذا رجعتم} من الغزو {إليهم} بالأعذار الباطلة والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له ويحتمل أن يكون له وللمؤمنين. يروى أن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من المنافقين كانوا بضعة وثلاثين رجلاً فلما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون إليه بالباطل قال تعالى: {قل} لهم يا محمد {لا تعتذروا} بالمعاذير الباطلة {لن نؤمن لكم} أي: لن نصدّقكم فيما اعتذرتم به وقوله تعالى: {قد نبأنا} أي: أعلمنا {الله من أخباركم} أي: بعض أحوالكم التي أنتم عليها من الشرّ والفساد علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله تعالى إذا أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الإعلام بأحوالهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم {وسيرى الله علمكم ورسوله} أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه {ثم تردّون} أي: بالبعث {إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} أي: الله المطلع على ما في ضمائركم من الخيانة والكذب وإخلاف الوعد وغير ذلك من الخبائث التي أنتم عليها فيجازيكم عليه. {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم} أي: رجعتم {إليهم} من تبوك إنهم معذورون في التخلف {لتعرضوا عنهم} أي: لتصفحوا عنهم فلا تعاتبوهم {فأعرضوا عنهم} أي: فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام قال مقاتل: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» قال أهل المعاني: هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر تعالى علة الإعراض بقوله: {إنهم رجس} أي: قذر لخبث باطنهم فكما يجب الاحتراز عن الأنجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية خوفاً من سريانها إلى الإنسان وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال وقوله تعالى: {ومأواهم جهنم} من تمام العلة {جزاء بما كانوا يكسبون} من الأعمال الخبيثة في الدنيا واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية فقال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما كانوا ثمانين رجلاً من المنافقين فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبيّ حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله تعالى هذه الآية ونزل. {يحلفون لكم لترضوا عنهم} أي: يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم {فإن ترضوا عنهم} أي: فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا إليكم وقبلتم عذرهم {فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} لأنه تعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم والمقصود من الآية عدم الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم. ونزل في سكان البادية: {الأعراب} أي: أهل البدو {أشدّ كفراً ونفاقاً} أي: من أهل الحضر لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن أهل العلم وقلة استماعهم الكتاب والسنة واستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم وليسوا تحت سياسة سائس ولا تأديب مؤدّب ولا ضبط ضابط فنشؤوا كما شاؤوا ومن كان كذلك خرج على أشدّ الجهات نفاقاً ولو قابلت الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لعرفت الفرق بين أهل الحضر وأهل البادية. قال العلماء من أهل اللغة: يقال: رجل عربي إذا كان له نسب في العرب وجمعه العرب كما يقال: مجوسي ويهودي ثم تحذف ياء النسب في الجمع فيقال: المجوس واليهود ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ وسواء كان من العرب أم من مواليهم ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب. والأعرابي إذا قيل له: يا عربي فرح والعربي إذا قيل له: يا أعرابي غضب له فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم أعراب والذي يدل على الفرق بينهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «حب العرب من الإيمان» وأما الأعراب فقد ذمّهم الله تعالى في هذه الآية. وقيل: سموا بالعرب لأنّ ألسنتهم معربة عما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 في ضمائرهم ولا شك أنّ اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة. قال الرازي: ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألسنتهم وعذوبة عباراتهم ثم حكم الله تعالى على الأعراب بحكم آخر بقوله تعالى: {وأجدر} أي: أحق وأولى {أن} أي: بأن {لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} من الأحكام والشرائع فرائضها وسننها {وا عليم} بما في قلوب عباده {حكيم} فيما فرض من فرائضه وأحكامه. {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق} في سبيل الله تعالى {مغرماً} أي: غرامة وخسراناً والغرامة ما ينفقه الرجل وليس يلزمه لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده وهم أسد وغطفان {ويتربص} أي: ينتظر {بكم الدوائر} أي: دوائر الزمان أن ينقلب عليكم فيموت النبيّ صلى الله عليه وسلم ويظهر المشركون قال الله تعالى: {عليهم دائرة السوء} دعاء عليهم معترض، قال التفتازاني: بين كلامين لا في أثناء كلام ولا في آخره دعا عليهم بنحو ما دعوا به قال الله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} (المائدة، 64) أي: يدور عليهم البلاء والحزن ولا يرون في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه وأصحابه إلا ما يسوءهم ويكيدهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك: رجل سوء في نقيض قولك: رجل صدق {وا سميع} لأقوالهم {عليم} بما تخفي ضمائرهم ولما بين سبحانه وتعالى أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً بين أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً بقوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن با واليوم الآخر} كبعض جهينة ومزينة فوصفهم الله تعالى بوصفين: كونهم مؤمنين بالله واليوم الآخر والمقصود التنبيه على أنه لا بدّ في جميع الطاعات من تقديم الإيمان وفي الجهاد أيضاً كذلك والثاني: ما ذكره بقوله تعالى: {ويتخذ ما ينفق قربات} جمع قربة أي: يقربه {عند الله} الذي لا أشرف من القرب عنده {و} وسيلة إلى {صلوات} أي: دعوات {الرسول} صلى الله عليه وسلم لأنه كان يدعو للمصدقين عنده بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أوفى» قال تعالى: {وصل عليهم} أي: ادع لهم ولما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل: يتخذ ما ينفق قربات وصلوات الرسول {ألا إنها} أي: نفقاتهم {قربة لهم} عند الله وهذا شهادة من الله تعالى للمؤمن المتصدّق بصحة ما اعتقد من كون نفقاته قربات عند الله وصلوات الرسول وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه وهو قوله تعالى: {ألا} وبحرف التحقيق وهو قوله تعالى: {إنها} ثم زاد في التأكيد فقال تعالى: {سيدخلهم الله في رحمته} فإن دخول السين توجب مزيد التأكيد وهذه النعمة هي أقصى مرادهم. وقرأ ورش: قربة برفع الراء والباقون بالسكون والأصل هو الضم والإسكان تخفيف {إنّ الله غفور} أي: بليغ الستر لقبائح من تاب {رحيم} بهم. ولما ذكر تعالى فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وما أعدّ لهم من الثواب بين تعالى أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 بقوله تعالى: {والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار} أما من المهاجرين فقال سعيد بن المسيب: هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقال عطاء بن أبي رباح: هم أهل بدر، وقال الشعبي: هم أهل بيعة الرضوان، وقال محمد بن كعب: هم جماهير الصحابة، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة. واختلف في أوّل الناس إسلاماً وأوّل من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض العلماء: أوّل من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب وهذا قول جابر واختلفوا في سنه وقت إسلامه فقيل: كان ابن عشر سنين، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر، وقيل: كان بالغاً، والأكثرون على أنه لم يكن بالغاً وقت إسلامه، وقال بعضهم: أوّل من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس، وقال بعضهم: أوّل من أسلم بعد خديجة زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول عروة بن الزبير وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الروايات فيقول: أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء أربعة سباق الخلق إلى الإسلام. وأما من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وهي الأولى وكانوا ستة نفر ثم العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلاً ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً فهؤلاء سباق الأنصار، وقيل: المراد بالسابقين الأوّلين من سبق إلى الهجرة والنصرة ويدل على هذا أنه تعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين لهم أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملاً فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما قد صاروا به مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة فوجب أن يكون المراد منه السابقين الأوّلين في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضاً فإنّ الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى الله تعالى عليهم ومدحهم {والذين اتبعوهم} أي: الفريقين إلى يوم القيامة {بإحسان} أي: في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقتهم. وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار ويترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم. وقيل: بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأوّلين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» والمدّ ربع الصاع والنصيف نصفه والمعنى لو أن أحداً عمل مهما قدر عليه من أعمال البرّ والإنفاق في سبيل الله ما بلغ هذا القدر الصغير من عمل الصحابة وإنفاقهم لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة، وعن عمران بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعده قرنين أم ثلاثاً. والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضاً واختلفوا في مدّته من الزمان من عشر سنين إلى عشرين سنة، وقيل: من مائة إلى مائة وهذا هو المشهور وقيل: من مائة إلى مائة وعشرين سنة ثم جمعهم الله تعالى في الثواب فقال: {رضي الله عنهم} فالسابقون مرتفع بالابتداء وخبره رضي الله عنهم أي: بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم {ورضوا عنه} بما أفاض عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة {وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار} أي: هي كثيرة المياه فكل موضع أردته نبع منه ماء يجري منه نهر. وقرأ ابن كثير بزيادة من تحتها وبجرّ التاء بعد الحاء والباقون بغير من وفتح التاء، ثم نفى سبحانه الانقطاع بقوله تعالى: {خالدين فيها} وأكد المراد من الخلود بقوله تعالى: {أبداً} ثم استأنف مدح هذا الذي أعدّه لهم بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر العالي الرتبة {الفوز العظيم} ولما شرح تعالى أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون والمهاجرون والأنصار، ذكر أنّ جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق بقوله تعالى: {وممن حولكم} أي: أهل بلدتكم وهي المدينة {من الأعراب منافقون} وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها وقوله تعالى: {ومن أهل المدينة} عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت: ومن أهل المدينة قوم {مردوا على النفاق} على أن مردوا صفة موصوف محذوف كقول الشاعر: *أنا ابن جلا وطلاع الثنايا* أي: أنا ابن رجل جلا فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وقال الزجاج: في الآية تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق أي: ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه وأصل المرود الملاسة ومنه صرّح ممرّد وغلام أمرد {لا تعلمهم} بأعيانهم أي: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله تعالى: {نحن نعلمهم} أي: لا يعلمهم إلا الله تعالى ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين لا تشك معه في إيمانهم وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به فلهم فيه اليد الطولى واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {سنعذبهم مرّتين} فقال الكلبي والسدي: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرج من المسجد جماعة من المنافقين وفضحهم فهذا هو العذاب الأوّل والثاني عذاب القبر. فإن قيل: كيف هذا مع قوله تعالى {لا تعلمهم نحن نعلمهم} ؟ أجيب: بأنه تعالى أعلمه بهم بعد ذلك. وقال مجاهد: الأوّل: القتل والسبي، والثاني: عذاب القبر، وقال ابن زيد: الأوّل: المصائب في الأولاد، والثاني: عذاب الآخرة، وقال ابن عباس: الأوّل: إقامة الحدود عليهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: عذبوا بالجوع مرّتين، وقيل: الأول: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: الأوّل: إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والثاني: إحراقهم بنار جهنم كما قال تعالى: {ثم يردون} أي: في الآخرة {إلى عذاب عظيم} هو النار وقوله تعالى: {وآخرون} أي: وقوم آخرون مبتدأ وقوله تعالى: {اعترفوا بذنوبهم} ولم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة نعته، والخبر {خلطوا عملاً صالحاً} أي: وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك {وآخر سيئاً} أي: وهو تخلفهم {عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله عفور رحيم} يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 تبوك، واختلف في عددهم فعن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة عشر وروي عنه أنهم كانوا خمسة وقال سعيد بن جبير: كانوا ثمانية، وقيل: كانوا ثلاثة ندموا لما بلغهم ما نزل بالمتخلفين وتابوا وقالوا: نكون في الظلال ومع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره وقرب من المدينة قالوا: والله لنوثقنّ أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد على عادته في رجوعه من سفره فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا الا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم وترضى عنهم فقال: «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية» فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها خذها فتصدّق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فأنزل الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} من الذنوب أو حب المال المؤدّي إلى مثله وتجري لهم مجرى الكفارة هذا قول الحسن كان يقول: ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي كفارة الذنب الذي صدر ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم وتصدّق بها وأبقى لهم الثلثين ولم يأخذ الجميع لأنّ الله تعالى قال: {خذ من أموالهم} والصدقة الواجبة لا يؤخذ فيها ثلث المال {وتزكيهم بها} أي: وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين {وصل عليهم} أي: واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم والسنة أن يدعو آخذ الصدقة لصاحب الصدقة إذا أخذها. وعن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: أجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت. {إن صلاتك سكن لهم} أي: تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم لأنّ روحه صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة فإذا دعا صلى الله عليه وسلم لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوّة روحه الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم وانتقلوا من الظلمة إلى النور ومن الجسمانية إلى الروحانية فحصل لهم بذلك غاية الطمأنينة. وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ: صلاتك بغير واو بعد اللام ونصب التاء على التوحيد، والباقون بالواو وكسر التاء على الجمع لتعدّد المدعوّ لهم. قيل: إنّ هذه الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكاة وقالوا في الزكاة: إنها طهرة {وا سميع} لأقوالهم واعترافهم ودعائك لهم {عليم} بندامتهم ونياتهم. ولما حكى سبحانه عن القوم الذين تقدّم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدّقوا وهناك لم يذكر إلا قوله: {عسى الله أن يتوب عليهم} وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر بعد ذلك أنه يقبل التوبة وأنه سبحانه يأخذ الصدقات ترغيباً لمن لم يتب في التوبة وترغيباً لكل العصاة في الطاعة بقوله تعالى: {ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ} أي: يقبل {الصدقات} والضمير إما للمتوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم وإمّا لغيرهم والمراد به التحضيض عليها والآية وإن وردت بصيغة الاستفهام إلا أنّ المراد بها التقرير في النفس، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا أما علمت أنّ من علمك يجب عليك خدمته أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره. فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ترغيباً في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ترغيباً في التوبة ثم زاد تأكيداً بقوله تعالى: {وأنّ الله هو التوّاب الرحيم} أي: وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله يقبلها من عبده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد مؤمن يتصدّق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب إلا يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى أنّ اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم، ثم قرأ: {أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} » . {وقل اعملوا} أي: وقل لهم أو للناس يا محمد اعملوا ما شئتم {فسيرى الله عملكم} فإنه لا يخفى عليه شيء خيراً كان أو شرّاً، فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال: اجتهدوا في العمل في المستقبل فإنّ الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها {و} يرى أيضاً {رسوله والمؤمنون} أعمالكم، أما رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم فبإطلاع الله إياه على أعمالكم، وأما رؤية المؤمنين فبقذف الله تعالى في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المفسدين {وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة} أي: وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سرّكم وعلانيتكم ولا يخفى عيه شيء من أعمال بواطنكم وظواهركم {فينبئكم} أي: فيخبركم {بما كنتم تعملون} من خير وشر فيجازيكم على أعمالكم. واعلم أن الله تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام: أوّلهم: المنافقون الذين مردوا على النفاق. والثاني: التائبون وهم المرادون بقوله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} وبين أنه تعالى قبل توبتهم. والقسم الثالث: الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في قوله تعالى: {وآخرون} أي: من المتخلفين {مرجون} أي: مؤخرون عن التوبة. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بغير همز بين الجيم والواو، والباقون بهمزة مضمومة بين الجيم والواو {لأمر الله} أي: لحكم الله تعالى فيهم، والفرق بين القسم الثاني وبين هذا أن أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وستأتي قصتهم عند قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} تخلفوا كسلاً وميلاً إلى الراحة لا نفاقاً ولم يعتذروا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كغيرهم فوقف أمرهم خمسين ليلة حتى نزلت توبتهم بعد {إمّا يعذبهم} بأن يميتهم من غير توبة {وإمّا يتوب عليهم} إن تابوا. فإن قيل: كلمة أما وإمّا للشك والله تعالى منزه عن ذلك. أجيب: بأن الترديد بالنسبة للعباد أي: ليكن أمرهم عندكم على هذا في الخوف والرجاء فإنّ الله تعالى لا تخفى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 خافية وفي هذا دليل على أنّ كلا الأمرين بإرادة الله تعالى {وا عليم} بأحوال عباده {حكيم} فيما يفعل بهم. ولما ذكر تعالى أصناف المنافقين وطرائقهم المختلفة قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً} قال ابن عباس رضي الله عنه: وهم إثنا عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً {ضراراً} أي: مضارّة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء {وكفراً} أي: وتقوية للنفاق، وقال ابن عباس: يريدون به ضراراً للمؤمنين وكفراً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وقال غيره: اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبيّ صلى الله عليه وسلم والإسلام {وتفريقاً بين المؤمنين} لأنهم كانوا جميعاً يصلون بمسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدّي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة {وإرصاداً} أي: ترقباً {لمن حارب الله ورسوله} وهو أبو عامر والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة عاداه لأنه زالت رياسته وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، فقال له أبو عامر: إنا عليها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنك لست عليها» فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً غريباً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «آمين» وسماه الفاسقى فلما كان يوم أحد قال أبو عامر: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من القوّة والسلاح وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد، وقوله تعالى: {من قبل} متعلق بحارب أي: حارب من قبل أن يبنى مسجد الضرار أو باتخذوا أي: اتخذوا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف. ولما وصف تعالى هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال تعالى: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} أي: وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهي الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المظلمة والليلة الشاتية {وا يشهد إنهم لكاذبون} في قولهم. تنبيه: قوله تعالى: {والذين اتخذوا} محله نصب على الاختصاص كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} (النساء، 162) أو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي: وممن ذكرنا الذين. ولما بنى المنافقون ذلك المسجد للأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك وقالوا: يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة المظلمة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا فيه بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم «إني على جناح سفر في حال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه» فلما قفل أي: رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد نزل قوله تعالى: {لا تقم فيه أبداً} قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه لا تصلّ فيه أبداً، وقال الحسن: همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل: لا تقم فيه أبداً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 السكن ووحشياً فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا جميعاً سريعاً حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: انظروني حتى أخرج لكم بنار من أهلي فدخل إلى أهله وأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فهدموه وأحرقوه وتفرّق عنه أهله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً فريداً غريباً وقيل: كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى أو بمال غير طيب فهو ملحق بمسجد الضرار. وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه وقوله تعالى: {لمسجد} اللام فيه للابتداء وقيل: لام القسم تقديره والله لمسجد {أسس} أي: وضع أساسه وقواعده {على التقوى} أي: تقوى الله تعالى {من أوّل يوم} أي: من أوّل أيام وجوده لأن من تعم الزمان والمكان أي: فأحاطت به التقوى لأنها إذا أحاطت بأوّله أحاطت بآخره {أحق} أي: أولى {أن} أي: بأن {تقوم} أي: تصلي {فيه} ، واختلف في هذا المسجد الذي أسس على التقوى فقيل: هو مسجد المدينة قاله زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري قال أبو سعيد رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أي المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» وعن أمّ سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة» أي: ثوابت، وقيل: هو مسجد قباء قاله سعيد بن جبير وقتادة أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهو يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ويدل على هذا قوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} أي: من المعاصي والخصال المذمومة طلباً لمرضاة الله تعالى عليهم {وا يحب المطهرين} أي: يثيبهم ويرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحب حبيبه. روي أنها لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال: «أمؤمنون أنتم؟» فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أترضون بالقضاء؟» فقالوا: نعم، قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: «مؤمنون ورب الكعبة» فجلس ثم قال: «يا معشر الأنصار إنّ الله عز وجل قد أثنى عليكم فماذا الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟» فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {رجال يحبون أن يتطهروا} . وروى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن ساعدة إنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إنّ الله تعالى قد أحسن إليكم الثناء في الطهر وفي قصة مسجدكم فما الطهور الذي تطهرون به؟» قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا كان لنا جيران من اليهود فكانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي حديث رواه البزار فقالوا: نتبع الحجارة بالماء فقال: «هو ذاك فعليكموه» ، وقيل: كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء إثر البول، وعن الحسن هو التطهر من الذنوب بالتوبة، وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن آخرهم. {أفمن أسس بنيانه} أي: بنيان دينه {على تقوى من الله ورضوان} أي: على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه {خير أم من أسس بنيانه على شفا} أي: طرف {جرف} أي: جانب {هار} أي: على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار أي: مشرف على السقوط {فانهار به} أي: سقط مع بانيه {في نار جهنم} خير وهذا تمثيل للبناء على ضدّ التقوى بما يؤول إليه والاستفهام للتقرير أي: الأوّل خير وهو مثال مسجد قباء، والثاني مثال مسجد الضرار قال الرازي: ولا نرى في العالم مثالاً أحسن مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال وحاصل الكلام إنّ أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله تعالى ورضوانه والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأوّل شريفاً واجب الإبقاء وكان الثاني خسيساً واجب الهدم. قيل: حفرت بقعة في مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منها، وقرأ نافع وابن عامر: أفمن أسس بضم الهمزة وكسر السين الأولى مع التشديد وضم النون قبل الهاء، والباقون بفتح الهمزة والسين مع التشديد أيضاً ونصب النون قبل الهاء، وقرأ شعبة: رضوان بضم الراء، والباقون بالكسر. ورسمت أم هنا مقطوعة من من والكلام على أسس بنيانه كالكلام على التي قبلها، وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة جرف بسكون الراء والباقون بالرفع، وأما شفا فلا تمال بخلاف هار فإن أبا عمرو وشعبة والكسائيّ يقرؤونه بالإمالة المحضة، وابن ذكوان بالفتح والإمالة، وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح {وا لا يهدي القوم الظالمين} أي: إلى ما فيه صلاح ونجاة. {لا يزال بنيانهم الذي بنوا} أي: بناؤهم الذي بنوه وهو مصدر كالغفران والمراد هنا المبنى وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور يقال: ضرب الأمير ونسج زيد والمراد مضروبه ومنسوجه وليس بجمع خلافاً للواحدي في تجويزه أن يكون جمع بنيانه لأنه وصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله: {ريبة} أي: شكاً {في قلوبهم} والمعنى: إنّ بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم فجعل نفس ذلك البنيان ريبة وإنما جعل سبباً للريبة لأنّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضرار فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخريبه عظم خوفهم في كل الأوقات وصاروا مرتابين في أنهم هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم، وقال الكلبي: صار حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه، وقال السدي: لا يزال هدم بنائهم ريبة أي: حرارة وغيظاً في قلوبهم {إلا أن تقطع قلوبهم} قطعاً إمّا بالسيف وإمّا بالموت بحيث لا يبقى لهم قابلية الإدراك وقيل: التقطع بالتوبة ندماً وأسفاً {وا عليم} بأحوالهم وأحوال عباده {حكيم} في الأحوال التي يحكم بها عليهم وعلى غيرهم. ولما تقدّم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} الآية، ثم الحزم بالجهاد بالنفس والمال في قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} الآية ذكر فضيلة الجهاد وحقيقته بقوله تعالى: {إنّ الله اشترى} أي: بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة {من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 المؤمنين} بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه {أنفسهم} التي تفرد بخلقها {وأموالهم} التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم وقدم النفس إشارة إلى أن المبايعة سابقة على اكتساب المال، ولما ذكر البيع أتبعه الثمن بقوله تعالى: {بأنّ لهم الجنة} مثل الله تعالى إثابتهم على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء. وروي تاجرهم الله تعالى فأغلى لهم الثمن، وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً، وعن الحسن أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رازقها. وروي أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون به أنفسكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت. ومرّ أعرابي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأها فقال: الأعرابي كلام من؟ قال عليه الصلاة والسلام: «كلام الله عز وجل» ، فقال الأعرابي: والله بيع مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد. وقال الحسن: اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة بايع الله تعالى بها كل مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة والمراد بالأموال إنفاقها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم، وفي جميع وجوه البر والطاعات، وقوله تعالى: {يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} استئناف بيان ما لأجله الشراء، وقيل: يقاتلون في معنى الأمر. وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المقتولين على القاتلين لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب ولأن فعل البعض قد يسند إلى الكل أي: فيقتل بعضهم ويقاتل الباقي والباقون بتقديم القاتلين وقوله تعالى: {وعداً عليه حقاً} مصدران منصوبان بفعليهما المحذوفين ثم أخبر الله تعالى بأنّ هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت {في التوراة} كتاب موسى عليه السلام {والإنجيل} كتاب عيسى عليه السلام {والقرآن} أي: قد أثبته فيهما كما أثبته في القرآن أي: الكتاب الجامع لكل ما قبله {ومن أوفى بعهده من الله} أي: لا أحد أوفى منه سبحانه لأنّ الإخلاف لا تُقدِمُ عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق وقوله تعالى: {فاستبشروا} فيه التفات عن الغيبة أي: فافرحوا غاية الفرح {ببيعكم الذي بايعتم به} فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال تعالى: {وذلك هو الفوز العظيم} . تنبيه: هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيد: أوّلها: قوله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} بكون المشتري هو الله تعالى المقدّس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد، ثانيها: أنه تعالى عبر عن إيصاله هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد، ثالثها: قوله تعالى: {وعداً} ووعد الله تعالى حق، رابعها: قوله تعالى: {عليه} وكلمة على للوجوب، خامسها: قوله تعالى: {حقاً} وهو لتأكد التحقيق، سادسها: قوله تعالى: {في التوراة والإنجيل والقرآن} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة، سابعها: قوله تعالى: {ومن أوفى بعهده من الله} وهو غاية في التأكيد، ثامنها: قوله تعالى: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} وأيضاً هو مبالغة في التأكيد، تاسعها: قوله تعالى: {وذلك هو الفوز} ، وعاشرها قوله تعالى: {العظيم} فثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق. ولما ذكر تعالى في هذه الآية أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بين أنّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة الآتية: أولها: قوله تعالى: {التائبون} وهو مرفوع على المدح أي: هم التائبون يعني المذكورين في قوله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين} وقال الزجاج: لا يبعد أن يكون قوله: {التائبون} مبتدأ وخبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} أو خبره ما بعده أي: التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال والتائبون صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول التوبة من كل معصية والتوبة إنما تحصل عند أربعة أمور: أوّلها: احتراق القلب عند صدور المعصية. ثانيها: الندم على ما مضى. ثالثها: العزم على الترك في المستقبل. رابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها رفع مذمّة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض من الأغراض الدنيوية فليس بتائب ولا بد من ردّ المظالم إلى أهلها إن كانت. الصفة الثانية قوله تعالى: {العابدون} أي: الذين أخلصوا العبادة لله وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله في السرّاء والضرّاء، وقال قتادة: قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. الصفة الثالثة قوله تعالى: {الحامدون} وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء» . الصفة الرابعة قوله تعالى: {السائحون} واختلف في المراد منهم فقال ابن مسعود وابن عباس: هم الصائمون قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصوم وقال صلى الله عليه وسلم «سياح أمّتي الصوم» وعن الحسن أنّ هذا صوم الفرض، وقيل: هم الذين يديمون الصيام، قال الأزهري: قيل للصائم سائح لأنّ الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل والصائم ممسك عن الأكل فلهذا المشابهة يسمى الصائم سائحاً، وقال عطاء: السائحون الغزاة في سبيل الله تعالى. وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال: يا رسول الله ائذن لنا في السياحة فقال: «إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله» وقال عطاء: السائحون هم طلاب العلم والسياحة أمر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل واحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المدارسة الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها أثر قوي في الدين. الصفة الخامسة والسادسة: قوله تعالى: {الراكعون الساجدون} أي: المصلون وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنّ بهما يتميز المصلي عن غيره بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره ولأنّ القيام أوّل مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 نهاية الخضوع والتعظيم. الصفة السابعة والثامنة: وقوله تعالى: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} أي: الآمرون بالإيمان والطاعة والناهون عن الشرك والمعصية ودخول الواو في والناهون عن المنكر للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة فكأنه قال: الجامعون بين الوصفين ولأنّ العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} (الكهف، 22) وقوله تعالى في صفة الجنة: {وفتحت أبوابها} (الزمر، 22) إيذاناً بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التامّ والثامن تعداد آخر معطوف عليه ولذلك تسمى واو الثمانية، وقيل: الموصون بهذه الصفات هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعلى هذا يكون قوله تعالى: {التائبون} إلى قوله: {الساجدون} مبتدأ خبره هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. الصفة التاسعة: قوله تعالى: {والحافظون لحدود الله} أي: لأحكامه بالعمل بها والمقصود أنّ تكاليف الله تعالى كثيرة وهي محصورة في نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالعبادات، والثاني: ما يتعلق بالمعاملات. فإن قيل: ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر عقبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟ أجيب: بأنّ التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل، وأمّا البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء وأحكام الجنايات ودخل في هذه الصفة التاسعة رعاية أحوال القلوب بل البحث عنها، والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأنّ أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب. ثم ذكر سبحانه وتعالى عقب هذه الصفات التسعة قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} تنبيهاً على أن البشارة في قوله تعالى: {فاستبشروا} لم تتناول إلا المؤمنين الموصفين بهذه الصفات التسعة وحذف تعالى المبشر به للتعظيم فكأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} فقال سعيد بن المسيب عن أبيه إنه نزل في شأن أبي طالب وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء لعمه أبي طالب لما حضرته الوفاة فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية فقال: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان عليه إلى تلك المقالة حتى قال أبو طالب: آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك» فنزل ذلك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» قال: لولا يعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} (القصص، 56) الآية. وقال بريدة لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له يستغفر لها فنزل {ما كان للنبيّ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 الآية، وقال أبو هريرة: زار النبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أمّه آمنة فبكى وأبكى من حوله وقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزورها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت، وقال قتادة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: تستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وروى الطبراني بسنده عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رجالاً قالوا: يا نبيّ الله إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الرحم ويفك العاني أفلا نستغفر لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} أي: بأن ماتوا على الكفر قال البيضاوي: وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر فقال: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} أي: وعدها إبراهيم أباه بقوله: لأستغفرنّ لك أي: لأطلبنّ مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب أي: يقطع ويمحو ما قبله، وقرأ هشام: أبراهام بالألف بعد الهاء في الموضعين، والباقون بالياء فيهما {فلما تبيّن له أنه عدو} بأن مات على الكفر أو أوحى الله تعالى إليه إنه لن يؤمن {تبرأ منه} أي: قطع استغفاره {إنّ إبراهيم لأوّاه} أي: كثير التضرع والدعاء {حليم} أي: صبور على الأذى والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار لأبيه مع صعوبة خلق أبيه عليه. {وما كان الله ليضل قوماً} أي: يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم المنهي عنه {بعد إذ هداهم} للإسلام {حتى يبيّن لهم} بياناً شافياً لداء العمى {ما يتقون} أي: ما يجب اتقاؤه للنهي، أمّا قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه، وقيل: إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر وغير ذلك، وفي الجملة دليل على أنّ الغافل غير مكلف {إنّ الله بكل شيء عليم} أي: بالغ العلم فهو يبيّن لكم ما تأتون وما تذرون مما يتوقف عليه الهدى وما تركه تعالى فإنما يتركه رحمة لكم لا يضل ربي ولا ينسى. {إن الله له ملك السموات والأرض} فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم أو يضرّكم {يحيي ويميت} أي: يحيي من شاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من شاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده {وما لكم} أيها الناس {من دون الله} أي: غيره {من ولي} يحفظكم منه {ولا نصير} يمنع عنكم ضرره. {لقد تاب الله} أي: أدام توبته {على النبيّ والمهاجرين والأنصار} وافتتح الله تعالى الكلام بذكر توبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كقوله تعالى: {فأنّ خمسه وللرسول} (الأنفال، 41) ونحوه، وقيل: هو بعث على التوبة والمعنى ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى: {وتوبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 إلى الله جميعاً} (النور، 31) إذ ما من أحد إلا وله مقام ينتقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده. فائدة: اتفق القرّاء على إدغام دال قد في التاء. {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} أي: في وقت العسرة لم يرد ساعة بعينها وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش يسمى جيش العسرة والعسرة الشدّة فكانت عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء. قال الحسن: كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد يتعقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوّس والشعير المتغير وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ورضي عنا بهم آمين. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أنّ رقابنا ستقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه ويجعل ما بقي على كبده وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أنّ رقبته ستقطع فقال أبو بكر: يا رسول الله إنّ الله تعالى قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع الله تعالى قال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فلم يرجعا حتى أظلت السماء ثم سكبت فملأنا ما معنا ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. {من بعدما كاد تزيغ} أي: قرب أن تميل {قلوب فريق منهم} أي: همّ بعضهم عند تلك العسرة العظيمة أن يفارق النبيّ صلى الله عليه وسلم لكنه صبر واحتسب ولم يرد الميل عن الدين فلذلك قال الله تعالى: {ثم تاب عليهم} لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر العسير. فإن قيل: قد ذكر الله تعالى التوبة أولاً ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى ذكر التوبة أوّلاً قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطبيباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرّة أخرى تعظيماً لشأنهم وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم. وقرأ حفص وحمزة: يزيغ، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث القلوب غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث، وأدغم أبو عمرو الدال من كاد في التاء بخلاف عنه {إنه بهم رؤوف رحيم} هاتان صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب فالرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرّ والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة، وقيل: إحداهما للرحمة السابقة والآخرى للمستقبلة وقوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} أي: عن غزوة تبوك وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع معطوف على الآية الأولى والتقدير لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا، وفائدة هذا العطف بيان قبول توبتهم، وهذه الثلاثة كلهم من الأنصار وهم المذكورون في قوله تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله} (التوبة، 106) روي عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: وكان أعلم قومه وأوعاهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال كعب: كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فأخبرهم بوجهه الذي يريد فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا فهممت أن أرتحل وأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك وكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أن لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في معطفيه فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب: فلما بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً حضرني همي وطفقت أذكر الكذب وأقول بمَ أخرج به من سخطه غداً واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادماً راح عني الباطل وعرفت إني لم أخرج بشيء أبداً فيه كذب وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس وجاءه المخلفون يتعذرون إليه ويحلفون له وكانوا تسعة وثمانين رجلاً فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم الغضبان ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قلت: بلى يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطك بعذر ولقد أعطيت جزلاً ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديت كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني وقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا وقد كان كافيك لذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لهم: هل أتى هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ففيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس ولبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أثبت القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت حائط أبي قتادة وهو ابن عمّ لي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما ردّ عليّ السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا بنبطيّ من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه يقول: من يدلني على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فقد بلغني أنّ صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك فقلت حين قرأته: وهذا أيضاً من البلاء فيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر قال كعب: فجاءت امرأة هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: إنّ هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم هل تكره أن أخدمه؟ فقال: اخدميه ولكن لا يقربك قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء والله لا يزال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك لأذن لك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينما أنا جالس على الحال الذي ذكره الله تعالى في قوله: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي: مع رحبها أي: سعتها فلا يجدون مكاناً يطمئنون إليه {وضاقت عليهم أنفسهم} أي: قلوبهم بالغم والوحشة أي: بتأخير توبتهم فلا يسعها سرور ولا أنس {وظنوا} أي: أيقنوا {أن} مخففة {لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم} أي: وفقهم للتوبة {ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرحيم} إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع ينادي بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجداً وعرفت أنه جاء فرج وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله تعالى علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون ورجل رحل إلي فرساً وسعى ساع من أسلم فأوفى إلى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ وكسوته إياهما والله ما أملك غيرهما يومئذٍ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنؤنني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني رضي الله تعالى عنه والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ثم تلا علينا الآية، وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. ولما حكم الله بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر ما يكون كالزاجر عن مثل فعل ما مضى وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي: بترك معاصيه {وكونوا مع الصادقين} أي: مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين في الغزوات ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت وقيل: كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الباطلة الكاذبة وقيل مع بمعنى من أي: وكونوا من الصادقين. تنبيه: في الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته ويدلّ عليه أيضاً أشياء: منها ما روي عن ابن مسعود أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البرّ والبرّ يقرب إلى الجنة وإنّ العبد ليصدق فيكتب عند الله تعالى صدّيقاً وإياكم والكذب فإنّ الكذب يقرّب إلى الفجور والفجور يقرّب إلى النار وإنّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ألا ترى أنه يقال: صدقت وبررت وكذبت وفجرت. ومنها ما روي أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحبّ الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرّم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها فإن قنعت مني بترك واحدة منها فعلت فقال صلى الله عليه وسلم «اترك الكذب» فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني النبيّ صلى الله عليه وسلم وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام عليّ الحدّ فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا في السرقة فعاد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدّت أبواب المعاصي عليّ وفات الكل. ومنها ما قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (ص، 82، 83) لأنّ إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادّعاء إغواء الكل فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس لعنه الله فالمسلم أولى أن يستنكف منه. ومنها قول ابن مسعود: الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم أخاه ثم لا ينجز له اقرأوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين. {ما كان} أي: ما صح وما ينبغي بوجه من الوجوه {لأهل المدينة} أي: دار الهجرة ومعدن النصرة {ومن حولهم} أي: في جميع نواحي المدينة الشريفة {من الأعراب} أي: سكان البوادي وهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، وقيل: عام في كل الأعراب لأنّ اللفظ عام وحمله على العموم أولى وقوله تعالى: {أن يتخلفوا عن رسول الله} أي: عن حكمه وقوله تعالى: {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} أي: بأن يصونوها عما رضي لنفسه عليه الصلاة والسلام من الشدائد يجوز فيه النصب والجزم على أن لا ناهية. روي عن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه واستوى ونضج وله امرأة حسناء فرشت له في الظلّ وبسطت له الحصير وقربت له الرطب والماء البارد فقال: ظلّ ظليل ورطب يانع أي: ناضج وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير فقام فرجل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب أي: يدفعه وهو عبارة عن السرعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كن أبا خيثمة» فكان هو ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له {ذلك} أي: النهي عن التخلف {بأنهم} أي: بسبب إنهم {لا يصيبهم ظمأ} أي: عطش {ولا نصب} أي: تعب {ولا مخمصة} أي: مجاعة {في سبيل الله} أي: في طريق دينه {ولا يطؤن} أي: يدوسون وقوله تعالى: {موطئاً} مصدر أي: وطأ أو مكان وطء {يغيظ} أي: يغضب {الكفار} أي: وطؤهم له بأرجلهم ودوابهم {ولا ينالون من عدوّ نيلاً} أي: قتلاً أو أسراً أو غنيمة أو هزيمة أو نحو ذلك قليلاً كان أو كثيراً {إلا كتب لهم به} أي: بذلك {عمل صالح} أي: ثواب جزيل عند الله تعالى يجازيهم به {إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين} أي: لا يترك ثوابهم وأظهر موضع الإضمار تنبيهاً على أنّ الجهاد إحسان. تنبيه: في هذه الآية دلالة على أنّ من قصد طاعة الله تعالى كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله تعالى وكذا القول في طرف المعصية فإنّ حركته فيها كلها سيآت فما أعظم بركة الطاعة وما أكبر ذل المعصية إلا أن يغفرها الله تعالى. وعن أبي عيسى رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله تعالى على النار» . {ولا ينفقون} في سبيل الله {نفقة صغيرة} تمرة فما دونها {ولا كبيرة} أي: أكثر منها مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة {ولا يقطعون} أي: يجاوزون {وادياً} أي: أرضا في سيرهم مقبلين أو مدبرين {إلا كتب لهم} ذلك من الإنفاق وقطع الوادي {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} أي: يجزيهم الله جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب. فائدة: الوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسبيل وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الوادي وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون: لا تصلّ في وادي غيرك. تنبيه: في الآية دليل على فضل الجهاد والإنفاق فيه ويدل عليه أشياء: منها ما روي عن ابن مسعود قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة» . ومنها ما روي عن زيد بن خالد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في سبيل الله فقد غزا» . ومنها ما روي عن سهل بن سعد الساعديّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها» وفي رواية وما فيها. ومنها ما روي عن أبي سعيد الخدري أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أفضل؟ قال: «مؤمن مجاهد بنفسه في سبيل الله» قال: ثم أيّ؟ قال: «ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى» وفي رواية يتقي الله ويدع الناس من شرّه وقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} فيه احتمالان: الأول أنه كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد. والثاني أن يكون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 بقية أحكام الجهاد فعلى الأوّل يقال: وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً لنحو غزو وطلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإنه يخلّ بأمر المعاش {فلولا} أي: فهلا {نفر من كل فرقة} أي: قبيلة {منهم طائفة} أي: جماعة ومكث الباقون {ليتفقهوا} أي: ليتكلفوا الفقاهة {في الدين} ويتجشموا مشاق تحصيلها ليعرفوا الحلال من الحرام ويعودوا إلى أوطانهم {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم وتخصيصه بالذكر لأنه أهمّ وفيه دليل على أنّ التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتكلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس وصرف وجوههم إليه والتبسط في البلاد ليدخل في قوله صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وفي قوله صلى الله عليه وسلم «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» وفي قوله صلى الله عليه وسلم «من سلك طريقاً يلتمس فيها علماً سهل الله تعالى له طريقاً إلى الجنة» {لعلهم يحذرون} عقاب الله تعالى بامتثال أمره ونهيه، وعلى الاحتمال الثاني يقال: إنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنين إلى النفير وانقطعوا عن التفقه فأمروا بأن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويمكث الباقون يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأنّ الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفي رجعوا للطوائف ولينذروا لباقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم قال ابن عباس: فهذه مخصوصة بالسرايا والتي قبلها بالنهي عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر صلى الله عليه وسلم أوّلاً بإنذار عشيرته الأقربين، وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام، وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر، وقيل: الروم لأنهم كانوا يسكنون الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ما لم يضطرّوا إلى أهل ناحية أخرى {وليجدوا فيكم غلظة} أي: شدّة وصبراً على القتال والغلظة ضدّ الرقة أي: اغلظوا عليهم {واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصرة والحراسة. {وإذا ما أنزلت سورة} من القرآن {فمنهم} أي: المنافقين {من يقول} أي: لأصحابه إنكاراً واستهزاءً بالمؤمنين {أيكم زادته هذه} السورة {إيماناً} أي: تصديقاً، قال الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً} بزيادة العلم الحاصل في تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم {وهم يستبشرون} أي: يفرحون بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم {وأما الذين في قلوبهم مرض} أي: شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى علاج {فزادتهم} أي: السورة أي: نزولها {رجساً إلى رجسهم} أي: كفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها {وماتوا} أي: هؤلاء المنافقون {وهم كافرون} أي: وهم جاحدون لما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 قال مجاهد: في هذه الآية دليل على أنّ الإيمان يزيد وينقص، وكان عليّ رضي الله تعالى عنه يأخذ بيد الرجل والرجلين من الصحابة ويقول: تعالوا حتى نزداد إيماناً وقوله تعالى: {أولا يرون} قرأه حمزة بالتاء أي: أيها المؤمنون والباقون بالياء على الغيبة أي: المنافقون {أنهم يفتنون} أي: يبتلون {في كل عام مرّة أو مرّتين} بالأمراض والقحط والحرب {ثم لا يتوبون} من نفاقهم ونقض عهودهم إلى الله تعالى {ولا هم يذكرون} أي: ولا يتعظون بما يرون من نصرته صلى الله عليه وسلم وتأييده. {وإذا ما أنزلت سورة} فيها عيب المنافقين وتوبيخهم وقرأها صلى الله عليه وسلم {نظر بعضهم إلى بعض} أي: تغامزوا بالعيون إنكاراً لها وسخرية أو غيظاً لما فيها من عيوبهم ويريدون الهرب يقولون: {هل يراكم من أحد} أي: من المؤمنين إذا قمتم فإن لم يرهم أحد قاموا وخرجوا من المسجد وإن علموا أنّ أحداً يراهم ثبتوا على تلك الحالة {ثم انصرفوا} على كفرهم ونفاقهم وقيل: انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ما يكرهون وقوله تعالى: {صرف الله قلوبهم} أي: عن الهدى يحتمل الإخبار والدعاء {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يفقهون} أي: لسوء فهمهم وعدم تدبرهم. {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} أي: من جنسكم عربيّ مثلكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم تعرفون حسبه ونسبه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبيّ صلى الله عليه وسلم وله فيها نسب وقال جعفر بن محمد الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية من زمن آدم عليه السلام، وعن الطبرانيّ قال صلى الله عليه وسلم «إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» ، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام» وعن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام دال قد في الجيم والباقون بالإظهار {عزيز} أي: شديد شاق {عليه ما عنتم} أي: عنتكم وإيتاؤكم المكروه وقيل: يشق عليه ضلالتكم {حريص عليكم} أي: أن تهتدوا أو على إيصال الخير إليكم {بالمؤمنين} أي: منكم ومن غيركم {رؤوف} أي: شديد الرحمة بالمطيعين {رحيم} بالمذنبين وقدّم الأبلغ وهو الرؤوف محافظة على الفواصل، وعن الحسن بن الفضل: لم يجمع الله تعالى لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم فسماه رؤوفاً رحيماً، وقال تعالى: {إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم} وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بمدّ الهمزة من رؤوف، والباقون بالقصر. {فإن تولوا} أي: فإن أعرضوا هؤلاء الكفار والمنافقون عن الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وناصبوك الحرب {فقل حسبي الله} أي: يكفيني الله وينصرني عليكم وإنما كان كافياً لأنه {لا إله إلا هو} فلا مكافىء له ولا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه {عليه توكلت} أي: فلا أرجو إلا إياه ولا أخاف إلا منه لأنّ أمره نافذ في كل شيء {وهو رب العرش} أي: الكرسي {العظيم} وخصه بالذكر تشريفاً له ولأنه من أعظم مخلوقاته سبحانه وتعالى. روي عن أبيّ بن كعب قال: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 السورة، وقال: هما أحدث الآيات بالله عهداً وما رواه البيضاويّ رحمه الله تعالى تبعاً للكشاف من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» حديث منكر ومخالف لما مرّ عن أبيّ من أنّ آخر ما نزل الآيتان، انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» {فآمنوا با ورسله} أي: عيسى وغيره ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض {ولا تقولوا} كما قالت النصارى: الآلهة {ثلاثة} الله وعيسى وأمه، قال تعالى: {انتهوا} عن ذلك وائتوا {خيراً لكم} من ذلك وهو التوحيد {إنما الله إله واحد} أي: لا تعدّد فيه بوجه مّا {سبحانه} تنزيهاً له {أن} أي: عن أن {يكون له ولد} أي: كما قلتم أيها النصارى، فإنّ ذلك يقتضي الحاجة ويقتضي التركيب والمجانسة، ثم علل ذلك بقوله: {له ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً، فلا يتصوّر أن يحتاج إلى شيء منهما، ولا إلى شيء متحيّز فيهما، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزأ منه وولداً له؛ لأنّ المكية تنافي البنوة، وعيسى وأمه كل منهما محتاج إلى ما في الوجود {وكفى با وكيلاً} أي: يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء، فهو غني عن الولد، فإنّ الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ في ذلك مستغن عمن يخلفه أو يعينه. روي أنّ وفد نجران قالوا: يا رسول الله لم تعيب صاحبنا؟ قال: «ومن صاحبكم؟» قالوا: عيسى قال: «وأيّ شيء أقول؟» قالوا: تقول إنه عبد الله قال: «إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله» قالوا: بلى، فنزل قوله تعالى: {لن يستنكف} » أي: يتكبر ويأنف {المسيح} أي: الذي زعمتم إنه إله {أن} أي: عن أن {يكون عبد الله} فإنّ عبوديته له شرف يتباهى به وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره وقوله تعالى: {ولا الملائكة المقرّبون} أي: عند الله عطف على المسيح أي: ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم إنها آلهة أو بنات الله كما ردّ بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم، فلا حجة فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء كما زعمه بعض المعتزلة قائلاً بأنّ المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه. قال الطيبي: وإنما تنهض الحجة على النصارى إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد، فكيف والنصارى رفعوا درجة عيسى إلى الإلهية، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما ردّ على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي اه. أو من باب الترقي في الخلق لا في المخلوق كما قاله البقاعي، قال: لأن الملائكة أعجب خلقاً من عيسى في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى، ولا ما يجانس عضو البشر فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً أو في القوّة؛ لأنهم أقوى من عيسى؛ لأنهم يقتلعون الجبال ويأتون بالمياه العظيمة والعبادات الدائمة المستمرّة {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر} أي: يطلب الكبر عن ذلك قال الراغب: الاستنكاف تكبر في أنفة والاستكبار بخلافه {فسيحشرهم} أي: المستكبرين وغيرهم {إليه جميعاً} في الآخرة بوعد لا يخلف فيجازيهم. {فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تصديقاً لإقرارهم بالإيمان {فيوفيهم أجورهم} أي: ثواب أعمالهم {ويزيدهم من فضله} أي: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وأما الذين استنكفوا واستكبروا} عن عبادته {فيعذبهم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً هو عذاب النار بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر {ولا يجدون لهم} أي: حالاً ولا مآلاً {من دون الله} أي: غيره {ولياً} يدفعه عنهم {ولا نصيراً} يمنعهم منه. {يأيها الناس} أي: كافة أهل الكتاب وغيرهم {قد جاءكم برهان من ربكم} أي: حجة نيرة واضحة مفيدة لليقين التام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} أي: واضحاً في نفسه موضحاً لغيره وهو القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه، فلم يبق لكم عذر ولا علة، وقيل: المراد بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن. {فأما الذين آمنوا با واعتصموا به فسيدخلهم} أي: بوعد لا خلف فيه {في رحمة منه} أي: ثواب عظيم هو رحمته لهم لا بشيء استوجبوه {وفضل} أي: إحسان زائد عليه {ويهديهم} أي: في الدنيا والآخرة {إليه صراطاً مستقيماً} أي: طريقاً مستقيماً وهو الإسلام والطاعة في الدنيا والجنة في الآخرة. {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاوَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ} {يستفتونك} أي: في الكلالة حذف لدلالة الجواب عليه. روي أن جابر بن عبد الله قال: «عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت وقلت: يا رسول الله لمن الميراث وإنما يرثني كلالة» فنزل: {يستفتونك} {قل الله يفتيكم في الكلالة} وقد تقدّم معنى الكلالة وحكم الآية في أوّل السورة وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم أو للأب، وقوله تعالى: {إنّ امرؤ} هو مرفوع بفعل يفسره {هلك} أي: مات {ليس له ولد} أي: ولا والد وهو الكلالة، قال الأصبهاني عن الشعبي: اختلف أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في الكلالة فقال أبو بكر: هو ما عدا الوالد، وقال عمر: ما عدا الوالد والولد ثم قال عمر: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وقوله تعالى: {وله أخت} يحتمل الحال والعطف والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة والذي لأم لا يكون عصبة والولد يشمل الذكر والأنثى فإنّ الأخت وإن ورثت مع البنت قد لا ترث النصف وذلك عند تعدد البنت {فلها نصف ما ترك وهو} أي: هذا الأخ للميت {يرثها} أي: إن ماتت هي وبقي هو جميع مالها {إن لم يكن لها ولد} فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها ولو كانت الأخت أو الأخ من الأم ففرضه السدس كما مرّ أوّل السورة {فإن كانتا} أي: الأختان {اثنتين} أي: فصاعداً لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات {فلهما الثلثان مما ترك} أي: الأخ {وإن كانوا} أي: الورثة {إخوة رجالاً ونساءً فللذكر} منهم {مثل حظ الأنثيين يبيّن الله لكم} أي: ولم يكلكم في بيانه إلى بيان غيره، وقال مرغباً مرهباً {أن} أي: كراهة أن {تضلوا} وقيل: لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين، وقيل: يبيّن الله لكم ضلالكم أي: الذي من شأنكم أي: إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه {والله بكل شيء عليم} فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات ومنه الميراث. 3 ـ أول يونس ـ آخر سورة الإسراء سورة يونس عليه السلام مكية إلا فإن كنت في شك الآيتين أو الثلاث أو {ومنهم من يؤمن به} الآية مائة وتسع أو عشر آيات وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفاً، وهي أوّل المئين، إن جعلنا براءة مع الأنفال من الطوال، وإلا فبراءة أولاهن. {بسم الله} جامع العباد بعد تفريقهم بما له من العظمة والامتنان. {الرحمن} الذي عمهم بالإيجاد وخص منهم من شاء بالإيمان. {الرحيم} الذي خص أولياءه بالرضوان المبيح للجنان. {الر} قال ابن عباس والضحاك و {الر} أنا الله أرى، {والمر} أنا الله أعلم وأرى. وقيل: أنا الرب لا رب غيري. وقال سعيد بن جبير: الر وحم ونون حروف اسم الرحمن. وقد سبق الكلام على حروف الهجاء أوّل البقرة، واتفقوا على أنّ {الر} وحده ليس آية، واتفقوا على أنّ قوله طه وحده آية، والفرق أنّ قوله تعالى: الر لا يشاكل كل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله تعالى طه؛ فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بفتح الراء والألف بعدها، وورش بين اللفظين، والباقون بالإمالة المحضة. {تلك} أي: الآيات العظيمة جدًّا التي اشتملت عليها هذه السورة أو السورة، التي تقدّمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أنَّ القرآن كلام الله تعالى قد أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف. {آيات الكتاب} أي: الذكر الجامع لكل خير وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كلّ ما في التوراة والإنجيل من ذلك فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً؛ لأنه لم يكن يعرف شيئاً من الكتابين ولا جالس أحداً يعلمه. {الحكيم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 أي: المحكم. وقوله تعالى: {أكان للناس} أي: أهل مكة، استفهام إنكار للتعجب. وقوله تعالى: {عجباً} خبر كان، والعجب تغير النفس بما لا تعرف سببه مما خرج عن العادة، ثم ذكر الحامل على العجب؛ وهو اسم كان بقوله تعالى: {أن أوحينا} أي: إيحاؤنا {إلى رجل منهم} أي: من أهل مكة ومن قريش، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون صدقه ونسبه وأمانته، قيل: كانوا يقولون: العجب أنّ الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوّة، وهو لم يكن صلى الله عليه وسلم يقصر عن عظمائهم فيما يعتبر فيه إلا في المال، وخفة المال أهون شيءٍ في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك، وقد قال الله تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى} (سبأ 37) {أن أنذر الناس} عامّة، أي: أعلمهم مع الخوف ما أمامهم من البعث وغيره، وأن هي المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. {وبشر الذين آمنوا} إنما عمم في الإنذار لأنه قل أن يسلم أحد من كبيرة أو صغيرة أو هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات، وخصص البشارة إذ ليس للكافر ما يصح أن يبشر به. {أنَّ} أي: بأنَّ. {لهم قدم} أي: سلف {صدق عند ربهم} اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقال ابن عباس: أجراً حسناً مما قدّموا من أعمالهم. وقال مجاهد: الأعمال الصالحة: صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن: عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وقال عطاء: مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه. وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وحب الحصيد. وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم. قال الشاعر: *صل لذي العرش واتخذ قدما ... ينجيك يوم العثار والندم وهو مؤنث فيقال: قدم حسنة وقدم صالحة. وقوله تعالى: {قال الكافرون إنَّ هذا لسحر مبين} قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر بكسر السين وسكون الحاء على أنَّ الإشارة للقرآن المشتمل على ذلك، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء على أنّ الإشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم. {إنّ ربكم} الموجد لكم والمربي والمحسن هو {الله الذي خلق} أي: قدّر وأوجد {السموات والأرض} على اتساعهما، وكثرة ما فيهما من المنافع {في ستة أيام} من أيام الدنيا، أي: في قدرها؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهما في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت. فإن قيل: إنّ اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فما المراد؟ أجيب: بأنّ الغالب في اللغة أنه مراد باليوم اليومَ بليلته، ولما أوجد سبحانه وتعالى هذا الخلق الكبير المتباعد الأقطار، الواسع الانتشار، المفتقر إلى عظيم التدبير، ولطيف التصريف والتقدير؛ عبّر سبحانه وتعالى عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي: {ثم استوى} أي: عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك. {على العرش} المتقدّم وصفه في الأعراف بالعظمة، وليست ثم للترتيب، بل كناية عن علوِّ الرتبة، وبعد منازلها، ثم بيّن ذلك الاستواء بقوله: {يدبر الأمر} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور؛ لأنَّ التدبير أعدل أحوال الملك، فالاستواء كناية عنه. وقوله تعالى: {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} تقرير لعظمته جل وعلا، وردّ على من زعم أنَّ آلهتهم تشفع لهم عند الله. وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له {ذلكم الله} أي: الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية {ربكم} أي: الذي يستحق العبادة منكم. {فاعبدوه} أي: وحّدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع، فإنَّ عبادتكم مع التشريك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زلّ أدنى زلة طاعة، وقوله تعالى: {أفلا تذكرون} قرأه حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال، والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي: أفلا تتفكرون أدنى تفكر فينبئكم عن أنه المستحق للربوبية، والعبادة لا ما تعبدونه. {إليه} تعالى {مرجعكم} أي: رجوعكم بالموت والنشور حالة كونكم {جميعاً} لا يتخلف منكم أحد، فاستعدّوا للقائه. وقوله تعالى: {وعد الله} مصدر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله تعالى: {إليه مرجعكم} وعد من الله، وقوله تعالى: {حقاً} أي: صدقاً لا خلف فيه مصدر آخر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لغيره، وهو ما دل عليه وعد الله. {إنه يبدأ الخلق} أي: يحييهم ابتداءً. {ثم يعيده} أي: ثم يميتهم ثم يحييهم. وفي هذا دليل على الحشر والنشر والمعاد، وصحة وقوعه، وردّ على منكري البعث ووقوعه؛ لأنّ القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة، والأعضاء المركبة على غير مثال سبق، قادر على إعادتها بعد تفريقها بالموت والبلى، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيباً ثانياً، ويخلق الإنسان الأوّل مرّة أخرى، فإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت؛ كان المقصود منه إيصال الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، وهو قوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} أي: بالعدل، لا ينقص من أجورهم شيئاً. {والذين كفروا لهم شراب من حميم} وهو ماء حار قد انتهى حرّه {وعذاب أليم} أي: بالغ في الإيّلام. {بما كانوا يكفرون} أي: بسبب كفرهم. {هو الذي جعل الشمس ضياءً} أي: ذات ضياء {والقمر نوراً} أي: ذا نور، وخص الشمس بالضياء؛ لأنها أقوى وآكد من النور، وخص القمر بالنور؛ لأنه أضعف من الضياء، لأنّ الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نير بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. وقرأ قنبل بهمزة مفتوحة ممدودة بعد الضاد، والباقون بياء مفتوحة، والضمير في قوله تعالى: {وقدّره منازل} يرجع إلى الشمس والقمر؛، أي: قدّر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدّره ذا منازل، أو يرجع إلى القمر فقط، وتخصيصه بالذكر لسرعة مسيره ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به، ولذلك علله بقوله تعالى: {لتعلموا عدد السنين والحساب} أي: حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرّفاتكم؛ لأنّ الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى: {إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله} (التوبة: 36) فائدة: منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، وأسماؤها: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدّم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت. وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجاً: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. فلكل برجٍ منزلان وثلث، فينزل القمر في كل ليلة منها منزلاً، فيستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وإن كان تسعاً وعشرين فليلة واحدة، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها، أو انتفاع الخلق بضوء الشمس، وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى هذه الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، والنهار يكون زماناً للتكسب وللطلب، والليل يكون زماناً للراحة. {ما خلق الله ذلك} المذكور. {إلا بالحق} أي: لم يخلق ذلك باطلاً ولا عبثاً ـ تعالى الله عن ذلك ـ إظهاراً لقدرته، ودلائل وحدانيته. ونظيره قوله تعالى في آل عمران: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} (آل عمران: 191) . وقال تعالى في سورة أخرى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا} (ص، 27) . {يفصل} أي: يبين {الآيات} أي: الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة بياناً شافياً. {لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون بالتأمّل فيها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالياء، والباقون بالنون. ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإلهية والتوحيد بقوله تعالى: {إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} (الأعراف: 54) ، وثانياً بأحوال الشمس والقمر، استدل ثالثاً بقوله تعالى: {إن في اختلاف الليل والنهار} أي: بالمجيء والذهاب، والزيادة والنقصان، ورابعاً بقوله تعالى: {وما خلق الله في السموات} من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك. {و} ما خلق الله في {الأرض} من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك. فائدة: أقسام الحوادث في هذا العالم محصورة في أربعة أقسام، أحدها: الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار، ويدخل فيها أيضاً أحوال البحار والصواعق والزلازل والخسف، وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة، وثالثها: اختلاف أحوال النبات، ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى: {وما خلق الله في السموات} (يونس: 6) . والاستقصاء في شرح هذه الأحوال لا يدخل تحت الحصر، بل كل ما ذكر العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب. {لآيات} أي: دلالات على قدرته تعالى. {لقوم يتقون} الله فإنه يحملهم على التفكر والتذكر، وخصهم بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بها. قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أنّ الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلا بدّ من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد. ولما أقام الله سبحانه وتعالى الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحمن، وعلى صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر؛ شرع في شرح أحوال من يكفر بها، وشرح أحوال من يؤمن بها، وقد ابتدأ بأوّلها ووصفه بأربع صفات مبتدئاً بأوّلها بقوله تعالى: {إنّ الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافونه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، فهم مكّذبون بالثواب والعقاب والرجاء، يكون بمعنى الخوف، وبمعنى الطمع، فمن الأوّل قول العرب: فلان لايرجو فلاناً، بمعنى لا يخافه، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} (نوح: 13) ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: إذ لسعته النحل لم يرج لسعها. أي: لم يخفها. ومن الثاني قولهم: فلان يرجو فلاناً،، أي: يطمع فيه، والمعنى: لا يطمعون في ثوابنا، والصفة الثانية والثالثة: قوله تعالى: {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} فيعملون لها عمل المقيم فيها مع ما يشاهدونه من سرعة زوالها منهمكين في لذاتهاوزخارفها، وسكنوا فيها سكون من لا ينزع عنها، والصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين هم عن آياتنا} أي: دلائل وحدانيتنا {غافلون} تاركون النظر فيها، بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدّة بعدهم عن طلب الاستعداد بالسعادات الأخروية، ويحتمل أنَّ الصفة الأخيرة لفريق آخر، ويكون المراد بالأوّلين: من أنكر البعث، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وبالآخر: من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له، ولما وصفهم الله تعالى بتلك الصفات قال: {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} من الشرك والمعاصي، ولما شرح أحوال المنكرين الجاحدين ذكر تعالى شرح من يؤمن بها فقال: {إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} والأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة مما يكون بالضدّ من ذلك. {يهديهم} أي: يرشدهم. {ربهم بإيمانهم} أي: بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لما يريدونه في الجنة، أو لإدراك الحقائق، كما قال صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» . وقال مجاهد: المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول: أنا عملك. فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار» . ومفهوم ترتبِ الهداية على الإيمان، والعمل الصالح قد دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله جل وعلا: {بإيمانهم} (يونس: 9) . على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم، وهي أربعة الأولى: قوله تعالى: {تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم} أي: يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين، والأنهار تجري من بين أيديهم، ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم، ونظيره قوله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سرياً} (مريم: 24) فهي ما كانت قاعدة عليه، ولكن المعنى: بين يديك، وكذا قوله: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} (الزخرف، 51) ، أي: بين يدي فكذا هنا. الثانية قوله تعالى: {دعواهم فيها} قال بعض المفسرين:، أي: طلبهم لما يشتهون في الجنة أن يقولوا: {سبحانك} أي: ننزهك من كل سوء ونقيصة. {اللهمّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 بين أيديهم على موائد، كل مائدة ميل في ميل، على كل مائدة سبعون ألف صحفة، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضاً، فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله تعالى، فذلك قوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} . وأن المراد بقوله {سبحانك اللهم} اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله، وفي هذا الذكر سرورهم وابتهاجهم وكمال لذاتهم وهذا أولى، ويدل عليه ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» ، أي: يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقاً. الثالثة: قوله تعالى: {وتحيتهم} فيما بينهم وتحية الملائكة لهم {فيها} أي: الجنة {سلام} وتأتيهم الملائكة أيضاً من عند ربهم بالسلام. قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد: 23، 24) . وقال تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} (يس: 58) . الرابعة: قوله تعالى: {وآخر دعواهم} أي: وآخر دعائهم. {أن الحمد لله رب العالمين} أي: أن يقولوا ذلك، وأن هي المخففة من الثقيلة، وقد ذكرنا أنَّ بعض المفسرين حمل التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب، فإنهم إذا اشتهوا شيئاً قالوا: {سبحانك اللهم} (يونس، 10) فيحصل ذلك الشيء، فإذا فرغوا منه قالوا: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة، 2) فترتفع الموائد عند ذلك. قال الرازي: وهذا القائل ما رقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق بمثل هذا الإنسان أن يعدّ في زمرة البهائم، وأما المحققون فقد تركوا ذلك. اه. ولا تنبغي هذه المبالغة، فقد قاله البغوي، وتبعه جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: أعلمَ اللهُ أنّ أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه. قال البيضاوي: المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو الله تعالى، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام، ولما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، وكانوا عن آيات الله غافلين؛ بيّن أن مِنْ غفلتهم أنّ الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً بقوله تعالى: {ولو يعجل الله للناس الشرّ} أي: ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم بالشر فيما لهم فيه مضرة ومكروه {استعجالهم بالخير} أي: كما يحبون أن يعجل لهم إجابتهم بالخير {لقضي إليهم أجلهم} أي: لأهلكهم، ولكن يمهلهم. نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، ويدل عليه قوله تعالى: {فنذر} أي: فنترك. {الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم} أي: في تمردّهم وعتوهم. {يعمهون} أي: يتردّدون متحيرين. وقال ابن عباس: هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده: لعنكم الله، لا بارك الله فيكم. وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له فيه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إني أخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، إنما أنا بشر، فأيّ المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليّ يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 القيامة» . فإن قيل: قابل التعجيل في الآية بالاستعجال، وكان مقتضى النظم أن يقابل التعجيل بالتعجيل والاستعجال بالاستعجال، أجيب: بأنَّ تقدير الكلام: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالاً كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه، وقال في «الكشاف» : أصل هذا الكلام: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم بالخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم بالخير شعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كان استعجالهم بالخير تعجيل لهم.A ولما حكى تعالى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، بين أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال بقوله تعالى: {وإذا مس الإنسان} أي: الكافر {الضرّ} أي: المرض والفقر {دعانا لجنبه} أي: على جنبه مضطجعاً {أو قاعداً أو قائماً} وفائدة التردّد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، والمعنى: أنّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه فإنه يتضرّع إلى الله تعالى في إزالته عنه، وفي دفعه عنه، وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في طلب الاستعجال {فلما كشفنا عنه ضرّه} أي: أزلنا عنه ما نزل به، {مرّ} أي: مضى على ما كان عليه من الكفر، {كأن لم يدعنا} أي: كأنه، فأسقط الضمير على سبيل التخفيف، ونظيره قوله تعالى: {كأن لم يلبثوا} (يونس، 45) . {إلى ضرَ مسه} . قال الحسن: نسي ما كان دعا الله فيه، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه، وإنما حمل الإنسان في هذه الآية على الكافر؛ لأنَّ العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة، وقول بعضهم: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد هو الكافر مردود، فقد قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} (الإنسان: 1) . وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون: 12) . وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} (ق، 16) وأما المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمورٍ: أوّلها: أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه، وإنما وجب عليه ذلك؛ لأنّه تعالى مالك على الإطلاق، وملك بالاستحقاق، فله أن يفعل في ملكه ما شاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق، وهو منزه عن فعل العبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، فيجب عليه الصبر وترك القلق، فإن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل. وثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى، والثناء عليه بدلاً عن الدعاء، كان أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ، ولأنّ الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق والاشتغال بالدعاء، اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أنَّ الأوّل أفضل. وثالثها: أنه تعالى إذا أزال عنه تلك البلية وجب عليه أن يبالغ في الشكر، وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدّة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء، وحينئذ يكون المؤمن على الضدّ من الكافر؛ لأنَّ الكافر منهمك في الشهوات، والإعراض عن العبادات. كما قال تعالى: {كذلك} أي: مثل ما زين لهؤلاء الكافرين هذا العمل القبيح. {زين للمسرفين} أي: المشركين {وما كانوا يعملون} من القبائح لإعراضهم عن الذكر واتباعهم الشهوات، وإنما سمي الكافر مسرفاً؛ لأنّه أتلف نفسه بتضييعها في عبادة الأوثان، وأتلف ماله في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والمزين هو الله تعالى؛ لأنه مالك الملك، والخلق كلهم عبيده يتصرّف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فيهم كيف شاء، وقيل: هو الشيطان وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك، وإلا فهو أخس وأحقر. {ولقد أهلكنا القرون} أي: الأمم الماضية. {من قبلكم} يا أهل مكة. {لما ظلموا} أي: حين أشركوا، وقوله تعالى: {وجاءتهم رسلهم بالبينات} أي: بالحجج الدالة على صدقهم، حال من الواو وبإضمار قد أو عطف على ظلموا. {وما} أي: والحال أنهم ما {كانوا ليؤمنوا} أي: وما استقام لهم أن يؤمنوا، ولو جاءتهم كل آية لعلمه تعالى بأنهم يموتون على كفرهم، واللام لتأكيد النفي. {كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء العظيم وهو إهلاكهم لما كذبوا رسلهم {نجزي القوم المجرمين} أي: نجزيكم يا أهل مكة بتكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم فوضع المظهر موضع المضمر للدّلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه. {ثم جعلناكم} أي: أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا {خلائف} جمع خليفة {في الأرض من بعدهم} أي: استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر {لننظر} ونحن أعلم بكم من أنفسكم في علم الشهادة لإقامة الحجة. {كيف تعملون} من خير أو شر فنجازيكم به، وقد مرّ نظائر هذا، ومنه قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (هود: 7) . وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الدنيا خضرة حلوة، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» . وقال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار. قال الزجاج: وموضع كيف نصب بقوله تعملون، أي: لا معمول ننظر؛ لأنها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنّ له صدر الكلام فلا يتقدمه عامله، وظاهر كلامه أنّ كيف مفعول لتعملون، وجمهور النحاة على أنه حال من ضمير تعملون. {وإذا تتلى عليهم} أي: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين. {آياتنا} أي: القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد حالة كون تلك الآيات {بينات} أي: ظاهرات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوّتك. {قال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافون عذابنا، ولا يرجون ثوابنا؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، وكل من كان منكراً للبعث بعد الموت؛ فإنه لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً. {ائت} أي: من عندك {بقرآن} أي: كلام مجموع جامع لما نريد. {غير هذا} في نظمه ومعناه. {أو بدله} بألفاظ أخرى، والمعاني باقية، وقد كانوا عالمين بأنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك، ولكنهم قصدوا أن يأخذ في التغيير حرصاً على إجابة مطلوبهم، فيبطل مدعاه أو يهلك، واختلف في هذا القائل. فقال قتادة: هم مشركو أهل مكة. وقال مقاتل: هم خسمة نفر: عبد الله بن أمية الجمحي، والوليد بن المغيرة، ومكدر بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاصي بن عامر بن هشام، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك لعبادة اللات والعزى ومناة، وليس فيه عيبها، وإن لم ينزله الله فقل أنت من عند نفسك أو بدله، فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، أو مكان حرام حلالاً، أو مكان حلالاً حراماً، ولما كان كأنه قيل فماذا أقول لهم؟ قال الله تعالى: {قل} لهم {ما يكون} أي: ما يصح {لي} ولا يتصوّر بوجه من الوجوه {أن أبدله من تلقاء} أي: قبل {نفسي} وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء والباقون بالسكون {إن} أي: ما {أتبع إلا ما يوحى إليّ} فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 آمركم به أو أنهاكم عنه، أي: لا آتي بشيء ولا أذر شيئاً من نحو ذلك إلا متبعاً لوحي الله تعالى وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إليّ تبديل ولا نسخ {إني أخاف إن عصيت ربي} أي: بتبديله {عذاب يوم عظيم} فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي وإني بفتح الياء، والباقون بالسكون. {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله {لو شاء الله ما تلوته عليكم} أي: لو شاء الله لم ينزل هذا القرآن، ولم يأمرني بقراءته عليكم {ولا أدراكم به} أي: ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بقصر الهمزة بعد اللام جواب لو، أي: لأعلمكم به على لسان غيري، والباقون بالمدّ المنفصل. وقوله تعالى: {فقد لبثت} أي: مكثت قراءة نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام {فيكم عمراً} سنين أربعين {من قبله} أي: قبل أن يوحى إليَّ هذا القرآن لا أتلوه ولا أعلمه، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذا القرآن معجز خارق للعادة. وتقريره: أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوّل عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأوّلين، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم، فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى {أفلا تعقلون} أي: أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب العظيم على من لم يتعلم ولم يتتلمذ ولم يطالع كتاباً، ولم يمارس مجادلة، أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي من الله تعالى، لا من مثلي، وهذا جواب عمّا دسوه تحت قولهم {ائت بقرآن غير هذا} من إضافة الإفتراء إليه. تنبيه: أقام صلى الله عليه وسلم بعد أن أوحي إليه بمكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال النووي: ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات: إحداها: أنه توفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستين سنة. والثانية: خمس وستون سنة. والثالثة: ثلاث وستون سنة، وهي أصحها وأشهرها، وتأوّلوا رواية ستين بأنَّ راويها اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، ورواية الخمس أيضاً متأوّلة، وحصل فيها اشتباه، ولما أقيمت الدلائل على أنّ هذا القرآن من عند الله وجب أن يقال: إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه من منكر ذلك كما قال تعالى: {فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى} أي: تعمد {على الله كذبا} أي: أيّ كذب كان من شريك أو ولد أو غير ذلك، وكأنّ الأصل مبنيّ على تقدير أن يكون هذا القرآن من عند الله، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {أو كذب بآياته} أي: دلائل توحيده فكفر بها كما فعلتم أنتم، وذلك من أعظم الكذب، وقوله تعالى: {إنه} أي: الشأن {لا يفلح} بوجه من الوجوه {المجرمون} أي: المشركون تأكيد لما سبق من هذين الوصفين {ويعبدون} أي: هؤلاء المشركون {من دون الله} أي: غيره {ما لا يضرّهم} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 إن لم يعبدوه {ولا ينفعهم} أي: إن عبدوه، وهو الأصنام؛ لأنها حجارة وجماد لا تضرّ ولا تنفع، والكافرون قادرون على التصرف فيها تارة بالإصلاح وتارة بالإفساد، وإذا كان العابد أصلح حالاً من المعبود كانت العبادة باطلة؛ لأنّ العبادة أعظم أنواع التعظيم، فلا تليق إلا بمن يضرّ وينفع، بأن يثيب على الطاعة، ويعاقب على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة يعبدون العزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة. {ويقولون هؤلاء} أي: الأصنام التي نعبدها. {شفعاؤنا عند الله} ونظيره قوله تعالى إخباراً عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} . (الزمر، 3) وقيل: إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله. قال الرازي: ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. اه. ولكن تعظيمهم لهؤلاء ليس كتعظيم الكفار، وفي هذه الشفاعة قولان: أحدهما: أنهم يزعمون أنها تشفع لهم فيما يهمهم من أمور الدنيا في إصلاح معايشهم. قاله الحسن؛ لأنهم كانوا لا يعتقدون بعث الموتى. والثاني: أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة إن يكن بعث، قاله ابن جريج عن ابن عباس، وكأنهم كانوا شاكين فيه، وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة موجدهم الضارّ النافع إلى عبادة ما يعلم قطعاً أنه لا يضرّ ولا ينفع، على توّهم أنه ربما يشفع لهم. قال النضر بن الحارث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. وقوله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين {أتنبئون} أي: تخبرون {الله} وهو العالم بكل شيء المحيط بكل محيط. {بما لا يعلم} أي: لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات، استفهام إنكار تهكم بهم، وبما ادّعوه ومن المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبؤوا به باطل غير منطوٍ تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه. وقوله تعالى: {في السموات ولا في الأرض} تأكيد لنفيه؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتفٍ معدوم، وهذا على طريق الإلزام، والمقصود نفي علم الله بذلك الشفيع، وأنه لا وجود له ألبتة؛ لأنه لو كان موجوداً لكان معلوماً لله تعالى وحيث لم يكن معلوماً لله تعالى، وجب أن لا يكون معلوماً موجوداً، وهذا مثل مشهور في العرب، فإنّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول: ما علم الله ذلك مني؛ ومقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع. {سبحانه} أي: تنزيهاً له عن كل شيء فيه شائبة نقص. {وتعالى عما يشركون} ما مصدرية أو موصولة، أي: عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب، لقوله: {أتنبئون الله} والباقون بالياء على الغيبة، فكأنه قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم قل أنت: سبحانه وتعالى عما يشركون، ويجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الذي نزه نفسه عما قالوه، فقال: سبحانه وتعالى عما يشركون. ولما أقام تعالى الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد بقوله: {وما كان الناس إلا أمَّة واحدة} أي: جميعاً على الدين الحق وهو دين الإسلام. وقيل على الضلال في فترة الرسل، واختلف القائلون بالأوّل أنهم متى كانوا كذلك.؟ فقال ابن عباس ومجاهد: كانوا على دين الإسلام من لدن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 آدم إلى أن قَتَلَ قابيلُ هابيلَ. وقال قوم: إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون. ثم اختلفوا في عهد نوح فبعث الله تعالى إليهم نوحاً. وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام من زمن نوح بعد الغرق حيث لم يذر الله على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقال آخرون: من عهد إبراهيم عليه السلام إلى زمن عمرو بن لحي، وهذا القائل قال: المراد من الناس في قوله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة} العرب خاصة. {فاختلفوا} بأن ثبت بعض وكفر بعض. {ولولا كلمة سبقت من ربك} وهو تأخير الحكم إلى يوم القيامة، وقيل: تلك الكلمة هي قوله سبحانه: سبقت رحمتي غضبي. فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال، وإمهاله إلى وقت الوجدان {لقضي بينهم} أي: الناس بنزول العذاب في الدنيا دون يوم القيامة {فيما فيه يختلفون} من الدين بإهلاك المبطل، وإبقاء المحق، وكان ذلك فصلاً بينهم {ويقولون} أي: كفار مكة {لولا} أي: هلا {أنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {آية من ربه} أي: غير ما جاء به كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد {فقل} يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين {إنما الغيب} أي: ما غاب عن العباد أمره {لله} أي: هو المختص بعلمه، ومنه الآيات فلا يأتي بها إلا هو وإنما عليّ التبليغ {فانتظروا} أي: نزول ما اقترحتموه. وقيل نزول العذاب إن لم يؤمنوا {إني معكم من المنتظرين} أي: لما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحودكم الآيات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة في الآيات، رقية المسلك بين المعجزات مع عجزكم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا {وإذا أذقنا الناس} أي: كفار مكة {رحمة} أي: صحة وسعة {من بعد ضرّاء} أي: شدّة وبلاء {مستهم} سلط الله تعالى القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد، وعاش الناس بعد ذلك فلم يتعظوا بذلك، بل رجعوا إلى العناد والكفر كما قال تعالى: {إذا لهم مكر في آياتنا} بالاستهزاء والتكذيب، وقيل: لا يقولون هذا من رزق الله، إنما يقولون: سُقينا بنوء كذا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها فيصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا» والنوء عند العرب: هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره {قل الله} أي: قل لهم يا محمد الله {أسرع مكراً} منكم، أي: أعجل عقوبة وأشدّ أخذاً وأقدر على الجزاء. ومعنى الوصف بالأسرعية: أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم والمكر إخفاء الكيد وهو من الله تعالى، أمّا الاستدراج أو الجزاء على المكر، فإنهم لما قابلوا نعمة الله بالمكر قابل مكرهم بأشد منه، وهو إمهالهم إلى يوم القيامة. {إن رسلنا} أي: الحفظة الكرام الكاتبين {يكتبون ما تمكرون} لأنهم وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً، ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما تفعلونه، ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأمّا هو سبحانه وتعالى فإنه إذا قضى قضاء لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا بإطلاعه فكيف بغيرهم، وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره علم أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع، ثم أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الآية قبلها؛ لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح، يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي فقال: {هو الذي يسيركم} أي: يحملكم على السير في كل وقت تسيرون فيه لا تقدرون على الإنفكاك عنه ويمكنكم منه، {في البرّ والبحر} أي: يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما. وقرأ ابن عامر بعد الياء الأولى بنون ساكنة بعدها شين معجمة مضمومة، والباقون بسين مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشدّدة، ولما كان العطب بسير البحر أظهر مع أنَّ السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات بيّنه معرضاً عن ذكر البر بقوله تعالى: {حتى إذا كنتم} أي: كوناً لا براح لكم منه. {في الفلك} أي: السفن، فإن قيل: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أنَّ الكون في الفلك متقدّم لا محالة على التسيير في البحر؟ أجيب: بأنه لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل: هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا، ولفظ الفلك يطلق على الواحد وعلى الجمع، فإن أريد الواحد كان كبناء قفل، أو الجمع كان كبناء حمر، والمراد هنا: الجمع لقوله تعالى: {وجرين بهم} أي: بمن فيها، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح والالتفات في الكلام عن الغيبة إلى الحضور والعكس في فصيح كلام العرب. {بريح طيبة} أي: لينة الهبوب. {وفرحوا بها} أي: بتلك الريح وبالفلك الجارية بها، وقوله تعالى: {جاءتها} جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقتها {ريح عاصف} أي: شديدة الهبوب فأزعجت سفينتهم وأساءتهم {وجاءهم الموج} أي: وجاء ركاب السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من ضراب الماء في البحر. وقيل: هو شدّة حركة الماء واختلاطه. {من كل مكان} أي: يعتاد مجيء الموج منه فأرجف قلوبهم. {وظنوا أنهم أحيط بهم} أي: فظنوا أنَّ الهلاك قد أحاط بهم وسدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط بهم العدوّ {دعوا الله مخلصين} أي: من غير اشتراك به {له الدين} أي: الدعاء؛ لأنهم لا يدعون حينئذٍ غيره؛ لأنَّ الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطعاً عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى. وقوله تعالى: {لئن أنجيتنا من هذه} الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة {لنكونن من الشاكرين} على إرادة القول أو مفعول دعوا؛ لأنه من جملة القول، أي: لنكونن من الشاكرين لك بالإيمان والطاعة على إنعامك علينا بانجائنا مما نحن فيه من هذه الشدّة. {فلما أنجاهم} أي: هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدّة التي كانوا فيها إجابة لدعائهم {إذا هم يبغون} أي: فأجاؤوا الفساد وسارعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي {في الأرض} أي: جنسها {بغير الحق} . فإن قيل: البغي لا يكون بحق فما معنى قوله بغير؟ أجيب: بأنه قد يكون بحقًّ كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، فإنّ ذلك إفساد بحق. قال صاحب «المفردات» : البغي على ضربين: أحدهما: غير محمود وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وإلى الشبهة، والآخر: كفعل المسلمين ما ذكر {يا أيها الناس إنما بغيكم} أي: ظلمكم {على أنفسكم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يعود وباله عليها خاصة. قال صلى الله عليه وسلم «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة» . وروي «ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين» . وعن ابن عباس: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه: *يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة ... فاربع فخير فعال المرء أعدله *فلو بغى جبل يوماً على جبل ... لاندك منه أعاليه وأسفله وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. وعلى تقدير الانتفاع بالبغي هو عرض زائل كما قال تعالى: {متاع الحياة الدنيا} أي: لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة، وهي مدّة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها. {ثم إلينا} بعد البعث {مرجعكم} في القيامة {فننبئكم} أي: فنخبركم {بما كنتم تعملون} في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. وقرأ حفص متاع بنصب العين على أنه مصدر مؤكد، أي: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: ذلك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم. ولما قال تعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} أتبعه بمثل عجيب ضربه لمن يبغي في الأرض، ويغتر بالدنيا، ويشتدّ تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، والتأهب لها، بقوله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا} أي: حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها. والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل {كماء أنزلناه} وحقق أمره وبينه بقوله تعالى: {من السماء فاختلط به} أي: بسببه {نبات الأرض} أي: اشتبك بعضه ببعض، والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض {مما يأكل الناس} من الحبوب والثمار ونحو ذلك {و} مما يأكل {الأنعام} من الحشيش ونحوه {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} أي: حسنها وبهجتها من النبات {وازينت} بإظهار ألوان زهرها من أبيض وأصفر وأحمر وغيرذلك من الزهور، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين، وأصل ازينت تزينت أبدلت التاء زاياً وأدغمت في الزاي {وظنّ أهلها} أي: أهل تلك الأرض {أنهم قادرون عليها} أي: متمكنون من تحصيل جذاذها وحصادها {أتاها أمرنا} أي: قضاؤنا من البرد والحرّ المفرط أو غيره {ليلاً أو نهاراً} أي: في الليل أو في النهار {فجعلناها} أي: زرعها {حصيداً} أي: كالمحصود بالمناجل. وقوله تعالى: {كأن} مخففة، أي: كأنها {لم تغن} أي: لم تكن {بالأمس} تلك الزروع والأشجار قائمة على ظهر الأرض، وحذف المضاف من فجعلناها ومن كأن لم تغن للمبالغة. تنبيه: تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهاً: الأوّل أنّ عاقبة هذه الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه؛ لأنّ الغالب أنّ المتمسك بالدنيا إذا وضع قلبه عليها وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت، وهو معنى قوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} (الأنعام، 44) أي: خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة مع أنهم توجهوا إليها. الثاني: أنه تعالى بيّن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة محمودة فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد، مع أنَّ المنافع التي تحصل فيها مخلوطة بالمضار والمتاعب، فإنَّ سعادة الدنيا غير خالصة من الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. فقيل: يا رسول الله، وما هو؟ قال: سرور يوم بتمامه» . الثالث: أن مالك ذلك البستان لما عمره بإتعاب النفس، وكد الروح، وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حصل ذلك السبب المهلك صار العناء الشديد الذي تحمّله في الماضي سبباً لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات، فكذا حال من وضع قلبه على الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات وفاته كل ما فات صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا سبباً لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة. {كذلك} أي: مثل هذا التفصيل الذي ذكرناه {نفصل الآيات} أي: نبينها {لقوم يتفكرون} لأنهم المنتفعون بها، ولما نفّر تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبّهم في الآخرة بقوله تعالى: {والله يدعو} أي: يعلق دعاءه على سبيل التجدّد والاستمرار بالمدعوين {إلى دار السلام} . قال قتادة: السلام هو الله، وداره الجنة، وسمي سبحانه وتعالى بالسلام؛ لأنه واجب الوجود لذاته، فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته، ومن الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال تعالى: {والله الغني وأنتم الفقراء} (محمد، 38) وقال تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} (فاطر، 15) . وقيل: السلام بمعنى السلامة. وقيل: المراد بالسلام الجنة، سميت الجنة دار السلام؛ لأنّ أهلها يحيِّي بعضهم بعضاً بالسلام، والملائكة تسلم عليهم. قال الله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد، 32، 24) ومن كمال رحمته وجوده وكرمه على عباده أن دعاهم إلى الجنة التي هي دار السلام، وفيه دليل على أنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ لأنّ العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم، ولا يصف إلا عظيماً. وقد وصف الله تعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه. وعن جابر قال: جاءت ملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا: إنّ صاحبكم هذا مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مائدة، وبعث داعياً فمن أجب الداعي دخل الدار، وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المائدة، والدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم {و} الله {يهدي من يشاء} من عباده بما يخلق في قلبه من الهداية {إلى صرط مستقيم} وهو دين الإسلام، عمّ سبحانه وتعالى بالدعوة أوّلا إظهاراً للحجة، وخص بالهداية ثانياً إظهاراً للقدرة؛ لأنَّ الحكم له في خلقه. وقال الجنيد: الدعوة عامة، والهداية خاصة، بل الهداية عامة والصحبة خاصة، بل الصحبة عامة والاتصال خاص. وقيل: يدعو بالآيات، ويهدي للحقائق والمعارف. وقيل: الدعوة لله والهداية من الله. وقال بعضهم: لا تنفع الدعوة لمن لم يسبق له من الله الهداية. {للذين أحسنوا} أي: بالإيمان {الحسنى} وهي الجنة {وزيادة} وهي النظر إليه تعالى في الآخرة، كما في الحديث الصحيح: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه» . والزمخشري في «كشافه» قال في هذا: وزعمت المشبهة والمجبرة؛ لأنّ المعتزلة ينكرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الرؤية، ويُردّ عليهم قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة، 22، 23) فأثبت الله لأهل الجنة أمرين أحدهما: النضارة وهي حسن الوجوه، وذلك من نعيم الجنة. والثاني: النظر إلى الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الحسنى الحسنة، والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد: الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم، فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم، ولا مانع من أن تفسر الزيادة بذلك كله؛ إذ لا تنافي فيها والفضل واسع. {ولا يرهق} أي: يغشى {وجوههم قتر} أي: سواد {ولا ذلة} أي: كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان. {أولئك} أي: هؤلاء الذين وصفهم الله هم {أصحاب الجنة} وقوله تعالى: {هم فيها خالدون} إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع ولا زوال فيها ولا انقراض، بخلاف الدنيا وزخارفها. ولما بين تعالى حال الفضل فيمن أحسن بيّن حال العدل فيمن أساء بقوله تعالى: {والذين كسبوا السيئات} أي: الشرك {جزاء سيئة} منهم {بمثلها} بعدل الله من غير زيادة، وفي ذلك إشارة إلى الفرق بين السيئات والحسنات؛ لأنَّ الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة تفضلاً منه تعالى وتكرّماً. وأما السيئة فإنه يجازي عليها بمثلها عدلاً منه تعالى {وترهقهم} أي: تغشاهم {ذلة} عكس أهل الجنة {ما لهم من الله من عاصم} أي: مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم {كأنما أغشيت} أي: ألبست {وجوههم قطعاً من الليل مظلماً} لفرط سوادها وظلمتها. وقرأ ابن كثير والكسائي بسكون الطاء، أي: جزء، والباقون بفتحها جمع قطعة، أي: أجزاء {أولئك} أي: هؤلاء الأشقياء {أصحاب النار هم فيها خالدون} لا يتمكنون من مفارقتها. {و} اذكر {يوم نحشرهم} أي: الفريقين الناجين والهالكين، العابدين منهم والمعبودين، من كل جانب وناحية إلى موقف الحساب حال كونهم {جميعاً} لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة والحشر الجمع بكره إلى موقف واحد {ثم نقول للذين أشركوا مكانكم} أي: الزموا مكانكم لا تبرحوا منه حتى تنظروا ما يفعل بكم، وقوله تعالى: {أنتم} تأكيد للضمير المستتر في الفعل المقدّر ليعطف عليه {وشركاؤكم} أي: من كنتم تعبدونه من دون الله {فزيلنا} أي: فرّقنا {بينهم} أي: بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وذلك حين تبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده، وقيل: فرّقنا بينهم وبين المؤمنين كما في آية {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} (يس، 59) والأوّل أنسب بقوله تعالى: {وقال شركاؤهم} لهؤلاء المشركين {ما كنتم إيانا تعبدون} أي: إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم، واختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم: الملائكة واستشهدوا بقوله تعالى: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ، 40) . ومنهم من قال: هي الأصنام، والدليل عليه: أنّ هذا الخطاب مشتمل على الوعيد والتهديد، وذلك لا يليق بالملائكة المقرّبين، وسموا شركاء؛ لأنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فصيروهم شركاء لأنفسهم في تلك الأموال، ثم اختلفوا في هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام فقال بعضهم: إنّ الله تعالى خلق الحياة والعقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 والنطق فيها فقدرت على ذكر هذا الكلام. وقال آخرون: إنّ الله تعالى خلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى سمع منها ذلك الكلام. والأوّل أظهر؛ لأنّ ظاهر قوله تعالى: {وقال شركاؤهم} يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هو الشركاء. فإن قيل: إذا أحياها الله تعالى هل يبقيها أو يفنيها؟ أجيب: بأنَّ الكل محتمل فإنّ الله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء، وأحوال القيامة غير معلومة إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن وعلى لسان أنبيائه. وقال بعضهم: المراد بهؤلاء الشركاء كل من عبد من دون الله من إنس وملك وجنّ وشمس وقمر وصنم، وهذا أظهر، وعلى هذا والأوّل سموا شركاء؛ لأنّ الله تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله تعالى: {مكانكم} صاروا شركاء في هذا الخطاب، ولما قال لهم شركاؤهم ذلك قالوا بل كنا نعبدكم فقال: {شركاؤهم} . {فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم} فإنّه تعالى العالم بكنه الحال. {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} أي: لم نأمر بها ولم نعلم بها، وعلى القول بأنها الأصنام فتقول: ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، فإنها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور البتة. تنبيه: إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين الخفيفة والنافية. {هنالك} أي: في ذلك الموقف من المكان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال {تبلو} أي: تختبر {كل نفس} طائعة وعاصية {ما أسلفت} أي: ما قدّمت من عمل فتعاين نفعه وضرّه يؤدّي إلى سعادة أو شقاوة. وقرأ حمزة والكسائي بتاءين من التلاوة، أي: تقرأ ذكر ما قدّمت أو من التلو فيتبع كل شخص عمله فيقوده إلى الجنة والنار والباقون بعد التاء باء موحدة من البلوى وهو الاختبار {وردّوا إلى الله} أي: إلى جزائه إياهم عما أسلفوا فلم يكن لهم قدرة على قصد غيره. {مولاهم الحق} أي: ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة ولا التفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاؤهم من كل ما يدعونه في الدنيا وهو المراد بقوله تعالى: {وضلّ عنهم} أي: ذهب وبطل وضاع. {ما كانوا يفترون} أي: يتعمدون كذبه من أنّ معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق. ولما بيّن فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل على فساد هذا المذهب بحجج: الحجة الأولى: قوله تعالى: {قل} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين {من يرزقكم من السماء} بالمطر {والأرض} بالنبات فانحصر الرزق في ذلك، أما من السماء فبتنزل الأمطار، وأما من الأرض فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض، وأما الحيوان فهو يحتاج أيضاً إلى الغذاء، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر، وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له، وذلك محال فثبت أنّ أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات، وثبت أن تولد النبات من الأرض، فثبت القطع بأنّ الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض {أمّن يملك السمع} أي: الأسماع {والأبصار} أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سوّياً عليه من الفطرة العجيبة. عن علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم، أو جمعهما وحفظهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلائه وحفظه {ومن يخرج الحيّ من الميت} كأن يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة {ويخرج الميت من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الحيّ} كأن يخرج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي ميت في الموضعين بعد الميم بكسر الياء المشدّدة، والباقون بعد الميم بسكون الياء. {ومن يدبر الأمر} أي: ومن يلي تدبير أمر الخلائق، وهو تعميم بعد تخصيص، وذلك لأنَّ أقسام تدبير الله تعالى في العالم السفلي وفي العالم العلوي وفي عالم الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك الأفاصيل عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بيّن تعالى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال {فسيقولون الله} إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه، وإذا كانوا يقرّون بذلك {فقل} لهم يا محمد {أفلا تتقون} الشرك مع اعترافكم بأنّ كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل بفضل الله تعالى وإحسانه. {فذالكم الله ربكم الحق} أي: الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه، وإذا ثبت أنّ هذا هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالاً؛ لأنَّ النقيضين يمتنع أن يكونا حقين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً، كما قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} إذ لا واسطة بينهما فهو استفهام تقرير، أي: ليس بعده غيره فمن أخطأ الحق وهو عبادة الله تعالى وقع في الضلال، ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فأنّى} أي: فكيف ومن، أي: جهة {تصرفون} أي: تعدلون عن عبادته وأنتم تقرّون بأنّ الله هو الحق. {كذلك} أي: كما حقت الربوبية لله تعالى أو أنّ الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق {حقت كلمة ربك} في الأزل {على الذين فسقوا} أي: تمرّدوا في كفرهم وخرجوا عن حدّ الاستصلاح. وقوله تعالى: {أنهم لا يؤمنون} بدل من الكلمة، أي: حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك والمراد بكلمة الله العدة بالعذاب، وهو {لأملأن جهنم} (الأعراف، 18) الآية، وأنهم لا يؤمنون تعليل بمعنى لأنهم لا يؤمنون، أو ذلك تفسير لكلمته التي حقت. وقرأ نافع وابن عامر كلمة بالألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير الألف بعد الميم على الإفراد. الحجة الثانية: قوله تعالى: {قل} أي: قل يا محمد لهؤلاء {هل من شركائكم} الذين زعمتموهم شركاء وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزرعكم {من يبدأ الخلق} كما بدأ به ليصح لكم ما ادّعيتم من الشركة {ثم يعيده} كما كان. فإن قيل: هم غير معترفين بالإعادة فكيف احتج عليهم تعالى بها كالابتداء في الإلزام بها؟ أجيب: بأنها لظهور برهانها وإن لم يقروا بها وضعت موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً رادّاً للظاهر البيّن الذي لا مدخل للشبهة فيه دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء. ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنهم في الجواب بقوله تعالى: {قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده} لأنّ لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها {فأنى} أي: فكيف {تؤفكون} عن عبادته مع قيام الدلائل. فإن قيل: ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام؟ أجيب: بأنّ الكلام إذا كان ظاهراً جلياً ثم ذكر على سبيل الاستفهام كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب. الحجة الثالثة: قوله تعالى {قل} أي: قل يا محمد لهم {هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} بنصب الحجج، وخلق الاهتداء، وإرسال الرسل، ولما كانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب بقوله تعالى: {قل الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {يهدي للحق} من يشاء لا أحداً ممن زعمتموه شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض. قال الزجاج: يقال هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد. فالله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله تعالى: {من يهدي إلى الحق} وفي قوله تعالى: {قل الله يهدي للحق} وقوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق} أي: وهو الله تعالى {أحق أن يتبع أمّن لا يهدي} أي: يهتدي {إلا أن يهدى} أحق أن يتبع استفهام تقرير وتوبيخ، أي: الأوّل أحق {فما لكم كيف تحكمون} هذا الحكم الفاسد من اتباع من لا يستحق الاتباع، وقوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم} في تفسيره وجهان الأوّل: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى. {إلا ظناً} لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم. الثاني: وما يتبع أكثرهم إلا ظناً في قولهم للأصنام آلهة، وإنها شفعاء عند الله تعالى إلا الظنّ، حيث قلدوا فيه آباءهم. قال الرازي: والقول الأول أقوى لأنا في القول الثاني نحتاج إلى تفسير الأكثر بالكل {إنَّ الظنّ لا يغني من الحق} فيما المطلوب فيه العلم {شيئاً} من الإغناء، فدلت هذه الآية على أنَّ كل من كان ظاناً في مسائل الأصول، وما كان قاطعاً لا يكون مؤمناً. فإن قيل: فقول أهل السنة: أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر أجاب الرزاي: بأنَّ هذا ضعيف من وجوه: الأوّل: أنَّ مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنَّ الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، فالشك حاصل في أنّ هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني: أنّ الغرض من قوله إن شاء الله تعالى بقاء الإيمان عند الخاتمة. الثالث: الغرض هضم النفس وكسرها. {إنَّ الله عليم} أي: بالغ العلم {بما يفعلون} أي: من اتباعهم الظنّ، وتكذيبهم الحق اليقين، فيجازيهم عليه. وقوله تعالى: {وما كان} عطف على قوله: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} إلخ فهو حينئذٍ مقول القول، أي: قل لهم ذلك الكلام. {هذا القرآن} أي: الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق {أن يفترى} أي: افتراء {من دون الله} أي: غيره؛ لأنّ المفترى هو الذي تأتي به البشر، وكفار مكة زعموا أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بهذا من عند نفسه، فأخبر الله تعالى أنّ هذا القرآن وحي أنزله عليه وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله، ثم ذكر هذا بقوله تعالى: {ولكن} أنزل {تصديق الذي بين يديه} أي: قبله من الكتب الذي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والانجيل، فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه معجزة له فإنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجتمع بأحد من العلماء، ثم أنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن العظيم المعجز، وفيه أخبار الأوّلين وقصص الماضين، وقيل تصديق الذي القرآن بين يديه من القيامة والبعث. {وتفصيل الكتاب} أي: تبيين ما كتب الله من الأحكام وغيرها {لا ريب} أي: لا شك {فيه} . وقوله تعالى: {من رب العالمين} متعلق بتصديق أو بأنزل المحذوف. {أم} أي: بل {يقولون افتراه} أي: اختلقه محمد، ومعنى الهمزة فيه للإنكار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 {قل} أي: قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون {فأتوا بسورة مثله} في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، فأنتم عرب مثله في البلاغة والفطنة. فإن قيل: هل يتناول ذلك جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار؟ أجيب: بأنّ هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فيكون المراد مثل هذه السورة؛ لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا أجاب الرازي، والأولى التناول لجميع السور؛ فإنهم لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة. فإن قيل: لم قال في البقرة {بسورة من مثله} (البقرة، 23) وهنا {بسورة مثله} ؟ أجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ لأحد فقيل في سورة البقرة: {فأتوا بسورة من مثله} بناء على أنّ الضمير يرجع للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: فليأت إنسان يساوي محمداً صلى الله عليه وسلم في عدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز، فهذا لا يدل على أنّ السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد صلى الله عليه وسلم في عدم التعلم والتتلمذ معجز. ثم بيّن تعالى في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجزة فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور وهو المراد من قوله تعالى: {وادعوا من استطعتم} أي: فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به {من دون الله} أي: غيره؛ فإنه تعالى وحده قادر على ذلك {إن كنتم صادقين} أي: في أني أتيت به من عندي؛ لأنَّ العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر. تنبيه: مراتب تحدّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستة: أوّلها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} (الإسراء، 88) . ثانيها: أنه تحدّاهم بعشر سور فقال تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} (هود، 32) . ثالثها: أنه تحدّاهم بسورة واحدة كما قال تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة، 23) . رابعها: أنه تحدّاهم بحديث مثله. خامسها: أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التلمذة والتعلم، ثم في هذه السورة طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي: إنسان سواء تعلم العلوم أم لم يتعلمها. سادسها: أنّ في المراتب المتقدّمة تحدي واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الاتيان بهذه المعارضة، كما قال تعالى: {وادعوا من استطعتم من دون الله} وههنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أنّ القرآن معجز، ثم إنَّ الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن فقال تعالى: {بل كذبوا} أي: أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك {بما لم يحيطوا بعلمه} أي: القرآن أوّل ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم، فهو من باب: مَنْ جَهِلَ شيئاً عاداه، والإحاطة إدارة ما هو كالحائط حول الشيء وإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه {ولما يأتهم} أي: إلى زمن تكذيبهم {تأويله} أي: تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب وعاقبة ما فيه من الوعيد حتى يتبين لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 أنه صدق أم كذب، ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرّر عليهم التحدي، فجربوا عقولهم في معارضته فصغرت وضعفت دونها، ومع هذا لم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً {كذلك} أي: مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبر المعجزة {كذب الذين من قبلهم} أي: من كفار الأمم الماضية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم {فانظر} يا محمد {كيف كان عاقبة الظالمين} بتكذيب الرسل، أي: آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك يهلك من كذبك من قومك، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس، والمعنى: فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم، فاحذر أن تفعل مثل فعله. {ومنهم} أي: من قومك يا محمد، {من يؤمن به} أي: القرآن، أي: يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب {ومنهم من لا يؤمن به} في نفسه لغباوته وقلة تدبره، أو منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويبدله بالإيمان، ومنهم من يصر ويستمرّ على الكفر، وإنما فسرت هذه الآية بهذين التأويلين؛ لأنّ كلمة يؤمن تصلح للحال والاستقبال {وربك أعلم بالمفسدين} أي: المعاندين على التفسير الأوّل، والمصرين على التفسير الثاني، وفي ذلك تهديد لهم. {وإن كذبوك} أي: وإن كذبوك يا محمد بعد الزام الحجة {فقل} لهم {لي عملي} من الطاعة وجزاء ثوابها {ولكم عملكم} من الشرك وجزاء عقابه، أي: فتبرأ منهم فقد أعذرت، والمعنى: لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً. {أنتم بريؤن مما أعمل وأنا برئ مما تعملون} لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم. واختلف في معنى ذلك فقيل: معنى الآية الزجر والردع. وقيل: بل معناه استمالة قلوبهم. وقال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الرازي: وهذا بعيد؛ لأنّ شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلاً انتهى. ولا تنبغي هذه المبالغة مع مثل من ذكر، وقد تبعهما جماعة من المفسرين. ولما قسم تعالى الكفار قسمين: منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به قسم من لا يؤمن به قسمين: منهم من يكون في نهاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه، ومنهم من لا يكون، كذلك، فوصف القسم الأول في قوله تعالى: {ومنهم} أي: من هؤلاء المشركين، {من يستمعون إليك} إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم لشدّة عداوتهم وبغضهم لك، فإن الإنسان إذا قوي بغضه لآخر وعظمت نفرته منه صارت نفسه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه {أفأنت تسمع الصم} أي: أتقدر على إسماعهم {ولو كانوا} مع الصمم {لا يعقلون} أي: لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تم الأمر، فكما أنك لا تقدر على إسماع الأصم الذي لا يعقل لا تقدر على إسماع من أصم الله تعالى قلبه، فإنَّ الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يستمعون ولم يوفقهم لذلك، فشبههم بالصم في عدم الانتفاع بما يتلى عليهم، ثم وصف القسم الثاني في قوله تعالى: {ومنهم من ينظرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 إليك} أي: يعاينون دلائل نبوّتك ولا يصدّقونك {أفأنت تهدي العمي} أي: أتقدر على هدايتهم {ولو كانوا} مع العمى {لا يبصرون} أي: لا بصيرة لهم؛ لأنَّ الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، فأمّا العمى مع الحمق فجهد البلاء، فلا تقدر على هداية من أعمى الله بصيرته، فهؤلاء في اليأس من أن يقبلوا أو يصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر، فلا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله تعالى. تنبيه: اختلف في أنّ السمع أفضل أو البصر فمنهم من قال: السمع، واحتج على ذلك بأمور منها تقدّمه في الآية، ومنها: أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب، والقوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ إلا من جهة واحدة، وهي المقابل، ومنها: أنّ الإنسان إنما يستفيد العلم من التعلم من الأستاذ، وذلك لا يكون إلا بقوة السمع، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع. ومنها: أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم، فنبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأحوال المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع، وبيان الأحكام. ومنها: أنّ المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق بالكلام، وإنما ينتفع بذلك بالقوّة السامعة، فمتعلق السمع النطق الذي يحصل به شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات. ومنهم من قال: البصر، واحتج بأمور منها: أن آلة القوّة الباصرة هي النور، وآلة القوّة السامعة هي الهواء، والنور أشرف من الهواء. ومنها: أنّ جمال الوجه يحصل بالبصر وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً في جمال وجهه، والعرب تسمي: العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، وفي الحديث يقول الله تعالى: «من أذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة» . ومنها: أنهم قالوا في المثل المشهور: ليس وراء العيان بيان. وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الإبصار. ومنها: أنّ كثيراً من الأنبياء سمع الله، واختلفوا في أنه هل رآه منهم أحد أم لا؟ وأيضاً فإنّ موسى عليه السلام أسمعه الله تعالى كلامه من غير سبق سؤال والتماس، فلما طلب الرؤية قال: لن تراني، وذلك يدل على أنَّ حال الرؤية أعلى من حال السماع، وهذا هو الظاهر. ولما حكم تعالى على أهل الشقاوة بالشقاوة بقضائه وقدره السابق فيهم أخبر تعالى أنّ تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلماً منه بقوله تعالى: {إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً} أي: لأنه تعالى في جميع أحواله متفضل وعادل، فيتصرّف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده، وكل من تصرّف في ملكه بالفضل والعدل لا يكون ظالماً، وإنما قال تعالى: {ولكن الناس أنفسهم يظلمون} لأنّ فعلهم منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله تعالى وقدره فيهم، ففي ذلك دليل على أنّ للعبد كسباً وأنه ليس مسلوب الاختيار كما زعمت المجبرة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون مخففة ورفع السين، والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب السين. ولما وصف تعالى هؤلاء الكفار بقلّة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد بقوله تعالى: {ويوم يحشرهم} أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء المشركين لموقف الحساب، وأصل الحشر: إخراج الجماعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وإزعاجهم عن مكانهم {كأن} أي: كأنهم {لم يلبثوا} في دنياهم. والجملة في موضع الحال من ضمير نحشرهم البارز، أي: مشبهين بمن لم يلبثوا {إلا ساعة} حقيرة {من النهار} أي: يستقصرون مدّة مكثهم في الدنيا وفي القبور لهول ما يرون {يتعارفون بينهم} أي: يعرف بعضهم بعضاً إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدّة الأهوال، والجملة حال مقدّرة متعلق الظرف، والتقدير: يتعارفون يوم نحشرهم. وقوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} أي: بالبعث. يحتمل وجهين: الأوّل: أن يكون على إرادة القول، أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك، الثاني: أن يكون كلام الله تعالى، فيكون شهادة من الله تعالى عليهم بالخسران. والمعنى: أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر؛ لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني {وما كانوا مهتدين} أي: إلى رعاية مصالح التجارة، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة، فصاروا كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب. وقوله تعالى: {وإمّا} فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة {نرينّك} يا محمد {بعض الذي نعدهم} به من العذاب في حياتك، وجواب الشرط محذوف، أي: فذاك {أو نتوفّينّك} قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله تعالى: {فإلينا} بعد البعث {مرجعهم} فنريك هناك ما هو أقرّ لعينك وأسرّ لقلبك، وقوله تعالى: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} فيه وعيد وتهديد لهم، أي: أنه تعالى شهيد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة، ولما بيّن تعالى حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه بين أنّ حال كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم كذلك بقوله تعالى: {ولكل أمة} أي: من الأمم التي خلت من قبلك {رسول} يدعوهم إلى الله تعالى، وقوله تعالى: {فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} فيه إضمار تقديره: فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون، قضي، أي: حكم وفصل بينهم بالقسط، أي: بالعدل. وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان: أحدهما أنه في الدنيا بأن يهلك الكافرين، وينجي رسوله والمؤمنين لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (الإسراء، 15) والثاني في الآخرة: وذلك أنّ الله تعالى إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم لقوله تعالى: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم} (الزمر، 69) والمراد منه: المبالغة في إظهار العدل وهو قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} في جزاء أعمالهم شيئاً بل يجازى كل واحد على قدر عمله فكذلك يفعل بهؤلاء. {ويقولون متى هذا الوعد} الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب ومن قيام الساعة وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد {إن كنتم صادقين} أي: فيما تعدونا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع على سبيل التعظيم أو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإن كان كل أمة قالوا لرسولها مثل ذلك وهو الموافق لقوله تعالى: {ولكل أمّة رسول} قال الله تعالى: {قل} أي: قل لهم يا محمد {لا أملك لنفسي ضرًّا} من مرض أو فقر أدفعه {ولا نفعاً} من صحة أو غنىً أجلبه {إلا ما شاء الله} أن يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب أوقيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الساعة ولا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى {لكل أمة أجل} أي: مدّة مضروبة {إذا جاء أجلهم} أي: انقضت مدّة أعمارهم {فلا يستأخرون} أي: لا يتأخرون {عنه ساعة} ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها {ولا يستقدمون} أي: ولا يتقدّمون، أي: ولا يستعجلون؛ فإنّ الوفاء بالوعد لابدّ منه، والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي: لا يوجد لهم المعنى الذي منع منه الفعل، ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون التأخر ولا التقدّم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب. وتدلّ الآية على أنَ أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله، وكذا المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلها أيضاً حرف مد، والباقون بالتحقيق. قال الله تعالى: {قل} أي: قل لهم يا محمد أيضاً {أرأيتم إن أتاكم عذابه} الذي تستعجلون به {بياتاً} أي: في الليل بغتة كما يفعل العدوّ {أو نهاراً} أي: وقت أنتم فيه تشتغلون بطلب المعاش والكسب {ماذا} أي: أيّ شيء {يستعجل منه} أي: من عذابه وعذاب كل مكروه لا يحتمل شيء منه {المجرمون} أي: المشركون، وضع المجرمون موضع المضمر للدّلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء الوعيد لا أن يستعجلوا، وجملة الاستفهام متعلقة بأرأيتم، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه. {أثمَّ إذا ما وقع} أي: حل بكم {آمنتم} أي: آمنتم بالله أو العذاب وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس، والهمزة لإنكار التأخير فلا يقبل منكم، وقوله تعالى: {آلآن} على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا وقت نزول العذاب آلآن {وقد كنتم به تستعجلون} تكذيباً واستهزاءً. تنبيه: اتفق قالون مع ورش على النقل هنا، واتفق القراء كلهم على همزة الوصل التي بعد همزة الاستفهام إن فيها وجهين: وهما البدل والتسهيل. وقوله تعالى: {ثم قيل للذين ظلموا} عطف على قيل المقدّر، أي: من، أي: قائل كان استهانة بهم. وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الياء، والباقون بالكسر {ذوقوا عذاب الخلد} أي: الذي تخلدون فيه، والاتيان بثم إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين {هل} أي: ما {تجزون إلا بما كنتم تكسبون} في الدنيا من الكفر والمعاصي {ويستنبئونك} أي: يستخبرونك يا محمد {أحق هو} أي: ما وعدتنا به من نزول العذاب وقيام الساعة وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء، قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة {قل} لهم في جوابهم {إي وربي إنه لحق} أي: كائن ثابت لا بدّ من نزوله بكم. تنبيه: أي: بمعنى نعم وهو من لوازم القسم، ولذلك توصل بواوه في التصديق فيقال: إي والله، ولا ينطقون به وحده. {وما أنتم بمعجزين} أي: بفائتين العذاب؛ لأن من عجز عن شيء فقد فاته. {ولو أنّ لكل نفس ظلمت} أي: أشركت {ما في الأرض} من الأموال {لافتدت به} من عذاب يوم القيامة ولم ينفعها الفداء لقوله تعالى {ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} (البقرة، 48) . {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} أي: حين عاينوه وأبصروه صاروا مبهوتين متحيرين فلم يطيقوا عنده بكاءً ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن ذهب به ليصلب؛ فإنه يبقى مبهوتاً متحيراً لا ينطق بكلمة. وقيل: إنهم أخلصوا لله في تلك الندامة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 ومن أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم؛ لأنهم إنما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف، وقيل: المراد بالإسرار الإظهار، وهو من الأضداد؛ لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة، وفي القيامة بطل هذا فوجب الإظهار وليس هناك تخلد. فإن قيل: أسرّوا جاء على لفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة أجيب: بأنها لما كانت واجبة الوقوع جعل الله مستقبلها كالماضي. {وقضي بينهم} أي: بين الخلائق {بالقسط} أي: بالعدل {وهم لا يظلمون} . فإن قيل: هذه الآية مكرّرة؟ أجيب: بأنّ الأولى في القضاء بين الأنبياء وتكذيبهم وهذه عامّة. وقيل: بين المؤمنين والكفار. وقيل: بين الرؤساء والأتباع، فإنّ الكفار وإن اشتركوا في العذاب فلا بدّ أن يقضي الله تعالى بينهم؛ لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب الباقين؛ لأنّ العدل يقتضي أن ينصف المظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا أن يخفف من عذاب المظلومين، ويثقل في عذاب الظالمين. وقوله تعالى: u {ألا إنّ لله ما في السموات والأرض} تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب {ألا إنّ وعد الله} أي: ما وعد به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من البعث للجزاء ومن ثواب الطائع وعقاب العاصي {حق} لا شك فيه {ولكنّ أكثرهم} أي: الناس {لا يعلمون} أي: جاهلون عن حقيقة ذلك فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم لقصور عقلهم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا. {هو} أي: الذي يملك ما في السموات والأرض {يحيي ويميت} أي: قادر على الإحياء والإماتة لا يتعذر عليه شيء مما أراد {وإليه ترجعون} بعد الموت للجزاء وقوله تعالى: {يا أيها الناس} خطاب عامّ. وقيل: لأهل مكة {قد جاءتكم موعظة من ربكم} أي: كتاب فيه ما لكم وعليكم وهو القرآن {وشفاء} أي: دواء {لما في الصدور} أي: القلوب من داء الجهل؛ لأنّ داء الجهل أضرّ للقلب من المرض للبدن، وأمراض القلب هي الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة، والقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها؛ لأنّ فيه المواعظ والزواجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، فهو الشفاء لهذه الأمراض القلبية، وإنما خص تعالى الصدر بالذكر؛ لأنه موضع القلب وغيره وهو أعز موضع في الإنسان لمكان القلب فيه {وهدى} من الضلالة {ورحمة} أي: إكرام عظيم {للمؤمنين} لأنهم هم الذين انتفعوا به دون غيرهم. واختلف في تفسيره قوله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته} فقال مجاهد وقتادة: فضل الله: القرآن، ورحمته: ان جُعِلْنَا من أهله. وقال ابن عباس والحسن: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن. وعن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا {قل بفضل الله وبرحمته} فقال: «بكتاب الله والإسلام» . وقال ابن عمر: فضل الله: الإسلام، ورحمته: تزيينه في قلوبنا. وقيل: فضل الله: الإسلام، ورحمته: الجنة. وقيل: فضل الله: القرآن، ورحمته: السنن. ولا مانع من أن نفسر الآية بجميع ذلك إذ لا تنافي بين هذه الأقوال. والباء في بفضل الله وبرحمته متعلقة بمحذوف يفسره ما بعده تقديره: قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته. {فبذلك فليفرحوا} والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد المفعولين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليفرحوا بهما. فإنه لا مفروح به أحق منهما. {هو} أي: المحدّث عنه من الفضل والرحمة {خير مما يجمعون} أي: من حطام الدنيا ولذاتها الفانية. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة. {قل} يا محمد لكفار مكة {أرأيتم} أي: أخبروني {ما أنزل} أي: خلق {الله لكم من رزق} وأنه تعالى جعل الرزق منزلاً؛ لأنه مقدر في السماء يحصل بأسباب منها {فجعلتم منه} أي: من ذلك الرزق {حراماً وحلالاً} وهو مثل ما ذكروه من تحريم السائبة والوصيلة والحام، ومثل قولهم: هذه أنعام وحرث حجر. ومثل قولهم: هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا. ومثل قولهم: ثمانية أزواج من الضأن اثنين {قل} لهم يا محمد {ءآلله أذن لكم} في هذا التحريم والتحليل {أم} أي: بل {على الله تفترون} أي: تكذبون على الله بنسبة ذلك إليه {وما ظن الذين يفترون} أي: يتعمدون {على الله الكذب} أي: أيّ شيء ظنهم به {يوم القيامة} أيحسبون أن لا يؤاخذهم ولا يجازيهم على أعمالهم؟ فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع والتهديد والوعيد العظيم لمن يفتري على الله الكذب {إن الله لذو فضلٍ على الناس} بنعم كثيرة لا تحصى منها: إنزال الكتب مفصلاً، فيها ما يرضيه وما يسخطه، ومنها: إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها، ومنها: طول إمهالهم على سوء أفعالهم، ومنها: إنعامه عليهم بالعقل، فكان شكره واجباً عليهم {ولكن أكثرهم} أي: الناس {لا يشكرون} هذه النعم ولا يستعملون العقل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبيائه، ولا ينتفعون باستماع كتب الله، وقوله تعالى: {وما تكون} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {في شأن} أي: عمل من الأعمال وجمعه شؤون، والضمير في قوله تعالى: {وما تتلو منه} إمّا للشأن؛ لأنّ تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه، وإمّا للتنزيل كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل {من قرآن} لأنّ كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له، وإما لله تعالى، والمعنى: وما تتلو من الله من قرآن نازل عليك، وقوله تعالى {ولا تعملون من عمل} أي: أيّ عمل كان تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رئيسهم وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ولذلك ذكر حيث خص بما فيه فخامة وهو الشأن، وذكر حيث عمّ بقوله تعالى: من عمل، بما يتناول الجليل والحقير، وقيل: إنّ الكل داخلون في الخطابين الأوّلين أيضاً؛ لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء} (الطلاق، 1) . {إلا كنا عليكم شهودا} أي: رقباء نحصي عليكم أعمالكم؛ لأنّ الله تعالى رقيب على كل شيء وعالم بكل شيء إذ لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى، فكل ما يدخل في الوجود هنا من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وشاهد عليه {إذ تفيضون} أي: الله شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون {فيه} أي: ذلك العمل. وقيل: الإفاضة الدفع بكثرة. وقال الزجاج: إذ تنتشرون فيه، يقال: أفاض القوم في الحديث إذا انتشروا فيه {وما يعزب} أي: يغيب {عن ربك} يا محمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 {من مثقال} أي: وزن {ذرّة} وهي النملة الحمراء الصغيرة خفيفة الوزن جدّاً. وقيل: المراد بها الهباء وهو الشيء المنبث الذي تراه في البيت في ضوء الشمس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بالضم، ومن صلة على القراءتين، وإنما قيد بقوله تعالى: {في الأرض ولا في السماء} تقريباً لعقول العامّة. فإن قيل: لم قدّم ذكر الأرض على السماء، وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ حيث قال تعالى: {ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنّ الكلام هنا في حال أهلها، والمقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية {ولا أصغر من ذلك} أي: الذرّة {ولا أكبر} أي: منها {إلا في كتاب مبين} أي: بين وهو اللوح المحفوظ. وقرأ حمزة برفع الراء من أصغر وأكبر على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب على أنّ ذلك اسم لا وفي كتاب خبرها {ألا إنّ أولياء الله} أي: الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة {لا خوف عليهم} من لحوق مكروه {ولا هم يحزنون} بفوات مأمول، وفسرهم بقوله تعالى: {الذين آمنوا وكانوا يتقون} الله بامتثال أمره ونهيه، وهذا الذي فسر الله تعالى به الأولياء لا مزيد عليه. وعن علي رضي الله عنه: هم قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الخوا. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله تعالى؟ فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس: الإخبات والسكينة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: هم قوم تحابوا في الله بغير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنّ وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ الآية. ونقل النووي في مقدمة «شرح المهذب» عن الإمامين الشافعيّ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنّ كلاً منهما قال: إذا لم تكن العلماء أولياء لله فليس لله وليّ. وذلك في العالم العامل بعلمه. وقال القشيري: من شرط الوليّ أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبيّ أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع. فالوليّ هو الذي توالت أفعاله على الموافقة. ولما نفى الله عنهم الخوف والحزن زادهم فقال تعالى مبيناً لتوليته لهم بعد أن شرع بتوليتهم له: {لهم البشرى} أي: الكاملة {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أمّا البشرى في الدنيا ففسرت بأشياء منها: الرؤيا الصالحة، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» . وقال صلى الله عليه وسلم «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» وقال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوّذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنه لا يضرّه» . وقال: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» ومنها: محبة الناس له، وذكرهم إياه في الثناء الحسن. وعن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، إنّ الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» . ومنها: البشرى لهم عند الموت، قال تعالى: {تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة} (فصلت، 30) . وأمّا البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرونه من بياض وجوههم، وإعطاء الصحائف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وسلام الله تعالى عليهم كما قال تعالى: {سلامٌ قولاً من ربَ رحيم} (يس، 58) وغير ذلك من المبشرات بما بشر الله تعالى به عباده المتقين في كتابه، وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه، فإن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أوليائه وشرح أحوالهم قال تعالى: {لا تبديل} أي: بوجه من الوجوه {لكلمات الله} أي: لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، والكلمة والقول سواء، ونظيره قوله تعالى: {ما يبدّل القول لديّ} (ق، 29) . وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين {هو الفوز العظيم} هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقق المبشر به وتعظيم شأنه، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله. {ولا يحزنك} يا محمد {قولهم} أي: هؤلاء المشركين، أي: لا يغمك تكذيبهم وتهديدهم وتشويرهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي وكلاهما بمعنى. وقوله تعالى: {إن العزة} أي: القوة {لله جميعاً} استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: ما لي لا أحزن فقيل إن العزة لله جميعاً،، أي: أنّ الغلبة والقهر في مملكة الله لله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم. قال تعالى: {كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي} (المجادلة، 21) . وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا} (غافر، 51) . وقيل: إنّ المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم، فأخبر الله تعالى أنَّ جميع ذلك في ملكه فهو قادر على أن يسلب جميع ذلك ويذلهم بعد العز {هو السميع} أي: البليغ السمع لأقوالهم {العليم} أي: المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم، وهو تعليل لتفرّده بالعزة؛ لأنه تفرّد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة؟ فإن قيل: قوله تعالى: {إنّ العزة لله جميعاً} يضادّ قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون، 8) أجيب: بالمنع لأنّ عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله. {ألا إنّ لله من في السموات ومن في الأرض} ملكاً وخلقاً. فإن قيل: قد ذكر الله تعالى في الآية المتقدّمة {ألا إنَّ لله ما في السموات والأرض} بلفظ ما وقال هنا بلفظ من فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنه تعالى غلب في الآية الأولى ما لا يعقل على من يعقل لكثرته، وفي هذه غلب العاقل على غيره لشرفه، وقيل: مجموع الآيتين دال على أنّ الكل خلقه وملكه، وقيل: إنّ المراد بمن في السموات الملائكة، وبمن في الأرض الثقلان، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم، وإذا كان هؤلاء في ملكه وتحت قهره فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندّا وشريكاً فهو كالدليل على قوله تعالى: {وما يتبع الذين يدعون} أي: يعبدون {من دون الله} أي: غيره أصناماً {شركاء} على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء ـ تعالى الله عن ذلك ـ {إنّ} أي: ما {يتبعون} في ذلك {إلا الظنّ} أي: ظنها أنها آلهة تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله تعالى، ثم بيّن تعالى أنّ هذا الظنّ لا حكم له بقوله تعالى: {وإن} أي: ما {هم إلا يخرصون} أي: يكذبون في ذلك، ويجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 أن يكون وما يتبع في معنى الاستفهام، أي: وأيّ شيء يتبعون، وشركاء على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع، وكان حقه {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء} شركاء فاقتصر على أحدهما للدلالة وقوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} أي: ليزول عنكم التعب والكلال فيه بما تقاسون في نهاركم من تعب التردد في المعاش {والنهار مبصراً} أي: مضيئاً تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته المتوحد هو بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة. وإضافة الإبصار إلى النهار مع أنه يبصر فيه على طريق نقل الاسم من المسبب إلى السبب، كقولهم ليل نائم؛ لأنّ الليل سبب للسكون. قال قطرب: تقول العرب: أظلم الليل، أي: صار ذا ظلمة، وأضاء النهار، أي: صار ذا ضياء. {إن في ذلك} المذكور {لآيات} أي: دلالات على وحدانيته تعالى {لقوم يسمعون} سماع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أنّ الذي خلق الأشياء كلها هو الإله المعبود المتفرد بالوحدانية في الوجود، ثم ذكر الله تعالى نوعاً من أباطيل الكفار بقوله تعالى: {قالوا} أي: اليهود والنصارى ومن زعم أنّ الملائكة بنات الله {اتخذ الله ولداً} قال الله تعالى: {سبحانه} أي: تنزيهاً له عن الولد {هو الغنيّ} عن كل أحد، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه، ثم بين تعالى غناه بقوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} من ناطق وصامت ملكاً وخلقاً، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه عطف بالإنكار والتوبيخ فقال: {إن} أي: ما {عندكم من سلطان} أي: حجة {بهذا} أي: الذي تقولونه، ثم بالغ تعالى في ذلك الإنكار عليهم بقوله تعالى: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه تعالى جهلاً منكم، والاستفهام للتوبيخ. {قل} يا محمد لهؤلاء الذين يختلقون على الله الكذب فيقولون عليه الباطل ويزعمون أنّ له ولداً {إنَّ الذين يفترون} أي: يتعمدون {على الله الكذب لا يفلحون} أي: لا ينجحون في سعيهم ولا يفوزون بمطلوبهم بل خابوا وخسروا، فإنهم لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة، ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ظنّ أنه قد فاز بالمقصد، والله سبحانه وتعالى أزال هذا الخيال بأن قال: {متاع في الدنيا} وفيه إضمار تقديره: لهم متاع في الدنيا، على أنه مبتدأ خبره محذوف، ويصح أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم متاع في الدنيا وهو أيام يسيرة بالنسبة إلى طول بقائهم في العذاب {ثم إلينا مرجعهم} بالموت {ثم نذيقهم العذاب الشديد} بعد الموت {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكفرون} ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أحوال كفار قريش وما كانوا عليه من الكفر والعناد شرع بعد ذلك في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وذكر الله تعالى منهم في هذه السورة ثلاث قصص: القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام المذكورة بقوله تعالى: {واتل} يا محمد {عليهم} أي: كفار قريش {نبأ} أي: خبر {نوح} وذلك ليكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه أسوة ممن سلف من الأنبياء، فإنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أنّ معاملة هؤلاء الكفار مع كل الرسل ما كان إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 إذا عمت خفت، ولأنّ الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أنّ الجهال وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدّمين، إلا أنّ الله تعالى أعلنهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم؛ كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سبباً لانكسار قلوبهم ووقوع الخوف والوجل في صدورهم، ولأنّ الكلام إذا طال تقريراً في نوع من أنواع العلوم فربما حصل نوع من أنواع الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر شرح صدره، وطاب قلبه، ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوّة حادثة وميلاً قوياً؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم لما لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوت، ومن غير زيادة، ومن غير نقصان؛ دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل ويبدل من نبأ نوح {إذ قال لقومه} وهم بنو قابيل {يا قوم إن كان كبر} أي: شق وعظم {عليكم مقامي} أي: لبثي فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً {وتذكيري} أي: وعظي إياكم {بآيات الله} أي: بحجته وبيناته، فعزمتم على قتلي وطردي {فعلى الله توكلت} أي: فهو حسبي وثقتي أو قيامي على الدعوة؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بيناً، وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود. { فأجمعوا أمركم} أي: فاعزموا على أمر تفعلونه في أذاي بالإهلاك أو غيره {وشركاءكم} أي: وادعو شركاءكم أو الواو وبمعنى مع، أي: مع شركائكم وهي الأصنام، وإنما حثهم على الاستعانة بها بناء على مذهبهم الفاسد، واعتقادهم أنها تضرّ وتنفع مع اعتقاده أنها جماد لا تضرّ ولا تنفع تبكيتاً وتوبيخاً لهم. {ثم لا يكن أمركم} أي: الذي تقصدوني به {عليكم غمة} أي: مستوراً من غمه إذا ستره، بل أظهروه وجاهروني مجاهرة، فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السرّ والجهر {ثم اقضوا إليّ} أي: امضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه، يقال: قضى فلان إذا مات، ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه. وقيل: معناه توجهوا إليّ بالقتل والمكروه. وقيل: فاقضوا ما أنتم قاضون، وهذا مثل قول السحرة لفرعون: {فاقض ما أنت قاض} أي: اعمل ما أنت عامل. {ولا تنظرون} أي: ولا تؤخرون بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه، وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلامه وعصمته، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً {فإن توليتم} أي: أعرضتم عن تذكيري {فما سألتكم من أجر} أي: من جعل وعوض على تبليغ الرسالة، فينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم، وطلب أجر على عظتكم، ومتى كان الإنسان فارغاً عن الطمع كان قوله أقوى تأثيراً في القلب {إن أجري إلا على الله} وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة، أي: ما أنصحكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا. وهكذا ينبغي لكل من ينفع الناس بعلم أو إرشاد إلى طريق الله تعالى {وأمرت أن أكون من المسلمين} أي: إني مأمور بالاستسلام لكل مكروه يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة، وقيل: بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تاركٍ له قبلتموه أو لم تقبلوه. {فكذبوه} أي: أصرّوا على تكذيبه، بعدما ألزمهم الحجة، وبين أن توليتهم ليست إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب {فنجيناه} من الغرق {ومن معه في الفلك} أي: السفينة وكانوا ثمانين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 {وجعلناهم} أي: الذين أنجيناهم معه في الفلك {خلائف} في الأرض يخلقون الهالكين بالغرق {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} بالطوفان، وقوله تعالى: {فانظر} أي: أيها الإنسان أو يا محمد {كيف كان عاقبة المنذرين} تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله وتسلية له، وهذه القصة إذا سمعها من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن كذب به كان زجراً للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح، وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذيرإذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدّم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ، ولهذا الوجه أكثر تعالى ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام. {ثم بعثنا من بعده} أي: نوح {رسلاً إلى قومهم} لم يسم هنا تعالى من كان بعد نوح من الرسل، وقد كان بعده هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوت الله وسلامه عليهم. {فجاؤوهم بالبينات} أي: بالمعجزات الواضحات التي تدل على صدقهم. {فما كانوا ليؤمنوا} أي: فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدّه عنادهم وخذلان الله تعالى إياهم {بما} أي: بسبب ما {كذبوا به من قبل} أي: أنهم كانوا قبل بعثة الرسل إليهم أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد {كذلك} أي: مثل ما طبعنا على هؤلاء بسبب تكذيبهم الرسل {نطبع} أي: نختم {على قلوب المعتدين} في كل زمن لكل من تعمد العدول فيما لا يحلّ له، فلا يقبل الإيمان لانهماكهم في الضلال واتباعهم المألوف. وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد. القصة الثانية: قصة موسى عليه السلام المذكورة بقوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم} أي: هؤلاء الرسل {موسى وهارون إلى فرعون وملئه} أي: أشراف قومه وغيرهم تبع لهم، فهو مرسل إلى الجميع {بآياتنا} التسع {فاستكبروا} عن اتباعها والإيمان بها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبيينها ويتعظموا عن قبولها {وكانوا قوماً مجرمين} أي: كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا عن ردّها. {فلما جاءهم الحق} أي: جاء فرعون وقومه {من عندنا} أي: الذي جاء به موسى من عند ربه، وعرفوا أنه ليس من عند موسى وهارون لتظاهر المعجزات الظاهرات المزيحة للشك {قالوا} أي: غير متأملين له ولا ناظرين في أمره لفرط تمرّدهم {إن هذا لسحر مبين} أي: بين ظاهر يعرفه كل أحد، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي لا يظهر إلا على كافر أو فاسق، وقوله تعالى: {قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا} فيه حذف تقديره: أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر أسحر هذا، فحذف السحر الأوّل اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ثم قال أسحر هذا؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار بمعنى أنه ليس بسحر، ثم احتج على صحة قوله تعالى فقال: {ولا يفلح الساحرون} فإنه لو كان سحراً لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة، فقلب العصا حية، وفلق البحر معلوم بالضرورة أنه ليس من باب التمويه والتخييل، فثبت أنه ليس بسحر {قالوا} أي: قوم فرعون لموسى {أجئتنا لتلفتنا} أي: لتردّنا وتصرفنا واللفت والفتل أخوان {عما وجدنا عليه آباءنا} أي: من الدين وعبادة الأصنام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 ثم قالوا لموسى وهارون {وتكون لكما الكبرياء} أي: الملك والعز {في الأرض} أي: أرض مصر. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً الملوك موصوفون بالكبر، ولهذا وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله: *ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء ينفي ما عليه الملوك من ذلك، ويجوز أن يقصدوا بذلك ذمهما، وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: {إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض} (القصص، 19) . {وما نحن لكما بمؤمنين} أي: بمصدقين فيما جئتما به. {وقال فرعون} لقومه إرادة للمناظرة لما أتى به موسى عليه السلام {ائتوني بكل ساحر عليم} أي: بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض. وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين السين والحاء، وتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها بصيغة فعال دالّ على زيادة قلق فرعون، والباقون بألف بعد السين وتخفيف الحاء مكسورة ولا ألف بعدها. {فلما جاء السحرة} أي: كل من في أرض مصر، منهم قالوا لموسى: إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين {قال لهم موسى ألقوا} جميع {ما أنتم ملقون} فإن قيل: كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟ أجيب: بأنه إنما أمرهم بإلقاء ما معهم من الحبال والعصيّ التي معهم ليظهر للخلق، إنما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر. {فلما ألقوا} مامعهم من الحبال والعصيّ وخيلوا لسحرهم أعين الناس أنها تسعى {قال موسى} منكرا عليهم {ماجئتم به السحر} قرأه أبو عمرو بهمزتين الأولى همزة الاستفهام فهي مفتوحة والثانية همزة وصل، وله فيها وجهان: التسهيل والبدل، فما استفهامية مبتدأ. وجئتم به خبرها، والسحر بدل منه، وقرأ الباقون بهمزة وصل فتسقط في الوصل، أي: الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحراً، ثم أخبره موسى عليه السلام بقوله: {إن الله سيبطله} أي: يهلكه ويظهر فضيحة صاحبه {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} أي: لا يثبته ولا يقوّيه. وقول البيضاوي: وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له محمول على ما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية وإلا فله حقيقة فهو حق عند أهل السنة، وهو علم بكيفية استعدادات تقتدر بها النفوس البشرية على ظهور التأثير في عالم العناصر {ويحق} أي: يثبت ويظهر {الله الحق بكلماته} أي: بقضائه ووعده الصادق لموسى عليه السلام. وقد أخبر الله تعالى في غير هذه السورة أنه كيف أبطل ذلك السحر، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف تلك الحبال والعصيّ {ولو كره المجرمون} . ولما بين تعالى أن قوم موسى شاهدوا هذه المعجزات ومع ذلك لم يؤمن منهم إلا القليل كما قال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذريّة من قومه} وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغتمّ بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر بين تعالى أنّ له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة؛ لأنّ الذي ظهر من موسى عليه السلام من المعجزات كان أمراً عظيماً، ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه، والذرية اسم يقع على القليل، من القوم. قال ابن عباس: الذرية القليل، والهاء التي في قومه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 راجعة إلى موسى، أي: فما آمن من قومه إلا طائفة من ذراري بني اسرائيل، كأنه قيل إلا أولاد قومه، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وإجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: راجعة إلى فرعون، والذرية: امرأته آسية ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته {على خوف من فرعون وملئهم} أي: خوف منه؛ لأنه كان شديد البطش، وكان قد أظهر العداوة مع موسى، وإذا علم ميل القوم إلى موسى، كان يبالغ في إيذائهم، فلهذا السبب كانوا خائفين منه ومن أشراف قومه، والضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظمة؛ لأنه ذو أصحاب يأتمرون به. وقيل: المراد بفرعون آله. كما يقال ربيعة ومضر. {أن يفتنهم} أي: يصرفهم ويصدّهم عن الإيمان {وإنّ فرعون لعال} أي: متكبر قاهر {في الأرض} أي: أرض مصر {وإنه لمن المسرفين} أي: المجاوزين الحدّ، فإنه كان من أخس العبيد وادّعى الربوبية، وكان كثير القتل والتعذيب لبني إسرائيل. {وقال موسى} لقومه {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله} أي: صدقتم به وبآياته {فعليه توكلوا} أي: ثقوا به واعتمدوا عليه فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه {إن كنتم مسلمين} أي: مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له. وقيل: إن كنتم آمنتم بالقلب وأسلمتم بالظاهر. {فقالوا} مجيبين له {على الله توكلنا} أي: عليه اعتمدنا لا على غيره، ثم دعوا ربهم فقالوا {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} أي: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا. {ونجنا} أي: خلصنا {برحمتك من القوم الكافرين} أي: من أيدي قوم فرعون؛ لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله تعالى قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم ونجاهم، وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في الأرض. وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكل أوّلاً لتجاب دعوته. ولما شرح الله تعالى خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر فيهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون عليهما السلام باتخاذ البيوت بقوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه} أي: الذي طلب مؤازرته ومعاضدته {أن تبوّأا} أي: اتخذا {لقومكما بمصر بيوتاً} تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة {واجعلوا} أنتما وقومكما {بيوتكم} أي: تلك البيوت {قبلة} مصلى أو مساجد كما في قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} (النور، 36) موجهة نحو القبلة، أي: الكعبة، وكان موسى عليه السلام يصلي إليها. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتاً وبيوتكم برفع الباء، والباقون بالخفض {وأقيموا الصلاة} فيها ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة: الأوّل: أنّ موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أوّل الإسلام بمكة. الثاني: أنه قيل: إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فوعون بتخريب مساجد بني اسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون. الثالث: أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء، وتكفل الله تعالى بأن يصونهم من شرّ الأعداء، وقد خص الله تعالى موسى وهارون في أوّل هذه الآية بالخطاب بقوله تعالى: {أن تبوّأا لقومكما} لأنّ التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، ثم عمم هذا الخطاب فقال: واجعلوا بيوتكم قبلة؛ لأن جعل البيوت مساجد وإقامة الصلاة مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال تعالى: {وبشر المؤمنين} أي: بالنصر في الدنيا والجنة في العقبى؛ لأنّ الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة، فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام، وأنّ هارون عليه السلام تبع له، ثم إنّ موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة الظاهرة ورأى القوم مصرّين على الجحد والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب إقدامه على الجرائم وكان جرمهم هو لأجل حبهم الدنيا يزكو {و} لهذا السبب {قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه} أي: أشراف قومه على ما هم عليه من الكفر والكبر {زينة} أي: عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما من الدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر ونحو ذلك. {وأموالاً} أي: كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما {في الحياة الدنيا} روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت، ثم بيّن غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب: ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم. {ربنا} أي: يا ربنا آتيتهم ذلك {ليضلوا} أي: في خاصة أنفسهم ويضلوا غيرهم {عن سبيلك} أي: دينك واللام للعاقبة وهي متعلقة بآتيت كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً} (القصص، 8) وقيل: لام كي، أي: آتيتهم كي تفتنهم. وقيل: هو دعاء عليهم بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غير ذلك. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بالفتح {ربنا اطمس على أموالهم} أي: امسخها وغيرها عن هيئتها. قال قتادة: صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة. وقال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة. وقال ابن عباس: بلغنا أنّ الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً وأرباعاً، ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون، فأخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة، وإنها كالحجر. قال السدّي: مسخ الله تعالى أموالهم حجارة والنخيل والثمار والدقيق والأطعمة فكانت إحدى الآيات التسع {واشدد على قلوبهم} أي: اطبع عليها واستوثق حتى لا تنشرح للإيمان وقوله: {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} جواب للدعاء، أو دعاء بلفظ النهي أو عطف على ليضلوا، وما بينهما دعاء معترض. وقوله تعالى: {قال قد أجيبت دعوتكما} فيه وجهان: الأوّل: قال ابن عباس: إنّ موسى كان يدعو وهارون كان يؤمّن فلذلك قال: دعوتكما، وذلك أنّ من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضاً داع؛ لأنّ قوله آمين تأويله: استجب، فهو سائل كما أنّ الداعي سائل أيضاً. الثاني: أن يكون كل منها ذكر هذا. غاية ما في الباب أن يقال: إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله تعالى: {وقال موسى ربنا} وهذا لا ينافي أن يكون هارون قد ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الدعاء أيضاً. وأمّا قوله تعالى: {فاستقيما} فمعناه اثبتا على الدعوة والرسالة والزيادة في الزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فلا تستعجلا. قال ابن جريج: إنّ فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة. {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} أي: الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود حاصلاً في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء الإنسان في مطلوبه إلا أنه إنما ربما يوصله إليه في وقته المقدور، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال تعالى لنوح عليه الصلاة والسلام: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود، 46) وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام، كما أنّ قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر، 65) لا يدل على صدور الشرك منه صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون، والباقون بتشديدها؛ لأنّ نون التوكيد تثقل وتخفف. ولما أجاب الله تعالى دعاءهما أمر بني اسرائيل وكانوا ستمائة ألف بالخروج من مصر في الوقت المعلوم، ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلاً عن ذلك، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج في عقبهم كما قال تعالى: {وجاوزنا} أي: قطعنا {ببني اسرائيل} أي: عَبَدَنَا المخلص لنا {البحر} حتى بلغوا الشط حافظين لهم {فأتبعهم فرعون وجنوده} أي: لحقهم وأدركهم يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه {بغياً وعدواً} أي: ظلماً وعدواناً. وقيل: بغياً في القول وعدواً في الفعل، فلما أدركهم فرعون قالوا لموسى: أين المخلص والمخرج، البحر أمامنا وفرعون وراءنا، قد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق لموسى وقومه فكان كل فرق كالطود العظيم، وكشف عنه وجه الأرض، وانتشر لهم البحر، فلما وصل فرعون إلى البحر هابوا دخوله، وكان فرعون على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه، وميكائيل يسوقهم حتى لم يشذ منهم أحد، فلما خرج آخر بني اسرائيل من البحر تقدّمهم جبريل على فرس وخاض البحر، فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئاً، فنزل البحر وأتبعه جنوده، حتى إذا كملوا جميعاً في البحر وهمّ أوّلهم بالخروج التطم البحر عليهم، فلما أتاه الغرق أتى بكلمة الإخلاص كما قال تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق} أي: لحقه {قال آمنت أنه} أي: بأنه {لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين} . فإن قيل: إنه آمن ثلاث مرات أولها قوله: آمنت. وثانيها: قوله لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل. وثالثها: قوله وأنا من المسلمين. فما السبب في عدم القبول؟ أجاب: العلماء عن ذلك بأجوبة منها: أنه إنما آمن عند نزول العذاب، والإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبول، ويدلّ عليه قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر، 85) ودس جبريل في فيه من حما البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له {آلآن} تؤمن {وقد عصيت قبل} وضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية {وكنت من المفسدين} بضلالك وإضلالك عن الإيمان والتوبة حتى أغلق بابها بحضور الموت ومعاينة الملائكة، وإنما قال له: وكنت من المفسدين في مقابلة قوله وأنا من المسلمين، ومنها أنّ فرعون إنما قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة، ولم يكن قصده الإقرار بوحدانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 الله تعالى والاعتراف له بالربوبية، فلم ينفعه ما قال في ذلك الوقت، ومنها: أنّ فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى ولذلك قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل، فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه، ومثل هذا الاعتقاد الفاسد لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية والدلائل اليقينية. ومنها: ما روي في بعض الكتب أنّ بعض أقوام بني اسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر، ومنها: أنّ الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبالإقرار بنبوّة موسى عليه السلام، وفرعون لم يقرّ بالنبوّة فلم يصح إيمانه، ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرّة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمانه إلا إذا قال معه: وأشهد أنّ محمداً رسول الله فكذا هنا. ومنها: أنّ جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتوى، ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول: أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج عن سيده الكافر بنعمته أن يغرّق في البحر، ثم أنّ فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام إليه خطه. فإن قيل: فما فائدة دس جبريل في فم فرعون ذلك؛ لأنه في تلك الحالة إمّا أن يكون التكليف ثابتاً أم لا؟ فإنّ كان فكيف يمنعه من التوبة، وإن كان غير مكلف فلا فائدة في ذلك؟ أجيب: بأنَّ التكليف كان ثابتاً وجبريل عليه السلام لم يفعل ذلك من قبل نفسه فإنه عبد مأمور، والله تعالى يفعل ما يشاء كما قال تعالى: {فإنّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} (فاطر، 8) . وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة} (الأنعام، 110) وهكذا فعل بفرعون، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أوّلاً، فدس الحما في فم فرعون من جنس الختم والطبع على القلب، ومن الناس من قال: قائل هذا القول هو الله تعالى؛ لأنه ذكر بعده. {فاليوم ننجيك} أي: نخرجك من البحر {ببدنك} أي: جسمك الذي لا روح فيه كاملاً سوياً لم يتغير، أو نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس، أو أنّ المراد بالبدن الدرع. قال الليث: البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين، وهذا منقول عن ابن عباس قال: كان عليه درع من ذهب يعرف، به فأخرجه الله تعالى من الماء مع ذلك الدرع ليعرف {لتكون لمن خلفك} أي: بعدك {آية} أي: عبرة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. وعن ابن عباس: أنّ بعض بني اسرائيل شكوا في موته، فأخرج لهم ليروه ويشاهده الخلق على ذلك الذلّ والمهانة بعدما سمعوا منه قوله: {أنا ربكم الأعلى} ليعلموا أنّ دعواه كانت باطلة، وأن ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما يرون لعصيانه ربه {وإنّ كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} أي: لا يعتبرون بها، وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى، ولكن القول الأوّل أشهر. {ولقد بوّأنا} أي: أنزلنا {بني اسرائيل مبوّأ صدق} أي: منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام، وإنما وصف المكان بالصدق؛ لأنّ عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق، تقول العرب: هذا رجل صدق وقدم صدق، والسبب فيه أنّ الشيء إذا كان كاملاً صالحاً لا بدّ أن يصدق الظنّ فيه. وقيل: أرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الشام والفرس والأردن؛ لأنها بلاد الخصب والخير والبركة {ورزقناهم من الطيبات} أي: الحلالات المستلذات من الفواكه والحبوب والألبان والأعسال وغيرها، فأورث تعالى بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها} (الأعراف/ 137) .v {فما اختلفوا} أي: هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني اسرائيل في أمر دينهم {حتى جاءهم العلم} أي: جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم مقرين به مجمعين على نبوّته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوباً عندهم، وكانوا يخبرون بمبعثه وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين، فلما بعث صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وكفر به بعضهم بغياً وحسداً وإيثاراً لبقاء الرياسة، وأنهم ما اختلفوا في دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها {إن ربك} يا محمد {يقضي بينهم يوم القيامة} أي: الذي هو أعظم الأيام {فيما كانوا} أي: بأفعالهم الجبلية {فيه يختلفون} أي: فيتميز الحق من الباطل والصديق من الزنديق ويسكن كلا داره، واختلف المفسرون فيمن المخاطب بقوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب} أي: التوراة {من قبلك} أي: فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه، فقيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمراد أمته كقوله تعالى: {يا أيها النبيّ اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب، 1) وقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر، 46) . وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله} (المائدة، 116) ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جارة، والذي يدل على صحة ذلك وجوه: الأوّل: قوله تعالى في آخر السورة: {يا أيها الناس} فبين أنّ ذلك المذكور في أوّل الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان شاكاً في نبوّة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، الثالث: إذا قدر أن يكون شاكاً في نبوّة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته مع أنهم في الأكثر كفار؟ فثبت أنّ الخطاب وإن كان في الظاهر معه صلى الله عليه وسلم إلا أنّ المراد هو الأمّة، ومثل هذا معتاد فإنّ السلطان إذا كان له أمير وتحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أشدّ تأثيراً في قلوبهم، وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم على حقيقته ولكن الله تعالى علم أنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرّح ويقول: يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «لا أشك ولا أسأل أحداً منهم» ، ونظير هذا قوله للملائكة: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ، 40) والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ. وكما قال تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين} (المائدة، 116) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 والمقصود منه أن يصرّح عيسى عليه السلام بالبراءة من ذلك فكذلك هنا. وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بالهمزة وسكون السين. وقيل الخطاب لكل من يسمع، أي: إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، وأظهر هذه الأقوال أوّلها، وهذه الأقوال تجري في قوله تعالى: {لقد جاءك الحق من ربك} أي: الآيات القاطعة لا مدخل للمرية فيه {فلا تكونن من الممترين} أي: الشاكين فيه، وفي قوله تعالى: {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين} أي: الذين خسروا أنفسهم {إنّ الذين حقت عليهم كلمة ربك} أي: ثبت عليهم قوله تعالى الذي كتبه في اللوح المحفوظ وأخبر به الملائكة أنهم {لا يؤمنون} أي: يموتون كفاراً فلا يكون غيره، إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه. {ولو جاءتهم كل آية} فإنّ السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود، فإنّ الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى، وإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل {حتى يروا العذاب الأليم} فحينئذٍ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع فرعون. وقرأ نافع وابن عامر كلمات بألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد. القصة الثالثة: قصة يونس عليه السلام المذكورة بقوله تعالى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ? وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} {فلولا} أي: فهلا {كانت قرية} واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها {آمنت} أي: آمن أهلها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب {فنفعها} أي: فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها {إيمانها} بأن تقبله الله تعالى منها وكشف العذاب عنها، وقوله تعالى: {إلا قوم يونس} استثناء منقطع بمعنى لكن قوم يونس {لما آمنوا} أي: لما أخلصوا الإيمان أوّل ما رأوا آية العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله {كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا} ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه كأنه قيل: ما آمن أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس {ومتعناهم إلى حين} أي: إلى انقضاء آجالهم. روي عن ابن مسعود وغيره: أنّ قوم يونس كانوا بأرض نينوى من أرض الموصل، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا فقيل له: إنّ العذاب مصبحهم إلى ثلاثة أيام فأخبرهم بذلك فقالوا: إنا لم نجرب عليك كذباً، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل. وقال وهب: غامت السماء غيماً عظيماً، أسود هائلاً يدخن دخاناً عظيماً فهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه، وقذف الله تعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وأولادهم ودوابهم ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من النساء والدواب فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم، وعجوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وقالوا آمنا بما جاء به يونس عليه السلام، فرحمهم الله تعالى، واستجاب دعاءهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم. وكل ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم حتى أنّ الرجل كان يقلع الحجر وكان قد وضع عليه أساس بنيانه فيردّه، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيي الموتى، ويا حيّ لا إله إلا أنت. فقالوها، فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض: اللَّهمَّ إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وستأتي بقية القصة إن شاء الله تعالى في سورة والصافات. فإن قيل: قد حكى الله تعالى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته، وحكى عن قوم يونس أنهم آمنوا وقبل توبتهم، فما الفرق بين الحالين؟ أجيب: بأنّ فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وهو وقت اليأس من الحياة، أمّا قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك، فإنهم لما ظهرت أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن ينزل بهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية، وإنّ الله تعالى قد علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه لم يصدق في إيمانه ولا أخلص فلم يقبل منه. قال الله تعالى: {ولو شاء ربك} يا محمد {لآمن} بك وصدّقك {من في الأرض كلهم} بحيث لم يشذ منهم أحد {جميعاً} أي: مجتمعين على ذلك في آن واحد لا يختلفون في شيء منه ولكن لم يشأ أن يصدّقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان حريصاً على إيمانهم كلهم، فأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له السعادة الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم. وهو قوله تعالى: {أفأنت تكره الناس} أي: الذين لم يرد الله إيمانهم {حتى يكونوا مؤمنين} أي: ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه وتحرص عليه، إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئة الله تعالى وقضائه وليس لأحد ذلك سواه. كما قال تعالى: {وما كان} أي: وما ينبغي وما يتأتى {لنفس} أي: واحدة فما فوقها {أن تؤمن} أي: يقع منها إيمان في وقت مّا {إلا بإذن الله} أي: بإرادته لها بالإيمان، فإنّ هدايتها إلى الله فهو المهدي والمضل. وقال ابن عباس بأمر الله. وقال عطاء: بمشيئة الله. {ويجعل} الله {الرجس} أي: العذاب والخذلان فإنه سببه. وقرأ شعبة وحده بالنون {على الذين لا يعقلون} أي: لا يتدبرون في آيات الله تعالى، فينتفعوا بها وهم يدعون أنهم أعقل الناس ويتساقطون في مساوئ الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات. ولما بين الله تعالى في الآيات السابقة أنّ الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل بقوله تعالى: {قل انظروا} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات {ماذا} أي: الذي {في السموات والأرض} من الآيات وواضح الدلالات من عجائب صنعه ليدلكم على وحدته وكمال قدرته، ففي العالم العلوي الشمس والقمر وهما دليلان على الليل والنهار والنجوم وحركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها، والكواكب وما يختص بذلك من المنافع، وفي العالم السفلي الجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان، وأخصها حال الإنسان. كل ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وانه خالقها، كما قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 القائل: *وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وقرأ عاصم وحمزة في الوصل بكسر اللام والباقون بضمها، وأمّا الهمزة من انظروا فكل القراء يبتدؤون بالضم {وما تغني الآيات} أي: وإن كانت في غاية الوضوح {والنذر} جمع نذير، أي: الرسل {عن قوم لا يؤمنون} في علم الله تعالى وحكمه. تنبيه: قال النحويون: ما هنا تحتمل وجهين الأوّل: أن تكون نفياً بمعنى أنّ هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله تعالى عليه بأنه لا يؤمن كقولك: لا يغني عنك المال إذا لم تنفق. والثاني: أن تكون استفهاماً كقولك، أي: شيء يغني عنهم، وهو استفهام بمعنى الإنكار. {فهل} أي: ما {ينتظرون} أي: أهل مكة بتكذيبك {إلا} أياماً، أي: وقائع {مثل أيام} أي: وقائع {الذين خلوا من قبلهم} أي: من مكذبي الأمم كالقبط وقوم نوح وما انطوى بينهما من الأمم، أي: مثل وقائعهم من العذاب {قل} أي: قل لهم يا محمد {فانتظروا} أي: العذاب {إني معكم من المنتظرين} أي: لنزول العذاب بكم. وقوله تعالى: {ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا} عطف على محذوف، دل عليه قوله تعالى: {إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} كأنه قيل: لنهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم على حكاية الأحوال الماضية. وقرأ أبو عمرو وحده بسكون السين {كذلك} أي: كما نجينا رسلنا والذين آمنوا معهم من الهلاك {حقاً علينا ننج المؤمنين} أي: ننجيك يا محمد ومن آمن معك وصدّقك من الهلاك والعذاب. فإن قيل: قوله تعالى حقاً يقتضي الوجوب والله تعالى لا يجب عليه شيء. أجيب: بأنَّ ذلك حق بحسب الوعد والحكم لا أنه حق بحسب الاستحقاق. لما ثبت أنّ العبد لا يستحق على خالقه شيئاً وهو اعتراض بين المشبه والمشبه به ونصب بفعله المقدّر، وقيل بدل من ذلك. وقرأ حفص والكسائي بسكون النون الثانية والباقون بفتحها. وأمّا الوقف عليها فجميع القراء يقفون على الجيم؛ لأنها مرسومة في المصحف بالجيم بلا ياء، فهي في القرآن وقفاً ووصلاً بلا ياء لجميع القراء. ولما ذكر تعالى الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه فقال: {قل} يا محمد {يا أيها الناس} أي: الذين أرسلت إليهم فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا بك {إن كنتم في شك من ديني} أي: الذي أدعوكم إليه أنه حق وأصررتم على ذلك وعبدتم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع {فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله} أي: غيره وهو الأصنام التي لا قدرة لها على شيء {ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} بقبض أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها، فإنه الذي يستحق العبادة، وإنما خص الله تعالى هذه الصفة للتهديد. وقيل: إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله: ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم ونصري عليكم. {وأمرت أن} أي: بأن {أكون من المؤمنين} أي: المصدّقين بما جاء من عند الله. وقيل: إنه لما ذكر العبادة وهي من أعمال الجوارح أتبعها بذكر الإيمان لأنه من أعمال القلوب. فإن قيل: كيف قال في شك وهم كفار يعتقدون بطلان ما جاء به؟ أجيب: بأنه كان فيهم شاكون أو أنهم لما رأوا الآيات اضطربوا وشكوا في أمره صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وأن أقم وجهك للدين} عطف على أن أكون، غير أن صلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 أن محكية بصيغة الأمر ولا فرق بينهما في الغرض؛ لأنّ المقصود وصلها بما تضمن معنى المصدر ليدل معه عليه، وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر منها والطلب، والمعنى: وأمرت بالاستقامة في الدين والاستعداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو في الصلاة باستقبال القبلة وقوله: {حنيفاً} حال من فاعل أقم أو من الدين أو من الوجه، ومعناه: مائلاً مع الدين غير معوج عنه إلى دين آخر وقوله تعالى: {ولا تكونن من المشركين} أي: ممن يشرك بالله في عبادته غيره فتهلك، خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته، أي: ولا تكونن أيها الإنسان وكذا قوله تعالى: {ولا تدع} أي: تعبد {من دون الله} أي: غيره {ما لا ينفعك} أي: إن عبدته {ولا يضرّك} إن لم تعبده {فإن فعلت} ذلك {فإنك إذاً من الظالمين} لنفسك؛ لأنك وضعت العبادة في غير موضعها، والظلم: وضع الشيء في غير محله، فإذا كان ما سوى الحق معزولاً عن التصرّف كان إضافة التصرّف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً. ولما ذكر الله تعالى الأوثان وبيّن أنها لا تقدر على ضرّ ولا نفع بيّن تعالى أنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة بقوله تعالى: {وإن يمسسك} أي: يصبك {الله بضرَ} كفقر ومرض {فلا كاشف} أي: لا دافع {له إلا هو} لأنه الذي أنزله بك {وإن يردك بخير} كرخاء وصحة {فلا رادّ} أي: دافع {لفضله} أي: الذي أرادك به {يصيب به} أي: بالخير {من يشاء من عباده وهو الغفور} أي: البليغ الستر للذنوب {الرحيم} أي: البالغ في الإكرام. وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم، فرجح سبحانه وتعالى جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه: الأوّل: أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو، وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار؛ لأنّ الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال: إنه لا راد لفضله، وذلك يدل على أنّ الخير مطلوب بالذات وأنّ الشر مطلوب بالعرض كما قال صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى أنه قال: «سبقت رحمتي غضبي» . الثاني: أنه سبحانه وتعالى قال في صفة الخير يصيب به من يشاء من عباده، وذلك يدل على أن جانب الخير أقوى وأغلب. الثالث: أنه تعالى قال {وهو الغفور الرحيم} وهذا أيضاً يدل على قوّة جانب الرحمة. وحاصل الكلام في هذه الآية: أنه سبحانه وتعالى بيّن أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه، وأنّ جميع الممكنات مسندة إليه وجميع الكائنات محتاجة (إليه) ، فالأيدي مرفوعة إليه، والحاجات منتهية إليه، والعقول والهة فيه، والرحمة والجود فائض منه. ولما قرر تعالى الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوّة والمعاد، وزين أمر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مبتدئاً بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية لئلا يبقى لأحدٍ عذر بقوله تعالى: {قل} يا محمد {يا أيها الناس} أي: الذين أرسلت إليهم {قد جاءكم الحق من ربكم} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من الله تعالى والقرآن فلم يبق لكم عذر {فمن اهتدى} أي: آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وعمل بما في الكتاب {فإنما يهتدي لنفسه} لأنه اتبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل، فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الجنة فثواب اهتدائه له {ومن ضلّ} أي: كفر بها أو بشيء منها {فإنما يضل عليها} أي: على نفسه؛ لأنّ وبال ضلاله عليها؛ لأنّ من ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء فقد غر نفسه. ثم قال صلى الله عليه وسلم {وما أنا عليكم بوكيل} أي: حفيظ، أي: موكول إليّ أمركم وإنما أنا بشير ونذير. قال ابن عباس: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {واتبع} يا محمد {ما يوحى إليك} بالامتثال والتبليغ {واصبر} أي: على دعوتهم وتحمل أذيتهم {حتى يحكم الله} أي: بنصرك عليهم وإظهار دينك أو بالأمر بالقتال {وهو خير الحاكمين} إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، فحكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب يعطونها عن يد وهم صاغرون. وأنشد بعضهم في الصبر: *سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري *سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمرُ من الجمر وروي أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقي معاوية حين قدم المدينة، وقد تلقته الأنصار، ثم دخل المدينة فقال له: ما لك لم تتلقنا؟ قال: لم يكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الأنصار إنكم ستلقون بعدي أثرة» . قال معاوية: فماذا قال؟ قال: «فاصبروا حتى تلقوني» قال: فاصبر. قال: إذاً نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان: *ألا أبلغ معاوية بن حرب ... أمير الظالمين ثنا كلامي *بأنا صابرون فمنظروكم ... إلى يوم التغابن والخصام وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة يونس أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق يونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون» حديث موضوع. سورة هود عليه السلام مكية إلا وأقم الصلاة الآية وإلا فلعلك تارك الآية وأولئك يؤمنون به الآية مائة وثنتان أو ثلاث وعشرون آية، وكلماتها ألف وسبعمائة وخمس عشرة، وحروفها سبعة آلاف وستمائة وخمسة أحرف. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشيب؟ قال: «شيبتني هود وأخواتها. الحاقة والواقعة وعمّ يتساءلون هل أتاك حديث الغاشية» . {بسم الله} أي: الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميع القدرة {الرحمن} لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة {الرحيم} لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله، وقوله تعالى: {الر كتاب} مبتدأ وخبر، أو كتاب خبر مبتدأ محذوف، وتقدم الكلام على أوائل السور أول سورة البقرة. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {أحكمت آياته} صفة للكتاب وفسر الأحكام بوجوه: الأوّل: أحكمت آياته، أي: نظمت نظماً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف، ولا يعتريه إخلال من جهة اللفظ، والمعنى: ولا يستطيع أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 نقض شيء منه ولا الطعن في شيء من بلاغته أو فصاحته. الثاني: أنّ الأحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء فقوله: أحكمت آياته، أي: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع به كما قال ابن عباس. الثالث: أنها أحكمت بالحجج والدلائل، أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيماً؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية وقوله تعالى: {ثم فصلت} صفة أخرى للكتاب، أي: بينت بالأحكام والقصص والمواعظ والأخبار، وبالإنزال نجماً نجماً، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه، أو بجعلها سوراً. وقال الحسن أحكمت بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد. تنبيه: معنى ثم في قوله ثم فصلت ليس للتراخي في الوقت لكن في الحال كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. وقوله تعالى {من لدن حكيم خبير} أي: الله تعالى صفة أخرى للكتاب، والتقدير: الر كتاب من حكيم خبير أو خبر بعد خبر والتقدير: الر من لدن حكيم خبير أو صلة لأحكمت وفصلت، أي: أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير. وعلى هذا التقدير قد حصل بين أوائل هذه السورة وبين آخرها مناسبة لطيفة، كأنه يقول تعالى: أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور، وقوله تعالى: {أن لا تعبدوا إلا الله} يحتمل وجوهاً: الأوّل: أن تكون مفعولاً له والتقدير: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل أن لا تعبدوا إلا الله. الثاني: أن تكون مفسرة؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، قال الرزاي: والحمل على هذا أولى؛ لأنّ قوله تعالى: {وأن استغفروا} معطوف على قوله تعالى: {أن لا تعبدوا} فيجب أن يكون معناه، أي: لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي، فإنّ كونه بمعنى لأن لا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه. الثالث: أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم إغراءً منه على اختصاص الله تعالى بالعبادة، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم {إنني لكم منه} أي: الله {نذير} بالعقاب على الشرك {وبشير} بالثواب على التوحيد، كأنه قيل ترك عبادة غير الله تعالى بمعنى اتركوها إنني لكم منه نذير وبشير كقوله تعالى: {فضرب الرقاب} (محمد، 4) . تنبيه: هذه الآية الكريمة مشتملة على أشياء مترتبة: الأوّل: أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا الله لأنّ ما سواه محدث مخلوق مربوب، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل، وذلك لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن، فثبت أن عبادة غير الله تعالى منكرة. المرتبة الثانية: قوله تعالى: {وأن استغفروا ربكم} المرتبة الثالثة: قوله {ثم توبوا إليه} واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه: الأوّل: أنّ معنى قوله {وأن استغفروا} ، أي: اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة. فقال: ثم توبوا إليه؛ لأنّ الداعي إلى التوبة والمحرك عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة فالاستغفار مطلوب بالذات والتوبة مطلوبة لكونها من مهمات الاستغفار، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة. الثاني: وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ثم توبوا، أي: ارجعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 إليه بالطاعة. الثالث: الاستغفار طلب من الله تعالى لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أنّ المؤمن يجب عليه أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة؛ لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه، والاستعانة بفضل الله تعالى تقدم على الاستعانة بسعي النفس، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يرتب عليها من الآثار المطلوبة، ومن المعلوم أنّ المطالب محصورة في نوعين؛ لأنه إنما يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المرادة من قوله تعالى: {يمتعكم متاعاً حسناً} أي: بطيب عيش وسعة رزق {إلى أجل مسمى} وهو الموت. فإن قيل: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وقال أيضاً: «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» . وقال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة} (الزخرف، 33) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدّة والبلية، ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: بأن المشتغل بعبادة الله ومحبته مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، فكلما كان امعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتمّ كان انقطاعه عن الخلق أتمّ وأكمل، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه، وأمّا من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله، وكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً. ولذلك قال تعالى في صفة المشتغلين بخدمته {فلنحيينه حياة طيبة} (النحل، 97) . وقيل: المراد بالمتاع الحسن: عدم العذاب بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. وسمى سبحانه وتعالى منافع الدنيا بالمتاع لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها، ونبه تعالى على كونها منقضية بقوله تعالى: {إلى أجل مسمى} فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية. وأمّا المنافع الأخروية فقد ذكرها تعالى بقوله تعالى: {ويؤت} أي: في الآخرة {كل ذي فضل} أي: في العمل {فضله} أي: جزاءه؛ لأنّ مراتب السعادات في الآخرة مختلفة؛ لأنها متقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادة الأخروية غير متناهية، فلهذا السبب قال تعالى: ويؤت كل ذي فضل فضله. وقال أبو العالية: من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة. وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت سيئاته وحسناته كان من أهل الأعراف ثم يدخلون الجنة. وقال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت له سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقي له تسع حسنات، ثم يقول ابن مسعود: هلك من غلب آحاده أعشاره. وقوله تعالى: {وإن تولوا} فيه حذف إحدى التاءين، أي: وإن تعرضوا عما جئتكم به من الهدى {فإني} أي: فقل لهم إني {أخاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 عليكم عذاب يوم كبير} هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف. {إلى الله مرجعكم} أي: رجوعكم في ذلك اليوم فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته {وهو على كل شيء قدير} أي: قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته، ومنه الثواب والعقاب، وفي ذلك دلالة على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف لهذا العبد، والملك القاهر العالي إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك، ومنه المثل المشهور: ملكت فأسحج () ، أي: فاعف، يقول مصنف هذا الكتاب: قد أفنيت عمري في خدمة العلم ومطالعة الكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور. والكريم إذا قدر عفا. فأسألك يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين أن تفيض سجال رحمتك عليّ وعلى والديّ وأولادي وإخواني وأحبابي، وأن تخصني وإياهم بالفضل والتجاوز والجود والكرم. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى: {ألا إنهم يثنون صدورهم} فقال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره فمعنى قوله تعالى: {يثنون صدورهم} يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة. وقال عبد الله بن شدّاد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: كانوا يحنون ظهورهم كي لا يسمعوا كلام الله تعالى ولا ذكره. وروى البخاري عن ابن عباس أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخلى أو يجامع فيفضي إلى السماء. وقيل: كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويتغشى بثوبه ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي. وقال السدي: يثنون صدورهم: أي: يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني {ليستخفوا منه} أي: من الله تعالى بسرهم فلا يطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عليه. وقيل: من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا: إن أرخينا علينا ستوراً واستغشينا ثياباً وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم {ألا حين يستغشون ثيابهم} أي: يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم {يعلم} تعالى {ما يسرّون} في قلوبهم {وما يعلنون} بأفواههم، أي: أنه لا تفاوت في علمه تعالى بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الإخفاء {إنه} تعالى {عليم بذات الصدور} أي: بالقلوب وأحوالها. ولما أعلم تعالى ما يسرّون وما يعلنون أردفه بما يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} فذكر تعالى أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات، والدابة اسم كل حيوان دب على وجه الأرض، ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة وهي الأجناس التي تكون في البرّ والبحر والجبال، والله تعالى عالم بكيفية طباعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها ومساكنها وما يوافقها ويخالفها، فالإله المدبر لأطباق السموات والأرض ولطبائع الحيوانات والنبات كيف لا يكون عالماً بأحوالها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب عصاه على صخرة، فانشقت وخرج منها صخرة ثانية، ثم ضرب عصاه عليها فانشقت وخرج منها صخرة ثالثة، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الله تعالى الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع أنّ الدودة كانت تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. فإن قيل: إن كلمة على للوجوب فيدل على أنّ إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله تعالى. أجيب: بأنه تعالى إنما أتى بذلك تحقيقاً لوصوله بحسب الوعد والفضل والإحسان وحملاً على التوكل فيه. وفي هذه الآية دليل على أنّ الرزق إلى كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد والله تعالى لا يخل به، ثم قد نرى أنّ إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون الله تعالى قد أخل بالواجب، وذلك محال فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقاً {ويعلم} تعالى {مستقرّها} قال ابن عباس: هو المكان الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلاً ونهاراً {ومستودعها} هو الذي تدفن فيه إذا ماتت. وقال عبد الله بن مسعود: المستقر: أرحام الأمهات، والمستودع: المكان الذي تموت فيه. وقال عطاء: المستقر: أرحام الأمهات، والمستودع: أصلاب الآباء. وقيل: الجنة أو النار والمستودع القبر. لقوله تعالى في صفة الجنة والنار: حسنت مستقرّا، وساءت مستقرّا ومقاماً، ولا مانع أن يفسر ذلك بهذا كله {كل} أي: كل واحدة من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها {في كتاب} أي: ذكرها مثبت في اللوح المحفوظ {مبين} أي: بيّن كما قال تعالى {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام، 59) . ولما أثبت تعالى بالدليل المتقدّم كونه عالماً بالمعلومات أثبت كونه تعالى قادراً على كل المقدورات بقوله تعالى: { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا أوّلها الأحد وآخرها الجمعة، وتقدّم الكلام على تفسير ذلك في سورة الأعراف {وكان عرشه على الماء} قال كعب: خلق ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصمّ: ومعنى قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} كقولهم السماء على الأرض، وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر. وقال حمزة: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم، فكتب به ما هو خالقه، وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله تعالى ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه، ففي هذا دلالة على كمال قدرته تعالى؛ لأنّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء، وقد أمسكه الله تعالى من غير دعامة تحته ولا علامة فوقه. وقوله تعالى {ليبلوكم} متعلق بخلق، أي: خلقها وما فيها منافع لكم ومصالح ليختبركم وهو أعلم بكم منكم {أيكم أحسن عملاً} أي: أطوع لله وأورع عن محارم الله، وهذا القيام الحجة عليهم. وقد مرّ أمثال ذلك، ولما بين تعالى أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم، وهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنّ الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة. خاطب تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال جلا وعلا: {ولئن قلت} يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك {إنكم مبعوثون من بعد الموت} أي: للحساب والجزاء {ليقولن الذي كفروا إن} أي: ما {هذا} أي: القرآن بالبعث أو الذي تقوله {إلا سحر مبين} أي: بين. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، فيكون ذلك راجعاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم والباقون بكسر السين وسكون الحاء، ولما حكى تعالى عن الكفار أنهم يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عنهم نوعاً آخر بقوله تعالى: {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى} مجيء {أمّة} أي: جماعة من الأوقات {معدودة} أي: قليلة {ليقولنّ} أي: استهزاء {ما يحبسه} أي: ما يمنعه من الوقوع قال الله تعالى: {ألا يوم يأتيهم} كيوم بدر {ليس مصروفاً} أي: مدفوعاً العذاب {عنهم وحاق} أي: نزل {بهم} من العذاب {ما كانوا به يستهزؤون} أي: الذي كانوا يستعجلون، فوضع يستهزؤون موضع يستعجلون؛ لأنّ استعجالهم كان استهزاء. فإن قيل: لم قال تعالى: وحاق على لفظ الماضي مع أنّ ذلك لم يقع؟ أجيب: بأنه وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التأكيد والتقرير والتهديد. ولما ذكر تعالى أنّ عذاب الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بدّ وأن يحيق بهم ذكر بعده ما يدل على كفرهم وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب بقوله تعالى: {ولئن أذقنا} أي: أعطينا {الإنسان} أي: الكافر {منا رحمة} أي: نعمة كغنى وصحة بحيث يجد لذتها {ثم نزعناها} أي: سلبنا تلك النعمة {منه إنه ليؤس} أي: قنوط من رحمة الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به {كفور} أي: جحود لنعمتنا عليه، وأمّا المسلم الذي يعتقد أنّ تلك النعمة من جود الله وفضله وإحسانه فإنه لا يحصل له اليأس بل يقول: لعله تعالى يردها عليّ بعد ذلك أحسن وأكمل وأفضل مما كانت. {ولئن أذقناه} أي: الكافر {نعماء بعد ضرّاء مسته} كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم، وفي اختلاف الفعلين وهما أذقناه ومسته من حيث الإسناد إليه تعالى في الأوّل وإلى الضرّاء في الثاني نكتة عظيمة وهي أنّ النعمة صادرة من الله تعالى تفضلاً منه لخبر: «ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا» . والضرر صادر من العبد كسباً؛ لأنه السبب فيه باجتلابه إياه بالمعاصي غالباً لقوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء، 79) ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {قل كل من عند الله} (النساء، 78) فإن الكلّ منه إيجاداً، غير أنّ الحسنة إحسان وامتحان، والسيئة مجازاة وانتقام لخبر: «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» . {ليقولنّ} أي: الذي أصابه الصحة والغنى {ذهب السيئات} أي: المصائب التي أصابتني {عني} ولم يتوقع زوالها ولا يشكر عليها {إنه لفرح} أي: فرح بطر {فخور} على الناس بما أذاقه الله تعالى من نعمائه، وقد شغله الفرح والفخر عن الشكر فبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية أنّ أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبداً في التغير والزوال والتحوّل والانتقال، فإنّ الإنسان إمّا أن يتحوّل من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات كالقسم الأوّل، وإمّا أن يكون بالعكس من ذلك وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب كالقسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الثاني. ولما بيّن تعالى أنّ الكافر عند الابتلاء لا يكون من الصابرين، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين بين حال المتقين بقوله تعالى: {إلا} أي: لكن {الذين صبروا} على الضرّاء {وعملوا الصالحات} أي: في النعماء، أي: فإنهم إن أصابتهم شدّة صبروا، وإن نالتهم نعمة شكروا {أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} فجمع لهم تعالى بين هذين المطلوبين، أحدهما: زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله تعالى: {لهم مغفرة} ، والثاني: الفوز بالثواب ودخول الجنة وهو المراد من قوله تعالى: {وأجر كبير} . {فلعلك} يا محمد {تارك بعض ما يوحى إليك} فلا تبلغهم إياه لتهاونهم به، فإنهم كانوا يستهزؤون بالقرآن ويضحكون منه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش يين اللفظين والباقون بالفتح. {وضائق به صدرك} أي: بتلاوته عليهم لأجل {أن يقولوا لولا} أي: هلا {أنزل عليه كنز} ينفقه في الاستتباع كالملوك {أو جاء معه ملك} يصدقه كما اقترحنا، وروي عن ابن عباس: «أنّ رؤساء مكة قالوا: يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون: ائتنا بالملائكة ليشهدوا بنبوّتك فقال: لا أقدر على ذلك» فنزل {إنما أنت نذير} فلا عليك إلا البلاغ لا الإتيان بما اقترحوه {والله على كل شيء وكيل} فتوكل عليه إنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقولهم وأفعالهم. {أم} أي: بل {يقولون} كفار مكة {افتراه} أي: اختلقه من تلقاء نفسه وليس هو من عند الله، قال الله تعالى: {قل} لهم يا محمد {فأتوا بعشر سور مثله} في البيان وحسن النظم {مفتريات} فإنكم عربيون مثلي. قال ابن عباس: هذه السور التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، وقيل: التحدي وقع بمطلق السور وهو متقدّم على التحدّي بسورة واحدة، والتحدّي بسورة واحدة وقع في سورة البقرة، وفي سورة يونس، أمّا تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر؛ لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية، وأمّا في سورة يونس فلأنّ كل واحدة من هاتين السورتين مكية، فتكون سورة هود متقدّمة في النزول على سورة يونس كما قاله الرازي، وأنكر المبرد هذا وقال: بل سورة يونس أولاً وقال معنى قوله في سورة يونس {فأتوا بسورة مثله} (يونس، 38) أي: مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد فأتوا بعشر سور من غير وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرّد البلاغة {وادعوا} أي: وقل لهم يا محمد ادعوا للمعاونة على ذلك {من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} في أنه مفترى، والضمير في قوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم} أي: بإتيان ما دعوتموهم إليه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدونهم، وقال تعالى في موضع آخر: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم} (القصص، 50) والتعظيم للنبيّ صلى الله عليه وسلم {فاعلموا أنما أنزل} ملتبساً {بعلم الله} أي: بما لا يعلمه إلا الله تعالى من نظم يعجز الخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه ولا يقدر عليه سواه، وقوله تعالى: {وأن} مخففة من الثقيلة، أي: وأنه {لا إله إلا هو} وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم {فهل أنتم مسلمون} أي: ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 تحقق عندكم إعجازه مطلقاً. وقيل: الخطاب للمشركين والضمير في لم يستجيبوا لمن استطعتم، أي: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه، وأنّ طاقتهم أقصر من أن تبلغه فاعلموا أنه منزل من عند الله، وأنّ ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم بعد هذه الحجة القاطعة مسلمون، أي: أسلموا وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر.. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} أي: بعمله الذي يعمل من أعمال البرّ {نوف إليهم أعمالهم} أي: التي عملوها من خير كصدقة وصلة رحم {فيها} أي: في الدنيا {وهم فيها لا يبخسون} أي: نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد ونحو ذلك. {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط} أي: بطل {ما صنعوا} أي: عملوا {فيها} أي: الآخرة فلا ثواب لهم {وباطل ما كانوا يعملون} لأنه لغير الله تعالى، فقال مجاهد: نزلت في أهل الرياء قال صلى الله عليه وسلم «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالو: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» . والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة لتحمده الناس ويعتقدوا فيه الصلاح، فهذا هو العمل الذي لغير الله تعالى ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ وقال أكثر المفسرين: إنّها نزلت في الكافر، وأمّا المؤمن فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً» . وقيل: نزلت في المنافقين الذين يطلبون بغزوهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها. وقيل في اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس. ولما ذكر تعالى الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة بقوله تعالى: {أفمن كان على بيّنة من ربه} قيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم والبينة هي القرآن {ويتلوه} أي: يتبعه {شاهد} يصدقه {منه} أي: من الله تعالى وهو جبريل عليه السلام {ومن قبله} أي: القرآن {كتاب موسى} وهو التوراة شاهد له أيضاً وقوله تعالى {إماماً} أي: كتاباً مؤتماً به في الدين {ورحمة} أي: على المنزل عليهم؛ لأنه الوصلة إلى الفوز بسعادة الدارين حال من كتاب موسى، والجواب محذوف لظهوره، والتقدير: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار ليس مثله بل بينهم تفاوت بعيد وتباين بين. وقيل: هو من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، والمراد بالبينة: هو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ومنه، أي: من الله ومن قبله كتاب موسى، أي: ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى، أي: في دلالته على هذا المطلوب لا في الوجود. قال الرازي: وهذا القول هو الأظهر لقوله تعالى: {أولئك يؤمنون به} وهذه صفة جمع ولا يجوز رجوعه إلى محمد صلى الله عليه وسلم انتهى. ويجوز أن تكون للتعظيم أو له صلى الله عليه وسلم ومن تبعه وربما يكون هذا أولى كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 جرى عليه بعض المفسرين، والإشارة إلى من كان على بينة، والضمير في به للقرآن وإذا كان هذا الفريق ليس له في الآخرة إلا النار فهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة {ومن يكفر به} أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن {من الأحزاب} أي: أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس {فالنار موعده} يعني في الآخرة. روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع بي يهوديّ ولا نصرانيّ فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار» . قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} قال بعض العلماء: ولما دلت الآية على أنّ من يكفر به كانت النار موعده دلّ على أنّ من لا يكفر به كانت الجنة موعده وقوله تعالى: {فلا تك في مرية} أي: في شك {منه} أي: القرآن أو الموعد {إنه الحق من ربك} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} أي: لا يصدقون بما أوحينا إليك أو بأن موعد الكفار النار، ثم وصف الله تعالى هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم. الصفة الأولى: كونهم مفترين على الله كما قال تعالى: {ومن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذباً} بنسبة الشريك والولد إليه، أو أسند إليه ما لم ينزله، أو نفى عنه ما أنزله. الصفة الثانية: أنهم يعرضون على الله تعالى في موقف الذل والهوان كما قال تعالى: {أولئك يعرضون على ربهم} أي: يوم القيامة. فإن قيل: هم لا يختصون بهذا العرض لأنّ العرض عامّ في كل العباد كما قال تعالى: {وعرضوا على ربك صفاً} (الكهف، 48) أجيب: بأنهم يعرضون فيفتضحون بشهادة الأشهاد عليهم كما قال تعالى: {ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} فيحصل لهم من الخزي والنكال ما لا مزيد عليه، وهذه هي الصفة الثالثة، واختلف في هؤلاء الأشهاد، فقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، وقال مقاتل: هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد، أي: على رؤوس الناس، وقال قوم: هم الأنبياء كما قال تعالى: {فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين} (الأعراف، 6) . والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. فإن قيل: العرض على الله يقتضي أن يكون الله تعالى في حيز وهو تعالى منزه عن ذلك. أجيب: بأنهم يعرضون على الأماكن المعدّة للحساب والسؤال، أو يكون ذلك عرضاً على من يوبخ بأمر الله تعالى من الأنبياء والمؤمنين. والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي الفارسي: وكان هذا أرجح؛ لأنّ ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على فعيل كقوله تعالى: {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} (النحل، 89) . وعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيستره من الناس فيقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا فيقول: نعم، حتى إذا قرّره بذنوبه قال تعالى: سترتها عليك في الدنيا وقد سترتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته» ، وأمّا الكافر والمنافق فتقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ولما أخبر الله تعالى عن حالهم في عقاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال بقوله تعالى: {ألا لعنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الله على الظالمين} فبيّن تعالى أنهم في الحال ملعونون من عند الله، وهذه هي الصفة الرابعة، ثم وصفهم بالصفة الخامسة بقوله تعالى: {الذين يصدّون عن سبيل الله} أي: دينه، ثم وصفهم بالصفة السادسة بقوله تعالى: {ويبغونها} أي: يطلبون السبيل {عوجاً} أي: معوجة، أي: كأنهم ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العامّي: إنه يبغي عوجاً، وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيف الاستقامة، وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات، ثم وصفهم بالصفة السابعة بقوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {بالآخرة هم كافرون} وتكرير لفظ هم لتأكيد كفرهم وتوغلهم فيه. الصفة الثامنة: كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله كما قال تعالى: {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي: ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم إذ لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه، فإنّ هرب العبد من عذاب الله تعالى محال؛ لأنه تعالى قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالقرب والبعد، والقوة والضعف. الصفة التاسعة: أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عقاب الله تعالى عنهم كما قال تعالى: {ما كان لهم من دون الله} أي: غيره {من أولياء} أي: أنصار يمنعوهم من عذابه. الصفة العاشرة: مضاعفة العذاب كما قال تعالى: {يضاعف لهم العذاب} أي: بسبب إضلالهم غيرهم، وقيل: لأنّهم كفروا بالله وكفروا بالبعث والنشور. الصفة الحادية عشرة: قوله تعالى: {وما كانوا يستطيعون السمع} قال قتادة: صم عن سماع الحق فلا يسمعون خيرا فينتفعون به {وما كانوا يبصرون} خيراً فيأخذوا به. قال ابن عباس: أخبر الله تعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعة الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، أمّا في الدنيا فإنه قال: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} وأمّا في الآخرة فإنه قال: {فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم} (القلم، 42، 42) . الصفة الثانية عشرة: قوله تعالى: {أولئك الذين خسروا أنفسهم} فإنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان مصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم وذلك أعظم وجوه الخسرانات. الصفة الثالثة عشرة: قوله تعالى {وضلّ} أي: غاب {عنهم ما كانوا يفترون} على الله تعالى من دعوى الشريك وأنّ لآلهة تشفع لهم. الصفة الرابعة عشرة: قوله تعالى: {لاجرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} أي: لا أحد أبين وأكثر خسراناً منهم. تنبيه: قال الفرّاء: إنّ لا جرم بمنزلة قولنا لا بدّ ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. تقول العرب: لا جرم إنك محسن على معنى حقاً إنك محسن. وقال الزجاج: إنّ كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجرم معناه: كسب ذلك الفعل والمعنى: لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب. وقال سيبويه: لا ردّ على أهل الكفر كما مرّ. وجرم معناه: أحق والمعنى: أنه أحق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر: *ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أراد أحقت الطعنة فزارة أن يغضبوا، ولما ذكر تعالى عقوبة الكفار وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة بقوله تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الصالحات وأخبتوا إلى ربهم} أي: اطمأنوا إليه وخشعوا، إذ الإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب، ويتعدّى بإلى وباللام فإذا قلت: أخبت فلان إلى كذا، فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلت: أخبت له فمعناه خشع وخضع له، فقوله تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إشارة إلى جميع عمل الجوارح. وقوله تعالى: {وأخبتوا} إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخشوع والخضوع لله تعالى، وإن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع {أؤلئك} أي: الذين هذه صفتهم {أصحاب الجنة هم خالدون} فأخبر تعالى عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال. ولما ذكر سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ذكر فيهما مثالاً مطابقاً بقوله تعالى: {مثل} أي: صفة {الفريقين} أي: الكفار والمؤمنين {كالأعمى والأصم} هذا مثل الكافر شبه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصامه عن استماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه {والبصير والسميع} هذا مثل المؤمن شبه بالبصير والسميع؛ لأنّ أمره بالضدّ من الكافر فيكون كل منهما مشبهاً باثنين باعتبار وصفين، أو يشبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضدّيهما على أن تكون الواو في الأصم وفي السميع لعطف الصفة على الصفة، بخلافه على التشبيه الأوّل فإنه لعطف الموصوف على الموصوف، ويعبر عنه بعطف الذات على الذات {هل يستويان} أي: هل يستوي الفريقان {مثلاً} أي: تشبيهاً لا يستويان، ويصح أن يكون مثلاً صفة لمصدر محذوف، أي: استواء مثلاً، وأن يكون حالاً من فاعل يستويان وقوله تعالى: {أفلا تذكّرون} فيه إدغام التاء في الأصل في الذال، أي: تتعظون بضرب الأمثال، والتأمّل فيها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد، وقد جرت عادة الله تعالى بأنه إذا أورد على الكفار أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل. وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص: القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} وقوله: {إني لكم} قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة، أي: بأني والباقون بكسرها على إرادة القول {نذير مبين} أي: بين النذارة أخوّف من العقاب لمن خالف أمر الله تعالى. وقوله: {أن لا تعبدوا إلا الله} بدل من إني لكم أو مفعول مبين {إني أخاف عليكم} أي: إن عبدتم غيره {عذاب يوم أليم} أي: مؤلم موجع في الدنيا أو الآخرة. قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وقال مقاتل: وهو ابن مائة سنة. وقيل: وهو ابن خمسين سنة. وقيل: وهو ابن مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألف سنة وأربعمائة وخمسين. ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة. ولما حكى تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوّته بثلاثة أنواع من الشبهات بقوله تعالى: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} وهم الأشراف {ما نراك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 إلا بشراً مثلنا} هذه الشبهة الأولى، أي: أنك بشر مثلنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوّة ووجوب الطاعة، وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلاً منهم؛ لأنّ الله تعالى إذا اصطفى عبداً من عباده وأكرمه بنبوّته ورسالته وجب على من أرسله إليهم اتباعه. الشبهة الثانية: ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} أي: أسافلنا كالحاكة وأهل الصنائع الخسيسة، وهو جمع أرذل بفتح الهمزة كقوله تعالى: {أكابر مجرميها} (الأنعام، 123) وقوله صلى الله عليه وسلم «أحاسنكم أخلاقاً» أو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها، فهو على الأوّل جمع مفرد وعلى الثاني جمع جمع، ثم قالوا: ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكابر من الناس والأشراف منهم، وإنما قالوا ذلك جهلاً منهم أيضاً؛ لأنّ الرفعة بالدين واتباع الرسول لا بالمناصب العالية والمال {بادي الرأي} أي: اتبعوك في أوّل الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك ولو تفكروا ما اتبعوك. ونصبه على الظرف، أي: وقت حدوث أوّل رأيهم. وقرأ أبو عمرو بادئ بهمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بياء مفتوحة، وأبدل السوسي همزة الرأي ألفاً وقفاً ووصلاً. وأمّا حمزة فأبدلها وقفاً لا وصلاً. الشبهة الثالثة: ماذكره الله تعالى عنهم في قوله تعالى: {وما نرى لكم} أي: لك ولمن اتبعك {علينا من فضل} أي: بالمال والشرف والجاه تستحقون به الاتباع منا وهذا أيضاً جهل منهم؛ لأنّ الفضيلة المعتبرة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة. وقولهم: {بل نظنكم كاذبين} خطاب لنوح عليه السلام في دعوى الرّسالة وأدرجوا قومه معه في الخطاب. وقيل: خاطبوه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم. وقيل: كذبوه في دعوى النبوّة وكذبوا قومه في دعوى العلم بصدقه، فغلب المخاطب على الغائبين. ولما ذكروا هذه الشبهة لنوح عليه السلام. {قال} لهم {يا قوم أرأيتم} أي: أخبروني {إن كنت على بينة} أي: نبوّة ورسالة {من ربي وآتاني رحمة} أي: نبوّة ورسالة {من عنده} من فضله وإحسانه {فعميت} أي: خفيت والتبست {عليكم} ووحد الضمير إمّا لأنّ البينة في نفسها هي الرحمة وإمّا لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم العين وتشديد الميم والباقون بفتح العين وتخفيف الميم {أنلزمكموها} أي: أنكرهكم على قبولها {وأنتم لها كارهون} أي: لا تختارونها ولا تتأمّلون فيها لا نقدر على ذلك. قال قتادة: والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه ولكنه لا يملك ذلك، واتفق القراء على ضم النون من أنلزمكموها لاتصالها باللام رسماً، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعاً وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الوصل كما في الآية، والفصل كأن يقال: أنلزمكم إياها. {ويا قوم لا أسألكم عليه} أي: على تبليغ الرسالة وهو وإن لم يذكر معلوم مما ذكر {مالاً} أي: جعلا تعطونيه {إن} أي: ما {أجري إلا على الله} أي: ما ثواب تبليغي إلا عليه فإنه المأمول منه تعالى. وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون الياء والباقون بالفتح. وقول نوح عليه السلام: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} جواب لهم حين طلبوا طردهم، فإنهم طلبوا من نوح عليه السلام قبل أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال: ما يجوز لي ذلك. {إنهم ملاقوا ربهم} أي: بالبعث فيخاصمون طاردهم عنده ويأخذ لهم ممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ظلمهم وطردهم أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم {ولكني أراكم قوماً تجهلون} أي: إنّ هؤلاء المؤمنين خير منكم أو عاقبة أمركم أو تسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل. {ويا قوم من ينصرني} أي: يمنعني {من الله} أي: من عقابه {إن طردتهم} عني وهم مؤمنون مخلصون {أفلا} أي: فهلا {تذكرون} أي: تتعظون. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال. {ولا أقول لكم عندي خزائن الله} أي: خزائن رزقه، فكما أني لا اسألكم مالاً فكذلك لا أدعي أني أملك مالاً ولا غرض لي في المال لا أخذاً ولا دفعاً، وقوله: {ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} فأتعاظم به عليكم حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا بل طريقتي التواضع والخضوع، ومن كان هذا شأنه وطريقته كذلك فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين، ثم أكد ذلك بقوله: {ولا أقول للذين تزدري} أي: تحتقر {أعينكم} أي: لا أقول في حقهم {لن يؤتيهم الله خيراً} فإن ما أعدّ الله تعالى لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا {الله أعلم بما في أنفسهم} وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق {إني إذاً} أي: إن فعلت ذلك {لمن الظالمين} لنفسي ومن الظالمين لهم. فإن قيل: هذه الآية تدل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الإنسان إذا قال: لا أدعي كذا وكذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل؟ أجيب: بأن نوحاً عليه السلام إنما ذكر ذلك جواباً عما ذكروه من الشبه، فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال: ولا أقول لكم عندي خزائن الله حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال: ولا أعلم الغيب حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما تكليفي بناء الأحوال على الظاهر، وطعنوا فيه أنه من البشر فقال: ولا أقول إني ملك حتى تنفوا عني ذلك وحينئذٍ فالآية ليس فيها ذلك. فإن قيل: في هذه الآية دلالة على أنّ طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي فكيف طرد محمد صلى الله عليه وسلم بعض فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الله حتى عاتبه الله تعالى في قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيَّ؟ أجيب: بأنّ الطرد المذكور في هذه الآية محمول على الطرد المطلق على سبيل التأبيد، والطرد المذكور في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم محمول على التبعيد في أوقات معينة رعاية للمصلحة. ولما أنّ الكفار أوردوا تلك الشبهة وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أوردوا عليه كلامين: الأوّل ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {قالوا يا نوح قد جادلتنا} أي: خاصمتنا {فأكثرت جدالنا} أي: فأطنبت فيه، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوّة والمعاد، وهذا يدل على أنّ الجدال في تقرير الدلائل، وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى أنّ التقليد والجهل حرفة الكفار، والثاني: ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله: {فأتنا بما تعدنا} أي: من العذاب {إن كنت من الصادقين} في الدعوى والوعيد فإنّ مناظرتك لا تؤثر فينا. {قال} لهم نوح عليه السلام في جواب ذلك {إنما يأتيكم به الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 إن شاء} تعجيله لكم فإن أمره إليه إن شاء عجله، وإن شاء أخره لا إليّ {وما أنتم بمعجزين} أي: بفائتين الله تعالى. ولما أجاب نوح عليه السلام عن شأنهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة فقال: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} أي: يضلكم وجواب الشرط محذوف دل عليه ولا ينفعكم نصحي. وتقدير الكلام: إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، فهو من باب اعتراض الشرط. على الشرط ونظير ذلك ما لو قال رجل لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فدخلت ثم كلمت لم تطلق فيشترط في وجوب الحكم وقوع الشرط الثاني قبل وقوع الأوّل. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى قد يريد الكفر من العبد فإنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه {هو ربكم} أي: خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته {وإليه ترجعون} فيجازيكم على أعمالكم قال تعالى: {أم} أي: بل {يقولون افتراه} أي: اختلقه وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم {قل} لهم {إن افتريته فعليّ إجرامي} وهذا من باب حذف المضاف؛ لأنّ المعنى فعليّ إثم إجرامي، والإجرام اقتراف المحظور. وفي الآية محذوف آخر وهو أنّ المعنى إن كنت افتريته فعليّ عقاب جرمي وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليها {وأنا بريء مما تجرمون} أي: من عقاب جرمكم في إسناد الافتراء إليّ. تنبيه: أكثر المفسرين على أنّ هذا من بقية كلام نوح عليه السلام مع قومه. وقال مقاتل: أم يقولون، أي: المشركون من كفار مكة: افتراه، أي: محمد صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه. وهذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء قصة نوح عليه السلام. قال الرازي: وقوله بعيد جدًّا. {وأوحي إلى نوحٍ أنه لن يؤمن من قومك} أي: لن يستمرّ على الإيمان لقوله تعالى: {إلا من قد آمنّ} . قال ابن عباس: إنّ قوم نوح كانوا يضربون نوحاً حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات، فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله تعالى. وروي أنّ شيخاً منهم جاء متوكئاً على عصاه ومعه ابنه فقال لابنه: لا يغوينك هذا الشيخ المجنون فقال: يا أبتاه مكني من العصا فأخذها من أبيه وضرب بها نوحاً عليه السلام حتى شجه شجةً منكرةً، فأوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن {فلا تبتئس} أي: لا تحزن عليهم فإني مهلكهم {بما} أي: بسبب ما {كانوا يفعلون} من الشرك وننقذك منهم، فحينئذ دعا عليهم نوح عليه السلام فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} (نوح، 26) . وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي: إنه بلغه أنهم يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادوا في المعصية، واشتدّ عليه منهم البلاء، وهو ينظر من الجيل إلى الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنجس من الذين قبلهم، ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول: قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً فلا يقبلون منه شيئاً فشكى إلى الله تعالى، فقال: {رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} (نوح، 5) حتى قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} (نوح، 26) فأوحى الله تعالى إليه: {واصنع الفلك} أي: السفينة {بأعيننا} قال ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 عباس بمرأى منا. وقال مقاتل: بعلمنا. وقيل: بحفظنا. {ووحينا} أي: بأمرنا لك كيف تصنعها {ولا تخاطبني في الذبن ظلموا} أي: ولا تراجعني في الكفار، ولا تدعني في استدفاع العذاب عنهم {إنهم مغرقون} أي: محكوم عليهم بالإغراق فلا سبيل إلى كفه. وقيل: لا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك راعلة فإنهما هالكان مع القوم، ويروى أنّ جبريل عليه السلام أتى نوحاً فقال: إنّ ربك يأمرك أن تصنع الفلك. قال: كيف أصنع ولست بنجار. قال: إنّ ربك يقول اصنع فإنك بأعيينا، فأخذ القدوم فجعل ينجر ولا يخطئ وصنعها فعملها مثل جؤجؤ الطير، وفي قوله تعالى: {ويصنع الفلك} قولان: أحدهما: أنه حكاية حال ماضية، أي: في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. الثاني: التقدير فأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله ويصنع الفلك، ثم إنّ نوحاً عليه السلام أقبل على عملها وَلَهَى عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ عدّة الفلك من القار وغيره، وجعل قومه يمرّون عليه ويسخرون منه كما قال تعالى: {وكلما مرّ عليه ملأ} أي: جماعة {من قومه سخروا منه} أي: استهزؤوا به ويقولون يا نوح قد صرت نجاراً بعدما كنت نبياً، فأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: اتخذ نوح عليه السلام السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون، فجعل في البطن الأوّل الوحوش والهوامّ، وفي البطن الأوسط الدوابّ وركب هو ومن معه البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد. وقال قتادة: كان في بابها في عرضها. وروي عن أنس: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة. وقيل: إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال كعب بن حام، قال فضرب الكثيب بعصاه فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض عن رأسه التراب وقد شاب، فقال له عيسى عليه السلام: هكذا هلكت. قال: لا ولكن مت وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت قال: حدّثنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات؛ طبقة للدواب والوحوش وطبقة للإنس وطبقة للطير، ثم قال له: عد بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً. قال البغوي: والمعروف أن طولها ثلاثمائة ذراع. وعن زيد بن أسلم قال: مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ومائة سنة يعمل الفلك. وعن كعب الأحبار: أنّ نوحاً عمل السفينة في ثلاثين سنة. وروي أنها كانت ثلاث طبقات: الطبقة السفلى للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى فيها الإنس، والطبقة العليا فيها الطير، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، ولما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرض حبالها؛ أوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهو القط فأقبلا على الفأر فأكلاه. قال الرزاي: واعلم أنّ أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة البتة، فكان الخوض فيها من باب الفضول، لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 الجانب الصحيح، والذي نعلمه أنها كانت في السعة بحيث تسع المؤمنين من قومه، وما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان؛ لأنّ هذا القدر مذكور في القرآن. وما آمن معه إلا قليل، فأما تعيين ذلك القدر فغير معلوم. {قال} لهم لما سخروا منه {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} إذا نجونا وغرقتم. فإن قيل: السخرية لا تليق بمنصب النبوّة؟ أجيب: بأنّ ذلك ذكر على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40) والمعنى إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم، وهو قوله تعالى: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} أي: يهينه في الدنيا وهو الغرق {ويحلّ عليه} في الآخرة {عذاب مقيم} وهو النار التي لا انقطاع لها وقوله تعالى: {حتى إذا جاء أمرنا} أي: بإهلاكهم غاية لقوله ويصنع الفلك، وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام. واختلف في التنور في قوله تعالى: {وفار التنور} فقال عكرمة والزهريّ: هو وجه الأرض. وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء فار على وجه الأرض فاركب السفينة. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: فار التنور وقت طلوع الفجر ونور الصبح. وقال الحسن ومجاهد والشعبيّ: أنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسرين ورواية عطية وابن عباس: لأنه حمل الكلام على حقيقته، ولفظ التنور حقيقته هو الموضع الذي يخبز فيه وهو قول أكثر المفسرين فوجب حمل اللفظ عليه، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال: إنه تنور لنوح. ومنهم من قال: إنه كان لآدم عليه السلام. قال الحسن: كان تنوراً من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح فقيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب السفينة أنت وأصحابك. واختلفوا أيضاً في موضعه فقال مجاهد والشعبيّ: كان في ناحية الكوفة، وكان الشعبيّ يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علماً لنوح. وقال مقاتل: كان تنور آدم عليه السلام وكان بالشأم بموضع يقال له عين وردة. وروي عن ابن عباس أنه كان بالهند، ومعنى فار نبع على قوّة وشدّة تشبيهاً بغليان القدر عند قوّة النار، ولا شبهة أنّ التنور لا يفور. والمراد: فار الماء من التنور فلما فار أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء الأول قوله تعالى: {قلنا احمل فيها} أي: السفينة {من كل زوجين اثنين} والزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى، والتقدير من كل شيئين هما كذلك، فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر وواحد أنثى. وفي القصة أنّ نوحاً عليه السلام قال: يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين، فحشر الله تعالى إليه السباع والطير، فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيحملهما في السفينة. وقرأ حفص بتنوين لام كل، أي: واحمل من كل شيء زوجين اثنين: الذكر زوج والأنثى زوج. فإن قيل: ما الفائدة في قوله زوجين اثنين والزوجان لا يكونان إلا اثنين؟ أجيب: بأنّ هذا على مثال قوله تعالى: {لا تتخذوا إلهين اثنين} (النحل، 51) . وقوله تعالى: {نفخة واحدة} (الحاقة، 13) والباقون بغير تنوين فهذا السؤال غير وارد، النوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الثاني من الأشياء التي أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحملها في السفينة قوله تعالى: {وأهلك} وهم أبناؤه وزوجته. وقوله تعالى: {إلا من سبق عليه القول} بأنه من المغرقين وهو ابنه كنعان وأمّه راعلة وكانا كافرين حكم الله تعالى عليهما بالهلاك بخلاف سام وحام ويافث وزوجاتهم ثلاثة وزوجته المسلمة. فإن قيل: الإنسان أشرف من سائر الحيوانات فلم بدأ بالحيوان؟ أجيب: بأنّ الإنسان عاقل فهو لعقله مضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات فلهذا السبب وقع الابتداء به. النوع الثالث: من الأشياء التي أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة قوله تعالى: {ومن آمن} أي: واحمل معك من آمن معك من قومك، واختلف في العدد الذي ذكره الله تعالى في قوله تعالى: {وما آمن معه إلا قليل} فقال قتادة وابن جريج: لم يكن معه في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته المسلمة وثلاثة بنين له هم: سام وحام ويافث ونساؤهم. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم نوح وبنوه الثلاثة وستة أناس ممن كان آمن به وأزواجهم جميعاً. وقال مجاهد كانوا اثنين وسبعين نفراً رجلاً وامرأة. وعن ابن عباس قال: كان في سفينة نوح ثمانون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وقال الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله تعالى: {وما آمن معه إلا قليل} فوصفهم بالقلة فلم يحد عدداً بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله تعالى، إذ لم يرد عدد في كتاب الله تعالى، ولا في خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدّم نحو ذلك عن الرازي. وقال مقاتل: حمل نوح عليه السلام جميع الدواب والطير ليحملها. قال ابن عباس أوّل ما حمل نوح الدرّة، وآخر ما حمل الحمار، فلما دخل الحمار أدخل صدره وتعلق إبليس بذنبه فلم تستقل رجلاه فجعل نوح يقول: ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، كلمة زلت على لسانه، فلما قالها خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه فقال نوح: ما أدخلك عليّ يا عدوّ الله؟ قال: ما لك بد أن تحملني معك فكان معه على ظهر السفينة. هكذا نقله البغويّ. قال الرازيّ: وأمّا الذي يروى أنّ إبليس دخل السفينة فبعيد لأنّه من الجنّ وهو جسم ناري أو هوائي، فكيف يؤثر الغرق فيه، وأيضاً كتاب الله تعالى لم يدل عليه ولم يرد في ذلك خبر صحيح فالأولى ترك الخوض في ذلك. قال البغويّ: وروي أنّ بعضهم قال: إنّ الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا احملنا معك، فقال: إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا: احملنا فإنا نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك. فمن قرأ حين يخاف مضرتهما {سلام على نوح في العالمين} (الصافات، 79) لم يضراه. وقال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأمّا ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئاً. {وقال} نوح لمن معه {اركبوا} أي: صيروا {فيها} أي: السفينة وجعل ذلك ركوباً؛ لأنها في الماء كمركوب في الأرض، وقوله تعالى: {بسم الله مجراها ومرساها} متصل باركبوا حال من الواو في اركبوا، أي: اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت اجرائها وارسائها. قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال: بسم الله جرت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله رست. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنصب الميم من جرت ورست، أي: جريها ورسوها وهما مصدران، والباقون بضم الميم من أجريت وأرسيت أي بسم الله إجراؤها وارساؤها وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحفص وحمزة والكسائي محضة وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وذكروا في عامل الإعراب في بسم الله وجوهاً: الأول: اركبوا بسم الله، الثاني: ابدؤوا بسم الله، الثالث: بسم الله إجراؤها {إنّ ربي لغفور رحيم} أي: لولا مغفرته لفرطائكم ورحمته إياكم لما نجاكم. وقوله تعالى: {وهي تجري بهم} متعلق بمحذوف دلّ عليه اركبوا، أي: فركبوا مسمين الله تعالى وهي تجري وهم فيها {في موج} وهو ما ارتفع من الماء إذا اشتدّت عليه الريح {كالجبال} في عظمه وارتفاعه على الماء، قال العلماء: بالسير أرسل الله تعالى المطر أربعين يوماً وليلة. وخرج الماء من الأرض فذلك قوله تعالى: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا، فالتقى الماء على أمر قد قدر} (القمر، 11، 12) فصار الماء نصفين نصف من السماء ونصف من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء، وروي أنه لما كثر الماء في السكك خافت امرأة على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبيّ بيديها حتى ذهب بهما الماء، فلو رحم الله تعالى منهم أحداً لرحم هذه المرأة. وما قيل من أنّ الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كما تسبح السمكة فليس بثابت. قال البيضاويّ: والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعاً. فإن صح، أي: أنه طبق ما بين السماء والأرض فلعل ذلك أي: ما ذكر من علو الموج قبل التطبيق {ونادى نوح ابنه} كنعان وكان كافراً كما مرّ، وقيل: اسمه يام {وكان في معزل} عزل فيه نفسه إمّا عن أبيه أو دينه ولم يركب معه، وإمّا عن السفينة، وإمّا عن الكفار كأنه انفرد عنهم. وظنّ نوح عليه السلام أنّ ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم ولذلك ناداه بقوله {يا بني اركب معنا} في السفينة. وقرأ عاصم بفتح الياء اقتصاراً على الفتح من الألف المبدلة ياء الإضافة في قولك يا بنيا. والباقون بالكسر في الوصل ليدل على ياء الإضافة المحذوفة كما قال الشاعر: *يا ابنة عم لا تلومي واهجعي ثم حذف الألف للتخفيف {ولا تكن مع الكافرين} أي: في دين ولا مكان فتهلك. ولما قال له ذلك. {قال سآوي} أي: ألتجئ وأصير {إلى جبل يعصمني} أي: يمنعني {من الماء قال} له نوح عليه السلام: {لا عاصم} أي: لا مانع {اليوم من أمر الله} أي: من عذابه وقوله {إلا من رحم} استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم كقوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظنّ} (النساء، 157) وقيل: {إلا من رحم} أي: إلا الراحم وهو الله تعالى، وقيل: إلا مكان من رحمه الله تعالى فإنه مانع من ذلك وهو السفينة. {وحال بينهما} أي: بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل {الموج} المذكور في قوله موج كالجبال {فكان} ابنه {من المغرقين} أي: فصار من المهلكين بالماء. {و} لما تناهى الطوفان وأغرق قوم نوح {قيل} أي: قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 {يا أرض ابلعي ماءك} أي: اشربيه {ويا سماء أقلعي} أي: أمسكي ماءك، ناداهما بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل تمثيلاً لكمال انقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، وههنا همزتان مختلفتان من كلمتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة. قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير بإبدال الثانية واواً خالصة والباقون بالتخفيف {وغيض الماء} أي: نقص وذهب، وقرأ هشام والكسائي بإشمام الغين وهو ضم الغين قبل الياء والباقون بالكسر وكذا وقيل: {وقضي الأمر} أي: وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين {واستوت} أي: استقرّت السفينة {على الجودي} وهو جبل بالجزيرة قريب من الموصل. وقيل، أي: قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى: {بعداً} أي: هلاكاً {للقوم الظالمين} ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وبكون مكون قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في أفعاله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: {يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ولا أن تستوي على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره. وروي أنّ السفينة لما استقرت بعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع، فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها، ولطخت رجليها بالطين فعلم نوح أنّ الماء قد نقص، فقيل: إنه دعا على الغراب بالخوف فلذا لا يألف البيوت، وطوّق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت. وروي أنّ نوحاً ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرّت بالبيت العتيق، وقد رفعه الله تعالى من الغرق وبقي موضعه، فطافت به السفينة سبعاً. وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح وأمر من معه بصيامه شكراً لله تعالى. وبنوا قرية بقرب الجبل وسميت سوق ثمانين فهي أوّل قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان. وقيل: إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان الماء يصل إلى حجزته وهذا لا يأتي على القول بإطباق الماء. قال هذا القائل: وسبب نجاته أنّ نوحاً احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله، فحمله عوج إليه من الشام فنجاه الله تعالى من الغرق بذلك. فإن قيل: كيف أغرق الله تعالى من لم يبلغ الحلم من الأطفال؟ أجيب: بأنه تعالى يتصرف في خلقه لا يسئل عما يفعل. وقيل: إنّ الله تعالى أعقم أرحام نسائهم أربعمائة سنة فلم يولد لهم تلك المدّة. {ونادى نوح ربه} أي: دعاه وسأله {فقال رب إنّ ابني من أهلي} وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي {وإن وعدك الحق} أي: الصدق الذي لا خلف فيه {وأنت أحكم الحاكمين} لأنك أعلمهم وأعدلهم.l فإن قيل: إذا كان النداء هو قوله ربّ فكيف عطف قال رب على نادى بالفاء؟ أجيب: بأن الفاء تفصيل لمجمل نادى، مثلها في: توضأ فغسل. وقيل: نادى، أي: أراد نداءه فقال رب. {قال} الله تعالى له {يا نوح إنه} أي: هذا الابن الذي سألت نجاته {ليس من أهلك} أي: المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} وقرأ الكسائي بكسر الميم ونصب اللام بغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 تنوين ونصب الراء، أي: عمل الكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح والباقون بفتح الميم ورفع اللام منونة ورفع الراء، أي: ذو عمل غير صالح أو صاحب عمل غير صالح، فجعل ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة ترتع: *فإنما هي إقبال وإدبار واختلف علماء التفسير هل كان ذلك الولد ابن نوح أو لا على أقوال: الأوّل: وهو قول ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرين: إنه ابنه حقيقة ويدل عليه أنه تعالى نص عليه فقال: {ونادى نوح ابنه} ونوح أيضاً نص عليه فقال: {يا بنيّ} وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه وأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة. القول الثاني: أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر، وقول الحسن البصري. والقول الثالث: وهو قول مجاهد والحسن: أنه ولد حنث ولد على فراشه ولم يعلم نوح بذلك، واحتج هذا القائل بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط {فخانتاهما} (التحريم، 10) . قال الرازي: وهذا قول واهٍ حيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو خلاف نص القرآن. وقد قيل لابن عباس: ما كانت تلك الخيانة؟ فقال: كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به. {فلا تسألني ما ليس لك به علم} أي: بما لا تعلم أصواب هو أم لا؟ لأنّ اللائق بأمثالك من أولي العزم بناء أمورهم على التحقيق. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والباقون بسكون اللام وتخفيف النون وأثبت الياء بعد النون. في الوصل دون الوقف ورش وأبو عمرو وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً {إني أعظك} أي: بمواعظي كراهة {أن تكون من الجاهلين} فتسأل كما يسألون. وإنما سمى نداءه سؤالاً لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله واستنجازه في شأن ولده. {قال} نوح {رب إني أعوذ بك أن} أي: من أن {أسألك} في شيء من الأشياء {ما ليس لي به علم} تأدباً بأدبك واتعاظاً بوعظك {وإلا تغفر لي} أي: الآن ما فرط مني وفي المستقبل ما يقع مني {وترحمني} أي: تستر زلاتي وتمحها وتكرمني {أكن من الخاسرين} أي: الغريقين في الخسارة. فإن قيل: هذا يدل على عصمة الأنبياء لوقوع هذه الزلة من نوح عليه السلام؟ أجيب: بأنّ الزلة الصادرة من نوح إنما هي كونه لم يستقص ما يدل على نفاق ابنه وكفره؛ لأنّ قومه كانوا على ثلاثة أقسام: كافر يظهر كفره، ومؤمن يخفي إيمانه، ومنافق لا يعلم حاله في نفس الأمر. وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلوماً، وأما أهل النفاق فبقي أمرهم مخفياً، وكان ابن نوح منهم، وكان يجوز فيه كونه مؤمناً، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون للأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فأخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم عليه السلام في الأكل من الشجرة فلم يصدر عنه إلا الخطأ في الاجتهاد، فلم تصدر منه معصية، فلجأ إلى ربه تعالى وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة كما قال آدم عليه السلام: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الأعراف، 23) لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. {قيل} أي: قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى: {يا نوح اهبط} أي: انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض المستوية {بسلام} أي: بعظم وأمن وسلامة {منا} وذلك أنّ الغرق لما كان عاماً في جميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الأرض فعندما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى: {اهبط بسلام منا} زال عنه ذلك الخوف؛ لأنّ ذلك يدل على حصول السلامة وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق. ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة بقوله تعالى: {وبركات عليك} وهو عبارة عن الدوام والبقاء والثبات؛ لأنّ الله تعالى صير نوحاً عليه السلام أبا البشر؛ لأنّ جميع من بقي كانوا من نسله؛ لأنّ نوحاً لما خرج من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته فالخلق كلهم من نسله، أو أنه لم يكن معه في السفينة إلا من كان من نسله وذريته، وعلى التقديرين فالخلق كلهم من ذريته. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} (الصافات، 77) فثبت أنّ نوحاً كان آدم الأصغر فكان أبا الأنبياء والخلق بعد الطوفان كلهم منه ومن ذريته وكان بين نوح وآدم ثمانية أجداد. وقوله تعالى: {وعلى أمم ممن معك} يحتمل أن تكون من للبيان فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة؛ لأنهم كانوا جماعات أو قيل لهم أمم؛ لأنّ الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لابتداء الغاية، أي: على أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى آخر الدهر. قال في «الكشاف» : وهو الوجه، وقوله تعالى: {وأمم} بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى: {سنمتعهم} أي: في الدنيا صفة والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم. وإنما حذف لأنّ قوله ممن معك يدل عليه، والمعنى أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون في الدنيا {ثم يمسهم منا عذاب أليم} في الآخرة وهم الكفار. وعن محمد بن كعب القرظي: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب. ولما شرح تعالى قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال تعالى: {تلك} أي: قصة نوح التي شرحناها، ومحلّ تلك رفع على الابتداء وخبرها {من أنباء الغيب} أي: من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق. وقوله تعالى: {نوحيها إليك} خبر ثان والضمير لها، أي: موحاة إليك. وقوله تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} أي: نزول القرآن خبر آخر، والمعنى أنّ هذه القصة مجهولة عندك وعند قومك من قبل إيحائنا إليك، ونظير هذا أن يقول إنسان لآخر: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك. فإن قيل: قد كانت قصة طوفان نوح مشهورة عند أهل العلم. أجيب: بأنّ ذلك كان بحسب الإجمال، وأمّا التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة، أو بأنه صلى الله عليه وسلم كان أمّياً لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يعلمها. وكذلك كانت أمته. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {فاصبر} أي: أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار. {إنّ العاقبة للمتقين} الشرك والمعاصي وفي هذا تنبيه على أنّ عاقبة الصبر لنبينا صلى الله عليه وسلم النصر والفرج، أي: السرور كما كان لنوح ولقومه. فإن قيل: هذه القصة ذكرت في يونس فما الحكمة والفائدة في إعادتها؟ أجيب: بأنّ القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه، ففي السورة الأولى كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الكفار يستعجلون نزول العذاب فذكر تعالى قصة نوح في بيان أنّ قومه كانوا يكذبونه بسبب أنّ العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه السورة ذكرت لأجل أنّ الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش فذكرها الله تعالى لبيان أنّ إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلاً في زمان نوح عليه السلام، فلما صبر فاز وظفر، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خالياً عن الحكمة والفائدة. القصة الثانية: من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {س11ش50/ش55 وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا? قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا? اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ اله غَيْرُهُ??? إِنْ أَنتُمْ إِs مُفْتَرُونَ * يَاقَوْمِ ? أَسْـ?َلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا? إِنْ أَجْرِىَ إِs عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى?? أَفَ تَعْقِلُونَ * وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا? رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُو?ا? إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَتَتَوَلَّوْا? مُجْرِمِينَ * قَالُوا? يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى? ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِs اعْتَرَ?ـاكَ بَعْضُءَالِهَتِنَا بِسُو?ءٍ? قَالَ إِنِّى? أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُو?ا? أَنِّى بَرِى?ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ?? فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ تُنظِرُونِ} {وإلى عاد} أي: وأرسلنا إلى عاد {أخاهم} فهو معطوف على قوله تعالى نوحاً، وقوله تعالى: {هوداً} عطف بيان ومعلوم أنّ تلك الأخوة ما كانت في الدين، وإنما كانت في النسب لأنّ هوداً كان رجلاً من قبيلة عاد قبيلة من العرب كانوا بناحية اليمن. فإن قيل: إنه تعالى قال في ابن نوح إنه ليس من أهلك فبيّن أنّ قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين، وهنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين؟ أجيب: بأنّ قوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستبعدون أن يكون رسولاً من عند الله تعالى مع أنه واحد من قبيلتهم، فذكر الله تعالى أنّ هوداً كان واحداً من عاد، وأنّ صالحاً كان واحداً من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد، ولما تقدّم أمر نوح عليه السلام مع قومه استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أولاً؟ فاستأنف الجواب بقوله: {قال يا قوم اعبدوا الله} أي: وحدوه ولا تشركوا معه شيئاً في العبادة. {ما لكم من إله غيره} أي: هو إلهكم؛ لأنّ هذه الأصنام التي تعبدونها حجارة لا تضر ولا تنفع. فإن قيل: كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل إقامة الدليل على ثبوت الإله؟ أجيب: بأنّ دلائل وجود الله تعالى ظاهرة وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما يوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله، ولذلك قال تعالى في صفة الكفار: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (لقمان، 25) . وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء صفة على اللفظ والباقون بالرفع صفة على محل الجار والمجرور ومن زائدة {إن أنتم إلا مفترون} أي: كاذبون في عبادتكم غيره. وكرر قوله: {يا قوم} للاستعطاف، وقوله: {لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني} أي: خلقني، خاطب به كل رسول قومه إزالة للتهمة وتمحيضاً للنصيحة فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع {أفلا تعقلون} أي: افلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ فتتعظون. ثم قال: {ويا قوم} أيضاً لما ذكر {استغفروا ربكم} أي: آمنوا به {ثم توبوا إليه} من عبادة غيره؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان {يرسل السماء} أي: المطر {عليكم مدراراً} أي: كثير الدر {ويزدكم قوّة إلى قوّتكم} أي: ويضاعف قوّتكم، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوّة؛ لأنّ القوم كانوا أصحاب زرع وبساتين وعمارات حراصاً عليها أشدّ الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء، وكانوا مذلين غيرهم بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مهابين في كل ناحية، وقيل: أراد القوّة في المال. وقيل: القوة على النكاح. وقيل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إني رجل ذو مال ولا يولد لي فعلمني شيئاً لعل الله يرزقني ولداً. فقال: عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى ربّما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرّة فولد له عشر بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته ممّ قال ذلك؟ فوفد مرّة أخرى فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود: {ويزدكم قوّة إلى قوّتكم} وقول نوح: {ويمددكم بأموالٍ وبنين} (نوح، 13) . {ولا تتولوا} أي: ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي حالة كونكم {مجرمين} أي: مشركين. ولما حكى الله تعالى عن هود ما ذكره لقومه حكى أيضاً ما ذكره قومه له وهو أشياء: أوّلها: ذكره تعالى بقوله: {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة} أي: بحجة تدل على صحة دعواك. وسميت بينة؛ لأنها تبين الحق، ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أظهر لهم المعجزات إلا أن القوم لجهلهم أنكروها وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات. وثانيها: قولهم: {وما نحن بتاركي آلهتنا} أي: عبادتها، وقولهم: {عن قولك} أي: صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي، وهذا أيضاً من جهلهم فإنهم كانوا يعرفون أنّ النافع والضارّ هو الله تعالى وأن الأصنام لا تضر ولا تنفع وذلك حكم فطرة العقل وبديهة النفس، وثالثها: قولهم: {وما نحن لك بمؤمنين} أي: مصدّقين، وفي ذلك إقناط له من الإجابة والتصديق. ورابعها: قولهم: {إن} أي: ما {نقول} في شأنك {إلا اعتراك} أي: أصابك {بعض آلهتنا بسوء} لسبك إياها فجعلتك مجنوناً وأفسدت عقلك، ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك {قال} هود عليه السلام مجيباً لهم: {إني أشهد الله} عليّ {واشهدوا} أنتم أيضاً عليّ {أني بريء مما تشركون} . {من دونه} أي: الله وهو الأصنام التي كانوا يعبدونها {فكيدوني} أي: احتالوا في هلاكي {جميعاً} أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضرّ ولا تنفع. فائدة: اتفق القراء على إثبات الياء في كيدوني هنا وقفاً ووصلاً لثباتها في المصحف {ثم لا تنظرون} أي: تمهلون، وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام؛ لأنه كان وحيداً في قومه وقال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت ثقة بالله تعالى كما قال تعالى: {إني توكلت على الله ربي وربكم} أي: فوضت أمري إليه واعتمدت عليه {ما من دابة} تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان؛ لأنّهم يدبون على الأرض. {إلا هو آخذ بناصيتها} أي: مالكها وقاهرها فلا يقع نفع ولا ضر إلا بإذنه والناصية كما قال الأزهري: عند العرب منبت الشعر في مقدّم الرأس، وسمي الشعر النابت هنا ناصية باسم منبته، والعرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، فخوطبوا في القرآن بما يعرفون من كلامهم {إن ربي على صرط مستقيم} أي: طريق الحق والعدل فلا يظلمهم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه. وقوله تعالى: {فإن تولّوا} فيه حذف إحدى التاءين، أي: تعرضوا {فقد أبلغتكم} جميع {ما أرسلت به إليكم} فإن قيل: الإبلاغ كان قبل التولي فكيف وقع جزاء للشرط؟ أجيب: بأنّ معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير من جهتي وصرتم محجوجين؛ لأنكم أنتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الذين أصررتم على التكذيب وقوله {ويستخلف ربي قوماً غيركم} استئناف بالوعيد لهم بأنّ الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوماً آخرين في ديارهم وأموالهم يوحدونه تعالى ويعبدونه {ولا تضرّونه} أي: الله بإشراككم {شيئاً} من الضرر إنما تضرون أنفسكم. وقيل: لا تنقصونه شيئاً إذا أهلككم؛ لأنّ وجودكم وعدمكم عنده سواء {إنّ ربي على كلِّ شيء} صغير أو كبير، حقير أو جليل. {حفيظ} ، أي: رقيب عالم بكل شيء وقادر على كل شيء فيحفظني أن تنالوني بسوء أو حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها، أو حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء. {ولما} لم يرجعوا ولم يرعووا ببينة ولا رغبة ولا رهبة {جاء أمرنا} أي: عذابنا، وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله تعالى بها سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وترفعهم وتضربهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية، وهنا همزتان مفتوحتان من كلمتين. قرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الأولى، وقرأ ورش وقنبل بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية والباقون بتحقيقهما، {نجينا هوداً والذين آمنوا معه} ، أي: من هذا العذاب وكانوا أربعة آلاف {برحمةٍ منا} لأنّ العذاب إذا نزل قد يعمّ المؤمن والكافر، فلما أنجى الله تعالى المؤمنين من ذلك العذاب كان برحمته وفضله وكرمه {ونجيناهم من عذاب غليظ} هو عذاب الآخرة. ووصفه بالغلظ؛ لأنه أغلظ من عذاب الدنيا أو نجينا هوداً والذين آمنوا معه من أن يصل إليهم الكفار بسوء مع اجتهادهم في ذلك، ونجيناهم من عذاب غليظ هو الريح المذكورة. ولما ذكر الله تعالى قصة عاد خاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {وتلك عاد} وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة، أمّا أوصافهم فثلاثة: الصفة الأولى: قوله تعالى: {جحدوا بآيات ربهم} ، أي: بالمعجزات التي أتى بها هود عليه السلام. الصفة الثانية: قوله تعالى: {وعصوا رسله} ، أي: هوداً وحده، وإنما أتى به بلفظ الجمع إمّا للتعظيم، أو لأنّ من عصى رسولاً فقد عصى جميع الرسل لقوله تعالى: {لا نفرّق بين أحد من رسله} (البقرة، 285) . الصفة الثالثة: قوله تعالى: {واتبعوا أمر كل جبارٍ عنيد} ، أي: أنّ السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم ما هذا إلا بشر مثلكم، فأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم، وعصوا من دعاهم إلى الإيمان ولا يرديهم، والجبار: المرتفع المتمرد، والعنيد والعنود والمعاند هو المنازع المعارض. ولما ذكر تعالى أوصافهم ذكر أحوالهم بقوله تعالى: {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة} ، أي: جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة. ومعنى اللعنة: الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير، وقيل: اللعنة في الدنيا من الناس وفي الآخرة لعنة على رؤوس الأشهاد. ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم بقوله تعالى: {ألا إن عاداً كفروا ربهم} ، أي: كفروا بربهم، فحذف الباء أو أنّ المراد بالكفر الجحد، أي: جحدوا ربهم. وقيل: هو من باب حذف المضاف، أي: كفروا نعمة ربهم. تنبيه: ألا أداة استفتاح لا تذكر إلا بين كلام يعظم موقعه ويجل خطبه، ثم قال: {ألا بعداً لعاد} دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل بهم بسبب ما حكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 عنهم، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعاً لأمرهم وحثاً على الاعتبار بحالهم. وقوله تعالى: {قوم هود} عطف بيان لعاد وفائدته تمييزهم من عاد الثانية عاد إرم والإيماء إلى استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود. القصة الثالثة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة صالح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وإلى ثمود} وهم سكان الحجر، أي: وأرسلنا إلى ثمود {أخاهم} فهو معطوف على قوله تعالى نوحاً كما عطف عليه وإلى عاد وقوله تعالى: {صالحاً} عطف بيان، وتلك الأخوة كانت في النسب لا في الدين، كما مرّ في هود، ثم أخرج قوله عليه السلام على تقدير سؤال بقوله: {قال يا قوم} ، أي: يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء {اعبدوا الله} ، أي: وحدوه وخصوه بالعبادة {ما لكم من إله غيره} هو إلهكم المستحق للعبادة لا هذه الأصنام، ثم ذكر الدلائل الدالة على وحدانيته تعالى بقوله: {هو أنشاكم} ، أي: ابتدأ خلقكم {من الأرض} وذلك أنهم من بني آدم وآدم خلق من الأرض، أو أنّ الإنسان مخلوق من المني وهو متولد من الدم والدم متولد من الأغذية وهي إمّا حيوانية وإمّا نباتية، فأمّا الحيوانية فحالها كحال الإنسان فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات متولد من الأرض، فثبت أنه تعالى أنشأ الإنسان من الأرض. وقيل: من بمعنى في كما في قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} (الجمعة، 9) . {واستعمركم فيها} ، أي: جعلكم عمارها وسكانها، وقال الضحاك: أطال أعماركم فيها حتى أنّ الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذا كان قوم عاد، وروي أنّ ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وحصلت لهم الأعمار الطويلة، فسأل نبيّ من أنبياء زمانهم ربه ما سبب تلك الأعمار فأوحى الله إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي، وأخذ معاوية في إحياء الأرض في آخرة عمره فقيل له ذلك فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل: *ليس الفتى بفتى لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثار وقال مجاهد: استعمركم من العمرى، أي: جعلها لكم ما عشتم فإذا متم انتقلت إلى غيركم. ولما بيّن لهم عليه السلام عظمة الله تعالى بين لهم طريق الرجوع إليه بقوله: {فاستغفروه} ، أي: آمنوا به {ثم توبوا إليه} من عبادة غيره؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك {إنّ ربي قريب} من خلقه بعلمه لكل من أقبل عليه من غير حاجة إلى حركة {مجيب} لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين. ولما قرّر لهم عليه السلام هذه الدلائل. {قالوا} له {يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا} ، أي: القول الذي جئت به لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فإنك كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا، فقوي رجاؤنا فيك أن تنصر ديننا فكيف أظهرت العداوة؟. ثم إنهم أضافوا إلى هذا التعجب الشديد فقالوا: {أتنهانا أن نعبد ما} كان {يعبد آباؤنا} من الآلهة، ومقصودهم بذلك التمسك بطرف التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب} (ص، 5) ثم قالوا: {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه} من التوحيد وترك عبادة الأصنام {مريب} ، أي: موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، والرجاء: تعلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 النفس بمجيء الخير على جهة الظنّ، ونظيره الأمل والطمع، والنهي: المنع من الفعل بصيغة لا تفعل. وقولهم هذا مبالغة في تزييف كلامه {قال} صالح عليه السلام مجيباً لهم {يا قوم أرأيتم} ، أي: أخبروني {إن كنت على بيّنة} ، أي: بيان وبصيرة {من ربي} وأتى بحرف الشك على سبيل الجزم ليلائم الخطاب حال المخاطبين {وآتاني منه رحمة} ، أي: نبوّة ورسالة {فمن ينصرني} ، أي: يمنعني {من الله} ، أي: عذابه {إن عصيته} ، أي: إن خالفت أمره في تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به {فما تزيدونني} ، أي: بأمركم لي بذلك {غير تخسير} ، أي: غير تضليل. قال الحسن بن الفضل: لم يكن صالح في خسارة حتى يقول فما تزيدونني غير تخسير، وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة. ولما كانت العادة فيمن يدعي النبوّة عند قوم يعبدون الأصنام أن يطلبوا المعجزة وأمر صالح عليه السلام. هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا ربه فخرجت كما سألوا. أشار إليها بقوله: {ويا قوم هذه ناقة الله} وإضافتها إلى الله إضافة تشريف كبيت الله {لكم آية} ، أي: معجزة من وجوه: أحدها: أنه خلقها الله تعالى من الصخرة. ثانيها: أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق الجبل عنها. ثالثها: أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر ثم ولدت فصيلاً يشبهها. رابعها: أنه تعالى خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة. خامسها: ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر. سادسها: أنه كان يحصل منها لبن كثير فيكفي الخلق العظيم به، فكل واحد من هذه الوجوه معجز قويّ، وليس في القرآن إلا أنّ هذه الناقة كانت آية معجزة، وأمّا بيان أنها كانت آية معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه. تنبيه: آية نصب على الحال وعاملها معنى الإشارة ولكن حال منها تقدّمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدّمت انتصبت على الحال ثم قال لهم: {فذروها} ، أي: اتركوها على، أي: حالة كان ترككم لها {تأكل} مما أرادت {في أرض الله} من العشب والنبات فليس عليكم مؤنتها فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرّهم؛ لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها ثم إنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر فإنّ الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفائها وإبطالها بأقصى الإمكان، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها فلهذا احتاط وقال: {ولا تمسوها بسوء} ، أي: بعقر أو غيره ثم توعدهم بقوله: {فيأخذكم} إن مسستموها بسوء {عذاب قريب} ، أي: في الدنيا لا يتأخر عن مسكم لها إلا يسيراً وذلك تحذير شديد لهم في الإقدام على قتلها فخالفوه. {فعقروها} وذبحوها {فقال} لهم عند بلوغه الخبر {تمتعوا} ، أي: عيشوا {في داركم} والتمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس وذلك لا يحصل إلا للحي. وفي المراد من الدار وجهان: أحدهما: البلد وتسمى البلد الديار لأنه يدار فيها، أي: يتصرّف فيها، يُقال ديار بكر لبلادهم. الثاني: دار الدنيا، أي: تمتعوا في الدنيا {ثلاثة أيام} وذلك أنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه الصلاة والسلام بنزول العقاب بعد هذه المدّة قال ابن عباس: إنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان ثم قالوا لصالح عليه السلام وما علامة ذلك؟ قال: تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 الثاني محمرة وفي الثالث مسودّة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع، فلما رأوا وجوههم مسودّة أيقنوا حينئذٍ بالعذاب فتحنطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع كما قال تعالى: {ذلك} ، أي: الوعد العالي الرتبة في الصدق {وعد غير مكذوب} ، أي: فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله: ويومٍ شهدناه أي ورب يوم شهدنا فيه سليماً وعامراً. أو غير مكذوب على المجاز أو وعد غير كذب على أنه مصدر قوله تعالى: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا} في تفسيره، وقراءة الهمزتين وعدد الذين آمنوا معه مثل ما تقدّم في قصة عاد {و} نجيناهم {من خزي يومئذ} وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم من يومئذ على البناء لإضافتها إلى مبني، وكسرها الباقون على الإعراب والأوّل أكثر {إنّ ربك هو القويّ} فهو يغلب كل شيء {العزيز} ، أي: القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه، ثم أخبر تعالى عن عذاب قوم صالح بقوله: {وأخذ الذين ظلموا} ، أي: أنفسهم بالكفر {الصيحة} ، أي: صيحة جبريل عليه السلام، صاح بهم صيحة واحدة فهلكوا جميعاً أو أتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا جميعاً، كما قال تعالى: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} ، أي: باركين على الركب ميتين. تنبيه: إنما قال تعالى وأخذ ولم يقل وأخذت؛ لأنّ الصيحة محمولة على الصياح، وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله تعالى: {كأن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: كأنهم {لم يغنوا} ، أي: يقيموا {فيها} ، أي: ديارهم ولم يسكنوها مدة من الدهر يقال: غنيت بالمكان إذا أقمت به. وقوله تعالى: {ألا إنّ ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود} تفسيره ما تقدّم في قوله تعالى: {ألا إن عاداً كفروا ربهم} (هود، 60) الآية. وقرأ حفص وحمزة ألا إن ثمود بغير تنوين للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة، والباقون بالتنوين للذهاب إلى الحيّ أو إلى الأب الأكبر. ومَنْ نوّن وقف على ألف بعد الدال، ومن لم ينون وقف على الدال ساكنة. وقرأ الكسائي بعداً لثمودٍ بتنوين ثمود مع الكسر لما مرّ، والباقون بغير تنوين مع الفتح لما مرّ أيضاً. القصة الرابعة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} ، أي: بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، والمراد بالرسل الملائكة، ولفظ رسلنا جمع وأقله ثلاثة، واختلف في الزائد على ذلك وأجمعوا على أنّ الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام، واقتصر ابن عباس وعطاء على أقل الجمع فقالا: كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الذاريات بقوله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} (الذاريات، 24) ، وفي الحجر: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} (الحجر، 51) . وقال الضحاك: كانوا تسعة. وقال محمد بن كعب القرظي: كان جبريل ومعه سبعة أملاك. وقال السدي: كان جبريل ومعه أحد عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن. قال النحويون: ودخلت كلمة قد ههنا؛ لأنّ السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخلت اللام في لقد لتأكيد الخبر. {قالوا سلاماً} ، أي: سلمنا عليك سلاماً، ويجوز نصبه بقالوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 على معنى ذكروا سلاماً، أي: سلموا {قال سلام} ، أي: أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام. تنبيه: قوله سلام أكمل من قوله السلام، لأنّ التنكير يفيد الكمال والمبالغة والتمام، ولهذا صح وقوعه مبتدأ؛ لأنّ النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ، أو لفظ السلام فإنه لا يفيد إلا الماهية. فإن قيل: فلأي شيء ما كفى الأوّل في التحلل من الصلاة عند النوويّ؟ أجيب: بأنّ ذلك سنة متبعة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام ولا ألف بعدها، والباقون بفتح السين واللام وبعدها ألف. قال الفراء: ولا فرق بين القراءتين كما يقال حل وحلال وحرم وحرام. وقيل سلم هو بمعنى الصلح، أي: نحن سلم صلح غير حرب. {فما لبث أن جاء بعجل حنيذ} (هود، 69) ، أي: فما أبطأ مجيئه به. والحنيذ: المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض، وكان سميناً يقطر ودكه. كما قال تعالى في موضع آخر: {فجاء بعجل سمين} . قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر. روي أنّ إبراهيم عليه السلام مكث خمس عشرة ليلة لم يأته ضيف فاغتمّ لذلك وكان يحب الضيف ولا يأكل إلا معه، فلما جاءته الملائكة رأى أضيافاً لم ير مثلهم فعجل قراهم وجاء بعجل سمين مشوي. {فلما رأى أيديهم} ، أي: الأضياف {لا تصل إليه} ، أي: لا يمدّون أيديهم إليه {نكرهم} أي: أنكرهم وأنكر حالهم لامتناعهم من الطعام {وأوجس} ، أي: أضمر في نفسه {منهم خيفة} ، أي: خوفاً. قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير وإنما جاء بشر. {قالوا لا تخف} يا إبراهيم {إنا} ملائكة الله {أرسلنا إلى قوم لوط} بالعذاب وإنما لم نمد له أيدينا لأنا لا نأكل. {وامرأته} ، أي: إبراهيم سارّة وهي ابنة عمّ إبراهيم {قائمة} وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله بالبشرى {فضحكت} سروراً من تلك البشرى لزوجها مع كبره وربما ظنته من غيرها؛ لأنها كانت عجوزاً عقيماً فأزيل ذلك الظنّ عنها بقوله تعالى: {فبشرناها} ، أي: على لسان الملائكة تشريفاً لها وتفخيماً لشأنها. {بإسحاق} تلده {ومن وراء إسحاق يعقوب} ، أي: يكون يعقوب عليه السلام ابنا لإسحاق عليه السلام فتعيش حتى ترى ولد ولدها. قال البقاعي: والذي يدل على هذا التقدير من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت ما يأتي عن نص التوراة، وساق عن التوراة عبارة مطوّلة. وقيل: سبب سرورها زوال الخيفة أو هلاك أهل الفساد. وقيل: فضحكت فحاضت كما قال الشاعر: *عهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة أي: حائضاً في جماعة من النساء. وهذا يرد على الفراء حيث قال: ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال آخر: تضحك الضبع لقتلى هذيل. أراد أنها تحيض فرحاً. تنبيه: ههنا همزتان مكسورتان من كلمتين، قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسيهل الثانية وإبدالها أيضاً حرف مد. وقرأ أبو عمرو بإسقاط أحدهما مع المد والقصر، والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما. {قالت يا ويلتا} هذه كلمة تقال عند أمر عظيم، والألف مبدلة من ياء الإضافة. {أألد وأنا عجوز} وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق، وقول مجاهد: تسع وتسعين سنة، {وهذا بعلي} ، أي: زوجي سُمِّيَ بذلك لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 قيّم أمرها، وقولها {شيخاً} نصب على الحال. قال الواحدي: وهذا من لطيف النحو وغامضه فإنّ كلمة هذا للإشارة فكان قولها {وهذا بعلي شيخاً} قائم مقام أن يقال: أشير إلى بعلي حال كونه شيخاً، والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة، وكان ابن مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: مائة سنة وكان بين البشارة والولادة سنة {إن هذا لشيء عجيب} ، أي: إنّ الولد من هرمين فهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك {قالوا} ، أي: الملائكة لسارة {أتعجبين من أمر الله} منكرين عليها ذلك، أي: لا تعجبين من ذلك فإنّ الله تعالى قادر على كل شيء، وإذا أراد شيئاً كان سريعاً فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوّة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس بمستغرب {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} ، أي: بيت إبراهيم وأهل منصوب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم: اغفر لنا أيتها العصابة وهذا على معنى الدعاء من الملائكة لهم بالخير والبركة، وفيه دليل على أنّ أزواج الرجل من أهل بيته {إنه} تعالى {حميدٌ} ، أي: محمود على كل حال أو فاعل ما يستوجب به الحمد {مجيد} ، أي: كثير الخير والإحسان. القصة الخامسة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة لوط عليه السلام المذكورة قوله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع} ، أي: الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه واطمأن قلبه بعرفانهم {وجاءته البشرى} بدل الروع بالولد أخذ {يجادلنا} ، أي: يجادل رسلنا {في} شأن {قوم لوط} وجواب «لما» أخذ يجادلنا إلا أنه حذف اللفظ لدلالة الكلام عليه. وقيل: تقديره لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا. فإن قيل: كيف جادل إبراهيم الملائكة مع علمه بأنهم لا يمكنهم مخالفة أمر الله وهذا منكر؟ أجيب: بأنّ المراد من هذه المجادلة تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون ويرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، لأنّ الملائكة قالوا: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} (العنكبوت، 31) أو أنّ مجادلته إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيهم، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا قال: أو أربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون. قالوا: لا. قال: فعشرون؟ قالوا: لا حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتم لو كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك قال: إنّ فيها لوطاً. وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت، فقال: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين، قال إنّ فيها لوطاً قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} (العنكبوت، 31، 32) قال ابن جريج: وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، ولو كانت هذه المجادلة مذمومة لما مدحه بقوله تعالى: {إنّ إبراهيم لحليم} ، أي: لا يتعجل مكافأة غيره بل يتأنى فيها فيؤخر أو يعفو. ومن هذا حاله يحب من غيره هذه الطريقة، وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم، ثم ضم إلى ذلك ما يتعلق بالحلم وهو قوله تعالى: {أوّاه} ، أي: كثير التأوّه من الذنوب والتأسف على الناس. {منيب} ، أي: رجاع فلما أطال مجادلتهم قالوا له: {يا إبراهيم أعرض عن هذا} ، أي: الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك فلا فائدة فيه: {إنه قد جاء أمر ربك} ، أي: قضاؤه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} ، أي: لا سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 إلى دفعه وردّه. {س11ش77/ش83 وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى?ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَآءَهُ? قَوْمُهُ? يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا? يَعْمَلُونَ السَّيِّـ?َاتِ? قَالَ يَاقَوْمِ هَا?ؤُ?ءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ? فَاتَّقُوا? اللَّهَ وَتُخْزُونِ فِى ضَيْفِى?? أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُوا? لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْءَاوِى? إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا? يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُو?ا? إِلَيْكَ? فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَيَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِs امْرَأَتَكَ? إِنَّهُ? مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ? إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ? أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ? وَمَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} {ولما جاءت رسلنا لوطاً} ، أي: هؤلاء الملائكة الذين بشروا إبراهيم بالولد. قال ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وهو ابن أخي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله تعالى {سيء بهم} ، أي: حزن بسببهم {وضاق بهم ذرعاً} ، أي: صدراً، يقال: ضاق ذرع فلان بكذا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه. وذلك أنّ لوطاً نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل: ساءه ذلك لأنه؛ عرف بالآخرة أنهم ملائكة الله تعالى وأنهم جاؤوا لإهلاك قومه، فَرَقَّ قلبه على قومه {وقال هذا يوم عصيب} ، أي: شديد كأنه قد عصب به الشرّ والبلاء، أي: شد به مأخوذ من العصابة التي تشد بها الرأس، قال قتادة: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطاً نصف النهار وهو في أرض له يعمل فيها، وروي أنه كان يحتطب وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فاستضافوه وانطلق بهم، فلما مضى ساعة قال لهم ما بلغكم من أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم قال: أشهد بالله أنها لشرّ قرية في الأرض عملاً يقول ذلك أربع مرّات. وروي أنّ الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت: إنّ في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط. {وجاءه قومه} لما علموا بهم {يهرعون} ، أي: يسرعون {إليه} قاله ابن عباس وقال الحسن: الإهراع المشي بين مشيين. {ومن قبل} ، أي: قبل مجيئهم إلى لوط وقيل من قبل مجيء الرسل إليهم {كانوا يعملون السيئات} ، أي: الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم. لوطٌ {قال} لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم {يا قوم هؤلاء بناتي} قال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد ببناته نساء قومه، وأضافهنّ إلى نفسه؛ لأنّ كل نبي هو أبو أمّته كالوالد لهم، أي: فتزوجوا منهنّ. وقيل: أراد بنات نفسه عرضهنّ عليهم بشرط الإسلام. وقيل: كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة يباح تزويج المرأة المسلمة بالكافر كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وهما كافران، وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوّجهما ابنتيه {هن أطهر لكم} ، أي: أنظف فعلاً. فإن قيل: أفعل التفضيل يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهراً ومعلوم أنه فاسد؛ لأنه لا طهارة في إتيان الرجال؟ أجيب: بأنّ هذا جارٍ مجرى قوله تعالى: {أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم} (الصافات، 62) ومعلوم أنّ شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله صلى الله عليه وسلم «لما قالوا يوم أحد: اعل هبل قال: الله أعلى وأجل» . ولا مماثلة بين الله تعالى والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة {فاتقوا الله} وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي {ولا تخزون} ، أي: تفضحوني {في ضيفي} ، أي: أضيافي {أليس منكم رجل رشيد} يهتدي إلى الحق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} ، أي: حاجة {وإنك لتعلم ما نريد} ، أي: من إتيان الذكور وما لنا فيه الشهوة فعند ذلك. {قال} ، أي: لوط عليه السلام {لو أنّ لي بكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 قوّة} ، أي: طاقة {أو آوي إلى ركن شديد} ، أي: عشيرة تنصرني شبهت بركن الجبل في شدّته، وعنه صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» ، والركن الشديد نصر الله ومعونته فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استغرب من لوط عليه السلام قوله: {أو آوي إلى ركن شديد} وعدّه نادرة إذ لا يمكن أشدّ من الركن الذي كان يأوي إليه، وجواب لو محذوف تقديره: لبطشت بكم أو لدفعتكم، روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب. {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} بسوء فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه، وله جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا، فضرب بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم كما قال تعالى: {فطمسنا أعينهم} (القمر، 37) فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإنّ في بيت لوط قوماً سحرة. تنبيه: لن يصلوا إليك جملة موضحة للتي قبلها؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه، ولن يقدروا على ضرره، ثم قالوا له: {فأسر بأهلك بقطع} ، أي: طائفة {من الليل} وقرأ نافع وابن كثير بعد الفاء بهمزة وصل من السرى والباقون بهمزة قطع من الإسراء. {ولا يلتفت منكم أحد} ، أي: لا ينظر إلى ورائه لئلا يرى عظيم ما نزل بهم. وقوله: {إلا امرأتك} قرأه ابن كثير وأبو عمرو برفع التاء على أنه بدل من أحد، والباقون بالنصب على أنه استثناء من الأهل، أي: فلا تسر بها {إنه مصيبها ما أصابهم} فلم يخرج بها، وقيل: خرجت والتفتت فقالت: واقوماه فجاءها حجر فقتلها. روي أنه قال لهم: متى موعد هلاكهم فقالوا له: {إنّ موعدهم الصبح} قال: أريد أسرع من ذلك فقالوا: {أليس الصبح بقريب} ، أي: فأسرع الخروج بمن أمرت بهم. {فلما جاء أمرنا} ، أي: عذابنا بهلاكهم {جعلنا عاليها} ، أي: قراهم {سافلها} روي أنّ جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات المذكورة في سورة براءة، وكانت خمس مدائن، وفيها أربعمائة ألف، وقيل: أربعة آلاف، ألف فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الحمير ونباح الكلاب، لم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم، ثم أسقطها مقلوبة إلى الأرض. {وأمطرنا عليها} ، أي: المدن بعد قلبها، وقيل: على شُذّاذها وهو بضمّ الشين المعجمة وبذالين معجمتين أولاهما مشدّدة وهم الذين ليسوا من أهلها يكونون في القوم وليسوا منهم {حجارة من سجيل} ، أي: من طين طبخ بالنار كما قال تعالى في موضع آخر {من طين} وقيل مثل السجل وهو الدلو العظيمة. {منضود} ، أي: متتابع يتبع بعضها بعضاً. {مسوّمة} ، أي: معلمة عليها اسم من يرمى بها. وقال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانئ، وهي حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال الحسن: عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج: كان عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض، وقوله تعالى: {عند ربك} ظرف لها {وما هي} ، أي: تلك الحجارة {من الظالمين} ، أي: مشركي مكة {ببعيد} ، أي: بشيء بعيداً وبمكان بعيد؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا وقعت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمي، فكأنها بمكان قريب منه، وفيه وعيد لهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سأل جبريل؟ فقال: يعني ظالمي مكة ما من ظالم منهم إلا وهو يعرض عليه حجر فيسقط عليه من ساعة إلى ساعة» وقيل الضمير للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكة يمرّون عليها في مسيرهم. القصة السادسة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة شعيب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وإلى مدين} ، أي: وأرسلنا إلى مدين وهم قبيلة؛ أبوهم مدين بن إبراهيم عليه السلام. وقيل: هو اسم مدينة بناها مدين المذكور، وعلى هذا فالتقدير: وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، {أخاهم} ، أي: في النسب لا في الدين و {شعيباً} عطف بيان وكأنّ قائلاً قال: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} ما قال إخوته من الأنبياء في البداءة بأصل الدين. {يا قوم} مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة {اعبدوا الله} ، أي: وحدوه ولا تشركوا به شيئاً {ما لكم من إله غيره} فلقد اتفقت كما ترى كلمتهم، واتحدت إلى الله تعالى دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم، وتنائي ديارهم، وإن بعضهم لم يلمّ بالعلوم، ولا عرف أخبار الناس إلا من الحيّ القيوم، ولما دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين الله تعالى دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا اتخذوه بعد الشرك تديناً فقال: {ولا تنقصوا} بوجه من الوجوه {المكيال والميزان} ، أي: لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته، والكيل تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة، والوزن تعديله في الخفة والثقل، فالكيل العدل في الكمية والوزن العدل في الكيفية، ثم علل ذلك بقوله: {إني أراكم بخير} ، أي: بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف. قال ابن عباس: كانوا موسرين في نعمة. وقال مجاهد: كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة إن لم يؤمنوا ويتوبوا وهو قوله: {وإني أخاف عليكم} إن لم تؤمنوا {عذاب يوم محيط} ، أي: يحيط بكم فيهلككم جميعاً وهو عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، ومنه قوله تعالى: {وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين} () والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور، كقوله: {هذا يوم عصيب} (هود، 77) . { ويا قوم أوفوا} ، أي: أتموا اتماماً حسناً {المكيال والميزان} ، أي: الكيل والوزن وآلتهما. فإن قيل: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله تعالى {أوفوا} ؟ أجيب: بأنهم نهوا أوّلاً عن القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان؛ لأنّ في التصريح بالقبيح نفياً عن المنهي وتغييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه وجيء به مقيداً. {بالقسط} ، أي: ليكون الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان أمراً بما هو الواجب؛ لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه غير المأمور به، وقد يكون محظوراً كما في الربا وقوله تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره، فإنهم كانوا يأخذون من كل شيء يباع كما تفعل السماسرة وكانوا، يمسكون الناس، وكانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك، فظهر بهذا البيان أنّ هذه الأشياء غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة. والحاصل: أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النقصان في المكيال والميزان، وفي الثانية: أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 بإعطاء قدر الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة، ولهذا قال الفقهاء: إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من الرأس، فكأنه تعالى نهى أوّلاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة. وفي الثاني: أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج بالتعيين عن العهدة كما قيده بقوله تعالى {بالقسط} ، وفي الآية الثالثة نهى عن النقص في كل الأشياء وكذا قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} فإنّ العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد، ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها. وفائدتها: إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه السلام. {بقيت الله} قال ابن عباس: يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن {خير لكم} مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد: مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام {إن كنتم مؤمنين} ، أي: مصدّقين بما قلت لكم وأمرتكم به. فائدة: {بقيت} رسمت هنا بالتاء المجرورة وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون وقفوا عليها بالهاء. {وما أنا عليكم بحفيظ} أعلم جميع أعمالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً. ولما أمرهم شعيب عليه السلام بشيئين بالتوحيد وبترك البخس. {قالوا} له {يا شعيب} سموه باسمه استخفافاً وغلظة وأنكروا عليه متهزئين به {أصلواتك تأمرك} ، أي: تفعل معك فعل من يأمر دائماً بتكليفنا {أن نترك ما يعبد} ، أي: على سبيل المواظبة {آباؤنا} من الأصنام، فحذف الذي هو التكليف؛ لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره، قالوا له ذلك في جواب أمره لهم بالتوحيد {أو} نترك {أن نفعل} ، أي: دائماً {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدراهم والدنانير وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، قالوا ذلك في جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء، وإنما أضافوا ذلك إلى صلاته تهكماً واستهزاء بها وإشعاراً بأن مثل هذا لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه، وكان شعيب عليه الصلاة والسلام كثير الصلاة في الليل والنهار، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا. وقصدوا بقولهم أصلواتك تأمرك السخرية والهزء، كما أنك إذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فيقال له: هذا فائدة مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزء فكذا هنا. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: أصلاتك بالإفراد، والباقون بالجمع والتاء بالرفع في القراءتين، وغلظ ورش اللام في أصلواتك، وقولهم له: {إنك لأنت الحليم الرشيد} تهكم به، وقصدوا وصفه بضدّ ذلك كما يقال للبخيل الخسيس: لو رآك حاتم لسجد لك، وعللوا إنكار ما سمعوه منه واستبعدوه بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين من المبادرة إلى مثل ذلك، ثم أخرج قوله عليه الصلاة والسلام على تقدير سؤال بقوله: {قال يا قوم} مستعطفاً لهم لما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على أحسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض؛ والتقدير: ليكون أدعى إلى سبيل الوفاق والإنصاف {أرأيتم} ، أي: أخبروني {إن كنت على بينة} ، أي: برهان {من ربي} وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله: {ورزقني} والضمير في {منه} لله تعالى، أي: من عنده بإعانته بلا كدّ مني في تحصيله. وعظم الرزق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بقوله: {رزقاً حسناً} جليلاً ومالاً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، وجواب الشرط محذوف، أي: فهل يسوغ مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه فأخالفه في أمره ونهيه، وهذا اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء {وما أريد أن أخالفكم} ، أي: وأذهب {إلى ما أنهاكم عنه} فأرتكبه {إن} ، أي: ما {أريد} ، أي: فيما آمركم به وأنهاكم عنه {إلا الإصلاح} ، أي: ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر {ما استطعت} ، أي: وهو الإبلاغ والإنذار فقط، ولا استطيع إجباركم على الطاعة؛ لأنّ ذلك إلى الله تعالى فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء {وما توفيقي} ، أي: لإصابة الحق والصواب {إلا بالله} ، أي: إلا بمعونته وتأييده {عليه} لا على غيره {توكلت} ، أي: اعتمدت في جميع أموري، فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز، وهذه الصيغة تفيد الحصر فلا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب المبدأ وأمّا قوله: {وإليه أنيب} ففيه إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر؛ لأنّ قوله وإليه أنيب يدل على أنه لا مآب للخلق إلا إلى الله تعالى، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيباً قال: «خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه. {ويا قوم لا يجرمنكم} ، أي: لا يكسبنكم {شقاقي} ، أي: خلافي وهو فاعل بيجرم، والضمير مفعول أوّل، والمفعول الثاني {أن يصيبكم} عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة. قال في «الكشاف» : جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين، تقول: جرم ذنباً وكسبه وجرمته ذنباً وكسبته إياه. ومنه قوله تعالى {لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم} . {مثل ما أصاب قوم نوح} من الغرق {أو قوم هود} من الريح العقيم {أو قوم صالح} من الرجفة {وما قوم لوط منكم ببعيد} لا في الزمان ولا في المكان؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وكانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم، فإن القرب في الزمان والمكان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال، فكأنه يقول: اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب. فإن قيل: لِمَ قال ببعيد ولم يقل ببعيدين؟ أجيب: بأنّ التقدير: وما إهلاكهم بشيء بعيد، وأيضاً يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودهما على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما انتهى. {واستغفروا ربكم} ، أي: آمنوا به {ثم توبوا إليه} عن عبادة غيره؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك. {إن ربي رحيم} ، أي: عظيم الرحمة للتائبين {ودود} ، أي: محب لهم. ولما بلغ عليه السلام في التقرير والبيان أجابوه بأنواع فاسدة. الأوّل: {قالوا} له {يا شعيب ما نفقه} ، أي: ما نفهم {كثيراً مما تقول} . فإن قيل: إنه كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا {ما نفقه} ؟ أجيب: بأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عن كلامه وهو قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} أو أنهم فهموه ولكنهم ما أقاموا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول. النوع الثاني: قولهم له: {وإنا لنراك فينا ضعيفاً} ، أي: لا قوّة لك فتمتنع منا إن أردناك بسوء أو ذليلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 لا عز لك، وقيل: أعمى بلغة حمير، قاله قتادة، وفي هذا تجويز العمي على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل، وقيل: ضعيف البصر، قاله الحسن. النوع الثالث: قولهم له: {ولولا رهطك} ، أي: عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم {لرجمناك} بالحجارة حتى تموت، والرهط من الثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى السبعة، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه. النوع الرابع: قولهم له: {وما أنت علينا بعزيز} ، أي: لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، ولما خوّف الكفار شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان: الأوّل: {قال} لهم {يا قوم} مستعطفاً لهم مع غلظتهم عليه {أرهطي أعز عليكم من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى {واتخذتموه وراءكم ظهرياً} ، أي: جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة لرسوله. قال في «الكشاف» : والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس أمسيّ بكسر الهمزة، وقوله: {إنّ ربي بما تعملون محيط} ، أي: إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها. النوع الثاني: قوله: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله، والمعنى: اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ، {إني} أيضاً {عامل} بما آتاني الله من القدرة والطاعة {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب} فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل: لم لم يقل فسوف تعلمون؟ أجيب: بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جواباً عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني، تقديره أنه لما قال: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل} فكأنهم قالوا: فماذا يكون بعد ذلك فقال: سوف تعلمون، فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل؛ لأنه استئناف. {وارتقبوا} ، أي: انتظروا عاقبة أمركم {إني معكم رقيب} ، أي: منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم، بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. {ولما جاء أمرنا} بعذابهم وإهلاكهم {نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة} ، أي: بفضل {منا} بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل: لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء؟ أجيب: بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى: {وعد غير مكذوب} وقوله: {إنّ موعدهم الصبح} فلذلك جاءا بفاء السببية. {أخذت الذين ظلموا} ، أي: ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس. {الصيحة} ، أي: صيحة جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعاً، وقيل: أتتهم صيحة من السماء {فأصبحوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 في ديارهم جاثمين} ، أي: باركين على الركب ميتين. {كأن لم يغنوا} ، أي: كأنهم لم يقيموا {فيها} ، أي: ديارهم مدّة من الدهر، مأخوذ من قولهم: غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنياً به عن غيره {ألا بعداً} ، أي: هلاكاً {لمدين كما بعدت ثمود} إنما شبههم بهم؛ لأنّ عذابهم كان أيضاً بالصيحة لكن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم، قال ابن عباس: لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب إلا قوم شعيب وقوم صالح؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأمّا قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم. القصة السابعة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر قصصها قصة موسى عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} أي: التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام {وسلطان مبين} أي: برهان بيّن ظاهر على صدق نبوّته ورسالته وقيل: المراد بالآيات المعجزات وبالسلطان المبين العصا؛ لأنها أظهر الآيات، وذلك لأنّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والسنين، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والسنين بإظلال الجبل وفلق البحر. قال بعض المحققين: سميت الحجة سلطاناً لأنّ صاحب الحجة يقهر من لا حجة له، كالسلطان يقهر غيره، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوّة العلمية، والملوك سلاطين بحسب ما معهم من القدرة والمكنة إلا ان سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك؛ لأنّ سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأنّ سلطنة الملوك تابعة لسلطنة؛ العلماء لأنّ سلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة. {إلى فرعون} طاغية القبط {وملئه} ، أي: أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب؛ لأنّ القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل {فاتبعوا أمر فرعون} ، أي: اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات الظاهرة الباهرة لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم {وما أمر فرعون برشيد} ، أي: بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير وقيل: رشيد ذو رشد، وانسلاخ فرعون من الرشد كان ظاهراً؛ لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول: لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم، وكل الرشد في عبادة الله تعالى ومعرفته، فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً من الرشد بالكلية. {يقدم قومه يوم القيامة} إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال أو كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم البحر وأغرقهم فكذا يتقدمهم في القيامة فيدخلهم النار كما قال تعالى: {فأوردهم النار} . فإن قيل: لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل أتى بلفظ الماضي؟ أجيب: بأنه إنما أتى بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، ونزل النار له منزلة الماء فسمّى إتيانها مورداً، ولهذا قال تعالى: {وبئس الورد المورود} وردهم لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضدّه. فإن قيل: لفظ النار مؤنث فكان مقتضى ذلك أن يقال: وبئست الورد المورود؟ أجيب: بأن لفظ الورد مذكر فكان التذكير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 والتأنيث جائزين كما تقول: نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار. {وأتبعوا في هذه} ، أي: الدنيا {لعنة} ، أي: طرداً وبعداً عن الرحمة {ويوم القيامة} ، أي: وأتبعوا يوم القيامة لعنة أخرى فهم ملعونون في الدنيا والآخرة، ونظيره قوله تعالى في سورة القصص: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} (القصص، 42) . {بئس الرفد} ، أي: العون {المرفود} رفدهم، سأل رافع بن الأزرق ابن عباس عن ذلك فقال: هو اللعنة بعد اللعنة. وقال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة، وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به، وسميت اللعنة عوناً؛ لأنها إذا أتبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن الرحمة وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال. وسميت رفداً أي عوناً لهذا المعنى على التهكم كقول القائل: تحية بينهم ضرب وجيع. وسميت معاناً لأنها أردفت في الآخرة بلغة أخرى ليكونا هاديتين إلى طريق الجحيم. ولما ذكر تعالى قصص الأوّلين قال تعالى: {ذلك} ، أي: المذكور وهو مبتدأ خبره {من أنباء القرى} ، أي: أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة في القرون الماضية، وقوله تعالى: {نقصه عليك} ، أي: نخبرك به يا محمد خبراً بعد خبر، وفائدة ذكر هذه القصص على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعلم السامع أنّ المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، وأنّ الكافر يخرج مع اللعنة في الدنيا والعقاب في الآخرة، وإذا تكرّرت هذه الأقاصيص على السمع فلا بدّ وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال. وفي أخباره صلى الله عليه وسلم بهذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تتملذ دلالة على نبوّته فإنّ ذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى {منها} ، أي: القرى {قائم} ، أي: باقٍ كالزرع القائم هلك أهله دونه {و} منها {حصيد} ، أي: عافى الأثر كالزرع المحصود هلك مع أهله. {وما ظلمناهم} ، أي: بإهلاكهم بغير ذنب {ولكن ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعاصي. وقال ابن عباس: يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى {فما أغنت} ، أي: دفعت {عنهم آلهتهم} ، أي: أصنامهم {التي يدعون} ، أي: يعبدون {من دون الله} ، أي: غيره {من شيء} أي شيئاً فمن مزيدة {لما جاء أمر ربك} ، أي: عقابه {وما زادوهم} بعبادتهم {غير تتبيب} ، أي: غير تخسير، وقيل: تدمير، ولما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بما فعله بأمم من تقدّم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما خالفوا الرسل وما ورد عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا. قال تعالى بعده: {وكذلك} ، أي: ومثل ذلك الأخذ العظيم {أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي} ، أي: القرى {ظالمة} والمراد أهلها ونظيره قوله تعالى: {وكما أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} (القصص، 58) وقوله تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} (الأنبياء، 12) فبين تعالى أنّ عذابه ليس مقصوراً على من تقدّم، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك. ولما بيّن تعالى كيفية أخذ الأمم المتقدّمة، ثم بين تعالى أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيداً وتقوية بقوله تعالى: {إنّ أخذه أليم} ، أي: مؤلم {شديد} ، أي: صعب مفتت القوى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» . ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد} » وفي هذه الآية الكريمة والحديث الشريف دلالة على أن من أقدم على ظلم فإنه يتداركه بالتوبة والإنابة وردّ الحقوق إلى أهلها، إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد، ولا يظنّ أنّ هذه الآية مختصة بظالمي الأمم الماضية بل هي عامّة في كل ظالم ويعضده الحديث. {إنّ في ذلك} ، أي: ما ذكر من عذاب الأمم الماضية وإهلاكهم {لآية} ، أي: لعبرة وموعظة {لمن خاف عذاب} يوم الحياة {الآخرة} لأنه ينظر ما أحلّ الله تعالى بالمجرمين في الدنيا وما هو إلا أنموذج لما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى، وقوله: {ذلك} إشارة إلى يوم القيامة؛ لأنّ عذاب الآخرة دل عليه {يوم مجموع له} ، أي: فيه {الناس} ، أي: إنّ خلق الأوّلين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون، ثم وصفه تعالى بوصف آخر بقوله تعالى: {وذلك يوم مشهود} ، أي: يشهده أهل السموات وأهل الأرض. {وما نؤخره} ، أي: ذلك اليوم وهو يوم القيامة {إلا لأجل} ، أي: وقت {معدود} ، أي: معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه إلا الله تعالى. {يوم يأت} ذلك اليوم {لا تكلم} فيه حذف إحدى التاءين، أي: لا تتكلم {نفس إلا بإذنه} تعالى. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء بعد التاء من يأتي وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون، وأمّا التاء من تكلم فشدّدها البزي في الوصل وخففها الباقون. فإن قيل: كيف يوفق بين قوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل، 111) وقوله تعالى: {هذا يوم ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} ؟ أجيب: بأنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام ولا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم {فمنهم} ، أي: الناس {شقيّ و} منهم {سعيد} ، أي: فمنهم من سبقت له الشقاوة فوجبت له النار بمقتضى الوعيد، ومنهم من سبقت له السعادة فوجبت له الجنة بموجب الوعد، وعن عليَ رضي الله تعالى عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال: «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فأمّا من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى} (الليل، 5، 6، 7) الآية» . وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم فيه، والمخصرة كالسوط والعصا مما يمسكه الإنسان بيده، والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد أو نحو ذلك حتى يؤثر فيه. {فأمّا الذين شقوا} في علمه تعالى {ففي النار لهم فيها زفير} وهو صوت شديد {وشهيق} وهو صوت ضعيف. وقيل: الزفير إخراج النفس والشهيق ردّه. وقيل: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار إذا ردّده في صدره. وقيل: الزفير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 في الحلق والشهيق في الصدر، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم {خالدين فيها} وقوله تعالى: {ما دامت السموات والأرض} فيه وجهان: أحدهما: سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} (إبراهيم، 48) . وقوله تعالى: {وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء} (الزمر، 74) ، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني: أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا {إلاّ} ، أي: غير {ما شاء ربك} من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبداً {إن ربك فعال لما يريد} من غير اعتراض. {وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} كما تقدّم، ودل عليه قوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ} ، أي: مقطوع، وقيل الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء، وذلك كافٍ في صحة الاستثناء؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء،. لما روي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بالشفاعة» ، وفي رواية: «أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليصيبن قوماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة» وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد» ، أي: من أهل الكبائر من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى: {فمنهم شقيّ وسعيد} تقسيماً صحيحاً؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي، أو مانع من الجميع من الجنة والنار، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة وقوفهم للحساب، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار. وقيل: معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء؛ لأنه تعالى حكم بالخلود. وقال الفراء: هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه. وقال أهل المعاني: هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون: لا آتيك ما دامت السموات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبداً. وقيل: إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر} (التوبة، 72) . وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها، وعطاء نصب على المصدر المؤكد، أي: أعطوا عطاء، أو الحال من الجنة، ولما شرح الله تعالى أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه فقال: {فلا تك} يا محمد {في مرية} ، أي: شك {مما يعبد هؤلاء} المشركون من الأصنام أننا نعذبهم كما عذبنا من قبلهم، وهذه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم {ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم} ، أي: كعبادتهم {من قبل} وقد عذبناهم {وإنا لموفوهم} مثلهم {نصيبهم} ، أي: حظهم من العذاب {غير منقوص} ، أي: كاملاً غير ناقص. ولما ذكر تعالى في هذه الآية إعراضهم عن الاتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب سلاه بأخيه موسى عليه السلام بقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} ، أي: التوراة الجامعة للخير {فاختلف فيه} ، أي: الكتاب، فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة {لقضي} ، أي: لوقع القضاء {بينهم} ، أي: بين من اختلف في كتاب موسى في الدنيا فيما اختلفوا فيه بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به المحق، ولكن سبقت الكلمة أنّ القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} (يونس، 93) الآية ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين تعالى أنه به؛ لأنّ كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك فقال تعالى مؤكداً: {وإنهم لفي شك} ، أي: عظيم محيط بهم {منه} ، أي: من الكتاب والقضاء {مريب} ، أي: موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله تعالى ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من خوارق الأحوال. وقيل: الضمير في وإنهم راجع لكفار مكة وفي منه للقرآن {وإن كلا} ، أي: كل الخلائق، وقوله تعالى {لما} ما زائدة واللام موطئة لقسم مقدّر تقديره والله {ليوفينهم ربك أعمالهم} فيجازي المصدّق على تصديقه الجنة، ويجازى المكذب على تكذيبه النار. وقرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف وإن والباقون بالتشديد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ميم لما والباقون بالتخفيف. فائدة: قال بعض الفضلاء أنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات: أوّلها: كلمة إن وهي للتأكيد، وثانيها: لفظة كل وهي أم الباب في التأكيد. وثالثها: اللام الداخلة على خبر إن تفيد التأكيد أيضاً. ورابعها: حرف ما إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً. وخامسها: المضمر. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها: النون المذكورة في قوله تعالى {ليوّفينّهم} فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدلّ على أنّ أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 تعالى: {إنه بما يعملون خبير} وهو من أعظم المؤكدات فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ففيه وعد للمحسنين ووعيد للمكذبين الكافرين. ولما بين تعالى أمر الوعد والوعيد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فاستقم} ، أي: على دين ربك والعمل والدعاء إليه {كما أمرت} والأمر في ذلك للتأكيد فإنّه صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها، فهو كقولك للقائم: قم حتى آتيك، أي: دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك، وتوطيئة لقوله تعالى: {ومن تاب معك} ، أي: وليستقم أيضاً على دين الله والعمل بطاعته من آمن معك. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى شدّة الاستقامة بقوله: «شيبتني هود وأخواتها» ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم آية أشدّ ولا أشق من هذه الآية، وعن بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يروى عنك أنك قلت: «شيبتني هود» فقال: نعم. فقلت: بأيّ آية قال: «قوله تعالى {فاستقم كما أمرت} . وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد غيرك؟ قال: «قل آمنت بالله ورسوله ثم استقم» . قال الإمام الرازي: إن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة، وذلك لأنّ القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به انتهى. ولما كانت الاستقامة هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط نهى عن الإفراط بقوله تعالى: {ولا تطغوا} ، أي: لا تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب أنفسكم لا لحاجته إلى ذلك، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره والدين متين لم يشادّه أحد إلا غلبه، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» ، فقوله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدين يسر ضدّ العسر أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد فإنّ هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى. وقوله وسدّدوا، أي: اقصدوا السداد في الأمور وهو الصواب وقاربوا، أي: اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلوّ فيه ولا تقصير، والغدوة الرواح بكرة، والرواح الرجوع عشاء. والمراد منه: اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضاً. وقوله: واستعينوا بشيء من الدلجة إشارة إلى تقليله، ولما نهى تعالى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً أفهم النهي عن التفريط وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب أولى، ثم علل ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرّط منزلة المنكر فقال: {إنه بما تعملون بصير} ، أي: عالم بأعمالكم كلها لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها. {ولا تركنوا} ، أي: تميلوا {إلى الذين ظلموا} أدنى ميل {فتمسكم النار} ، أي: تصيبكم بحرها والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراقبتهم والرضا بأعمالهم والتشبيه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى: {ولا تركنوا} فإنّ الركون هو الميل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 اليسير. وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله سبحانه وتعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران، 187) واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغيّ بدونك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً، حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم وجسراً يعبرون عليك إلى ملاذهم وسلّماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما أعمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً} (مريم، 59) فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فداوِ دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام. وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً، أي: من الظلمة. وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. قال صلى الله عليه وسلم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه» . ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء فقال: لا فقيل له: يموت، فقال: دعه يموت. وقوله تعالى: {وما لكم من دون الله من أولياء} ، أي: أعواناً وأنصاراً يمنعوكم من عذابه حال من قوله: {فتمسكم النار} ، أي: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة {ثم لا تنصرون} ، أي: لا تجدون من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله في القيامة. ففي هذه الآية وعيد لمن ركن إلى الظلمة بأن تمسه النار فكيف يكون حال الظالم في نفسه. ولما أمر تعالى بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة بقوله تعالى: {وأقم الصلاة} وذلك يدلّ على أنّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى هو الصلاة وقوله تعالى: {طرفي النهار} الغداة والعشي، أي: الصبح والظهر والعصر. وقوله تعالى: {وزلفاً} جمع زلفةً، أي: طائفة {من الليل} ، أي: المغرب والعشاء {إنّ الحسنات} كالصلوات الخمس {يذهبن} ، أي: يكفرن {السيئات} ، أي: الذنوب الصغائر، لما رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر» ، وزاد في رواية أخرى: «ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر» ، وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات ما تقولون هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يارسول الله، لا يبقى من درنه شيء.u فقال: ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا» . وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات» . وعن الحسن أنّ الحسنات قول العبد: سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمر وقال: أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعث فقالت: بعني بدرهم تمراً. قال: فأعجبتني فقلت: إنّ في البيت تمراً هو أطيب من هذا فالحقيني، فَدَخَلَتْ معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت عمراً فذكرت له ذلك فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «أخنت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحي إليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} إلى قوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين} ، أي: عظة للمتقين. قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامّة؟ قال: «بل للناس عامّة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل: يا رسول الله، ألهذا خاصة؟ فقال: «بل للناس كافة» . وعن معاذ بن جبل قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي، فقال معاذ بن جبل فقلت: يا رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة؟ قال: «بل للمؤمنين عامّة» . قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط: الأوّل: الإقلاع عن الذنب بالكلية، الثاني: الندم على فعله، الثالث: العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى {ذلك ذكرى} إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} إلى ههنا. وقيل: هو إشارة إلى القرآن. وقوله تعالى: {واصبر} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: واصبر يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة وهو قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهافإن الله لا يضيع أجر المحسنين} ، أي: أجر أعمالهم. وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أنّ الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص. ولما بيّن تعالى أنّ الأمم المتقدّمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أنّ السبب فيه أمران، السبب الأوّل: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى: {فلولا} ، أي: فهلا {كان من القرون} ، أي: من الأمم الماضية {من قبلكم أولو بقية} ، أي: أصحاب رأي وخير وفضل {ينهون عن الفساد في الأرض} وسمي الفضل والجود بقية؛ لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل، ويقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم وبه فسر بيت الحماسة: *إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه. فائدة: حكي عن الخليل أنه قال: كل ما في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات. قال صاحب «الكشاف» : وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات {لولا أن تداركه نعمة من ربه} (القلم، 49) ، {ولولا رجال مؤمنون} (الفتح، 25) ، {ولولا أن ثبتناك} (الإسراء، 74) انتهى. وقوله تعالى: {إلا قليلاً ممن أنجينا منهم} استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. السبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله تعالى: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} ، أي: ما نعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك {وكانوا مجرمين} ، أي: كافرين. تنبيه: قوله تعالى: (واتبع الذين ظلموا) إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر؛ لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، وأتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه واتبعوا جزاء الاتراف فالواو للحال فكأنه قيل: أنجينا القليل وقد أتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقوله تعالى: {وكانوا مجرمين} عطف على أترفوا، أي: اتبعوا الاتراف، وكونهم مجرمين؛ لأنّ تابع الشهوات مغمور بالآثام أو على اتبعوا، أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ثم بيّن تعالى أنه ما أهلك أهل القرى بظلم بقوله تعالى: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم} ، أي: بشرك {وأهلها مصلحون} فيما بينهم، والمعنى: أنه لا يهلك أهل القرى بمجردّ كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، والحال أنّ عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين الشرك بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم، ولهذا قيل: إنّ حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة، وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، وإنما نزل على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة} ، أي: أهل ملة واحدة وهي الإسلام كقوله تعالى {إنّ هذه أمتكم أمة واحدة} وفي هذه الآية دليل على أنّ الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه. والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار، ولهذا قال الزمخشري: يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة {ولا يزالون مختلفين} ، أي: على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم، فكل أهل دين من هذه الأديان اختلفوا في دينهم أيضاً اختلافاً كثيراً لا ينضبط. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة» وفي رواية «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة فثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة» . والمراد بهذه الفرق: أهل البدع والأهواء كالقدرية والمعتزلة والرافضة. والمراد بالواحدة: هي ملة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله. فإن قيل: ما الدليل على أنّ الاختلاف في الأديان فلم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال؟ أجيب: بأنّ الدليل عليه ما قبل هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الآية وهو قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة} (هود، 118) فيجب حمل الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمّة واحدة وما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى: {إلا من رحم ربك} ، أي: أراد لهم الخير فلا يختلفون فيه، فيجب حمل الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه ذلك، وفي هذه الآية دلالة على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى؛ لأنّ تلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر، فإنّ كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرحمة هو أنه سبحانه وتعالى خلق فيهم تلك الهداية والمعرفة {ولذلك خلقهم} ، أي: خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وخلق أهل الرحمة للرحمة. روي عن ابن عباس أنه قال: خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، والحاصل: أنّ الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين، فحكم على بعضهم بالاختلاف وهم أهل الباطل ومصيرهم إلى النار، وحكم على بعضهم بالاتفاق وهم أهل الحق ومصيرهم إلى الجنة، ويدل لذلك قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك} وهي {لأملأنّ جهنم من الجنة} ، أي: الجنّ {والناس أجمعين} وهذا صريح بأنّ الله تعالى خلق أقواماً للجنة والرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة، وخلق أقواماً للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية، ولما ذكر تعالى القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر نوعين من الفائدة أوّلهما تثبيت الفؤاد بقوله تعالى: { وكلاً} ، أي: وكل نبأ {نقص عليك} وقوله تعالى: {من أنباء الرسل} ، أي: نخبرك به بيان لكل. وقوله تعالى: {ما نثبت به فؤادك} بدل من كلاً، ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك لأنّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، وإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص وعلم أنّ حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه. الفائدة الثانية: قوله تعالى: {وجاءك في هذه الحق} ، أي: في السورة وعليه الأكثر، أو في هذه الأنباء المقتصة فيها. وقال الحسن: في هذه الدنيا. قال الرازي: وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع؛ لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير لها. فإن قيل: قد جاءه الحق في غير هذه السورة بل القرآن كله حق وصدق؟ أجيب: بأنه إنما خصها بالذكر تشريفاً لها {وموعظة وذكرى للمؤمنين} وخصهم بالذكر لانتفاعهم بذلك بخلاف الكفار، فذكر تعالى أموراً ثلاثة: الحق والموعظة والذكرى، أمّا الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد، وأمّا الموعظة فهي إشارة إلى السفر عن الدنيا وتقبيح أحوالها، وأمّا الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال النافذة الصالحة في الدار الآخرة، ولما بلغ تعالى الغاية والإنذار والإعذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال لرسوله صلى الله عليه وسلم {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم} ، أي: حالتكم، وفيه وعيد وتهديد، وإن كانت صيغته صيغة الأمر فهو كقوله تعالى لإبليس: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ورجلك} (الإسراء، 64) وقرأ شعبة بعد النون بألف على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد {إنا عاملون} ، أي: على حالتنا التي أمرنا بها ربنا {وانتظروا} ، أي: ما يعدكم الشيطان به من الخذلان {إنا منتظرون} ، أي: ما يحل بكم من نقم الله تعالى وعذابه نحو ما نزل على أمثالكم، وقيل: إنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان، ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدّسة فقال: {ولله غيب السموات والأرض} ، أي: علم ما غاب فيهما فعلمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع مخلوقاته خفيها وجليها {وإليه} أي لا إلى غيره {يرجع الأمر كله} ، أي: إليه يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول، والباقون بفتح الياء وكسر الجيم. ولما كان أوّل درجات السير إلى الله تعالى عبوديته وآخرها التوكل عليه قال تعالى: {فاعبده} ولا تشتغل بعبادة غيره {وتوكل عليه} ، أي: ثق به في جميع أمورك فإنه كافيك {وما ربك بغافل عما تعملون} فيحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه شيء منها فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة. فائدة: قال كعب الأحبار خاتمة التوراة خاتمة سورة هود. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء» حديث موضوع. سورة يوسف عليه السلام مكية كلها مائة وإحدى عشرة آية وعدد كلماتها ألف وتسعمائة وست وتسعون كلمة وعدد حروفها سبعة آلاف ومائة وستة وسبعون حرفاً. {بسم الله} الذي وسع كل شيء قدرة وعلماً {الرحمن} لجميع خلقه المبين لهم طريق الهدى {الرحيم} الذي خص حزبه بالإبعاد عن مواطن الردى وقوله تعالى: {الر} تقدّم الكلام على أوائل السور أوّل سورة البقرة، وقرأ ورش بالإمالة بين بين، وأبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح، واختلف في سبب نزول هذه السورة فعن سعيد بن جبير أنه قال: لما أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلوه على قومه فقالوا: يا رسول الله لوقصصت علينا، فنزلت هذه السورة، فتلاها عليهم فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} فقالوا: لو ذكرتنا فنزل: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} (الحديد 16) ، وعن ابن عباس أنه قال: سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدّثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فنزلت هذه السورة، وقوله تعالى: {تلك} إشارة إلى آيات هذه السورة، أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة بالر هي {آيات الكتاب} ، أي: القرآن {المبين} ، أي: المبين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام المظهر للحق من الباطل الذي ثبت فيه قصص الأوّلين والآخرين، وشرحت فيه أحوال المتقدّمين. {إنا أنزلناه} ، أي: الكتاب {قرآناً عربياً} ، أي: بلغة العرب لكي يعلموا معانيه ويفهموا ما فيه. روي أنّ علماء اليهود قالوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 لكبراء المشركين اسألوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن كيفية قصة يوسف، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر فيها أنه تعالى عبّر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها، والتقدير أنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف حال كونه قرآناً عربياً، وسمي بعض القرآن قرآناً؛ لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض {لعلكم} يا أهل مكة {تعقلون} ، أي: إرادة أن تفهموا أو تحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم {ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته} (يوسف، 44) . واختلف العلماء هل في القرآن شيء بغير العربية؟ فقال أبو عبيدة: من زعم أنّ في القرآن لساناً غير العربية فقد أعظم على الله القول واحتج بهذه الآية {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أنّ فيه من غير لسان العرب من سجيل ومشكاة وأليم وإستبرق، وجمع بعض المفسرين بين القولين بأنّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة وهو جمع حسن. {نحن نقص عليك أحسن القصص} ، أي: أحسن الاقتصاص؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، والقصص اتباع الخبر بعضه بعضاً، وأصله في اللغة من قص الأثر إذا اتبعه، وإنما سميت الحكاية قصة؛ لأنّ الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً، والمعنى: أنا نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان، أو قصة يوسف عليه السلام خاصة، وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والغلمان ومكر النساء والصبر على إيذاء الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك. قال خالد بن معدان في سورة يوسف ومريم: يتفكه فيهما أهل الجنة في الجنة. وقال ابن عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها {بما} ، أي: بسبب ما {أوحينا} ، أي: بإيحائنا {إليك} يا محمد {هذا القرآن} الذي قالوا فيه أنه مفترى، فنحن نتابع القصص القصة بعد القصة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر أنه من عند الله {وإن كنت من قبله} ، أي: إيحائنا إليك أو هذا القرآن {لمن الغافلين} ، أي: عن قصة يوسف وإخوته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما علم ذلك بالوحي، وقيل لمن الغافلين عن الدين والشريعة، وإن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وقوله تعالى: {إذ قال يوسف لأبيه} بدل من {أحسن القصص} أو منصوب بإضمار اذكر، ويوسف اسم عبري، وقيل: عربي، وردّ بأنه لو كان عربياً لصرف، وسئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال: الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، واجتمعا في يوسف فسمي به، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» وقوله {يا أبت} أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبها ابن كثير وابن عامر هاء في الوقف، ووقف الباقون بالتاء كالرسم، وفي الوصل بالتاء للجميع، وفتح التاء في الوصل ابن عامر، وكسرها الباقون {إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمسم والقمر} قال أهل التفسير: رأى يوسف عليه الصلاة والسلام في منامه، وكان ابن اثنتي عشرة، سنة، وقيل: سبع عشرة، وقيل: سبع سنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر كأنّ أحد عشر كوكباً نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر، فسجدوا له وفسروا الكواكب بإخوته، وكانوا أحد عشر يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم، والشمس والقمر بأبيه وأمّه بجعل الشمس للأمّ؛ لأنها مؤنثة والقمر للأب؛ لأنه مذكر. والذي رواه البيضاوي تبعاً «للكشاف» عن جابر من أنّ يهودياً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فأخبره بأسمائها فقال اليهودي:، أي: والله إنها لأسماؤها. قال ابن الجوزي: إنه موضوع، وقوله: {رأيتهم لي ساجدين} استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرار؛ لأنّ الرؤية الأولى تدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية تدل على أنه شاهد كونها ساجدة له. وقال بعضهم: إنه لما قال: إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر قيل له: كيف رأيت؟ قال: رأيتهم لي ساجدين. وقال آخرون: يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا، وهذا القائل لم يبين أنّ أيهما يحمل على الرؤية وأيهما يحمل على الرؤيا؟ قال الرازي: فذكر قولاً مجملاً غير مبين. فإن قيل: قوله: رأيتهم وقوله: ساجدين لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جاءت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات؟ أجيب: بأنها لما وصفت بالسجود صارت كأنها تعقل وأخبر عنها كما أخبر عمن يعقل كما قال تعالى في صفة الأصنام: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} (الأعراف، 198) وكما في قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل، 18) . فإن قيل: لم أفرد الشمس والقمر بالذكر مع أنهما من جملة الكواكب؟ أجيب: بأنه أفردهما لفضلهما وشرفهما على سائر الكواكب كقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98) وهل المراد بالسجود نفس السجود حقيقة أو التواضع؟ كلاهما محتمل، والأصل في الكلام حمله على الحقيقة قال أهل التفسير: إن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف عليه السلام فحسده إخوته لهذا السبب، وظهر وذلك ليعقوب فلما رأى يوسف هذه الرؤيا، وكان تأويلها أن أبويه وإخوته يخضعون له، وخاف عليه حسدهم وبغيهم. {قال} له أبوه {يا بنيّ} بصيغة التصغير للشفقة أو لصغر سنه على ما تقدّم، وقرأ حفص في الوصل بفتح الياء، والباقون بالكسر والتشديد للجميع {لا تقصص رؤياك على إخوتك} ، أي: لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها {فيكيدوا لك كيدا} ، أي: فيحتالوا في هلاكك. فإن قيل: لم لم يقل فيكيدوك كما قال فكيدوني؟ أجيب: بأنّ هذه اللام تأكيد للصلة كقوله: {للرؤيا تعبرون} (يوسف، 43) وكقوله: نصحتك ونصحت لك، وشكوتك وشكوت لك.I وقيل صلة كقوله: {لربهم يرهبون} (الأعراف، 154) . {إن الشيطان للإنسان عدوّ مبين} ، أي: ظاهر العداوة كمل فعل بآدم وحوّاء فلا يألو جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد، وعن أبي قتادة قال: كنت أرأى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحبه فلا يحدّث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به وليتفل عن يساره ثلاثاً وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشرّها فإنها لا تضرّه» وعن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضرّه» . وعن أبي رزين العقيلي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوّة، وهي على رجل طائر ما لم يحدّث بها فإذا حدّث بها سقطت» قال: وأحسبه قال: «ولا يحدّث بها إلا لبيباً أو حبيباً» وإنما أضيفت الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعاً من خلق الله تعالى وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيهما، ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها، فيستحب إذا رأى الشخص في منامه ما يحب أن يحدّث به من يحب، وإذا رأى ما يكره فلا يحدّث به وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من شرها، وليتفل ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الآخر فإنها لا تضرّه، فإنّ الله تعالى جعل هذه الأسباب سبباً لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سبباً لوقاية المال. قال الحكماء: إنّ الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين، قالوا: والسبب فيه أن رحمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل، وأمّا الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدّماً على ظهوره بزمن طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حضور ذلك الخير أكثر وأتم، ولهذا لم تظهر رؤيا يوسف عليه السلام إلا بعد أربعين سنة، وهو قول أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة حتى اجتمع على أبويه وإخوته وخروا له ساجدين. {وكذلك} ، أي: وكما اجتباك ربك للاطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكمال نفس {يجتبيك} ، أي: يختارك ويصطفيك {ربك} بالدرجات العالية واجتباء الله تخصيصه بفيض إلهي يحصل منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد، وذلك مخصوص بالأنبياء وبعض من يقاربهم من الصدّيقين والشهداء والصالحين وقوله: {ويعلمك} كلام مستأنف خارج عن التشبيه والتقدير وهو يعلمك {من} ، أي: بعض {تأويل الأحاديث} من تأويل الرؤيا وغيرها من كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدّمين، وكان يوسف عليه السلام في تعبير الرؤيا وغيرها غاية، والتأويل ما تؤل إليه عاقبة الأمر {ويتم نعمته عليك} بالنبوّة. قال ابن عباس: لأنّ منصب النبوّة، أي: ومع الرسالة أعلى من جميع المناصب، وكل الخلق دون درجة الأنبياء، فهذا من تمام النعمة عليهم؛ لأنّ جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة والنبوّة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوّة والرسالة، وقيل: يجتبيك بالنبوّة ويتم نعمته عليك بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة، أمّا سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد، وأمّا سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى {وعلى آل يعقوب} ، أي: أولاده وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، وتمام النعمة هو النبوّة والرسالة كما مرّ فلزم حصولها لآل يعقوب وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال: إني رأيت أحد عشر كوكباً وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضىء بعلمهم ودينهم أهل الأرض؛ لأنه لا شيء أضوأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 من الكواكب وبها يهتدي، وذلك يقتضي أن تكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً. فإن قيل: كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام؟ أجيب: بأنّ ذلك وقع منهم قبل النبوّة، والعصمة من المعاصي إنما تعتبر بعد النبوّة لا قبلها على خلاف فيه. {كما أتمها على أبويك} بالنبوّة والرسالة، وقيل: إتمام النعمة على إبراهيم عليه السلام خلاصه من النار واتخاذه خليلاً، وعلى إسحاق خلاصه من الذبح وفداؤه بذبح عظيم على قول أن إسحاق هو الذبيح. {من قبل} ، أي: من قبل هذا الزمان وقوله: {إبراهيم وإسحاق} عطف بيان لأبويك ثم إن يعقوب عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله: {إن ربك عليم} ، أي: بليغ العلم {حكيم} ، أي: بليغ الحكمة وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها. {لقد كان في} خبر {يوسف وإخوته} وهم أحد عشر؛ يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وزبلون قال البقاعي: بزاي وباء موحدة ويشجر وأمّهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب وولد له من سريتين إحداهما زلفى، والأخرى يلقم كذا قاله البغويّ. وقال الرازي: والأخرى بلهمة أربعة أولاد وأسماؤهم دان ونفتالى؛ قال البقاعي: بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقية ولام بعدها ياء، وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوّج بأختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وقيل: جمع بينهما ولم يكن الجمع محرماً حينئذٍ {آيات} ، أي: علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء {للسائلين} عن قصصهم. قال الرازيّ: ولمن لم يسأل عنها وهو كقوله تعالى: {في أربعة أيام سواء للسائلين} (فصلت، 10) وقيل: آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنّ اليهود سألوه عن قصة يوسف، وقيل: سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من أرض كنعان إلى أرض مصر فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة، فعجبوا منه فكان دلالة على نبوّته صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يجالس العلماء وأصحاب الأخبار، ولم يأخذ عنهم شيئاً، فدل ذلك على أنّ ما يأتي به وحي سماوي أوحاه الله تعالى إليه وعرفه به، وهذه السورة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم منها رؤيا يوسف عليه السلام وما حقق الله تعالى فيها من حسد إخوته وما آل إليه أمره من الملك، ومنها ما اشتمل على حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد، وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان اعتبر، وقرأ ابن كثير {آية} على التوحيد، والباقون على الجمع. {إذ} ، أي: واذكر إذ {قالوا} ، أي: بعض إخوة يوسف لبعض بعد أن بلغتهم الرؤيا وقالوا: ما يرضى أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه {ليوسف وأخوه} ، أي: بنيامين {أحب إلى أبينا منا} اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أردوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وخبر المبتدأ أحب ووحد؛ لأن أفعل يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرّف أو لم يضف، وقيل: اللام لام قسم تقديره والله ليوسف، وإنما قالوا: وأخوه وهم جميعاً إخوته؛ لأنّ أمّهما كانت واحدة، والواو في قولهم: {ونحن عصبة} واو الحال، أي: يفضلهما في المحبة علينا وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة أقوياء نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 والمنفعة عليهما، والعصبة والعصابة العشرة فما فوقها. وقيل: إلى الأربعين سموا بذلك؛ لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفى بهم النوائب {إنّ أبانا لفي ضلال} ، أي: خطأ {مبين} ، أي: بيّن في إيثاره حب يوسف وأخيه علينا والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد؛ لأنّا في البنوّة سواء ولنا مزية تقتضي تفضيلنا وهي إنا عصبة لنا من النفع له والذّب عنه والكفاية ما ليس لهما. تنبيه: هاهنا سؤالات: الأوّل: إنّ من المعلوم أنّ تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد فلم أقدم يعقوب عليه السلام على ذلك؟ أجيب: بأنه إنما فضلهما في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيها ولا يلحقه في ذلك لوم. الثاني: كيف اعترضوا على أبيهم وهم يعلمون أنه نبيّ وهم مؤمنون به؟ وأجيب: بأنهم وإن كانوا مؤمنين بنبوّته لكن جوّزوا أن يكون فعله باجتهاد، ثم أنّ اجتهادهم أدّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد لكونهم أكبر سناً وأكثر نفعاً وغاب عنهم أنّ تخصيصهما بالبرّ كان لوجوه: أحدها: أنّ أمّهما ماتت، ثانيها: أنه كان في يوسف من آثار الرشد والنجابة ما لم يجده في سائر أولاده، ثالثها: أنه وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى وأشرف مما كان يصدر عن سائر أولاده، والحاصل أنّ هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر. الثالث: أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال عن رعاية مصالح الدنيا والبعد عن طريق الرشد لا الضلال في الدين. الرابع: أنّ قولهم: {ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} محض حسد، والحسد من أمّهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على أمورٍ مذمومة منها قولهم: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً} ، أي: بحيث يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه، ومنها القاؤه في ذل العبودية، ومنها أنهم أبقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، ومنها إقدامهم على الكذب وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوّة؟ أجيب: بما تقدّم أنّ ذلك كان قبل النبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وهشام والكسائي بضم التنوين من مبين في الوصل، والباقون بالكسر، فإن وقف القارئ على مبين وامتحن في الابتداء يبتدئ بالضم للجميع، وقولهم: {يخل لكم وجه أبيكم} جواب الأمر، أي: يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد، وقولهم: {وتكونوا} مجزوم بالعطف على يخل لكم أو منصوب بإضمار أن {من بعده} ، أي: قتل يوسف أو طرحه {قوماً صالحين} بأن تتوبوا إلى الله تعالى بعد فعلكم فإنه يعفو عنكم، وقال مقاتل: يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم. {قال قائل منهم} هو يهوذا وكان أحسنهم رأياً فيه، وهو الذي قال: {فلن أبرح الأرض} (يوسف، 80) وقيل: روبيل وكان أكبرهم سناً {لا تقتلوا يوسف وألقوه} ، أي: اطرحوه {في غيابت الجب} ، أي: في أسفله وظلمته، والغيابة كل موضع ستر شيئاً وغيبه عن النظر قال القائل: *فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة والأهل أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها، والجب البئر الكبيرة التي ليست مطوية سميت جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء غير القطع من طيّ أو ما أشبهه، وإنما ذكر الغيابة مع الجب دلالة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين. قال بعض أهل العلم: إنهم عزموا على قتله وعصمه الله تعالى رحمة بهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعين، واختلف في موضع ذلك الجب، فقال قتادة: هو ببيت المقدس وقال وهب: هو بأرض الأردن. وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وقرأ نافع بألف بين الباء والتاء على الجمع والباقون بغير ألف على التوحيد {يلتقطه} ، أي: يأخذه {بعض السيارة} جمع سيار، أي: المبالغ في السير، وذلك الجب كان معروفاً يرد عليه كثير من المسافرين، فإذا أخذوه ذهبوا به إلى ناحية أخرى فنستريح منه {إن كنتم فاعلين} ، أي: ما أردتم من التفريق فاكتفوا بذلك ولما أجمعوا على التفريق بين يوسف وأبيه بضرب من الحيل. {قالوا} إعمالاً للحيلة في الوصول إليه مستفهمين على وجه التعجب؛ لأنه كان أحس منهم السوء فكان يحذرهم عليه {يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و} الحال {إنا له لناصحون} ، أي: قائمون بمصلحته وحفظه. تنبيه: اتفق القراء على إخفاء النون الساكنة عند النون المتحرّكة واتفقوا أيضاً على إدغامها مع الإشمام. {أرسله معنا غداً} ، أي: إلى الصحراء {نرتع} ، أي: نتسع في أكل الفواكه ونحوها وأصل الرتع أكل البهائم في الخصب في زمن الربيع ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير {ونلعب} روي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضاً جاز أن يكون المراد باللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجابر: «فهلا بكراً تلاعبها، وتلاعبك» وأيضاً كان لعبهم الاستباق والانتضال والغرض منه المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم {إنا ذهبنا نستبق} وإنما سموه لعباباً لأنه في صورته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيهما، والباقون بالياء، وسكن العين أبو عمرز وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وكسرها الباقون في الوصل، ولقنبل وجه آخر وهو أنه يثبت الياء في نرتع بعد العين وقفاً ووصلاً {وإنا له لحافظون} ، أي: بليغون في الحفظ له حتى نردّه إليك سالماً. قال أبو حيان: وانتصب {غداً} على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غداً غدو فحذفت الواو انتهى. ثم إنّ يعقوب عليه السلام اعتذر لهم بعذرين الأوّل: ما حكاه الله تعالى عنه بقوله: {قال إني ليحزنني أن تذهبوا به} ، أي: ذهابكم به، والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب؛ لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والثاني: قوله: {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم به، وكان يعقوب عليه السلام رأى في النوم أنّ الذئب شدّ على يوسف فكان يحذره فمن أجل هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم العلة، وفي أمثال العرب البلاء موكل بالمنطق، والمراد به الجنس، وكانت أرضهم كثيرة الذئاب. {قالوا} مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله مؤكدين لتطييب خاطره دالين على القسم بلامه {لئن أكله الذئب ونحن} ، أي: والحال أنَّا {عصبة} ، أي: جماعة عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب، وأجابوا عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 بقولهم {إنّا إذاً} ، أي: إذا كان هذا {لخاسرون} ، أي: كاملون في الخسارة؛ لأنا إذا ضيّعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعاً، وأعرضوا عن جواب الأول؛ لأن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأوّل وهو شدّة حبه له، فلما سمعوا ذلك المعنى تغافلوا عنه وأقله أن يقولوا: ما وجه الشح بفراقه يوماً والسماح بفراقنا كل يوم. وقرأ الذيب ورش والسوسي والكسائي بإبدال الهمزة ياء وقفاً ووصلاً، وحمزة وقفاً لا وصلاً، والباقون بالهمزة وقفاً ووصلاً. وقوله تعالى: {س12ش15/ش20 فَلَمَّا ذَهَبُوا? بِهِ? وَأَجْمَعُو?ا? أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ? وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ يَشْعُرُونَ * وَجَآءُو? أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُوا? يَا?أَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ? وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ? بِدَمٍ كَذِبٍ? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ? وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ * وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا? وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ?? قَالَ يَابُشْرَى هَاذَا غُلَامٌ? وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً? وَاللَّهُ عَلِيمُ? بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا? فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ} {فلما ذهبوا به} فيه إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به {وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب} ، أي: وعزموا على إلقائه فيها ولا بدّ من تقدير جواب، وهو فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وهنا كذلك، قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة يوسف قالوا له: ما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فتصيد وتستبق؟ قال: بلى. قالوا: فاسأل أباك أن يرسلك معنا قال يوسف: أفعل، فدخلوا جميعاً على أبيهم وقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بنيّ؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين واللطف فأحب أن تأذن لي، وكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يكره مفارقته ويحب مرضاته، فأذن له فأرسله معهم، فلما خرجوا من عند أبيهم جعلوا يحملونه على رقابهم وأبوهم ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه وصاروا إلى الصحراء ألقوه على الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وأغلظوا له القول وجعلوا يضربونه فجعلوا كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به يضربه فلم ير منهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه ويا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وجعل يبكي بكاء شديداً، فأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره وأراد قتله فقال له: مهلاً يا أخي لا تقتلني فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام الكاذبة قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا، وقال له: اتق الله فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة ورقة، فقال يهوذا: يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني، فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه، فجاؤوا به على بئر على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إِخوتاه ردّوا عليّ قميصي أستتر به في الجب فقالوا: ادع الشمس والقمر والكواكب تخلصك وتؤنسك فقال: إني لم أر شيئاً فألقوه فيها، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة كانت في البئر فقام عليها فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركته فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه، فمنعهم يهوذا من ذلك وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال. {وأوحينا إليه} في الجب في صغره وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام في صغرهما، وفي القصص أنّ إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرّد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ودفعه إبراهيم عليه السلام إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها بيوسف فأخرجها جبريل وألبسه إياها {لتنبئنهم} ، أي: لتخبرنهم بعد هذا اليوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 {بأمرهم} ، أي: بصنعهم {هذا وهم لا يشعرون} ، أي: أنك يوسف لعلوّ شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للهيئات كما قال تعالى: {فعرفهم وهم له منكرون} (يوسف، 58) والمقصود من ذلك تقوية قلبه وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة، ويصير مستولياً عليهم، ويصيرون تحت أمره ونهيه وقهره. روي أنهم لما دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم وهم له منكرون ودعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال: إنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه وقلتم لأبيكم: أكله الذئب، وقيل: لا يشعرون بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم وكانوا يقصدون قتله، وقيل: إنّ المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى {وأوحينا إلى أمّ موسى} (القصص، 7) وقوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل، 68) {و} لما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل الذي فعلوه إلا الاعتذار {جاؤوا أباهم} دون يوسف {عشاءً} في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبوهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضدّ ما جاؤوا به من الاعتذار وقد قيل: لا تطلب الحاجة في الليل فإنّ الحياء في العينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار {يبكون} والبكاء جريان الدمع من العين، والآية تدل على أنه لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع، روي أنّ امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق فعند ذلك فزع يعقوب عليه السلام فقال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما فعل يوسف؟. {قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق} قال الزجاج: يسابق بعضنا بعضاً في الرمي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا سبق إلا في خف أو نضل أو حافر» يعني بالنضل الرمي، وقيل: العدو لنتبين أينا أسرع عدواً {وتركنا يوسف} أخانا {عند متاعنا} ، أي: ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحو ذلك {فأكله} ، أي: فتسبب عن انفراده أن أكله {الذئب وما} ، أي: والحال أنك ما {أنت بمؤمن} ، أي: بمصدّق لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة {لنا ولو كنا صادقين} في هذه القصة لمحبة يوسف عندك فكيف وأنت تسيء الظنّ بنا؟ وقيل: لا تصدّقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.v {و} لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة {جاؤوا على قميصه} ، أي: يوسف عليه السلام {بدم كذب} قال الفراء:، أي: مكذوب فيه إلا أنه وصفه بالمصدر على تقدير ذي كذب أو مكذوب أطلق على المصدر مبالغة؛ لأنه غير مطابق للواقع؛ لأنهم ادّعوا أنه دم يوسف عليه السلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوا القميص بذلك الدم. قال القاضي: ولعلّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم إذ يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بدّ في المعصية من أن يقترن بها الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الاتهام أقوى فلما شاهد يعقوب عليه السلام القميص صحيحاً علم كذبهم، روي أنّ يعقوب عليه السلام أخذ القميص منهم، وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قيمصه. تنبيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 على قميصه محله النصب على الظرفية كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحماله، ولا يصح أن يكون حالاً متقدّمة؛ لأنّ حال المجرور لا يتقدّم عليه. قال الشعبي: قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك أنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال: {إن كان قميصه قد من قبل} (يوسف، 26) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب وألقي على وجهه ارتدّ بصيراً. ثم ذكر تعالى أنّ إخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم {قال} يعقوب عليه السلام {بل سوّلت} ، أي: زينت {لكم أنفسكم أمراً} ففعلتموه به، واختلف في السبب الذي عرف به كونهم كاذبين على وجوه: الأوّل: أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. الثاني: كان عالماً بأنه حيّ؛ لأنه عليه السلام قال ليوسف: {وكذلك يجتبيك ربك} (يوسف، 6) وذلك دليل على كذبهم في ذلك القول، الثالث: أنه لما رأى قميصه صحيحاً قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرق ثوبه، وقيل: إنه لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله، اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم وقوله: {فصبرٌ جميلٌ} مرفوع بالابتداء لكونه موصوفاً، وخبره محذوف والتقدير: فصبر جميل أولى من الجزع، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل وقال قطرب: معناه فصبري صبر جميل. وقال الفراء: فهو صبر جميل. وعن الحسن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل؟ فقال: «صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر كما قال يعقوب {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} » . وقال مجاهد: فصبر جميل من غير جزع. وقال الثوري: إنّ من الصبر أن لا تحدّث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك. وروي أنّ يعقوب عليه السلام كان قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال: يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك أنها قالت: والله لئن حلفت لا تصدّقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل. وقوله {فصبر جميل} يدل على أنّ الصبر على قسمين قد يكون جميلاً، وقد يكون غير جميل، فالصبر الجميل أن ينكشف له أنّ هذا البلاء، من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلي يمنعه من الاشتغال بالشكاية من البلاء ولذلك قيل: المحبة التامّة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء؛ لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والخط وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل وأمّا الصبر لا للرضا بقضاء الله تعالى بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلاً. فإن قيل: الصبر على قضاء الله تعالى واجب، وأمّا الصبر على ظلم الظالمين فغير واجب، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، فلم صبر يعقوب على ذلك ولم يبالغ في البحث مع شدّة رغبته في حضور يوسف ونهاية حبه له وكان من بيت عظيم شريف وكان الناس يعرفونه ويعتقدون فيه؟. أجيب: بأنه يحتمل أن يكون منع من الطلب بوحي تشديداً للمحنة عليه زيادةً في أجره، أو أنه لو بالغ في البحث لربما أقدموا على إيذائه ولم يمكنوه من الطلب والفحص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فرأى أنّ الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وقال: {والله المستعان} ، أي: المطلوب منه العون {على ما تصفون} ، أي: تذكرون من أمر يوسف، والمعنى أنّ إقدامه على الصبر لا يكون إلا بمعونة الله تعالى؛ لأنّ الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر، فكأنّ المحاربة وقعت بين الصنفين فما لم تحصل إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله: {فصبر جميل} يجري مجرى قوله: {إياك نعبد} (الفاتحة، 4) وقوله: {والله المستعان على ما تصفون} يجري مجرى قوله: {وإياك نستعين} (الفاتحة، 5) . ولما أراد الله تعالى خلاص يوسف من الجب بين سببه بقوله تعالى: {وجاءت سيارة} وهم القوم المسافرون سموا بذلك؛ لأنهم يسيرون في الأرض وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر، فأخطؤوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف وكان الجبّ في قفرة بعيدة عن العمران، أي: لم يكن إلا للرعاة. روي أنّ ماءه كان ملحاً فعذب حين ألقي يوسف فيه، فلما نزلوا أرسلوا رجلاً يقال له: مالك بن ذعر لطلب الماء فذلك قوله تعالى: {فأرسلوا واردهم} ، أي: الذي يريد الماء ليستقي منه، والوارد هو الذي يتقدّم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء {فأدلى} ، أي: أرسل {دلوه} في البئر يقال: أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا أخرجتها، والدلو معروف والجمع الدلاء فلما أرسلها تعلق بالحبل يوسف عليه السلام فلما خرج فإذا هو بغلام أحسن ما يكون قال صلى الله عليه وسلم «أعطي يوسف شطر الحسن» . ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة، وكانت جدّته قد أعطيت سدس الحسن قال ابن إسحاق: ذهب يوسف وأمّه بثلثي الحسن. وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار قال: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرّة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع من ثناياه لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله وصوّره قبل أن يصيب الخطيئة، فلما رآه مالك بن ذعر {قال يا بشرى هذا غلام} نادى البشرى بشارة لنفسه، كأنّه قال تعالى فهذا أوانك. وعن الأعمش أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى فقال: يا بشرى. وعن السدي أنّ المدلي نادى صاحبه وكان اسمه بشرى فقال: يا بشرى. كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي، فإنهم قرؤوا بحذف الياء بعد الألف، والباقون بإثبات الياء. وقيل: ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك. وروي أنّ جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها واختلف في ضمير {وأسرّوه بضاعة} إلى من يعود؟ وفيه قولان: الأوّل: أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه بالجب، وذلك أنهم قالوا: إن قلنا للسيارة: التقطناه شاركونا، وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول: إنّ أهلاً لنا جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر. والثاني: ونقل عن ابن عباس أنه قال: وأسرّوه يعني إخوة يوسف أسرّوا شأنه، وذلك أنّ يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم فلم يجده في البئر فأخبر إخوته فطلبوه، فإذا هم بمالك بن ذعر وأصحابه نزول فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا: هذا عبد لنا أبق منا وتابعهم يوسف على ذلك؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية. قال الرازي: والأوّل أولى؛ لأنّ قوله {وأسرّوه بضاعة} يدل على أنّ المراد أنهم أسرّوه حال ما حكموا بأنه بضاعة، وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف. تنبيه: البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشيء إذا قطعته. قال الزجاج: وبضاعة منصوب على الحال كأنه قال: وأسرّوه حال ما جعلوه بضاعة ولما جعل تعالى هذا البلاء سبباً لوصوله إلى مصر، ثم صارت وقائعه إلى أن صار ملكاً بمصر، وحصل ذلك الذي رآه في النوم، فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيّره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال تعالى: {والله عليم} ، أي: بالغ العلم {بما يعملون} ، أي: لم يخف عليه ما فعلوه بيوسف وأبيهم. {وشروه} ، أي: باعوه إذ قد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال: شريت الشيء بمعنى بعته وإنما حمل هذا الشراء على البيع؛ لأنّ الضمير في (شروه) وفي {كانوا فيه من الزاهدين} يرجع إلى شيء واحد، وذلك أنّ إخوته زهدوا فيه فباعوه، وقيل: إنّ الضمير يعود إلى مالك بن ذعر وأصحابه، وعلى هذا يكون لفظ الشراء على بابه. وقال محمد بن إسحاق: ربك أعلم أَإِخوته باعوه أم السيارة، واختلفوا في معنى قوله تعالى: {بثمن بخس} فقال الضحاك:، أي: حرام، لأنّ ثمن الحرّ حرام وسمي الحرام بخساً؛ لأنه مبخوس البركة. وقال ابن مسعود: أي: زيوف، وقال عكرمة: أي: بثمن قليل، ويدل لهذا قوله تعالى: {دراهم معدودة} لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما إنما كانوا يأخذون ما دونها عداً، فإذا بلغتها وهي أوقية وزنوها، واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن عباس: كانت عشرين درهماً فاقتسموها درهمين درهمين، وعلى هذا لم يأخذ أخوه بنيامين شقيقه منها شيئاً، وقال مجاهد: كانت اثنتين وعشرين درهماً. وقال عكرمة: أربعين درهماً. {وكانوا} ، أي: إخوته {فيه} ، أي: يوسف {من الزاهدين} لأنهم لم يعلموا منزلته عند الله تعالى، ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال: زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله القلة، يقال: رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، وقيل: كانوا في الثمن من الزاهدين؛ لأنهم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن، وإنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه. وقيل: الضمير في كانوا للسيارة؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه لا جرم باعوه بأوكس الأثمان. روي في الأخبار أنّ مالك بن ذعر انطلق هو وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه؛ لأنه آبق فذهبوا به حتى أتوا مصر وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير أو اطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله تعالى العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} (غافر، 34) وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وقال وهب بن منبه: قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهباً وزنه فضة ووزنه مسكاً وحريراً، وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره حينئذ سبع عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة سنة، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} واسمها زليخا وقيل: راعيل {أكرمي مثواه} قال الرازي: اعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فاللائق بالعاقل أن يحترز من ذكرها انتهى. ولكن البغوي ذكرها وتبعه على ذلك جماعة من المفسرين واللام في امرأته متعلقة بقال لا باشتراه، والمثوى موضع الإقامة، أي: اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أي: حسناً مرضياً بدليل قول يوسف: {إنه ربي أحسن مثواي} والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكية حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ساكنة في كنفنا. قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال: سلام الله على المجلس العالي. ولما أمر بإكرام مثواه علّل ذلك بأن قال: {عسى أن ينفعنا} ، أي: يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نبيعه بالربح إن أردنا بيعه {أو نتخذه ولدا} ، أي: نتبناه وكان حصوراً ليس له ولد. قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته: {أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا} ، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {استأجره} ، وأبو بكر في عمر حيث استخلفه. {وكذلك} ، أي: وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه قلب العزيز {مكنا ليوسف في الأرض} ، أي: أرض مصر. قال البقاعي: التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل والنبوّة، وقوله تعالى: {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} ، أي: تعبير الرؤيا عطف على مقدر متعلق بمكنا، أي: لنمكنه أو الواو زائدة {والله غالب على أمره} ، أي: الأمر الذي يريده؛ لأنه تعالى فعال لما يريد، ولا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه أو على أمر يوسف أراد إخوته قتله، فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه، فغلب أمره وظهر اسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب الله أمره حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يضرّوا أباهم ويطيبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره تعالى فعصمه حتى لم يهمّ بسوء بل هرب منه غاية الهرب، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله تعالى إلا إعزازه وبراءته، ثم أراد يوسف عليه السلام ذكر الساقي له فغلب أمره تعالى فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه الله تعالى له وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أنه لا أمر لغيره {ولكنّ أكثر الناس} وهم الكفار {لا يعلمون} أنّ الأمر كله بيد الله تعالى، أو أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو صانع بيوسف وما يريد منه فمن تأمّل في الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أنّ الأمر كله لله، وأنّ قضاء الله تعالى غالب. ولما بين تعالى أنّ إخوته أساؤوا إليه وصبر على تلك الشدائد والمحن ومكنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 في الأرض اتبعه الأمر بتمام النعمة عليه بقوله تعالى: {ولما بلغ أشدّه} ، أي: منتهى شبابه وقوّته وشدّته تقول العرب: بلغ فلان أشدّه إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوّته، وهذا اللفظ مستعمل في الواحد والجمع يقال: بلغ فلان أشدّه وبلغوا أشدّهم وهو ثلاث وثلاثون سنة. وقال السدي: بلغ ثلاثين سنة، وقال الضحاك: عشرين سنة. وقال الكلبي: الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين، وقيل: أقصاه اثنان وستون سنة. قال الأطباء: إنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق كالقمر. {آتيناه حكما} ، أي: حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكماً بين الناس {وعلماً} ، أي: علم تأويل الأحاديث، وقيل: المراد بالحكم النبوّة والرسالة. وتقدّم أنّ قوله تعالى: {وأوحينا} أنه وحي حقيقة. قال الرازي: فلا يبعد أن يقال: إنّ ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت لا لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره؛ ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام {وكذلك} ، أي: ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به {نجزي المحسنين} قال ابن عباس: يعني المؤمنين، وعنه أيضاً يعني المهتدين، وقال الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف عليه السلام. وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. ولما أخبر تعالى أنّ سبب النعمة عليه إحسانه اتبعه دليله فقال تعالى: {وراودته التي هو في بيتها} ، أي: امرأة العزيز راودت يوسف {عن نفسه} لأنها لما رأته في غاية الحسن والجمال طمعت فيه، ويقال: إنّ زوجها كان عاجزاً، والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كان المعنى خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهو عبارة عن التمحل لمواقعته إياها {وغلقت الأبواب} ، أي: أطبقتها وكانت سبعة، والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق، لأنّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية لا سيما إذا كان حراماً ومع قيام الخوف الشديد {وقالت} له {هيت} أي تهيأت وتصنعت {لك} خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري. قال الواحدي: هيت لك اسم للفعل نحو رويد وصه ومه، ومعناه: هلم في قول جميع أهل اللغة، وقرأ نافع وابن عامر بكسر الهاء، والباقون بالفتح قرأ وهشام بعد الهاء بهمزة ساكنة، والباقون بياء ساكنة، وقرأ ابن كثير بضم التاء وفتحها، والباقون بالفتح {قال} لها يوسف عليه السلام {معاذ الله} ، أي: أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه مما تدعينني إليه {إنه} ، أي: الذي اشتراني {ربي} ، أي: سيدي {أحسن مثواي} ، أي: أكرم منزلي فلا أخونه في أهله وقيل: إنه أي: الله ربي أحسن مثواي، أي: آواني ومن بلاء الجب أنجاني {إنه لا يفلح الظالمون} ، أي: إن فعلت هذه الفعلة فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون. {ولقد همت به وهم بها} ، أي: قصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهمَّ بالشيء قصده والعزم عليه، ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بشيء أمضاه والمراد بهمته ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ، ولهذا قال بعض أهل الحقائق: الهمّ قسمان: همّ ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 فالعبد مأخوذ به، وهمّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام، والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل، كما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشرة أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» . قال في «الكشاف» : ويجوز أن يريد بقوله: {وهم بها} شارف أن يهم بها كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنّه شرع فيه {لولا أن رأى} ، أي: بعين قلبه {برهان ربه} ، أي: الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي: لهمّ بها لكنه كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين فلم يهمّ أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله تعالى من القوّة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها لتوفر الداعي غير أنّ نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه عليه السلام مع أنه الذي تدلّ عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء وأنّ السجن أحب إليه من ذلك مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} الآية من مطلق الإرادة ومع ما يتحتم من تقدير ما ذكر بعد لولا في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدّر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} (القصص، 10) ، أي: لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك من تفسيرهم بها بأن حل الهيمان وجلس بها مجلس المجامع وبأنه حلّ تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، ومن تفسير البرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمعه ثالثاً أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته، وقيل: ضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله، وقيل: كل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولداً إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنا قعد لا ريش له، وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها: {وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين} (الأنفطار، 10، 11) فلم ينصرف ثم رأى فيها: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} (الإسراء، 32) فلم ينته ثم رأى فيها {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة، 281) فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: أدرك عبدي قبل أن يدرك الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز.d وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحي أن يرانا، فقال يوسف: استحيت مما لا يسمع ولا يبصر ولا أستحي من السميع العليم بذات الصدور، فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أنّ هذه الأقوال التي وردت عنهم إذا جمعت تناقضت وتكاذبت. قال الزمخشريّ: وهذا ونحوه ممن يورده أهل الجبر والحشو الذين دينهم بهت لله وأنبيائه فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبيّ من أنبياء الله تعالى فيما ذكروه وأهل العدل والتوحيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل وأطال في ردّ ذلك، وكذا فعل الرازي. وقيل: وهمّ بها، أي: بزجرها ووعظها. وقيل: همّ بها، أي: غمه امتناعه منها. وقيل: همّ بها، أي: نظر إليها وقيل: همّ بضربها ودفعها. وقيل: هذا كله قبل نبوّته، وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف عليه السلام ميل شهوة حتى نبأه الله تعالى فألقى عليه هيبة النبوّة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه {كذلك} ، أي: مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر {لنصرف عنه السوء} ، أي: الهمّ بالزنا وغيره {والفحشاء} أي: الزنا وغيره، وقيل: السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة، والفحشاء هي الزنا، فكأنه قيل: لم فعل به هذا؟ فقيل: {إنه من عبادنا} ، أي: الذين عظمناهم {المخلصين} ، أي: في عبادتنا الذين هم خير صرف لا يخالطهم غش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام بعد الخاء، والباقون بالفتح. قال الرازي: فوروده باسم الفاعل دل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص، ووروده باسم المفعول يدلّ على أنّ الله تعالى استخلصه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا اللفظين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه وهذا مع قول إبليس: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (الحجر: 39، 40) شهادة من إبليس أنّ يوسف عليه السلام بريء من الهمّ فمن نسبه إلى الهمّ إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، قال: ولعلهم يقولون كنا في أوّل الأمر تلامذة إبليس إلا أنا زدنا وفجرنا عليه في السفاهة كما قال الجزوري: *وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الأمر حتى صار إبليس من جندي *فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغة في الامتناع بالجدّ في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال: {واستبقا الباب} ، أي: أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما هذا للهرب منها، وهذه لمنعه، فكل منهما بذل أقصى جهده في السبق، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه قد كان سبقها بقوّة الرجولية وقوّة الداعية إلى الفرار إلى الله تعالى، ولكن عاقه إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه وهو ما كان من ورائه خوف فواته فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها ففتحه فأراد الخروج فمنعته {و} لم تزل تنازعه حتى {قدّت} ، أي: شقت {قميصه} وكان القدّ {من دبر} ، أي: الناحية من الخلف منه، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها {وألفيا} ، أي: وجدا {سيدها} ، أي: زوجها قطفير وهو العزيز تقول المرأة لبعلها: سيدي ولم يقل: سيدهما؛ لأنّ ملك يوسف لم يصح فلم يكن سيداً له على الحقيقة {لدى} ، أي: عند {الباب} جالساً مع ابن عمّ المرأة. فإن قيل: كيف وحد الباب وقد جمعه في قوله: {وغلقت الأبواب} ؟ أجيب:. بأنه أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب الأحبار: أنّ يوسف لما هرب جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب فلما رأت المرأة ابن عمها هابته وخافت التهمة فسابقت يوسف بالقول و {قالت} لزوجها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} ، أي: فاحشة زنا أو غيره، ثم خافت عليه أن يقتل وذلك لشدّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 حبها له فقالت: {إلا أن يسجن} ، أي: يحبس في السجن ويمنع التصرّف {أو عذاب أليم} ، أي: مؤلم بأن يضرب بالسياط ونحوها، وإنما بدأت بالسجن قبل العذاب؛ لأنّ المحب لا يشتهي إيلام المحبوب، وإنما أرادت أن يسجن عندها يوماً أو يومين ولم ترد السجن الطويل فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين، ألا ترى أن فرعون هكذا قال في حق موسى عليه السلام في قوله: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء، 29) . فلما سمع يوسف عليه السلام مقالتها {قال} مبرئاً نفسه {هي} بضمير الغيبة لاستحيائه بمواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب {راودتني عن نفسي} ، أي: طلبت مني الفاحشة فأبيت وفررت منها، وذلك أنّ يوسف عليه السلام ما كان يريد أن يذكر ذلك القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كان فيه وهو أنهما عند الباب ولو كان الطلب منه لما كان إلا في محلها الذي تجلس فيه وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه، وأيضاً هو عبد لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحال، وأيضاً أنّ المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، وأما يوسف فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى. ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة، ويدل على أنه بريء من الريب وأنّ المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} ، أي: وحكم حاكم من أهل المرأة، واختلفوا في هذا الشاهد، فقال سعيد بن جبير والضحاك: كان صبياً في المهد أنطقه الله تعالى كرامة ليوسف عليه السلام. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم في المهد أربعة وهم صغار شاهد يوسف وابن ماشطة بنت فرعون وعيسى بن مريم وصاحب جريج الراهب» رواه الإمام أحمد، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة؛ عيسى بن مريم وصاحب جريج وصبيّ كان يرضع أمّه فمرّ راكب حسن الهيئة فقالت أمّه: اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله» وبهذا الاعتبار صاروا خمسة وزاد الثعلبي سادساً وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام وزاد غيره على ذلك، ولعل الحصر فيما ذكر في الحديث كان قبل العلم بالزيادة فلا تناقض وأوصلهم السيوطي إلى أحد عشر ونظمهم فقال: *تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم *ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم *وطفل عليه مرّ بالأمّة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم *وماشطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم وقالت طائفة عظيمة من المفسرين: إنها كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدّام صاحبه ولكن {إن كان قميصه قدّ من قبل} ، أي: من قدام {فصدقت وهو من الكاذبين} {وإن كان قميصه قد من دبر} ، أي: من خلف {فكذبت وهو من الصادقين} لأنه لولا إدباره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 منها وإقبالها عليه لما وقع ذلك، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة كما قال تعالى: {فلما رأى} ، أي: سيدها {قميصه} ، أي: يوسف عليه السلام {قدّمن دبر قال} لها زوجها قطفير وقد قطع بصدقه وكذبها مؤكداً لأجل إنكارها {إنه} ، أي: هذا القذف له {من كيدكن} معشر النساء، والكيد طلب الإنسان بما يكره {إن كيدكن عظيم} والعظيم ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى. فإن قيل: كيف وصف كيد النساء بالعظم مع قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفاً} (النساء، 28) وهلا كان مكر الرجال أقوى من مكر النساء؟ أجيب: بأنّ الإنسان ضعيف بالنسبة لخلق ما هو أعظم منه كخلق السموات والأرض وبأن كيدهنّ أدق من كيد الرجال وألطف وأخفى؛ لأنّ الشيطان عليهنّ لنقصهنّ أقدر ومكرهنّ في هذا الباب أعظم من كيد جميع البشر؛ لأنّ لهنّ من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب؛ ولأنّ كيدهنّ في هذا الباب يورث العار ما لا يورثه كيد الرجال، ولما ظهر للقوم براءة يوسف من ذلك الفعل المنكر حكى تعالى أنه قال: {يوسف} ، أي: يا يوسف {أعرض} ، أي: انصرف بكليتك مجاوزاً {عن هذا} الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يشيع وينشر بين الناس، ثم التفت إلى المرأة وقال لها: {واستغفري لذنبك} ، أي: توبي إلى الله تعالى مما رميتي يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها {إنك كنت من الخاطئين} ، أي: الآثمين. قال أبو بكر الأصم: إنّ ذلك الزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار، وقيل: إنّ القائل المذكور هو الشاهد. فإن قيل: كيف قال من الخاطئين بلفظ التذكير؟ أجيب: بأنه قال ذلك تغليباً للذكور على الإناث أو أن المراد أنك من نسل الخاطئين، فمن ذلك النسل سرى ذلك العرق الخبيث فيك، ثم شاع الخبر واشتهر. {وقال نسوة} ، أي: وقال جماعة من النساء وكنّ خمساً: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب، والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي، ولذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث وقوله: {في المدينة} ، أي: مدينة مصر ظرف، أي: أشعن الحكاية في مصر أو صفة نسوة، وقيل: مدينة عين شمس. {امرأت العزيز} وإنما أضفنها إلى زوجها إرادة لإشاعة الخبر، لأنّ النفس إلى سماع أخبار أولي الأخطار أميل ويردن قطفير والعزيز الملك بلسان العرب ورسم امرأة بالتاء المجرورة ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء، وأما الوصل فهو بالتاء للجميع {تراود فتاها} ، أي: عبدها الكنعاني، يقال: فتاي وفتاتي، أي: عبدي وجاريتي {عن نفسه} ، أي: تطلب منه الفاحشة وهو يمتنع منها {قد شغفها حباً} ، أي: شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها، وحباً نصب على التمييز، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب قال النابغة: *وقد حال همّ دون ذلك والج ... مكان انشغاف تبتغيه الأصابع وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الشين، والباقون بالإدغام {إنا لنراها} ، أي: نعلم أمرها علماً هو كالرؤية {في ضلال} ، أي: خطأ {مبين} ، أي: بين ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر بسبب حبها إياه. {فلما سمعت} زليخا {بمكرهنّ} ، أي: قولهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وإنما سمي ذلك مكراً لوجوه: الأوّل أنّ النسوة إنما ذكرن ذلك الكلام استدعاءً لرؤية يوسف عليه السلام، والنظر إلى وجهه؛ لأنهنّ عرفن أنهنّ إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهنّ ليتمهد عذرها عندهنّ. الثاني: أنّ زليخا أسرّت إليهنّ حبها ليوسف عليه السلام وطلبت منهنّ كتمان هذا السرّ فلما أظهرن السرّ كان ذلك مكراً. الثالث: أنهنّ وقعنّ في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر {أرسلت إليهنّ} تدعوهنّ لتقيم عذرها عندهنّ. قال وهب: اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهنّ الخمس {وأعتدت} ، أي: أعددت {لهنَّ متكأً} ، أي: طعاماً يقطع بالسكين، وهو الأترج وإنما سمي الطعام متكأً؛ لأنه يتكأ عنده. قال جميل: *فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله والمتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث؛ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك جاء النهي عنه في الحديث أن يأكل الرجل متكئاً. وقال صلى الله عليه وسلم «لا آكل متكئاً» وقيل: إنها زينت البيت بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف عليه السلام {وآتت} ، أي: أعطت {كل واحدة منهنَّ سكيناً} ، أي: لتأكل بها، وكانت عادتهنّ أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين {وقالت} زليخا ليوسف عليه السلام {اخرج عليهنّ} ، أي: النسوة، وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهنّ يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل، والباقون بالضم، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم {فلما رأينه} ، أي: النسوة {أكبرنه} ، أي: أعظمنه ودهشن عند رؤيته، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة: كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر» ذكره البغويّ بغير سند، وقال ابن إسحاق: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال: إنه ورث حسن آدم عليه السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة، وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة، وقيل: أكبرنه يعني حضن، والهاء للسكت يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله: *خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق وقيل: أمنين قال الكميت: *ولما رأته الخيل من رأس شاهق ... صهلن وأمنين المنيّ المدفقا وقال الرازي: إنما أكبرنه؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 {وقطعنّ أيديهنّ} ، أي: جرحنها بالسكاكين التي معهنّ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف، وقال وهب: مات جماعة منهنّ {وقلن حاش لله} ، أي: تنزيهاً، له الرسم بغير ألف بعد الشين. وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفاً ووصلاً {ما هذا} ، أي: يوسف عليه السلام {بشراً} وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى {ما هنّ أمّهاتهم} (المجادلة، 2) {إن} ، أي: ما {هذا إلا ملك كريم} ، أي: على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة. {قالت} ، أي: زليخا للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته {فذلكن} ، أي: فهذا هو {الذي لمتنني فيه} ، أي: في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني، ثم أنها صرحت بما فعلت فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} ، أي: فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت، وإنما صرحت بذلك؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته، ثم قالت: {ولئن لم يفعل ما آمره} ، أي: وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه {ليسجنن} ، أي: ليعاقبن بالحبس {وليكونا من الصاغرين} ، أي: الذليلين المهانين، فقال النسوة ليوسف: أطع مولاتك فيما دعتك إليه، فاختار يوسف عليه السلام السجن على ما دعت إليه فلذلك. {قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} وإن كان هذا مما تشتهيه النفس، وذلك مما تكرهه نظراً إلى العاقبة، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل: إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعاً؟ أجيب: بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها، وقيل: إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء لو لم يقل السجن، أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الله الصبر بقوله له: «سألت الله البلاء فاسأله العافية» رواه الترمذي {وإلا} ، أي: وإن لم {تصرف عني كيدهنّ} ، أي: فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة {أصب} ، أي: أمل {إليهنّ} يقال: صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه {وأكن} ، أي: أصر {من الجاهلين} ، أي: من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى: {فاستجاب له ربه} ، أي: فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل: *إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاك من تعرّضه الثناء {فصرف عنه كيدهن} ، أي: فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان {إنه هو السميع} ، أي: لدعاء الملتجئين إليه {العليم} ، أي: للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم. {ثم بدا} ، أي: ظهر {لهم} ، أي: العزيز وأصحابه {من بعد ما رأوا الآيات} ، أي: الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ {ليسجننه حتى} ، أي: إلى {حين} ينقطع فيه كلام الناس، وذلك أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه. تنبيه: في فاعل بدا أربعة أوجه: أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين، أي: ظهر لهم حبسه. والثاني: أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا، أي: بدا لهم بداء. والثالث: أنه مضمر يدل عليه السياق، أي: بدا لهم رأي. والرابع: أنه محذوف وليسجننه قائم مقامه، أي: بدا لهم السجن، فحذف وأقيمت الجملة مقامه، وليست الجملة فاعلاً؛ لأن الجمل لا تكون كذلك، وقيل: الحبس هنا خمس سنين، وقيل: سبع سنين. وقال مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشرة سنة، وقال الرازي: والصحيح أنّ هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي مسجوناً مدّة طويلة لقوله تعالى: {وادّكر بعد أمة} (يوسف، 45) وعن عكرمة قال: قال رجل ذو رأي للعزيز: متى تركت هذا العبد يعتذر إلى الناس، ويقص عليهم أمره فاتركه في بيتها لا يخرج إلى الناس فإن خرج للناس عذروه وفضحوا أهلك فأمر به فسجن. {ودخل معه السجن فتيان} وهما غلامان كانا للوليد بن نزوان العمليقي ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه، والآخر ساقيه صاحب شرابه غضب الملك عليهما فحبسهما وكان السبب فيه أنّ جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله، فضمنوا لهذين الغلامين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم أنّ الساقي ندم ورجع عن ذلك، وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإنّ الطعام مسموم فقال الخباز: لا تشرب فإنّ الشراب مسموم. فقال الملك للساقي اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام: دابة فهلكت، فأمر بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام حين دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلم فلنجرّب هذا العبد العبراني فنتراءى له رؤيا قال ابن مسعود: وما رأيا شيئاً وإنما تحالما ليجربا يوسف وقال قوم: بل كانا رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكر أنهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤيا غمتهما، فقال يوسف: قصا عليّ ما رأيتما {قال أحدهما} وهو صاحب شراب الملك {إني أراني أعصر خمراً} . فإني قيل: كيف يعقل عصر الخمر؟ أجيب: عن ذلك بثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي: العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف. الثاني: إن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه تقول: فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً. الثالث: قال أبو صالح: أزد وعمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها. قال الضحاك: نزل القرآن بألسنة جميع العرب وذلك أنه قال: إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه شجرة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه، وسقيت الملك فشربه {وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه} وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الطعام وسباع الطير تنهش منه {نبئنا} ، أي: أخبرنا {بتأويله} ، أي: بتفسيره {إنا نراك من المحسنين} ، أي: في علم التفسير؛ لأنه متى عبر لم يخطئ كما قال: وعلمتني من تأويل الأحاديث، وقيل: في أمر الدين؛ لأنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة، فإنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كله، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور، وقيل: في حق الشركاء والأصحاب؛ لأنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم، وإذا ضاق على أحدهم وسع عليه وإذا احتاج أحدهم جمع له شيئاً، قيل: إنه لما دخل السجن وجد قوماً اشتدّ بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسكنهم ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجروا فيقولون: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف بن صفيّ الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: والله يا فتى لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت. وروي أنّ الفتيين لما رأيا يوسف قالا: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف: أنشدكما الله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ بلاء ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست، فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما. {قال} معرضاً عن سؤالهما أخذاً في غيره من إظهار المعجزة في الدعاء إلى التوحيد {لا يأتيكما طعام ترزقانه} ، أي: في منامكما {إلا نبأتكما بتأويله} ، أي: في اليقظة {قبل أن يأتيكما} تأويله، وقيل: أراد به في اليقظة، يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه من منازلكما تطعمانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما قبل أن يصل وأي طعام أكلتم، ومتى أكلتم وهذه كمعجزة عيسى عليه السلام حيث قال: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} (آل عمران، 49) فقالا: هذا فعل العرافين والكهنة. فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن {ذلكما} ، أي: هذا التأويل والإخبار بالمغيبات {مما علمني ربي} وفي ذلك حث على إيمانهم ثم قواه بقوله {إني تركت ملة} ، أي: دين {قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} وكرر لفظة هم للتأكيد لشدّة إنكارهم للمعاد. ولما ادعى يوسف عليه السلام النبوّة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوّة بقوله: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} ليسمعوا قوله ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد، فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجدّه لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً فكمال درجة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمر مشهور في الدنيا، فإذا أظهر أنهم آباؤه عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وتأثير قلوبهم بكلامه أكمل. فإن قيل: إنه كان نبياً فكيف قال: اتبعت ملة آبائي، والنبيّ لا بدّ وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه؟ أجيب: بأنّ مراده التوحيد الذي لا يتغير، أو لعله كان رسولاً من عند الله تعالى إلا أنه كان نبي على شريعة إبراهيم عليه السلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون ياء آبائي، والباقون بالفتح {ما كان} ، أي: ما صح {لنا} معشر الأنبياء {أن نشرك بالله من شيء} لأنّ الله تعالى طهره وطهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله تعالى: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} (مريم، 35) وإنما قال: من شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 لأنّ؛ أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الملائكة، فقوله: من شيء ردّ على هؤلاء الطوائف وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد ولا خالق ولا رازق إلا الله {ذلك} ، أي: التوحيد {من فضل الله علينا} بالوحي {وعلى الناس} ، أي: سائرهم ببعثنا لارشادهم وتثبيتهم عليه {ولكنّ أكثر الناس} ، أي: المبعوث إليهم {لا يشكرون} هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم؛ لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره ثم دعاهم إلى الإيمان فقال: {يا صاحبي السجن} ، أي: يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة: أصحاب الجنة، ولسكان النار: أصحاب النار {أأرباب} ، أي: آلهة {متفرقون} ، أي: متباينون من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وصغير وكبير ومتوسط وغير ذلك {خير} ، أي: أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة {أم الله الواحد القهار} ، أي: المتوحد بالألوهية الذي لا يغالب ولا يشارك في الربوبية غيره خير، والاستفهام للتقرير، وفي الهمزتين في {أأرباب} من القراءات ما في {أأنذرتهم} وقد مرّ. فإن قيل: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال: إنها خير أم الله؟ أجيب: بأنّ ذلك خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار. ثم بين عجز الأصنام فقال: {ما تعبدون} وإنما خاطبهم بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة؛ لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين. والعبادة خضوع القلب في أعلى مراتب الخضوع، وبيّن حقارة معبوداتهم وسفالتها بقوله: {من دونه} ، أي: الله الذي قام البرهان على إلهيته وعلى اختصاصه بذلك {إلا أسماء} وبيّن ما يريد وأوضحه بقوله {سميتموها} ، أي: ذوات أوجدتم لها أسماء {أنتم} سميتموها آلهة وأرباباً، وهي حجارة جماد خالية عن المعنى لا حقيقة لها {وآباؤكم} من قبلكم سموها كذلك {ما أنزل الله بها} ، أي: بعبادتها {من سلطان} ، أي: حجة وبرهان {إن الحكم} ، أي: ما الحكم {إلا لله} ، أي: المختص بصفات الكمال والحكم فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة {أمر} وهو النافذ الأمر المطاع الحكم {أن لا تعبدوا إلا إياه} ؛ لأنه المستحق للعبادة لا هذه الأسماء التي سميتموها آلهة. ولما أقام الدليل على هذا الوجه الذي كان جديراً بالإشارة إلى فضله أشار إليه بأداة البعد تنبيهاً على علوّ مقامه وعظيم شأنه فقال: {ذلك} ، أي: الشأن الأعظم وهو توحيده وإفراده عن خلقه {الدين القيم} ، أي: المستقيم الذي لا عوج فيه {ولكنَّ أكثر الناس} وهم الكفار {لا يعلمون} ما يسيرون إليه من العذاب فيشركون. ولما قرر يوسف عليه السلام أمر التوحيد والنبوّة إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه فقال: {يا صاحبي السجن} ، أي: الذي يحصل فيه الانكسار للنفس والرقة في القلب، فتخلص فيه المودّة، ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز أبهم ليجوّز كل منهما أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال: {أمّا أحدكما} وهو صاحب شراب الملك {فيسقي ربه} ، أي: سيده {خمراً} على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 عادته، والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يدعو به الملك فيردّه إلى رتبته التي كان عليها هذا تأويل رؤياه {وأمّا الآخر} وهو صاحب طعام الملك {فيصلب} والسلال الثلاثة ثلاثة أيام، ويدعو به الملك فيصلبه {فتأكل الطير من رأسه} هذا تأويل رؤياه، قال ابن مسعود: فلما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا: ما رأينا شيئاً إنما كنا نلعب، فقال لهما يوسف عليه السلام {قضي} ، أي: تم {الأمر الذي فيه تستفتيان} ، أي: تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما لم أقله عن جهل ولا غلط. {وقال} يوسف عليه السلام {للذي ظنّ} ، أي: علم وتحقق، فالظنّ بمعنى العلم؛ لأنه قاله عن وحي لقوله {قضي الأمر} ويجوز أن يكون ضمير ظنّ للساقي، فهو حينئذ على بابه {أنه ناجٍ منهما} وهو الساقي {اذكرني عند ربك} ، أي: سيدك ملك مصر بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله: {أأرباب متفرقون} فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قاله لهما يوسف عليه السلام، واختلف في ضمير {فأنساه الشيطان ذكر ربه} على قولين: أحدهما: أنه يعود إلى الساقي، وهو قول جماعة من المفسرين، أي: فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا: لأنّ صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف. والقول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أنه يرجع إلى يوسف عليه السلام. وقال الرازي: إنه الحق، أي: أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه تعالى حتى استعان بمخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت له عليه السلام، فإنّ الاستعانة بالمخلوق في رفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، فهذا وإن كان جائزاً لعامّة الخلق إلا أنّ الأولى بالصدّيقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، فلهذا صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً بهذا القول ولم يؤاخذه تعالى في تلك القصة البتة بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء فعلم بذلك أنه عليه السلام كان مبرأً مما نسبه الجهال والحشوية إليه. فإن قيل: كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه؟ أجيب: بأنّ ذلك إنما كان شغل خاطر، وأمّا النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه، واختلف في قدر البضع في قوله تعالى: {فلبث في السجن بضع سنين} فقال مجاهد: ما بين الثلاث إلى التسع. وقال ابن عباس: ما دون العشرة. وقال البغوي: وأكثر المفسرين أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، وكان قد لبث قبله خمس سنين، فجملته اثنتا عشرة سنة، وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين. وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف وقال: يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمة، قال الحسن: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «رحم الله يوسف لولا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث» ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا بلاء فزعنا إلى الناس، ذكره الثعلبي مرسلاً وبغير سند. وقال الحسن أيضاً: دخل جبريل على يوسف عليهما السلام في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له: يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 الخاطئين. فقال له جبريل: يا طاهر يا ابن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك: أما استحييت مني واستشفعت للآدميين فوعزتي لالبثنك في السجن بضع سنين. قال يوسف: وهو في ذلك عني راض؟ قال: نعم. قال: إذاً لا أبالي. وقال كعب: قال جبريل ليوسف: إنّ الله تعالى يقول لك: من خلقك؟ قال: الله. قال: فمن علمك تأويل الرؤيا؟ قال: الله. قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال: الله. قال: فمن أنجاك من كرب البئر؟ قال: الله تعالى. قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: الله. قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟. قال محمد بن عمر الرازيّ في تفسيره: والذي جربته من أوّل عمري إلى آخره أنّ الإنسان كلما عوّل في أمر من الأمور على غير الله تعالى صار ذلك سبباً للبلاء والمحنة والشدّة والرزية، وإذا عول على الله تعالى ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه، فهذه التجربة قد استمرّت لي من أوّل عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت إلى السابع والخمسين، فعند ذلك استقرّ قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه. ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الأكبر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هائلة، كما قال تعالى: {وقال الملك إني أرى} ، أي: رأيت عبر بالمضارع حكاية للحال لشدّة ما هاله من ذلك {سبع بقرات سمان} ، أي: خرجن من نهر يابس، والسمن زيادة البدن من الشحم واللحم وسمان جمع سمينة، ويجمع سمين أيضاً عليه يقال: رجال سمان ونساء سمان كما يقال: رجال كرام ونساء كرام {يأكلهنّ} ، أي: يبتلعهنّ {سبع} ، أي: من البقر {عجاف} جمع عجفاء، أي: مهازيل خرجن من ذلك النهر. تنبيه: جمع عجفاء على عجاف، والقياس عجف نحو حمراء وحمر حملاً له على سمان؛ لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض {و} إني أرى {سبع سنبلات خضر} ، أي: قد انعقد حبها {و} إني أرى سبع سنبلات {أخر يابسات} ، أي: قد أدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها وإنما استغنى عن بيان حالها بما نص من حال البقرات، والسنبلة نبات كالقصبة فيها جملة حبوب منتظمة، فكأنه قيل: فكان ماذا؟ فقيل: قال الملك بعد أن جمع السحرة والكهنة والمعبرين {يا أيها الملأ} ، أي: الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مآثرهم {أفتوني في رؤياي} ، أي: أخبروني بتأويلها {إن كنتم للرؤيا تعبرون} ، أي: إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا فاعبروها. تنبيه: اللام في للرؤيا مزيدة فلا تعلق لها بشيء، وزيدت لتقدّم المعمول تقويةً للعامل كما زيدت إذا كان العامل فرعاً كقوله تعالى: {فعال لما يريد} (البروج، 16) ولا تزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورة، وقيل: ضمن تعبرون معنى ما يتعدّى باللام تقديره: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا، وقيل: متعلقة بمحذوف على أنها للبيان كقوله تعالى: {وكانوا فيه من الزاهدين} (يوسف، 20) تقديره: أعني فيه، وكذلك هذا تقديره: أعني للرؤيا، وعلى هذا يكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها، وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} هذه الرؤيا {أضغاث} ، أي: أخلاط {أحلام} مختلطة مختلفة مشتبهة جمع ضغث بكسر الضاد وإسكان الغين المعجمة، وهي قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، والأحلام جمع حلم بضم الحاء وإسكان اللام وضمها، وهو الرؤيا فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 لكونه من حديث النفس ووسوسة الشيطان لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها؛ لأنّ الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحزين الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس، ثم قالوا: {وما نحن} ، أي: بأجمعنا {بتأويل الأحلام} ، أي: المنامات الباطلة {بعالمين} ، أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة كأنه مقدّمة ثانية للعذر ولما سأل الملك عن هذه الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف عليه السلام؛ لأنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم كما قال تعالى: {وقال الذي نجا} ، أي: خلص {منهما} ، أي: من صاحبي السجن وهو الشرابي إنّ في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في كل ما ذكر وما أخطأ في حرف، فكانت هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام، ولم يتذكر الشرابي إلا بعد طول المدّة كما قال تعالى: {وادّكر} بالدال المهملة، أي: طلب الذكر بالذال المعجمة وزنه افتعل {بعد أمّة} ، أي: وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة، أي: مدّة طويلة، والجملة اعتراض ومقول القول {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} ، أي: إلى يوسف عليه السلام فإنه أعلم الناس فأرسلوه إليه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولم يكن السجن بالمدينة فأتاه، فقال الساقي المرسل إليه منادياً له نداء القرب تحبباً إليه: {يوسف} وزاد في التحبب بقوله {أيها الصدّيق} ، أي: البليغ في الصدق والتصديق؛ لأنه جرّب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وهذا يدل على أنّ من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال، ثم إنه أعاد السؤال يعني اللفظ الذي ذكره الملك فقال: {أفتنا} ، أي: اذكر لنا الحكم {في سبع بقرات سمان} ، أي: رآهنّ الملك {يأكلهنّ سبع} من البقر {عجاف و} في {سبع سنبلات} جمع سنبلة وهي مجمع الحب من الزرع {خضر و} في سبع {أخر} من السنابل {يابسات} ، أي: في رؤيا ذلك، ونعم ما فعل من ذكر السؤال بعين اللفظ، فإنّ نفس الرؤيا قد تختلف بحسب اختلاف الألفاظ كما هو مذكور في ذلك العلم ثم قال: {لعلي أرجع إلى الناس} ، أي: إلى الملك وجماعته بفتواك قبل مانع يمنعني {لعلهم يرجعون} ، أي: بتأويل هذه الرؤيا، وقيل: بمنزلتك في العلم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح الياء، والباقون بالسكون. {قال} يوسف عليه السلام معبراً لتلك الرؤيا: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، وأمّا البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة فذلك قوله {تزرعون سبع سنين} وهو خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} (البقرة، 228) {والوالدات يرضعن} (البقرة، 233) وإنما خرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فذروه في سنبله} وقوله: {دأباً} نصب على الحال، أي: دائبين، أي: سبع سنين متتابعة على عادتكم في الزراعة، والدأب العادة، وقيل: ازرعوا بجد واجتهاد، وهذا تأويل السبع السمان والسنبلات الخضر. وقرأ حفص بفتح الهمزة، وسكنها الباقون، وأبدلها السوسي ألفا وقفاً ووصلاً، وحمزة وقفاً فقط. {فما حصدتم فذروه} ، أي: اتركوه {في سنبله} لئلا يفسد ولا يقع فيه السوس، وذلك أبقى له على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 طول الزمان {إلا قليلاً مما تأكلون} ، أي: ادرسوا قليلاً من الحنطة للأكل بقدر الحاجة، أمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضاً، وهو وقت السنين المجدبة كما قال: {ثم يأتي من بعد ذلك} ، أي: السبع المخصبات {سبع شداد} ، أي: مجدبات صعاب وهي تأويل السبع العجاف والسنبلات اليابسات {يأكلن ما قدّمتم لهنّ} ، أي: يأكل أهلهنّ ما ادّخرتم لأجلهنّ، فأسند إليهنّ على المجاز تطبيقاً بين المعبر وهو يأكلهنّ سبع عجاف والمعبر به وهو يأكلن ما قدّمتم لهنّ {إلا قليلاً مما تحصنون} ، أي: تحرزون وتدّخرون للبذر، والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع. {ثم يأتي من بعد ذلك} ، أي: السبع المجدبات {عام فيه يغاث الناس} ، أي: يمطرون من الغيث وهو المطر، وقيل: ينقذون من قول العرب استغثت فأغاثني {وفيه يعصرون} من العنب خمراً، ومن الزيتون زيتاً، ومن السمسم دهناً، وأراد بذلك كثرة النعم والخير. وقال أبو عبيدة: ينجون من الكرب والشدّة والجدب. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب؛ لأنّ الكلام كله مع الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة ردّاً إلى الناس. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه. {وقال الملك} ، أي: الذي العزيز في خدمته {ائتوني به} لأسمع ذلك منه وأكرمه وهذا يدلّ على فضيلة العلم فإنه سبحانه وتعالى جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية؟ فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك {فلما جاءه} ، أي: يوسف عليه السلام عن قرب من الزمان {الرسول} بذلك وهو الساقي وقال له: أجب الملك {قال} له يوسف عليه السلام {ارجع إلى ربك} ، أي: سيدك الملك، ولم يخرج معه حتى يظهر برهانه للملك ولا يراه بعين النقص ولذلك قال: {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ} وإنما قال يوسف عليه السلام: فاسأله ما بال النسوة، ولم يقل: فاسأله أن يفتش عن حالهنّ؛ لأنّ قوله: فاسأله يحتمل أن يكون بمعنى المسألة، أي: اسأله عن شأنهنّ وأن يكون بمعنى الطلب، وهو أن يفتش عن شأنهنّ فحسن تقييده بلفظ ما التي يسأل بها عن حقيقة الشيء ليهيجه أن يتحرك للتفتيش عن حالهنّ؛ لأنّ الإنسان حريص على تحقيق الشيء ويستنكف أن ينسب إلى الجهل به بخلاف ما لو قال: سله أن يفتش، أي: اطلب منه فإنه لا يبالي بهذا الطلب ولا يلتفت إليه لا سيما الملوك.k وإنما لم يتعرّض لسيدته مع ما صنعته به كرماً ومراعاة للأدب، وقدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ لتظهر براءة ساحته؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليماً ذا أناة» . وأصل الحديث في الصحيحين مختصراً، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع لا أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 صلى الله عليه وسلم كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيراً ولا يضع رفيعاً ولا يبطل لذي حق حقه، لكنه يوجب لصاحبه فضلاً ويلبسه جلالة وقدراً، وقوله: «والله يغفر له» مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب من توقيره وتوقير حرمته كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي، وقوله: «إن كان لحليماً» إن هي المخففة من الثقيلة، والأناة الوقار، وقيل: هو اسم من التأني في الأمور. وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها {إنّ ربي} ، أي: الله {بكيدهنّ عليم} حين قلن أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهنّ والاستشهاد بعلم الله تعالى عليه وأنه بريء مما عيب به، والوعيد لهنّ على كيدهنّ، وقيل: المراد بربي الملك، وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له، وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهنّ ومكرهنّ، ولما قال يوسف عليه السلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه السلام فكأنه قيل: فما فعل الملك؟ فقيل: {قال} للنسوة بعد أن جمعهنّ وامرأة العزيز معهنّ {ما خطبكنّ} ، أي: ما شأنكنّ العظيم وقوله: {إذ راودتنّ} ، أي: خادعتنّ {يوسف عن نفسه} دليل على أنّ براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، وإنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها، وقيل: إنّ امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهنّ فكأنه قيل فما قلن؟ قيل: {قلن حاش لله} ، أي: عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر {ما علمنا عليه} ، أي: يوسف عليه السلام وأغرقن في النفي فقلن {من سوء} ، أي: من خيانة في شيء من الأشياء، ولما أنّ يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: {ما بال النسوة اللاتي قطعنّ أيديهنّ} (يوسف، 50) فذكرهنّ ولم يذكر تلك المرأة البتة وعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عنها أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء فلذلك {قالت امرأت العزيز} مصرحة بحقيقة الحال {الآن حصحص الحق} ، أي: ظهر وتبين {أنا راودته} ، أي: خادعته {عن نفسه} وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدّم {وإنه لمن الصادقين} ، أي: الغريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ، وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهنّ ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به إلى شيء من السوء البتة، فمن نسب بعد ذلك هما أو غيره فهو تابع لمجرّد الهوى في نبيّ من المخلصين. قال الرازي: رأيت في بعض الكتب أنّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادّعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن تكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من إقامة الشهادة. فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك فإني مقرّ بصداقها في دعواها. فقالت المرأة: لما أكرمتني إلى هذا الحدّ فاشهدوا أني أبرأت ذمّتك من كل حق لي عليك. ولما رجع الرسول إلى يوسف عليه السلام وأخبره بشهادتهنّ ببراءته قال: {ذلك} ، أي: الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق {ليعلم} العزيز بإقرارها وهي في الأمن وأنا في محل الضيق والخوف علماً مؤكداً {أني لم أخنه} ، أي: في أهله ولا في غيرها {بالغيب} ، أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 والحال أنّ كلاً منا غائب عن صاحبه هذا قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام، قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى: {إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} (النمل، 34) هذا كلام بلقيس، ثم قال الله تعالى: {وكذلك يفعلون} (النمل، 34) وقوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} (آل عمران، 9) كلام الداعي ثم قال الله تعالى: {إنّ الله لا يخلف الميعاد} ثم ختم الكلام بقوله: {وأنّ الله لا يهدي} ، أي: يسدّد وينجح بوجه من الوجوه {كيد الخائنين} ، أي: ولو كنت خائناً لما خلصني الله من هذه الورطة العظيمة، وحيث خلصني منها ظهر أني بريء عما نسبوني إليه. وقيل: إنه كلام امرأة العزيز، والمعنى: أني وإن كنت أحلت عليه الذنب في حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه في غيبته، أي: لم تقل فيه وهو في السجن خلاف الحق، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت: {وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين} يعني إني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت، وإنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله تعالى منه. واعلم أنّ هذه الآية على القول الأوّل دالة على طهارة يوسف عليه السلام من وجوه كثيرة؛ الأوّل: قولها: {أنا رادوته عن نفسه} . والثاني: قولها: {وإنه لمن الصادقين} وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله: {هي راودتني عن نفسي} . والثالث: قول يوسف عليه السلام: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت. قال الرازي: وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، أي: وإنما أسندها بعضهم لابن عباس بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن. ورابعها: أنّ إقدامه على قوله {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى نبي مرسل من سلالة الأنبياء الأصفياء؟ فثبت أنّ هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقول الجهال والحشوية، واختلفوا في تفسير قوله: {وما أبرئ نفسي} لأنّ ذلك يختلف باختلاف ما قبله؛ لأنّ قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} إن كان من كلام يوسف عليه السلام، وقد مرّ أنه قول الأكثرين فهو أيضاً كلامه، وإن كان من كلام المرأة، فهذا أيضاً كلامها، فعلى الأوّل قد تمسك به الحشوية، وقالوا: إنه عليه السلام لما قال: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال له جبريل: ولا حين حللت تكة سراويلك فعند ذلك قال يوسف عليه السلام {وما أبرئ نفسي} . {إنّ النفس لأمّارة بالسوء} ، أي: بالزنا {إلا ما رحم} ، أي: عصم منه {ربي إنّ ربي غفور} ، أي: للهم الذي هممته {رحيم} ، أي: لو فعلته لتاب عليّ، وهذا ضعيف كما قاله الرازي لما تقدّم أنّ الآية المتقدّمة برهان قاطع على براءته من الذنب، وإنما قال ذلك عليه السلام؛ لأنه لما قال: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها وقد قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم، 32) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله: {وما أبرئ نفسي} والمعنى وما أزكي نفسي {إنّ النفس لأمارة بالسوء} ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية. وعلى الثاني أنها لما قالت: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 قالت: {وما أبرئ نفسي} من الخيانة مطلقاً، فإني قد خنته حي أحلت الذنب عليه وقلت: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن} وأودعته في الحبس، كأنها أرادت الاعتذار مما كان، واختلف في قوله: {وقال الملك} فمنهم من قال: هو العزيز، ومنهم من قال: هو الريان الذي هو الملك الأكبر. قال الرازي: وهذا هو الأظهر لوجهين: الأوّل: أنّ قول يوسف {اجعلني على خزائن الأرض} يدل عليه. الثاني: قوله {أستخلصه لنفسي} يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز فدل هذا على أنّ هذا الملك هو الملك الأكبر انتهى. وإنما صرّح به ولم يستغن بضميره كراهية الالتباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه السلام، ولو كان الكل من كلامها لاستغني بالضمير، ولم يحتج إلى إبرازه {ائتوني به استخلصه لنفسي} ، أي: أجعله خالصاً لي دون شريك. قال ابن عباس: فأتاه الرسول فقال له: ألق عنه ثياب السجن وألبسه ثياباً جدداً، وقم إلى الملك فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة، واغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً بعد أن دعا لأهل السجن فقال: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عنهم الأخبار، وكتب على باب السجن هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وبيوت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم أتى الملك فلما رآه غلاماً حدثاً فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ ثم أقعده قدّامه وقال له: لا تخف وألبسه طوقاً من ذهب وثياباً من حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وروي أنّ جبريل عليه السلام دخل على يوسف وهو في الحبس وقال: قل: اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً، وارزقني من حيث لا أحتسب، فقبل الله تعالى دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وروي أنّ يوسف لما دخل عليه قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه بالعربية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان آبائي، قال وهب: كان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين، وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف عليه السلام وزاد بالعربية والعبرانية {فلما كلمه} ، أي: كلم الملك يوسف عليه السلام وشاهد منه ما شاهد من جلال النبوّة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة أقبل عليه وقال: إني أحبّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً، فأجابه بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته فعند ذلك. {قال} له {إنك اليوم لدينا مكين أمين} ، أي: ذو مكانة وأمانة على أمرنا فما ترى أيها الصديق؟ {قال} أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن، وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنين المجدبة بعنا الغلال فيحصل بهذا الطريق مال عظيم، فقال الملك: ومن لي بهذا الشغل؟ فقال يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} جمع خزانة وأراد خزائن الطعام والأموال، والأرض أرض مصر، أي: خزائن أرضك مصر، وقال الربيع بن أنس:، أي: خرج مصر ودخله. وروى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ساعته لكنه لما قال ذلك أخره الله تعالى سنة فأقام في بيته سنة مع الملك» . قال الرازي: وهذا من العجائب؛ لأنه لما تثاقل عند الخروج من السجن سهل الله تعالى عليه ذلك على أحسن الوجوه. ولما سارع في ذكر هذا الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه، وهذا يدل على أنّ ترك التصرف أتم، والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى، ثم قال: {إني حفيظ عليم} ، أي: ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل: كاتب وحاسب. فإن قيل: لم طلب يوسف عليه السلام الإمارة والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة» . ولم طلب الإمارة من سلطان كافر، ولم لم يصبر مدّة، ولم أظهر الرغبة في طلبها في الحال، ولم طلب أمر الخزائن في أوّل الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة، ولم مدح نفسه وقد قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم، 32) ولم ترك الاستثناء في هذا وقد قال تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23، 24) فهذه سبعة أسئلة؟. أجيب عنها: بأنّ الأصل في جواب هذه الأسئلة أنّ التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان وإنما كان ذلك واجباً عليه لوجوه: الأوّل: أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه مراعاة الأمة بقدر الإمكان. والثاني: أنه علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد، فلعله تعالى أمره أن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق. والثالث: أن السعي أيضاً في إيصال النفع إلى المستحقين ورفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول، فكان مكلفاً عليه السلام برعاية المصالح من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما مدح نفسه؛ لأنّ الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكن ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر، وأيضاً مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد به الشخص التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، وأمّا هذا الوجه فليس بمذموم وقوله تعالى {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم، 32) المراد به تزكية حال من لا يعلم كونها مزكاة والدليل قوله تعالى بعد هذه الآية: {هو أعلم بمن اتقى} (النجم، 32) أمّا إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه، وإنما ترك الاستثناء؛ لأنه لو ذكره بما اعتقد الملك فيه إنه إنما ذكره لعلمه أنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي، فلهذا المعنى ترك الاستثناء، ولما سأل يوسف عليه السلام ما تقدم قال معلماً بأنه قد أجيب بتنجيز الله تعالى له: {وكذلك} ، أي: كإنعامنا عليه بالخلاص من السجن {مكنا ليوسف في الأرض} ، أي: أرض مصر {يتبوّأ} ، أي: ينزل {منها حيث يشاء} بعد الضيق والحبس قال ابن عباس وغيره: ولما انقضت السنة من يوم سأل الأمارة دعاه الملك فتوجه وجعل خاتم الملك في إصبعه وقلده سيفه وجعل له سريراً من ذهب مكللاً بالدرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشاً، فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشدّ به ملكك، وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وأمره أن يخرج فخرج لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك ودخل الملك بيته وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن إسحاق: قال ابن زيد: وكان لملك مصر خزائن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذاً في مملكته، ثم مات قطفير بعد ذلك فزوّجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ قالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عليه السلام عذراء فأصابها فولدت له ذكرين افراثيم وميشا، فأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدواب في السنة الثالثة، ثم بالعبيد والإماء في السنة الرابعة، ثم بالضياع والعقار في السنة الخامسة، ثم بأولادهم في السنة السادسة، ثم برقابهم في السنة السابعة حتى لم يبق بمصر حرّ ولا حرّة إلا صار عبداً له، فقال الناس: ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم من هذا صار كل الخلق عبيداً له، فلما سمع ذلك قال: إني أشهد الله أني اعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع أحداً ممن يطلب الطعام أكثر من حمل بعير؛ لئلا يضيق الطعام على الباقين هذا ملخص ما قاله البغوي والزمخشري وغيرهما. قال الرازي: والله أعلم بحقيقة الحال وروي أنّ يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام، فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: إن شبعت نسيت الجائع، وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غداءه نصف النهار أراد بذلك أن يذيق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين قال البغوي: فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار قال الله تعالى: {نصيب} ، أي: نخص {برحمتنا من نشاء} في الدنيا والآخرة {ولا نضيع أجر المحسنين} بل نؤتيهم أجورهم عاجلاً؛ وآجلاً لأنّ إضاعة الأجر إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل ممتنع في حق الله تعالى فالإضاعة ممتنعة. {ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} الشرك والفواحش، قال الرازي: وهذا تنصيص من الله تعالى على أنّ يوسف عليه السلام كان في الزمان السابق من المتقين وليس هاهنا زمان سابق يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله تعالى فيه: {ولقد همت به وهمّ بها} فكان هذا من الله تعالى شهادة بأنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله: {ولا نضيع أجر المحسنين} شهادة من الله تعالى على أنه كان من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأنّ يوسف كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من المذنبين ولا شك أن من لم يقبل قول الله تعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين. ولما اشتدّ القحط وعظم البلاء عم ذلك جميع البلاد حتى وصل إلى بلاد الشام وأرض كنعان، وقصد الناس مصر من كل مكان للميرة، فجعل يوسف عليه السلام لا يعطي أحداً أكثر من حمل بعير وإن كان عظيماً تقسيطاً بين الناس. وتزاحم الناس عليه، ونزل بآل يعقوب ما نزل بالناس من الشدّة، فبعث بنيه إلى مصر للميرة وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه وأبيه فذلك قوله تعالى: {وجاء إخوة يوسف} وكانوا عشرة وكان منزلهم بالعربات من أرض فلسطين ثغور الشأم وكانوا أهل إبل وشياه، فدعاهم أبوهم يعقوب عليه السلام، وقال: بلغني أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 بمصر ملكاً صالحاً يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون من الطعام. وههنا همزتان مختلفتان من كلمتين، فقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو بتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق. ولما أمرهم أبوهم بذلك خرجوا حتى قدموا مصر {فدخلوا عليه فعرفهم} قال ابن عباس: بأوّل نظرة إليهم عرفهم. وقال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه. {وهم له منكرون} ، أي: لم يعرفوه وذلك لوجوه: الأوّل: أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بواسطة، الثاني: أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً، ثم أنهم رأوه بعد وفور اللحية وكبر الجثة، قال ابن عباس: وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه، وقال عطاء: إنما لم يعرفوه؛ لأنه كان على سرير الملك، وكان بزيّ ملوك مصر عليه ثياب حرير، وفي عنقه طوق ذهب، ثم أنّ يوسف عليه السلام أمر بإنزالهم وإكرامهم وكانت عادته أن لا يزيد أحداً على حمل بعير، وكانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال كما قال تعالى: {ولما جهزهم بجهازهم} ، أي: وفاهم كيلهم والجهاز ما يعدّ من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها، فقالوا: إن لنا شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه وذكروا أنّ أباهم لأجل سنه وشدّة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم في خدمة أبيه ولا بدّ لهما أيضاً من حملين آخرين من الطعام، فلما ذكروا ذلك قال يوسف عليه السلام: فهذا يدل على أنّ حب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب؛ لأنكم أنتم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل ذلك على أنه أعجوبة في العقل والأدب فجيئوني به حتى أراه كما قال تعالى حكاية عنه: {قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم} ، أي: الذي خلفتموه عنده. وقيل: إنه لما نظر إليهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: اخبروني من أنتم وما أمركم؟ فإني أنكرت شأنكم قالوا: قوم من أرض الشأم أصابنا ما أصاب الناس، فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم لتنظروا إلى عورة بلادنا؟ قالوا: لا والله لسنا بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صديق، يقال له يعقوب نبيّ من أنبياء الله تعالى، قال: وكم كنتم؟ قالوا: كنا اثنى عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها، وكان من أحبنا إلى أبينا قال: فكم أنتم ههنا؟ قالوا: عشرة. قال: وأين الابن الآخر؟ قالوا: عند أبينا؛ لأنه أخو الذي هلك وأبوه مبتلى به. قال: فمن يعلم أن الذي تقولون حق؟ قالوا: أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد. فقال يوسف عليه السلام: فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك. فقالوا: إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده، ثم إنه قال لهم: {ألا ترون أني أوفي الكيل} ، أي: أتمه ولا أبخس منه شيئاً، وقرأ نافع بفتح الياء من أني، والباقون بالسكون، وأما الياء من {أوفي} فجميع القراء يثبتونها في الوقف لثباتها في الرسم، وحذفوها في الوصل لالتقاء الساكنين {وأنا خير المنزلين} ، أي: المضيفين فإنه كان قد أحسن ضيافتهم مدّة إقامتهم عنده. قال الرازي: وهذا يضعف قول من يقول من المفسرين أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم عيون وجواسيس، ولو شافههم بهذا الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فلا يليق به أن يقول لهم: {ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين} وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم: أنتم عيون وجواسيس مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة؛ لأنّ البهتان لا يليق بحال الصديق ثم قال عليه السلام: {فإن لم تأتوني به} ، أي: بأخيكم {فلا كيل} ، أي: فلا ميرة {لكم عندي} ولم يمنعهم من غيره {ولا تقربون} نهي أو عطف على محل فلا كيل لكم، أي: تحرموا ولا تقربوا مني ولا تدخلوا دياري، فجمع لهم عليه السلام بين الترغيب والترهيب فالترغيب في قوله الأوّل، والترهيب في قوله الثاني؛ لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى الطعام وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، ومع ذلك لم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا سنراود} ، أي: بوعد لا خلف فيه حين نصل {عنه أباه} ، أي: سنكمله فيه وننازعه الكلام ونحتال فيه ونتلطف في ذلك ولاندع جهداً {وإنا لفاعلون} ما أمرتنا به والتزمناه. {و} لما أرغبهم وأرهبهم في شأن أخيه {قال لفتيته} ، أي: غلمانه الكيالين جمع فتى، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بألف بعد الياء المثناة تحت وبعد الألف نون مكسورة، والباقون بالياء المثناة تحت ثم بتاء مثناة فوق مكسورة. {اجعلوا بضاعتهم} ، أي: التي أتوا بها ثمن الميرة وكانت دراهم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها كانت النعال والأدم {في رحالهم} جمع رحل أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام {لعلهم يعرفونها} ، أي: بضاعتهم {إذا انقلبوا} ، أي: رجعوا {إلى أهلهم} وفتحوا أوعيتهم {لعلهم يرجعون} إلينا. واختلف في السبب الذي من أجله رد يوسف عليه السلام بضاعتهم في رحالهم على أوجه: الأوّل: أنه أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدّة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم. الثاني: أراد أن يعرّف أباه انه أكرمهم وطلبهم لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. الثالث: مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا يطلب زيادة الثمن. والرابع: أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه عيب ولا منة. الخامس: قال الفراء: إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد أنبياء فيرجعون ليعرفوا السبب فيه، ويردوا الملك إلى مالكه. السادس: أراد به التوسعة على أبيه؛ لأنّ الزمان كان زمان القحط. السابع: رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه ومن إخوته على شدّة حاجتهم إلى الطعام لؤم. الثامن: خاف أن لا يكون عند أبيه من المال ما يرجعون به مرّة أخرى. التاسع: أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أنّ ذلك كرم من يوسف عليه السلام وسخاء، فيبعثهم ذلك إلى العود إليه والحرص على معاملته عليه السلام. {فلما رجعوا} ، أي: أخوة يوسف عليه السلام {إلى أبيهم قالوا يا أبانا} إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا إكرامه، فقال يعقوب عليه السلام: إذا رجعتم إلى ملك مصر فأقرؤوه مني السلام وقولوا له: إنّ أبانا يدعو لك بما أوليتنا، ثم قال لهم: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة وقولهم: {منع منا الكيل} فيه قولان: أحدهما: أنهم لما طلبوا الطعام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 لأخيهم الغائب عند أبيهم منعوا منه. والثاني: أنهم منعوا الكيل في المستقبل، وهو قول يوسف عليه السلام: {فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} ويدل لهما قولهم: {فأرسل معنا أخانا} بنيامين {نكتل} فإنّ حمزة والكسائي قرآه بالياء، أي: يكتل لنفسه، وهذا يدل للقول الأوّل، والباقون بالنون، أي: نكتل نحن وإياه، وهذا يدل للقول الثاني {وإنا له لحافظون} عن أن يناله مكروه حتى نردّه إليك، فلما قالوا ليعقوب عليه السلام هذه المقالة. {قال} لهم {هل آمنكم} ، أي: أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه بما يسوءني تأميناً مستقبلاً {عليه} ، أي: بنيامين {إلا كما أمنتكم} ، أي: في الماضي {على أخيه} يوسف عليه السلام {من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردّوه إليّ، والأمن اطمئنان القلب إلى سلامة النفس، فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله تعالى {فالله} المحيط علماً وقدرة {خيرٌ حافظاً} منكم ومن كل أحد، ففيه التفويض إلى الله تعالى والاعتماد عليه في جميع الأمور. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الحاء وألف بعدها وكسر الفاء، والباقون بكسر الحاء وسكون الفاء، وهو منصوب على التمييز في القراءتين، وتحتمل الأولى النصب على الحال اللازمة {وهو أرحم الراحمين} ، أي: أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه فلا يجمع عليّ مصيبتين. {ولما} أرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة {فتحوا متاعهم} ، أي: أوعيتهم التي حملوها من مصر {وجدوا بضاعتهم} ، أي: ما كان معهم من كنعان لشراء القوت {ردّت إليهم} والوجدان ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا} ، أي: لأبيهم عليه السلام {يا أبانا ما} استفهامية، أي: أي شيء {نبغي} ، أي: نريد، جميع القراء أثبتوا الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم، فكأنه قال لهم: ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك؟ وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم: {هذه بضاعتنا ردّت إلينا} هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا وردّ علينا متاعنا. ولما كان التقدير ونرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا {ونمير أهلنا} ، أي: نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه، والميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد {ونحفظ أخانا} فلا يصيبه شيء مما تخشى عليه تأكيداً للوعد بحفظه {ونزداد كيل بعير} لأخينا {ذلك كيل يسير} ، أي: سهل على الملك لسخائه وحرصه على البذل، وقيل: قصير المدّة ليس سبيل مثله أن تطول مدّته بحسب الحبس والتأخير، وقيل قليل فابعث أخانا حتى نبدل تلك القلة بالكثرة، فكأنه قيل: ما قال لهم؟ فقيل: {قال} يعقوب عليه السلام: {لن أرسله} ، أي: بنيامين كائناً {معكم} ، أي: في وقت من الأوقات {حتى تؤتوني موثقاً} ، أي: عهد مؤكداً {من الله} قرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد النون وقفاً ووصلاً، وأبو عمرو بإثبات الياء وقفاً لا وصلاً، وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً، وقوله {لتأتنني} ، أي: كلكم {به} أي: تحلفوا بالله لتأتنني به من الإتيان، وهو المجيء في كل حال جواب القسم، أو المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به {إلا} ، أي: في حال {أن يحاط} ، أي: تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب لاطاقة لكم بها {بكم} فتهلكوا من عند آخركم كل ذلك زيادة في التوثيق بما حصل له من المصيبة بيوسف عليه السلام، وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله تعالى، وهذا من باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 اعقلها وتوكل، فأجابوه إلى ذلك كما قال تعالى {فلما آتوه موثقهم} بذلك {قال الله على ما نقول} نحن وأنتم {وكيل} ، أي: شهيد، وأرسله معهم بعد ذلك. فإن قيل: لم أرسله معهم وقد شاهد منهم ما شاهد في يوسف عليه السلام؟ أجيب: بأن ذلك لوجوه: أحدها: أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح، الثاني: أنه كان شاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام، الثالث: لعل الله أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه. {و} لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد {قال} لهم {يا بني لا تدخلوا} إذا قدمتم إلى مصر {من باب واحد} من أبوابها {وادخلوا من أبواب} واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً بقوله: {متفرّقة} ، أي: تفرّقا كثيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين، وهي من قدر الله تعالى. وقد ورد شرعنا بذلك ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق» . وفي رواية عن أحمد «يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم» . وفي رواية لمسلم: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» . وفي رواية عن جابر: «إنّ العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة» . ويقول: «هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق» صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر النبيين، وعن عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل النهار فوجدته شديد الوجع، ثم عدت إليه في آخر النهار فرأيته معافى فقال: «إنّ جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك، قال فأفقت» وفي رواية أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلماناً بيضاً فقالت أسماء: يا رسول الله، إنّ العين إليهم سريعة فاسترق لهم من العين؟ فقال لها: «نعم» . وفي رواية دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أمّ سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا: يا رسول الله أصابته العين. فقال: «أما تسترقون له من العين» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «كان يؤمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين الذي أصيب بالعين» . ولما خاف يعقوب عليه السلام أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أنّ الحذر يغني عن القدر نفى ذلك بقوله عليه السلام {وما أغني} ، أي: أدفع {عنكم} بقولي ذلك {من الله من شيء} قدره عليكم، وإنما ذلك شفقة، ومن مزيدة للتأكيد، واعلم أنّ الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم بأن يجزم بأنه لا يحصل الا ما قدره الله تعالى وإن الحذر لايدفع القدر، فالإنسان مأمور بأن يحذر الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضارّ بقدر الإمكان، ومع ذلك يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدّره الله تعالى، ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله تعالى، فقوله عليه السلام: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله: {وما أغني عنكم من الله من شيء} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب بل إلى التوحيد المحض، والبراءة من كل شيء سوى الله تعالى. ولما قصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 الأمر كله إليه تعالى وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك {إن الحكم إلا لله} وحده الذي ليس الحكم إلا له {عليه} ، أي: على الله وحده {توكلت} ، أي: جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعل {وعليه} وحده {فليتوكل المتوكلون} ، أي: الثابتون في باب التوكل، فإنّ ذلك من أعظم الواجبات من فعله فاز ومن أغفله خاب، وقد ثبت بالبرهان أن لا حكم إلا لله، فلزم القطع بأنّ حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى، وذلك يوجب أن لا توكل إلا على الله تعالى، فهذا مقام شريف عال. والشيخ أبو حامد الغزالي أكثر في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتب «إحياء علوم الدين» فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب. ولما قال يعقوب عليه السلام: {وما أغني عنكم من الله من شيء} صدّقه الله تعالى في ذلك فقال: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} ، أي: متفرّقين {ما كان} ذلك التفرّق {يغني عنهم من الله} ، أي: من قضائه وأغرق في النفي فقال: {من شيء} ، أي: مما قضاه عليهم كما تقدّم من قول يعقوب عليه السلام فسرّقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب عليه السلام وقوله تعالى: {إلا حاجة} استثناء منقطع، أي: لكن حاجة {في نفس يعقوب} وهي الوصول إلى ما أمر به شفقة عليهم {قضاها} يعقوب عليه السلام وأبرزها من نفسه إلى أولاده فعملوا فيها بمراده فاغني عنهم الخلاص من عقوق أبيهم فقط {وإنه} ، أي: يعقوب عليه السلام مع أمره لبنيه بذلك {لذو علم} ، أي: معرفة بالحكمين حكم التكليف وحكم التقدير واطلاع على الكونين عظيم {لما علمناه} بالوحي ونصب الحجج، ولذلك قال: {وما أغني عنكم من الله من شيء} ولم يغتر بتدبيره. ولما كان قد يظنّ أنّ كل أحد يكون كذلك، أي: يعلم ما علمه نفى ذلك سبحانه وتعالى بقوله جل شأنه {ولكنّ أكثر الناس} ، أي: لأجل ما نالهم من الاضطراب {لا يعلمون} ، أي: ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفراغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكليف لهم به ومن أحوال الدنيا ومقابلة فطرهم القويمة السليمة بردّها إلى ما تدعوهم إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون طب لمخلوق. ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه السلام. فقال: {ولما دخلوا} ، أي: أخوة يوسف عليه السلام {على يوسف} في المقدمة الثانية بأخيهم بنيامين قالوا: هذا أخونا فقال: أحسنتم واحتسبتم وستجدون خير ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرم منزلهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً أجلسني معه، فقال يوسف: لقد صار أخوكم هذا وحيداً فأجلسه معه على مائدته، وصار يؤاكله فلما كان الليل أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً، فبقي بنيامين وحده فقال يوسف هذا ينام معي على فراشي كما قال تعالى {آوى} أي: ضم {إليه أخاه} فبات معه وجعل يوسف يضمه إليه ويشمه ثم قال له: ما اسمك؟ فقال: بنيامين، قال: وما بنيامين؟ قال: المثكل وذلك أنه لما ولد هلكت أمّه. قال: وما اسم أمّك؟ قال: راحيل بنت لاوي. قال: فهل لك من ولد؟ قال: نعم عشرة بنين. ولما رأى تأسفه لأخ له هلك، قال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك؟ فقال: ومن يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه {وقال إني أنا أخوك فلا تبتئس} ، أي: لا تحزن {بما كانوا يعملون} ، أي: بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا فلا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي قد أقدموا عليها، وقد جمعنا الله تعالى على خير ولا تعلمهم بشيء من ذلك. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، ومدّ بعد النون من أنا قبل الهمزة المفتوحة نافع، والباقون بالقصر، ثم أنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا، وكان في المرّة الأولى أبطأ في تجهيزهم في طول المدّة ليتعرّف أخبارهم من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرّة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبّرها فلذلك أتت الفاء في قوله: {فلما جهزهم} ، أي: اعجل جهازهم وأحسنه {بجهازهم جعل} بنفسه أو بمأذونه {السقاية} ، أي: المشربة التي كان يشرب بها {في رحل أخيه} ، أي: وعاء طعام أخيه بنيامين كما فعل ببضاعتهم في المرّة الأولى. قال ابن عباس: كانت من زبرجد. وقال ابن إسحاق: كانت من فضة وقيل: من ذهب. وقال عكرمة: كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، وجعلها يوسف عليه السلام مكيالاً لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها. قال الرازي: هذا بعيد؛ لأنّ الإناء الذي يشرب فيه الملك لا يصلح أن يجعل صاعاً، وقيل: كانت الدواب تسقى بها، قال: وهذا أيضاً بعيد؛ لأنّ الآنية التي تسقى الدواب فيها لا تكون كذلك، وقال: والأصوب أن يقال: كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أمّا إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا، والسقاية والصواع واحد، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا وذهبوا منزلاً، وقيل: حتى خرجوا من العمارة ثم بعث خلفهم من استوقفهم وحبسهم {ثم أذن} ، أي: أعلن فيهم بالنداء {مؤذن} قائلاً برفع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه بما دل عليه إسقاط الأداة {أيتها العير} ، أي: القافلة، قال أبو الهيثم: كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير. قال: وقول من قال العير الإبل خاصة باطل، فقوله: {أيتها العير} ، أي: أصحاب العير كقوله: يا خيل الله اركبي. قال الفراء: كانوا أصحاب إبل. وقال مجاهد: كانت العير حميراً. وقرأ ورش بإبدال همزة مؤذن واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف فقط، والباقون بالقصر. {إنكم لسارقون} فقفوا حتى ننظر الذي فقد لنا، والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء من حرز مثله. فإن قيل: هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليه السلام أو ما كان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف عليه السلام مع علو منصبه أن يبهت أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً؟ وإن كان بغير أمره فهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة؟ أجيب: بأجوبة: الأوّل: أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال لست أفارقك قال: لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق بك. قال: رضيت بذلك، وعلى هذا لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام؛ لأنه قد رضي به فلا يكون ذلك ذنباً. الثاني: {إنكم لسارقون} يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة من الكذب. الثالث: أنّ المنادي إنما ذكر النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا يخرج أن يكون كذباً. الرابع: ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا هذا بأمر يوسف عليه السلام. قال الرازي: والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 فعلوا ذلك من أنفسهم؛ لأنهم لما طلبوا السقاية فلم يجدوها، ولم يكن هناك أحد غيرهم غلب على ظنهم أنهم الذين أخذوها. ولما وصل إليهم الرسول قال لهم: ألم نحسن ضيافتكم ونكرم مثواكم ونفيكم كيلكم وفعلنا بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى: {قالوا و} الحال أنهم قد {أقبلوا عليهم} ، أي: على جماعة الملك المنادي وغيره {ماذا} ، أي: ما الذي {تفقدون} مما يمكننا أخذه والفقدان ضدّ الوجود {قالوا نفقد} وكان للسقاية اسمان فعبروا بقولهم {صواع الملك} والصواع هو المكيال وهو السقاية المتقدّمة سموه تارة كذا وتارة كذا، وإنما اتخذوا هذا الإناء مكيالاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. {ولمن جاء به حمل بعير} ، أي: من الطعام، والبعير يطلق لغة على الذكر خاصة وأطلقه بعضهم على الناقة أيضاً، وجعله نظير إنسان وهو ما جرى عليه الفقهاء في باب الوصية، والجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران {وأنا به زعيم} قال مجاهد: هذا الزعيم هو الذي أذن، والزعيم الكفيل، وهذه الآية تدل على أنّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «الزعيم غارم» . وإذا ورد في شرعنا ما يقرّر شرع غيرنا، هل يكون شرعاً لنا؟ في ذلك خلاف والراجح أنه ليس بشرع لنا. فإن قيل: كيف تصح هذه الكفالة مع أنّ السارق لا يستحق شيئاً؟ أجيب: بأنهم لم يكونوا سراقاً في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع، فيكون ذلك جعالة أو أنّ مثل هذه الكفالة، كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان. {قالوا} ، أي: أخوة يوسف عليه السلام {تالله} التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم، والواو بدل من الباء، فهي فرع الفرع، فلذلك ضعفت عن التصريف في الأسماء، فلا تدخل إلا على الجلالة الكريمة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت: تالرحمن لم يجز، أي: والله {لقد علمتم} أي: بما جرّبتم من أمانتنا قبل هذا في كون مجيئنا {ما جئنا} وأكدوا النفي باللام فقالوا {لنفسد} ، أي: نوقع الفساد {في الأرض} ، أي: أرض مصر {و} لقد علمتم {ما كنا} ، أي: بوجه من الوجوه {سارقين} ، أي: موصوفين بهذا الوصف قطعاً. فإن قيل: من أين علموا ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك يعلم مما رأوا من أحوالهم، وقيل: لأنهم ردّوا البضاعة التي جعلت في رحالهم، قالوا: فلوا كنا سارقين ما رددناها، وقيل: قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كي لا تتناول شيئاً من حروث الناس. {قالوا} ، أي: أصحاب يوسف عليه السلام المنادي ومن معه {فما جزاؤه} ، أي: السارق، وقيل: الصواع {إن كنتم كاذبين} في قولكم: ما كنا سارقين ووجد فيكم، والجزاء مقابلة العمل بما يستحق من خير وشر. {قالوا} وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم {جزاؤه من وجد في رحله} ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة، ثم أكدوا ذلك بقولهم: {فهو جزاؤه} قال ابن عباس: كان ذلك الزمان كل سارق بسرقته فلذلك قالوا ذلك، أي: فالسارق جزاؤه أن يسلم بسرقته إلى المسروق منه فيسترق سنّة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 أخاه عنده فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم {كذلك} ، أي: الجزاء {نجزي الظالمين} بالسرقة، قال أصحاب يوسف: فلا بد من تفتيش رحالكم، فردوهم إلى يوسف عليه السلام فأمر بتفتيشها بين يديه. {فبدأ بأوعيتهم} ففتشها {قبل وعاء أخيه} لئلا يتهم فلم يجد فيها شيئاً {ثم} ، أي: بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك {استخرجها} ، أي: السقاية أو الصاع؛ لأنه يذكر ويؤنث {من وعاء أخيه} فلما خرج الصاع من وعاء بنيامين نكس أخوته رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويقولون: له إيش الذي صنعت فضحتنا وسوّدت وجوهنا يا ابن راحيل مازال لنا منكم بلاء حتى أخذت هذا الصاع. فقال بنيامين: بل بنوا راحيل مازال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فاهلكتموه في البرية إنّ الذي وضع هذا الصاع في رحلي هو الذي وضع البضاعة في رحالكم، فأخذ بنيامين رقيقاً. وقيل: إنّ المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيش رحالهم وهم الذين استخرجوا الصاع من رحله فأخذوه برقبته وردّوه إلى يوسف عليه السلام. تنبيه: هاهنا همزتان مختلفتان من كلمتين قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء، والباقون بالتحقيق. {كذلك} ، أي: مثل ذلك الكيد {كدنا ليوسف} خاصة بأنّ علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه السلام في الابتداء، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {فيكيدوا لك كيداً} (يوسف، 5) والكيد من الخلق الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق، فالمراد من هذا الكيد هو أنّ الله تعالى ألقى في قلب إخوته بأن حكموا أنّ جزاء السارق هو أن يسترق لا جرم لما ظهر الصاع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، وصار ذلك سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه. ولما كان الكيد يشعر بالحيلة والخديعة، وهو في حق الله تعالى محال حمل على الغاية، ونهايته هنا إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محال على هذا المعنى، وقيل: المراد بالكيد هاهنا إنّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله تعالى نصره وقوّاه وأعلى أمره وقوله تعالى: {ما كان} ، أي: يوسف {ليأخذ أخاه في دين الملك} ، أي: حكمه بيان للكيد؛ لأنّ جزاءه كان عنده الضرب وتغريم مثلي ما أخذ لا أنه يستبعد، وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء منقطع تقديره: ولكن بمشيئة الله أخذه في دين الملك، وهو دين آل يعقوب عليه السلام إنّ الاسترقاق جزاء السارق. والثاني: أنه مفرغ من الأحوال العامّة والتقدير ما كان ليأخذه في كل حال إلا في حال التباسه بمشيئة الله، أي إذنه في ذلك. ولما كان يوسف عليه السلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته بعدما كان فيه عندهم من الصغار كان ذلك محل عجب فقال تعالى التفاتاً إلى مقام التكلم: {نرفع درجات من نشاء} ، أي: بالعلم كما رفعنا درجته، وكان الأصل درجاته ولكنه عمم؛ لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، وفي هذه الآية دليل على أنّ العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات؛ لأنّ الله تعالى لما هدى يوسف عليه السلام إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك ورفع درجته على إخوته، ووصف إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء} عندما حكى عنه دلائل التوحيد والبراءة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 عن إلهية الشمس والقمر والكواكب. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين {وفوق كل ذي علم عليم} قال ابن عباس: فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم؛ لأنه هو الغني بعلمه عن التعلم، وفي الآية دليل على أنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء، وكان يوسف أعلم منهم. قال ابن الأنباري: يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لربه تعالى، ولا يطمع نفسه في العلية في العلوم؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه. ولما حصل لإخوة يوسف من إخراج الصواع من رحل بنيامين ما حصل، فكأنه قيل: فما كان فعلهم عند ذلك؟. فقيل: {قالوا} تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم {إن يسرق} ولم يجزموا بسرقته لعلمهم بأمانته وظنهم أنّ الصواع دس في رحله وهو لا يشعر كما دست بضاعتهم في رحالهم، وكان قد قال لهم ذلك {فقد سرق أخ له من قبل} ، أي: يوسف وكان غرضهم من ذلك إنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة؛ لأنهما من أمّ أخرى، واختلفوا في التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال، فقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلاً. وقال مجاهد: جاءه سائل فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل، وقال وهب: كان يخبىء الطعام من مائدة يعقوب للفقراء، وقال سعيد بن جبير: كان جدّه أبو أمّه كافراً يعبد الوثن وأمرته أمّه أن يسرق تلك الأوثان ويكسرها، فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة. وقال محمد بن إسحاق: إنّ يوسف عليه السلام كان عند عمته ابنة إسحاق، وكانت تحبه حباً شديداً، فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي معها منطقة لأبيها إسحاق عليه السلام، وكانوا يتبركون بها، فشدّتها على وسط يوسف عليه السلام من تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر، ثم قالت: إنه سرقها، وكان علمهم أنّ من سرق يسترق فقال يعقوب عليه السلام: إن كان قد فعل ذلك فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت، فتوصلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها سرقة، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب، وقيل: إنهم كذبوا عليه وبهتوه، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي: وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها} ، أي: يظهرها {لهم} والضمير للكلمة التي هي قوله: {قال} ، أي: في نفسه {أنتم شرّ مكاناً} ، أي: من يوسف وأخيه، أي: لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له، وقيل: الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: {فقد سرق أخ له من قبل} وعلى هذا يكون المعنى: فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه {والله أعلم} منكم {بما تصفون} ، أي: تقولون، وأنه ليس كما قلتم، قال أصحاب الأخبار والسير: إنّ يوسف عليه السلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال: إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين: أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي، ثم نقره وأدناه من أذنه، فقال: إنّ صاعي غضبان وهو يقول: كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت؟ قالوا: فغضب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الأخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة. فقال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسده حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فائتني به، فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ قالوا: لم يصبك منا أحد. فقال روبيل: إنّ هنا بذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب؟ وروي أنه غضب ثانياً، فقام إليه يوسف فركضه برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أنّ لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا. و {قالوا يا أيها العزيز} فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم {إن له} ، أي: هذا الذي وجد الصواع في رحله {أباً شيخاً كبيراً} ، أي: في سنه وقدره وهو مغرم به لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه {فخذ أحدنا مكانه} وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه {إنا نراك} ، أي: نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه {من المحسنين} ، أي: العريقين في صفة الإحسان فاجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل: قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها سرقة، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب، وقيل: إنهم كذبوا عليه وبهتوه، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي: وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها} ، أي: يظهرها {لهم} والضمير للكلمة التي هي قوله: {قال} ، أي: في نفسه {أنتم شرّ مكاناً} ، أي: من يوسف وأخيه، أي: لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له، وقيل: الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: {فقد سرق أخ له من قبل} وعلى هذا يكون المعنى: فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه {والله أعلم} منكم {بما تصفون} ، أي: تقولون، وأنه ليس كما قلتم، قال أصحاب الأخبار والسير: إنّ يوسف عليه السلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال: إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين: أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي، ثم نقره وأدناه من أذنه، فقال: إنّ صاعي غضبان وهو يقول: كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت؟ قالوا: فغضب روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الأخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة. فقال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسده حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فائتني به، فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ قالوا: لم يصبك منا أحد. فقال روبيل: إنّ هنا بذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب؟ وروي أنه غضب ثانياً، فقام إليه يوسف فركضه برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أنّ لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا. و {قالوا يا أيها العزيز} فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم {إن له} ، أي: هذا الذي وجد الصواع في رحله {أباً شيخاً كبيراً} ، أي: في سنه وقدره وهو مغرم به لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه {فخذ أحدنا مكانه} وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه {إنا نراك} ، أي: نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه {من المحسنين} ، أي: العريقين في صفة الإحسان فاجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل: {قال معاذ الله} هو نصب على المصدر، وحذف فعله وأضيف إلى المفعول، أي: نعوذ بالذي لا مثل له معاذاً عظيماً من {أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} ولم يقل: سرق متاعنا؛ لأنه لم يفعل في الصواع فعل السارق، ولم يقع منه قبل ذلك ما يصح إطلاق الوصف عليه، ثم علله بقوله {إنا إذاً} ، أي: إذا أخذنا أحداً مكانه {لظالمون} ، أي: عريقون في الظلم في دينكم، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم، ولما استيأسهم بما قال عن إطلاق بنيامين حكى الله تعالى ما تم لهم من الرأي فقال: {فلما} دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات {استيأسوا} ، أي: أيسوا {منه} لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله {خلصوا} ، أي: انفردوا عن غيرهم حال كونهم {نجياً} وهو مصدر يصلح للواحد وغيره، أي: ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قال كبيرهم} في السنّ وهو روبيل، وقيل: في الفضل والعلم وهو يهوذا، وقيل: شمعون وكان له الرياسة على إخوته {ألم تعلموا} مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتدّ توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم {أن أباكم} ، أي: الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه {قد أخذ عليكم} ، أي: قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر {موثقاً} ، أي: عهداً وثيقاً {من الله} في أخيكم، وإنما جعل حلفهم بالله موثقاً منه؛ لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته، وقوله {ومن قبل ما فرطتم} في هذه الآية وجوه: أظهرها أن ما مزيدة فيتعلق الظرف بالفعل بعدها والتقدير: ومن قبل هذا فرطتم، أي: قصرتم في حق يوسف وشأنه، وزيادة ما كثيرة، وبه بدأ الزمخشري وغيره، وقيل: أنها مصدرية في محل رفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 بالابتداء والخبر هو قوله: {في يوسف} ، أي: وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، وقيل: غير ذلك ولا نطيل بذكره إذ في هذا القدر كفاية {فلن أبرح} ، أي: أفارق {الأرض} ، أي: أرض مصر {حتى يأذن لي أبي} ، أي: بالعود إليه {أو يحكم الله لي} بخلاص أخي {وهو خير الحاكمين} ، أي: أعدلهم، فإن قيل: هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف عليه السلام أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه أيضاً عنده مع علمه بشدة وجدان أبيه عليه وشدة غمه وفيه ما فيه من العقوق وإيذاء الناس من غير ذنب لاسيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عنده بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد؟ أجيب: بأجوبة كثيرة للعلماء، وأحسنها أنه إنما فعل ذلك بأمر من الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله تعالى بذلك ليزيد بلاء يعقوب عليه السلام، فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه، ولله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم، والله أعلم بأحوال عباده، ثم قال كبيرهم: {ارجعوا إلى أبيكم} دوني {فقولوا} له، أي: متلطفين في خطابكم {يا أبانا} وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها وقولوا {إن ابنك سرق} فإن قيل: كيف يحكمون عليه بأنه سرق من غير بينة وهو قد أجابهم بالجواب الشافي، فقال: الذي جعل الصاع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ أجيب: بأنهم لما شاهدوا الصاع وقد أخرج من متاعه غلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال، ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم {وما شهدنا} عليه {إلا بما علمنا} ظاهراً من رؤيتنا الصاع يخرج من وعائه، وأما قوله: وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم، فالفرق ظاهر؛ لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصاع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصاع في رحله، فلهذا السبب غلب على ظنهم أنه سرق، فشهدوا بناء على الظن {وما كنا للغيب} ، أي: ما غاب عنا حين أعطينا الموثق {حافظين} ، أي: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنما قلنا: ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه سبيل، وحقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فلعل الصاع دس في رحله، ونحن لا نعلم ذلك، فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا. {واسأل القرية} ، أي: أهلها على حذف المضاف، وهو مجاز مشهور، وقيل: إنه مجاز لكنه من باب إطلاق المحل وإرادة الحال {التي كنا فيها} وهي مصر عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم، وقيل: هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر {و} اسأل {العير} ، أي: القافلة، وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه السلام {التي أقبلنا فيها} والسؤال طلب الأخبار بأداته من الهمزة، أو هل أو غيرهما، والقرية الأرض الجامعة لحدود فاصلة وأصلها من قريت الماء جمعته، والعير قافلة الحمير من العير بالفتح وهو الحمار هذا هو الأصل ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير، ولما كان ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم أكدوه بقولهم {وإنا} ، أي: والله إنا {لصادقون} في أقوالنا، ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال كبيرهم، فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {س12ش83/ش87 قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ? عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا? إِنَّهُ? هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا?أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا? تَاللَّهِ تَفْتَؤُا? تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُوا? بَثِّى وَحُزْنِى? إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا تَعْلَمُونَ * يَابَنِىَّ اذْهَبُوا? فَتَحَسَّسُوا? مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَتَا?يـ?َسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ? إِنَّهُ? يَا?يْـ?َسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِs الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} {قال} لهم {بل سوّلت} ، أي: زينت تزييناً فيه غي {لكم أنفسكم أمراً} ، أي: حدّثتكم بأمر ففعلتموه، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته {فصبر جميل} ، أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل صبري، أو أجمل، وقدم مثل ذلك في واقعة يوسف إلا أنه قال فيها: {والله المستعان على ما تصفون} (يوسف، 18) وقال هنا {عسى الله أن يأتيني بهم} ، أي: بيوسف وشقيقه بنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر {جميعاً} ، أي: فلا يتخلف منهم أحد، وإنما قال يعقوب عليه السلام هذه المقالة؛ لأنه لما طال حزنه واشتدّ بلاؤه ومحنته علم أن الله تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله تعالى وتفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه السلام، وأن الأمر يرجع إلى سلامة واجتماع، ثم علل هذا بقوله: {إنه هو العليم} ، أي: البليغ العلم بما خفي عنا من ذلك فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد {الحكيم} ، أي: البليغ فيما يدبره ويقضيه. {و} لما ضاق قلب يعقوب عليه السلام بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين {تولى عنهم} ، أي: انصرف بوجهه عنهم لما توالى عنده من الحزن {وقال يا أسفا} ، أي: يا أسفي {على يوسف} ، أي: تعال هذا أوانك، والأسف اشدّ الحزن والحسرة، والألف بدل من ياء المتكلم، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث إنما هو مصيبتهما؛ لأن مصيبته كانت قاعدة المصائب، والحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأوّل، كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبراً جديداً جدّد حزنه على أخيه مالك: *فقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك؟ *فقلت نعم إنّ الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذا كله قبر مالك ولأنه كان واثقاً بحياتهما دون حياته، وفي حديث رواه الطبراني «لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع، وقال {يا أسفا} {وابيضت عيناه} ، أي: انمحق سوادهما وبدل بياضاً {من الحزن} ، أي: من كثرة البكاء عليه، وقيل: عند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقيل: ضعف بصره حتى صار يدرك إدراكاً لطيفاً، وقيل: عمي، وقال مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف عليه السلام. قيل: إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن، فقال: إنّ بصر أبيك ذهب من الحزن عليك، فوضع يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني، ولم أكن حزناً على أبي. فإن قيل: هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية وهو لا يليق بمثل يعقوب عليه السلام أجيب: بأنه لم يذكر إلا هذه الكلمة، ثم عظم بكاؤه، ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر ما لا ينبغي، ولم يظهر الشكاية مع أحد من الخلق ويدل لذلك قوله: {فهو كظيم} ، أي: مغموم مكروب لا يظهر كربه وقوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} فكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته صبر وتجرع الغصة وما أظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الشكاية به، فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء الجزيل. روي أن يوسف عليه السلام قال لجبريل عليه السلام: هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: فكيف حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، وهي التي لها ولد واحد يموت. قال: فهل له أجر؟ قال: نعم أجر مئة شهيد، ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد وأيضاً البكاء مباح فقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: «القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» . رواه الشيخان. تنبيه: شرف الإنسان باللسان والعين والقلب فبين تعالى أن هذه الثلاثة كانت غريقة في الغم، فاللسان كان مشغولاً بقوله: يا أسفا، والعين بالبكاء والبياض، والقلب بالغم الشديد، أي: الذي يشبه الوعاء المملوء الذي سد فلا يمكن خروج الماء منه، وهذا مبالغة في وصف ذلك الغم. ولما وقع من يعقوب عليه السلام ذلك كأن قائلاً يقول: فما قال له أولاده؟ فقيل: {قالوا} له حنقاً من ذلك {تالله تفتؤ} ، أي: لا تفتأ، أي: لا تزال {تذكر يوسف} تفجعاً، فتفتأ جواب القسم وهو على حذف لا كقول الشاعر: *فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلام الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين أو أحدهما عند الكوفيين، فتفتأ هنا ناقصة بمعنى لا تزال كما تقرّر، ورسمت تفتؤ بالواو {حتى} إلى أن {تكون حرضاً} ، أي: مشرفاً على الهلاك لطول مرضك وهو مصدر يستوي فيه الواحد وغيره {أو تكون من الهالكين} ، أي: الموتى. فإن قيل: لما حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً؟ أجيب: بأنهم بنوا الأمر على الظاهر، قال أكثر المفسرين: قائل هذا الكلام هم أخوة يوسف، وقال بعضهم: ليس الأخوة بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاده وخدمه، ولما قالوا له ذلك فكأن قائلاً يقول: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} لهم {إنما أشكو بثي} والبث أشد الحزن سمي بذلك؛ لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر {وحزني} مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته {إلى الله} المحيط بكل شيء علماً وقدرةً لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه {وأعلم من الله} ، أي: الملك الأعلى من اللطف بنا أهل البيت {ما لا تعلمون} فيأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً: أحدها: أنّ ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا يا نبي الله، ثم أشار إلى جانب مصر وقال: اطلبه من ههنا ولذلك قال: {يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا} ، أي: والتحسيس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسيس بالجيم، وقيل: التحسيس بالحاء يكون في الخير، وبالجيم يكون في الشرّ ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورة الناس، والمعنى تحسسوا خبراً {من} أخبار {يوسف وأخيه} ، أي: اطلبوا خبرهما. وثانيها: أنه علم أنّ رؤيا يوسف عليه السلام صادقة؛ لأنّ أمارات الرشد والكمال ظاهرة في حق يوسف عليه السلام، ورؤيا مثله لا تخطئ. وثالثها: لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عين الوقت، فلهذا بقي في القلق. ورابعها: قال السدي: لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 حاله وأقواله وأفعاله طمع في أن يكون هو يوسف وقال: بعيد أن يظهر في الكفار مثله، ثم تلطف ببنيه وقال لهم: {ولا تيأسوا} ، أي: تقنطوا {من روح الله} قال ابن عباس: من رحمة الله. وقال قتادة: من فضل الله. وقال ابن زيد: من فرج الله. {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} ، أي: الغريقون في الكفر، قال ابن عباس: إنّ المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده على الرخاء، والكافر على الضدّ من ذلك، فإنّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أنّ إله العالم غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، وإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر ثبت أنّ اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً. وقرأ البزي بعد التاء من تيأسوا وبعد الياء من لا ييأس بألف وبعدها ياء مفتوحة بخلاف عنه، والباقون بهمزة مفتوحة قبلها ياء ساكنة. ولما قال يعقوب عليه السلام لبنيه ذلك قبلوا منه هذه الوصية وعادوا إلى مصر. {فلما دخلوا عليه} ، أي: على يوسف عليه السلام {قالوا يا أيها العزيز} وكان العزيز لقباً لملك مصر يومئذ {مسنا وأهلنا} ، أي: من خلفناهم وراءنا {الضر} ، أي: لابسنا ملابسة نحسها {وجئنا ببضاعة} وقالوا {مزجاة} إمّا لنقصها أو لرداءتها أو لهما جميعاً. وقال الحسن: البضاعة المزجاة القليلة، واختلفوا في تلك الرداءة. فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم وقيل: إنّ دراهم مصر كان ينقش فيها صورة يوسف عليه السلام، والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها ذلك فما كانت مقبولة عند الناس، ثم سببوا عن هذا الاعتذار؛ لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم قولهم: {فأوف لنا الكيل} ، أي: شفقة علينا بسبب ضعفنا {وتصدّق} ، أي: تفضل {علينا} زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه، ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله تعالى عللوا ذلك بقولهم: {إنّ الله} ، أي: الذي له الكمال كله {يجزي المتصدّقين} ، أي: وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف. فائدة: سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبي من الأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام؟ قال سفيان: ألم تسمع قوله: {وتصدّق علينا..} الآية يريد أن الصدقة كانت حلالاً لهم ولأبيهم. وروي أنّ الحسن سمع رجلاً يقول: اللهم تصدّق عليّ قال: إنّ الله لا يتصدّق وإنما يتصدّق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني وتفضل عليّ. فإن قيل: إذا كان أبوهم أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه فلم عادوا إلى الشكوى؟ أجيب: بأن المتحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق والاعتراف بالعجز، وضموا رقة الحال وقلة المال وشدّة الحاجة، وذلك مما يرقق القلب فقالوا: نجربه في هذه الأمور، فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا، فقدّموا هذه المقدّمة قال أبو إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة على إخوته فارفض دمعه فباح بالذي كان يكتم فلهذا. {قال} لهم {هل علمتم} مقرّراً لهم بعد أن استأنسوا به، قال البقاعي: والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان {ما} ، أي: قبح الذي {فعلتم بيوسف} ، أي: أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه {وأخيه} في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 جعلكم أباه فريداً منه ذليلاً بينكم، ثم في قولكم له لما وجد الصاع في رحله: لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل، وإنما قال لهم ذلك نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريباً، وقيل: أعطوه كتاب يعقوب عليه السلام في تخليص بنيامين، وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه، فقال لهم ذلك وقوله {إذ أنتم جاهلون} ، أي: فاعلون فعلهم؛ أو لأنهم كانوا حينئذ صبياناً طياشين تلويحاً إلى معرفته، فقد روي أنه لما قال هذا تبسم وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله منه من رآه ولو مرّة واحدة فعرفوه بذلك فلذلك. {قالوا أئنك لأنت يوسف} استفهام تقرير، ولذلك حقق بأن واللام عليه، وقيل: عرفوه بنظره وخلقه حين كلمهم، وقيل: رفع التاج عن رأسه فرآوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء، وكان لسارة ويعقوب وإسحاق مثلها. وقرأ ابن كثير بهمزة مكسورة بعدها نون على الخبر، وقرأ قالون وأبو عمرو بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة مسهلة بينهما ألف على الاستفهام، وقرأ ورش بغير ألف بينهما، والتسهيل في الثانية على الاستفهام أيضاً، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين مع القصر، ولهشام وجه ثان وهو المدّ، وقيل: أنهم لم يعرفوه حتى {قال} لهم {أنا يوسف} وزادهم بقوله {وهذا أخي} بنيامين شقيقي، وإنما ذكره لهم ليزيدهم ذلك معرفة له وتثبيتاً في أمره وليبني عليه قوله: {قد منّ الله علينا} قال ابن عباس: بكل خير في الدنيا والآخرة. وقال آخرون: بالجمع بيننا بعد التفرقة. {إنه من يتق} ، أي: المعاصي {ويصبر} ، أي: على البليات وأذى الناس وقال ابن عباس: يتقي الزنا ويصبر على العزوبة، وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} والمعنى أنه من يتق ويصبر، فإنّ الله لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين، وقرأ قنبل بإثبات الياء بعد القاف وقفاً ووصلاً، واختلف المعربون في ذلك على وجهين: أجودهما: أنّ إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب وأنشدوا عليه قول قيس بن زهير: *ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد وقول الآخر: *هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع وقول الآخر: *إذا العجوز غضبت فطلقي ... ولا ترضاها ولا تلق والثاني أنه مرفوع غير مجزوم ومن موصولة والفعل صلتها، فلذلك تمم بإثبات لامه وسكن (يصبر) لتوالي الحركات، وإن كانت في كلمتين، وقرأ الباقون بالحذف وقفاً ووصلاً، ولما ذكر يوسف عليه السلام لإخوته أنّ الله تعالى منّ عليه، وأنه من يتق ويصبر فإنّ الله تعالى لا يضيعهم صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمرتبة ولذلك. {قالوا} مقسمين بقولهم: {تالله} ، أي: الملك الأعظم {لقد آثرك} ، أي: اختارك {الله علينا} بالعلم والعقل والحلم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أنّ إخوته ما كانوا أنبياء؛ لأنّ جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 كالعدم بالنسبة إليه، فلو شاركوه في منصب النبوّة لما قالوا ذلك، ثم قالوا: {وإن كنا لخاطئين} ، أي: والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، ولذلك أذلنا الله تعالى لك، فكأنه قيل: ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إهانتهم له؟ فقيل: {قال} لهم قول الكرام اقتداءً بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام {لا تثريب} ، أي: لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك {عليكم اليوم} وإنما خصه بالذكر؛ لأنه مظنة التثريب فإذا انتفى ذلك فيه فما ظنك بما بعده، ولما أعفاهم من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله تعالى، فاتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله: {يغفر الله} ، أي: الذي لا إله غيره {لكم} ، أي: ما فرط منكم، وعبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبة، ورغبّهم في ذلك، ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال: {وهو} تعالى {أرحم الراحمين} لجميع العباد لا سيما التائب، فهو جدير بإدراك النعم. روي أنهم أرسلوا إليه إنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي مما فرط منا، فقال: إن أهل مصر ينظرونني وإن ملكت فيهم بعين العبودية فيقولون: سبحان من بلغ عبداً بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من ذرية إبراهيم عليه السلام، ولما أقرّ أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى سأل عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ابيضت عيناه من الحزن فأعطاهم قميصه وقال: {اذهبوا بقميصي هذا} وهو قميص إبراهيم عليه السلام الذي لبسه حين ألقي في النار عرياناً فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيم، فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك في قصبة من فضة وسدّ رأسها وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين، وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عرياناً جاءه جبريل وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص وألبسه إياه، ففي الوقت جاء جبريل عليه السلام وقال: أرسل ذلك القميص، فإنّ فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال: إذا وصلتم إلى أبي {فألقوه على وجه أبي يأت} ، أي: يصر {بصيراً} ، أي: يردّ إليه بصره كما كان، أو يأت إليّ حال كونه بصيراً {وأتوني} ، أي: أبي وأنتم {بأهلكم} ، أي: مصاحبين لكم {أجمعين} لا يتخلف منكم أحد فرجعوا بالقميص لهذا القصد. وروي أنّ يهوذا هو الذي حمل القميص لما لطخوه بالدم فقال: لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف من مصر إلى كنعان، وبينهما ثمانون فرسخاً. {ولما فصلت العير} من عريش مصر وهو آخر بلاد مصر إلى أوّل بلاد الشأم {قال أبوهم} لولد ولده ومن حوله من أهله مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله: {إني لأجد ريح يوسف} أوصلته إليه ريح الصبا بإذن الله تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر، قال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. قال أهل المعاني: إنّ الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدّة المحنة ومجيء وقت الفرج من المكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل، ومعنى {أجد ريح يوسف} أشم وعبر بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشم {لولا أن تفندون} ، أي: تنسبوني إلى الخرف. قال أبو بكر الأنباري: أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله. وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند. قال في «الكشاف» : يقال: شيخ مفنّد ولا يقال: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى حتى تفند في كبرها، وقيل: التفنيد الإفساد يقال: فندت فلاناً إذا أفسدت رأيه ورددته قال بعضهم: *يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمر بمردود ولما ذكر يعقوب عليه السلام ذلك {قالوا} ، أي: الحاضرون عنده {تالله إنك لفي ضلالك} ، أي: حبك {القديم} ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه على بعد العهد، وهو كقول إخوة يوسف: {إن أبانا لفي ضلال مبين} (يوسف، 8) وقال مقاتل: معنى الضلال هنا الشقاء، أي: شقاء الدنيا، والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابده من الأحزان على يوسف، وقال الحسن: إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أنّ يوسف قد مات، فكان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب، ثم أنهم عجلوا له بشيراً فأسرع قبل وصولهم بالقميص {فلما} وزيدت {أن} لتأكيد مجيئه على تلك الحالة، وزيادتها بعد لما قياس مطرد {جاء البشير} وهو يهوذا بذلك القميص {ألقاه} ، أي: طرحه البشير {على وجهه} ، أي: يعقوب، وقيل: ألقاه يعقوب على وجه نفسه {فارتدّ} ، أي: رجع {بصيراً} ، أي: صيره الله بصيراً كما كان، كما يقال: طالت النخلة، والله تعالى هو الذي أطالها. ولما ألقى القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه فعند ذلك {قال} لبنيه {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} من حياة يوسف وإنا الله تعالى يجمع بيننا، قال السهيليّ: لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام، أعطاه في: بشارته كلمات كان يرويها عن أبيه عن جدّه عليهم السلام، وهي: يا لطيفاً فوق كل لطيف ألطف بي في أموري كلها كما أحب ورضني في دنياي وآخرتي. وروي أنّ يعقوب عليه السلام قال للبشير: كيف تركت يوسف؟ قال: تركته ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة فعند ذلك {قالوا يا أبانا} منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع {استغفر} ، أي: اطلب من الله تعالى أن يغفر {لنا ذنوبنا} ، أي: التي اقترفناها ثم قالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة {إنا كنا خاطئين} ، أي: متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف عليه السلام ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة. قال صلى الله عليه وسلم «إنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» . فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} لهم: {سوف أستغفر} ، أي: أطلب أن يغفر {لكم ربي} الذي أحسن إليّ بأنّ يغفر لبنيّ حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء والربوبية ملك هو أتم الملك على الإطلاق وهو ملك الله تعالى، وظاهر هذا الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأن يستغفر لهم بعد ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه، فقال ابن عباس والأكثرون: أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنّ هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة، وفي رواية أخرى له أنه أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنها أوفق لأوقات الإجابة. وقال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقال طاوس: أخر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء، وقيل: استغفر لهم في الحال، وقوله: {سوف أستغفر لكم} معناه أني أدوام على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه، وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما فعلوا في حق يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين. وعن الشعبي قال: أسأل يوسف أن عفا عنكم استغفر لكم ربي {إنه هو الغفور الرحيم} كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم، وروي أنّ يوسف عليه السلام كان بعث مع البشير إلى يعقوب عليه السلام مئتي راحلة وجهازاً كثيراً ليأتوا بيعقوب وأهله وولده، فتهيأ يعقوب عليه السلام للخروج إلى مصر، فخرج بهم فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وركب أهل مصر معهما بأجمعهم يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فقال له جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان. وقال الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكى فقال يوسف: يا أبت بكيت عليّ حتى ابيضت عيناك ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بنيّ ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى: {فلما دخلوا على يوسف آوى} ، أي: ضمّ {إليه أبويه} قال الحسن: أباه وأمّه وكانت حية إكراماً لهما بما يتميزان، به وغلب الأب في التثنية لذكورته، وعن ابن عباس أنها خالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين. قال البغويّ: وفي بعض التفاسير أنّ الله تعالى أحيا أمّه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر. فإن قيل: ما معنى دخولهم عليه قبل مصر؟ أجيب: بأنه حين استقبلهم نزل بهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه {وقال} مكرماً {ادخلوا مصر} ، أي: البلد المعروف وأتى بالشرط للأمن لا للدخول فقال: {إن شاء الله آمنين} من جميع ما ينوب حتى مما فرطتم في حقي وفي حق أخي، روي أنّ يعقوب عليه السلام وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى عليه السلام والمقاتلون منهم ألف وبضعة وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ. {و} لما استقرّت بهم الدار بدخول مصر {رفع أبويه} ، أي: أجلسهما معه {على العرش} ، أي: السرير الرفيع والرفع هو النقل إلى العلوّ {وخرّوا له} ، أي: انحنوا له أبواه وإخوته {سجداً} ، أي: سجود انحناء، والتواضع قد يسمى سجوداً كقول الشاعر: *ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر لا وضع جبهة وكان تحيتهم في ذلك الزمان، أو أنهم وضعوا الجباه وكان ذلك على طريقة التحية والتعظيم لا على طريقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 العبادة، وكان ذلك جائزاً في الأمم السالفة، فنسخت في هذه الشريعة، وروي عن ابن عباس أنه قال: معناه خرّوا لله سجداً بين يدي يوسف عليه السلام، فيكون سجود شكر لله لأجل وجدان يوسف، ويدل عليه قوله تعالى {ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً} وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير، ثم سجدوا لله تعالى، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير؛ لأنّ ذلك أدخل في التواضع. فإن قيل: هذا التأويل لا يطابق قول يوسف عليه السلام {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} والمراد منه قوله {إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (يوسف، 4) أي: رأيتهم ساجدين لأجلي، أي: أنهم سجدوا لله لطلب مصلحتي والسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال قال الرازيّ: وعندي أنّ هذا التأويل متعين؛ لأنه يبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوّة أو أنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا شكراً لنعمة وجدانه، فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليت إلى الكعبة. / قال حسان: *ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن *أليس أوّل من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالآثار والسنن ثم استأنف يوسف عليه السلام فقال {قد جعلها ربي} ، أي: الذي رباني بما أوصلني إليها {حقاً} ، أي: مطابقة للواقع لتأويلها وتأويل ما أخبرتني به أنت، والتأويل تفسير ما يؤول إليه معنى الكلام، وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنّ ما بين رؤياه وتأويلها أربعون سنة. وعن الحسن: أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة، فكان عمره وعشرين سنة {وقد أحسن} ، أي: أوقع إحسانه {بي} تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية أحسن بالباء أدل على القرب من التعدية بإلى، وإن كان أصل أحسن أن يتعدّى بإلى كما قال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} (القصص، 77) وقيل: ضمن معنى لطف فتعدّى بالباء كقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} (البقرة، 83) وقال: {إذ أخرجني من السجن} ولم يذكر إخراجه من الجب لوجوه: أوّلها: أنه قال لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم} (يوسف، 92) ولو ذكر واقعة الجب لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جارياً مجرى الكرم. ثانيها: أنه لما خرج من الجب لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً، وإنما صار ملكاً بعد إخراجه من السجن، فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً. ثالثها: أنه لما خرج من الجب وقع في المضارّ الحاصلة بسبب تهمة المرأة ولما خرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته، فكان هذا أقرب إلى المنفعة مع أنّ اللفظ محتمل للجب أيضاً لكنه احتمال خفيّ، ولما كان يعقوب وولده بأرض كنعان وتحوّل إلى بدو قال ابن عباس: ومنه قدم على يوسف قال يوسف عليه السلام: {وجاء بكم من البدو} ، أي: من أطراف بادية فلسطين وذلك من أكبر النعم، كما جاء في الحديث: «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» والبدو ضدّ الحاضرة، وهو من الظهور يقال: بدا يبدو إذا سكن في البادية، يروى عن عمر: إذا بدونا جفونا، أي: تخلقنا بأخلاق البدويين قال الواحدي: البدو بسط من الأرض يظهر فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الشخص من بعيد، وأصله من بدا يبدو بدواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، وفي الآية دلالة على أن فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنه أضاف إخراجه من السجن إلى الله تعالى ومجيئهم من البدو إليه {من بعد أن نزغ} ، أي: أفسد {الشيطان} بسبب الحسد {بيني وبين إخوتي} وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده. فإن قيل: إضافة يوسف عليه السلام الخير إلى الله تعالى والشر إلى الشيطان تقتضي أن فعل الشر ليس من الله تعالى كما قاله بعض المبتدعة، ولو كان منه لأضافه إليه. أجيب: بأنّ إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مجاز؛ لأنّ الفاعل المطلق هو الله تعالى في الحقيقة، قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء، 22) فثبت بذلك أنّ الكل من عند الله تعالى وبقضائه وقدره، وليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين، وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنه بقوله تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم، 22) ولما كان حصول الاجتماع بينه وبين إخوته وأبويه مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال، وكان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف قال يوسف عليه السلام {إنّ ربي لطيف لما يشاء} ، أي: لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها فإذا أراد حصول الشيء سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول {إنه هو العليم} بوجوه المصالح والتدابير {الحكيم} ، أي: الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة روي أنّ يوسف عليه السلام طاف بأبيه في خزائنه، فلما أدخله خزانة القرطاس قال: يا بنيّ ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبريل بذلك قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أقرب مني إليه، فسأله فقال جبريل: الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب، قال: فهلا خفتني؟ ولما حضر يعقوب عليه السلام الموت وصى يوسف عليه السلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه فمضى بنفسه فدفنه ثمة. ثم عاد إلى مصر وأقام بعده ثلاثاً وعشرين سنة. ولما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال: {رب قد آتيتني} وافتتح بقد؛ لأنّ الحال حال توقع السامع لشرح حال الرؤيا {من الملك} ، أي: بعضه بعد بعدي منه جدًّا وهو ملك مصر {وعلمتني من} ، أي: بعض {تأويل الأحاديث} طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك {والله غالب على أمره} (يوسف، 21) ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال: {فاطر} ، أي: خالق {السموات والأرض} ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعوّل على غيره في شيء من الأشياء {أنت وليي} ، أي: الأقرب إليّ باطناً وظاهراً {في الدنيا والآخرة} ، أي: لا وليّ لي غيرك، والولي يفعل لموليه الأصلح والأحسن فأحسن لي في الآخرة أعظم مما أحسنت لي في الدنيا. روي أنه صلى الله عليه وسلم حكى عن جبريل عن رب العزة جل وعلا أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فلهذا المعنى من أراد الدعاء لا بدّ وأن يقدّم عليه ذكر الثناء على الله تعالى فهذا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديت فاطر السموات والأرض} ثم ذكر عقبه الدعاء وهو قوله {توفني} ، أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 اقبض روحي وافياً تامًّا في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني {مسلماً} ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص عقبه بقوله: {وألحقني بالصالحين} ونظيره ما فعله الخليل عليه السلام في قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} (الشعراء، 78) فمن ههنا إلى قوله: {رب هب لي حكماً} ثناء على الله تعالى ثم قوله: {رب هب لي حكماً} إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا. تنبيه: اختلف في قوله {توفني مسلماً} هل هو طلب منه للوفاة أم لا؟ فقال قتادة: سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله، وكثير من المفسرين على هذا القول. وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة، واللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها: أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور: أحدها: أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها. وثانيها: أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات. وثالثها: أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات، ومنها: أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع: لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها: أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية، فإنه لا يمكن إبقاؤها، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ، بالأكل، فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية: وثانيها: أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم، ولا شك أنه شيء منفر، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضاً منفر، وثالثها: أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها، ورابعها: أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع، والجوع نقص وآفة، وخامسها: أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل: من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكاً بسبب طلب المال. وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها: أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان، ومنها: أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات فيكون لقاء الله عنده أرجح فيتمنى الموت. وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له: صنع الله لك خيراً كثيراً أحييت سنناً، وأمت بدعاً وفي حياتك خير وراحة للمسلمين فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع أمره قال: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} . فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وإنه لا يجوز؟ أجيب: بأن حال كمال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس وينشرح الصدر، وينفسح القلب في هذا الباب، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضدّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى. فإن قيل: إنّ يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء، والصلاح أوّل درجة المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية؟ أجيب: بأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يعني بأن يلحقه بآبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم، وولد ليوسف عليه السلام من امرأة العزيز ثلاثة افراثيم وميشا وهو جدّ يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليهم السلام، ولما تاقت نفسه إلى الملك المخلد وتمنى الموت فلم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً، وتشاح الناس في دفنه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل حيث يتفرّق الماء بمصر ليجري عليه الماء، وتصل بركته إلى جميعهم، قال عكرمة: دفن في الجانب، الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب، وأجدب الجانب، الآخر، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الآخر، فدفنوه في وسطه وقدّروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان إلى أن أخرجه موسى عليه السلام ودفنه بقرب آبائه بالشام، وقد يسر الله تعالى زيارته وزيارة آبائه في عام شرعت في هذا التفسير سنة أربع وستين وتسعمئة جمعني الله تعالى وآبائي وأهلي وأصحابي وأحبابي معهم في دار كرامته. ولما تمّ الذي كان من أمر يوسف عليه السلام وإخوته على الوجه الأحكم، والصراط الأقوم من ابتدائه إلى انتهائه قال تعالى مشيراً إلى أنه دليل كاف في تصحيح نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله: {ذلك} ، أي: الذي ذكرته لك يا محمد من قصة يوسف عليه السلام وما جرى له مع إخوته، ثم صار إلى الملك بعد الرق {من أنباء الغيب} ، أي: أخبار ما غاب عنك {نوحيه إليك} ، أي: الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك {و} الحال إنك {ما كنت لديهم} ، أي: عند إخوة يوسف عليه السلام {إذ} ، أي: حين {أجمعوا أمرهم} ، أي: عزموا على أمر واحد، وهو إلقاء يوسف في الجب {وهم يمكرون} ، أي: يدبرون الأذى في الخفية بيوسف، والمعنى أنّ هذا النبأ غيب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما طالع الكتب ولا تتلمذ لأحد، ولا كانت البلدة بلدة العلماء، وإتيانه صلى الله عليه وسلم بهذه القصة الطويلة على وجه لا يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم، ومن غير أن يقال: إنه حاضر معهم لا بدّ وأن يكون معجزاً وقوله تعالى: {وما كنت لديهم} ذكر على سبيل التهكم بهم؛ لأنّ كل أحد يعلم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم، ولما سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري عن قصة يوسف عليه السلام، فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي مبينة هذا البيان الوافي فأمّل صلى الله عليه وسلم أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله عزاه الله تعالى بقوله: {وما أكثر الناس} ، أي: أهل مكة {ولو حرصت} على إيمانهم {بمؤمنين} لعنادهم وتصميمهم على الكفر وكان ذلك إشارة إلى ما ذكر الله تعالى في قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء} (القصص، 56) ثم نفى عنه التهمة بقوله تعالى: {وما تسألهم عليه} ، أي: على تبليغ هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك وأغرق في النفي فقال: {من أجر} حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك أو يقولوا: لولا أنزل عليه كنز ليستغن به عن سؤالنا، ثم نفى عن هذا الكتاب كل غرض دنيوي بقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر} ، أي: عظة من الله تعالى {للعالمين} عامّة، ثم إنّ الله تعالى أخبر عنهم أنهم لما تأمّلوا الآيات الدالة على توحيده تعالى بقوله تعالى: {وكأين} ، أي: وكم {من آية} دالة على وحدانية الله تعالى {في السموات} كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى {والأرض} من الجبال والشجر والدوابّ وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى {يمرّون عليها} ، أي: يشاهدونها {وهم عنها معرضون} ، أي: لا يتفكرون فيها فلا عجب إذا لم يتأمّلوا في الدلائل على نبوّتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرّون عليها ولا يلتفتون إليها. ولما كان ربما قيل: كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أنّ الله تعالى فاعل تلك الآيات؟ بين أنّ إشراكهم سقط لذلك بقوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله} حيث يقرّون بأنه الخالق الرازق {إلا وهم مشركون} بعبادته الأصنام قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف، 87) لكنهم كانوا يثبتون شريكاً في العبودية. وعن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في تلبية مشركي العرب كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك يعنون الأصنام. وعنه أيضاً أنّ أهل مكة قالوا: الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا، وقال عبدة الأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا، وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده لا شريك له، ولما كان أكثر هؤلاء لا ينقادون إلا بالعذاب قال تعالى: {أفأمنوا} إنكار فيه معنى التوبيخ والتهديد {أن تأتيهم} في الدنيا {غاشية} ، أي: نقمة تغشاهم وتشملهم {من عذاب الله} ، أي: الذي له الأمر كله كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم {أو تأتيهم الساعة بغتة} ، أي: فجأة وهم عنها في غاية الغفلة وقوله تعالى: {وهم لا يشعرون} ، أي: بوقت إتيانها قبله كالتأكيد لقوله {بغتة} . ولما كان صلى الله عليه وسلم مبلغاً عن الله تعالى أمره أن يأمرهم باتباعه بقوله تعالى: {قل} يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً {هذه} ، أي: الدعوة إلى الله تعالى التي أدعو إليها {سبيلي} ، أي: طريقتي التي أدعو إليها الناس، وهي توحيد الله تعالى ودين الإسلام وسمي الدين سبيلاً؛ لأنه الطريق المؤدّي إلى ثواب الجنة {أدعو إلى الله} ، أي: إلى توحيده والإيمان به {على بصيرة} ، أي: حجة واضحة وقوله {أنا} تأكيد للمستتر في أدعو على بصيرة؛ لأنه حال منه أو مبتدأ خبره على بصيرة وقوله: {ومن اتبعني} ، أي: ممن آمن بي وصدق بما جاءني عطف عليه؛ لأنّ كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدور وسعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 إلى الله، وهذا دلّ على أن الدعاء إلى الله إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول ويقين، فإن لم يكن كذلك وإلا فهو محض الغرور، وقال صلى الله عليه وسلم «العلماء أمناء الرسل على عباد الله» من حيث يحفظون ما يدعون إليه. فائدة: جميع القراء يثبتون الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم {وسبحان} ، أي: وقل سبحان {الله} تنزيهاً له تعالى عما يشركون به {وما أنا من المشركين} ، أي: الذين اتخذوا مع الله ضدًّا وندًّا، ولما قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم هلا بعث الله ملكاً؟ قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك} إلى المكلفين {إلا رجالاً} ، أي: مثل ما أنك رجل لا ملائكة ولا إناثاً كما قاله ابن عباس، ولا من الجنّ كما قاله الحسن، {يوحى إليهم} ، أي: بواسطة الملائكة مثل ما يوحي إليك. وقرأ حفص قبل الواو بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء وضم الهاء من إليهم حمزة على أصله، وكسرها الباقون {من أهل القرى} ، أي: من أهل الأمصار والمدن المبنية بالمدر والحجر ونحوه لا من أهل البوادي؛ لأنّ أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل وأعقل من أهل البوادي، ومكة أم القرى؛ لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت وكان العرب كلهم يأتونها فكيف تعجبوا في حقك؟ قال الحسن: لم يبعث الله نبياً من البادية لغلظهم وجفائهم، ثم هدّدهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {أفلم يسيروا} ، أي: هؤلاء المشركون المكذبون {في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} من المكذبين للرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ويعتبروا بهم وبما حلّ بهم من عذابنا. ولما أنّ الله تعالى نجى المؤمنين عند نزول العذاب بالأمم الماضية المكذبة وما في الآخرة خير لهم بين ذلك بقوله تعالى: {ولدار الآخرة} ، أي: ولدار الحال الآخرة أو الساعة الآخرة أو الحياة الآخرة {خير} وهي الجنة {للذين اتقوا} الله من حياة مآلها الموت، وإن فرحوا فيها بالمحال وإن امتدّت ألف عام وكان عيشها كله رغداً من غير آلام {أفلا يعقلون} فيستعملون عقولهم فيتبعون الداعي إلى هذا السبيل الأقوم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة، والباقون بالياء على الغيبة لهم وللمشركين المكذبين وقوله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل} غاية لمحذوف دلّ عليه الكلام، أي: لا يغررهم تمادي أيامهم فإنّ من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل من النصر عليهم في الدنيا ومن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفين متمادين فيه من غير وازع {وظنوا} ، أي: أيقن الرسل {أنهم قد كذبوا} بالتشديد كما قرأه غير حمزة وعاصم والكسائي تكذيباً لا إيمان بعده، وأمّا بالتخفيف كما قرأه هؤلاء فالمعنى أنّ الأمم ظنوا أنّ الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر عليهم {جاءهم نصرنا} لهم بخذلان أعدائهم {فنجي من نشاء} ، أي: النبيّ والمؤمنون، وقرأ ابن عامر وعاصم بنون مضمومة بعدها جيم مشدّدة وياء بعد الجيم مفتوحة، والباقون بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الجيم وسكون الياء {ولا يرد بأسنا} ، أي: عذابنا {عن القوم المجرمين} ، أي: المشركين ما نزل بهم. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه القصص وحث على الاعتبار بها بقوله: {أفلم يسيروا} أتبعه بأنّ في أحاديثهم أعظم عبرة فقال حثا على تأملها والاستبصار بها: {لقد كان في قصصهم} ، أي: يوسف وإخوته أو في قصص الرسل {عبرة} ، أي: عظة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 عظيمة {لأولي الألباب} ، أي: لذوي العقول المبرأة من شوائب الكدر ويعتبرون بها إلى ما يسعدهم؛ لأنّ من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام لقادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره. ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن نبه تعالى على ذلك بتقدير سؤال فقال تعالى: {ما كان حديثاً يفترى} ، أي: يختلق؛ لأنّ الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتريه؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد، ولم يخالط العلماء، فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما رأوه في التوراة من غير تفاوت كما يعلم من قوله تعالى: {ولكن تصديق الذي بين يديه} ، أي: من الكتب الإلهية المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف عليه السلام {و} زاد على ذلك بقوله {تفصيل} ، أي: تبيين {كل شيء} ، أي: يحتاج إليه من الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط، وقيل: المراد تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته. قال الواحدي: وعلى التفسيرين جميعاً فهو من العامّ الذي أريد به الخاص كقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} (الأعراف، 156) ، أي: يجوز أن يدخل فيها وقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} (النمل، 23) . {وهدى} من الضلال {ورحمة} ينال بها خير الدارين {لقوم يؤمنون} ، أي: يصدّقون خصهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين انتفعوا به كقوله تعالى {هدى للمتقين} فسبحان من أنزله معجزاً باهراً وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وما رواه البيضاويّ تبعاً ل «الكشاف» من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد أحداً» حديث موضوع والله أعلم. سورة الرعد مكية إلا {ولا يزال الذين كفروا} الآية {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} الآية أو مدنية إلا {ولو أنّ قرآنا سيرت به الجبال} وهي ثلاث أو أربع أو خمس أو ست وأربعون آية وعدد كلماتها وخمس وخمسون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعة أحرف. {بسم الله} الحق الذي كل ما عداه باطل {الرحمن} الذي عمّ الرغبة والرهبةبعموم الرحمة {الرحيم} الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الرهبة. {المر} قال ابن عباس معناه أنا الله أعلم وأرى. وقال في رواية عطاء: أنا الله الملك الرحمن. وقد تقدم الكلام على شيء من أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بالفتح، وقرأ ورش بين بين والباقون بالإمالة {تلك} ، أي: هذه الآيات {آيات الكتاب} ، أي: القرآن، والإضافة بمعنى من، وقيل: المراد بالكتاب السورة الكاملة، ووصفت بالكمال من تعريف الكتاب بأل؛ لأنّ خبر المبتدأ إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة، وقوله تعالى: {والذي أنزل إليك من ربك} ، أي: القرآن مبتدأ وخبره {الحق} ، أي: الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة الواضح الذي لا يتخلف شيء منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره {ولكن أكثر الناس} ، أي: مشركي مكة {لا يؤمنون} لإخلالهم بالنظر والتأمّل فيه. قال مقاتل: نزلت في مشركي مكة حين قالوا: إنّ محمداً يقوله من تلقاء نفسه فرد الله تعالى عليهم بذلك. ولما ذكر تعالى أنّ {أكثر الناس لا يؤمنون} ذكر عقبه ما يدّل على صحة التوحيد والمعاد بأمور أحدها قوله تعالى: {الله الذي رفع السموات بغير عمد} ، أي: سواري جمع عمود كأدم وأديم أو عماد كأهب وإهاب، والعمود جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وقوله جمع عمود كأدم وأديم الخ في «حاشية الجمل» : والعامة على فتح العين والميم وهو اسم جمع وعبارة بعضهم أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب عمد بضمتين ومفرده يحتمل أن يكون عماداً كشهاب وشهب وكتاب وكتب وأن يكون عموداً كرسول ورسل اه. {ترونها} ، أي: وأنتم ترون السماء مرفوعة بغير عمد من تحتها تسندها ولا من فوقها علاقة تمسكها، فالعمد منفية بالكلية، قال إياس بن معاوية: السماء مقبية على الأرض مثل القبة ففي ذلك دلالة عظيمة على وحدانية الله تعالى؛ لأنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذاتها فهذا برهان باهر على وجود الإله القادر القاهر، وقيل: الضمير راجع إلى العمد، أي: أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم، ومن قال بهذا القول يقول: أن عمدها على جبل قاف وهو جبل من زمرّد محيط بالدنيا والسماء عليه مثل القبة وهذا قول مجاهد وعكرمة، قال الرازي: وهذا التأويل في غاية السقوط، لأنّ السموات لما كانت مستقرّة على جبل قاف فأي دلالة تبقى فيها على وجود الإله. تنبيه: الله مبتدأ، والذي رفع السموات خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر يدبر الأمر. ثانيها: قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} بالحفظ والتدبير والقهر والقدرة، أي: أنّ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وتدبيره وفي الاحتياج إليه وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما فيه كفاية. وثالثها: قوله تعالى: {وسخر} ، أي: ذلل {الشمس والقمر} لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد {كل} منهما {يجري} في فلكه {لأجل مسمى} ، أي: إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله {إذا الشمس كورت} (التكوير، 1) ، {وإذا النجوم انكدرت} (التكوير، 2) ، {وإذا السماء انشقت} (الإنشقاق، 1) ، {وإذا السماء انفطرت} (التكوير، 1) وعن ابن عباس للشمس وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم أنها تعودمرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً، فالمراد بقوله تعالى: {كل يجري لأجلٍ مسمى} هذا، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيراً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال: {يدبر الأمر} ، أي: يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل، وتكليف العباد، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عز وجل، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن، عن شأن فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، فلا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير عن تدبير، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات. ولما كان هذا بياناً شافياً لا لبس فيه قال تعالى: {يفصل} ، أي: يبين {الآيات} التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار. ولما كان هذا التدبير وهذا التفصيل دالاً على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله {لعلكم} يا أهل مكة {بلقاء ربكم} بالبعث {توقنون} فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته، يروى أنّ واحداً قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة، فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد، وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن، عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن. تنبيه: اليقين صفة من صفات العلم، وهي فوق المعرفة، والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك. ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد وأحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية بقوله تعالى: {وهو الذي مدّ الأرض} ، أي: بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ولوشاء لجعلها كالجدار والأزج لا يستطاع القرار عليها هذا إذا قلنا أنّ الأرض مسطحة لا كرة، وعند أصحاب الهيئة أنها كرة فكيف يقولون بذلك ومدّ الأرض ينافي كونها كرة، كما ثبت بالدليل؟ أجيب: بأنّ الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح كما أنّ الله تعالى جعل الجبال أوتاداً مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها، فكذلك ومع هذا فالله تعالى قد أخبر أنه مدّ الأرض ودحاها وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة هذا هو الدليل الأوّل من الدلائل الأرضية. الثاني منها قوله: {وجعل} ، أي: وخلق {فيها} ، أي: الأرض {رواسي} ، أي: جبالاً ثوابت واحدها راسية، أي: ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس: أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان. الثالث منها قوله تعالى: {وأنهاراً} ، أي: وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع ضيائه. الرابع منها: قوله تعالى: {ومن كل الثمرات} وهو متعلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 بقوله تعالى: {جعل فيها} ، أي: الأرض {زوجين اثنين} ، أي: وجعل فيها من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين، والاختلاف إمّا من حيث الطعم كالحلو والحامض أو اللون كالأسود والأبيض، أو الحجم كالصغير والكبير، أو الطبيعة كالحارّ والبارد. فإن قيل: الزوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين فما الفائدة في اثنين؟ أجيب: بأنه قيل: إنه تعالى أوّل ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال: خلق زوجين لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص، فلما قال: اثنين علم أنه تعالى أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد، فكما أنّ الناس وإن كان فيهم الآن كثرة فابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص آدم وحوّاء، فكذا القول في جميع الأشجار والزروع. الخامس منها: قوله تعالى: {يغشي} ، أي: يغطي {الليل} بظلمته {النهار} ، أي: والنهار الليل بضوئه فيعتدل فعلهما على ما قدّره الله تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان، وذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهرة لكل ذي عقل أنها تدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين، والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين. ولما ذكر تعالى هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة جمعها وناطها بالفكر فقال تعالى: {إن في ذلك} ، أي: الذي وقع التحدّث عنه من الآيات {لآيات} ، أي: دلالات {لقوم يتفكرون} ، أي: يجتهدون في الفكر فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالسبب على المسبب والتفكر والتدبر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء، ثم أنه تعالى ذكر دليلاً ظاهراً جدًّا بقوله تعالى: {وفي الأرض} ، أي: التي أنتم سكانها تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك {قطع} ، أي: بقاع مختلفة {متجاورات} ، أي: متقاربات يقرب بعضها من بعض واحدة طيبة، والأخرى سبخة لا تنبت وأخرى صالحة للزرع لا للشجر، وأخرى بالعكس، وأخرى قليلة الريع، وأخرى كثيرته مع انتظام الكل في الأرضية، وهو من دلائل قدرته تعالى {وجنات} ، أي: بساتين فيها أنواع الأشجار من نخيل وأعناب وغيرذلك كما قال تعالى: {من أعناب وزرع ونخيل صنوان} جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس: «عمّ الرجل صنو أبيه» يعني أنهما من أصل واحد {وغير صنوان} ، أي: متفرقات مختلفة الأصول وسمي البستان جنة؛ لأنه يستر بأشجاره الأرض. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص برفع العين واللام والنون الثانية من صنوان والراء من غير مع التنوين في العين واللام والنون، وعدم التنوين في الراء، والباقون بالخفض في الأربعة وعدم التنوين في الراء. ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب لا إلى شيء من الأسباب قال: {تسقى} قراءة ابن عامر وعاصم بالياء على التذكير، أي: المذكور، وقراءة الباقين بالتاء على التأنيث، أي: الجنات وما فيها {بماء واحد} فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه، ولا تتقدّم، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل في حدّه: جوهر سيال به قوام الأرواح {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ، أي: في الطعم ما بين حلو وحامض وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وفي الشكل والرائحة والمنفعة وغير ذلك، وذلك أيضاً مما يدل على القادر الحكيم، فإنّ اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار، قال مجاهد: وذلك كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد. وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم وكانت الأرض طينة واحدة في يد، أي: في قدرة الرحمن فسطحها فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماء من السماء، فتخرج هذه زهرتها وشجرها وثمرها ونباتها، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد، وكذلك الناس خلقوا من آدم، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع. وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} (الإسراء، 82) وقرأ حمزة والكسائي بالياء ليطابق قوله تعالى: {يدبر الأمر} والباقون بالنون وقرأ نافع وابن كثير بسكون الكاف، والباقون بالرفع {إن في ذلك} ، أي: الأمر العظيم الذي ذكرناه {لآيات} ، أي: دلالات {لقوم يعقلون} ، أي: يستعملون عقولهم بالتدبر والتفكر في الآيات الدالة على وحدانيته تعالى. ولما ذكر تعالى الدلائل القاهرة الدالة على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدل على المعاد بقوله تعالى: {وإن تعجب} ، أي: يا أكرم الخلق من تكذيب الكفار لك بعد أن كنت تعرف عندهم بالصادق الأمين {فعجب} ، أي: فحقيق أن يتعجب منه {قولهم} ، أي: منكري البعث {أئذا كنا تراباً} ، أي: بعد الموت {أئنا لفي خلق جديد} ، أي: خلق بعد الموت كما كنا قبله، ولم يعلموا أنّ القادر على إنشاء الخلق وما تقدّم على غير مثال قادر على إعادتهم. وقيل: وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرّهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأنّ الله تعالى خلق السموات، والأرض، وهو يضر وينفع، وقد رأوا قدرة الله تعالى وما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم ذلك، والعجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة، وقال المتكلمون: العجب هو الذي لا يعرف سببه، وذلك في حق الله تعالى محال؛ لأنه تعالى علام الغيوب لا تخفى عليه خافية، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائي بإدغام الباء في الفاء، والباقون بالإظهار. تنبيه: هنا آيتان في كل منهما همزتان، فقرأ قالون بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الهمزة الثانية، ويدخل بينهما ألفاً على الاستفهام، وفي الآية الثانية بهمزة مكسورة وبعدها نون مشددة على الخبر، وورش كذلك إلا أنه لا يدخل بين الهمزتين في أئذا ألفاً وينقل في الثاني على أصله، وابن كثير يقرأ بالاستفهام فيهما من غير إدخال ألف بين الهمزتين مع تحقيق الأولى وتسهيل الثانية فيهما، وأبو عمرو كذلك مع إدخال ألف بينهما، وابن عامر في الأول بهمزة مكسورة بعدها ذال مفتوحة على الخبر، وفي الثاني بهمزة مفتوحة محققة وهمزة مكسورة محققة على الاستفهام، وأدخل هشام بينهما ألفاً بخلاف عنه، والباقون بهمزتين محققتين الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة ولا ألف بينهما في الموضعين. فائدة: جميع ما في القرآن من ذلك أحد عشر موضعاً في تسع سور، والأحد عشر مكرّرة فتصير اثنين وعشرين، في هذه السورة موضع، والثاني والثالث في سورة الإسراء، والرابع في المؤمنون، والخامس في النمل، والسادس في العنكبوت، والسابع في السجدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 والثامن والتاسع في الصافات، والعاشر في الواقعة، والحادي عشر في النازعات. وأذكر إن شاء الله تعالى في كل سورة من السور المذكورة مذهبهم في محله. {أولئك} ، أي: الذين جمعوا أنواعاً من البعد من كل خير {الذين كفروا بربهم} ، أي: غطوا ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم، ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا بدأهم {وأولئك} البعداء البغضاء {الأغلال} يوم القيامة {في أعناقهم} بسبب كفرهم، والغل: طوق من حديد تقيد به اليد في العنق، وقيل: المراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير الذليل بالغل، وقيل: إنهم مقيدون بالضلال لا يرجى فلاحهم. {وأولئك} ، أي: الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم {أصحاب النار هم فيها خالدون} ، أي: ثابت خلودهم دائماً لا يخرجون منها ولا يموتون. ولما كان صلى الله عليه وسلم يهدّدهم تارة بعذاب يوم القيامة وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلما هدّدهم بعذاب يوم القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر، وهو الذي تقدّم ذكره في الآية الأولى، وكلما هدّدهم بعذاب الدنيا قالوا له: فجئنا بهذا العذاب، وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن وإظهار أنّ الذي يقول كلام لا أصل له نزل: {ويستعجلونك} ، أي: استهزاء وتكذيباً، والاستعجال طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له {بالسيئة} ، أي: العذاب {قبل الحسنة} ، أي: الرحمة، وذلك أنّ مشركي مكة كانوا يقولون: اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذا أليم. تنبيه: قوله {قبل الحسنة} فيه وجهان: أحدهما: متعلق بالاستعجال ظرفاً له والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال مقدرة من السيئة قاله أبو البقاء. {وقد} ، أي: والحال أنه قد {خلت من قبلهم المثلات} جمع مثلة بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين أفلا يعتبرون بها. {وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} وإلا لم يترك على ظهرها دابة كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر، 45) . وقال ابن عباس: معناه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا. {وإنّ ربك لشديد العقاب} للمصرين على الشرك الذين ماتوا عليه. وقال مقاتل: إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وشديد العقاب إذا عاقب. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ الكفار طعنوا في نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب طعنهم في الحشر والنشر أوّلاً، ثم طعنوا في نبوّته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً، ثم طعنوا في نبوّته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة. ثالثاً، وهو المذكور في قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا} ، أي: هلا {أنزل عليه} ، أي: محمد صلى الله عليه وسلم {آية من ربه} ، أي: مثل عصا موسى وناقة صالح وذلك؛ لأنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات، وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزاً مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدّة التفاته إلى إيمانهم قال الله تعالى له: {إنما أنت منذر} ، أي: ليس عليك إلا الإنذار والتخويف، وليس عليك إتيان الآيات. {ولكل قوم هاد} ، أي: نبيّ يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وقرأ ابن كثير في الوقف بياء بعد الدال، وفي الوصل بغير ياء وتنوين الدال، والباقون بغير ياء في الوقف والوصل مع تنوين الدال. ولما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات أخبرهم الله تعالى عن عظيم قدرته وكمال علمه بقوله تعالى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} من ذكر وغيره وواحد ومتعدّد وغير ذلك {وما تغيض} ، أي: تنقص {الأرحام} من مدّة الحمل {وما تزداد} ، أي: من مدّة الحمل فقد تكون سبعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند الإمام أبي حنيفة، وإلى اربع عند الإمام الشافعي، وإلى خمس عند الإمام مالك رضي الله تعالى عنهم. وقيل: إنّ الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمي هرماً. وقيل: ما تنقصه الرحم من الأولاد وتزيده منهم. يروى أنّ شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمّه. وقيل: من نقصان الولد فيخرج ناقصاً والزيادة تمام خلقه. وقيل: ما تنقص بالسقط عن أن يتم وما يزداد بالتمام. وقيل: ما تنقص بظهور دم الحيض، وذلك أنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص بمقدار حصول ذلك. قال ابن عباس: كلما سال الحيض في وقت الحمل يوماً زاد في مدّة الحمل يوماً ليحصل الجبر ويعتدل الأمر والآية تحتمل جميع ذلك إذ لا تنافي في هذه الأقوال. ويدل لذلك قوله تعالى: {وكل شيء} من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها {عنده} ، أي: في علمه وقدرته {بمقدار} في كيفيته وكميته لا يجاوزه ولا يقصر عنه لأنه تعالى عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين. تنبيه: قوله تعالى: {عنده} يجوز أن يكون مجرور المحل صفة لشيء أو مرفوعه صفة لكل أو منصوبه ظرفاً لقوله: {بمقدار} أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً. {عالم الغيب} وهو ما غاب عن كل مخلوق {والشهادة} وهو ما شاهدوه، وقيل: الغيب هو المعدوم والشهادة هو الموجود. وقيل: الغيب ما غاب عن الحس، والشهادة ما حضر في الحس {الكبير} ، أي: العظيم {المتعال} عن خلقه بالقهر المنزه عن صفات النقص فهو تعالى موصوف بالعلم الكامل والقدرة التامّة. وقرأ ابن كثير في الوقف والوصل بياء بعد اللام، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. ولما كان علمه تعالى شاملاً لجميع الأشياء قال تعالى: {سواء منكم} ، أي: في علمه تعالى {من أسرّ القول} ، أي: أخفى معناه في نفسه {ومن جهر به} ، أي: أظهره فقد استوى في علمه تعالى المسرّ بالقول والجاهر به {ومن هو مستخف} ، أي: مستتر {بالليل} ، أي: بظلامه {وسارب} ، أي: ظاهر بذهابه في سربه {بالنهار} والسرب: بفتح السين وسكون الراء الطريق، وقال ابن عباس: سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة، وقال مجاهد: سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التواري والضمير في. {له} يعود إلى من في قوله {سواء منكم من أسّر القول ومن جهر به ومن هومستخف بالليل} أو للإنسان {معقبات} ، أي: ملائكة تعقبه، والذي عليه الجمهور أنّ المراد بالملائكة الحفظة، وإنما صح وصفهم بالمعقبات إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار، وبالعكس وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويبتغونها بالحفظ والكتب وكل من عمل عملاً، ثم عاد إليه فقد عقب، فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل والنهار، روي عن عثمان أنه قال يا رسول الله أخبرني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 عن العبد كم معه من ملك فقال صلى الله عليه وسلم «ملك عن يمينك للحسنات وهو أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين: اكتب قال: لا لعله أن يتوب أو يستغفر فيستأذنه ثلاث مرات فإذا قال ثلاثاً قال اكتب أراحنا الله منه. فبئس القرين ما أقل مراقبته لله واستحيائه منا فهو قوله تعالى {له معقبات} {من بين يديه} ، أي: قدّامه {ومن خلفه} ، أي: ورائه، وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك، وإن تجبرت قصمك وملكان على شفتيك يحفظان عليك الصلاة، وملك على فيك، لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهذه عشرة أملاك على كل أدمي» ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فهم عشرون ملكاً على كل آدمي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله تعالى وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون» . وقال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك موكل يحفظه من الجن والأنس والهوام في نومه ويقظته، فإن قيل: الملائكة ذكور فلم ذكروا في جمع الإناث وهو المعقبات؟ أجيب: بجوابين: الأول: قال الفراء: المعقبات ملائكة معقبة واحدها معقب ثم جمعت معقبة بمعقبات كما قيل أبناآت ورجالات جمع أبناء ورجال والذي على التذكير قوله تعالى: {يحفظونه} والثاني: وهو قول الأخفش إنما أنث لكثرة ذلك منها نحو نسابة وعلامة وهو ذكر، واختلف في المراد من قوله تعالى: {من أمر الله} على أقوال: أحدها: إنه على التقديم والتأخير، والتقدير له معقبات من أمر الله يحفظونه. ثانيها: أنّ فيه إضماراً، أي: ذلك الحفظ من أمر الله، أي: مما أمر الله تعالى به فحذف الاسم وأبقى خبره. وثالثهما: أنّ كلمة من معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر الله وبإعانته، وقال كعب الأحبار: لولا أنّ الله تعالى وكّل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجنّ، وقال ابن جريج: معنى يحفظونه، أي: يحفظون عليه الحسنات والسيئات، فإن قيل: ما الفائدة في تخصيص هؤلاء الملائكة مع بني آدم وتسليطهم عليهم؟ أجيب: بأن الإنسان إذا علم أنَّ الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب؛ لأنّ من اعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام إليها كما يزجره إذا حضر من يعظمه من البشر، وإذا علم أنّ الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال، كان ذلك أيضاً ردعاً له عنها، وإذا علم أنّ الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل. ولما دل ذلك على غاية القدرة والعظمة قال تعالى: {إنّ الله} مع قدرته {لا يغير ما بقوم} ، أي: لا يسلبهم نعمته {حتى يغيروا ما} ، أي: الذي {بأنفسهم} من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة {وإذا أراد الله بقوم سوءً} ، أي: هلاكاً وعذاباً {فلا مردّ له} أي لا يقدر أحد لا من المعقبات ولا من غيرها أن يرد مانزل بهم من قضائه وقدره {ومالهم} ، أي: إن أراد الله بهم سواءً {من دونه} ، أي: غير الله {من وال} يلي أمرهم وينصرهم ويمنع العذاب عنهم، وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد اللام دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الوصل، والباقون بغير ياء بعد اللام وقفاً ووصلاً. ولما خوّف الله تعالى بقوله: {وإذا أراد الله بقوم سوءً} اتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه بقوله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفاً} ، أي: للمسافرين من الصواعق {وطمعاً} ، أي: للمقيم في المطر، وقيل: إنّ كل شيء يحصل في الدنيا يحتمل الخير والشر، فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين، فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه وشر في حق من يضرّه ذلك إما بحسب المكان وإما بحسب الزمان، والبرق معروف وهو لمعان يظهر من بين السحاب {وينشىء} ، أي: يخلق {السحاب الثقال} ، أي: بالمطر. تنبيه خوفاً وطمعاً مصدران ناصبهما محذوف، أي: تخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، ويجوز غير ذلك، والسحاب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: غربال الماء وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة وأكثر المفسرين على أنّ الرعد في قوله تعالى: {ويسبح الرعد بحمده} على أنه اسم للملك الذي يسوق السحاب والصوت المسموع منه تسبيحه ولا يردّ ذلك عطف الملائكة عليه في قوله تعالى: {والملائكة} ، أي: تسبحه {من خيفته} ، أي: الله؛ لأنه أفرد بالذكر تشريفاً له، كما في قوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98) . قال ابن عباس: «أقبلت يهود على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ فقال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب» . قال ابن الأثير: والمخاريق جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً وهي آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه، وقد جاء تفسير المخراق في حديث آخر، وهو سوط من نور تزجر به الملائكة السحاب. وعن ابن عباس أنه قال: من سمع صوت الرعد فقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقة فعليّ ديته. وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث وقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى: «لو أنّ عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت الشمس عليهم بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد» . وفي رواية عن ابن عباس: الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه، وأنه يسبح الله تعالى إذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. وعن الحسن أنّ الرعد خلق من خلق الله ليس بملك، وقد اختلفت الروايات في ذلك، ففي بعضها أنه ملك موكل بالسحاب، وفي بعضها أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وفي بعضها أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه، وفي بعضها: أنه ملك سمي به وهو الذي تسمعون صوته، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في البقرة، وقيل: هؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون، وقيل: المراد بهم جميع الملائكة واستظهر وقوله تعالى: {ويرسل الصواعق} جمع صاعقة وهي العذاب المهلك تنزل من البرق فتحرق من تصيبه {فيصيب بها من يشاء} فيهلكه {وهم يجادلون في الله} حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب التشديد في الخصومة. روي «أنّ عامر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف فتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهمّ اكفنيهما بما شئت. فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة فقتلته، ورمى عامر بغدة فمات في بيت سلولية فكان يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فنزلت» . «وعن الحسن أنه قال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم نفراً يدعونه إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: أخبروني عن رب محمد الذي تدعونني إليه مم هو؟ أمن ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا رجلاً أكفر قلباً ولا أعتى على الله منه. فقال صلى الله عليه وسلم ارجعوا، إليه فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مقالته الأولى وقال: أجيب محمد إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا وقالوا: يا رسول الله، ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث فقال: ارجعوا إليه فرجعوا فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: احترق صاحبكم فقالوا: من أين علمتم؟ فقالوا: أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله} » . {وهو شديد المحال} واختلف المفسرون في قوله تعالى: {وهو شديد المحال} فقال عليّ رضي الله عنه: شديد الأخذ. وقال ابن عباس: شديد الحول. وقال مجاهد: شديد القوة. وقال أبو عبيدة: شديد القوة والمغالبة. واختلف في قوله تعالى: {له} ، أي: الله {دعوة الحق} فقال عليّ: دعوة الحق التوحيد. وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الحسن: الحق هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق. {والذين يدعون} ، أي: وهم الكفار. {من دونه} ، أي: غير الله وهي الأصنام {لا يستجيبون} ، أي: الأصنام {لهم} ، أي: الكفار {بشيء} مما يطلبونه من نفع أو دفع ضر {إلا} ، أي: الاستجابة {كباسط} ، أي: كاستجابة باسط {كفيه إلى الماء} ، أي: على شفير البئر يدعوه {ليبلغ فاه} ، أي: بارتفاعه من البئر إليه {وما هو} ، أي: الماء {ببالغه} ، أي: فاه أبداً؛ لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم أبداً؛ لأنّ أصنامهم كذلك، وقيل: شبهوا في قلة فائدة دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسط كفيه ناشراً أصابعهما، ولم يصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ مطلوبه من مشربه، ثم أنه تعالى عمم في أنه لا يستجاب لهم بقوله تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} ، أي: ضياع لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا آلهتهم لم تستطع إجابتهم، وقيل: المراد بالدعاء في الحالين العبادة وقوله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض} يحتمل أن يراد به السجود على حقيقته وهو وضع الجبهة، وعلى هذا فيكون قوله تعالى: {طوعاً} للملائكة والمؤمنين من الثقلين حالتي الشدّة والرخاء وقوله تعالى: {وكرهاً} للكافرين والمنافقين الذين أكرهوا على السجود بالسيف وأن يراد به التعظيم والاعتراف بالعبودية، فكل من السموات والأرض معترف بعبودية الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 تعالى كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف، 87) وأن يراد به الانقياد والخضوع وترك الامتناع، وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى؛ لأنّ قدرته ومشيئته نافذة في الكل. تنبيه: قوله تعالى: {طوعاً وكرهاً} إمّا مفعول من أجله وإمّا حال، أي: طائعين وكارهين. واختلف في تفسير قوله تعالى: {وظلالهم بالغدوّ} ، أي: البكر {والآصال} ، أي: العشايا، أي: تسجد فقال أكثر المفسرين: كل شخص سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله تعالى وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله تعالى وهو كاره. وقال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله. قال ابن الأنباريّ: ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها لله وتخشع. وقيل: المراد من سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس وهي منقادة مسلسلة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خص الغدوّ والآصال بالذكر؛ لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين. تنبيه: الغدوّ جمع غداة كقنى وقناة، والآصال جمع الأصل، والأصل جمع أصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس. ولما بيّن تعالى أن كل من في السموات والأرض ساجد لله تعالى عدل إلى الردّ على عباد الأصنام بقوله تعالى: {قل} يا أشرف الخلق على الله تعالى لقومك {من رب السموات والأرض} ، أي: من مالكهما وما فيهما ومدبرهما وخالقهما؟ {قل الله} ، أي: أجب عنهم بذلك إن لم يقولوه، ولا جواب لهم غيره، ولأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه ولقنهم الجواب به. وروي أنه لما قال للمشركين ذلك عطفوا عليه وقالوا: أجب أنت فأمره الله تعالى، فأجاب بذلك، ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: {قل} لهم {أفاتخذتم من دونه} ، أي: غير الله {أولياء} ، أي: أصناماً تعبدونها {لا يملكون لأنفسهم نفعاً} يجلبونه {ولا ضرّاً} يدفعونه فكيف يملكون لكم ذلك؟ وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال في اتخذتم عند التاء، والباقون بالإدغام، ثم ضرب الله تعالى مثلاً للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعبدون الله فقال تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير} قال ابن عباس: يعني المشرك والمؤمن، وإنما مثل الكافر بالأعمى؛ لأنه لا يهتدي سبيلاً، فكذلك الكافر لا يهتدي سبيلاً. ثم ضرب الله مثلاً للإيمان والكفر بقوله تعالى: {أم هل تستوي الظلمات} ، أي: الكفر {والنور} ، أي: الإيمان؟ الجواب: لا. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي {يستوي} بالياء على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، وأمّا اللام من هل هنا فلا تدغم على القراءتين. {أم جعلوا لله شركاء} والهمزة للانكار، وقوله تعالى: {خلقوا كخلقه} صفة شركاء، أي: خلقوا سموات وأرضين وشمساً وقمراً وجبالاً وبحاراً وجناً وإنساً. {فتشابه الخلق} ، أي: خلق الشركاء بخلق الله {عليهم} من هذا الوجه فلا يدرون ما خلق الله ولا ما خلق آلهتهم، فاعتقدوا استحقاق عبادتهم بخلقهم، وهذا استفهام إنكار، أي: ليس الأمر كذلك ولا يستحق العبادة إلا الخالق. ولما كان من المعلوم قطعاً أن جوابهم أن الخلق كله لله لزمتهم الحجة فقال تعالى: {قل} لهؤلاء المشركين {الله خالق كل شيء} ، أي: مما يصح أن يكون مخلوقاً، فهو من العموم الذي يراد به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 الخصوص، فلا يدخل في ذلك صفات الله تعالى، وإذا كان لا خالق غيره فلا يشاركه في العبادة أحد، فوجب أن ينفرد بالإلهية كما قال تعالى: {وهو الواحد} ، أي: الذي لا يجانسه شيء، وكل ما سواه لا يخلو عن مماثل يماثله، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له؟ {القهار} الذي كل شيء تحت قهره، فيدخل تحت قضائه ومشيئته وإرادته، ثم ضرب تعالى مثلاً للحق والباطل بقوله تعالى: {أنزل من السماء} ، أي: السحاب أو السماء نفسها {ماء} ، أي: مطراً {فسالت أودية} ، أي: أنهار جمع واد، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه، واستعمل للماء الجاري فيه، وتنكيرها؛ لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع {بقدرها} ، أي: بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضارّ، أو بمقداره في الصغر والكبر. {فاحتمل السيل زبداً رابياً} ، أي: عالياً هو ما على وجهه من قذر ونحوه {ومما توقدون عليه من النار} ، أي: من جواهر الأرض الذهب والفضة والنحاس والحديد {ابتغاء} ، أي: طلب {حلية} ، أي: زينة {أو متاع} ، أي: ينتفع به كالأواني إذا أذيبت، وآلات الحرب والحرث، والمقصود من هذا بيان منافعها {زبد مثله} ، أي: مثل زبد السيل، وهو خبثه الذي ينفيه الكير، ومن للابتداء أو للتبعيض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به، والباقون بالتاء على الخطاب {كذلك} ، أي: مثل هذا الضرب العلي الرتب المتبين السبب {يضرب الله} ، أي: الذي له الأمر كله {الحق والباطل} ، أي: مثلهما، فإنه تعالى مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة، فيننتفع به أنواع المنافع، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنيّ والآبار، ومثل الباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وهو قوله تعالى: {فأما الزبد} ، أي: من السيل وما أوقد عليه من الجواهر {فيذهب جفاء} . قال أبو حيان: مضمحلاً، أي: متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له. وقال ابن الأنباري: متفرّقاً، وانتصابه على الحال. {وأما ما ينفع الناس} من الماء ومن الجواهر الذي هو مثل الحق. {فيمكث في الأرض} ، أي: يثبت ويبقى لينتفع به أهلها {كذلك} ، أي: مثل ذلك الضرب {يضرب} ، أي: يبين {الله} الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {الأمثال} فيجعلها في غاية الوضوح، وإن كانت في غاية الغموض. قال أهل المعاني: هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال، فإن الله يمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء، فيذهب الزبد فيبقى الماء الصافي الذي ينفع، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى، ويذهب العلو الذي هو الكدر وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. وقيل: هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس، ومثل الكافر وخبث اعتقاده كمثل الزبد الذي لا ينتفع به البتة. ثم إنه تعالى لما ذكر الحق والباطل ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب فقال تعالى: {للذين استجابوا لربهم} ، أي: أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوّة وبعث الأموات، والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم {الحسنى} قال ابن عباس وقال أهل المعاني: الحسنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرّة الدائمة الخالصة عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال، ولم يذكر تعالى الزيادة هاهنا؛ لأنه تعالى ذكرها في سورة أخرى وهي قوله تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس، 26) هذا ما لأهل الحق، وأمّا ما لأهل الباطل فهو ما ذكره بقوله جل من قائل: {والذين لم يستجيبوا له} وهم الكفرة فلهم أنواع ثلاثة من العذاب والعقوبة، فالنوع الأوّل قوله تعالى: {لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به} ، أي: جعلوه فكاك أنفسهم بغاية جهدهم؛ لأنّ المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته، وكل ما هو سواه فهو إنما يحبه لكونه وسيلة إلى مصالح ذاته، فإذا كانت النفس في الضر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجناس والأرواح، فإنه يرضى بأن يجعله فداء نفسه؛ لأنّ المحبوب بالعرض لا بدّ وأن يكون فداء لما كان محبوباً بالذات، والكناية في به عائدة إلى ما في قوله ما في الأرض.d والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله تعالى لهم ما ذكره بقوله تعالى: {أولئك لهم سوء الحساب} وهو المناقشة فيه، وعن النخعي بأن يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفر منه شيء، وإنما نوقشوا؛ لأنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى، فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين من الفوز بسعادة خدمة المولى. والنوع الثالث من عقوباتهم ما ذكره بقوله تعالى: {ومأواهم} ، أي: مرجعهم {جهنم} وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاشتغال بخدمة المولى عاشقين للذات الدنيا، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم، فيحترقون على مفارقتها، وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة، فلذلك كان مأواهم جهنم. ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى بقوله عز من قائل: {وبئس المهاد} ، أي: الفراش، والمخصوص بالذم محذوف، أي: جهنم. ونزل في حمزة وأبي جهل، وقيل: في عمار وأبي جهل. {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} ، أي: يؤمن به ويعمل بما فيه، وهو حمزة أو عمار رضي الله تعالى عنهما. {كمن هو أعمى} ، أي: أعمى البصيرة ولا يؤمن به ولا يعمل بما فيه وهو أبو جهل، قال ابن الخازن في تفسيره: وحمل الآية على العموم أولى، وإن كان السبب مخصوصاً، والمعنى: لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن هو لا يبصر الحق ولا يتبعه، وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى؛ لأنّ الأعمى لا يهتدي لرشد {إنما يتذكر} ، أي: يتعظ {أولو الألباب} ، أي: أصحاب العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها، ويعبرون من ظاهر كل حديث إلى سره ولبابه. {الذين يوفون بعهد الله} ، أي: ما عاقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا: بلى، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. {ولا ينقضون الميثاق} ، أي: ما واثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى، وبينهم وبين العباد، فهو تعميم بعد تخصيص. {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ، أي: من الإيمان والرحم وغير ذلك، والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم. عن أبي موسى أنّ عبد الرحمن بن عوف عاد أبا الدرداء فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فيما يحكي عن ربه تعالى: «أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، أو قال: بتته» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» . وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يبسط في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» . ومعنى ينسأ يؤخر، والمراد به تأخير الأجل، وفيه قولان: أحدهما وهو المشهور: أنه يزاد في عمره زيادة حقيقية. والثاني: يبارك له في عمره فكأنه قد زيد فيه. وعن ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تأتي يوم القيامة لها ألسنة ذلقة الرحم فتقول: أي: رب قطعت والأمانة تقول: أي رب تركت والنعمة تقول: أي: رب كفرت» . وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ فقالوا: من خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة، فأساء إليها لم يكن من المحسنين. {ويخشون ربهم} ، أي: وعيده عموماً، والخشية خوف يشوبه تعظيم {ويخافون سوء الحساب} خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا {والذين صبروا} ، أي: على طاعة الله تعالى وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه. وقال ابن عباس: صبروا على أمر الله. وقال عطاء: على المصائب والنوائب. وقيل: صبروا عن الشهوات وعن المعاصي، ومرجع الكل واحد فإنّ الصبر الحبس، وهو تجرع مرارة منع النفس عما تحب مما لا يجوز فعله {ابتغاء} ، أي: طلب {وجه ربهم} ، أي: رضاه لا طلب غيره من جور أو سمعة أو رياء أو لغرض من أغراض الدنيا أو نحو ذلك {وأقاموا الصلاة} ، أي: المفروضة، وقيل: مطلق الصلاة، فيدخل فيه الفرض والنفل. {وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية} قال الحسن: المراد به الزكاة، فإن لم يتهم بترك الزكاة فالأولى أن يؤدّيها سرًّا، وإن كان يتهم بترك أدائها، فالأولى أن يؤدّيها علانية، وقيل: المراد بالسر صدقة التطوّع، وبالعلانية الزكاة. وقيل: المراد بالسر ما يؤدّيه من الزكاة بنفسه وبالعلانية ما يدفعه إلى الإمام. {ويدرؤون} ، أي: يدفعون {بالحسنة السيئة} كالجهل بالحلم والأذى بالصبر. روي عن ابن عباس قال: يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل، وهو معنى قوله تعالى: {إنّ الحسنات يذهبن السيئات} (هود، 114) وقوله صلى الله عليه وسلم «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» . وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيق قد خنقه ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض» . وقال ابن عباس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم. وعن الحسن إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عمر: ليس الواصل من وصل، ثم وصل تلك مجازاة لكن من قطع ثم وصل وعطف من لم يصله، وليس الحليم من ظلم، ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا، وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره، وروي أنّ شقيقاً البلخي دخل على ابن المبارك متنكراً فقال له: من أين أنت؟ فقال: من بلخ. فقال: وهل تعرف شقيقاً؟ قال: نعم. فقال: وكيف طريقة أصحابه؟ قال: إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا. فقال ابن المبارك: طريقة كلابنا هكذا. فقال شقيق: فكيف ينبغي أن يكون الأمر؟ فقال: الكاملون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. {أولئك} ، أي: العالو الرتبة {لهم عقبى الدار} وبينها تعالى بقوله: {جنات عدن} ، أي: إقامة لا انفكاك لها يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ثم استأنف بيان تمكنهم بها بقوله تعالى: {يدخلونها} ولما كانت الدار لا تطيب بدون الأحبة قال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع: {ومن صلح من آبائهم} ، أي: الذين كانوا سبباً في إيجادهم، فيشمل ذلك الآباء والأمهات وإن علوا {وأزواجهم وذرياتهم} ، أي: الذين تسببوا عنهم، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم، وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعاً لهم وتعظيماً لشأنهم، ويقال: إنّ من أعظم موجبات سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكروا الله تعالى على الخلاص منها والفوز بالجنة، ولذلك قال الله تعالى في صفة أهل الجنة أنهم يقولون: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} (يس: 26، 27) . وفي ذلك دليل على أنّ الدرجة تعلو بالشفاعة، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقترن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم، والتقييد بالصلاح دلالة على أنّ مجرد الأنساب لا تنفع. وفسر ابن عباس الصلاح بالتصديق فقال: يريد من صدّق بما صدّقوا وإن لم يعمل مثل أعمالهم، قال الرازي: قوله {وأزواجهم} ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، وما روي عن سودة أنها لما همّ الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت: دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك. كالدليل على ما ذكرنا اه. وعلى هذا من تزوجت بغيره قيل: إنها تتخير بينهما، ثم زاد تعالى في ترغيبهم بقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم} لأنّ الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز. ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والكرم قال تعالى: {من كل باب} قال ابن عباس: لهم خيمة من درّة مجوّفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصارعها من ذهب يدخلون عليهم من كل باب يقولون لهم: {سلام عليكم} ، أي: فأضمر القول هنا لدلالة الكلام عليه {بما صبرتم} على أمر الله، والباء للسببية، أي: بسبب صبركم، أو البدلية، أي: بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه. فإن قيل: بم يتعلق قوله {بما صبرتم} قال الزمخشري: بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم، وقال البيضاوي: متعلق بعليكم أو بمحذوف لا بسلام، فإن الخبر فاصل مع أنّ الزمخشري قال ويجوز أن يتعلق بسلام، أي: نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم، وهذا أظهر وردّ الأول بأن الممنوع منه إنما هو المصدر المؤوّل بحرف مصدري، وفعل والمصدر هنا ليس كذلك. ولما تم ذلك تسبب عنه قوله تعالى: {فنعم عقبى الدار} وهي المسكن في قرار المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها، والمرافق التي ينتفع بها، والعقبى الإنتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: عقباكم. ولما ذكر تعالى صفات السعداء ومايترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر أحوال الأشقياء، وذكر مايترتب عليها من الأحوال المخزية المكربة، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب؛ ليكون البيان كاملاً فقال تعالى: {والذين ينقضون عهد الله} ، أي: فيعملون بخلاف موجبه، والنقض التفريق الذي ينفي تأليف البناء {من بعد ميثاقه} ، أي: الذي أوثقه عليهم من الإقرار والقبول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 {ويقطعون ما} ، أي: الذي {أمر الله به أن يوصل} وذلك في مقابلة قوله من قبل {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} (الرعد، 21) فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل، والمراد به قطع ما يوجب الله تعالى وصله، أي: لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح، ويدخل في ذلك وصل الرسول صلى الله عليه وسلم بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام، ووصل سائر من له حق {ويفسدون} ، أي: يوقعون الفساد {في الأرض} ، أي: في أي جزء كان منها بالظلم وتهييج الفتن، والدعاء إلى غير دين الله تعالى {أولئك} أي البعداء البغضاء {لهم اللعنة} ، أي: الطرد والبعد {ولهم سوء الدار} والدار لهم هي جهنم، وليس لهم فيها إلا ما يسوء الصائر إليها. ولما حكم تعالى على من نقض عهده في قبول التوحيد والنبوّة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة، فكأنه قيل: لو كانوا أعداء الله تعالى لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا فأجاب الله تعالى بقوله تعالى: {الله يبسط الرزق} ، أي: يوسعه {لمن يشاء ويقدر} ، أي: يضيقه على من يشاء سواء في ذلك الطائع والعاصي ولا تعلق لذلك بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن موسعاً عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من وفقه الله تعالى قال الله تعالى: {وفرحوا} ، أي: كفار مكة فرح بطر {بالحياة الدنيا} ، أي: بما نالوه فيها لا فرح سرور بفضل الله والعافية عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة {وما الحياة الدنيا} ، أي: بكمالها {في الآخرة} ، أي: في جنبها {الامتاع} ، أي: حقير متلاش يتمتع به ويذهب كعجالة الراكب وهي ما يتعجله من تميرات أو شربة ماء سويق أو نحو ذلك. {ويقول الذين كفروا} من أهل مكة {لولا} ، أي: هلا {أنزل عليه} ، أي: على هذا الرسول {آية} ، أي: علامة بينة {من ربه} ، أي: المحسن إليه كالعصا واليد لموسى والناقة لصالح لنهتدي بها فنؤمن به وأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله: {قل} ، أي: لهؤلاء المعاندين {إن الله يضل من يشاء} إضلاله فلا تغني عنه الآيات شيئاً وإن أنزلت كل آية {ويهدي} ، أي: يرشد {إليه} ، أي: إلى دينه {من أناب} ، أي: رجع إليه كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم ولو حصلت آية واحدة فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله تعالى في طلب الهداية وقوله تعالى: {الذين آمنوا} بدل من أناب أو خبر مبتدأ محذوف {وتطمئن} ، أي: تسكن {قلوبهم بذكر الله} ، أي: أنساً به واعتماداً عليه ورجاءً منه أو بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته أو بذكر دلائله الدالة على وجوده أو بالقرآن الذي هو أقوى المعجزات وقال ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت فإن قيل: قد قال الله تعالى في سورة الأنفال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} (الأنفال، 2) والوجل ضد الاطمئنان فكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟ أجيب: بأنهم إذا ذكروا العقاب ولم يأمنوا أن يقدموا على المعاصي فهناك يحصل الوجل وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت قلوبهم إلى ذلك وحينئذ حصل الجمع بينهما {ألا بذكر الله} ، أي: الذي له الجلال والإكرام لا بذكر غيره {تطمئن} ، أي: تسكن {القلوب} ويثبت اليقين فيها وقوله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الصالحات} مبتدأ خبره {طوبى لهم} واختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس: فرح لهم وقرة عين. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال النخعي: خير لهم وكرامة. وقال سعيد بن جبير: طوبى اسم الجنة بالحبشية. قال الرازي: وهذا القول ضعيف؛ لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما، اشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر. وعن أبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها. وقال عبيد بن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لوناً ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل. وقال مقاتل: وكل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله تعالى بأنواع التسبيح. وعن أبي سعيد الخدري أنّ رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» . وعن معاوية بن قرّة عن أبيه يرفعه: «طوبى شجرة غرسها الله تعالى بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة» . وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال: «إنّ في الجنة شجرة يقال لها: طوبى يقول الله تعالى لها: تفتقي لعبدي عما يشاء فتتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتتفتق له عن راحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء» . وقيل: طوبى فعلى من الطيب قلبت ياؤه واواً لضم ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى ومعنى طوبى لك أصبت خيراً وطيباً. {وحسن مآب} ، أي: حسن المنقلب. {كذلك} ، أي: مثل إرسال الرسل الذين قدمنا الإشارة إليهم في آخر سورة يوسف وفي غيرها {أرسلناك في أمّة} ، أي: جماعة كثيرة {قد خلت من قبلها} ، أي: تقدّمتها {أمم} طال أذاهم لأنبيائهم، ومن آمن بهم، واستهزاؤهم بهم في عدم الإجابة حتى كأنهم تواصوا بهذا القول فليس ببدع إرسالك إليهم {لتتلو} ، أي: لتقرأ {عليهم} ، أي: على أمّتك {الذي أوحينا إليك} من القرآن وشرائع الدين {وهم} ، أي: والحال أنهم {يكفرون بالرحمن} ، أي: بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء. وقال قتادة: هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «أكتب بسم الله الرحمن الرحيم» . فقال سهل بن عمرو: لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعني مسيلمة الكذاب أكتب كما كنت تكتب باسمك اللهمّ» فهذا معنى قوله: {وهم يكفرون بالرحمن} ، أي: أنهم يكفرونه ويجحدونه. قال البغويّ: والمعروف أنّ الآية مكية، وسبب نزولها أنّ أبا جهل سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فرجع إلى المشركين فقال: إنّ محمداً يدعو الله ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: {قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} (الإسراء، 110) . وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «اسجدوا للرحمن» قالوا: وما الرحمن؟ قال الله تعالى: {قل} لهم يا محمد إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته {هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت} ، أي: اعتمدت عليه في أموري كلها {وإليه متاب} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أي: مرجعي ومرجعكم. روي أنّ أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وعرض الإسلام عليهم، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي: سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا، واجعل لنا فيها أنهاراً نزرع فيها، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقول أم باطل؟ فقد كان عيسى يحي الموتى، وسخر لنا الريح حتى نركبها إلى البلاد، فقد كانت الريح مسخرة لسليمان، فلست بأهون على ربك من سليمان، فنزل قوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} ، أي: نقلت عن أماكنها {أو قطعت} ، أي: شققت {به الأرض} من خشية الله تعالى عند قراءته، فجعلت أنهاراً وعيوناً. {أو كلم به الموتى} ، أي: بأن يحيوا، وجواب لو محذوف، أي: لكان هذا القرآن في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين مراده، وهذا معنى قول قتادة قال: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقيل: تقديره لما آمنوا، ونقل عن الفراء أنّ جواب لو هي الجملة من قوله: {وهم يكفرون} ففي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن لو أنّ قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن، ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم. فإن قيل: لم حذفت التاء في قوله تعالى: {وكلم به الموتى} وثبتت في الفعلين قبله؟ أجيب: بأنه من باب التغليب؛ لأنّ الموتى يشمل المذكر والمؤنث. {بل لله الأمر} ، أي: القدرة على كل شيء {جميعاً} وهذا إضراب عما تضمنته لو من معنى النفي، أي: بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك لعلمه تعالى بأنه لا يلين قلوبهم ويؤيد ذلك قوله تعالى: {أفلم ييأس الذين آمنوا} عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم وذهب أكثرهم إلى أنّ معناه: أفلم يعلم الذين آمنوا {أن} ، أي: بأنه {لو يشاء الله} ، أي: الذي له صفات الكمال {لهدى الناس جميعاً} ، أي: إلى الإيمان من غير آية، ولكنه تعالى لم يشأ هداية جميع الخلائق {ولا يزال الذين كفروا} ، أي: جميع الكفار {تصيبهم بما} ، أي: بسبب ما {صنعوا قارعة} ، أي: نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا تارة بالجدب، وتارة بالسلب وتارة بالقتل، وتارة بالأسر وغيرذلك. واختلف في الكفار على قولين. قيل: أراد بهم جميع الكفار، لأنّ الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من ذلك أوجبت حصول الغم في قلب الكل. وقيل: المراد الكفار من أهل مكة والألف واللام للمعهود السابق ويدل لهذا قول ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها إليهم {أو تحل} ، أي: تنزل نزولاً ثابتاً تلك القارعة {قريباً من دارهم} ، أي: فتوهن أمرهم، وقيل: معناه أو تحل أنت يا محمد بجيشك قريباً من دارهم مكة كما حل بالحديبية {حتى يأتي وعد الله} ، أي: بالنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه بفتح مكة، أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك؛ لأنه لا يبقى على الأرض كافر. وقيل: أراد بوعد الله يوم القيامة؛ لأنّ الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم {إنّ الله لا يخلف الميعاد} لامتناع الكذب في كلامه تعالى. ولما كان الكفار يسألون هذه الآيات منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه ويتأذى من تلك الكلمات أنزل الله تعالى تسلية له وتصبيراً له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 على سفاهة قومه: {ولقد استهزئ برسل من قبلك} كما استهزئ بك {فأمليت للذين كفروا، أي: أطلت المدّة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم} بالعقوبة {فكيف كان عقاب} ، أي: هو واقع موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك، والإملاء الإمهال بأن يترك مدّة من الزمان في راحة وأمن كالبهيمة يملي لها في المرعى، وهذا استفهام معناه التعجب، وفي ضمنه وعيد شديد لهم، وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج، وما يكون توبيخاً لهم وتعجيباً من عقولهم فقال تعالى: {أفمن هو قائم} ، أي: رقيب {على كل نفس بما كسبت} ، أي: عملت من خير وشر وهو الله تعالى القادر على كل الممكنات العالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات، ولا بدّ لهذا الكلام من جواب فإن من موصولة صلتها هو قائم، والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره كمن ليس بهذه الصفة، وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ دل على هذا المحذوف قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} ونظيره قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} (الزمر، 22) الآية تقديره كمن قسا قلبه يدل عليه قوله: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} (الزمر، 22) وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً كقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} (النحل، 17) وقوله تعالى: {قل سموهم} فيه تنبيه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقونها، والمعنى: سموهم بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا عرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز، ومحل الفقر عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قيل: أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده؟ {أم تنبئونه} ، أي: تخبرونه {بما لا يعلم} وعلمه محيط بكل شيء {في الأرض} من كونها آلهة ببرهان قاطع {أم} تسمونهم شركاء {بظاهر من القول} ، أي: بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلم فليس بشيء، وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز. ولما كان التقدير ليس لهم على شيء من هذا برهان قاطع، ولا قول ظاهر بنى عليه قوله تعالى: {بل زين} ، أي: وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان من شياطين الإنس أو شياطين الجنّ. {للذين كفروا مكرهم} ، أي: أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أنّ شركاءهم آلهة حقاً وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى، ولتشفع لهم، وهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فصار كل ذلك من فعلهم فعل الماكر {وصدّوا} غيرهم {عن السبيل} ، أي: طريق الهدى الذي لا يقال لغيره سبيل، فإنّ غيره عدم بل العدم خير منه، فهم لم يسلكوا السبيل، ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، وليس ذلك بعجيب فإنّ الله أضلهم {ومن يضلل الله} ، أي: الذي له الأمر كله بإرادة إضلاله {فما له من هاد} وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد الدال في الوقف دون الوصل، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. وكذلك من واق وكذا ولا واق. ولما أخبر الله تعالى بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة بقوله تعالى: {لهم عذاب في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر والذم والإهانة واغتنام الأموال واللعن، ونحو ذلك مما فيه غيظهم {ولعذاب الآخرة أشق} ، أي: أشدّ في المشقة بسبب القوّة والشدّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وكثرة الأنواع والدوام، وعدم الانقطاع، ثم بين تعالى أنّ أحداً لا يقيهم من عذابه بقوله تعالى: {وما لهم من الله من واق} ، أي: مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل من الوقاية، وهي الحجز بما يدفع الأذية. ولما ذكر تعالى عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين بقوله تعالى: {مثل} ، أي: صفة {الجنة} ، أي: التي هي مقرهم {التي وعد المتقون} واختلف في إعراب ذلك على أقوال: الأوّل: قال سيبويه: {مثل الجنة} مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصناه عليك {مثل الجنة} . والثاني: قال الزجاج: {مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث: مثل الجنة} مبتدأ وخبره. {تجري من تحتها الأنهار} كما تقول صفة زيد أسمر، والرابع الخبر. {أكلها} ، أي: مأكولها {دائم} لأنه الخارج عن العادة، فقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف، الأوّل: تجري من تحتها، أي: من تحت قصورها وأشجارها الأنهار. الثاني: إن أكلها دائم لا ينقطع أبداً بخلاف جنة الدنيا. والثالث: قوله تعالى: {وظلها} ، أي: دائم ليس كظل الدنيا لا تنسخه الشمس ولا غيرها إذ ليس فيها شمس ولا قمر ولا ظلمة، بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول. ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بيّن تعالى أنها للمتقين بقوله تعالى: {تلك} ، أي: الجنة العالية الأوصاف {عقبى} ، أي: آخر أمر {الذين اتقوا} ، أي: الشرك، ثم كرر الوعيد للكافرين بقوله تعالى {وعقبى} ، أي: منتهى أمر {الكافرين النار} لا غير، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين. واختلف في قوله تعالى: على قولين الأوّل: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالكتاب القرآن {يفرحون بما أنزل إليك} من أنواع التوحيد والعدل والنبوّة والبعث والأحكام والقصص {ومن الأحزاب} ، أي: الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار {من ينكر بعضه} وهذا قول الحسن وقتادة. فإن قيل: الأحزاب منكرون كل القرآن؟ أجيب: بأنهم لا ينكرون كل ما في القرآن، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء، والأحزاب لا ينكرون كل هذه الأشياء. والقول الثاني: أنّ المراد بالكتاب التوراة، وبأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثمانية من اليمن واثنان وثلاثون من أرض الحبشة، وفرحوا بالقرآن؛ لأنهم آمنوا به وصدّقوه، والأحزاب بقية أهل الكتاب، وسائر المشركين، وقيل: كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما اسلم عبد الله بن سلام ومن تبعه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرّر الله تعالى ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه} (الرعد، 36) يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: ما نعرف إلا رحمن اليمامة؟ يعني مسيلمة فأنزل الله تعالى: {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} (الأنبياء، 36) . ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد وبينه بألفاظ قليلة فقال: {قل} ، أي: يا أكرم الخلق على الله تعالى {إنما أمرت} ، أي: وقع إليّ الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغيير ممن له الأمر كله {أن أعبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 الله} ، أي: وحده، ولذلك قال: {ولا أشرك به} شيئاً {إليه} وحده {أدعو وإليه مآب} ، أي: مرجعي للجزاء لا إلى غيره. {وكذلك} ، أي: كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم {أنزلناه} ، أي: القرآن {حكماً} والحكم فصل الأمر على الحق {عربياً} بلسانك ولسان قومك، وإنما سمي القرآن حكماً؛ لأنّ فيه جميع التكاليف والحلال والحرام، والنقض والإبرام، فلما كان سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. وروي أنّ المشركين كانوا يدعون النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه، فوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب بأن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله تعالى عنها بقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم} ، أي: الكفار فيما يدعونك إليه من ملتهم {بعد ما جاءك من العلم} ، أي: بأنك على الحق وأن قبلتك هي الكعبة {ما لك من الله من ولي} ، أي: ناصر {ولا واق} ، أي: مانع من عذابه. وقال ابن عباس: الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. ونزل لما عير الكفار النبيّ صلى الله عليه وسلم بكثرة النساء. {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً} ، أي: نساء ينكحونهنّ فكان لسليمان امرأة وسرية وكان لداود عليه السلام إمرأة {وذرية} ، أي: أولاداً فأنت مثلهم، وكانوا يقولون أيضاً: لو كان رسولاً من عند الله لكان، أي: شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بأذن الله} ، أي: بإرادته؛ لأنّ المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر، والعلة وفي إظهار الحجة والبينة، وأمّا الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن لم يشأ لم يظهرها لا اعتراض لأحد عليه في ذلك. ولما توعدهم صلى الله عليه وسلم نزول العذاب، وظهور النصرة له ولقومه وتأخر ذلك عنهم قالوا: لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى {لكل أجل} ، أي: مدّة {كتاب} ، أي: مكتوب قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام، والإتيان بالآيات وغيرها إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة. ولما اعترضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم، ثم يأمر بخلافه غداً، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء} ، أي: محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه {ويثبت} ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقرّه ويمضي حكمه كقوله تعالى: {ما ننسخ من آية} (البقرة، 106) إلى قوله تعالى: {ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير} (البقرة، 106) . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بسكون الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء الموحدة. تنبيه: في هذه الآية قولان: أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا: إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الآثار: أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. وروي أنّ الله تعالى ينزل، أي: أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. والقول الثاني أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك: يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص» . وقال ابن عطية عن ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى، ثم يرجع لمعصية الله تعالى، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت. وقال الحسن: يمحو ما يشاء، أي: من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجيء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال: يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة: يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} . (الفرقان، 70) وقال السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} (الإسراء، 12) . وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم، فمن أراد موته أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (الزمر، 42) الآية. وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها، فإذا مضت السنة محاه، وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة. وقيل: يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة. وقيل: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب. وقيل: هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة {وعنده} تعالى {أمّ الكتاب} أصل الكتب والعرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا، ومنه أمّ الرأس للدماغ، وأمّ القرى، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب، وفيه قولان: الأوّل: أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه. روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة» . والقول الثاني: أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل. وقال ابن عباس في رواية عكرمة: هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق. وعن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 عباس قال: إنّ لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب. وسأل ابن عباس كعباً عن أمّ الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه. ولما كان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك البعض وإثباته ليؤمن به غيره تقريباً لفصل النزاع قال تعالى: {وإما نرينك} يا محمد وأكده بتأكيد للإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلال من ضل بعد إبلاغه {بعض الذي نعدهم} ، أي: من العذاب وأنت حيّ مما تريد، أو تريد أصحابك قبل وفاتك فذلك شافيك من أعدائك، والوعد الخبر عن خير مضمون، والوعيد الخبر عن شر مضمون والمعنى عليه وسماه وعداً لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد {أو نتوفينك} ، أي: قبل أن نرينك ذلك فلا لوم عليك ولا عتب {فإنما عليك البلاغ} ، أي: ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم، وليس عليك أن تجازيهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات، والبلاغ، اسم أقيم مقام التبليغ، وأمّا فيه إدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة. {وعلينا الحساب} ، أي: علينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم. تنبيه: قال أبو حيان: هنا شرطان؛ لأنّ المعطوف على الشرط شرط، فيقدّر لكل شرط، ما يناسب أن يكون جزاء مرتباً عليه والتقدير: وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم، فذلك شافيك من أعدائك، وإمّا نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما وعد الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يريه بعض ما يعده أو يتوفاه قبل ذلك بين تعالى آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت بقوله تعالى: {أو لم يروا} ، أي: كفار مكة {أنّا نأت الأرض} ، أي: نقصد أرض هؤلاء الكفرة {ننقصها من أطرافها} بما يفتح الله تعالى على المسلمين من ديار الشرك أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم، هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة. وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة قال: هو قبض الناس. وعن الشعبي مثله، وعطاء وجماعة نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» . وقال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله. وقال عليّ: إنما مثل الفقهاء كمثل الأنف إذا قطعت لم تعد. وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأوّل حتى يتعلم الآخر، وإذا هلك الأوّل قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم، ثم أثبت تعالى لنفسه أمراً كلياً فقال: {والله} ، أي: الملك الأعلى. {يحكم} في خلقه بما يريد؛ لأنه {لا معقب} ، أي: راد؛ لأنّ التعقيب ردّ الشيء بعد فصله {لحكمه} وقد حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره. تنبيه: محل جملة لا معقب لحكمه النصب على الحال كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه كما تقول: جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة تريد حاسراً {وهو} عز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وجل مع تمام القدرة {سريع الحساب} فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا. وقال ابن عباس: يريد سريع الانتقام يعني: حسابه للمجازاة بالخير والشرّ، فمجازاة الكفار بالإنتقام منهم، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم، وقد تقدّم الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا. وقوله تعالى: {وقد مكر الذين من قبلهم} ، أي: من كفار الأمم الماضية قيل: مكروا بأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى فيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {فلله المكر جميعاً} ، أي: أن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته؛ لأنه تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد، فالمكر لا يضرّ إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره، فيه أمان له صلى الله عليه وسلم من مكرهم، فكأنه قيل: إذا كان حدوث المكر من الله تعالى وتأثيره في الممكور به من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى لا من أحد من المخلوقين، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ المعنى: فلله جزاء المكر، وذلك أنهم لما مكروا بالمؤمنين بيّن الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي: والأوّل أظهر القولين بدليل قوله تعالى: {يعلم ما تكسب كل نفس} ، أي: أنّ أكساب العباد معلومة لله تعالى، وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك، فلا قدرة لعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله فيجازيهم على أعمالهم، وفي ذلك وعيد وتهديد للكفار الماكرين، ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد بقوله تعالى: {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} ، أي: العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ألهم أم للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف بعد الكاف على الإفراد والكاف مفتوحة والفاء مكسورة مخففة، والباقون بالألف بعد الفاء على الجمع، فالكاف مضمومة والفاء مفتوحة مشدّدة، فمن قرأ بالإفراد أراد الجنس كقوله تعالى: {إنّ الإنسان لفي خسر} (العصر، 2) ليوافق قراءة الجمع. وقال عطاء: المستهزؤون وهم خمسة والمقتسمون وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. قال الرازي: والأوّل هو الصواب، أي: ليوافق قراءة الجمع كما مرّ. ولما تقدّم قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه} (الرعد، 7) عطف عليه بعد شرح ما استتبعه قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} ، أي: لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل يوماً: إنه قادر عليها، فكأنه قيل: فما أقول لهم؟ فقال تعالى: {قل} لهم {كفى بالله} الذي له الإحاطة الكاملة {شهيداً} ، أي: بليغ العلم في شهادته بالإطلاع على ما ظهر وما بطن {بيني وبينكم} يشهد بتأييد رسالتي، وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية، وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب ويشهد بتكذيبهم بادعائكم القدرة على المعارضة، وترككم لها عجزاً، وهذا أعلى مراتب الشهادة؛ لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظنّ بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، واختلف في قوله تعالى: {ومن عنده علم الكتاب} فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى، أي: أنّ كل من كان عالماً من اليهود بالتوراة، ومن النصارى بالإنجيل علم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من عند الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوّته فيها شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم.n والثاني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 أنّ المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا، وهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال الحسن ومجاهد والزجاج وسعيد بن جبير: {ومن عنده علم الكتاب} هو الله تعالى. قال الحسن: لا والله لا يعني إلا الله، والمعنى كفى بالله الذي يستحق العبادة، وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم، وهذا أظهر كما استظهره البقاعي، وإن كان عطف الصفة على الموصوف خلاف الأصل إذ يقال: شهد بهذا زيد الفقيه، لا زيد والفقيه؛ لأنه جائز في الجملة، وقيل: معناه: أن علم أنّ القرآن الذي جئتكم به معجز ظاهر وبرهان باهر لما فيه من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن الغيوب وعن الأمم الماضية فمن علمه بهذه الصفة كان شهيداً بيني وبينكم والله أعلم بمراده. وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وتبعهما ابن عادل من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله» حديث موضوع. سورة إبراهيم عليه السلام مكية إلا قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله} (إبراهيم، 28) الآيتين، وهي اثنتان وخمسون آية وعدد كلماتها وإحدى وثلاثون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعة وثلاثون حرفاً {بسم الله الرحمن الرحيم} قوله تعالى: {الر} تقدّم الكلام عليها أول يونس وهود. وقوله تعالى: {كتاب} خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذا القرآن كتاب، أو الر، إن قلنا: إنها مبتدأ والجملة بعده صفة، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأنها موصوفة تقديراً، تقديره كتاب، أي: كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية {أنزلناه إليك} يا أشرف الخلق عند الله تعالى {لتخرج الناس} ، أي: عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم {من الظلمات} ، أي: الكفر وأنواع الضلالة {إلى النور} ، أي: الإيمان والهدى. قال الرازي: والآية دالة على أنّ طرق الكفر والبدع كثيرة وأنّ طريق الحق ليس إلا واحداً؛ لأنه تعالى قال: {لتخرج الناس من الظلمات} وهي صيغة جمع، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور، وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أنّ طرق الجهل والكفر كثيرة وأنّ طريق العلم والإيمان ليس إلا واحداً. تنبيه: القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول، احتجوا بهذه الآية، وذلك يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم. وأجيب: بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كالمنبه وأمّا المعرفة فهي إنما تحصل من الدليل وقوله تعالى: {بإذن ربهم} متعلق بالإخراج، أي: بتوفيقه وتسهيله، ويبدل من إلى النور {إلى صراط} ، أي: طريق {العزيز} ، أي: الغالب {الحميد} ، أي: المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد، وفي قوله: {الله} قراءتان، فقرأ نافع وابن عامر برفع الهاء وصلاً وابتداء على أنه مبتدأ خبره {الذي له ما في السموات وما في الأرض} ، أي: ملكااً وخلقاً، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه بدل أو عطف بيان وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 بعده صفة. تنبيه: ذهب جماعة من المحققين إلى أنّ قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله سبحانه وتعالى، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق. قال الرازي: والحق عندنا هو الأوّل؛ لأنّ الأمّة لما اجتمعت على أنّ قولنا: لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم. وقد قال تعالى: {هل تعلم له سمياً} (مريم، 65) ، أي: هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على قولنا: الله اسم لذاته المخصوصة، ولذا استشكل قراءة الجرّ إذ الترتيب الحسن أن يذكر الاسم، ثم يذكر عقبه الصفات كقوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ المصور} (الحشر، 24) وأمّا الخالق الله فلا يحسن. وأجيب عن ذلك بأنه لا يبعد أن تذكر الصفة أوّلاً، ثم يذكر الاسم ثم تذكر الصفة مرّة أخرى كما يقال: مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه، وهو بعينه نظير قوله تعالى: {صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} والآية تفيد حصر ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره، وذلك ليدلّ على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله، وأنه تعالى خالق لأعمال العباد؛ لأنها حاصلة في السموات والأرض، فوجب القول بأنّ أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله، وإذا ثبت أنها مقدورة لله وجب وقوعها بقدرة الله، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره، وذلك محال، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال تعالى: {وويل للكافرين} ، أي: الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعبدوا من لا يملك شيئاً البتة، بل هو مملوك لله تعالى؛ لأنه من جملة ما في السموات وما في الأرض، وويل مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء كسلام عليكم وللكافرين خبره، وقوله تعالى: {من عذاب شديد} ، أي: يعذبهم في الآخرة متعلق بويل ولا يضر الفصل بالخبر، ثم وصفهم بقوله تعالى: {الذين يستحبون} ، أي: يختارون {الحياة الدنيا على الآخرة} ، أي: يؤثرونها عليها {ويصدّون عن سبيل الله} ، أي: يمنعون الناس عن قبول دين الله {ويبغونها} ، أي: السبيل {عوجاً} ، أي: معوجة والأصل ويبغون لها زيغاً وميلاً، فحذف الجار، وأوصل الفعل إلى الضمير {أولئك} ، أي: الموصوفون بهذه الصفات {في ضلال بعيد} ، أي: عن الحق وإسناد البعد إلى الضلال إسناد مجازي؛ لأنّ البعيد هم الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني. ثم ذكر ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين بقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول} ، أي: في زمن من الأزمان {إلا بلسان} ، أي: لغة {قومه} أمّا بالنسبة إلى الرسول؛ فلأنه تعالى بين أنّ سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة البشر، وكان هذا الإنعام في حقك أكمل وأفضل، وأمّا بالنسبة إلى عامّة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلا بلسان أولئك القوم {ليبين لهم} ما أمروا به فيفهموه عنه بيسر وسرعة؛ لأنّ ذلك أسهل لفهم أسرار تلك الشريعة، والوقوف على حقائقها وأبعد عن الغلط والخطأ. تنبيه: تمسك طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية بهذه الآية على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرسل لغير العرب من وجهين: الأوّل: أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا عليهم. الثاني: أنّ قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} (إبراهيم، 4) المراد بذلك اللسان لسان العرب، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط. وردّ عليهم بأنّ المراد بالقوم أهل دعوته والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف، 158) بل إلى الثقلين؛ لأنّ التحدي كما وقع مع الإنس وقع مع الجنّ بدليل قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} (الإسراء، 88) . ثم بيّن سبحانه وتعالى أنّ الإضلال والهداية بمشيئته بقوله تعالى: {فيضل الله من يشاء} إضلاله {ويهدي من يشاء} هدايته، فإنه تعالى هو المضل الهادي، وليس على الرسل إلا التبليغ والبيان والله تعالى هو الهادي المضل يفعل ما يشاء {وهو العزيز} في ملكه، فلا رادّ له عن مشيئته {الحكيم} في صنعه فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة. ولما بين تعالى أنه إنما أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم، وكيفية معاملة أقوامهم لهم ليكون ذلك تصبيراً له صلى الله عليه وسلم على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم، فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام فقال: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} ، أي: العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل والمنّ والسلوى وسائر معجزاته {أن أخرج قومك} ، أي: بني إسرائيل {من الظلمات} ، أي: الكفر والضلال {إلى النور} ، أي: الإيمان والهدى. تنبيه: يجوز أن تكون أن مصدرية، أي: بأن أخرج، والباء في بآياتنا للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى، أي: ويكون المعنى، أي: أخرج قومك من الظلمات، أي: قلنا له أخرج قومك كقوله تعالى: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} (ص، 6) . {وذكرهم بأيام الله} قال ابن عباس: بنعم الله. وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي: بوقائعهم، وفي المثل من سرّ يوماً يره. قال الرازي: معناه من رأى في يوم سروره بمصرع غيره رآه غيره في يوم آخر بمصرع نفسه، وقال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران، 140) والمعنى: عظهم بالترغيب، والترهيب، والوعد والوعيد، والترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمنوا بالرسل فيما سلف من الأيام، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأمر الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل فيما سلف من الأيام مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ليرغبوا في الوعد، فيصدّقوا ويحذروا من الوعيد، فيتركوا التكذيب، وقيل: بأيام الله في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب، فخلصهم الله من ذلك وجعلهم ملوكاً بعد أن كانوا مملوكين {إنّ في ذلك} ، أي: التذكير العظيم {لآيات} على وحدانية الله تعالى وعظمته {لكل صبار} ، أي: كثير الصبر على الطاعة وعن المعصية {شكور} ، أي: كثير الشكر للنعم، وإنما خص الصبور والشكور بالاعتبار بالآيات، وإن كان فيها عبرة للكل؛ لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة، 3) فإنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 الانتفاع لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابراً شاكراً أما من لا يكون كذلك فلا ينتفع بها البتة. ولما أمر الله تعالى موسى أن يذكرهم بأيام الله حكى عنه أنه ذكرهم بها بقوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم} وقوله: {إذ أنجاكم من آل فرعون} ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت {يسومونكم سوء العذاب} بالاستعباد {ويذبحون} ، أي: تذبيحاً كثيراً {أبناءكم} ، أي: المولودين {ويستحيون} ، أي: يستبقون {نساءكم} أحياء وذلك كقول بعض الكهنة إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملك فرعون. فإن قيل: لم ذكر تعالى في سورة البقرة {يذبحون} بغير واو وذكره هنا مع الواو؟ أجيب: بأنها إنما حذفت في سورة البقرة؛ لأنها تفسير لقوله تعالى: {يسومونكم سوء العذاب} وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وهنا أدخل الواو فيه؛ لأنه نوع آخر لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح فليس تفسيراً للعذاب {وفي ذلكم بلاء} ، أي: إنعام وابتلاء {من ربكم عظيم} لأنّ الابتلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً، ومنه قوله تعالى: {ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة} (الأنبياء، 35) . فإن قيل: تذبيح الأبناء فيه بلاء، وأمّا استحياء النساء فكيف فيه ابتلاء؟ أجيب: بأنهم كانوا يستحيونهن ويتركونهنّ تحت أيديهم كالإماء، فكان ذلك ابتلاء وقوله تعالى: {وإذ} ، أي: واذكروا إذ {تأذن ربكم} فهو أيضاً من كلام موسى عليه السلام، وتأذن بمعنى أذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة {لئن شكرتم} . يا بني اسرائيل نعمتي بالتوحيد والطاعة {لأزيدنكم} نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود، والشكر عبارة عن الإعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة، ثم قد يرتقي العبد عن تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة، ولاشك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته، وأما الزيادة في النعمة فهي على قسمين: روحانية وجسمانية، فالأولى هي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعمة الله تعالى، وأنواع فضله وكرمه، وأما الثانية: فلأن الاستقراء دل على أنّ كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر نسأل الله تعالى القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه، ويفعل ذلك بأهلينا وأحبابنا. ثم إنه تعالى لما ذكر ما يستحقه الشاكر ذكر ما يستحقه مقابله بقوله تعالى: {ولئن كفرتم} ، أي: جحدتم النعمة بالكفر والمعصية لأعذبنكم دل عليه {إن عذابي لشديد} ، أي: لمن كفر نعمتي ولا يشكرها، ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد، ولما بيّن موسى أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا والآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر، وصاحب الكفران، وأما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى: {وقال موسى إن تكفروا أنتم} يا بني اسرائيل {ومن في الأرض} وأكده بقوله تعالى: {جميعاً} ، أي: من الثقلين فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وحرمتموها الخير كله {فإن الله لغني} عن جميع خلقه فلا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينقص بكفر الكافرين {حميد} ، أي: محمود في جميع أفعاله؛ لأنه فيها متفضل عادل وقوله تعالى: {ألم يأتكم} يا بني اسرائيل {نبأ} ، أي: خبر {الذين من قبلكم قوم نوح} وكانوا ملء الأرض {و} نبأ {عاد} قوم هود وكانوا أشد الناس أبداناً {و} نبأ {ثمود} قوم صالح وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور يحتمل أن يكون من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من الله تعالى لقوم محمد صلى الله عليه وسلم وهو استفهام تقرير وقوله تعالى: {والذين من بعدهم} ، أي: بعد هؤلاء الأمم الثلاثة {لايعلمهم إلا الله} فيه قولان؛ الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله تعالى؛ لأن المذكور في القرآن جملة، فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل، والقول الثاني: إنّ المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله، ولذلك كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب إلى آدم عليه السلام، وقد نفى الله علمها عن العباد. وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً وكلاً ضربنا له الأمثال وكلاً تبرنا تتبيراً} (الفرقان: 38، 39) وقوله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} (غافر، 78) . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في انتسابه لا يجاوز معدّ بن عدنان بن أدر وقال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق» . قال الرازي: والقول الثاني أقرب. ولما {جاءتهم} ، أي: هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم {رسلهم بالبينات} ، أي: الدلائل الواضحات والمعجزات الباهرات أتوا بأمور أوّلها ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {فردّوا} ، أي: الأمم {أيديهم في أفواههم} وفي ذلك احتمالات: الأول: أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} (آل عمران، 119) . والثاني: أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية، فعند ذلك ردّوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك، فيضع يده على فيه. والثالث: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام، واسكتوا عن ذكر هذا الحديث. والرابع: أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم الكفر كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى: {وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به} أي: على زعمكم أي: أن هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق هذا هو الأمر الثاني الذي أتوا به، وقيل: الضمير في ردوا راجع للرسل عليهم السلام، وفيه وجهان: أحدهما أنّ الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوا وليقطعوا الكلام. والثاني: أنّ الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم، على أفواه أنفسهم فإنّ من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه، وغرضه أن يعرّفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكلام البتة، والأمر الثالث: قولهم: {وإنا لفي شك مما} ، أي: شيء {تدعوننا} أيها الرسل {إليه} ، أي: من الدين {مريب} ، أي: موجب الريبة، أي: موقع في الريبة والشبهة والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 يشك فيه. فإن قيل: إنهم قالوا أولاً: إنّا كفرنا بما أرسلتم به، فكيف يقولون ثانياً (وإنا لفي شك) والشك دون الكفر؟ أجيب: بأنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل كلهم حصل لهم شبه توجب الشك لهم فقالوا: إن لم ندع الجزم واليقين في كفرنا فلا أقلّ من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم. ولما قال هؤلاء الكفار للرسل ذلك. {قالت} لهم {رسلهم} مجيبين {أفي الله شك} ، أي: هل تشكون في الله؟ وهو استفهام انكار، أي: لا شك في توحيده للدلائل الظاهرة عليه منها قوله تعالى: {فاطر} ، أي: خالق {السموات والأرض} ، أي: وما فيهما من الأنفس والأرواح والأرزاق، وقرأ أبو عمرو رسلهم هنا وفيما مر في {جاءتهم رسلهم} بإسكان السين، والباقون بالرفع. ولما أقاموا الدليل على وجود الله تعالى وصفوه بكمال الرحمة بقولهم: {يدعوكم} ، أي: إلى الإيمان ببعثنا وقولهم: {ليغفر لكم} اللام متعلقة بيدعو، أي: لأجل غفران ذنوبكم كقوله: *دعوت لما نالني مسورا ... فلبى فلبى يدي مسور ويجوز أن تكون معدية كقوله: دعوتك لزيد، والتقدير: يدعوكم إلى غفران ذنوبكم وقوله: {من ذنوبكم} قال السيوطي: من زائدة فإنّ الإسلام يغفر به ما قبله، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد اه. أي: والمغفور لهم ما بينهم وبين الله تعالى. قال الرازي: والعاقل لا يجوز له المصير إلى كلمة من كلام الله تعالى بأنها زائدة من غير ضرورة اه. وقال في «الكشاف» : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله: {واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم} (نوح: 3، 4) {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم} (الأحقاف، 32) . وقال في خطاب المؤمنين: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم} (الصف: 11، 12) وغيرذلك مما يوقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، وأن لا يسوّى بين الفريقين في المعاد اه. قال الرازي: وأما قول «الكشاف» فهو من باب الظلمات؛ لأنّ هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً. {ويؤخركم} ، أي: ولا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة في الإهلاك لمن خالفهم بل يؤخركم. {إلى أجل مسمى} ، أي: إلى وقت قد سماه وبين مقداره يبلغكموه إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إن أنتم ما آمنتم. فإن قيل: أليس قال تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف، 34) فكيف قال هنا: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} (إبراهيم، 10) أجيب: بأنّ الأجل على قسمين: معلق ومبرم.Y {قالوا} ، أي: الأمم مجيبين للرسل. {إن} ، أي: ما {أنتم} أيها الرسل {إلا بشر مثلنا} ، أي: لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوّة دوننا ولو أرسل الله تعالى إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس، أي: من البشر في زعم القائلين أفضل، وقول «الكشاف» : وهم الملائكة جار على مذهبه. {تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا} ، أي: ما تريدون بقولكم هذا إلا صدّنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها {فأتونا بسلطان مبين} ، أي: بحجة ظاهرة على صدقكم. ولما حكى الله تعالى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوّة حكى عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جوابهم عنها بقوله تعالى: {قالت لهم رسلهم} مجيبين لهم {إن} ، أي: ما {نحن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 إلا بشر مثلكم} كما قلتم، فسلموا أنّ الأمر كذلك لكنهم بينوا أنّ التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض بمنصب النبوّة بقولهم {ولكنّ الله يمنّ} أي: يتفضل {على من يشاء من عباده} بالنبوّة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام، 124) . {وما كان} ، أي: ما صح واستقام {لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} ، أي: إلا بأمره؛ لأنا عبيد مربوبون فليس إلينا الاتيان بالآيات، ولا تستبد به استطاعتنا حتى نأتيكم بما اقترحتموه، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله تعالى فله أن يخص كل نبيّ بنوع من الآيات. {وعلى الله فليتوكل} بأمر حتم {المؤمنون} ، أي: يثقوا به فلا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله، واعتمادنا على فضل الله، فإن الروح متى كانت مشرفة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء علم الغيب قلما تبالي بالأحوال الجسمانية، وقلما تقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء فلهذا توكلوا على الله، وعوّلوا على فضله، وقطعوا أطماعهم عمن سواه، وعمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أوّلياً ألا ترى إلى قولهم: {وما لنا أن لا نتوكل على الله} ، أي: أيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه {وقد هدانا سبلنا} ، أي: وقد عرّفنا طريق النجاة وبيّن لنا الرشد، فإنّ من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مقام الإخلاص والمكاشفة يقبح عليه أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى يعصم أولياءه، والمخلصين في عبوديته عن كيد أعدائهم ومكرهم. وقرأ أبو عمرو بسكون الباء والباقون بالرفع، وكذلك لرسلهم سكن أبو عمرو السين ورفعها الباقون، ثم قالوا: {ولنصبرنّ على ما آذيتمونا} فإنّ الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لا بدّ وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بدّ وأن يصير مغلوباً مقهوراً ثم قالوا: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} . فإن قيل:، أي: فرق بين التوكلين؟ أجيب: بأنّ الأوّل لاستحداث التوكل والثاني طلب دوامه،، أي: فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم. ولما حكى الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم} مستهينين لمن قصروا التجاءهم عليه. {لنخرجنكم من أرضنا} ، أي: التي لنا الآن الغلبة عليها. {أو لتعودنّ في ملتنا} ، أي: حلفوا ليكونن أحد الأمرين إمّا إخراجكم أيها الرسل، وإمّا عودكم إلى ملتنا، أي: ديننا. فإن قيل: قد يفهم هذا بظاهره أنهم كانوا على ملتهم قبل ذلك؟ أجيب: بأنّ العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية، لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ولكن عاد يقولون ما عدت أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. وقد أجمعت الأمّة على أنّ الرسل من أوّل الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه فغلبوا الجماعات على الواحد، وقيل: {أو لتعودنّ في ملتنا} (الأعراف، 88) إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عند ذكر معايبه وعدم التعرّض له بالطعن والقدح. ولما ذكر الكفار هذا الكلام قال تعالى: {فأوحى إليهم} ، أي: الرسل {ربهم} وقوله تعالى: {لنهلكنّ الظالمين} ، أي: الكافرين حكاية تقتضي إضمار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 القول أو أجرى الايحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه. {ولنسكننكم الأرض} ، أي: أرضهم {من بعدهم} ، أي: بعد هلاكهم ونظيره قوله تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها} (الأعراف، 137) وقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم} (الأحزاب، 27) . قال الزمخشري: وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من آذى جاره ورثه الله داره» . قال: ولقد عاينت هذا في مدّة قريبة كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم، وملكني الله ضيعته، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون، منها ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثتهم به وسجدنا شكراً لله تعالى. {ذلك} ، أي: النصر وإيراث الأرض {لمن خاف مقامي} ، أي: موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنّ ذلك الموقف موقف الله الذي يوقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره {وأمّا من خاف مقام ربه} (النازعات، 40) وقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرخمن، 46) وقيل: {ذلك لمن خاف مقامي} (إبراهيم، 14) ، أي: خافني، فالمقام مقحم مثل ما يقال: سلام على المجلس العالي والمراد السلام على فلان {وخاف وعيد} قال ابن عباس: ما أوعدت من العذاب، وهذا يدل على أنّ الخوف من الله غير الخوف من وعيده؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة، وفي تفسير قوله تعالى: {واستفتحوا} قولان: أحدهما: طلب الفتح، أي: واستنصروا الله تعالى على أعدائهم وهو كقوله تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} (الأنفال، 19) والثاني: الفتح الحكم والقضاء، أي: واستحكموا الله وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة، وهي الحكومة كقوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} (الأعراف، 89) . فعلى القول الأول المستفتح هم الرسل؛ لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم. قال نوح: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح، 26) وقال موسى: {ربنا اطمس على أموالهم} (يونس، 88) وقال لوط: {انصرني على القوم المفسدين} (العنكبوت، 30) . وعلى القول الثاني: قال الرازي: فالأولى أن يكون المستفتح هم الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين، فعذبنا، ومنه قول كفار {قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال، 32) . وكقول آخرين: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} (العنكبوت، 29) . {وخاب} ، أي: خسر وهلك {كل جبار} ، أي: متكبر عن طاعة الله، وقيل: هو الذي لا يرى فوقه أحداً، وقيل: هو المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه، واختلفوا في قوله تعالى: {عنيد} فقال مجاهد: معاند للحق ومجانبه. وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل: هو المتكبر. وقال قتادة: هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله، وقيل: هو المعجب بما عنده. ولما حكم تعالى على الكافر بالخيبة، ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور: الأوّل: قوله تعالى: {من ورائه} ، أي: أمامه {جهنم} ، أي: هو صائر إليها. قال أبو عبيدة: هو من الأضداد وقال الشاعر: *عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب ويقال أيضاً: الموت وراء كل أحد. وقال تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} (الكهف، 79) ، أي: أمامهم. وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أم قدامك، فيصح إطلاق لفظ الوراء على خلف وقدّام. وقال ابن الأنباري: وراء بمعنى بعد. قال الشاعر: وليس وراء الله للخلق مهرب. ومعنى الآية على هذا: أن الكافر بعد الخيبة يدخل جهنم. الأمر الثاني: ما ذكره تعالى بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 {ويسقى} ، أي: في جهنم {من ماء صديد} وهو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطاً بالقيح والدم جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر. فإن قيل: علام عطف {ويسقى} ؟ أجيب: بأنه عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد. {يتجرّعه} ، أي: يتكلف أن يبتلعه مرّة بعد مرّة لمرارته وحرارته ونتنه {ولا يكاد يسيغه} ، أي: ولا يقدر على ابتلاعه. قال الزمخشري: دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة؟ كقوله تعالى: {لم يكد يراها} (النو، 40) ، أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ فإن قيل: كيف الجمع على هذا الوجه بين {يتجرّعه} و {لا يكاد يسيغه} ؟ أجيب بجوابين: أحدهما: أنّ المعنى ولا يسيغ جميعه كأنه يتجرّع البعض وما أساغ الجميع. والثاني: إنّ الدليل الذي ذكر إنما دل على وصول ذلك الشراب إلى جوف ذلك الكافر؛ لأنّ ذلك ليس بإساغة؛ لأنّ الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه، أي: لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة، وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة. الأمر الثالث: ما ذكره تعالى بقوله تعالى: {ويأتيه الموت} ، أي: أسبابه المقتضية له من أنواع العذاب {من كل مكان} ، أي: من سائر الجهات، وقيل: من كل مكان من جسده حتى أصول شعره وإبهام رجله. {وما هو بميت} فيستريح. وقال ابن جريج: تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكان من جوفه فتنفعه الحياة. الأمر الرابع: ما ذكره تعالى بقوله تعالى: {ومن ورائه} ، أي: ومن بين يديه بعد ذلك العذاب {عذاب غليظ} ، أي: شديد كل وقت يستقبله أشدّ مما قبله، وقيل: هو الخلود في النار، وقيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ولما ذكر تعالى أنواع عذابهم بين بعده أنّ سائر أعمالهم تصير باطلة ضائعة، وذلك هو الخسران الشديد بقوله تعالى: {س14ش18/ش23 مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا? بِرَبِّهِمْ? أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ? s يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا? عَلَى شَىْءٍ? ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَا?رْضَ بِالْحَقِّ? إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا? لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَا?ؤُا? لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُو?ا? إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ? قَالُوا? لَوْ هَدَ?ـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ? سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ ا?مْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ? وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِ? أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى? فَ تَلُومُونِى وَلُومُو?ا? أَنفُسَكُمْ? مَّآ أَنَا? بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ? إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ? إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَءَامَنُوا? وَعَمِلُوا? الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ا?نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ? تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} {مثل} ، أي: صفة {الذين كفروا بربهم أعمالهم} ، أي: الصالحة كصدقة وصلة رحم وفك أسير، وإقراء ضيف، وبر والد في عدم الانتفاع بها {كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف} ، أي: شديد هبوب الريح، فجعلته هباء منثوراً لا يقدر عليه كما قال تعالى: {لا يقدرون} ، أي: الكفار يوم الجزاء {مما كسبوا} ، أي: عملوا في الدنيا {على شيء} ، أي: لا يجدون لهم ثواباً لفقد شرطه وهو الإيمان. وقرأ نافع (الرياح) بالجمع، والباقون بالإفراد. {ذلك} إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون {هو الضلال البعيد} ، أي: الخسران الكبير لأنّ أعمالهم ضلت وهلكت فلا يرجى عودها. تنبيه: في ارتفاع قوله تعالى: {مثل} أوجه: أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله تعالى: {أعمالهم كرماد} مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل أعمالهم كرماد. والثاني: وهو مذهب الفراء التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه، وهو قوله تعالى: {أعمالهم} ومثله قوله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة} (الزمر، 60) المعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة. الثالث: أن يكون التقدير: صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقوله: صفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 زيد عرضه مصون وماله مبذول. الرابع: أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله: {مثل الذين كفروا} ، والتقدير مثل أعمالهم وقوله تعالى: {كرماد} هو الخبر. وقيل: غير ذلك. وقوله تعالى: {ألم تر} ، أي: تنظر خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به أمّته، وقيل: لكل واحد من الكفرة على الالتفات. {أنّ الله خلق السموات} على عظمها وارتفاعها {والأرض} على تباعد أقطارها واتساعها، وقوله تعالى: {بالحق} ، أي: بالحكمة، والوجه الذي يحق أن تخلق عليه متعلق بخلق. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام، ورفع القاف، وخفض الأرض. والباقون بغير ألف بعد الخاء، وفتح اللام والقاف، ونصب الأرض. {إن يشأ يذهبكم} أيها الناس {ويأت} بدلكم {بخلق جديد} أطوع منكم، رتب ذلك على كونه خالق السموات والأرض استدلالاً به عليه، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم قدر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع عليه كما قال تعالى: {وما ذلك على الله بعزيز} ، أي: بممتنع، فإنه تعالى قادر بذاته، ولا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومن هذا شأنه كان حقيقاً أن يؤمن به، ويعبد رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه يوم الجزاء. ولما ذكر تعالى أصناف عذاب هؤلاء الكفار، وذكر عقبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر كيفية مجادلتهم عند تمسك أتباعهم بهم وكيفية افتضاحهم عندهم بقوله تعالى: {وبرزوا} ، أي: الخلائق من قبورهم {لله جميعاً} والتعبير فيه وفيما يأتي بالماضي، وإن كان معناه الاستقبال لتحقق وقوعه؛ لأنّ كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو حق وصدق وكائن لا محالة، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، ونظيره: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} (الأعراف، 44) تنبيه: البروز في اللغة الظهور بعد الاستتار، وهو في حق الله تعالى محال، فلا بدّ من تأويله وهو من وجهين: الأوّل: أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عن أنفسهم، وعلموا أنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية. الثاني: أنهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله تعالى وحكمه. ثم حكى الله تعالى؟ عنهم أنّ الضعفاء يقولون للرؤوساء هل تقدرون على دفع عذاب الله تعالى عنا بقوله تعالى: {فقال الضعفاء} ، أي: الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعفاء الرأي {للذين استكبروا} ، أي: المتبوعين الذين طلبوا الكبر، وادّعوه فاستغووهم به حتى تكبروا على الرسل، وقوله تعالى: {إنا كنا لكم تبعاً} يصح أن يكون مصدراً نعت به للمبالغة، أو على إضمار مضاف وأن يكون جمع تابع، أي: تابعين لكم في تكذيب الرسل، فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم {فهل أنتم} ، أي: في هذا اليوم {مغنون} ، أي: دافعون {عنا من عذاب الله} ، أي: من انتقامه {من شيء} فإن قيل: فما الفرق بين من في عذاب الله وبين من في شيء؟ أجيب: بأنّ الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو من بعض عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا: {لو هدانا الله} ، أي: الذي له صفات الكمال {لهديناكم} ، أي: لو أرشدنا الله تعالى لارشدناكم، ودعوناكم إلى الهدى، ولكنه لم يهدنا، فضللنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم، ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع قالوا: {سواء علينا} ، أي: نحن وأنتم {أجزعنا أم صبرنا} ، أي: مستو علينا الجزع والصبر، والجزع أبلغ من الحزن؛ لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه {ما لنا من محيص} ، أي: منجى ومهرب مما نحن فيه من العقاب. تنبيه: يحتمل أن يكون هذا من كلام المتبوعين، وأن يكون كلام الفريقين، ويؤيد الثاني ما روي أنهم يقولون في النار: تعالوا نجزع فيجزعون خمسمئة عام فلا ينفعهم الجزع، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمئة عام فلا ينفعهم الصبر، فعند ذلك يقولون ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أنّ أهل النار استغاثوا بالخزنة كما قال الله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} (غافر، 49) فردّت الخزنة عليهم: {أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} (غافر، 50) فردّت الخزنة عليهم: {ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (غافر، 50) فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا: {يا مالك ليقض علينا ربك} (الزخرف، 77) سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم {كألف سنة مما تعدون} (الحج، 47) ثم يجيبهم بقوله: {إنكم ما كثون} . فلما أيسوا مما عنده، قال بعضهم لبعض ذلك. ولما ذكر تعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤوساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه بقوله تعالى: {وقال الشيطان} الذي هو أوّل المتبوعين في الضلال ورأس المضلين والمستكبرين {لما قضي الأمر} ، أي: أحكم وفرغ منه، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه وتوبيخه، فيقوم فيهم خطيباً. قال مقاتل: يوضع له منبر من نار، فيجتمع أهل النار إليه يلومونه، فيقول لهم ما أخبر الله تعالى بقوله: {إنّ الله وعدكم وعد الحق} ، أي: بالبعث والجزاء على الأعمال فصدقكم {ووعدتكم} أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب {فأخلفتكم} ، أي: الوعد، فلم أقل شيئاً إلا كان زيفاً، فاتبعتموني مع كوني عدوّكم، وتركتم ربكم وهو وليكم. تنبيه: في الآية إضمار من وجهين: الأوّل: أنّ التقدير: إنّ الله وعدكم الحق فصدقكم كما تقدّم تقريره، ووعدتكم فأخلفتكم، وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها، وليس وراء العيان بيان؛ ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف، فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى. الثاني: أنّ قوله: {ووعدتكم فأخلفتكم} الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف هذا للعلم به، والتقدير: ووعدتكم أن لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب كما تقرّر، ولما بين غروره بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال: {وما كان لي عليكم من سلطان} ، أي: سلطان، فمن مزيدة، أي: قوّة وقدرة أقهركم على الكفر والمعاصي، وألجئكم على متابعتي وقوله: {إلا أن دعوتكم} استثناء منقطع، قال النحويون: لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان، فمعناه: لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} محكمين الشهوات؛ لأنّ النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية، ولا يتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها يرغب فيها كما قال: {والآخرة خير وأبقى} . قال الرازي: وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة إلا ههنا استثناء حقيقي، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 على عمل من الأعمال تارة تكون بالقهر والقسر، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط اه. ثم قال لهم: {فلا تلوموني} ، أي: لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة {ولوموا أنفسكم} ؛ لأنكم سمعتم دلائل الله تعالى وجاءتكم الرسل، فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفتوا إليّ، ولا تسمعوا قولي، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا دليل. فإن قيل: لم قال الشيطان: {فلا تلوموني} وهو ملوم بسبب إقدامه على تلك الحالة والوسوسة الباطلة؟ أجيب: بأنه أراد لا تلوموني على فعلكم ولوموا أنفسكم عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. ثم قال تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: {ما أنا بمصرخكم} ، أي: بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فأزيل صراخكم منه. {وما أنتم بمصرخي} ، أي: بمغيثيّ فيما يخصني منه. وقرأ ما عدا حمزة بفتح الياء مع التشديد، وقرأ حمزة بكسر الياء مع التشديد على الأصل في إلتقاء الساكنين؛ لأنّ ياء الإعراب ساكنة، وياء المتكلم أصلها السكون، فلما التقيا كسرت لالتقاء الساكنين.I قال البيضاوي: وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع حركة ياء الإضافة اه. فقوله: أصل مرفوض، أي: متروك عند النحاة، وإلا فهو قراءة متواترة عند القراء، فيجب المصير إليها؛ لأنها وردت من رب العالمين على لسان سيد المرسلين. وقول الفراء: ولعلها من وهم القراء، فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ممنوع، فقد قال أبو حيان: هي قراءة متواترة نقلها السلف، واقتفى آثارهم فيها الخلف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة لكن قلّ استعمالها، ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع، ونص على أنها صواب أبو عمرو بن العلاء، لما سئل عنها، والقاسم بن معن من روؤساء الكوفيين. قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: {إني كفرت بما أشركتموني من قبل} ، أي: كفرت اليوم باشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا كقوله تعالى: {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} (فاطر، 14) ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى: {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم} (الممتحنة، 4) . وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة «يقول: عيسى ذلك النبيّ الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل فيّ نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون: ما هو غير الشيطان هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد، ثم يعظم لهبهم ويقول عند ذلك: {إن الله وعدكم وعد الحق} الآية» . قال في «الكشاف» : وقوله {إن الظالمين} ، أي: الكافرين {لهم عذاب أليم} ، أي: مؤلم من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله تعالى ما سيقوله في ذلك الوقت؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. ولما بالغ سبحانه وتعالى في شرح حال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء، وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل، وذلك أنّ الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} وكونها دائمة أشير إليها بقوله تعالى: {خالدين فيها} وهو حال مقدرة، والتعظيم حصل لهم من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {بإذن ربهم} ؛ لأنّ تلك المنافع إنما كانت تفضلاً من الله تعالى وإنعاماً. والثاني: قوله تعالى: {تحيتهم فيها سلام} ؛ لأنّ بعضهم يحيى بعضاً بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد: 23، 24) والرب يحييهم أيضاً بهذه التحية كما قال تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} (يس، 58) ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع آفات الدنيا وحسراتها وفنون آلامها وأسقامها وأنواع همومها وغمومها؛ لأنّ السلام مشتق من السلامة. ولما شرح سبحانه تعالى أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثلاً يبين الحال في حكم هذين القسمين بقوله تعالى: {ألم تر} ، أي: تنظر، والخطاب يحتمل أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره، وأن يكون لكل فرد من الناس، أي: ألم تر أيها الإنسان {كيف ضرب الله} ، أي: المحيط بكل شيء علماً وقدرة {مثلاً} سيره بحيث يعم نفعه، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل، ثم بينه بقوله تعالى: {كلمة طيبة} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هي لا إله إلا الله. {كشجرة طيبة} قال ابن مسعود وأنس: هي النخلة. وعن ابن عباس: هي شجرة في الجنة. وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا صغير القوم» . وروي: فمنعني مكان عمر فاستحييت فقال له عمر: يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إنها النخلة» . قيل: الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أنّ النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار يتشعب من جوانبها بعد قطع رأسها، وأنها تشبه الإنسان بحيث أنها لا تحمل إلا باللقاح؛ لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «أكرموا عمتكم قيل: ومن عمتنا؟ قال: النخلة» . {أصلها ثابت} ، أي: في الأرض {وفرعها} ، أي: غصنها {في السماء} ، أي: في جهة العلو والصعود ولم يرد المظلة كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه. {تؤتي} ، أي: تعطي. {أكلها} ، أي: ثمرها {كل حين بإذن ربها} ، أي: بإرادته، والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقدار هذا، فقال مجاهد: الحين هنا سنة كاملة؛ لأنّ النخلة تثمر في كل سنة مرّة. وقال قتادة: ستة أشهر يعني من حين طلعها إلى وقت صرامها. وقال الربيع: كل حين يعني كل غدوة وعشية؛ لأنّ ثمر النخل يؤكل ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 حين الطري الرطب، فأكلها دائم في كل وقت. قال العلماء: ووجه الحكمة في تمثيل كلمة الإخلاص بالشجرة؛ لأنّ الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت أصل هذه الشجرة في الأرض، وعمله يصعد إلى السماء كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر، 10) فكذلك فرع هذه عال في السماء، وتنال بركته وثوابه كل وقت، والمؤمن كلما قال: لا إله إلا الله، صعدت إلى السماء، وجاءه بركتها وخيرها وثوابها ومنفعتها؛ ولأنّ الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الأبدان، ثم نبه تعالى على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم فقال: {ويضرب الله} ، أي: الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} ، أي: يتعظون، فإنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني العقلية، فيحصل الفهم التامّ والوصول إلى المطلوب. ولما ذكر مثل حال السعداء أتبعه بمثل حال الأعداء فقال: {ومثل كلمة خبيثة} هي كلمة الكفر {كشجرة خبيثة} هي الحنظل وقيل: الثوم، وقيل: الكشوث بمثلثة في آخره. قال الجوهري: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر: *هي الكشوث لا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر وقيل شجرة الشوك {اجتثت} ، أي: استؤصلت {من فوق الأرض} ، أي: عروقها قريبة منه {ما لها من قرار} ، أي: أصل ولا عرق، فكذلك الكفر بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوّة. وعن عبادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في {كلمة خبيثة} ؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقراً ولا في السماء مصعداً إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة. ولما وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} أنه تعالى يثبتهم بها {في الحياة الدنيا} ، أي: في القبر، وقيل: قبل الموت {وفي الآخرة} ، أي: يوم القيامة عند البعث والحساب، وقيل: في القبر على القول الثاني. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى: {ويضلّ الله الظالمين} ، أي: الكفار أنه تعالى لا يهديهم للجواب الصواب {ويفعل الله ما يشاء} ، أي: إن شاء هدى، وإن شاء أضلّ لا اعتراض عليه. وروي عن البراء بن عازب انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} » . وروي عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبد إذا وضع في القبر وتولى عنه أصحابه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعاً» قال قتادة: ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس. قال: «وأمّا المنافق أو الكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال: ما دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الثقلين» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغنا من دفنها وانصرف الناس قال: «إنه الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد ومن نبيه؟ فإن كان ممن يعبد الله تعالى قال: كنت أعبد الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فيقال له: على اليقين حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويوسع له في حفرته، وإن كان من أهل الشك قال: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيقال له: على الشك حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى النار ويسلط عليه عقارب وتنانين لو نفخ أحدهم في الدنيا ما أنبتت شيئاً، فتنهشه وتؤمر الأرض فتنضم عليه حتى تختلف أضلاعه» . فنسأل الله الثبات لنا ولوالدينا ولأحبابنا في الدنيا والآخرة إنه كريم جواد. ثم إنه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال: {ألم تر} ، أي: تنظر، وفي المخاطب ما تقدّم {إلى الذين بدّلوا} والتبديل جعل الشيء مكان غيره {نعمة الله} ، أي: التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد ومن جميع النعم الدنيوية وتيسير الرزق وغير ذلك بأن جعلوا مكان شكرها {كفراً} وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم همماً في الوفاء وأبعدهم عن الجفاء {وأحلوا} ، أي: أنزلوا {قومهم} ، أي: الذين تابعوهم في الكفر بإضلالهم إياهم {دار البوار} ، أي: الهلاك مع إدعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلاً عن الأهل. روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة، وقوله تعالى: {جهنم} عطف بيان {يصلونها} ، أي: يدخلونها {وبئس القرار} ، أي: المقر هي. {وجعلوا لله} ، أي: الذين يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا رزقهم؛ لأنّ له الكمال كله {أنداداً} ، أي: شركاء، وقوله تعالى: {ليضلوا عن سبيله} ، أي: دين الإسلام، فيه قراءتان: قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من ضلّ، يضلّ والباقون بضم الياء من أضل يضل، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} ، أي: تهديداً لهم، فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا {تمتعوا} بدنياكم قليلاً {فإن مصيركم} ، أي: مرجعكم {إلى النار} في الآخرة، ولما أمر الله تعالى الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال بقوله تعالى: {قل لعبادي} فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم بقوله تعالى: {الذين آمنوا} ، أي: أوجدوا هذا الوصف {يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم} فيه وجهان: أحدهما: يصح أن يكون جواباً بالأمر محذوف تقديره قل لعبادي الذين آمنوا: أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. والثاني: يصح أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه اللام، أي: ليقيموا ليصح تعلق القول بهما، وإنما حسن ذلك هاهنا ولم يحسن في قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 *محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا أي تبالى به، أي: تكثرت به لدلالة قل عليه: {سراً وعلانية} ، أي: ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية، وقيل: المراد بالسر صدقة التطوع، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة. تنبيه: في انتصاب سرّاً وعلانية وجوه: أحدها: أن يكون على الحال، أي: ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين. والثاني: على الظرف، أي: وقت سر وعلانية. وثالثها: على المصدر، أي: إنفاق سر وإنفاق علانية. ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عز وجل: {من قبل أن يأتي يوم} ، أي: عظيم جدّاً ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها {لا بيع فيه} ، أي: فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه {ولا خلال} ، أي: مخالة، أي: صداقة تنفع في ذلك اليوم. قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول: أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} (البقرة، 254) . فإن قيل: كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين} (الزخرف، 67) أجيب: بأن الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى. ولما طال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان ذلك ختم تعالى أحوال الفريقين بقوله تعالى: {الله} ، أي: الملك الأعلى المحيط بكل شيء، ثم اتبعه بالدلائل الدالة على وجوده وكمال علمه وقدرته، وذكر هنا عشرة أنواع من الدلائل: أوّلها: قوله تعالى: {الذي خلق السموات} وثانيها: قوله تعالى: {والأرض} وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً. وثالثها قوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم} تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس. تنبيه: الله مبتدأ، وخبره الذي خلق، ورزقاً مفعول لأخرج، ومن الثمرات بيان له حال منه، ويصح أن يكون المراد بالسماء هنا السحاب اشتقاقاً من السمو والارتفاع، وأن يكون الجرم المعهود فينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وقد ذكرت ذلك في سورة البقرة، وفي غيرها، ورابعها قوله تعالى: {وسخر لكم الفلك} ، أي: السفن {لتجري في البحر} ، أي: بالركوب والحمل {بأمره} ، أي: بمشيئته وإرادته، وخامسها: قوله تعالى: {وسخر لكم الأنهار} ، أي: ذللها لكم تجرونها حيث شئتم؛ لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب فكان ذلك نعمة من الله تعالى، وسادسها وسابعها: قوله تعالى: {وسخر لكم الشمس والقمر} حال كونهما {دائبين} ، أي: جاريين في فلكهما لا يفتران في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إنارة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها، والشمس سلطانها النهار، وبها تعرف فصول السنة، وهي أفضل من القمر لكثرة نفعها، والقمر سلطانه الليل، وبه يعرف انقضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الشهور، وكل ذلك بتسخير الله تعالى وإنعامه، وثامنها وتاسعها: قوله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} يتعاقبان فيكم بالضياء والظلمة، والزيادة والنقصان، وذلك من نعم الله تعالى على عباده حيث جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليبتغوا فيه من فضله. وعاشرها: قوله تعالى: {وآتاكم من كل ما سألتموه} ، أي: مما أنتم محتاجون إليه على حسب مصالحكم، فأنتم سألتموه بالقوّة. ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما أنعم به على عباده بين أنّ العبد عاجز عن حصرها وعدّها بقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ، أي: لا تحيطوا بها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدّوها على الإجمال، وأمّا على التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله تعالى. {إنّ الإنسان} ، أي: الكافر، وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. {لظلوم} ، أي: كثير الظلم لنفسه {كفار} ، أي: كفور لنعم ربه، وقيل: ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع. فإن قيل: لم قال تعالى هنا {إنّ الإنسان لظلوم كفار} وفي النحل: {إنّ الله لغفور رحيم} (النحل، 18) أجيب: بأنه تعالى يقول للعبد: إذاحصلت لك النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان، وهما كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً، والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وتقصيرك فلا أقابل تقصيرك، إلا بالتوقير ولا أجازي جزاءك إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن والعاقبة والرحمة. ولما بين الله تعالى بالدلائل المتقدّمة لأن لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا تجوز عبادة غير الله البتة، حكي عن إبراهيم عليه السلام مبالغة في إنكاره عبادة الأوثان بقوله تعالى: {وإذ} ، أي: واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب} ، أي: المحسن إليّ بإجابة دعائي {اجعل هذا البلد} ، أي: مكة {آمناً} ، أي: ذا أمن، وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه. فإن قيل:، أي: فرق بين قوله: {اجعل هذا بلداً آمناً} (البقرة، 126) وبين قوله: {اجعل هذا البلد آمناً} (إبراهيم، 35) بأنّ المسؤول في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني: أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف ويجعل لها تلك الصفة، وهي الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمناً. فإن قيل: كيف أجاب الله تعالى دعاءه مع أنّ جماعة من الجبابرة قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها؟ أجيب: بجوابين: أحدهما: أنّ إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى فلم يقدر أحد على إخراب مكة. فإن قيل: يرد على هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» ؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: {اجعل هذا البلد} (إبراهيم، 35) يعني إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا فهو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين، والجواب الثاني: أنّ المراد جعل أهلها آمنين كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 82) ، أي: أهلها وهذا الجواب عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله تعالى بقوله: {ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت، 67) وأهل مكة آمنون من ذلك حتى أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها {واجنبني} ، أي: بعدني {وبنيّ أن} ، أي: عن أن {نعبد الأصنام} ، أي: اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها. فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما الفائدة في قوله: {واجنبني} عن عبادة الأصنام؟ أجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام إنما سأل ذلك هضماً لنفسه، وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل: كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه؟ أجيب: بأنّ المراد من كان موجوداً حال الدعاء، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال عليه السلام في آخر الآية: {فمن تبعني فإنه مني} (إبراهيم، 36) وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (هود، 46) ، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من بني إسماعيل صنماً، واحتج بقوله تعالى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} (إبراهيم، 35) وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا: البيت حجر فحينما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر، أي: يطوفون به أسابيع تشبيهاً بالكعبة، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة، وقد تفتح، قال الجوهري: دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت، ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي: وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصنم في ذلك. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {رب إنهن} ، أي: الأصنام {أضللن كثيراً من الناس} بعبادتهم لها. تنبيه: اتفق كل الفرق على أن قوله: أضللن مجاز؛ لأنها جمادات، والجماد لايفعل شيئاً البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي: افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال: {فمن تبعني} ، أي: على التوحيد {فإنه مني} ، أي: فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه وقربه مني {ومن عصاني} ، أي: في غير الدين {فإنك غفور رحيم} وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى: {واتبع ملة إبراهيم} (النساء، 125) وقيل: إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لايغفر الشرك، وقيل: إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل: المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب، فلا يمهلهم حتى يتوبوا، قال الرازي: واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة، وارتضى ما تقرّر أولاً. تنبيه: حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور: الأوّل: طلب من الله تعالى نعمة الأمان، وهو (رب اجعل هذا البلد آمناً) المطلوب الثاني: أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} المطلوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الثالث قوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي} (إبراهيم، 37) ، أي: بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي، فحذف المفعول على هذا القول، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم {بواد} هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول {غير ذي زرع} ، أي: لايكون فيه من الزرع قط، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى: {قرآناً عربياً غير ذي عوج} (الزمر، 28) بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج {عند بيتك المحرم} ، أي: الذي حرمت التعرض له، والتهاون به، وجعلت ما حوله حرماً لمكانه؛ أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه؛ أو لأنه حرّم على الطوفان، أي: منع منه كما سمي عتيقاً؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض، وحفه بسبعة أملاك، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل، فقالت سارة: كنت أريد أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وغارت عليهما، وقالت لإبراهيم: بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولاشيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذاً لايضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي} (إبراهيم، 37) حتى بلغ (يشكرون) وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى من أحد، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرّات قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، تريد نفسها ثم تسمعت، فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً» قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأنّ الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية يأتيه السيل فيأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة، فنظروا طائراً: فقالوا إننّهذا الطائر ليدور على الماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم قال ابن عباس: قالت ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم فشب الغلام وتعلم العربية منهم، وألفهم وأعجبهم حتى شب، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل وتقدّم تمام هذه القصة في سورة البقرة. ثم قال: {ربنا ليقيموا الصلاة} اللام لام كي متعلقة بأسكنت، أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي المقفر الذي لا شيء فيه إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبرّكين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستعبدين بجوارك الكريم متقرّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك، وتكرير النداء وتوسطه للإشعار بأنهما المقصود بالذات من إسكانهم هناك، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها {فاجعل أفئدة} ، أي: قلوباً محترقة بالأشواق {من الناس} ومن للتبعيض، والمعنى: واجعل أفئدة بعض الناس {تهوي} ، أي: تميل {إليهم} ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد لو قال: أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: {أفئدة من الناس} فهم المسلمون. وقال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم. ولما دعا لهم بالدين دعا لهم بالرزق فقال: {وارزقهم من الثمرات} ولم يقل: وارزقهم الثمرات، وذلك يدل على أنّ المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} (القصص، 57) حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجب، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم. {لعلهم يشكرون} يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإنّ إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات. ولما طلب عليه السلام من الله تعالى تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهاية الأمور في المستقبل، فإنه تعالى هو العالم بها والمحيط بأسرارها فقال: {ربنا إنك تعلم ما نخفي} ، أي: نسر {وما نعلن} وهذا هو المطلوب الرابع: والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قال، ت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. واختلف في قوله تعالى: {وما يخفى على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 الله من شيء في الأرض ولا في السماء} فقيل: من تتمة قول إبراهيم عليه السلام يعني: وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في، أي: مكان، والأكثرون على أنه قول الله تعالى تصديقاً لإبراهيم فيما قال، كقوله تعالى: {وكذلك يفعلون} (النمل، 34) ولفظة من تفيد الاستغراق، كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما. ولما تم إبراهيم عليه السلام ما دعا به أتبعه الحمد على ما رزقه من النعم بقوله تعالى: {الحمد لله} ، أي: المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب لي} ، أي: أعطاني {على الكبر} ، أي: وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظاماً للنعمة وإظهاراً لما فيه من المعجزة {إسماعيل وإسحاق} ومقدار ذلك السنّ غير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات، فقال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مئة واثنتي عشرة سنة. فإن قيل: إنّ إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسماعيل وأمّه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد إسحاق، فكيف يمكنه أن يقول ذلك؟ أجيب: بأن هذا يقتضي أنّ إبراهيم إنما ذكر هذا الكلام في زمن آخر لا عقب ما تقدّم من الدعاء. قال الرازي: ويمكن أيضاً أن يقال: إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه انتهى. تنبيه: قوله (على الكبر) بمعنى مع كقوله: *إني على ما ترين من كبري ... أعلم من حيث يؤكل الكتف وهو في موضع الحال. ولما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإفصاح والتصريح قال: {إنّ ربي} ، أي: المحسن إليّ {لسميع الدعاء} ، أي: لمجيبه. فإن قيل: الله تعالى يسمع كل دعاء أجابه أو لم يجبه؟ أجيب: بأن هذا من قولك: سمع الملك كلامي إذا اعتدّ به وقبله، ومنه سمع الله لمن حمده. المطلوب الخامس: قوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة} ، أي: معدّلاً لها مواظباً عليها. تنبيه: في الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنّ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} (إبراهيم، 35) يدل على أنّ ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى. وقوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة} يدل على أنّ فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى، وذلك تصريح بأنّ إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أنّ الكل من الله تعالى، وقوله تعالى: {ومن ذرّيتي} عطف على المنصوب في اجعلني، أي: واجعل بعض ذريتي كذلك؛ لأن كلمة من في قوله (ومن ذرّيتي) للتبعيض، وأما ذكر هذا التبعيض، فلأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذرّيته جمع من الكفار وذلك قوله تعالى: {ولا ينال عهدي الظالمين} (البقرة، 124) . المطلوب السادس: أنه عليه السلام لما دعا الله تعالى في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال: {ربنا وتقبل دعاء} . قال ابن عباس: يريد عبادتي بدليل قوله تعالى: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} (مريم، 48) . وقيل: دعائي المذكور المطلوب السابع قوله: {ربنا} ، أي: أيها المالك لأمورنا المدبر لنا {اغفر لي} فإن قيل: إنّ طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة ذنب أجيب: بأن المقصود من ذلك الالتجاء إلى الله تعالى، وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته، ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: {ولوالديّ} فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لوالديه وكانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 كافرين؟ أجيب بوجوه: الأول: أنّ المنع منه لا يعلم إلا بتوقيف، فلعله لم يجد منه منعاً وظنّ كونه جائزاً، الثاني: أراد بوالديه آدم وحواء، الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام، وقال بعضهم: كانت أمّه مؤمنة ولذلك خص أباه بالذكر في قوله: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} (التوبة، 114) . ثم دعا لمن تبعه في الدين من ذريته وغيرهم بقوله {وللمؤمنين} ، أي: العريقين في هذا الوصف {يوم يقوم} ، أي: يبدو ويظهر {الحساب} وقيل: أراد يوم يقوم الناس فيه للحساب، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوماً عند السامع، وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة، والله تعالى لا يردّ دعاء خليله إبراهيم عليه السلام، وفيه بشارة عظيمة للمؤمنين بالمغفرة، فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأحبابنا ولمن نظر في هذا التفسير، ودعا لمن كان سبباً فيه بالمغفرة. ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله تعالى أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة عقبه بقوله تعالى مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} ؛ لأنّ الغفلة معنى يمنع الإنسان عن الوقوف على حقائق الأمور، وقيل: حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وهذا في حق الله تعالى محال، والمقصود من ذلك التنبيه على أنه ينتقم للمظلوم من الظالم، ففيه وعيد وتهديد للظالم، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلاً عنه، وعن سفيان بن عيينة فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا؟ فغضب، وقال: إنما قاله من علمه. فإن قيل: كيف يليق به صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة وهو أعلم الناس به؟ أجيب: بوجوه: الأوّل: أنّ المراد به التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله: {لا تدع مع الله إلهاً آخر} (القصص، 88) . والثاني: أنّ المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم. والثالث: أنّ المراد ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. والرابع: أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمّة. ثم بيّن تعالى أنه {إنما يؤخرهم} ، أي: عذابهم {ليوم} موصوف بخمس صفات الصفة الأولى: قوله تعالى: {تشخص فيه الأبصار} ، أي: أبصارهم لا تقرّ مكانها من هول ما ترى في ذلك اليوم. الصفة الثانية: قوله تعالى: {مهطعين} ، أي: مسرعين إلى الداعي أو مقبلين بأبصارهم لا يطرقون هيبة وخوفاً. وقيل: المهطع الخاضع الذليل الساكن. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {مقنعي رؤوسهم} ، أي: رافعيها إذ الإقناع: رفع الرأس إلى فوق، فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء، وهذا بخلاف المعتاد؛ لأنّ من يتوقع البلاء يطرق بصره إلى الأرض. وقال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. الصفة الرابعة: قوله تعالى: {لا يرتدّ إليهم طرفهم} ، أي: بل تثبت عيونهم شاخصة لا يطرفون بعيونهم، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان قد شغلهم ما بين أيديهم. الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وأفئدتهم} ، أي: قلوبهم {هؤاء} ، أي: خالية من العقل لفرط الحيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 والدهشة. وقال قتادة: خرجت قلوبهم عن صدورهم، فصارت في حناجرهم، فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها. تنبيه: اختلفوا في وقت حصول هذه الصفات، فقيل: إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك بأنه يقوم الحساب، وقيل: إنها تحصل عندما يتميز فريق عن فريق، فالسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار. وقيل: يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور. قال الرازي: والأوّل أولى. {وأنذر الناس} يا محمد، أي: خوّفهم يوم القيامة وهو قوله تعالى: {يوم يأتيهم العذاب} ، أي: الذي تقدّم ذكره، وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم. {فيقول الذين ظلموا} ، أي: كفروا {ربنا أخرنا} ، أي: بأن تردّنا إلى الدنيا {إلى أجل قريب} إلى أمد واحد من الزمان قريب {نجب دعوتك} ، أي: بالتوحيد ونتدارك ما فرّطنا فيه {ونتبع الرسل} فيما يدعوننا إليه، فيقال لهم توبيخاً: {أو لم تكونوا أقسمتم} ، أي: حلفتم {من قبل} في الدنيا {ما لكم} وأكد النفي بقوله: {من زوال} ، أي: ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور كما قال في آية أخرى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} (النمل، 38) وكانوا يقولون: لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت، أو عن شباب إلى هرم، أو عن غنى إلى فقر، ثم إنه تعالى زادهم توبيخاً آخر بقوله تعالى: {وسكنتم} في الدنيا {في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} بالكفر من الأمم السابقة {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} ، أي: وظهر لكم بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزل بهم، وما تواتر عندكم من أخبارهم {وضربنا} ، أي: وبينا {لكم الأمثال} في القرآن أنّ عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال، مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله تعالى كثير. ولما ذكر تعالى صفة عقابهم أتبعه بذكر كيفية مكرهم بقوله تعالى: {وقد مكروا مكرهم} ، أي: الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، واختلف في عود الضمير في مكروا على وجوه: الأوّل: أن يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ لأنّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور. والثاني: إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {وأنذر} ، أي: يا محمد الناس وقد مكر قومك مكرهم، وذلك المكر هو الذي ذكر الله تعالى في قوله: {إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} (الأنفال، 30) . {وعند الله مكرهم} ، أي: ومكتوب عند الله فعلهم، فهو مجازيهم عليه بمكر عو أعظم منه. وقيل: إنّ مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال.k وقد حكي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قول آخر وهو أنها نزلت في نمروذ الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه فقال نمروذ: إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء، فأعلم ما فيها، ثم أمر نمروذ صاحبه فاتخذ لنفسه تابوتاً، وجعل له باباً من أعلاه وباباً من أسفله، وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور، وكان قد جوّعها، ورفع فوق الجوانب الأربع من التابوت عصياً أربعة وعلق على كل واحدة منها قطعة لحم، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت، فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جوّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الهواء، فطارت يوماً حتى أبعدت في الهواء، فقال نمروذ لصاحبه: افتح الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض كيف تراها؟ ففعل فقال: أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان قال: فطارت النسور، يوماً آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال نمروذ لصاحبه: افتح الباب الأعلى، ففتح فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل، فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب، فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخاً بالدم بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء، وقيل: طائر أصابه السهم فقال: كفيت إله السماء، فنكس تلك العصيّ التي علق عليها اللحوم، فتسفلت النسور، وهبطت إلى الأرض، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور، ففزعت وظنت أن قد حدث في السماء حدث وأن القيامة قد قامت، فكادت تزول عن أماكنها فذلك قوله تعالى: {وإن كان مكرهم} ، أي: من القوّة والضخامة {لتزول منه الجبال} قال الرازي: ولا حاجة في تأويل الآية إلى هذا، فإنه لم يجيء فيه خبر صحيح معتمد انتهى. والمراد بالجبال هنا قيل: حقيقتها وقيل شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. وقرأ الكسائيّ بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة، والباقون بكسر الأولى وفتح الثانية، والتقدير على القراءة الأولى: وإن كان بحيث أنه تزول منه الجبال، وقيل: أن نافية واللام لتأكيد النفي. {فلا تحسبنّ الله} الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمّته {مخلف وعده رسله} من النصر وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا} (غافر، 51) . وقال تعالى: {كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي} (المجادلة، 21) . فإن قيل: هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدّم المفعول الثاني على الأوّل؟ أجيب: بأنه تعالى قدّم ذلك ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله تعالى: {إنّ الله لا يخلف الميعاد} (آل عمران، 9) ثم قال: رسله ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ {إنّ الله} ، أي: ذو الجلال والإكرام {عزيز} ، أي: غالب يقدر ولا يقدر عليه {ذو انتقام} ، أي: ممن عصاه وقوله تعالى: {س14ش48/ش52 يَوْمَ تُبَدَّلُ ا?رْضُ غَيْرَ ا?رْضِ وَالسَّمَاوَاتُ? وَبَرَزُوا? لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـ?ـ?ِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ا?صْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ? إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا? بِهِ? وَلِيَعْلَمُو?ا? أَنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا? ا?لْبَابِ} بدل من يوم يأتيهم، أو ظرف للانتقام، والمعنى: يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وقوله تعالى: {والسموات} عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات، والتبديل التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه {بدلناهم جلوداً غيرها} (النساء، 56) {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} (سبأ، 16) . وفي الأوصاف كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، ومنه قوله تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان، 70) والآية محتملة لكل واحد من هذين المفهومين، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي تلك الأرض، وإنما تغير أوصافها، وأنشد: *وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم* فتتبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها، وتفجر بحارها، وتستوي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتبدل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها وكونها أبواباً، ويدلّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 كقرصة النقاء ليس فيها علم لأحد» أخرجاه في الصحيحين، العفراء بالعين المهملة، وهي البيضاء إلى حمرة، ولهذا شبهها بقرصة النقاء، وهو الجير الأبيض الجيد الفائق المائل إلى الحمرة. كأن النار ميلت بياض وجهه إلى الحمرة، وقوله: ليس فيها علم لأحد يعني: ليس فيها علامة لأحد لتبديل هيئتها وصفتها وزوال جبالها وجميع بنائها، فلا يبقى فيها أثر يستدلّ به. وعن ابن مسعود أنه قال: تبدل الأرض بأرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم، ولم تعمل عليها خطيئة. وقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال محمد بن كعب وسعيد بن جبير: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. وعن الضحاك أيضاً: من فضة كالصحائف. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأين يكون الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ فقال: «على الصراط» . أخرجه مسلم. وروى ثوبان أنّ حبراً من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين تكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ قال: «هم في الظلمة دون الجسر» . قال الرازي: واعلم أنه لا يبعد أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم والسموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى: {كلا إنّ كتاب الأبرار لفي عليين} (المصطففين، 18) . وقوله تعالى: {كلا إنّ كتاب الفجار لفي سجين} (المصطففين، 7) . {وبرزوا} ، أي: خرجوا من قبورهم {لله} ، أي: لحكمه والوقوف بين يديه تعالى للحساب {الواحد} ، أي: الذي لا شريك له {القهار} ، أي: الذي لا يدافعه شيء عن مراده كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} (غافر، 16) . ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم بقوله تعالى: {وترى} يا محمد، أي: تبصر {المجرمين} ، أي: الكافرين {يومئذٍ} ، أي: يوم القيامة، ثم ذكر تعالى من صفات عجزهم وذلتهم أموراً: الصفة الأولى: قوله تعالى: {مقرّنين} ، أي: مشدودين {في الأصفاد} جمع صفد وهو القيد. قال الكلبي: كل كافر مع شيطان في غل. وقال عطاء: وهو معنى قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} (التكوير، 7) ، أي: قرنت فتقرن نفوس المؤمنين الحور العين، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين، وقيل: هو قرن بعض، الكفار ببعض فتضم تلك النفوس الشقية والأرواح الكدرة الظلمانية بعضها إلى بعض لكونها متشاكلة متجانسة، وتنادى ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى. وقال ابن زيد: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. الصفة الثانية: قوله تعالى: {سرابيلهم} ، أي: قمصهم جمع سربال وهو القميص {من قطران} وهو شيء يتحالب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ وتطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرارته وحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أنه يتسارع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلاء كالسرابيل، فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب: لذع القطران، وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح، وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وتغشى} ، أي: تعلو {وجوههم النار} ونظيره قوله تعالى: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب} (الزمر، 24) . وقوله تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم} (القمر، 48) . ولما كان موضع العلم والجهل هو القلب، وموضع الكفر والوهم هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الرأس، وأثر هذه الأحوال يظهر في الوجه فلهذا خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيها فقال في القلب: {نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة} (الهمزة: 6، 7) . وقال في الوجه: {وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم، 50) . وقوله تعالى: {ليجزي الله} متعلق ببرزوا {كل نفس ما كسبت} ، أي: من خير أو شرّ وهذا أولى من قول الواحدي: المراد منه أنفس الكفار؛ لأنّ ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان. ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم قال: {إنّ الله سريع الحساب} ، أي: لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى، ولا شأن عن شأن قوله تعالى: {هذا} إشارة إلى القرآن الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، نزل منزلة الحاضر وقيل: إلى السورة {بلاغ} ، أي: كان غاية الكفاية في الإيصال {للناس} والموعظة لهم، وقوله تعالى: {ولينذروا} ، أي: وليخوّفوا {به} عطف على محذوف ذلك المحذوف متعلق ببلاغ تقديره، أي: لينصحوا ولينذروا، وقيل: الواو مزيدة، ولينذروا متعلق ببلاغ {وليعلموا} ، أي: بما فيه من الحجج على وحدانية الله تعالى. {أَنما هو} ، أي: الله {إله واحد} فيستدلوا بذلك على أنّ الله واحد لا شريك له {وليذكر} بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي: يتعظّ {أولو الألباب} ، أي: أصحاب العقول الصافية من الأكدار، والأفهام الصحيحة، فإنه موعظة لمن اتعظ. تنبيه: ذكر سبحانه وتعالى لهذا البلاغ ثلاث فوائد مستفادة من قوله تعالى: {ولينذروا به} وتالييه والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوّة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوّة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى، جعلنا الله تعالى من الفائزين بها بمحمد وآله، وفعل ذلك بوالدينا وأحبابنا. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» حديث موضوع. قال العلامة ابن جماعة في «شرح منظومة ابن فرج» التي أولها غرامي صحيح فرع من غرائب الجويني يكفر واضع الحديث، أي: والمشهور عدم تكفيره. سورة الحجر مكية وهي تسع وتسعون آية وستمائة وأربع وخمسون كلمة، وعدد حروفها ألفان وسبعمائة وستون حرفاً {بسم الله} الملك الواحد القهار {الرحمن} الذي أسبغ نعمه على سائر بريته، فعجزت عن وصفه الأفكار {الرحيم} الذي خص أهل ولايته بنجاتهم من النار، وقوله تعالى: {الر} ذكر فيه الفتح والإمالة أوّل يونس. وقيل: معناه: أنا الله أرى، وقدّمنا الكلام على أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقوله تعالى: {تلك} إشارة إلى آيات هذه السورة، أي: هذه الآيات {آيات الكتاب} ، أي: القرآن، والإضافة بمعنى من، وقوله تعالى: {وقرآن مبين} ، أي: مظهر للحق من الباطل عطف بزيادة صفة. وقيل: المراد بالكتاب هو السورة، وكذا القرآن، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وبالقرآن هذا الكتاب. ثم بيّن سبحانه وتعالى حال الكفار يوم القيامة بقوله تعالى: {ربما يودّ} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أي: يتمنى {الذين كفروا} إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين في ذلك اليوم {لو كانوا مسلمين} وقيل: حين يعاينوا حال المسلمين عند نزول النصر وحلول الموت، ورب للتكثير، فإنه يكثر منهم تمنى ذلك. وقيل: للتقليل، فإنّ الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. فإن قيل: لم دخلت رب على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ أجيب: بأنّ المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحقيقه، فكأنه قيل: ربما ودّ. وقرأ عاصم ونافع بتخفيف باء ربما، والباقون بالتشديد. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما، وقيس وبكر يثقلونها، ولما تمادوا في طغيانهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {ذرهم} ، أي: دعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم {يأكلوا ويتمتعوا} بدنياهم وتنفيذ شهواتهم، والتمتع التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال. {ويلههم الأمل} ، أي: ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار، واستقامة الأحوال عن أخذ حظهم من السعادة، وعن الاستعداد للمعاد. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي برفع الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء ورفع الميم. وأمّا الوقف فالجميع بكسر الهاء، والكلام على الهاء الثانية، وأمّا الهاء الأولى فمكسورة للجميع وقفاً ووصلاً. ولما كان هذا أمراً لا يشتغل به إلا أحمق تسبب عنه التهديد بقوله تعالى: {فسوف يعلمون} ، أي: ما يحل بهم بعدما فسحنا لهم في زمن التمتع من سوء صنيعهم، وهذا قبل الأمر بالقتال. تنبيه: في الآية دليل على أنّ إيثار التلذذ والتنعم في الدنيا يؤدّي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم: التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر» . وعن علي رضي الله تعالى عنه: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى، فإنّ طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدّ عن الحق. ولما هددهم تعالى بآية التمتع وإلهاء الأمل أتبعه بما يؤكد الزجر. بقوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية} ، أي: من القرى، والمراد أهلها ومن مزيدة {إلا ولها كتاب معلوم} ، أي: أجل مضروب محدود مكتوب في اللوح المحفوظ لهلاكها. تنبيه: المستثنى جملة واقعة صفة لقرية والأصل أن لا تدخلها الواو، كقوله تعالى: {إلا لها منذرون} (الشعراء، 208) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب. فائدة: رسم كتاب هنا بإثبات الألف. ثم بيّن تعالى الآية السابقة بقوله تعالى: {ما تسبق} وأكد الاستغراق بقوله تعالى: {من أمة} وقيل: من مزيدة كقولك: ما جاءني من أحد، أي: أحد وبيّن أنّ المراد بالكتاب الأجل بقوله تعالى: {أجلها} ، أي: الذي قدّرناه لها. {وما يستأخرون} ، أي: عنه. تنبيه: أنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ الأوّل وعلى المعنى في الثاني. قال البقاعي: وإنما ذكره لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وسلم تعنتاً وفي الآية دليل على أنّ كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله وإن من قال بجواز أن يموت قبل أجله مخطئ. ولما بالغ تعالى في تهديد الكفار ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 شبههم في إنكار نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} ، أي: القرآن في زعمه {إنك لمجنون} إنما نسبوه إلى الجنون إما لأنهم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله لأنّ الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال به جنون، وإما لأنه عليه الصلاة والسلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ويدل عليه قوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} (الأعراف، 184) ثم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا: {لو ما} ، أي: هلا {تأتينا بالملائكة} ، أي: يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقاً. {إن كنت من الصادقين} في إدعائك للرسالة وأنّ هذا القرآن من عند الله ولما كان في قولهم أمران أجاب الله تعالى عن قولهم الثاني لأنه أقرب بقوله تعالى: {وما ننزل الملائكة إلا بالحق} ، أي: إلا تنزلاً ملتبساً بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن نأتيكم بهم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} (الحجر، 85) وقيل الحق الوحي أو العذاب. وقرأ شعبة بضم التاء مع فتح الزاي ورفع الملائكة وحفص وحمزة والكسائي بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة وكسر الزاي ونصب الملائكة والباقون بالتاء مفتوحة مع فتح الزاي ورفع الملائكة وشدّد التاء البزي في الوصل، وأما الزاي فهي مشدّدة للجميع من يفتح ومن يكسر {وما كانوا} ، أي: الكفار {إذاً} ، أي: إذ تأتيهم الملائكة {منظرين} ، أي: لزوال الإمهال عنهم فيعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدّقوا وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم ثم أجاب تعالى عن الأوّل بقوله تعالى مؤكذاً لتكذيبهم: {إنا نحن} بما لنا من العظمة والقدرة {نزلّنا} ، أي: بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام {الذكر} ، أي: القرآن {وإنا له لحافظون} ، أي: من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء، 82) فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه كلمة واحدة أو حرفاً واحداً وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، فإن قيل: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه؟ أجيب: بأن جمعهم القرآن في المصحف كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على كون البسملة آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظنّ بالصحابة أنهم زادوا جاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة، وقيل: الضمير في له راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: وإنا لمحمد لحافظون ممن أراد به سوءاً فهو كقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67) . ولما أساء الكفار عليه صلى الله عليه وسلم في الأول وخاطبوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 بالسفاهة وقالوا: {إنك لمجنون} (الحجر، 6) . وكان عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء قال سبحانه وتعالى تسلية له على وجه رادّ عليهم: {ولقد أرسلنا من قبلك} ، أي: رسلاً فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله تعالى: {في شيع} أي: فرق {الأوّلين} من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى: {حق اليقين} (الواقعة، 95) سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة المجتمعة المتفقة كلمتهم على مذهب وطريقة. وقال الفراء: الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه، وقيل: الشيعة من يتقوى بهم الإنسان. {وما يأتيهم} عبر بالمضارع على حكاية الحال الماضية، فإن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، والأصل وما كان يأتيهم {من رسول} ، أي: على، أي: وجه كان {إلا كانوا به} جبلة وطبعاً {يستهزؤون} كاستهزاء قومك بك فصبروا فاصبر كما صبروا. {كذلك} ، أي: مثل ادخالنا التكذيب في قلوب هؤلاء المستهزئين بالرسل {نسلكه} ، أي: ندخله {في قلوب المجرمين} ، أي: كفار مكة المستهزئين. {لا يؤمنون به} ، أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: بالقرآن. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط والرمح في المطعون، ومنه قوله تعالى: {ما سلككم في سقر} (الدثر، 42) وقيل: الضمير في نسلكه يعود للذكر كما أنّ الضمير في به يعود إليه وجملة لا يؤمنون به حال من ذلك الضمير والمعنى على هذا مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً به غير مؤمن به قال البيضاوي: وهذا الاستدلال ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه اه. وما أعدت الضمير عليه في ذلك هو ما قاله ابن الخازن، وجرى عليه الجلال السيوطي وقوله تعالى: {وقد خلت سنة الأولين} ، أي: سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم وعيد شديد لكفار مكة بأنه ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة، وقال الزجاج: قد مضت سنة الله في أن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم.I قال الرازي: وهذا أليق بظاهر اللفظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار وقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} الآية هو المراد في سورة الأنعام في قوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس} (الأنعام، 7) الآية، أي: الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة فلو أنزلنا الملائكة {فظلوا فيه} ، أي: فظلت الملائكة {يعرجون} ، أي: يصعدون في الباب وهم يرونها عياناً. {لقالوا} ، أي: من عتوّهم في الكفر {إنما سكرت أبصارنا} ، أي: سدت عن الأبصار بالسحر من السكر ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف أو حيرت من السكر يدل عليه قراءة الباقين بالتشديد. {بل نحن قوم مسحورون} ، أي: قد سحرنا محمد بذلك، أي: كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات كانشقاق القمر وما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله. وقيل: الضمير في يعرجون للمشركين، أي: فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات وما فيها من العجائب لما آمنوا لعنادهم وكفرهم وقالوا: إنما سحرنا. وقرأ الكسائي بإدغام لام بل في النون والباقون بالإظهار. ولما أجاب الله تعالى عن شبهة منكري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 النبوّة والقول بالنبوّة مفرع على القول بالتوحيد ودلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال مفتتحاً بحرف التوقع: {ولقد جعلنا} بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة. {في السماء بروجاً} قال الليث: البروج واحدها برج من بروج الفلك، والبروج هي النجوم الكبار مأخوذة من الظهور يقال: تبرجت المرأة إذا ظهرت وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس والقمر والكواكب السيارة وهي اثنا عشر برجاً الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وهي منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل وله الجدي والدلو. وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرّة وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً. قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بروج الشمس والقمر يعني منازلهما وقال عطية: هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال مجاهد: هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق: يريد نجوم هذه البروج. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام. {وزيناها} ، أي: السماء بالشمس والقمر والنجوم والأشكال والهيئات البهية {للناظرين} ، أي: المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها ومبدعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوّره. {وحفظناها من كل شيطان رجيم} ، أي: مرجوم وقيل: ملعون. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الله لغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فلما منعوا تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال: لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن فقالوا: والله هذا حدث وقوله تعالى: {إلا من استرق السمع} بدل من كل شيطان رجيم. وقيل استثناء منقطع، أي: لكن من استرق السمع واستراق السمع اختلاسه. قال ابن عباس: يريد الخطفة اليسيرة وذلك أنّ الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب كما قال تعالى: {فأتبعه شهاب مبين} وهو شعلة من نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب لما فيها من البريق يشبه شهاب النار فلا يخطئ أحداً فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه أو جنبه أو يده حيث يشاء الله. ومنهم من يخبله فيصير غولاً فيضل الناس في البوادي. روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع» ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض. ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها إلى لسان الساحر أو الكاهن، وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مئة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء. فإن قيل: إذا جاز أن يسمع الشيطان أخبار الغيوب من الملائكة خرج الإخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق لأنّ كل غيب يخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم قام فيه الاحتمال وحينئذٍ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق. أجيب: بأنا أثبتنا كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوّته نقطع بأنّ الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيب معجزاً، ولما شرح الله تعالى الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع؛ النوع الأوّل: قوله تعالى: {والأرض مددناها} قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء. قال البغوي: يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل: فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة؟ أجيب: بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات. النوع الثاني: قوله تعالى: {وألقينا فيها رواسي} ، أي: جبالاً ثوابت واحدها راس والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} (النحل، 15) قال ابن عباس: لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها، وقيل: إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال. النوع الثالث: قوله تعالى: {وأنبتنا فيها} واختلف في عود ضمير فيها فقيل: يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل: إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى: {من كل شيء موزون} وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس:، أي: معلوم. وقال مجاهد:، أي: مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن: أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن. {وجعلنا لكم فيها} ، أي: إنعاماً منا وتفضلاً عليكم {معايش} وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. {و} جعلنا لكم {من لستم له برازقين} من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل: صيغة من مختصة بمن يعقل؟ أجيب: بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} (هود: 6) {والأرض مددناها} قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء. قال البغوي: يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل: فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة؟ أجيب: بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات. النوع الثاني: قوله تعالى: {وألقينا فيها رواسي} ، أي: جبالاً ثوابت واحدها راس والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} (النحل، 15) قال ابن عباس: لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها، وقيل: إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال. النوع الثالث: قوله تعالى: {وأنبتنا فيها} واختلف في عود ضمير فيها فقيل: يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل: إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى: {من كل شيء موزون} وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس:، أي: معلوم. وقال مجاهد:، أي: مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن: أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن. {وجعلنا لكم فيها} ، أي: إنعاماً منا وتفضلاً عليكم {معايش} وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. {و} جعلنا لكم {من لستم له برازقين} من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل: صيغة من مختصة بمن يعقل؟ أجيب: بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} (هود: 6) فغلب من يعقل على غيره. حكي أنّ الماء قد قلّ في بعض الأودية والجبال واشتدّ الحرّ قال بعضهم: فرأيت بعض تلك الوحوش رفعت رؤوسها إلى السماء عند اشتداد عطشها قال: فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت وامتلأت الأودية. تنبيه: قيل لا يجوز أن يكون و {من لستم له برازقين} (الحجر، 20) مجروراً عطفاً على الضمير لا يقال: أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كما في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} (الأحزاب، 7) والراجح الجواز كما قرئ قوله تعالى: {تساءلون به والأرحام} (النساء، 1) بالخفض في القراءات السبع وهذا أعظم دليل. ولما بين سبحانه وتعالى أنه أنبت لهم كل شيء موزون وجعل لهم معايش أشعر بذكر ما هو السبب لذلك فقال تعالى: {وإن} ، أي: وما {من شيء} ، أي: مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة وهي لا نهاية لها. {إلا عندنا خزائنه} ، أي: قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عند جدّه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبرّ والخزائن جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه للحفظ. وقيل: أراد مفاتيح الخزائن، وقيل: المطر لأنه سبب الأرزاق لبني آدم والوحش والطير والدواب ومعنى عندنا، أي: في حكمه تعالى وتصرّفه وأمره وتدبيره {وما ننزله} من يفاع القدرة {إلا بقدر معلوم} ، أي: على حسب المصالح وقيل: إنّ لكل أرض حدّاً ومقداراً من المطر يقال: لا ينزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله ولما أتم ما أراد من آيتي السماء والأرض وختمه بشمول قدرته لكل شيء أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته بقوله تعالى: {وأرسلنا الرياح} جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجوّ سريع الممر {لواقح} ، أي: حوامل لأنها تحمل الماء إلى السحاب فهي لاقحة، يقال: ناقة لاقحة إذا حملت الولد. وقال ابن مسعود: يرسل الله تعالى الريح فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمرّ به فتدرّ كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال عبيد بن عمير: يبعث الله تعالى الريح المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاماً ثم يبعث الله اللواقح تلقح الشجر. وعن ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبيّ صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: «اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها ريحاً» . وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: اللهمّ إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به» . وقرأ حمزة بالإفراد والباقون بالجمع. {فأنزلنا} ، أي: بعظمتنا بسبب تلك السحاب التي حملتها الريح {من السماء} ، أي: الحقيقية أو جهتها أو السحاب لأنّ الأسباب المترقبة يسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد {ماء} وهو جسم مائع سيال به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء {فأسقيناكموه} ، أي: جعلناه لكم سقياً، يقال: سقيته ماء يشربه وأسقيته، أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد، ونفى سبحانه وتعالى عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه بقوله: {وما أنتم له} ، أي: لذلك الماء {بخازنين} ، أي: ليست خزائنه بأيديكم والخزن وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ فثبت أنّ القادر عليه واحد مختار ومن دلائل التوحيد الإحياء والإماتة كما قال تعالى: {وإنا لنحن نحيي} ، أي: لنا هذه الصفة على وجه العظمة فنحيي بها من نشاء من الحيوان بروح البدن ومن الروح بالمعارف ومن النبات بالنمو وإن كان أحدهما حقيقة والآخر مجازاً لأنّ الجمع جائز {ونميت} ، أي: لنا هذه الصفة فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء. {ونحن الوارثون} ، أي: الإرث التام إذا مات الخلائق الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء فليس لأحد تصرّف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار فلما ثبت بهذا كمال قدرته وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم قال تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم} وهو من قضينا بموته أولاً من لدن آدم فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدّم إليه وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره {ولقد علمنا المستأخرين} ، أي: الذين نمدّ في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم أو نحوه أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بسيف أو غيره فعرف من ذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار. وقال ابن عباس: أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياءز وقال عكرمة: المستقدمين من خلق الله تعالى والمستأخرين من لم يخلق. وقال الحسن: المستقدمين في الطاعة والخير والمستأخرين المستبطؤون عنه. وقيل: المستقدمين من القرون الأولى والمستأخرين أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المستقدمين في الصفوف والمستأخرين فيها وذلك أنّ النساء كنّ يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أوّل صف النساء لتقرب من الرجال فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها» . تنبيه: في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما: أنّ امرأة حسناء كانت تصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أوّل صف حتى لا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت. والثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّض على الصف الأوّل فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المسجد لنبيعنّ دورنا ولنشترين دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت. {وإنّ ربك هو يحشرهم} ، أي: المستقدمين والمستأخرين للجزاء وتوسط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره وتصدير الجملة بأنّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرّح به بقوله تعالى: {إنه حكيم} ، أي: باهر الحكمة متقن في أفعاله {عليم} وسع علمه كل شيء، ولما استدل سبحانه وتعالى بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدّمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب بقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} قال الرازي والمفسرون: أجمعوا على أنّ المراد منه آدم عليه السلام. ونقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر سمي إنساناً لظهوره وإدراك البصر إياه، وقيل: من النسيان لأنه عهد إليه فنسى. {من صلصال} ، أي: من الطين الشديد اليابس الذي لم تصبه نار، إذا نقرته سمعت له صلصلة، أي: صوتاً. وقال ابن عباس: هو الطين إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرّك تقعقع. وقال مجاهد: هو الطين المنتن واختاره الكسائي وقال الفراء: هو طين خلط برمل فصار له صوت عند نقره. وقال الرازي: قال المفسرون: خلق الله تعالى آدم من طين فصوّره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالاً لا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح. {من حمأ} ، أي: طين أسود منتن {مسنون} ، أي: مصوّر بصورة الآدمي. وقال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن. وقال مجاهد: هو المنتن المتغير. قال البغوي: وفي بعض الآثار إنّ الله تعالى خمر طينة آدم وتركه حتى صار متغير أسود ثم خلق منه آدم عليه السلام. قال ابن الخازن: والجمع بين هذه الأقوال على ما ذكره بعضهم أنّ الله تعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام قبض قبضة من تراب الأرض وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران، 59) ثم إنّ ذلك التراب بله بالماء وحمأ حتى اسودّ وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله تعالى: {من حمأ مسنون} ثم إنّ ذلك الطين الأسود المتغير صوّره الله صورة إنسان أجوف فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فيسمع له صلصلة وإليه الإشارة بقوله تعالى: {من صلصال كالفخار} (الرحمن، 14) وهو الطين اليابس يفخر في الشمس ثم نفخ فيه الروح فكان بشراً سوياً. ولما ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكر ما خلقه قبل من الجان فقال تعالى: {والجانّ} قال ابن عباس: هو أبو الجن كما أنّ آدم عليه السلام أبو البشر وإبليس أبو الشياطين وفي الجنّ مسلمون وكافرون ويأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس. وقال وهب: إنّ من الجنّ من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومن الجنّ من هو بمنزلة الريح لا يتولدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. قال ابن الخازن: والأصح أنّ الشياطين نوع من الجنّ لاشتراكهم في الاستتار سموا جناً لتواريهم واستتارهم عن الأعين، من قولهم جنّ الليل إذا ستر والشيطان هو العاتي المتمرّد الكافر، والجنّ منهم المؤمن ومنهم الكافر وانتصاب الجان بفعل يفسره. {خلقناه من قبل} ، أي: قبل خلق الإنسان {من نار السموم} ، أي: من ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله من قوّة حرارتها. قال الرازي: فالريح الحارة فيها نار وبها فيح كما ورد في الخبر أنها من فيح جهنم انتهى. ويقال: السموم بالنهار والحرور بالليل. وقال الكلبي: عن أبي صالح السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وهي نار تكون بين السماء وبين الحجاب فإذا أحدث الله تعالى أمراً خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. وعن ابن عباس هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية. وعن الضحاك عن ابن عباس كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السموم، وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن {من مارج من نار} (الرحمن، 15) ، وأمّا الملائكة فخلقوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 من النور. ولما ذكر الله تعالى حدوث الإنسان الأوّل واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته بقوله تعالى: {وإذ} ، أي: واذكر يا أشرف الخلق قول ربك عز وجل إذ {قال ربك} ، أي: المحسن إليك بتشريف أبيك آدم عليه السلام لتشريفك {للملائكة إني خالق بشراً} ، أي: حيواناً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أبشار البشر والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان وقوله تعالى: {من صلصال من حمأ مسنون} تقدّم تفسيره. {فإذا سويته} ، أي: عدّلته وأتممته وهيأته لنفخ الروح فيه بالفعل {ونفخت فيه من روحي} ، أي: خلقت الحياة فيه وليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل وأضاف الروح إليه تشريفاً كما يقال: بيت الله وهو ما يصير به الروح عالماً وأشرف منه ما يصير به العالم عاملاً خاشعاً وسيأتي الكلام على الروح إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} (الإسراء، 85) . {فقعوا} ، أي: أسقطوا {له} تعظيماً حال كونكم {ساجدين} وتقدّم في سورة البقرة الكلام على من المخاطب بالسجود وهل هو كل الملائكة أو ملائكة السموات أو ملائكة الأرض وهل هو سجود انحناء أو غيره. {فسجد الملائكة} وقوله تعالى: {كلهم أجمعون} قال سيبويه: تأكيد بعد تأكيد. وسئل المبرد عن ذلك فقال: لو قال {فسجد الملائكة} احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال: {كلهم} زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت آخر، فلما قال: {أجمعون} ظهر أنّ الكل سجدوا دفعة واحدة. قال الزجاج: وقول سيبويه أجود لأنّ أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله تعالى: {إلا إبليس} أجمعوا على أنّ إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة على الاستقصاء في سورة البقرة وقوله تعالى: {أبى أن يكون مع الساجدين} أي: لآدم استئناف تقديره إنّ قائلاً قال: هل سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه. {قال} الله تعالى له: {يا إبليس ما لك ألا تكون} أي: أن تكون ولا مزيدة، أي: ما منعك أن تكون {مع الساجدين} لآدم {قال لم أكن لأسجد لبشر} جسماني كثيف واللام لتأكيد النفي، أي: لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد وأنا ملك روحاني لبشر. {خلقته من صلصال من حمأ مسنون} وهو أخس العناصر {وخلقتني من نار} وهي أشرفها استنقص آدم باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة الأعراف. تنبيه: قال بعض المتكلمين: إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله وضعف لأنّ إبليس قال في الله لجواب: {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال} فقوله: خلقته خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأنّ إبليس تكلم مع الله بغير واسطة فكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى من غير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم؟ وأجيب: بأنّ مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كانت على سبيل الإكرام والإعظام فأمّا إذا كانت على سبيل الإهانة والإذلال فلا. {س15ش34/ش44 قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى? إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى ?زَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى ا?رْضِ وَ?غْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِs عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِs مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} {قال} الله تعالى له {فاخرج منها} أي: من الجنة وقيل: من السموات وقيل: من زمرة الملائكة وقد تقدّم الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 على ذلك أيضاً في سورة الأعراف. {فإنك رجيم} أي: مطرود من الخير والكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان رجيم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته. {وإن عليك اللعنة} أي: هذا الطرد والإبعاد {إلى يوم الدين} قال ابن عباس: يريد يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم مثل قوله تعالى: {مالك يوم الدين} (الفاتحة، 3) . فإن قيل: كلمة إلى تفيد حصر انتهاء الغاية فهذا يفيد أنّ اللعنة لا تحصل إلا إلى يوم الدين وعند القيامة يزول اللعن؟ أجيب: بجوابين الأوّل: أنّ المراد التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية ذكرها الناس في كلامهم كقوله تعالى: {ما دامت السموات والأرض} (هود، 107) في التأبيد والثاني: أنه مذموم مدعو عليه باللعن في السموات والأرض إلى يوم القيامة من غير أن يعذب فإذا جاء اليوم عذب عذاباً يقترن اللعن معه فيصير اللعن حينئذٍ كالزائل بسبب أنّ شدّة العذاب تذهل عنه. ولما جعله رجيماً ملعوناً إلى يوم القيامة فكأنَّ قائلاً يقول فماذا قال؟ فقيل: {قال رب} فاعترف بالعبودية والإحسان إليه {فأنظرني} أي: أخرني والإنظار تأخير المحتاج للنظر في أمره والفاء متعلقة بمحذوف دلّ عليه {فاخرج منها فإنك رجيم} . {إلى يوم يبعثون} أي: الناس أراد أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة من الموت إذ لا موت بعد وقت البعث. {قال} الله تعالى مجيباً للأوّل دون الثاني بقوله تعالى: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} وهو المسمى فيه أجلك عند الله وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد. فإن قيل: كيف أجابه الله تعالى إلى ذلك الإمهال؟ أجيب: بأنه إنما أجابه إلى ذلك زيادة في بلائه وشقائه وعذابه لا لإكرامه ورفع مرتبته. ولما أجيب لذلك كأنه قيل فماذا قال فقيل: {قال رب} أي: أيها الموجد والمدبر لي وقوله: {بما أغويتني} أي: خيبتني من رحمتك الباء فيه للقسم وما مصدرية وجواب القسم {لأزينن} أي: أقسم بإغوائك إياي لأزينن {لهم في الأرض} حب الدنيا ومعاصيك كقوله: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} (ص، 82) إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وهنا أقسم بإغواء الله، وهي من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا: القسم بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال والراجح فيها الصحة. {ولأغوينهم} أي: بالإضلال عن الطريق الحميدة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ولأحملنهم. {أجمعين} على الغواية وقوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام، أي: الذين أخلصوا دينك عن الشوائب وقرأه الباقون بفتحها، أي: الذين أخلصهم الله تعالى بالهداية وإنما استثنى إبليس المخلصين لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. وقال الرازي: والذي حمله على هذا الاستثناء أنه لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أنّ الكذب في غاية الخساسة. تنبيه: قال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عنه عوضاً من الدارين ولا عوضاً من الملكين. وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله. وذكر القشيري وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سرّ استودعته قلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 من أحب من عبادي» . ولما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه وتضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته. {قال} تعالى {هذا} أي: الذي ذكرته من حال المستثنى والمستثنى منه {صراط} أي: طريق {عليّ مستقيم} أي: لا انحراف عنه لأني قضيت به وحكمت به عليك وعليهم ولو لم تقل أنت. ولما قال إبليس لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين أوهم هذا أنّ له سلطاناً على عباد الله غير المخلصين فبين تعالى كذبه أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء أكانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين ومن اتبع منهم إبليس باختياره صار تبعاً له ولكن حصول تلك المتابعات أيضاً ليس لأجل إبليس وأوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً فبين تعالى كذبه وذكر تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً بقوله تعالى: {إن عبادي} أي: المؤمنين كلهم {ليس لك} أي: بوجه من الوجوه {عليهم سلطان} أي: لتردّهم كلهم عما يرضيني ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم، 22) وقال تعالى في آية أخرى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} (النحل: 99، 100) . {إلا من اتبعك} أي: بتعمدٍ منه ورغبة من اتباعك {من الغاوين} أي: ومات من غير توبة فإني جعلت لك عليهم سلطاناً بالتزيين والإغواء وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية؟ فقال: معناه ليس لك عليهم سلطان تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي. وقيل: إنّ الإضافة للتشريف فلا تشمل إلا الخلص فحينئذ يكون الاستثناء منقطعاً وفائدة سوقه بصورة الاستثناء على تقدير الانقطاع الترغيب في رتبة التشريف بالإضافة إليه والرجوع عن اتباع العدو إلى الإقبال عليه لأن ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية ينافسون في ذلك المقام ويرونه كما هو الحق أعلى مرام. {وإن جهنم لموعدهم} أي: الغاوين وهم إبليس ومن تبعه {أجمعين} ثم بين تعالى أنهم متفاوتون فيها بقوله تعالى: {لها} أي: لجهنم {سبعة أبواب} أي: سبع طبقات قال عليّ رضي الله تعالى عنه: أتدرون كيف أبواب النار؟ هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى، أي: سبعة أبواب بعضها فوق بعض. وإنّ الله تعالى وضع الجنات على العرض ووضع النيران بعضها على بعض. قال ابن جريج: النار سبعة دركات أوّلها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية. تنبيه: تخصيص العدد لأنّ أهلها سبع فرق وقيل: جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، لأنها مصادر السيئات فكانت مواردها الأبواب السبعة، ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحداً فجعلت أبواب الجنان ثمانية قال تعالى: {لكل باب} أي: منها {منهم} أي: من الغاوين خاصة لا يشاركهم فيها مخلص {جزء} أي: نصيب. وقرأ شعبة بضم الزاي والباقون بالسكون {مقسوم} أي: معلوم فلكل دركة قوم يسكنونها. قال الضحاك: في الدرجة الأولى أهل التوحيد الذي أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون، وفي الثانية النصارى وفي الثالثة اليهود وفي الرابعة الصابئون، وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الخامسة المجوس، وفي السادسة أهل الشرك، وفي السابعة المنافقون، فذلك قوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء، 145) . وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمّتي أو قال على أمّة محمد» . ولما شرح تعالى أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب بقوله تعالى مؤكداً لإنكار المكذبين بالبعث: {إن المتقين} أي: الذين اتقوا الشرك بالله تعالى كما قال جمهور الصحابة والتابعين وهو الصحيح لأنّ المتقي والآتي بالتقوى مرّة واحدة كما أنّ الضارب هو الآتي بالضرب مرّة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرّة واحدة فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً أو قاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى لأنّ الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى، لأنّ كل فرد من أفراد الماهية يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية {في جنات} أي: بساتين. قال الرازي: أمّا الجنات فأربعة لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن، 46) ثم قال: {ومن دونهما جنتان} (الرحمن، 62) فيكون المجموع أربعة. وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرخمن، 46) يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه من الخوف من الله تعالى. وقوله تعالى: {ولمن خاف} يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرّة واحدة. وقوله تعالى: {وعيون} قال الرازي: يحتمل أن يكون المراد منها ما ذكره الله تعالى في قوله {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد، 15) . ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار. فإن قيل: هل كان واحد من المتقين مختص بعيون أو تجري تلك العيون بعضها إلى بعض؟ أجيب: بأن كل واحد من الوجهين محتمل فيجوز أن يختص كل واحد بعين ينتفع هو بها، ومن يختص به من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجاتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم يطهرون عن الحقد والحسد. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين والباقون بالكسر وقرأ بكسر التنوين في الوصل أبو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة والباقون بالضم. ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس قال تعالى: {ادخلوها} أي: يقال لهم ذلك {بسلام} أي: سالمين من كل آفة مرحباً بكم {آمنين} من ذلك دائماً. ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر. قال تعالى: {ونزعنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {ما في صدورهم من غلّ} أي: حقد كامن في القلب ويطلق على الشحناء والعداوة والحسد والبغضاء فكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب. يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد حالة كونهم {إخواناً} أي: متصافين حالة كونهم {على سرر} جمع سرير وهو مجلس رفيع موطأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد على سرر من ذهب مكالة بالزبرجد والدرّ والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية {متقابلين} لا يرى بعضهم قفا بعض فإن التقابل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أنّ المواجهة أشرف الأحوال. وعند مجاهد رضي الله تعالى عنه تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. تنبيه: ليس المراد الإخوة في النسب بل المراد الإخوة في المودّة والمخالطة كما قال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين} (الزخرف، 67) . وعن الجنيد أنه قال: ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد. وقوله تعالى: {لا يمسهم فيها نصب} أي: إعياء وتعب وجهد ومشقة استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين وقوله تعالى: {وما هم منها بمخرجين} المراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالاً بلا نقصان وفوزاً بلا حرمان. ولما ذكر تعالى أحوال المتقين وأحوال غيرهم أتبع ذلك بقوله تعالى: {نبئ} أي: خبر يا أفضل الخلق {عبادي} إخباراً جليلاً {أني أنا} أي: وحدي {الغفور} أي: للمؤمنين {الرحيم} بهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من عبادي وأني والباقون بالسكون. وأمّا الهمزة في نبئ فلم يبدلها إلا حمزة في الوقف فقط، وكذا الهمزة من نبئهم ونقل عن حمزة كسر الهاء في الوقف. {وأنّ عذابي} أي: وحدي للعصاة {هو العذاب الأليم} أي: المؤلم. تنبيه: في هذه الآية لطائف: الأولى أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه وهذا تشريف عظيم ألا ترى أنه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء، 1) . الثانية: أنه تعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيدات بألفاظ ثلاث أوّلها: قوله تعالى: {أني} . ثانيها: قوله: {أنا} . ثالثها: إدخال حرف الألف واللام على قوله تعالى: {الغفور الرحيم} . ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: {وأن عذابي هو العذاب الأليم} . الثالثة: أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. والرابعة: أنه لما قال: {نبئ عبادي} كان معناه نبئ كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع كذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك منها عنده تسعة وتسعين، وأرسل في خلقه رحمة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة. ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار» . وعن عبادة رضي الله تعالى عنه قال بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لجمع نفسه إلى قتلها» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال: «أتضحكون وقد ذكر الجنة والنار نبى أيديكم فنزل {بنئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} » . ولما بالغ تعالى في تقرير النبوّة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر تعالى عقبه أحوال القيامة ووصف الأشقياء والسعداء أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها مرغباً في العبادة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ومحذراً عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى: {ونبئهم} أي: خبّر يا سيد المرسلين عبادي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 {عن ضيف إبراهيم} وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل عليه السلام. فإن قيل: الضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى؟ أجيب: بأنّ هؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف فهو من دلالة التضمن وقيل أيضاً: إنّ من يدخل دار إنسان ويلتجئ إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل. {إذ دخلوا عليه} أي: إبراهيم وكان يكنى أبا الضيفان كان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد {فقالوا سلاما} أي: نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً {قال} إبراهيم عليه السلام بلسان الحال أو المقال {إنا} أي: أنا ومن عندي {منكم وجلون} أي: خائفون وكان خوفهم لامتناعهم من الأكل أو لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره. {قالوا لا توجل} أي: لا تخف {إنا} رسل ربك {نبشرك بغلام} أي: ولد ذكر في غاية القوّة ليس كأولاد الشيوخ ضعيفاً. وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الباء وكسر الشين مشدّدة {عليم} أي: ذي علم كثير هو إسحاق عليه السلام كما ذكر في هود وتقدّم ذكر القصة هناك بأسرها {قال} إبراهيم عليه السلام {أبشرتموني} أي: بالولد وقوله: {على أن مسني الكبر} حال، أي: مع مسه إياي. فإن قيل: كيف قال {فبم} أي: فبأيّ شيء {تبشرون} أي: بينوا لي ذلك بياناً شافياً مع أنهم قد بينوا ما بشروا به وما فائدة هذا الاستفهام؟ أجيب: بأنه أراد أن يعرف أنّ الله تعالى هل يعطيه الولد مع بقائه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أنّ العادة جارية بأنه لا يحصل في حالة الشيخوخة التامّة، وإنما يحصل في حال الشباب أو أنه استفهام تعجب ويدل لذلك قولهم: {قالوا بشرناك بالحق} قال ابن عباس: يريدون بما قضاه الله تعالى والمعنى أنّ الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحاق ويخرج من صلب إسحاق ذرية مثل ما أخرج من صلب آدم وقولهم: {فلا تكن} أي: بسبب تبشيرنا {من القانطين} أي: الآيسين، نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط ونهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كونه فاعلاً للمنهي عنه، كما في قوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب، 1) ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه {قال ومن يقنط} أي: ييأس من هذا اليأس. {من رحمة ربه} أي: الذي لم يزل إحسانه عليه {إلا الضالون} أي: المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون والباقون بفتحها ولما تحقق عليه السلام البشرى ورأى إتيانهم مختفين على غير الصفة التي يأتي عليها الملك للوحي وكان هو وغيره من العارفين بالله عالمين بأنه ما ينزل الملك إلا بالحق كان ذلك سبباً لأن يسألهم عن أمرهم ليزول وجله كله ولذلك {قال} عليه السلام {فما} بفاء السبب {خطبكم} أي: شأنكم. قال أبو حيان: والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد اه. وقال الرماني: إنه الأمر الجليل. {أيها المرسلون} فإنكم ما جئتم إلا لأمر عظيم يكون فصلاً بين هالك وناج. {قالوا إنا أرسلنا} أي: أرسلنا العزيز الحكيم الذي أنت أعرف الناس في هذا الزمان به {إلى} إهلاك {قوم} أي: ذوي منعة {مجرمين} أي: كافرين وهم قوم لوط وقوله تعالى: {إلا آل لوط} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ويكون معنى قوله تعالى: {إنا لمنجوهم أجمعين} أي: لإيمانهم استئناف إخبار بنجاتهم لكونهم لم يجرموا أو يكون الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لا هلاك أولئك وإنجاء هؤلاء. والثاني: أنه استثناء منقطع لأنّ آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة فيكون قوله تعالى: {إنا لمنجوهم أجمعين} جرى مجرى خبر لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط منجوهم وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم وقوله تعالى: {إلا امرأته} استثناء من آل لوط أو من ضميرهم على الأوّل وعلى الثاني لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل {إنا لمنجوهم} اعتراضاً وقوله تعالى: {قدّرنا} قرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد {إنها لمن الغابرين} أي: من الباقين في العذاب لكفرها. تنبيه: معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال: قدر هذا الشيء لهذا، أي: اجعله على مقداره وقدّر الله تعالى الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية ويفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله تعالى عليه وقدره عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل: معنى قدّرنا كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. فإن قيل: لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عز وجلّ؟ أجيب: بأنهم إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما تقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا هنا. ولما بشر الملائكة عليهم السلام إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد إبراهيم عليه السلام إلى لوط وآله وهذه هي القصة الثانية المذكورة في هذه السورة قال تعالى: {فلما جاء آل لوط المرسلون} ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط واحدة منهما مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين وكذا {وجاء أهل المدينة} (الحجر، 67) {قال} لهم {إنكم قوم منكرون} لأنهم دخلوا عليه هجماً فاستنكرهم وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه، ولأجل أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليهم بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. وقيل: إنّ النكرة ضدّ المعرفة فقوله عليه السلام {إنكم قوم منكرون} أي: لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام أنتم، ولأيّ غرض دخلتم عليّ فعند ذلك. {قالوا} أي: الملائكة {بل جئناك بما} أي: بالعذاب الذي {كانوا} أي: قومك {فيه يمترون} أي: يشكون في نزوله بهم والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه من حيث أنه لا يرجع إلى نفسه فيما هو عليه ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: {وأتيناك بالحق} أي: باليقين الذي لا يشك فيه ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم: {وإنا لصادقون} أي: فيما أخبرناك به {فأسر بأهلك} أي: فاذهب بهم في الليل {بقطع من الليل} أي: في طائفة من الليل وقيل: هي آخره، قال الشاعر: *افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 كأنه طال عليه الليل فخاطب ضجيعته بذلك أو كان يحب طول الليل للوصال. وقرأ نافع وابن كثير بوصل همزة فأسر بعد الفاء من السرى، والباقون بالقطع وهما بمعنى. {واتبع أدبارهم} أي: وكن على آثار أهلك وسر خلفهم وتطلع على أحوالهم {ولا يلتفت منكم أحد} أي: لئلا يرى أليم ما نزل بهم من البلاء، وقيل: جعل ترك الإلتفات علامة لمن ينجو من آل لوط {وامضوا حيث تؤمرون} أي: إلى المكان الذي أمركم الله بالمضيّ إليه، قال ابن عباس: هو الشأم. وقال الفضيل: حيث يقول لكم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط، وقيل: إلى الأردن، وقيل: إلى مصر. تنبيه: حيث ههنا على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ولإبهامها تعدى إليها الفعل من غير واسطة. {وقضينا} أي: وأوحينا {إليه} ولما ضمن قضينا معنى الإيحاء تعدى بإلى ومثله {وقضينا إلى بني إسرائيل} (الإسراء، 4) وقوله تعالى: {ذلك الأمر} مبهم تفسيره {أن دابر هؤلاء مقطوع} أي: مستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله تعالى: {مصبحين} حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء، أي: يتم استئصالهم في الصباح. {وجاء أهل المدينة} أي: مدينة من مدائن قوم لوط وهي سذوم بسين مهملة وذال معجمة وأخطأ من قال بمهملة {يستبشرون} أي: بأضياف لوط طمعاً فيهم وليس في الآية دليل على المكان الذي جاؤوه إلا أن القضية تدل على أنهم جاؤوا دار لوط. وقيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: امرأة لوط أخبرتهم بذلك. قال الرازي: وبالجملة فالقوم قالوا نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهاً ولا أحسن شكلاً منهم فذهبوا إلى دار لوط طلباً منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور ولما وصلوا إليه. {قال} لهم لوط: {إن هؤلاء ضيفي} أي: وحق على الرجل إكرام الضيف {فلا تفضحون} فيهم يقال: فضحه إذا أظهر من أمره ما يلزم به العار وإذا قصد الضيف بسوء كان ذلك إهانة لصاحب المحل ثم أكد ذلك بقوله: {واتقوا} أي: خافوا {الله} في أمرهم {ولا تخزون} أي: ولا تخجلوني فيهم بقصدكم إياهم بفعل الفاحشة من الخزاية وهي الحياء أو لا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان. {قالوا} أي: قومه في جواب قوله لهم {أو لم ننهك عن العالمين} أي: عن أن تضيف أحداً من العالمين، وقيل: أو لم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة فإنا نطلب منهم الفاحشة، وقيل: أو لم ننهك أن تمنع بيننا وبينهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان لوط عليه السلام يمنعهم عنهم بقدر وسعه ثم {قال} لهم: {هؤلاء بناتي} أي: نساء القوم لأن كل أمة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهنّ وخلوا بني فلا تتعرّضوا لهم {إن كنتم فاعلين} أي: ما أقول لكم أو قضاء الشهوة والكلام في ذلك قد مرّ بالاستقصاء في سورة هود وقرأ نافع بفتح ياء بناتي والباقون بسكونها قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على لسان ملائكته: {لعمرك} أي: وحياتك وما أقسم بحياة أحد غيره وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى {إنهم لفي سكرتهم} أي: شدّة غفلتهم التي أزالت عقولهم {يعمهون} أي: يتحيرون الخطاب للوط عليه السلام قالت له الملائكة ذلك، أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 فكيف يعقلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك. تنبيه: لعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوباً وإنهم وما حيزه جواب القسم تقديره: لعمرك قسمي أو يميني إنهم والعمر والعمر بالفتح والضم واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه وذلك لأنّ الحلف كثير الدور على ألسنتهم بلعمري ولعمرك. {فأخذتهم الصيحة} أي: صيحة هائلة مهلكة وهل هي صيحة جبريل عليه السلام. قال الرازي: ليس في الآية دليل على ذلك فإن ثبت بدليل قوي قيل به وإلا ليس في الآية دليل إلا أنهم جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله تعالى: {مشرقين} أي: داخلين في وقت الشروق وهو بزوغ الشمس حال من مفعول أخذتهم ثم بين سبحانه وتعالى ما تسبب عن الصيحة معقباً لها بقوله تعالى: {فجعلنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {عاليها} أي: مدائنهم {سافلها} بأن رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض {وأمطرنا عليهم} أي: أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم {حجارة من سجيل} أي: طين طبخ بالنار. تنبيه: دلت الآية الكريمة على أنّ الله تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب أحدها الصيحة الهائلة المنكرة وثانيها: أنه جعل عاليها سافلها، وثالثها: أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل، وتقدّمت الإشارة إلى ذلك في سورة هود. {إنّ في ذلك} أي: المذكور من هذه الأنواع {لآيات} أي: دلالات على وحدانية الله تعالى {للمتوسمين} أي: للناظرين المعتبرين جمع متوسم وهو الناظر في السمة حتى يعرف حقيقة الشيء وسمته. {وإنها} أي: هذه المدائن {لبسبيل} أي: طريق قريش إلى الشأم {مقيم} أي: لم يندرس بل يشاهدون ذلك ويرون أثره أفلا يعتبرون. ثم قال سبحانه وتعالى مشيراً إلى زيادة الحث على الاعتبار بالتأكيد {إنّ في ذلك} أي: هذا الأمر العظيم {لآية} أي: علامة عظيمة في الدلالة على وحدانيته تعالى {للمؤمنين} أي: كل من آمن بالله وصدّق الأنبياء والرسل عرف أنّ ذلك إنما كان لأجل أنّ الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال، أمّا الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه، ثم ذكر تعالى القصة الثالثة وهي قصة شعيب عليه السلام بقوله تعالى: {وإن} مخففة من الثقيلة، أي: وإنه {كان} أي: جبلة وطبعاً {أصحاب الأيكة} وهم قوم شعيب عليه السلام وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء والأيكة الشجر المتكاثف وقيل الشجر الملتف وقال ابن عباس: هي شجر المقل. وقال الكلبي: الأيكة الغيضة، أي: غيضة شجر بقرب مدين. {لظالمين} أي: عريقين في الظلم بتكذيبهم شعيباً عليه السلام. {فانتقمنا منهم} أي: بسبب ذلك قال المفسرون: اشتدّ الحرّ فيهم أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله تعالى: {وإنهما} فيه قولان: الأوّل: أن المراد قرى قوم لوط والأيكة. والقول الثاني: أنّ الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء ضميرهما {لبإمامٍ} أي: طريق {مبين} أي: واضح والإمام اسم لما يؤتم به. قال الفراء: إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع وقال ابن قتيبة: لأنّ المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده ثم ذكر تعالى القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام بقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 تعالى: {ولقد كذب أصحاب الحجر} وهم ثمود قوم صالح عليه السلام وديارهم بين المدينة الشريفة والشام {المرسلين} أي: كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك لأنّ الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء ثم أتبع ذلك قوله تعالى: {وآتيناهم} أي: بما لنا من العظمة والقدرة على يد رسولهم صالح عليه السلام {آياتنا} أي: آيات الكتاب المنزل على نبيهم أو معجزات كالناقة وكان فيها آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظيم خلقها وقرب ولادتها وغزارة لبنها وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لنبيهم صالح عليه السلام لأنه مرسل من ربهم إليهم بهذه الآيات {فكانوا عنها} أي: الآيات {معرضين} أي: تاركيها غير ملتفتين إليها لا يتفكرون فيها ثم أخبر تعالى عنهم أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشدّ منهم فقال تعالى: {وكانوا ينحتون} والنحت قلع جزء بعد جزء من الجسم على سبيل المسح {من الجبال} أي: التي تقدّم أنا جعلناها رواسي. {بيوتاً آمنين} عليها من الإنهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص برفع الباء والباقون بكسرها. {فأخذتهم الصيحة} أي: صيحة العذاب {مصبحين} أي: وقت الصبح. {فما أغنى} أي: ما دفع {عنهم} الضرّ والبلاء {ما كانوا يكسبون} أي: يعملون من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها» . ولما ذكر تعالى هذه القصص تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه إذا سمع أنّ الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله بمثل هذه المعاملات سهل تحمل تلك السفاهة قال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض} أي: على ما لها من العلوّ والسعة والأرض على ما لها من المنافع والغرائب {وما بينهما} من هؤلاء المشركين المكذبين وعذابهم ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك {إلا بالحق} أي: إلا خلقاً ملتبساً بالحق فيتفكر فيه من وفقه الله تعالى ليعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى {وإن الساعة} أي: القيامة {لآتية} لا محالة فيجازي الله تعالى كل أحد بعمله ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبّه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم بقوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل} أي: أعرض عنهم إعراضاً لا جزع فيه ولا تعجل بالإنتقام منهم وهذا منسوخ بآية السيف. قال الرازي: وهو بعيد لأنّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والصفو والصفح فكيف يصير منسوخاً اه. والأوّل جرى عليه البغوي وجماعة من المفسرين ثم علل تعالى هذا الأمر بقوله: {إنّ ربك} أي: المحسن إليك الآمر لك بهذا {هو} أي: وحده {الخلاّق} أي: المتكرر منه هذا الفعل {العليم} أي: البالغ العلم بكل المعلومات فليست أقوالهم وأفعالهم إلا منه سبحانه وتعالى لأنه خالقها وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك فإنه نعم المولى ونعم النصير. ولما صبره الله تعالى على أذى قومه وأمره أن يصفح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى أفضل خلقه بها بقوله تعالى: {ولقد آتيناك} يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة والقدرة، كما آتينا صالحاً ما تقدّم {سبعاً} يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب أبواب من النيران السبعة وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة زيادة في حفظها وتبرّكاً بلفظها وتذكراً لمعانيها وتخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكفلنا بحفظه، والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا ما عليه أكثر المفسرين. روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة وقال: «هي السبع المثاني» . رواه أبو هريرة، وقيل: المراد سبع سور وهي الطوال. واختلف في السابعة فقيل: الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بآية البسملة، وقيل: الحواميم السبع، وقيل: سبع صحائف وهي الأسباع وقوله تعالى: {من المثاني} صفة للسبع وهو جمع واحده مثناة والمثناة كل شيء يثنى، أي: يجعل اثنين من قولك: ثنيت الشيء ثنيا، أي: عطفته وضممت إليه آخر ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني، لأنها تثنى بالفخذ والعضد ومثاني الوادي معاطفه. أما تسمية الفاتحة بالمثاني فلوجوه: الأوّل: أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة. الثاني: أنها تثنى بما بعدها فيما يقرأ معها. الثالث: أنها قسمت قسمين اثنين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» والحديث مشهور، وقد ذكرته في وجه تسميتها صلاة عند ذكرها. الرابع: أنها قسمان اثنان ثناء ودعاء وأيضاً النصف الأوّل منها حق الربوبية وهو الثناء، والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء. الخامس: أنّ كلماتها مثناة مثل {الرحمن الرحيم} ، {إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} . وأما السور والأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء كأنها تثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. تنبيه: من في {من المثاني} إما للبيان أو للتبعيض، إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال وللبيان إن أردت الأسباع. قال الزمخشريّ: ويجوز أن تكون كتب الله كلها مثاني لأنها تثنى عليه لما فيها من المواعظ المكرّرة ويكون القرآن بعضها، وقوله تعالى: {والقرآن العظيم} أي: الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفل بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى فيه أوجه أحدها: أنه من عطف بعض الصفات على بعض، أي: الجامع بين هذين النعتين. الثاني: أنه من عطف العامّ على الخاص إذ المراد بالسبع إما الفاتحة وإما الطوال، فكأنه ذكر مرّتين بجهة الخصوص ثم باندراجه في العموم. الثالث: أنّ الواو مقحمة. ولما عرف سبحانه وتعالى رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين وهو أنه آتاه سبعاً من المثاني والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا بقوله تعالى: {لا تمدّنّ عينيك} أي: لا تشغل سرّك وخاطرك بالالتفات {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} أي: أصنافاً من الكفار والزوج في اللغة الصنف وقد أوتيت القرآن العظيم الذي فيه غنى عن كل شيء. قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: من أوتي القرآن فرأى أنّ أحداً أوتي في الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً. وتأوّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبيّ صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 عليه وسلم «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» ، أي: لم يستغن. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {لا تمدّنّ عينيك} أي: لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدنيا، وقيل: أتت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في طاعة الله تعالى فقال الله تعالى: لقد أعطيتكم سبع آيات هنّ خير من هذه القوافل السبع. وقرّر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا. روي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق وقد عوست في أبوالها وأبعارها وهو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» . وقوله تعالى: {ولا تحزن عليهم} نهي له عن الالتفات إليهم إن لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار. ولما نهاه سبحانه وتعالى عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين بقوله تعالى: {واخفض جناحك} أي: ألن جانبك {للمؤمنين} أي: العريقين في هذا الوصف واصبر نفسك معهم وارفق بهم. ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالزهد في الدنيا والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم بقوله تعالى: {وقل إني أنا النذير} من عذاب الله أن ينزل عليكم إن لم تؤمنوا. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون {المبين} أي: البين الإنذار وقوله تعالى: {كما أنزلنا} أي: العذاب {على المقتسمين} قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به. وقال عكرمة: إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد: هذه السورة لي. وقال آخر: هذه السورة لي، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به. وقال مجاهد: أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر بعضهم ببعضها. وقال قتادة: أراد بالمقتسمين كفار قريش قال: سموا بذلك لأنّ أقوالهم تقسمت في القرآن فقال بعضهم: إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين. وقال ابن السائب: سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا طرق مكة، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة بعث رهطاً من أهل مكة قيل: ستة عشر، وقيل: أربعين. وقال: انطلقوا فتفرّقوا على طرق مكة حيث يمر بكم أهل الموسم فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم: إنه مجنون وليقل بعضكم: إنه كاهن وليقل بعضكم: إنه ساحر وليقل بعضكم: إنه شاعر فذهبوا وقعدوا على طرق مكة يقولون ذلك لمن يمرّ بهم من حجاج العرب وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام نصبوه حكماً فإذا جاؤوا سألوا عما قال أولئك فيقول: صدقوا فأهلكهم الله تعالى يوم بدر. وقوله تعالى: {الذين جعلوا القرآن عضين} نعت للمقتسمين وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى جزؤوا القرآن أجزاء فآمنوا بما وافق التوراة والإنجيل وكفروا بالباقي. وقال مجاهد: قسموا كتاب الله ففرقوه وبدّدوه، وقيل: كانوا يستهزؤون به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول بعضهم: سورة آل عمران لي. وقيل: اقتسموا القرآن فقال بعضهم: سحر. وقال بعضهم: شعر. وقال بعضهم: كذب. وقال بعضهم: أساطير الأوّلين. وقيل: هم أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أنّ القرآن ما يقرؤونه من كتبهم فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم سحر وشعر وأساطير الأوّلين بأنّ غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم.l تنبيه: عضين جمع عضة وهي الفرقة والعضين الفرق وتقدّم معنى جعلهم القرآن كذلك وقيل: العضة السحر بلغة قريش يقولون هو عاضه وهي عاضهة. وفي الحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة» ، أي: الساحرة والمستسحرة وقيل: هو من العضه وهو الكذب والبهتان، يقال: عضهه عضها وعضيهة، أي: رماه بالبهتان وقيل: جمع عضو مأخوذ من قولهم: عضيت الشيء أعضيه إذا فرقته وجعلته أجزاء وذلك أنهم جعلوا القرآن أعضاء مفرقة فقال بعضهم: سحر. وقال بعضهم: أساطير الأوّلين. ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه على أنه يسأل هؤلاء المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين بقوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} فيكون الضمير عائداً على المقتسمين لأنه الأقرب ويحتمل أن يعود على جميع المكلفين لأنّ ذكرهم تقدّم في قوله تعالى: {وقل إني أنا النذير المبين} (الحجر، 89) أي: لجميع الخلق قال جماعة من المفسرين: يسألون عن لا إله إلا الله. وقال أبو العالية: يسألون عما كانوا يعبدون وما أجابوا به المرسلين. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين} وبين قوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن، 39) أجيب: بأنّ النفي ينصرف إلى بعض الأوقات والاثبات إلى وقت آخر لأنّ يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف يسألون في بعضها ولا يسألون في بعض آخر. ونظيره قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات، 35) . وقال في آية أخرى: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} (الزمر، 31) ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فاصدع} أي: اجهر بعلو وشدّة فارقاً بين الحق والباطل. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد الساكنة قبل الدال والباقون بالصاد الخالصة. {بما} أي: بسبب ما {تؤمر} به. أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة. روي عن عبد الله بن عبيدة قال: كان مستخفياً حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه. {وأعرض} أي: إعراض من لا يبالي {عن المشركين} بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. قال بعض المفسرين كالبغوي: وهذا منسوخ بآية القتال، قال الرازي: وهو ضعيف لأنّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً. ولما كان هذا الصدع في غاية الشدّة عليه صلى الله عليه وسلم لكثرة ما يلقى عليه من الأذى خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله معللاً له: {إنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {كفيناك المستهزئين} أي: شرّ الذين هم عريقون في الاستهزاء وهم خمسة نفر من رؤوساء قريش الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث، ووصف سبحانه وتعالى هؤلاء بقوله تعالى: {الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر} وقيل: ليس بصفة بل مبتدأ ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وهو {فسوف يعلمون} أي: عاقبة أمرهم في الدارين. ولما ذكر سبحانه وتعالى أنّ قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون قال له تعالى: {ولقد نعلم} أي: نحقق وقوع علمنا {أنك} أي: على ما لم من الحلم وسعة البطان {يضيق صدرك} أي: يوجد ضيقه ويتجدد {بما يقولون} أي: من الاستهزاء والتكذيب بك وبالقرآن لأنّ الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال تعالى: {فسبح} ملتبساً {بحمد ربك} أي: نزهه عن صفات النقص. وقال الضحاك: قل سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس: فصلّ بأمر ربك. {وكن من الساجدين} أي: من المصلين. روي أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» . وقدّمت معناه في سورة البقرة. تنبيه: اختلف الناس كيف صار الإقبال على الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن فقال العارفون المحققون: إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات يتنوّر باطنه ويشرق عليه وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها. وقال بعض الحكماء: إذا نزل بالإنسان بعض المكاره ففزع إلى الطاعات فكأنه يقول: يا رب يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات فأنا عبدك بين يديك فافعل بي ما تشاء {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قال ابن عباس: يريد الموت، وسمى الموت يقيناً لأنه أمر متيقن وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} (مريم، 31) . وروى البغوي بسنده عن ابن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحى إليّ أن {سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} » . فإن قيل: أي: فائدة لهذا التوقيت مع أنّ كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ أجيب: بأنّ المراد منه واعبد ربك في جميع زمان حياتك فلا تخل لحظة من لحظات الدنيا بهذه العبادات. وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها أو قال شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون» . وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم. حديث موضوع. سورة النحل مكية إلا قوله تعالى: {وإن عاقبتم} إلى آخر السورة وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية وقال آخرون: من أوّلها إلى قوله: {كن فيكون} مدني وما سواه مكي. وعن قتادة بالعكس، وتسمى سورة النعم والمقصود من هذه السورة الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص وأدل ما فيها على هذا المعنى أمر النحل، لما ذكر من شأنها في دقة الفهم في ترتيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 بيوتها ورحبها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرج منها من أعسالها وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة وغير ذلك من الأمور ووسمها بالنعم واضح وهي مائة وثمانية وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف. {بسم الله} أي: المحيط بدائرة الكمال فما شاء فعل {الرحمن} أي: الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره. {الرحيم} أي: الذي خص من شاء بنعمته النجاة مما يسخطه بما يراه وقوله تعالى: {أتى أمر الله} فيه وجهان أحدهما أنه ماض لفظاً مستقبل معنى إذ المراد به يوم القيامة وإنما أبرزه في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به. والثاني: أنه على بابه والمراد مقدّماته وأوائله وهو نصر رسوله صلى الله عليه وسلم أي: جاء أمر الله ودنا وقرب فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع. يقال لمن طلب الإعانة وقرب حصولها: جاءك الغوث، أي: أتى أمر الله وعداً {فلا تستعجلوه} وقوعاً قبل مجيئه فإنه واقع لا محالة روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى» . قال ابن عباس: كان مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة. ولما مرّ جبريل بأهل السموات مبعوثاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: الله أكبر قامت الساعة. وروي أنه لما نزلت {اقتربت الساعة} قال (القمر، 1) قال الكفار بعضهم لبعض: إنّ هذا، أي: محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنّ القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تقولون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئاً فنزل {اقترب للناس حسابهم} (الأنبياء، 1) فاشفقوا وانتظروا فلما امتدّت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوّفنا به فنزل {أتى أمر الله} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل {فلا تستعجلوه} فاطمأنوا فكأن الكفار قالوا: سلمنا لك يا محمد إلا أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله تعالى فتخلصنا من هذا العذاب المحكوم به فأجابهم الله تعالى بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزيهاً له {وتعالى عما يشركون} أي: تبرأ سبحانه وتعالى بالأوصاف الحميدة عن أن يكون له شريك في ملكه. وقرأ حمزة والكسائي أتى بالإمالة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح. وقرأ حمزة والكسائي عما يشركون في الموضعين بالتاء على وفق قوله فلا تسعجلوه والباقون بالياء على الغيبة على تلوين الخطاب أو على أنّ الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم. ولما أجاب سبحانه وتعالى الكفار عن شبهتهم بقوله تنزيهاً لنفسه عما يشركون وكان الكفار قالوا: هب أنّ الله تعالى قضى على بعض عبيده بالشرّ وعلى آخرين بالخير ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله تعالى؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله تعالى وأحكامه في ملكه وملكوته فأجابهم الله تعالى بقوله: {ينزل الملائكة} قال ابن عباس: يريد بالملائكة جبريل وحده. قال الواحدي: يسمى الواحد بالجمع إذا كان ذلك الواحد رئيساً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي والباقون بتشديدها والمراد {بالروح} الوحي أو القرآن فإنّ القلوب تحيا به من موت الجهالات وقوله تعالى: {من أمره} أي: بإرادته حال من الروح {على من يشاء من عباده} وهم الأنبياء {أن أنذروا} أي: خوّفوا الكافرين بالعذاب وأعلموهم {أنه} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 أي: الشأن {لا إله إلا أنا} أي: لا إله غيري وقوله تعالى: {فاتقون} أي: خافوني رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود. تنبيه: في قوله تعالى: {أن أنذروا} ثلاثة أوجه أحدها: أنها المفسرة لأنّ الوحي فيه ضرب من القول والإنزال بالروح عبارة عن الوحي قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} (الشورى، 52) . الثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. الثالث: أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ووصلت بالأمر كقولهم: كتبت إليه بأن قم والآية تدل على أنّ نزول الوحي بواسطة الملائكة وأنّ النبوّة عطاءة. ولما وحد سبحانه وتعالى نفسه ذكر الآيات الدالة على وحدانيته من حيث أنها تدلّ على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة بقوله تعالى: {خلق السموات} أي: التي هي السقف المظل {والأرض} أي: التي هي البساط المقل. {بالحق} أي: أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته {تعالى} أي: تعالياً فات الوصف {عما يشركون} به من الأصنام. ولما كان خلق السموات والأرض غيباً لتقدّمه وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة فتكون أقوى في الدلالة على وحدانيته تعالى قال تعالى: {خلق الإنسان} أي: هذا النوع {من نطفة} أي: آدم عليه السلام من مطلق الماء ومن تفرع منه بعد زوجه حوّاء من ماء مقيد بالدفق إلى أن صيره قوياً شديداً {فإذا هو خصيم} أي: شديد الخصومة {مبين} أي: بينها. روي أنّ أبيّ بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: تزعم يا محمد أنّ الله يحيي هذا العظم بعدما قد رمّ فنزلت هذه الآية، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى: {قال من يحيي العظام وهي رميم} (يس، 78) . قال الخازن في تفسيره: والصحيح أنّ الآية عامة في كل ما يقع فيه الخصومة في الدنيا ويوم القيامة وحملها على العموم أولى. ولما كان أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات وأشرفها الأنعام ذكرها بقوله تعالى: {والأنعام} أي: الأزواج الثمانية الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، ونصبه بفعل يفسره {خلقها} . قال الواحدي: تم الكلام عند قوله: {والأنعام خلقها} ثم ابتدأ فقال: {لكم فيها دفء} أي: ما يدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار. قال: ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله: {والأنعام خلقها لكم} ثم ابتدأ فقال تعالى: {فيها دفء} . قال الرازي: قال صاحب النظم: وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله تعالى: {خلقها} والدليل عليه أنه عطف عليه {ولكم فيها جمال} والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما ذكر تعالى الأنعام ذكر لها أنواعاً من المنافع الأوّل: قوله تعالى: {لكم فيها دفء} . والنوع الثاني: قوله تعالى: {ومنافع} أي: ولكم فيها منافع من نسلها ودرها وركوبها والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وإنما عير تعالى عن ذلك بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم لأنّ الدر والنسل قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات، فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل. النوع الثالث: قوله تعالى: {ومنها تأكلون} فإن قيل: تقديم الظرف يفيد الحصر لأنّ تقديم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 الظرف موذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. أجيب: بأنّ الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأمّا الأكل من غيرها كالدجاج والبط والأوز وصيد البرّ والبحر فليس بمعتد به في الأغلب، وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الغالب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قيل: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم قدّمت منفعة اللباس عليه؟ أجيب: بأنّ منفعة اللباس أكثر من منفعة الأكل فلهذا قدّمت على منفعة الأكل. {ولكم فيها جمال} أي: زينة {حين تريحون} أي: تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشيّ {وحين تسرحون} أي: تخرجونها بالغداة إلى المرعى، فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين وتجل أهلها في أعين الناظرين إليها. فإن قيل: لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ أجيب: بأنّ الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع ثم تأخذ في التفرق والانتشار للمرعى في البرية فليس في التسريح تجمل كما في الإراحة. النوع الرابع: قوله تعالى: {وتحمل أثقالكم} جمع ثقل وهو متاع المسافر. {إلى بلد} أي: غير بلدكم أردتم السفر إليه {لم تكونوا بالغيه} أي: غير واصلين إليه على غير الإبل {إلا بشق الأنفس} أي: إلا بكلفة ومشقة والشق بكسر الشين نصف الشي، أي: لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوّة النفس وذهاب نصفها. وقال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشأم وإلى مصر قال الواحدي: والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل شق عليكم. وخص ابن عباس هذه البلاد لأنّ متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد. فإن قيل: المراد من قوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم} الإبل فقط بدليل أنه وصفها إلى آخر الآية بقوله: {وتحمل أثقالكم إلى بلد} وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل؟ أجيب: بأنّ المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصل في الكل وبعضها مختص بالبعض والدليل عليه أن قوله: {ولكم فيها جمال} حاصل في البقر والغنم، مثل حصوله في الإبل. تنبيه: احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فإنها تدل على أنّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الإبل ومثبتوا الكرامات يقولون: إنّ الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة، وكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلاً وإذا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور إذ لا قائل بالفرق، وأجاب المثبتون بأنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات {إنّ ربكم} أي: الموجد لكم والمحسن إليكم {لرؤوف} أي: بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بما يرضيه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ. {رحيم} أي: بليغ الرحمة بسبب وبغير سبب. وقوله تعالى: {والخيل} أي: الصاهلة وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط. {والبغال} أي: المتولدة بينها وبين الحمير {والحمير} الناهقة عطف على الأنعام، أي: وخلق هذه الحيوانات {لتركبوها} أي: لأجل أن تركبوها وفي نصب قوله تعالى: {وزينة} أوجه أحدها: أنه مفعول من أجله وإنما وصل الفعل إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 الأوّل باللام في قوله تعالى: {لتركبوها} وإلى هذا بنفسه لاختلاف شرطه في الأوّل وهو عدم اتحاد الفاعل فإنّ الخالق هو الله تعالى والراكب المخاطبون بخلاف الثاني. الثاني: أنها منصوبة على الحال وصاحب الحال إمّا مفعول خلقها وإمّا مفعول لتركبوها فهو مصدر أقيم مقام الحال. الثالث: أن ينتصب بتقدير فعل قدّره الزمخشري بقوله وخلقها زينة وقدّره ابن عطية وغيره بقولهم: وجعلها زينة. الرابع: أنها مصدر لفعل محذوف، أي: وتتزينون بها زينة. وتنبيه: احتج القائلون وهم ابن عباس والحاكم وأبو حنيفة ومالك بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية، قالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر وحيث لم يذكره تعالى علمنا أنه يحرم أكله لأنّ الله تعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال تعالى: {ومنها تأكلون} (النحل، 5) وخص هذه بالركوب فقال: {لتركبوها} فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل واحتج القائلون بإباحة أكل اللحم من الخيل وهم سعيد بن جبير وعطاء وشريح والحسن والشافعي بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة» . وبما روي عن جابر رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل» . وفي رواية: «أكلنا في زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي» هذه رواية البخاري ومسلم. وفي رواية أبي داود قال: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابنا مخمصة فنهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل» . وأجابوا عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أنّ منفعتها مختصة بذلك وإنما خص هاتين المنفعتين بالذكر لأنهما معظم المقصود ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام: {وتحمل أثقالكم} (النحل، 70) ولم يلزم من ذلك تحريم الأثقال على الخيل. وقال الواحدي: لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذا الحيوان لكان تحريم أكلها معلوماً في مكة لأجل أنّ هذه السورة مكية ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامّة المفسرين والمحدّثين أنّ لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر، أي: وذلك في المدينة باطلاً لأنّ التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم لم يكن لتخصيص هذا التحريم بهذه السنة فائدة، قال الرازي: وهذا جواب حسن متين. وقال ابن الخازن: والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أنّ السنة مبينة للكتاب. ولما كان نص الآية يقتضي أنّ الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة وكان الأكل مسكوتاً عنه ودار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت السنة بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، أخذنا به جمعاً بين النصين. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأنواع من الحيوان ذكر باقيها على سبيل الإجمال بقوله تعالى: {ويخلق ما لا تعلمون} وذلك لأنّ أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبه المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية. وروى عطاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إنّ عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل كل يوم ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نفضة تقع من ريشه تقع كذا وكذا ألف ملك يدخل كل يوم منهم سبعون ألفاً البيت المعمور وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة سبحان من له هذا الملك العظيم، قال تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} (المدثر/ 31) . وفسر قتادة الآية بالسوس في النبات والدود في الفواكه وفسرها بعضهم بما أعدّ الله تعالى لأهل الجنة في الجنة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولما شرح الله تعالى دلائل التوحيد قال تعالى: {وعلى الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {قصد السبيل} أي: بيان الطريق المستقيم إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة والمراد بالسبيل الجنس ولذلك أضاف إليها القصد. وقال: {ومنها} أي: السبيل {جائر} أي: حائد عن الاستقامة. فإن قيل: هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يجب عليه الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار كما قال به المعتزلة لأنه تعالى قال: {وعلى الله قصد السبيل} . وكلمة على للوجوب. قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران، 97) أجيب: بأنّ المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح. فإن قيل: لم غير أسلوب الكلام حيث قال في الأوّل: {وعلى الله قصد السبيل} . وفي الثاني: {ومنها جائر} دون وعليه جائر؟ أجيب: بأنّ المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. ثم قال تعالى: {ولو شاء} هدايتكم {لهداكم} إلى قصد السبيل {أجمعين} فتهتدون إليه باختيار منكم. قال الرازي: وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى ما شاء هداية الكفار وما أراد منهم الإيمان لأنّ كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. ولما ذكر تعالى نعمه على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة عقبه بذكر إنزال المطر لأنه من أعظم النعم على عباده فقال: {هو} أي: لا غيره مما تدعى فيه الإلهية {الذي أنزل} أي: بقدرته الباهرة {من السماء} إمّا من نفسها أو من غيرها أو من جهتها أو من السحاب كما هو مشاهد {ماء} أي: واحداً تحسونه بالذوق والبصر {لكم منه} أي: من ذلك الماء {شراب} أي: تشربونه وقد بيّن تعالى في آية أخرى أنّ هذه النعمة جليلة فقال: {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} (الأنبياء، 30) . فإن قيل: ظاهر هذا أنّ شرابنا ليس إلا من المطر؟ أجيب: بأنه تعالى لم ينف أن يشرب من غيره وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر سكن هناك بدليل قوله في سورة المؤمنون: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} (المؤمنون، 18) . {ومنه} أي: من الماء {شجر} أي: ينبت بسببه والشجر هنا كل نبات من الأرض حتى الكلأ وفي الحديث: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» يعني الكلأ. فإن قيل: قال المفسرون: في قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن، 6) المراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق؟ أجيب: بأن عطف الجنس على النوع وبالضدّ مشهور وأيضاً فلفظ الشجر يشعر بالاختلاط يقال: تشاجر القوم إذا اختلط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 أصوات بعضهم ببعض وتشاجرت الرياح إذا اختلطت وقال تعالى: {حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء، 65) ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ. فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه ويصح أن يكون المراد بالشجر هنا ما له ساق لأنّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وحينئذٍ فإطلاق الشجر على الكلأ مجاز. {فيه} أي: الشجر {تسيمون} أي: ترعون مواشيكم يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت. قال الزجاج: أخذ ذلك من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره: لأنها تعلم الإرسال في المرعى. ولما ذكر تعالى الحيوانات تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً بقوله تعالى: {ينبت} أي: الله {لكم به} أي: بذلك الماء {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} فبدأ بذكر الزرع وهو الحبّ الذي يقتات به كالحنطة والشعير والأرز لأن به قوام البدن بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن وبارك فيه وثلث بذكر النخيل لأنّ ثمرها غذاء وفاكهة وختم بذكر الأعناب لأنه شبيه النخيل في المنفعة من التفكه والتغذية ثم ذكر تعالى سائر الثمار إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته وجزيل نعمته على عباده لأنّ الحبة الواحدةتقع في الطين فإذا مضى عليها مقدار معين من الوقت نفذ في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنفتح الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم تخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إنّ تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإنّ قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إنّ في ذلك لآية} بينة على أنّ فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده وإنما تحصل معرفة ذلك {لقوم يتفكرون} فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته فيؤمنون. ثم ذكر سبحانه وتعالى أشياء تدلّ على أنه الفاعل المختار بقوله تعالى: {وسخر لكم} أي: أيها الناس لإصلاح أحوالكم {الليل} للسكنى {والنهار} للمعاش. ثم ذكر آية النهار فقال: {والشمس} أي: لمنافع اختصاصها ثم آية الليل فقال: {والقمر} لأمور علقها به {والنجوم} أي: الآيات نصبها لها. ثم نبه على تغيرها بقوله تعالى: {مسخرات} أي: بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها {بأمره} أي: بإرادته سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم دلالة على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار ولو شاء تعالى لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب. وقرأ ابن عامر برفع الأربع وهي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات على الابتداء والخبر ووافقه حفص في الاثنين الأخيرين والنجوم مسخرات لا غير والباقون بالنصب عطفاً على ما قبله في الثلاثة الأول وفي الرابع وهو مسخرات على الحال. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأشياء وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم ذلك بقوله: {إنّ في ذلك} أي: التسخير العظيم {لآيات} أي: دلالات متعدّدة كثيرة عظيمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 {لقوم يعقلون} أي: يتدبرون فيعلمون أنّ جميع الخلق تحت قدره وقدرته وتسخيره لما أراده منهم. وقوله تعالى: {وما ذرأ} أي: خلق {لكم في الأرض} عطف على الليل، أي: وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. وقيل: إنه في موضع نصب بفعل محذوف، أي: وخلق هكذا قدّره أبو البقاء وكأنه استبعد تسلط سخر على ذلك فقدّر فعلاً لائقاً. وقوله تعالى: {مختلفاً} حل منه. وقوله تعالى: {ألوانه} أي: في الخلقة والهيئة والكيفية فاعل به {إنّ في ذلك لآية لقوم يذّكّرون} أي: يتعظون. تنبيه: ختم تعالى الآية الأولى بالتفكر لأنّ ما فيها يحتاج إلى تأمّل ونظر، وختم الثانية بالعقل لأنّ مدار ما تقدّم عليه وختم الثالثة بالتذكر لأنه نتيجة ما تقدّم وجمع الآيات في الثانية دون الأولى والثالثة لأن ما نيط بها أكثر ولذلك ذكر معها العقل. ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإله أولاً بأجرام السموات والأرض وثانياً ببدن الإنسان وثالثاً بعجائب خلقة الحيوان ورابعاً بعجائب النبات ذكر خامساً عجائب العناصر وبدأ بالاستدلال بعنصر الماء بقوله تعالى: وهو أي: لا غيره. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها {الذي سخر البحر} أي: ذلله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكوّن الجواهر وغير ذلك قال علماء الهيئة: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء فذاك هو البحر المحيط وجعل في هذا الربع المسكون سبعة أبحر قال تعالى: {والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر} (لقمان، 27) والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار فمن تسخيرها للخلق ما مر ومنه جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها بالركوب وبالغوص وبغير ذلك فمنافع البحار كثيرة وذكر سبحانه وتعالى منها هنا ثلاثة منافع الأولى قوله تعالى: {لتأكلوا منه} أي: بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك. {لحماً طرياً} لا تجد أنعم منه ولا ألين وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً ففي ذلك دلالة على كمال قدرته تعالى وذلك أن السمك لو كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح اللحم الطري في غاية العذوبة علم أنه يخلق الله وقدرته لا بحسب الطبع وعلم بذلك أنّ الله تعالى قادر على إخراج الضدّ من الضدّ. المنفعة الثانية: قوله تعالى: {وتستخرجوا منه} أي: بجهدكم في الغوص وما يتبعه {حلية} أي: اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن، 22) . {تلبسونها} أي: نساؤكم وهنّ بعضكم فكأن اللابس أنتم ولأنّ زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة: قوله تعالى: {وترى الفلك} أي: السفن {مواخر} أي: تمخر الماء، أي: تشقه بجريها {فيه} أي: مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر بريح واحدة. وقال مجاهد: تمخر الريح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت. وقال الحسن: مواخر يعني مملوءة متاعاً. وقوله تعالى: {ولتبتغوا} أي: لتطلبوا عطف على تأكلوا وما بينهما إعتراض. وقيل: عطف على محذوف تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا {من فضله} أي: من سعة رزقه بركوبها للتجارة وللوصول إلى البلدن الشاسعة {ولعلكم تشكرون} الله على هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره. ثم إنه تعالى ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض بقوله تعالى: {وألقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 في الأرض رواسي} أي: جبالاً ثوابت {أن تميد} أي: كراهة أن تميل وتضطرب {بكم} وقيل: لئلا تميل بكم والأوّل قدره البصريون والثاني قدّره الكوفيون، وقد تقدّم مثل ذلك في قوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} (النساء، 176) . روي أن الله تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت وقوله تعالى: {وأنهاراً} عطف على رواسي لأنّ الإلقاء بمعنى الخلق والجعل. ألا ترى أنه تعالى قال في آية أخرى: {وجعل فيها رواسي من فوقها} (فصلت، 10) . وقال تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} (طه، 39) . وذكر تعالى الأنهار بعد الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال. {و} جعل لكم فيها {سبلاً} أي: طرقاً مختلفة تسلكون فيها في أسفاركم والتردّد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان {لعلكم تهتدون} أي: بتلك السبل إلى مقاصدكم وإلى معرفة الله تعالى فلا تضلون. {و} جعل لكم فيها {علامات} أي: من الجبال وغيرها جمع علامة تهتدون بها في أسفاركم. ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظنّ أن المخاطب مخصوص والأمر لا يتعدّاه فقال تعالى: {وبالنجم} أي: الجنس {هم} أي: أهل الأرض كلهم وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها لفرط معرفتهم بالنجوم. {يهتدون} وقدّم الجارّ تنبيهاً على أن الدلالة بغيره بالنسبة إليه سافلة، وقيل: المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. وقيل: الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. ولما ذكر سبحانه وتعالى من عجائب قدرته وبديع خلقه ما ذكر على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدّمة كلها دالة على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه تعالى المنفرد بخلقها جميعها قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام العاجزة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء. {أفمن يخلق} أي: هذه الأشياء الموجودة وغيرها {كمن لا يخلق} شيئاً من ذلك بل على إيجاد شيء ما فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحقها وهو الله تعالى. فإن قيل: ذلك إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فكان حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ أجيب: بأنهم لما جعلوا غير الله مثل الله تعالى في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فانكر عليهم ذلك بقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} . فإن قيل: من لا يخلق إن أريد به جميع ما عبد من دون الله كان ورود من واضحاً لأنّ العاقل يغلب على غيره فيعبر عن الجميع بمن ولو جيء أيضاً بما لجاز وإن أريد به الأصنام فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟ أجيب: بأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله تعالى على أثره: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} (النحل، 20) وإلى قول الشاعر: *بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ... فقلت ومثلي بالبكاء جدير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 *أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير *وكل قطاة لا تعير جناحها ... تعيش بذل والجناح قصير فأوقع من على سرب لما عامله معاملة العقلاء، وقيل: للمشاكلة بينه وبين من يخلق، وقيل: المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده كقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها} (الأعراف، 195) يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف تصح لهم العبادة إلا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا. ولما كان هذا القدر ظاهراً غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى تدقيق الفكر والنظر بل مجرّد التذكر فيه كفاية لمن فهم وعقل. ختم تعالى ذلك بقوله تعالى: {أفلا تذكرون} بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه فتؤمنون. تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنّ العبد غير خالق لأفعال نفسه لأنه تعالى ميز نفسه عن الأشياء التي يعبدونها بصفة الخالقية لأنّ الغرض من قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} بيان تميزه عن هذه الأشياء بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والعبودية لكونه تعالى خالقاً وهذا يقتضي أنّ العبد لو كان خالقاً لشيء لوجب كونه إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنّ العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد، ولما كانت المقدورات لا تحصى وأكثرها نعم على العباد مذكرة لهم بخالقهم قال ممتناً عليهم بإحسانه من غير سبب منهم. {وإن تعدّوا} كلكم {نعمت الله} أي: إنعام الملك الأعظم الذي لا رب غيره عليكم من صحة البدن وعافية الجسم وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم وبطش اليدين ومشى الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليكم وما خلق لكم مما تحتاجون إليه من أمر الدنيا حتى لو رام أحدكم معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عنها وعن معرفتها وحصرها فإن نتبعها يفوت الحصر. {لا تحصوها} أي: لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كثرتها وإعراضكم جملة عن شكرها والعبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات وبالغ في شكر نعم الله تعالى فإنه يكون مقصراً لأنّ نعم الله كثيرة وأقسامها عظيمة وعقل الخلق قاصر عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غاياتها لكن الطريق إلى ذلك أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها. {إنّ الله لغفور} أي: لتقصيركم في القيام بشكرها يعني النعمة كما يجب عليكم {رحيم} بكم فوسع عليكم النعم ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير والمعاصي. وقوله تعالى: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} فيه وجهان: الأوّل: أنّ الكفار مع كفرهم كانوا ليسرون أشياء وهو ما كانوا يمكرون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلنون، أي: وما يظهرون من أذاه صلى الله عليه وسلم فأخبر الله تعالى بأنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا يخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت. والوجه الثاني: أنه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدّمة ذكر في هذه الآية أنّ الإله الذي يستحق العبادة يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وجهرها وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة. ثم وصف تعالى هذه الأصنام بصفات الأولى مذكورة في قوله تعالى: {والذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: الأصنام وتعتقدون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 أنها آلهة وقرأ عاصم بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب {لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} أي: يصوّرون من الحجارة وغيرها. فإن قيل: قوله تعالى في الآية المتقدّمة {أفمن يخلق كمن لا يخلق} يدلّ على أنّ هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا هو المعنى المذكور في تلك الآية المذكورة فما فائدة هذا التكرار؟ أجيب: بأنّ فائدته أنّ المعنى المذكور في الآية المتقدّمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون كغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار فكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً، ثم بيّن ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة كغيرها. الصفة الثانية قوله تعالى: {أموات} أي: جمادات لا روح لها {غير أحياء} إذ الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت. فإن قيل: علم من قوله: أموات أنها غير أحياء فما الفائدة في ذكره؟ أجيب: بأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً وأجساد الحيوانات التي تبعث بعد موتها وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة وذلك أعرق في موتها. وقيل: ذكر للتأكيد لأنّ الكلام مع الكفار الذي يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغبي فقد يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه الإعلام بكون المخاطب في غاية الغباوة في أنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وما يشعرون} أي: الأصنام {أيان} أي: وقت {يبعثون} أي: وما تعلم هؤلاء الآلهة متي تبعث الأحياء تهكماً بحالها لأنّ شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حيّ إلا الحيّ القيوم سبحانه وتعالى. وقيل: الضمير راجع للأصنام. قال ابن عباس: إنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وقيل: المراد بقوله تعالى: {والذين تدعون من دون الله} الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله تعالى: إنهم أموات، أي: لا بد لهم من الموت غير أحياء، أي: باقية حياتهم وما يشعرون، أي: لا علم لهم بوقت بعثهم. ولما زيف سبحانه وتعالى طريقة عبدة الأصنام وبيّن فساد مذهبهم قال تعالى: {إلهكم} أي: أيها الخلق جميعاً المعبود بحق {إله} أي: متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أوان وكل زمان وكل مكان {واحد} لا يقبل التعدّد الذي هو مثال النقص بوجه من الوجوه لأنّ التعدّد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية. {فالذين} أي: فتسبب عن هذا أنّ الذين {لا يؤمنون بالآخرة} أي: دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة {قلوبهم منكرة} أي: جاحدة للوحدانية {وهم} أي: والحال أنهم بسبب إنكار ذلك {مستكبرون} أي: متكبرون عن الإيمان بها {لا جرم} أي: حقاً {أن الله يعلم} علماً غيبياً وشاهدياً {ما يسرون} أي: ما يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس {وما يعلنون} أي: يظهرون فيجاز يهم ذلك. ولما كان في ذلك معنى التهديد علل ذلك بقوله تعالى: {إنه} أي: العالم بالسر والعلن {لا يحب المستكبرين} أي: على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنى عدم محبتهم أنه يعاقبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله، إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً؟ قال: إنّ الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس» ومعنى بطر الحق أنه يستكبر عند سماع الحق فلا يقبله ومعنى غمص الناس استنقاصهم وازدراؤهم. ولما بالغ سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام قال تعالى عاطفاً على قلوبهم منكرة: {وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وقوله تعالى: {ما} استفهامية و {ذا} موصولة، أي: ما الذي {أنزل ربكم} على محمد صلى الله عليه وسلم واختلف في قائل هذا القول فقيل: كلام بعضهم لبعض، وقيل: قول المسلمين لهم، وقيل: قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم {قالوا} مكابرين في إنزال القرآن هو {أساطير} أي: آكاذيب {الأوّلين} مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضتهم أقصر سورة منه مع علمهم بأنهم أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدّم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه. فإن قيل: هذا كلام متناقض لأنه لا يكون منزلاً من ربهم وأساطير؟ أجيب: بأنهم قالوه على سبيل السخرية كقوله: {إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء، 27) واللام في قوله تعالى: {ليحملوا} لام العاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً} (القصص، 80) وذلك لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأوّلين كان عاقبتهم بذلك أن يحملوا {أوزارهم} أي: ذنوب أنفسهم وإنما قال تعالى: {كاملة} لئلا يتوهم أنه يكفر عنهم شيء بسبب البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البرّ التي عملوها في الدنيا بل يعاقبون بكل أوزارهم {يوم القيامة} الذي لا شك فيه ولا محيص عن إتيانه. قال الرازي: وهذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة {و} ليحملوا أيضاً {من} جنس {أوزار} الجهلة الضعفاء {الذين يضلونهم} وقوله تعالى: {بغير علم} حال من مفعول يضلونهم، أي: يضلون من يعلم أنهم ضلال أو من الفاعل وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل وإنما حصل للرؤوساء الذين أضلوا غيرهم وصدّوهم عن الإيمان مثل أوزار الأتباع لأنهم دعوهم إلى الضلال فاتبعوهم فاشتركوا في الإثم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» أخرجه مسلم. ومعنى الآية والحديث أنّ الرئيس والكبير إذا سنّ سنة حسنة أو سيئة قبيحة فتبعه عليها جماعة فعملوا بها فإن الله تعالى يعطيهم ثوابه وعقابه حتى يكون ذلك الثواب والعقاب مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع الذين عملوا بالسنة الحسنة أو القبيحة، وليس المراد بأن الله يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الأتباع إلى الرؤوساء ويدل لذلك قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام، 164) . وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم، 39) . تنبيه: قال الواحدي: لفظة من في قوله تعالى: {ومن أوزار} ليست للتبعيض لأنها لو كانت كذلك لنقص عن الأتباع بعض الأوزار وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» لكنها للجنس كما قدّرت ذلك في الآية الكريمة، أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقيل: إنها للتبعيض وجرى عليه البيضاوي تبعاً للزمخشري. {ألا ساء} أي: بئس {ما يزرون} أي: يحملون حملهم هذا وفي هذا وعيد وتهديد لهم. فإن قيل: إنّ الله تعالى حكى هذه الشبهة عن القوم ولم يجب عنها بل اقتصر على محض الوعيد فما السبب في ذلك؟ أجيب: بأنّ السبب فيه أنه تعالى بيّن كون القرآن معجزاً بطريقين: الأوّل: أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم أولاً بكل القرآن وثانياً بعشر سور وثالثاً بسورة فعجزواعن المعارضة وذلك يدل على كونه معجزاً الثاني: أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي قوله تعالى: {اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} (الفرقان، 50) وأبطلها بقوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض} (الفرقان، 6) . ومعناه أنّ القرآن يشتمل على الإخبار بالغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض. ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين وتكرّر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرّد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة ثم إنه سبحانه وتعالى بالغ في وصف وعيد هؤلاء الكفار بقوله تعالى: أي: ممن رأوا آثارهم في ديارهم {فأتى الله} أي: أمره {بنيانهم من القواعد} أي: من جهة العمد التي بنوا عليها مكرهم {فخرّ} أي: سقط {عليهم السقف من فوقهم} وصار سبب هلاكهم وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم. والباقون بكسر الهاء وضم الميم. وأمّا الوقف فحمزة بضم الهاء على أصله والباقون بالكسر. {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي: من جهة لا تخطر ببالهم وهذا على سبيل التمثيل، أي: التشبيه والتخييل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرسل فجعل الله هلاكهم فيما أبرموه كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا نحوه من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً، وقيل: هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء قال ابن عباس: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب: كان طوله فرسخين فأهب الله تعالى الريح فألقت رأسه في البحر وخرّ عليهم الباقي وهم تحته قال البغوي: ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية فذلك قوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي: أتى أمره فخرب بنيانهم من أصلها فخرّ عليه وعلى قومه السقف، أي: أعلى البيوت من فوقهم فهلكوا. تنبيه: قال ابن الخازن في قول البغوي: وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية نظر لأنّ صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذين نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان ببابل من العرب طائفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 قديمة قبل إبراهيم عليه السلام انتهى. وقد يقال: إنه كان لسان أكثر الناس بالسريانية فلا ينافي ذلك. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} والسقف من فوقهم؟ أجيب: بأنهم قد لا يكونون تحته فلما قال تعالى: {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} دل على أنهم كانوا تحته وحينئذٍ يفيد هذا الكلام بأنّ الأبنية قد تهدّمت وهم ماتوا تحتها. ولما ذكر الله تعالى حال أصحاب المكر في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة بقوله عز وجلّ: { ثم يوم القيامة يخزيهم} أي: يذلهم ويهينهم بعذاب النار {ويقول} لهم الله تعالى على لسان الملائكة توبيخاً: {أين شركائي} أي: في زعمكم واعتقادكم {الذين كنتم تشاقون} أي: تخالفون المؤمنين {فيهم} أي: في شأنهم وقرأ نافع بكسر النون والباقون بفتحها {قال} أي: يقول {الذين أوتوا العلم} أي: من الأنبياء والمؤمنين وقال ابن عباس: يريد الملائكة {إنّ الخزي} أي: البلاء المذل {اليوم} أي: يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة {والسوء} أي: كل ما يسوء {على الكافرين} أي: الغريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، وفائدة قولهم إظهار الشماتة، وزيادة الإهانة، وحكايته لتكون لطفاً لمن سمعه. تنبيه: في الآية دلالة على أن ماهية الخزي وماهية السوء في يوم القيامة مختصة بالكافرين وهذا ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم ويؤكد هذا قول موسى عليه السلام: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} (طه، 48) ثم إنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكافرين من وجه آخر فقال سبحانه وتعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة} أي: يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه عليهم السلام. وقرأ حمزة في هذه الآية وفي الآية الآتية بالياء في الموضعين على التذكير لأن الملائكة ذكور والباقون بالتاء على التأنيث لأن لفظ الجمع مؤنث. {ظالمي أنفسهم} أي: بأن عرضوها للعذاب المخلد بكفرهم {فالقوا السلم} أي: استسلموا وانقادوا حين عاينوا الموت قائلين: {ماكنا نعمل من سوء} أي: شرك وعدوان فتقول لهم الملائكة: {بلى} أي: بل كنتم تعملون أعظم السوء ثم علل تكذيبهم بقوله تعالى: {إنّ الله عليم بما كنتم تعملون} أي: فلا فائدة لكم في إنكاركم فيجازيكم به. ولمّا كان هذا الفعل مع العلم سبباً لدخول جهنم قال تعالى: {فادخلوا} أي: أيها الكفرة {أبواب جهنم} أي: أبواب طبقاتها ودركاتها {خالدين} أي: مقدّرين الخلود {فيها} أي: جهنم لا يخرجون منها وإنما قال تعالى ذلك لهم ليكون أعظم في الخزي والغم وفي ذلك دليل على أنّ الكفار بعضهم أشدّ عذاباً من بعض ثم قال تعالى: {فلبئس مثوى} أي: مأوى {المتكبرين} عن قبول التوحيد وسائر ما آتت به الرسل. ولمّا بيّن تعالى أحوال المكذبين ذكر أحوال الصدّيقين بقوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا} أي: خافوا عقاب الله {ماذا} أي: أيّ شيء {أنزل ربكم قالوا خيراً} أي: أنزل خيراً وذلك أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه فيقولون: ساحر شاعر كذاب مجنون ولو لم تلقه خيرلك فيقول السائل: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وألقاه فيدخل مكة فيرى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبيّ مبعوث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 من الله تعالى فذلك قوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم} الآية فإن قيل: لم رفع الأول وهو قولهم أساطير الأوّلين ونصب الثاني وهو قولهم خيراً أجيب: بأنه ذكر ذلك للفصل بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، وذلك أنهم لمّا سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلاً. ولمّا سألوا المؤمنين عن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا، وطابقوا الجواب عن السؤال بيناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال، فقالوا: {خيراً} أي: أنزل خيراً، وتمّ الكلام عند قوله {خيراً} فهو وقف تامّ، ثم ابتدأ بقوله تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} أي: حياة طيّبة أو أنّ للذين أتوا بالأعمال الصالحات الحسنة لهم ثوابها حسنة مضاعفة من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، أو أنه تعالى بيّن أنّ اعترافهم بذلك الإحسان في هذه الدنيا حسنة أي: جزاء لهم على إحسانهم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرخمن، 60) ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال أخبر عن حالهم في الآخرة فقال: {ولدار الآخرة} أي: الجنة {خير} أي: ما أعدّ الله لهم في الجنة خير مما حصل لهم في الدنيا، ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} أي: دار الآخرة، فحذف لتقدّم ذكرها وقال الحسن: هي الدنيا لأنّ أهل التقوى يتزوّدون فيها للآخرة. وقوله تعالى: {جنات} أي: بساتين {عدن} أي: إقامة خبر مبتدأ محذوف ويصح أن يكون المخصوص بالمدح {يدخلونها} أي: تلك الجنات حالة كونها {تجري من تحتها} أي: من تحت غرفها {الأنهار} ثم كأنّ سائلاً سأل عما فيها من الثمار وغيرها. فأجيب بأنّ {لهم فيها ما يشاؤون} أي: ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مع زيادات غير ذلك، فهذه الآية تدل على حصول كل الخيرات والسعادات فهي أبلغ من قوله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف، 71) لأن هذين القسمين داخلان في قوله تعالى: {لهم فيها ما يشاؤون} مع أقسام أخرى وعلى أنّ الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا، لأنّ قوله: {لهم فيها ما يشاؤون} يفيد الحصر {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء العظيم {يجزي الله} أي: الذي له الكمال كله {المتقين} أي: الراسخين في صفة التقوى، ثم حث تعالى على ملازمة التقوى بالتنبيه على أنّ العبرة بحال الموت فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة} أي: تقبض أرواحهم وقوله تعالى: {طيبين} كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه، ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة، مبّرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرّئين عن العلائق الجسمانية، متوجهين إلى حضرة القدس، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح، وأنها لم تقبض إلامع البشارة بالجنة، حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها، ومن هذا حاله لا يتألم بالموت، وأكثر المفسرين على أنّ هذا التوفي هو قبض الأرواح كما مرّ، وإن كان الحسن يقول: إنه وفاة الحشر. واستدل بقوله تعالى: {ادخلوا الجنة} لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا، ادخلوا الجنة. وأجاب الأكثرون بما سيأتي وأدغم أبو عمرو التاء في الطاء بخلاف عنه. ثم بيّن تعالى أنّ الملائكة {يقولون} لهم عند الموت {سلام عليكم} فتسلم عليهم أوتبلغهم السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 من الله تعالى، كما روي أنّ العبد المؤمن إذا أشرف على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة، ويقال لهم في الآخرة هذا جواب الأكثرين {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} أو إنهم لمّا بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم: ادخلوا الجنة، أي: هي خاصة لكم كأنكم فيها. ولما طعن الكفار في القرآن بقولهم: {أساطير الأوّلين} وذكر أنواع التهديد والوعيد ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً، عاد إلى بيان أنّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم وأقوالهم الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة، وأتاهم أمر ربك فقال تعالى: {هل ينظرون إلاأن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وتقدّم توجيه ذلك {أو يأتي أمر ربك} أي: يوم القيامة وقيل: العذاب. وقيل: إنهم طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال تعالى: {هل ينظرون} في التصديق بنبوّتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك. وعلى كلا التقديرين، فقد قال تعالى: {كذلك} أي: مثل ما {فعل} هؤلاء هذا الفعل البعيد الشنيع فعل {الذين من قبلهم} من الأمم السالفة، كذبوا رسلهم فأهلكوا {وما ظلمهم الله} باهلاكهم بغير ذنب. {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بكفرهم وتكذيبهم للرسل فاستوجبوا ما نزل بهم {فأصابهم} أي: فتسب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم {سيئات} أي: عقوبات أو جزاء سيئات {ما عملوا وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} تكبراً عن قبول الحق فحاق بهم جزاؤه، والحيق لا يستعمل إلا في الشر. وقرأ حاق حمزة بالإمالة والباقون بالفتح. {وقال الذين أشركوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاء ومنعاً للبعثة والتكليف {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهو اعتقاد باطل، فلذلك استحقوا عليه الذم والوعيد ثم قالوا لهم: {ولا حرّمنا من دونه من شيء} أي: من السوائب والبحائر والحامي فهو راض به وبمشيئته وحينئذ فلا فائدة في مجيئك وفي إرسالك وهذا عين ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله} (الأنعام، 148) الآية. قال الله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} أي: من تقدّم هؤلاء من الكفار من الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية ففي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا في قوله تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ} أي: الإبلاغ. {المبين} أي: البين فليس عليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه. ثم بين تعالى أنّ البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سبباً لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضرّ المزاج المنحرف ويفنيه بقوله تعالى: {ولقد} أي: والله لقد {بعثنا} أي: بما لنا من العظمة التي من اعترض عليها قصم. {في كل أمّة} من الأمم الذين من قبلكم {رسولاً} أي: كما بعثنا فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً. {أن اعبدوا الله} أي: الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الأعلى وحده. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون في الوصل والباقون بالضم. {واجتنبوا الطاغوت} أي: الأوثان أن تعبدوها {فمنهم من هدى الله} أي: وفقهم للإيمان بإرشاده {ومنهم من حقت} أي: وجبت {عليه الضلالة} أي: في علم الله تعالى فلم ينفعهم ولم يرد هداهم. تنبيه: في هذه الآية أبين دليل على أنّ الهادي والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه فيما حكم به لسابق علمه، ثم التفت سبحانه وتعالى إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال تعالى: {فسيروا} أي: فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من أخبار الرسل فسيروا {في الأرض} أي: جنسها {فانظروا} أي: إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، ثم أشار تعالى بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال: {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} أي: من عاد ومن بعدهم من الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم لعلكم تعتبرون. ولما كان من المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فقال مسلياً له: {إن تحرص على هداهم} فتطلبه بغاية جدّك واجتهادك وقد أضلهم الله تعالى لا تقدر على ذلك ثم قال تعالى: {فإنّ الله لا يهدي من يضلّ} أي: من يرد ضلاله وهو معين لمن حقت عليه الضلالة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء المفعول. قال البيضاوي: وهو أبلغ. ثم قال تعالى: {وما لهم} أي: هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله {من ناصرين} أي: وليس لهم أحد ينصرهم في الدنيا والآخرة عند مجازاتهم على الضلالة لينقذوهم مما يلحقهم عليه من الوبال كما فعل بالمكذبين ممن قبلهم. ثم حكى الله عن هؤلاء القوم أنهم ينكرون الحشر والنشر بقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {لا يبعث الله من يموت} وذلك أنهم قالوا: إنّ الإنسان ليس هو إلا هذه البنية المخصوصة فإذا مات وتفرّقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه؛ لأنّ الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فكذبهم الله تعالى في قولهم بقوله تعالى: {بلى} أي: يبعثهم بعد الموت فإنّ لفظة بلى إثبات لما بعد النفي والجواب عن شبهتهم أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأوجده من العدم، ولم يكن شيئاً فالذي أوجده ولم يكن شيئاً قادر على إيجاده بعد إعدامه لأنّ النشأة الثانية أهون من الأولى، وقوله تعالى: {وعداً عليه حقاً} مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدّر، أي: وعد ذلك وعداً وحقه حقاً. {ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} ذلك، أي: لا علم لهم يوصلهم لذلك لأنه من عالم الغيب، لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله تعالى ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم الله بروح منه لتقيدهم بما يوصل إلى عقولهم أنها قاصرة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير واسطة منه سبحانه وتعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استبعاداً وهو خصيم مبين. وقوله تعالى: {ليبين لهم الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 يختلفون فيه} يتعلق بما دل عليه بلى، أي: يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو عامّ للمؤمنين والكافرين والذي اختلفوا فيه هو الحق. {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} في قولهم: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} وقولهم: {لا يبعث الله من يموت} وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله: {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً} أي: بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب ثم بين سبحانه وتعالى تيسر الإعادة بقوله تعالى: {إنما قولنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {لشيء} إبداء وإعادة {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} أي: يتسبب عن ذلك القول أنه يكون. تنبيه: قوله تعالى: {قولنا} مبتدأ و {أن نقول} خبره. فيكون وكن من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود،، أي: إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث فيحدث عقب ذلك من غير توقف. فإن قيل: قوله تعالى: {كن} إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال وإن كان خطاباً مع الموجود فكان أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال؟ أجيب: بأنّ هذا تمثيل لنفي الكلام والغايات وخطاب مع الخلق بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأنّ ما أراد فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد تعالى خلق الدنيا والآخرة بما فيها من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن خاطب تعالى العباد بما يعقلون، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له. أمّا شتمه إياي فيقول: إنّ لي ولداً. وأمّا تكذيبه فيقول: ليس يعيدني كما بدأني» . حديث وفي رواية: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٍ» . وقرأ ابن عامر والكسائي بفتح النون من يكون عطفاً على يقول أو جواباً للأمر والباقون بالرفع. ولما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهالة والجهل والضلال، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وإنزال العقوبة بهم، وحينئذٍ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا من تلك الديار والمساكن فبيّن تعالى حكم تلك الهجرة، وما لهؤلاء المهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة بقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وقوله تعالى: {أفأمن الذين مكروا السيئات} فيه إضمار تقديره المكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبالقرآن في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أربعة أمور الأوّل قوله تعالى: {أن يخسف الله بهم الأرض} كما خسف بقارون وأصحابه فإذا هم في بطنها لا يقدرون على نوع تقلب بمتابعة ولا غيرها. الثاني قوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب} على غير تلك الحال {من حيث لا يشعرون} به فيأتيهم بغتة فيهلكهم كما فعل بقوم لوط عليه السلام. الثالث: قوله تعالى: {أو يأخذهم} أي: الله بعذابه {في} حالة {تقلبهم} ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة وفي تفسير هذا التقلب وجوه أوّلها: أنه تعالى يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر. {فما هم بمعجزين} أي: بفائتين العذاب بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله تعالى حيث كانوا. ثانيها: أنه تعالى يأخذهم بالليل والنهار وفي حال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم. وثالثها: أنّ الله تعالى يأخذهم في حال ما يتقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: {وقلبوا لك الأمور} (التوبة، 48) فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها. الأمر الرابع: قوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوّف} وفي تفسير التخوّف قولان؛ الأوّل: التخوّف تفعل من الخوف يقال: خفت الشيء وتخوّفته، والمعنى: أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أوّلاً بل يخيفهم أوّلاً ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك قرية فتخاف التي تليها فيأتيهم العذاب. والثاني: التخوّف بمعنى التنقص، أي: أنه تعالى ينقص شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوّفه إذا تنقصه. وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: ما تقولون في هذه الآية؟ فسكتوا. فقال شيخ من هذيل: هذه لغتنا التخوّف التنقص. فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير: تخوّف، أي: تنقص ـ الرحل، أي: رحل ناقته ـ منها تامكاً، أي: سناماً ـ قردا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 أي: متراكماً أو مرتفعاً وهو بسكون الراء ـ كما تخوّف عود النبعة السفن والنبعة بالضم واحدة النبع وهو شجر يتخذ منه السفن والسفن بفتح السين والفاء ما ينحت به الشيء وهو فاعل تخوّف ومفعوله عود. فقال عمر: عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ومعنى البيت أنّ رحل ناقته ينقص سنامها المتراكم أو المرتفع كما ينقص السفن عود النبعة. {فإنّ ربكم} أي: المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد وقوله تعالى: {لرؤوف} قرأه أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ ومعناه بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة وكذا من قاطعه أتم مقاطعة وإليه أشار بقوله تعالى: {رحيم} أي: حيث لم يعاجلهم بالعذاب. ولما خوّف سبحانه وتعالى المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أنه مع كمال هذه القدرة الباهرة والقوّة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأجسام الأربعة بقوله تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} أي: من الأجرام التي لها ظل كشجر وجبل {تتفيؤ} أي: تتميل {ظلاله عن اليمين والشمائل} جمع شمال، أي: عن جانبي كل واحد منهما وشقيه. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب على نسق ما قبله والباقون بالياء على الغيبة إلى ما خلق استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له. وقال قتادة والضحاك: أمّا اليمين فأوّل النهار وأمّا الشمائل فآخره لأنّ الشمس وقت طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي والظلال في أوّل النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض. فإن قيل: ما السبب في ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع؟ أجيب: بأشياء الأوّل: أنه وحّد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى: {ويولون الدبر} (القمر، 45) الثاني: قال الفرّاء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأنّ قوله: {إلى ما خلق الله من شيء} لفظه واحد ومعناه الجمع على ما مرّ فيحتمل كلا الأمرين. الثالث: أنّ العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام، 1) . وقوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} (البقرة، 7) . تنبيه: الهمزة للاستفهام وهو استفهام إنكار، أي: قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيه ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه وما موصولة مبهمة بمعنى الذي ومن شيء بيان لها. فإن قيل: كيف بين الموصول وهو مبهم بشيء وهو مبهم بل أبهم مما قبله؟ أجيب: بأن شيئاً قد اتضح وظهر بوصفه بالجملة بعده وهو تتفيؤ ظلاله وقيل: الجملة بيان لما. وقوله تعالى: {سجداً لله} حال من الظلال جمع ساجد كشاهد وشهد، وراكع وركع. واختلف في المراد من السجود على قولين أحدهما: أنّ المراد منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الاستسلام والانقياد يقال: سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال: اسجد للقرد في زمانه، أي: اخضع له وقال الشاعر: * ترى الأكم فيها سجداً للحوافر أي متواضعة. والثاني: أنّ هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد فلما كانت الظلال يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله تعالى عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول: أما ظلك فيسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد لربك بئسما صنعت. وعن مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي. وقيل: ظل كل شيء يسجد لله سواء أكان ذلك الشيء ساجداً أم لا. قال الرازي: والأوّل أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة. وقوله تعالى: {وهم داخرون} أي: صاغرون حال أيضاً من الظلال فينتصب عنه حالان وقيل: حال من الضمير المستتر في سجداً فهي حال متداخلة. فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟ أجيب: أنه تعالى لما وصفها بالطاعة والدخور أشبهت العقلاء أو أن في جملة ذلك من يعقل فغلب. ولما حكم على الظلال بما يعم أصحابها من جماد وحيوان وكان الحيوان أشرف من الجماد رقي الحكم إليه بخصوصه، فقال: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض} وقوله تعالى: {من دابة} يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما تدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بياناً لما في الأرض ويراد بما في السموات الملائكة وكرّر ذكرهم بقوله تعالى: {والملائكة} خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهنّ وبقوله تعالى: {والملائكة} ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم. فإن قيل: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ أجيب: بأنّ المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى وأنه غير ممتنع عليه وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قيل: هلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ أجيب: بأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولاً للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة للعموم. {وهم} أي: الملائكة {لا يستكبرون} عن عبادته ثم علل تخصيصهم بقوله تعالى دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء. {يخافون ربهم} أي: الموجد لهم المدبر لأمورهم المحسن إليهم خوفاً مبتدأ {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام، 18) . وقوله تعالى: {وإنا فوقهم قاهرون} (الأعراف، 127) والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون، أو بيان له أو تقرير لأنّ من خاف الله لا يستكبر عن عبادته. {ويفعلون ما يؤمرون} أي: من الطاعة والتدبير وفي ذلك دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين وأنهم بين الخوف والرجاء، كما مرّت الإشارة إليه وأنهم معصومون من الذنوب لأنّ قوله تعالى: {وهم لا يستكبرون} يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 على أنهم منقادون لخالقهم وأنهم ما خالفوا في أمر من الأمور كما قال تعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء، 27) . ولما بيّن تعالى أنّ كل ما سوى الله تعالى سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجساد فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه أتبعه بالنهي عن الشرك وبالأمر بأنّ كل ما سواه فهو ملكه وأنه غني عن الكل بقوله تعالى: {وقال الله} فعبّر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص {لا تتخذوا} أي: لا تكلفوا فطرتكم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أنّ الإله واحد أن تأخذ في اعتقادها {إلهين اثنين} . فإن قيل: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة لأنّ المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. فأمّا رجل ورجلان وفرس وفرسان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى: {إلهين اثنين} ؟ أجيب: بأجوبة أوّلها: قال الرازي: وهو الأقرب عندي أنّ الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح والقول بوجود إلهين مستقبح في العقول فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال فالمقصود من تكرار اثنين تأكيد التنفير عنه وتوقيف العقل على ما فيه من القبح. الثاني: أنّ قوله تعالى: {إلهين} لفظ واحد يدل على أمرين ثبوت الإله وثبوت التعدّد فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإلهين أو عن اثبات التعدّد أو عن مجموعهما فلما قال: لا تتخذوا إلهين اثنين ظهر أنّ قوله لا تتخذوا نهي عن إثبات التعدّد فقط. الثالث: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. الرابع: أنّ الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنيّ به منهما والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، ثم علل تعالى ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال جل ذكره: {إنما هو} أي: الإله المفهوم من لفظ إلهين الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على من وجوده من ذاته.k {إله} أي: مستحق هذا الوصف على الإطلاق {واحد} لا يمكن أن يثنى بوجه ولا أن يجزأ بغاية وغير غاية لغناه المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه. ولما دلت الدلائل على أنه لا بدّ للعالم من إله وثبت أنّ القول بوجود إلهين محال، وثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، قال تعالى بعده: {فإياي فارهبون} أي: خافون دون غيري والرهبة مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى خطاب الحضور وهو من طريقة الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله فإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم. ولما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أنّ إله العالم لا شريك له في الإلهية وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيده وفي ملكه وتصرفه وتحت قهره وذلك قوله تعالى: أي: الله وأعاد الضمير في قوله تعالى له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 على الله الاسم الأعظم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى. {ما في السموات والأرض} أي: ما تعبدونه وغيره فكيف يتصوّر أن يكون شيء من ذلك إلهاً، وهو ملكه مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما. {وله الدين} أي: الطاعة وقوله تعالى: {واصباً} أي: دائماً حال من الدين والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه وتعالى فإطاعته واجبة أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً. وقوله تعالى: {أفغير الله} أي: الذي له العظمة كلها {تتقون} استفهام إنكار والمعنى: أنكم بعدما عرفتم أنّ إله العالم واحد وعرفتم أنّ كل ما سواه محتاج إليه في وقت دوامه وبقائه فبعد العلم بذلك كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة من غير الله تعالى ولما بيّن تعالى أنّ الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله بيّن أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى بقوله تعالى: {وما بكم من نعمة} أي: من نعمة الإسلام وصحة الأبدان وسعة في الأرزاق وكل ما أعطاكم من مال أو ولد أو جاه {فمن الله} هو المتفضل على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه لأنّ الشكر إنما يجب على النعمة، فثبت بهذا أنّ العاقل يجب عليه أن لا يخاف، وأن لا يشكر إلا الله تعالى. تنبيه: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإيمان حصل بخلق الله فقالوا: الإيمان نعمة وكل نعمة فمن الله ينتج أنّ الإيمان من الله وأيضاً النعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعاً به وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان فثبت أنّ الإيمان نعمة والمسلمون مطبقون على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان والنعم إمّا دينية وإمّا دنيوية. أمّا النعم الدينية فهي إمّا معرفة الحق لذاته وإمّا معرفة الخير لأجل العمل به. والنعم الدنيوية إمّا نفسانية وإمّا بدنية وإمّا خارجية، وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر. كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم، 34) وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند ذكر هذه الآية. ولما كان إخلاصهم له مع ادعائهم ألوهية غيره أمراً مستبعداً عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى: {ثم إذا مسكم} أي: أصابكم أدنى مس {الضّرّ} بزوال نعمة مما أنعم به عليكم. وقال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة. {فإليه} أي: لا إلى غيره {تجأرون} أي: ترفعون أصواتكم بالاستغاثة لما ركز في فطرتكم الأوّلية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه. {ثم إذا كشف} سبحانه وتعالى {الضّرّ} أي: الذي مسكم {عنكم} ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال: {إذا فريق} أي: جماعة هم أهل فرقة وضلال {منكم} أي: أيها العباد {بربهم} الذي تفرّد بالإنعام عليهم {يشركون} أي: يوقعون الإشراك بعبادة غيره. {ليكفروا بما آتيناهم} أي: من النعم. تنبيه: في هذه اللام وجهان: الأوّل: أنها لام كي فيكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر. الثاني: أنها لام العاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً} (القصص، 8) والمعنى عاقبة أمرهم هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء، وكشفنا عنهم الضر والبلاء. ثم إنه تعالى توعدهم بعد ذلك بقوله تعالى: {فتمتعوا} أي: باجتماعكم على عبادة الأصنام وهذا لفظه أمر والمراد منه التهديد كقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} (الإسراء، 107) . وقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف، 29) . {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب. ولما بين تعالى بالدلائل القاهرة فساد قول أهل الشرك والتشبيه شرح تفاصيل أقوالهم، وبين فسادها بأنواع الأوّل قوله تعالى: {ويجعلون} أي: المشركون {لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم} من الحرث والأنعام بقولهم هذا لله وهذا لشركائنا. تنبيه: الضمير في قوله تعالى: {لما لا يعلمون} عائد على الأصنام، أي: أنّ الأصنام لا تعي شيئاً البتة لأنها جماد والجماد لا علم له. وقيل: عائد إلى المشركين، ومعنى لا يعلمونها أنهم يسمونها آلهة فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم وتشفع لهم وليس الأمر كذلك. ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة بقوله تعالى: {تالله لتسألنّ} سؤال توبيخ وفيه التفات من الغيبة إلى الحضور وهو من بديع الكلام وبليغه. {عما كنتم تفترون} على الله من أنه أمركم بذلك. تنبيه: في وقت السؤال احتمالان الأوّل: أنه يقع عند القرب من الموت. الثاني: أنه يقع في الآخرة. قال الرازي: وهذا أولى. النوع الثاني قوله تعالى: {ويجعلون لله البنات} ونظيره قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله. قال الرازي: أظنّ أنّ العرب إنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون، فأشبهوا النساء في الاستتار فأطلقوا عليهم البنات. قال ابن عادل: وهذا الذي ظنه ليس بشيء فإنّ الجنّ أيضاً مستترون عن العيون، ولم يطلقوا عليهم لفظ البنات. ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول، قال تعالى: {سبحانه} وفيه وجهان: الأوّل: أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه الثاني: تعجيب الخلق من هذا الأمر والجهل الصريح وهو وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى، قيل في التفسير: معناه معاذ الله وذلك مقارب للوجه الأوّل. ولما ذكر الله تعالى إلى ما جعلوا له مع الغنى المطلق بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف بقوله تعالى: {ولهم ما يشتهون} من البنين وقد يكونون أعداء أعدائهم. ثم إنه تعالى ذكر أنّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالولد البنت لنفسه فكيف يثبته لله تعالى؟ فقال: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} أي: أخبر بولادتها {ظل وجهه} أي: صار أو دام النهار كله {مسودًّا} من الكآبة والحياء من الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتخجيل كما أنّ بياض الوجه وإشراقه كناية عن الفرح والسرور. {وهو كظيم} أي: مملوء غيظاً على المرأة ولا ذنب لها بوجه والبشارة في أصل اللغة الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور ولا يكون إلا بالخبر الأوّل فالمراد بالبشارة هنا الإخبار كما مرّ. وقول الرازي: إنّ إطلاقه على الخير والشر داخل في التحقيق خلاف المشهور. {يتوارى} أي: يستحي {من القوم} أي: من الرجال الذين هو فيهم {من سوء ما بشر به} خوفاً من التعيير وذلك أنّ العرب كانوا في الجاهلية إذا قرب ولادة زوجة أحدهم توارى عن القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن ولد له ذكر ابتهج وسرّ بذلك وظهر، وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً متردّداً ماذا يفعل بذلك الولد {أيمسكه} أي: يتركه بغير قتل {على هون} هوان وذل {أم يدسه في التراب} وذكر الضمير في يمسكه ويدسه نظراً للفظ الولد أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 لكون الأنثى ولداً كما علم مما مرّ. قال ابن ميلق: قال المفسرون: كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفرة وجلست على شفيرها فإن وضعت ذكراً أظهرته وظهر السرور على أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمرها بإلقائها في الحفرة وردّت التراب عليها وهي حية لتموت انتهى. وعن قيس بن عاصم أنه قال: يا رسول الله، إني واريت ثمان بنات في الجاهلية. فقال له صلى الله عليه وسلم «أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. فقال: يا نبيّ الله إني ذو إبل. قال: إهد عن كل واحدة منهن هدياً» . وروي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام مذ قد أسلمت، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها فلما انتهيت إلى واد فيه بئر بعيدة القعر ألقيتها فيها فقالت: يا أبت قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال صلى الله عليه وسلم «ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار» ، وكانوا في الجاهلية مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية خوفاً من أن يطمع فيهنّ غير الأكفاء وتارة خوفاً من الفقر وكثرة العيال ولزوم النفقة. وكان الذي منهم يريد أن يحيي ابنته تركها حتى تكبر ثم يلبسها جبة من صوف أو شعر ويجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية. قال الله تعالى: {ألا ساء} أي: بئس {ما يحكمون} حكمهم هذا وذلك لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأوّلها: أنه يسود وجهه، وثانيها: أنه يختفي من القوم من شدّة نفرته عن البنت. وثالثها: أنّ الولد محبوب بحسب الطبيعة ثم إنه بسبب نفرته عنها يقدم على قتلها وذلك يدل على أنّ النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغاً لا يزاد عليه فكيف يليق بالعاقل أن يثبت ذلك لإله عالم مقدس عال عن مشابهة جميع المخلوقات، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى} (النجم: 21، 22) ثم قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة} وهم الكفار {مثل السوء} أي: الصفة السوء بمعنى القبيحة وهي قتلهم البنات مع احتياجهم إليهنّ للنكاح {ولله المثل الأعلى} أي: الصفة العليا وهي أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس: مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن قيل: كيف جاء لله المثل الأعلى مع قوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} (النحل، 74) أجيب: بأنّ المثل الذي يضربه الله تعالى حق وصدق والذي يذكره غيره باطل. {وهو العزيز} الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له. {الحكيم} الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله. ولما حكى الله تعالى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم بين أنه تعالى يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل والرحمة والكرم بقوله تعالى: أي: بسبب كفرهم ومعاصيهم {ما ترك عليها} أي: على الأرض وإنما أضمر ذكرها من غير ذكر لدلالة الناس والدابة عليها. {من دابة} أي: أنّ الله تعالى لو آخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. فإن قيل: اسم الناس جنس يشمل الكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 فيدخل في ذلك الأنبياء فيدل على عدم عصمتهم؟ أجيب: بأنّ ذلك عام مخصوص بقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} (فاطر، 32) فالمذكور في هذه الآية، إما كل العصاة المستحقين العقاب أو الذين تقدّم ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات، أو جميع الكفار بدليل قوله تعالى: {إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا} (الأنفال، 55) . وقال قتادة: قد فعل الله تعالى ذلك في زمن نوح عليه السلام فأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح عليه السلام. روي أنّ أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سمع رجلاً يقول: إنّ الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال: بئسما قلت إنّ الحبارى تموت هزالاً من ظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إنّ الجعل تعذب في حجرها بذنب ابن آدم، والجعل بضم الجيم وفتح العين دويبة قاله الجوهريّ. وقيل في معنى الآية: ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء ولم يبق في الأرض أحد. {ولكن يؤخرهم} أي: يمهلهم بفضله وكرمه وحلمه {إلى أجل مسمى} أي: إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة} عنه {ولا يستقدمون} أي: لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله تعالى لهم ولا ينتقصون منه. تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط إحدى الهمزتين مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين. والنوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم قوله: {ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم من البنات وأراذل الأحوال والشركاء في الرياسة. ثم وصف الله تعالى جراءتهم مع ذلك بقوله تعالى: {وتصف} أي: وتقول {ألسنتهم الكذب} أي: مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل، ثم بيّنه بقوله تعالى: {أنّ لهم الحسنى} أي: عنده، أي: الجنة كقوله تعالى: {ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى} ولا جهل أعظم ولا أحكم سوءاً من أن تقطع بأنّ من تجعل له ما تكره أن يجعل لك ما تحب فكأنه قيل ما لهم عنده؟ فقيل: {لا جرم} أي لا ظن ولا تردّد في {أن لهم النار} أي: هي جزاء الظالمين وقيل لا جرم بمعنى حقاً. {وأنهم مفرطون} أي: متركون فيها أو مقدّمون إليها وقرأ نافع بكسر الراء، أي: متجاوزون الحد والباقون بالفتح. فإن قيل: إنهم لم يقرّوا بالبعث فكيف يقولون إن لنا الحسنى عند الله؟ أجيب: بأنهم قالوا إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت فإن لنا الجنة، وقيل إنه كان في العرب جمع يقرّون بالبعث والقيامة وأنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون إنّ ذلك الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه، ثم بين تعالى أنّ مثل هذا الصنيع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدّمين بقوله تعالى: {تالله} أي: الملك الأعلى {لقد أرسلنا} أي: بما لنا من القدرة رسلاً من الماضين {إلى أمم من قبلك} كما أرسلنا إلى هؤلاء {فزين لهم الشيطان} أي: المحترق بالغضب المطرود باللعنة {أعمالهم} الخبيثة من الكفر والتكذيب كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم، وهذا يجري مجرى التسلية للنبيّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وإنما جعل الشيطان آلة بالإلقاء للوسوسة في قلوبهم وليس له قدرة على أن يضلّ أحداً أو يهدي أحداً وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد الله تعالى شقاوته سلطه الله عليه حتى يقبل وسوسته {فهو وليهم اليوم} أي: في الدنيا وإنما عبر باليوم عن زمانها، أي: فهو وليهم حين كان يزين لهم أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، أي: لا ولي لهم غيره وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم. وقيل: الضمير لقريش، أي: زين الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم وهو وليّ هؤلاء القوم يغرّهم ويغريهم، وقيل: يجوز أن يقدّر مضاف، أي: فهو ولي أمثالهم والوليّ القرين والناصر فيكون نعتاً للناصر لهم على أبلغ الوجوه {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة. ثم ذكر تعالى أنه مع هذا الوعيد الشديد قد أقام الحجة وأزاح العلة بقوله تعالى: {وما أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة من جهة العلوّ. {عليك} يا أشرف المرسلين {الكتاب} أي: القرآن {إلا لتبين لهم} أي: للناس {الذي اختلفوا فيه} من أمر الدين مثل التوحيد والشرك وإثبات المعاد ونفيه فإنه كان فيهم من ينكر البعث ومنهم من يؤمن به ومنهم عبد المطلب ومثل تحريم الحلال كالبحيرة والسائبة وتحليلهم أشياء محرّمة كالميتة. فإن قيل: اللام في لتبين لهم تدل على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض كقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس} (إبراهيم، 1) . وقوله: {وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون} (الذاريات، 56) أجيب: بأنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل وقوله تعالى: {وهدى ورحمة} أي: وإكراماً بمحبة معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام على لتبين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل، ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم نفاه بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون} ونظيره قوله تعالى في أوّل البقرة: {هدى للمتقين} (البقرة، 2) . وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث أنهم قبلوه وانتفعوا به كما في قوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات، 45) لأنه إنما انتفع بإنذراه هذا القوم فقط. ولما انقضى الدليل على أنّ قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب في الإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة: الإلهيات والنبوّات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار وكان أجلّ هذه المقاصد الإلهيات شرع في ذكر الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدّم ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} (النحل، 19) . قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي. {والله} أي: الذي له الأمر كله {أنزل من السماء} في الوقت الذي يريده {ماء} بالمطر والثلج والبرد {فأحيا به} أي: بذلك الماء {الأرض} بأنواع النبات {بعد موتها} أي: يبسها {إنّ في ذلك} المذكور {لآية} أي: دلالة واضحة على كمال قدرته تعالى {لقوم يسمعون} أي: سماع تدبر وإنصاف ونظر لأنّ سماع القلوب هو النافع لاسماع الآذان فمن سمع آيات القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 انتفع ومن لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع فلم ينتفع بالآيات ومن الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله: {وإنّ لكم في الأنعام لعبرة} أي: اعتباراً إذا تفكرتم فيها وعرفتم كمال قدرتنا وقوله تعالى: {نسقيكم مما في بطونه} استئناف بيان للعبرة وإنما ذكر لفظ الضمير لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع كالرهط والقوم ولا من اللبس والدلالة على قوّة المعنى لكونها سورة النعم وأنثه في سورة المؤمنون للمعنى فإنّ الأنعام اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال كقولهم: ثوب أكياش بياء تحتية وشين معجمة ضرب من الثياب يغزل مرتين ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها. وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بفتح النون تقول: سقيته حتى روي. قال تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (الإنسان، 21) . والباقون بضمها من قولك: اسقاه إذا جعل له شراباً كقوله تعالى: {وأسقيناكم ماءً فراتاً} (المرسلات، 27) . ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره قدم قوله تعالى: {من بين فرث} وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش فإذا خرج منه لم يسم فرثاً. {ودمٍ لبناً خالصاً} أي: صافياً خلقه الله وسطاً بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما بزرخ من قدرة الله لا يبغي عليه أحدهما بلون أو رائحة أو طعم.d روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقتسمها فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم. {سائغاً للشاربين} أي: سهل المرور في الحلق. وقيل: لم يغص أحد باللبن قط. تنبيه: قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيراً آخر بقلب ذلك الدم لبناً ثم دبر تدبيراً آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمرممكن غير ممتنع وفي حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الطفل مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر وبيانه من وجوه: الأوّل أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاء أو شراباً انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الانطباق تارة والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. الثاني: عند تولد اللبن في الضرع يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقباً صغيرة ومسامّ ضيقة وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها ولما كانت تلك المسام ضيقة جدًّا كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة. وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل فالحكمة في أحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة فكل ما كان لطيفاً خرج وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج فبهذا الطريق يصيراللبن خالصاً موافقاً لبدن الطفل سائغاً للشاربين. الثالث: أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي. وقوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب} متعلق بمحذوف تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أي: من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم عليه، وقوله تعالى: {تتخذون منه سكراً} بيان وكشف عن كنه الإسقاء. قال الواحدي: الأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى {ورزقاً حسناً} كالتمر والزبيب والدبس والخل. تنبيه: في تفسير السكر وجوه: الأوّل: هو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو: رشد رشداً ورشداً. فإن قيل: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله تعالى في معرض الأنعام؟ أجيب: عن ذلك بوجهين: أحدهما: أنّ هذه السورة مكية وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكأنّ نزول هذه الآية كان في الوقت الذي كانت الخمرة فيه غير محرمة وممن قال بنسخها النخعي والشعبي. الثاني: أنّ الآية جامعة بين العتاب والمنة فالعتاب بالنسبة إلى السكر والمنة بالنسبة إلى رزقاً حسناً. الوجه الثاني: أنّ السكر هو النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر فإذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد فهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى حد السكر، ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم «الخمر حرام لعينها» وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر وكل من أثبت هذه المغايرة قال: إنه النبيذ المطبوخ. الوجه الثالث: أنّ السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة واحتج عليه بقول الشاعر: * جعلت إعراض الكرام سكراً أي تنقلب بإعراضهم بأن جعلتها نقلاً وتناولتها والنقل ما ينتقل به على الشراب. قال البغوي: وأولى الأقاويل أن قوله تعالى: {تتخذون منه سكراً} منسوخ انتهى. ويدل له قول الحسن: ذكر الله نعمته عليهم في الخمر قبل أن يحرّمها عليهم. وروي عن ابن عباس قال: السكر ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن ما أحل من ثمرها. وروي عنه أيضاً السكر الحرام منه والرزق زبيبه وعنبه ومنافعه. ثم قال تعالى: {إنّ في ذلك} المذكور {لآية} أي: دلالة على قدرته تعالى: {لقوم يعقلون} أي: يستعملون عقولهم بالنظر والتأمّل في الآيات فيعلمون أنّ هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 الحكيم. ولما بيّن أنّ إخراج الألبان وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً. ذكر أنّ إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة وهي النحل دليل قاطع. وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود بقوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} وحي إلهام. قال الضحاك: ألهمها ولم يرسل إليها رسولاً والمراد من الإلهام أنه تعالى قدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه: الأوّل: ما ذكر الله بقول تعالى: {أن اتخذي} أي: بأن اتخذي ويجوز أن تكون مفسرة لأنّ في الإيحاء معنى القول: {من الجبال بيوتاً} تأوين إليها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببيت الإنسان، فتبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرّد طبعها والعقلاء من البشر لا يمكنهم، مثل تلك البيوت إلا بآلات وأنظار دقيقة. الثاني: أنه ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدّسات كأن كانت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال فإنه تبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب. الثالث: أنّ النحل يحصل بينها واحد كالرئيس للبقية وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه وذلك أيضاً من الأعاجيب. الرابع: أنها إذا انفردت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات الموسيقى فبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالة عجيبة فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة كان ليس إلا على سبيل الإلهام وهو حالة شبيهة بالوحي، والوحي قد ورد في حق الأنبياء كقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} (الشورى 51) وفي حق الأولياء قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين} (المائدة، 111) وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى: {وأوحينا إلى أمّ موسى} . (القصص، 7) وفي حق سائر الحيوانات خاص. قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأنّ الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها. وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. {و} اتخذي {من الشجر} أي: الصالحة بيوتاً {و} اتخذي {مما يعرشون} أي: الناس فيبنون تلك الأماكن وذلك أنّ النحل منه وحشي وهو الذي يسكن الجبال والشجر والكهوف، ومنه أهليّ وهو الذي يأوي إلى البيوت وتربيه الناس عندهم وقد جرت العادة أنّ الناس يبنون للنحل الأماكن حتى يأوي إليها وذكر ذلك بحرف التبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من الكرم أو سقف ولا في كل مكان منها. وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بكسرها. تنبيه: ظاهر قوله تعالى: {اتخذي} أمر، وقد اختلفوا فيه فمن الناس من يقول: لا بُعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا بدع أن يتوجه عليها من الله أمر ونهي. وقال آخرون: بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في سورة النمل، عند قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} . (النمل، 18) ولما كان أهم شيء للحيوانات بعد الراحة من همّ المقيل أكل شيء، ثنى به فقال: {ثم كلي من كل الثمرات} أي: من كل ثمرة يشتهيها مرّها وحلوها، وذكر ذلك بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها. تنبيه: لفظ من هذا للتبعيض أو لابتداء الغاية. ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أنّ تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه نبه على خرقه العادة في تيسيره لها بقوله تعالى: {فاسلكي سبل ربك} أي: الطرق التي ألهمك الله تعالى أن تسلكيها وتدخلي فيها لأجل طلب الثمار وقوله تعالى: {ذللاً} جمع ذلول حال من السبل، أي: مسخرة لك فلا تعسر عليك وإن توعرت ولا تضلي عن العود وإن بعدت. وقيل: من الضمير في اسلكي، أي: منقادة لأربابها حتى أنهم ينقلونها من مكان إلى مكان آخر حيث شاؤوا وأرادوا لا تستعصي عليهم. وقوله تعالى: {يخرج من بطونها} فيه عدول عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم {شراب} أي: عسل {مختلف ألوانه} ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب. وقال الرازي: إنه رأى في بعض كتب الطب أنّ العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه وتدّخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأنّ طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل وأيضاً إنا نشاهد أنّ النحل يتغذى بالعسل وأجاب، عن قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب} إنّ كل تجويف داخل البدن يسمى بطناًفقوله: {يخرج من بطونها} أي: من أفواهها انتهى. والأوّل كما قال ابن الخازن وغيره أظهر لأنا نشاهد أنّ العسل يوجد فيه طعم تلك الأزهار التي يأكلها النحل وكذا توجد لذتها وريحها وطعمها فيه أيضاً، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم له: «أكلت مغافير؟ قال: لا، قالت: ما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قالت: جرست نحله العرفط» . والعرفط شجر الطلع له صبغ يقال له: المغافير كريه الرائحة، فمعنى جرست نحله العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا أنه يوجد في طعم العسل ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلاً لكان على لون واحد وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً خلاف الظاهر لأنّ لفظ البطن إذا أطلق لم يرد به إلا العضو المعروف بطن الإنسان وغيره. {فيه} أي: الشراب الذي يخرج من بطون النحل {شفاء للناس} من الأوجاع كما قال ابن عباس وابن مسعود، إمّا لبعضها كما دلّ عليه تنكير شفاء، وإمّا لكلها بضميمته إلى غيره إذ قل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل أو بدونه بنيته وبهذا سقط ما قيل إنه يضرّ بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة، ويضرّ بالشباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 المحرورين ويعطش. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. وروى نافع أنّ ابن عمر ما كانت قرحة ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل. ويقرأ {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع؟ فقال: اذهب فاسقه العسل فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه، فشفاه الله، فبرأ، فكأنما نشط من عقال» فقوله صلى الله عليه وسلم «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي الإلهي، أنّ العسل الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال قال: صدق الله يعني فيما وعده من أنّ فيه شفاء للناس، وكذب بطن أخيك، يعني باستعجالكم للشفاء في أوّل مرّة. وقال مجاهد: الضمير في {فيه شفاء للناس} راجع للقرآن، لأنّ فيه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة. وهو هدى ورحمة للناس وعلى هذا تمت قصة تولد العسل من النحل عند قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه} ثم ابتدأ وقال: {فيه شفاء للناس} أي: في هذا القرآن. قال الرازي: وهذا قول ضعيف، ويدل عليه وجهان: الأوّل أنّ الضمير في قوله تعالى: {فيه شفاء للناس} يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله تعالى: {شراب مختلف ألوانه} . وأمّا الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق فهو غير مناسب. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: المذكور {لآية لقوم يتفكرون} أي: في اختصاص النحل بتلك الطعوم الرقيقة واللطائف الخفية مثل بناء البيوت المسدسة وغير ذلك فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوّعها تارة بالعقل وتارة بالفكر وتارة بالذكر وتارة بغيرها. ثم إنه تعالى لما أيقظهم من رقدتهم ونبههم على عظيم غفلتهم ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك فقال: {والله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {خلقكم} أي: أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً. {ثم يتوفاكم} أي: عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان فلا يقدر الصغير أن يؤخر ولا الكبير على أن يقدّم فمنكم من يموت على حال قوّته. {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} أي: أخسه من الهرم والخرف. قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب سنّ الطفولية والنمو وهو أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سنّ الشباب، وبلوغ الأشدّ ثم المرتبة الثانية سنّ الوقوف وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة وهو غاية القوّة وكمال العقل والمرتبة الثالثة سنّ الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر، ثم المرتبة الرابعة سنّ الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر خمسة وستون سنة يتبين النقص ويكون الهرم والخرف. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمسة وسبعون سنة وقيل ثمانون سنة. وقال قتادة: تسعون سنة. وعن أنس رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات» . وفي رواية عنه كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» . {لكيلا يعلم بعد علم شيئاً} أي: ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة والعقل وسوء الفهم. تنبيه: هل ذلك عام في المسلم والكافر أو مختص بالكافر فيه قولان: أحدهما: أنه عامّ، والقول الثاني: أنه مختص إذ المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله تعالى، ولا يقال في حقه: إنه ردّ إلى أرذل العمر. قال الرازي: والدليل عليه قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (التين: 5، 6) فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة. وقال في قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} : هم الذين قرؤوا القرآن. وقال ابن عباس: قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهذا يؤيد ما مرّ. {إن الله عليم} بمقادير أعمارهم {قدير} يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ. ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال: {والله} أي: الذي له الأمر كله {فضل بعضكم} أيها الناس {على بعض في الرزق} فمنكم غني، ومنكم فقير، ومنكم مالك، ومنكم مملوك، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له بسهولة ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيباً وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيباً علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} (الزخرف، 32) فاتقوا الله وأجملوا في طلب الرزق وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار وأنشد سفيان بن عيينة يقول: *كم من قويّ قويّ في تقلبه ... مهذب الرأي عنه الرزق منحرف *ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف وحكي أنّ سليمان المهلبي أرسل إلى الخليل بن أحمد بمئة ألف درهم فردّها الخليل وكتب إليه هذه الأبيات: *أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال *شحي بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت جوعاً ولا يبقى على حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 *فالعجز عن قدرها العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال *والفقر في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال وقال الشافعي رحمه الله تعالى: *ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق تنبيه: هذا التفاوت ليس مختصاً بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق، والصحة والسقم، والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له. قال الرازي: وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، فكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه الكثيرة العطرة عنده، وما كان يمكنه أن يتناول شيئاً منها وكان من الفقراء من هو صحيح المزاج وقوي البنية كامل القوّة وما كان يجد ملء بطنه طعاماً فذلك الملك وإن كان يفضل هذا الفقير في المال إلا أنّ هذا الفقير كان يفضل ذلك الملك في الصحة والقوّة وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه فيه، فنسأل الله تعالى أن يغنينا من فضله وأن يرضينا بما قسم لنا إنه كريم جواد. ثم ضرب الله تعالى مثلاً للذين جعلوا لله شركاء بقوله تعالى: {فما الذين فضلوا} أي: في الرزق وهم الموالي {برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم} أي: بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها بينهم وبين مماليكهم {فهم} أي: المماليك والموالي {فيه سواء} أي: شركاء يقول الله تعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء فكيف يجعلون بعض عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني، وقيل: معنى الآية أنّ الموالي والمماليك الله رازقهم جميعاً فهم في رزقه سواء فلا تحسبن الموالي يردّون أرزاقهم على مماليكهم من عند أنفسهم بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للماليك. والمقصود منه بيان أنّ الرازق هو الله تعالى لجميع خلقه وأنّ الموالي والمماليك في ذلك الرزق سواء وأنّ المالك لا يرزق المملوك وإنما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم فالرازق للمالك والمملوك هو الله تعالى. ولما قرّر سبحانه وتعالى هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق فعند هذا قال: {أفبنعمة الله} في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات {يجحدون} أن يكفرون وفي ذلك إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره وجعلوا له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم فيسوّون بينهم وبينه في ذلك. وقرأ شعبة بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة ثم إنه تعالى ذكر نوعاً آخر من أحوال الناس ليستدلّ به على وجود الإله المختار الحكيم وتنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له تمام القدرة وكمال العلم {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} أي: من جنسكم لتستأنسوا بها ولتكون أولادكم منكم فخلق حوّاء من ضلع آدم وسائر الناس من نطف الرجال والنساء فهو خطاب عام فتخصيصه بآدم وحوّاء فقط خلاف الدليل، والمعنى أنه تعالى خلق النساء لتتزوّج بهنّ الذكور ومعنى من أنفسكم كقوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} (البقرة، 54) {فسلموا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 أنفسكم} (النور، 61) أي: بعضكم بعضاً ونظيره قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} (الروم، 21) . {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} والحفدة جمع حافد وهو المسرع بالخدمةالمسارع إلى الطاعة ومنه قول القانت: وإليك نسعى ونحفد، أي: نسرع إلى طاعتك هذا أصله في اللغة. واختلف فيه أقوال المفسرين فقال ابن مسعود والنخعي: الحفدة أختان الرجل على بناته. وعن ابن مسعود أنهم أصهاره فهو بمعنى الأوّل وعلى هذا يكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوّجونهنّ فيحصل لكم بسببهنّ الأختان والأصهار. وقال الحسن وعكرمة والضحاك: هم الخدم. وقال مجاهد: هم الأعوان وكل من أعانك فهو حفيدك. وقال عطاء: هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه. وقال الكلبي ومقاتل: البنون هم الصغار والحفدة كبار الأولاد الذين يعينون الرجل الذين ليسوا منه، أي: أولاد المرأة من الزوج الأوّل. قال الرازي: والأولى دخول الكل فيه لأنّ اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالحفدة البنون أنفسهم كأنه قيل: جعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون، أي: جامعون بين الأمرين انتهى. ومع هذا فالمشهور أنّ الحافد ولد الولد من الذكور والإناث. فائدة: قال الأطباء وأهل الطبيعة: المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة، وإذا انصب من الخصية اليسرى ثم انصب إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة، وإذا انصب إلى الخصية اليمنى وانصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإذا انصب إلى الخصية اليسرى ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور. وحاصل كلامهم أنّ الذكور الغالب عليهم الحرارة واليبوسة والغالب على الإناث البرودة والرطوبة، وهذه العلة ضعيفة فإنّ في النساء من مزاجها في غاية السخونة وفي الرجال من مزاجه في غاية البرودة فخالق الذكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم. ولما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما بينه فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة فقال: {ورزقكم من الطيبات} سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان والمراد بالطيب المستلذ أو الحلال ومن في من الطيبات للتبعيض لأنّ كل الطيبات في الجنة وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها واختلف في تفسير قوله تعالى: {أفباطل يؤمنون} فقال ابن عباس: يعني بالأصنام. وقال مقاتل: يعني بالشيطان، وقال عطاء: يصدّقون أنّ لي شريكاً وصاحبة وولداً. {وبنعمت الله هم يكفرون} أي: بأن يضيفوها إلى غير الله تعالى، ويتركون إضافتها إلى الله تعالى. وقيل: الباطل ما سوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم من هذه الطيبات وتحريم الخبائث. فائدة: رسمت نعمت هنا بالتاء ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء والكسائي يقرأ بالإمالة. ولما شرح الله تعالى الدلائل على صحة التوحيد وأتبعها بذكر أقسام النعم العظيمة أتبعها بالرد على عبدة الأصنام فقال: {ويعبدون من دون الله} أي: غيره {ما لا يملك لهم رزقاً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 أي: تاركين عبادة من بيده جميع الأرزاق وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات ويعبدون غيره، ثم بين تعالى جهة الرزق بقوله تعالى: {من السموات والأرض} أمّا الرزق الذي يأتي من جانب السماء فالمطر، وأمّا الذي من جانب الأرض فالنبات والثمار التي تخرج منها، وقوله تعالى: {شيئاً} فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه منصوب على المصدر، أي: لا يملك لهم ملكاً، أي: شيئاً من الملك. والثاني: أنه بدل من رزقاً، أي: لا يملك لهم شيئاً. قال ابن عادل: وهذا غير مفيد إذ من المعلوم أنّ الرزق شيء من الأشياء ويؤيد ذلك أنّ البدل لا يأتي إلا لأحد معنيين البيان أو التأكيد، وهذا ليس فيه بيان لأنه أعمّ ولا تأكيد. الثالث: أنه منصوب على أنه اسم مصدر واسم المصدر يعمل عمل المصدر على خلاف في ذلك. ولما كان من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق نفى الله تعالى عنهم ذلك بقوله تعالى: {ولا يستطيعون} أي: وليس لهم نوع استطاعة أصلاً. فإن قيل: إنه تعالى قال: {ويعبدون من دون الله ما لا يملك} فعبر عن الأصنام بصيغة ما وهي لغير العاقل ثم جمع بالواو والنون. وقال: {ولا يستطيعون} وهو مختص بمن يعقل؟ أجيب: بأنه عبر عنها ثانياً اعتباراً باعتقادهم أنها آلهة. وفي تفسير قوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} وجهان: الأوّل: قال أكثر المفسرين: ولا تشبهوا الله بخلقه فإنه واحد لا مثل له ولا شبيه ولا شريك من خلقه لأنّ الخلق كلهم عبيده وفي ملكه، فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، والرازق بالمرزوق، والقادر بالعاجز. الثاني: أنّ عبدة الأوثان كانوا يقولون أنّ إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا، بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هؤلاء الأصنام، ثم إنّ الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حفدة الملك، وأولئك الأكابر كانوا يخدمون الملك فكذا ههنا. {إنّ الله} أي: الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره {يعلم} أي: خطأ ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له. {وأنتم لا تعلمون} ذلك وقيل معناه: وأنتم لا تعلمون ما عليكم من العقاب العظيم بسبب عبادة هذه الأصنام ولو علمتموه لتركتم عبادتها. ولما ختم تعالى إبطال مذهب عبدة الأصنام بسبب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، أكد ذلك بضرب مثل بقوله تعالى: {ضرب الله} أي: الذي له كمال العلم وتمام القدرة. {مثلاً} بالأحرار والعبيد ثم أبدل من مثلاً {عبداً} وقيده بقوله تعالى: {مملوكاً} ليخرج الحرّ. لأنّ العبد يطلق على الحرّ بالنسبة إلى الله تعالى وقيده بقوله تعالى: {لا يقدر على شيء} ليخرج المكاتب ومن فيه شائبة حرّية وهذا مثل شركائهم ثم عطف على عبداً قوله: {ومن} أي: وحرًّا فهي نكرة موصوفة ليطابق عبداً {رزقناه منا رزقاً حسناً} أي: واسعاً طيباً {فهو ينفق منه} دائماً وهو معنى قوله تعالى: {سراً وجهراً} أي: يتصرف فيه كيف يشاء وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى: {هل يستوون} أي: هذان الفريقان الممثل بهما لأن المراد الجنس فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوّى بين مخلوقين أحدهما حرّ مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوّى بين حجر من صوّان أو غيره وبين الله تعالى الذي له القدرة التامّة على كل شيء، وقيل: ذلك تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 تنبيه: جواب هل يستوون هو لا يستوون. وقوله تعالى: {الحمد لله} قال ابن عباس: الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد، وقيل المعنى: أن كل الحمد لله، وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد لأنها جماد عاجز، أي: إنما الحمد لله لا لغيره فيجب على جميع العباد حمد الله لأنه تعالى أهل المحامد والثناء الحسن، فكأنهم قالوا: نحن نعلم ذلك فقيل: {بل أكثرهم} أي: الكفار {لا يعلمون} لكونهم يسوّونه غيره ومن نفى عنه أصل العلم الذي هو أعلى صفات الكمال. كان في عداد الأنعام فهم لذلك يشبهون به ما ذكر ويضربون له الأمثال الباطلة ويضيفون نعمه إلى غيره. ثم إنه تعالى ضرب لعبدة الأوثان مثلاً آخر بقوله تعالى: {وضرب الله مثلاً} ثم أبدل منه {رجلين} ثم استأنف البيان لما أجمل فقال {أحدهما أبكم} وهو الذي ولد أخرس فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يسمع ولايبصر وصف الله تعالى هذا الرجل بصفة ثانية بقوله تعالى: {لايقدر على شيء} لأنه لايفهم ولاَيُفهم وفي ذلك إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل ثم وصفه الله تعالى بصفة ثالثة بقوله تعالى: {وهو} أي: ذلك الأبكم العاجز {كلّ على مولاه} أي: ثقيل على من ولي أمره ويعوله، قال أهل المعاني: أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة يقال: كلّ السكين إذا غلظت شفرته فلم تقطع وكلَّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينهض فيه ثم وصفه تعالى بصفة رابعة بقوله: {أينما يوجهه} أي: يرسله ويصرفه ذلك المولى {لا يأت بخير} لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم، قيل: هذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم ووبخهم الله تعالى بقوله: {هل يستوي هو} أي: هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع {ومن} أي: ورجل آخر على ضد صفته فهو ناطق قادر عالم فطن قوي خبير مبارك ميمون {يأمر} أي: ورجل آخر بماله من العلم والقدرة {بالعدل} أي: يبذل النصيحة لغيره {وهو} في نفسه ظاهراً وباطناً {على صراط} أي: طريق واضح {مستقيم} أي: عامل فيه بما يأمر به، قيل: هذا مثال المعبود بالحق الذي يكفي عابديه جميع المؤن وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته، وقيل: المراد من هذا الأبكم عبد لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان ذلك العبد يكره الإسلام وما كان فيه خير ومولاه وهو عثمان يأمر بالعدل وكان على الدين القويم والصراط المستقيم، وقيل: المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة وهذا القول كما قال الرازي أولى من الأول لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن وكذلك بالبكم وبالكلّ وبالتوجه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى وأيضاً المقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى، وأمّا القول الثاني فضعيف أيضاً لأنّ المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة وذلك غير مختص بشخص معين بل إذا حصل التفاوت في الصفات المذكورة فإنه يحصل المقصود. ثم وصف سبحانه وتعالى نفسه بكمال العلم بقوله تعالى: {ولله} أي: لا لغيره {غيب السموات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 والأرض} وهو ما غاب فيهما عن العباد بأن لم يكن محسوساً ولم يدل عليه محسوس، وقيل: الغيب هنا هو قيام الساعة فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض ثم وصف سبحانه وتعالى كمال قدرته بقوله تعالى: {وما أمر الساعة} وهو الوقت الذي يكون فيه البعث {إلا كلمح البصر} أي: إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، والمعنى: وما أمر قيام الساعة في السرعة والسهولة إلا كطرف العين والمراد منه تقدير كمال القدرة ومعنى قوله تعالى: {أو هو أقرب} إنّ لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ولا شك أنّ الحدقة مؤلفة من أجزاء فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف الحدقة ولاشك أن تلك الأجزاء كثيرة والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلذلك قال أو هو أقرب إلا أنه لما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر لا جرم ذكره، ثم قال: {أو هو أقرب} تنبيهاً على ما مرّ ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك فالمراد إذاً بل هو أقرب، وقال الزجاج: المراد به الإبهام على المخاطبين لا أنه تعالى يأتي بالساعة إمّا بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع، وقيل معناه: إنّ قيام الساعة وإن تراخى فهو عند الله كالشيء الذي تقولون فيه هو كلمح البصر أو هو أقرب مبالغة كقوله تعالى: {وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الرحمن، 47) . {إنّ الله} أي: الملك الأعظم {على كل شيء قدير} فيقدر على أن يحي الخلائق دفعة واحدة كما قدر على إحيائهم، فإنه تعالى مهما أراده كان في أسرع ما يكون ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فعطف على قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} قوله عز وجل: {والله} أي: الذي له العظمة كلها {أخرجكم} بقدرته وعلمه {من بطون أمّهاتكم} حال كونكم عند الإخراج {لا تعلمون شيئاً} من الأشياء قلّ أو جلّ فالذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطون الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة والباقون بضمها، وقرأ حمزة بكسر الميم والباقون بفتحها ثم عطف على أخرجكم قوله تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه وفتق مواضعها وسوّاها وعدلها، وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يد ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة فالذي قدر على ذلك في البطن إبداعاً قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى. قال البقاعيّ: ولعله تعالى جمعهما، أي: الأبصار والأفئدة دون السمع لأنّ التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله، والأفئدة هي القلوب التي هيأها الله تعالى للفهم وإصلاح البدن بما أودعها من الحرارة اللطيفة للمعاني الدقيقة {لعلكم تشكرون} لتصيروا بمعارف القلوب التي وهبكموها إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة فإنه إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم. فإن قيل: عطف وجعل لكم السمع على أخرجكم يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرين عن الإخراج من البطون مع أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الأمر ليس كذلك؟ أجيب: بأنّ حرف الواو لا يوجب الترتيب وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال ثم إنه تعالى ذكر دليلاً آخر على كمال قدررته وحكمته بقوله تعالى: {ألم يروا إلى الطير مسخرات} أي: مذللات للطيران {في جوّ السماء} أي: في الهواء بين الخافقين مما لا يقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول فعلم قطعاً أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران فيها وإلا لما أمكن ذلك لأنه تعالى أعطى الطير جناحاً يبسطه مرة ويكسره مرّة أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجوّ خلقة لطيفة رقيقة يسهل خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً ومع ذلك {ما يمسكهنّ} في الجوّ عن الوقوع {إلا الله} أي: الملك الأعظم فإنّ جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجوّ معلقاً من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوّ هو الله تعالى. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه خطاب العامّة والباقون بالياء على الغيبة {إنّ في ذلك} المذكور {لآيات} أي: دلالات {لقوم يؤمنون} وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء. ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من دلائل التوحيد بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له الحكمة البالغة. {جعل لكم من بيوتكم} وأصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه {سكناً} أي: موضعاً لتسكنوا فيه. تنبيه: البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين: أحدهما: البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت، وإليها الإشارة بقوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً} وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقلها، بل الإنسان ينتقل إليها. والقسم الثاني: القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} المتخذة من الأدم ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها {تستخفونها} أي: تتخذونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها. {يوم ظعنكم} أي: وقت ترحالكم وعبر باليوم لأنّ الترحال في النهار {ويوم إقامتكم} أي: وقت الحضر أو وقت النزول وهذا القسم من البيوت يمكن نقلها وتحويلها من مكان إلى مكان. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين والباقون بالسكون، وأضاف قوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} إلى ضمير الأنعام لأنها من جملتها. قال المفسرون وأهل اللغة: الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز. {أثاثاً} أي: ما يلبس ويفرش {ومتاعاً} أي: ما يتجر به، وقيل: الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به واختلف في معنى قوله تعالى: {إلى حين} فقيل: إلى حين تبلى، وقيل: إلى حين الموت، وقيل: إلى حين بعد حين، وقيل: إلى يوم القيامة. تنبيه: في نصب أثاثاً وجهان: أحدهما: أنه منصوب عطفاً على بيوتاً، أي: وجعل لكم من أصوافها أثاثاً. والثاني: أنه منصوب على الحال، واعلم أنّ الإنسان إمّا أن يكون مقيماً أو مسافراً والمسافر إمّا أن يكون غنياً يستصحب معه الخيام أولا فالقسم الأوّل أشار إليه بقوله تعالى: {جعل لكم من بيوتكم سكناً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وأشار إلى القسم الثاني بقوله تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له الجلال والإكرام {جعل لكم} أي: من غير حاجة منه تعالى {مما خلق} من شجر وجبال وأبنية وغيرها. وقوله تعالى: {ظلالاً} جمع ظل تتقون به شدّة الحرّ. وقوله تعالى: {وجعل لكم} مع غناه المطلق {من الجبال أكناناً} جمع كنّ موضع تسكنون فيه من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها {وجعل لكم} أي: امتناناً منه عليكم {سرابيل} جمع سربال. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، أي: وسواء كان من صوف أو كتان أو قطن أو غير ذلك {تقيكم الحرّ} ولم يقل تعالى والبرد لتقدّمه في قوله تعالى: {فيها دفء} (النحل، 5) . وقيل: إنه اكتفى بأحد المتقابلين. وقيل: كان المخاطبون بهذا الكلام العرب وبلادهم حارّة فكان حاجتهم إلى ما يدفع الحرّ فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} وسائر أنواع الثياب أشرف إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع لأنه كان الفهم بها أشدّ واعتيادهم للبسها أكثر، ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً لم يكرّر لفظ جعل فقال: {وسرابيل} أي: دروعاً من حديد وغيرها {تقيكم بأسكم} أي: حربكم، أي: في الطعن والضرب فيها. ولما عدّد الله تعالى أنواع نعمه قال: {كذلك} أي: كإتمام هذه النعمة المتقدّمة {يتمّ نعمته عليكم} في الدنيا والدين بالبيان والهداية لطريق النجاة والمنافع والتنبيه على دقائق ذلك {لعلكم} يا أهل مكة {تسلمون} أي: تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الأنعامات أحد سواه، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس الدروع. {فإن تولوا} فلم يقبلوا منك وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر {فإنما عليك} يا أفضل الخلق {البلاغ المبين} هذا جواب الشرط وفي الحقيقة جواب الشرط محذوف، أي: فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ فذكر سبب العذر وهو البلاع ليدل على المسبب وذلك لأنّ تبلغيه سبب في عذره فأقيم السبب مقام المسبب وهذا قبل الأمر بالقتال، ثم إنه تعالى ذمّهم بأنهم {يعرفون نعمة الله} أي: الملك الأعظم التي تقدّم عدّ بعضها في هذه السورة وغيرها {ثم ينكرونها} بعبادتهم غير المنعم بها، وقال السدي: نعمة الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه. وقيل: نعمة الله هي الإسلام وهو من أعظم النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده، ثم إنّ كفار مكة أنكروه وجحدوه، واختلف في معنى قوله تعالى: {وأكثرهم الكافرون} مع أنهم كلهم كانوا كافرين على وجوه؛ الأوّل: إنما قال تعالى: {وأكثرهم} لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة، ممن لم يبلغ حدّ التكليف أو كان ناقص العقل فأراد بالأكثر البالغين الأصحاء. الثاني: أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند وكان فيهم من لم يكن معانداً بل كان جاهلاً بصدق الرسول وما ظهر له كونه نبياً حقاً من عند الله. الثالث: أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع لأنّ أكثر الشيء يقوم مقام الكل، فذكر الأكثر كذكر الجميع، وهذا كقوله تعالى: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} (الزمر، 29) ولما بين تعالى من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضاً من حالهم أن أكثرهم كافرون أتبعه بالوعيد فذكر حال يوم القيامة بقوله تعالى: {ويوم} أي: وخوّفهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 يوم أو واذكر لهم يوم {نبعث} بعد البعث {من كل أمّة شهيداً} هو نبيها كما قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء، 41) يشهد نبيها لها وعليها يوم القيامة ليحكم تعالى بقوله إجراء للأمر على ما يتعارفون وإن كان تعالى غنياً عن شهيد. وقوله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفروا} فيه وجوه: أحدها: لا يؤذن لهم في الاعتذار كقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات، 36) . ثانيها: لا يؤذن لهم في كثرة الكلام. ثالثها: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف. رابعها: لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود. فإن قيل: ما معنى ثم ههنا؟ أجيب: بأنّ معناها أنهم يمتحنون، أي: يبتلون بغير شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو أطمّ منها وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة {ولا هم يستعتبون} أي: لا تزال عتباهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون، يقال: استعتبت فلاناً بمعنى اعتبته، أي: أزلت عتباه. {وإذا رأى الذين ظلموا} أي: ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي {العذاب} أي: عذاب جهنم بعد الموقف وشهادة الشهداء {فلا يخفف عنهم} ذلك العذاب {ولا هم ينظرون} أي: لا يمهلون. ولما بين تعالى حاصل أمرهم في البعث وما بعده وكان من أهمّ المهمّ أمرهم في الموقف مع شركائهم الذين كانوا يرجونهم عطف على ذلك بقوله تعالى: {وإذا رأى} أي: بالعين يوم القيامة {الذين أشركوا شركاءهم} أي: الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء من الشياطين وغيرها {قالوا ربنا} أي: يا من أحسن إلينا وربانا {هؤلاء شركاؤنا} أضافوهم إلى أنفسهم لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجبة لضرّهم ثم بينوا المراد بقولهم: {الذين كنا ندعوا} أي: نعبدهم {من دونك} ليقرّبونا إليك فأكرمنا لأجلهم جرياً على مناهجهم في الدنيا في الجهل والغباوة فخاف شركاؤهم من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب {فألقوا} أي: الشركاء {إليهم} أي: المشركين {القول} أي: بادروا به حتى كان إسراعهم إليه إسراع شيء ثقيل يلقى من علو وأكدوا قولهم فقالوا: {إنكم لكاذبون} في جعلنا شركاء أو أنكم عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم كقوله تعالى: {كلا سيكفرون بعبادتهم} (مريم، 82) ولا يبعد أن تنطق الأصنام بذلك يومئذ في أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إياه كقوله: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم، 22) . {وألقوا} أي: الشركاء {إلى الله} أي: الملك الأعلى {يومئذٍ} أي: يوم القيامة {السلم} أي: الاستسلام بحكمه بعد الاستكبار في الدنيا {وضلّ} أي: غاب {عنهم} أي: الكفار {ما كانوا يفترون} أي: من أنّ آلهتهم تشفع لهم. ولما ذكر تعالى وعيد الذين كفروا أتبعه بوعيد من ضمّ إلى كفره صد الغير عن سبيل الله بقوله تعالى: {الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله} أي: ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله وبرسوله {زدناهم عذاباً} لصدّهم {فوق العذاب} المستحق بكفرهم {بما كانوا يفسدون} أي: بكونهم مفسدين بصدّهم، وقيل: زدناهم عذاباً بحيات وعقارب كأمثال البخت يستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر أنّ لكل عقرب ستمائة نقرة في كل نقرة ثلاثمائة قلة من سم، وقيل: عقارب لها أنياب كالنخل الطوال ثم كرّر سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وتعالى التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السابقة وهو أنّ الشهادة تقع على الأمم لا لهم وتكون بحضرتهم فقال: {ويوم} أي: وخوفهم أو واذكر لهم يوم {نبعث} أي: بمالنا من القدرة {في كل أمّة} من الأمم والأمّة عبارة عن القرن والجماعة {شهيداً عليهم} قال ابن عباس: يريد الأنبياء قال المفسرون: كل نبيّ شاهد على أمّته وهو أعدل شاهد عليها {من أنفسهم} أي: منهم لأنّ كل نبيّ إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ليشهدوا عليهم بما فعلوا من كفر وإيمان وطاعة وعصيان {وجئنا} بما لنا من العظمة {بك} يا خير المرسلين {شهيداً على هؤلاء} أي: الذين بعثناك إليهم وهم أهل الأرض وأكثرهم ليس من قومه صلى الله عليه وسلم ولذلك لم تقيد بعثته بشيء، وقال أبو بكر الأصم: المراد بذلك الشهيد هوأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشد عليه وهو الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان، قال: والدليل عليه ماقاله في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم، ورد بأنه تعالى قال: {شهيداً عليهم} يجب أن يكون غيرهم، وأيضاً قال {من كل أمّة} فيجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمّة وآحاد هذه الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمّة، ثم بيّن تعالى أنه أزاح علتهم فيما كلفوا به فلا حجة لهم ولا معذرة بقوله تعالى: {ونزلنا} أي: بعظمتنا بحسب التدريج والتنجيم {عليك} ياخير خلق الله {الكتاب} أي: القرآن الجامع للهدى {تبياناً} أي: بياناً بليغاً {لكل شيء} فإن قيل: كيف كان القرآن تبياناً لكل شيء؟ أجيب: بأن المعنى من كل شيء من أمور الدين حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة حيث أمر فيه بإتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقد قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى} (النجم، 3) وحثاً على الاجماع في قوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} (النساء، 115) وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مسندة إلى تبيان الكتاب فمن ثم كان تبياناً لكل شيء {وهدى} أي: من الضلالة {ورحمة} لمن آمن به وصدّقه {وبشرى} بالجنة {للمسلمين} أي: الموحدين خاصة ولما استقصى سبحانه وتعالى في شرح الوعد والوعيد والرغبة والترهيب أتبعه بقوله: {إنّ الله} أي: الملك المستجمع لصفات الكمال {يأمر بالعدل} قال ابن عباس: في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا الله {والإحسان} أداء الفرائض، وقال في رواية أخرى: العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك فإن كان مؤمناً أحببت له أن يزداد إيماناً وإن كان كافراً أحببت له أن يكون أخاك في الإسلام، وقال في رواية ثالثة: العدل هو التوحيد والإحسان هو الإخلاص فيه وقال آخرون: يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وأصل العدل المساواة في كل شيء من غير زيادة ولا نقصان فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه والشرّ بأن تعفو عنه، وعن الشعبي قال عيسى بن مريم: إنما الإحسان أن تحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وقيل: العدل الإنصاف، والإنصاف أعدل من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وعن محمد بن كعب القرظي قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل؟ فقلت: بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابناً وللمثل منهم أخاً وللنساء كذلك. {وإيتاء} أي: ومن الإحسان إيتاء {ذي القربى} أي: القرابة القربى والبعدى فيندب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودّد. وروى أبو سلمة عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، إنّ أهل هذا البيت ليكونون تجاراً فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم» . ولما أمر تعالى بالمكارم نهى عن المساوئ بقوله تعالى: {وينهى عن الفحشاء} قال ابن عباس:، أي: الزنا، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها. وقال غيره: الفحشاء ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة جميعها. {والمنكر} قال ابن عباس: يعني الشرك والكفر. وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة أو سنة. {والبغي} هو الاستيلاء على الناس والتجبر عليهم قيل: إنّ أعجل المعاصي عقاباً البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي. ونص تعالى على البغي مع دخوله في المنكر اهتماماً به، كما بدأ بالفحشاء لذلك. وقال ابن قتيبة في هذه الآية: العدل استواء السرّ والعلانية والإحسان أن تكون سريرته خيراً من علانيته والفحشاء والمنكر والبغي أن تكون علانيته أحسن من سريرته. وقال بعض العلماء: إنّ الله تعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء وهو ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن يعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، وذكر في مقابلته المنكر وهو أن ينكر إحسان من أحسن إليه، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم. ولما كان هذا المذكور من أبلغ المواعظ نبه عليه بقوله تعالى: {يعظكم} أي: يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة الثلاثة الأول وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ومجانبة الثلاثة الأخيرة وهي الفحشاء والمنكر والبغي. {لعلكم تذكرون} أي: لكي تتعظوا فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد وفيه ادغام التاء في الأصل في الذال. وروى البيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن مسعود أنه قال: أعظم آية في كتاب الله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} (البقرة، 255) وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2، 3) وأشدّ آية في كتاب الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} (الزمر، 53) الآية. وقال أهل المعاني: لما قال الله تعالى في الآية الأولى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال فما من شيء يحتاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى به أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية. وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان من أهل الجاهلية يعملون به ويعظونه ويخشونه إلا أمر الله تعالى به وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه. وعن عكرمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى آخر الآية. فقال له: يا ابن أخي أعد عليّ فأعادها عليه؟ فقال الوليد: والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، ولما تقرّرت هذه الجمل التي جمعت بجمعها المأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت من البلاغة مبلغاً يحصل به غاية السرور. ذكر بعض تلك الأقسام وبدأ بما هو مع جمعه أهمّ وهو الوفاء بالعهد بقوله تعالى: {وأوفوا} أي: أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره {بعهد الله} أي: الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل من التوحيد والبيع والإيمان وغيرها من أصول الدين وفروعه {إذا عاهدتم} بتقلبكم له بإذعانكم لامتثاله {ولا تنقضوا الأيمان} واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى: {بعد توكيدها} أي: تشديدها فتحنثوا فيها، وفي ذلك دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منه. وقرأ أبو عمرو بادغام الدال في التاء بخلاف عنه. {و} الحال أنكم {قد جعلتم الله} أي: الذي له العظمة كلها {عليكم كفيلاً} أي: شاهداً ورقيباً. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالادغام. وعن جابر رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع على الإسلام فقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها} فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. {إنّ الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم ما تفعلون} من وفاء العهد ونقضه. ثم ضرب الله تعالى لنقض العهد مثلاً فقال: {ولا تكونوا} أي: في نقض العهد {كالتي نقضت غزلها} أي: ما غزلته فهو مصدر بمعنى المفعول {من بعد قوّة} أي: إبرام وإحكام، وقوله تعالى: {أنكاثاً} جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل والحبل. قال مقاتل: هذه إمرأة من قريش يقال لها: رائطة، وقيل: ريطة وتلقب بجعواء وكان خرقاء حمقاء لها وسوسة اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن وكان هذا دأبها. وقال السدّي: كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة تغزل فإذا برمت غزلها نقضته. وقال مجاهد: نقضت حبلها بعد إبرامها إياه. وقال قتادة: لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم ما أحمق هذه، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده. وقال في قوله تعالى: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} خيانة وغدراً انتهى. والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل: الدخل والدغل أن يظهر الرجل الوفاء بالعهد ويبطن نقضه وإنما كانوا يفعلون ذلك {أن} أي: بسبب أن {تكون} أو مخافة أن تكون، وتكون يجوز أن تكون تامّة فتكون {أمّة} أي: جماعة فاعلها وأن تكون ناقصة فتكون أمّة اسمها و {هي} مبتدأ و {أربى} أي: أكثر {من أمّة} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 خبره، والجملة في محل نصب على الحال على الوجه الأوّل وفي موضع الخبر على الثاني، وأربى مأخوذ من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوّة وفي الشرف. قال مجاهد: وكانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأوّلين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك {إنما يبلوكم الله} الذي له الملك كله، أي: يختبركم {به} أي: يعاملكم معاملة المختبر ليظهر للناس تمسككم بالوفاء وانخلاعكم عنه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين أو غيرهم مع قدرته سبحانه وتعالى على ما يريد فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القويّ ويقلل الكثير ويكثر القليل. {وليبينن لكم} أي: إذا تجلى لفصل القضاء {يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} أي: إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب، فاحذروا يوم العرض على مالك السموات والأرض، وأنّ من نوقش الحساب يهلك. {ولو شاء الله} أي: الملك الأعلى الذي لا أثر لأحد معه أن يجعلكم أمّة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه {لجعلكم أمّة واحدة} أي: متفقة على أمر واحد وهو دين الإسلام {ولكن} لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم فهو تعالى: {يضلّ من يشاء} عدلاً منه تعالى لأنه تامّ الملك، ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات {ويهدي} بفضله {من يشاء} ولو كان على أخس الحالات والأحوال فبذلك تكونون مختلفين لا يسئل عما يفعل سبحانه وتعالى {ولتسئلنّ عما كنتم تعملون} في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعدله تعالى. ولما حذر سبحانه وتعالى عن نقض العهد والأيمان مطلقاً قال تعالى: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً} أي: فساداً ومكراً وخديعة {بينكم} وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان وإلا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون: المراد نهي الذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد لأنّ قوله تعالى: {فتزلَّ} أي: فيكون ذلك سبباً لأن تزل {قدم} هي في غاية العظمة {بعد ثبوتها} أي: عن مركزها التي كانت به من دين أو دنيا فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها لا يليق بنقض عهد قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشرائعه. تنبيه: فتزل منصوب بإضمار أن على جواب النهي وزلل القدم مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية أو سقط في ورطة بعد سلامة أو محنة بعد نعمة {وتذوقوا السوء} أي: العذاب في الدنيا {بما} أي: بسبب ما {صددتم} أي: أنفسكم ومنعتم بأيمانكم التي قد أردتم بها الإفساد وخفاء الحق. {عن سبيل الله} أي: دينه وذلك أنّ من نقض العهد سهل على غيره طرق نقض العهد فيستن به {ولكم} مع ذلك {عذاب عظيم} أي: ثابت غير منفك إذا متم على ذلك ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التحذير بقوله تعالى: {ولا تشتروا} أي: ولا تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر أن تأخذوا وتستبدلوا. {بعهد الله} الذي له الكمال كله {ثمناً قليلاً} أي: من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً ثم علل قلته بقوله تعالى: {إنما عند الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 أي: الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين {هو خير لكم} ولا يعدل عن الخير إلى غيره إلا لجوج ناقص العقل، ثم شرط علم خيريته لكونهم من ذوي العلم بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: إن كنتم من أهل العلم والتمييز فتعلمون فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك بقوله تعالى: {ما عندكم} أي: من متاع الدنيا ولذاتها {ينفد} أي: يفنى فصاحبه منغص العيش أشدّ ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه {وما عند الله} أي: الذي له الأمر كله من ثواب الآخرة ونعيم الجنة {باق} أي: دائم. روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» . وقرأ ابن كثير باقي في الوقف بالياء، والباقون بغير ياء. وأمّا في الوصل فالجميع بالتنوين. {وليجزينّ الذين صبروا} على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي في السرّاء والضرّاء. {أجرهم} أي: ثواب صبرهم {بأحسن ما كانوا يعملون} أي: بجزاء أحسن من أعمالهم أو يجزيهم على أحسن أعمالهم وذلك لأنّ المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شكّ أنّ الواجبات والمندوبات مما يثاب على فعلها لا على فعل المباحات. وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون قبل الجيم، أي: ولنجزين نحن والباقون بالياء، أي: وليجزين الله. ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في الإيمان بكل ما كان من شرائع الإسلام بقوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} إذ لا اعتداد بأعمال الكفار في استحقاق الثواب وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب. فإن قيل: من عمل صالحاً يفيد العموم فما فائدة من ذكر أو أنثى؟ أجيب: بأنه ذكر دفعاً للتخصيص بأحد الفريقين. واختلف في قوله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} فقال سعيد بن جبير وعطاء: هي الررزق الحلال. وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة. وقال الحسن: هي القناعة لأنّ عيش المؤمن في الدنيا وإن كان فقيراً أطيب من عيش الكافر وإن كان غنياً، لأنّ المؤمن لما علم أنّ رزقه من عند الله تعالى وذلك بتقديره وتدبيره تعالى. وعرف أنّ الله تعالى محسن كريم حكيم يضع الأشياء في محلها فكان المؤمن راضياً بقضاء الله وبما قدّره له ورزقه إياه، وعرف أنّ مصلحته في ذلك القدر الذي رزقه فاستراحت نفسه من الكدر والحرص فطاب عيشه بذلك، وأمّا الكافر والجاهل بهذه الأصول فدائم الحرص على طلب الرزق فيكون أبداً في حزن وتعب وعناء وحرص في الدنيا ولا يناله من الرزق إلا ما قدّر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره. وقال السدّي: الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأنّ المؤمن يستريح بالموت من كدّ الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة: هي الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة. فأثبت بهذا أنّ الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولا مانع من أنّ المؤمن الكامل يحصل جميع ذلك ثم إنّ الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {ولنجزينهم أجرهم} أي: في الدنيا والآخرة {بأحسن ما كانوا يعملون} أي: من الطاعة وقد سبق تفسيره. ولما قال تعالى: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} أرشد به إلى العمل الذي به تخلص أعماله من الوسواس بقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} أي: أردت قراءته {فاستعذ} أي: إن شئت جهراً وإن شئت سرًّا. قال الشافعي رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 تعالى عنه: والإسرار أولى في الصلاة. وفي قول يجهر كما يفعل خارج الصلاة. {بالله} أي: سل الذي له الكمال كله أن يعيذك {من الشيطان} أي: المحترق باللعنة {الرجيم} أي: المطرود عن الرحمة من أن يصدّك بوساوسه عن اتباعه ويدخل في ذلك جميع المردة من الشياطين لأنّ لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله تعالى على ذلك. وقيل: المراد إبليس خاصة والاستعاذة بالله تعالى هي الاعتصام به، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمّته وظاهر الآية وجوب الاستعاذة، وإليه ذهب عطاء سواء كانت القراءة في الصلاة أم في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أنها سنة في الصلاة وغيرها والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة منها القراءة بدون ذكر تعوّذ كحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد بن العلاء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت أصلي. قال ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} (الأنفال، 24) ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن {الحمد لله رب العالمين} » . وفي رواية الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم نادى أبيّاً وأنه قال له: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: أبيّ: فقرأت {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت إلى آخرها» ، وظاهر الآية يدل على أنّ الاستعاذة بعد القراءة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وداود الظاهريّ. قالوا: لأنّ قارئ القرآن يستحق ثواباً عظيماً وربما حصل الوسواس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أو لا، فإذا استعاذ بعد القرءاة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصاً والذي ذهب إليه الأكثرون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار أنّ الاستعاذة مقدّمة على القراءة قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله وتبعتهم على ذلك فلهذا قدّرت ذلك في الآية الكريمة، ومثل ذلك قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة، 6) ومثله من الكلام إذا أكلت فسمّ،، أي: إذا أردت أن تأكل فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا سافرت فتأهب، أي: إذا أردت السفر فتأهب، وأيضاً الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها. ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنّ للشيطان قدرة على التصرّف في إتيان الإنسان أزال الله تعالى ذلك الوهم وبيّن أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة بقوله تعالى: {إنه ليس له سلطان} أي: بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه. {على الذين آمنوا} أي: بتوفيق ربهم لهم. {وعلى ربهم} وحده {يتوكلون} أي: على أوليائه المؤمنين به والمتوكلين عليه، فإنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته. وعن سفيان الثوريّ قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، ثم وصل تعالى بذلك ما أفهمه من أنّ له سلطاناً على غيرهم بقوله: {إنما سلطانه} أي: الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله تعالى له: {على الذين يتولونه} أي: يجيبونه ويطيعونه {والذين هم به} أي: بالله تعالى {مشركون} وقيل الضمير راجع إلى الشيطان والمعنى هم بسببه مشركون بالله. ولما كان المشركون إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ناسخة لها يقولون إن محمداً يستهزئ بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه نزل. {وإذا بدّلنا} أي: بقدرتنا بالنسخ {آية} سهلة كالعدّة بأربعة شهور وعشر وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقة كتحريم الخمر وإيجاب الصلوات الخمس فجعلناها {مكان آية} شاقة كالعدّة بحول ومصابرة عشرة من الكفار أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر والتبديل رفع الشيء ووضع غيره مكانه {والله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة {أعلم بما ينزل} من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو غيره {قالوا} أي: الكفار {إنما أنت} يا محمد {مفتر} أي: متقوّل على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وهو جواب إذا. {والله أعلم بما ينزل} اعتراض، والمعنى: والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك ومصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم إنما أنت مفتر، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزل فما لهم ينسبون محمداً إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ {بل أكثرهم} وهم الذين يستمرّون على الكفر {لا يعلمون} حكمة فائدة النسخ والتبديل ولا يميزون الخطأ من الصواب، فإن الله تعالى أعلم بمصالح العباد كما أنّ الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدّة ينهاه عنها، ويأمره بغيرها بضدّ تلك الشربة، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالردّ عليهم بقوله تعالى: {قل} لمن واجهك بذلك منهم {نزّله} أي: القرآن بحسب التدريج لأجل أتباع المصالح بإحاطة علم المتكلم به {روح القدس} أي: جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدّس المطهر من المآثم {من ربك بالحق} أي: متلبساً بالحكمة {ليثبت الذين آمنوا} أي: ليثبت بالقرآن قلوب الذين آمنوا فيزدادوا إيماناً ويقيناً {وهدى} أي: بياناً واضحاً {وبشرى للمسلمين} أي: المنقادين لحكمك. فإن قيل: ظاهر الآية أن القرآن لا ينسخ بالسنة لقوله تعالى: {وإذا بدّلنا آية مكان آية} إذ متقضاه أنّ الآية لا تنسخ إلا بأخرى؟ أجيب: بأنّ هذه الآية دلت على أنه تعالى يبدّل آية بآية ولا دلالة فيها على أنه لا يبدّل آية إلا بآية، وأيضاً فجبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالآية. ولما كان المشركون يقولون: إن محمداً إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله وليس هو من عند الله كما يزعم نزل قوله تعالى: {ولقد نعلم} أي: علماً مستمرّاً {أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر} واختلف في البشر الذي قال المشركون إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعلم منه فقيل: هو عبد لبني عامر بن لؤيّ يقال له: يعيش كان يقرأ الكتب، وقيل: عداس غلام عتبة بن ربيعة، وقيل: عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، وكان اسمه خيراً فكانت قريش تقول: عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة تعلّم محمداً، وقيل: كان بمكة نصراني أعجميّ اللسان اسمه بلعام، ويقال: ابن ميسرة يتكلم بالرومية، وقيل: سلمان الفارسي، وبالجملة فلا فائدة في تعداد هذه الأسماء والحاصل أنّ القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه، ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه فأجاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الله تعالى عنه تكذيباً لهم فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب بقوله تعالى: {لسان الذي يلحدون} أي: يميلون إليه أو يشيرون {إليه} أي: أنه يعلمه {أعجميّ} أي: لا يعرف لغة العرب وهو مع ذلك الكن في التأدية غير مبين {وهذا} أي: القرآن {لسان عربيّ مبين} أي: ذو بيان وفصاحة فكيف يعلمه أعجميّ. وروي أنّ الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه. {إنّ الذين لا يؤمنون} أي: لا يصدقون كل تصديق معترفين {بآيات الله} أي: الذي له العظمة كلها {لا يهديهم الله} أي: لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة. ثم أخبر الله تعالى أنّ الكفار المفترون بقوله تعالى: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} أي: القرآن بقولهم: هذا من قول البشر {وأولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الكاذبون} أي: الكاملون في الكذب لأنّ تكذيب آيات الله أعظم من الكذب أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين. ولما ذكر تعالى الذين لا يؤمنون مطلقاً أتبعهم صنفاً منهم هم أشدّ كفراً بقوله تعالى: {من} أي: أيّ مخلوق وقع له أنه {كفر بالله} أي: الذي له صفات الكمال بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر {من بعد إيمانه} بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم {إلا من أكره} أي: على التلفظ بالكفر فتلفظ به {وقلبه مطمئن بالإيمان} فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب. روي أنّ قريشاً أكرهوا عماراً وأباه ياسراً وأمّه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل ياسر وهما أوّل قتيل في الإسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهاً وهو كاره بقلبه فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كفر فقال صلى الله عليه وسلم «كلا إنّ عماراً امتلأ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول: ما لك إن عادوا لك فقل لهم مثل ما قلت» . تنبيه: في الآية دليل على إباحة التلفظ بالكفر وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه. ولما روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضاً، فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» . واختلف الأئمة في وقوع الطلاق بالإكراه فقال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى: لا يقع طلاق المكره. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: يقع. واستدل الشافعي بقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} (البقرة، 256) ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأنّ ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره، أي: لا أثر له ولا عبرة به. وقال عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وقال أيضاً: «لا طلاق في إغلاق» ، أي: إكراه. وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحلّ له} (البقرة، 23) وهذا قد طلقها. وأجيب بأنّ الآية مخصوصة بغير ذلك جمعاً بين الأدلة. {ولكن من شرح بالكفر صدراً} أي: فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به {فعليهم غضب} أي: غضب لم تبين جهة عظمه لكونه {من الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 أي: الملك الأعظم {ولهم} أي: بظواهرهم وبواطنهم {عذاب عظيم} في الآخرة لارتدادهم على أعقابهم. {ذلك} أي: الوعيد العظيم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {استحبوا} أي: أحبوا حباً عظيماً {الحياة الدنيا} الكائنة الحاضرة الفانية فآثروها {على الآخرة} الباقية الفاخرة لأنهم رأوا ما فيه المؤمنون من الضيق والكافرون من السعة {وأنّ الله} أي: الذي له الغنى المطلق {لا يهدي القوم الكافرين} أي: لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل. {أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين طبع الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه {على قلوبهم} أي: ختم عليها واستوثق. ولما كان التفاوت في السمع نادراً وحده بقوله تعالى: {وسمعهم} أو بمعنى أسماعهم ليناسب قوله تعالى: {وأبصارهم} فصاروا بعدم انتفاعهم بهذه المشاعر كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون {وأولئك} أي: الأباعد من كل خير {هم الغافلون} عما يراد بهم من العذاب في الآخرة. {لا جرم} أي: لا شك {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} أي: أكمل الناس خسارة لأنّ الله تعالى وصفهم بست صفات الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله تعالى. الثانية: أنهم استوجبوا العذاب الأليم. الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. الرابعة: أنّ الله تعالى حرمهم من الهداية. الخامسة: أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. السادسة: أنه جعلهم من الغافلين عن العذاب الشديد يوم القيامة إذ كل واحدة من هذه الصفات من أعظم الأحوال المانعة من الفوز بالخيرات والسعادات ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان في الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب حكم تعالى عليهم بالخسران. ولما ذكر تعالى حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن بقوله تعالى: {ثم إنّ ربك} أي: المحسن إليك {للذين هاجروا} إلى المدينة الشريفة بالولاية والنصر وقوله تعالى: {من بعد ما فتنوا} قرأ ابن عامر بفتح الفاء والتاء على استناد الفعل إلى الفاعل والباقون بضم الفاء وكسر التاء على فعل ما لم يسمّ فاعله وجه القراءة الأولى أنه عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً، وأنهم لما صبروا على عذاب المشركين فكأنهم فتنوا أنفسهم وإن عاد على المشركين فهو ظاهر، أي: فتنوا المؤمنين لأنّ أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردّة والرجوع عن الإيمان فبيّن تعالى أنهم هاجروا {ثم جاهدوا وصبروا} على الطاعة {إنّ ربك من بعدها} أي: الفتنة {لغفور} أي: بليغ الإكرام {رحيم} فهو يغفر لهم ويرحمهم. تنبيه: حذف خبر إنّ الأولى لدلالة خبر الثانية عليه أو مقدّر بما مرّ. {يوم} أي: اذكر يوم {تأتي كل نفس} أي: وإن عظم جرمها {تجادل} ، أي: تحاجج {عن نفسها} أي: لا يهمها غيرها وهو يوم القيامة. فإن قيل: ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ أجيب: بأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي فالنفس الأولى هي الجملة والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كلٌ يقول: نفسي نفسي، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 كقولهم: هؤلاء الذين أضلونا وما كنا مشركين. {وتوفى كل نفس} صالحة أو غير صالحة {ما عملت} أي: جزاءه من جنسه {وهم لا يظلمون} أي: شيئاً. ولما هدّد تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هدّدهم أيضاً بآفات الدنيا وهي الوقوع في الجوع والخوف بقوله تعالى: {وضرب الله} أي: المحيط بكل شيء {مثلاً} ويبدل منه {قرية} هي مكة والمراد أهلها {كانت آمنة} أي: ذات أمن ويأمن بها أهلها في زمن الخوف، قال تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت، 67) والأمن في مكة كان كذلك، لأنّ العرب كان يغير بعضهم على بعض دون أهل مكة فإنهم كانوا أهل حرم الله والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم. {مطمئنة} أي: قارة بأهلها لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال، بسبب زيادة الأمن بكثرة العدد وقوّة المدد وكف الله تعالى الناس عنها ووجود ما يحتاج إليه أهلها. فإن قيل: الاطمئنان هو الأمن فيلزم التكرار؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: {آمنة} إشارة إلى الأمن وقوله تعالى: {مطمئنة} أي: لا يحتاجون فيها إلى نجعة كما مرّ، وقيل: أشار تعالى بذلك إلى الصحة لأنّ هواء ذلك البلد كان ملائماً لأمزجتهم فلذلك اطمأنوا إليه واستقرّوا. قالت العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية. {يأتيها} أي: على سبيل التجدّد والاستمرار {رزقها رغداً} أي: واسعاً طيباً {من كل مكان} برّ وبحر بتيسير الله تعالى. ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً نبه تعالى على ذلك بقوله تعالى: {فكفرت بأنعم الله} أي: الذي له الكمال كله وأنعم جمع نعمة. قال الزمخشري: على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال قطرب: هي جمع نعم والنعم النعمة، يقال: هذه أيام نعم وطعم فلا تصوموا، وقيل: جمع نعماء مثل بأساء وأبؤس. فإن قيل: الأنعم جمع قلة فكأنّ تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من نعم الله فعذبها الله تعالى فلم لم يقل تعالى: كفروا بنعم عظيمة فاستوجبوا العذاب؟ أجيب: بأنّ المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى فإن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فبكفران النعم الكثيرة أولى وبأنّ الله تعالى أنعم عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه. {فأذاقها الله} أي: المحيط بكل شيء {لباس الجوع} بعد رغد العيش سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة، وقيل: إنّ القرية غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة يكون غير مكة. {والخوف} بسرايا النبيّ صلى الله عليه وسلم تنبيه: استعير الذوق لإدراك أثر الضرر واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والحوف وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير عزة: *غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... غلقت لضحكته رقاب المال فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظراً إلى المستعار له ولو نظر إلى المستعار لقال: ضافي الرداء، أي: سابغه ومعنى البيت إذا ضحك المسؤول ضحكة أيقن السائل بذلك التبسم استرقاق رقاب ماله وأنه يعطي بلا خلاف وقد ينظر إلى المستعار له كقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 *ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر *لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر استعار الدراء للسيف ثم قال: فاعتجر نظراً إلى المستعار ولو نظر إلى المستعار منه لقال تعالى في الآية: وكساهم لباس الجوع والخوف ولقال كثير: ضافى الرداء إذا تبسم ضاحكاً وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة، وقال ابن عطية: لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى: *إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت عليه فكانت لباسا ومثله قوله تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} (البقرة، 187) ومثله قول الشاعر: *وقد لبست بعد الزبير مجاشع ... لباس التي حاضت ولم تغسل الدما كأنَّ العار لما باشرهم ولصق بهم كأنهم نسوة وقوله تعالى: {فأذاقها} نظير قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49) ونظير قول الشاعر: دون ما جنيت فاحس وذق. وقوله تعالى: {بما كانوا يصنعون} يجوز أن تكون ما مصدرية، أي: بسبب صنعهم أو بمعنى الذي والعائد محذوف، أي: بسبب الذي كانوا يصنعونه والواو في يصنعون عائد على أهل البلد، وقيل: قرية نظير قوله تعالى: {أو هم قائلون} (الأعراف، 4) بعد قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} (الأعراف، 4) . ولما ذكر الله تعالى المثل ذكر الممثل له فقال تعالى: {ولقد جاءهم} أي: أهل هذه القرية {رسول منهم} من نسبهم يعرفونه بأصله ونسبه وهو محمد صلى الله عليه وسلم {فكذبوه فأخذهم العذاب} قال ابن عباس: يعني الجوع الذي كان بمكة، وقيل: القتل الذي كان يوم بدر {وهم ظالمون} أي: في حال تلبسهم بالظلم كقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} (النساء، 97) نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالادغام ثم قال تعالى: {فكلوا} أي: أيها المؤمنون {مما رزقكم الله} قال ابن عباس: يريد من الغنائم. وقال الكلبي: إنّ رؤوساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، وكانت الميرة قد قطعت عنهم فأذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى: {كلوا مما رزقكم الله} . وقال الرازي: والقول ما قال ابن عباس يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية {إنما حرم عليكم الميتة} يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا مما رزقكم الله. {حلالاً طيباً} وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم. ولما أمرهم تعالى بأكل الحلال أمرهم بشكر النعمة بقوله تعالى: {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون} أي: تطيعون. تنبيه: رسمت نعمت بالتاء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالهاء والباقون بالتاء والكسائي يقف بالإمالة. وتقدّم تفسير قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإنّ الله غفور رحيم} في سورة البقرة فلا إفادة في تفسير ذلك. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة فمن اضطر في الوصل بكسر النون والباقون بالضمّ. تنبيه: حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور أيضاً في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه} (الأنعام، 145) الآية. وفي سورة المائدة في قوله تعالى: {أحلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} (المائدة، 41) وأجمعوا على أنّ المراد بقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم} هو قوله تعالى في سورة البقرة: {حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله} (البقرة، 173) وقوله تعالى في المائدة: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} (المائدة، 3) فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال تعالى: {وما ذبح على النصب} (المائدة، 3) وهو أحد الأشياء الداخلة تحت قوله تعالى: {وما أهل به لغير الله} (البقرة، 173) فثبت أنّ هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربعة سورتان مكيتان وسورتان مدنيتان، فإنّ سورة البقرة مدنية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة إلا ما خصه الإجماع والدلائل العقلية القاطعة كان في محل أن يخشى عليه، لأنّ هذه السورة دلت على أنّ حصر المحرمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أوّل زمان مكة وآخره، وأوّل زمان المدينة وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربعة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة. ولما حصر تعالى المحرمات في هذه الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار وفي الزيادة على هذه الأربعة تارة وفي النقصان عنها أخرى بقوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} لما لم يحله الله ولم يحرمه فإنهم كانوا يحرّمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكانوا يقولون: {ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا} (الأنعام، 193) فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضاً في المحللات لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فبيّن تعالى أنّ المحرمات هي هذه الأربعة وبين أن الأشياء التي يقولون هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله تعالى. تنبيه: في انتصاب الكذب وجهان؛ أحدهما: قال الكسائي: ما مصدرية والتقدير ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال: لا تقولوا لكذا وكذا كذا وكذا. فإن قيل: حمل الآية على هذا يؤدّي إلى التكرار لأنّ قوله تعالى: {لتفتروا على الله الكذب} عين ذلك؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: {لما تصف ألسنتكم الكذب} ليس فيه بيان أنه كذب على الله فأعاده ليحصل فيه هذا البيان الزائد. ونظيره في القرآن كثير، وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ويعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني: أن تكون ما موصولة والتقدير: ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام، وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً، وقيل: اللام في لتفتروا لام العاقبة كما في قوله تعالى: {ليكون لهم عدوًّا وحزناً} (القصص، 8) . فإن قيل: ما معنى وصف ألسنتكم الكذب؟ أجيب: بأنّ ذلك من فصيح الكلام وبليغه جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه وإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال، أي: هي جميلة، وعينها تصف السحر، أي: هي ساحرة فلما أرادوا المبالغة في وصف الوجه بالجمال ووصف العين بالسحر عبروا بذلك. ثم إنه تعالى أوعد المفترين بقوله تعالى: {إنّ الذين يفترون على الله} أي: الذي له الملك كله {الكذب} منكم ومن غيركم {لا يفلحون} أي: لا يفوزون بخير لأن المفتري يفتري لتحصيل مطلوب فنفى الله تعالى عنه الفلاح، لأنه الفوز بالخير والنجاح. ثم بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 تعالى أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب بقوله تعالى: {متاع قليل} أي: منفعة قليلة تنقطع عن قرب لفنائه وإن امتدّ ألف عام {ولهم} بعده {عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة. ولما بين تعالى ما يحل ويحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما يخص اليهودية من المحرمات بقوله تعالى: {وعلى الذين هادوا} أي: اليهود {حرّمنا} عليهم عقوبة لهم بعداوتهم وكذبهم على ربهم {ما قصصنا عليك} يا أجل المرسلين {من قبل} أي: في سورة الأنعام وهو قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر} (الأنعام، 164) الآية. {وما ظلمناهم} أي: بتحريم ذلك عليهم {ولكن كانوا} أي: دائماً طبعاً لهم وخلقاً مستمرًّا {أنفسهم} خاصة {يظلمون} بالبغي والكفر فضيقنا عليهم معاملة بالعدل وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة. ولما بيّن تعالى هذه النعمة الدنيوية عطف عليها نعمة هي أكبر منها جدًّا استجلاباً لكل ظالم، وبين عظمتها بحرف التراخي فقال تعالى: {ثم إن ربك} أي: المحسن إليك {للذين عملوا السوء} وهو يتناول كل ما لا ينبغي فعله فيشمل الكفر وسائر المعاصي {بجهالة} أي: بسببها أو ملتبسين بها ليعمّ الجهل بالله وبقضائه وعدم التدبر في العواقب، فكل من عمل سوءاً إنما يفعله بالجهالة، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً لأنه لو لم يعتقد كونه حقاً فإنه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية فلأن العالم لم تصدر منه المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل، فثبت أنّ كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة. {ثم تابوا من بعد ذلك} أي: الذنب ولو كان عظيماً واقتصروا على ما أذن فيه خالقهم {وأصلحوا} بالاستمرار على ذلك {إن ربك} أي: المحسن إليك بتسهيل دينك وتيسيره {من بعدها} أي: التوبة {لغفور} أي: بليغ الستر لما عملوا من السوء {رحيم} أي: بليغ الرحمة محسن بالإكرام فضلاً منه ونعمة. ولما دعاهم الله تعالى إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام رئيس الموحدين لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة ووصفه بتسع صفات. الصفة الأولى: قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمّة} أي: لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا متفرّقة في أشخاص كثيرة كقول القائل: وليس لله، أي: من الله ـ بمستنكر أن يجمع العالم في واحد أي أن يجمع صفاتهم في شخص واحد. وقال مجاهد: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كانوا كفاراً فلهذا المعنى كان وحده أمّة واحدة. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعثه الله امّة واحدة» . وعن شهر بن حوشب لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله تعالى بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده، وقيل: أمّة فعلة بمعنى مفعول كالدخلة والنخبة من أمّه إذا قصده واقتدى به، فإنّ الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيره كقوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} (البقرة، 124) . وقرأ هشام أن إبراهام وملة إبراهام بالألف بعد الهاء فيهما. وقرأ الباقون بالياء فيهما. الصفة الثانية: قوله تعالى: {قانتاً لله} أي: مطيعاً له قائماً بأوامره. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {حنيفاً} أي: مائلاً عن الباطل، قال ابن عباس: إنه أوّل من اختتن، وأقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 مناسك الحج، وضحى وهذه السنة الحنيفية. الصفة الرابعة: قوله تعالى: {ولم يك من المشركين} أي: أنه عليه الصلاة والسلام كان من الموحدين في الصغر والكبر، وقد أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: {لا أحب الآفلين} (الأنعام، 76) ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أنّ القوم ألقوه في النار وذلك دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه، وهو قوله: {ربي الذي يحيي ويميت} (البقرة، 258) . ثم طلب من الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ليحصل له زيادة الطمأنينة. قال الرازي: ومن وقف على علم القرآن علم أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان غريقاً في بحر علم التوحيد. الصفة الخامسة: قوله تعالى: {شاكراً لأنعمه} فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلة ونعمة الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة فلم قال: {شاكراً لأنعمه} ؟ أجيب: بأنه ذكر القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر القليلة فكيف بالكثيرة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً فقال لهم: الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم بهذا البلاء. الصفة السادسة: قوله تعالى: {اجتباه} أي: اصطفاه للنبوّة واختاره لخلقه. الصفة السابعة: قوله تعالى: {وهداه إلى صراط مستقيم} أي: وهداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم، والدين القويم، ونظيره قوله تعالى: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} (الأنعام، 153) . الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وآتيناه في الدنيا حسنة} قال قتادة: حببه للناس حتى أنّ أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه، وأمّا المسلمون واليهود والنصارى فظاهر، وأمّا كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به وتحقيق القول أنّ الله تعالى أجاب دعاءه في قوله: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، 84) وقال آخرون: هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل: أولاداً أبراراً على الكبر. الصفة التاسعة: قوله تعالى: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} في الجنة. فإن قيل: لم لم يقل تعالى في أعلى مقامات الصالحين؟ أجيب: بأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} (الشعراء، 83) فقال تعالى هنا: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إنّ كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين، فإنّ الله تعالى بيّن ذلك في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء} (الأنعام، 83) . ولما وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في أتباعه مشيراً إلى علو مرتبته بحرف التراخي بقوله تعالى: {ثم أوحينا إليك} يا أشرف الرسل. وقيل: أتي بثم للتراخي، أي: لتراخي أيامه عن أيام إبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام. {أن اتّبع ملة إيراهيم} في التوحيد والدعوة إليه بالرفق وإيراد الدلائل مرّة بعد أخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه، ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً. وقيل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له وقوله تعالى: {حنيفاً} حال من النبيّ صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون حالاً من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {وما كان من المشركين} كرّره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ردًّا على من زعم من اليهود والنصارى أنهم على دينه، وقوله سبحانه وتعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} فيه قولان: الأوّل: روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة وقال تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل عليهم السبت وشدّد عليهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم، أي: اليهود بعد عيدنا فاتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن الله تعالى كتب يوم الجمعة على من كان قبلكم فاختلفوا فيه وهدانا الله له فهم لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد» . فإن قيل: هل في العقل وجه يدل على أنّ الجمعة أفضل من السبت والأحد فإن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام وبدأ تعالى بالخلق والتكوين في يوم الأحد وتمم في يوم الجمعة فكان يوم السبت يوم الفراغ فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال فعينوا يوم السبت لهذا المعنى. وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيدنا فهذان الوجهان معقولان لنا فما وجه جعل يوم الجمعة عيداً؟ أجيب: بأنّ يوم الجمعة هو يوم التمام والكمال وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه. القول الثاني: اختلافهم في السبت هو أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرّموه تارة وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة. {وإن ربك} أي: المحسن إليك بطواعية أصحابك لك، {ليحكم بينهم} أي: هؤلاء المختلفين {يوم القيامة} وهو يوم اجتماع جميع الخلائق {فيما كانوا فيه يختلفون} فيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. ولما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بين الشيءالذي أمره بمتابعته فيه بقوله تعالى: {ادع} أي: كل من تمكن دعوته ممن بعثت إليه {إلى سبيل ربك} أي: المحسن إليك بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية {بالحكمة} أي: المعاملة المحكمة وهو الدليل الواضح المزيل للشبهة {والموعظة الحسنة} أي: بالدعاء إلى الله تعالى بالترغيب والترهيب بالخطابات المتقنة والعبارات النافعة. والأولى لدعوى خواص الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوى عوامهم {وجادلهم} أي: وجادل معانديهم {بالتي} أي: بالمجادلة التي {هي أحسن} كالدعاء إلى الله تعالى بآياته والدعاء إلى حججه بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير غلظ ولا تعسف فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم، وتبيين شبههم، وقيل: المراد بالحكمة القرآن، أي: ادعهم بالقرآن والموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وفي الأمر بالمجادلة التي هي أحسن الإعراض عن أذاهم وعدم التقصير في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق وعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير: هذا منسوخ بآية السيف، وقيل: إنّ الناس خلقوا وجبلوا على ثلاثة أقسام: القسم الأوّل: العلماء الكاملون وهم أصحاب العلوم الصحيحة والبصائر الشافية الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها فهؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 هم المشار إليهم بقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} أي: ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني: أصحاب الفطرة السليمة والخلقة الأصلية وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حد الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوسط الأقسام وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {والموعظة الحسنة} أي: ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث: أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهؤلاء هم المشار إليهم بقوله تعالى: {وجادلهم بالتي أحسن} أي: حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه. {إن ربك} المحسن إليك بالتخفيف عنك {هو أعلم} أي: من كل من يتوهم فيه علم {بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} أي: فهو سبحانه وتعالى أعلم بالفريقين فمن كان فيه خير كفاه الوعظ والنصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل وكأنك تضرب في حديد بارد فما عليك إلا البلاغ والدعوة، وأمّا حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس ذلك إليك، وهذا قبل الأمر بالقتال. وذكر في قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} أقوال: أحدها: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أما أنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه نظر إلى شيء لم ينظر إلى شي قط أوجع لقلبه منه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم رحمة الله عليك فإني ما علمتك إلا فعالاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك فنزلت، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أراد وكفر عن يمينه» . وقال المسلمون أيضاً: لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به إلا حنظلة بن الراهب فإنّ أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن ظفرنا عليهم لنزيدّن عليهم يعني على صنيعهم ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد. القول الثاني: أنّ هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حتى كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبتدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} (البقرة، 19) وفي هذه الآية أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. القول الثالث: أنّ المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين. قال الرازي: وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله، وهو غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال: إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحق بإحدى الطرق الثلاثة وهي: الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن، ثم إنّ تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة وذلك مما يشوّش قلوبهم ويوحش صدورهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً. ثم إنّ ذلك الداعي المحق إذا سمع تلك السفاهات لا بدّ وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه. فإن قيل: فهل تقدحون فيما روي أنه عليه الصلاة والسلام ترك العزم على ترك المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ أجيب: بأنه لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنّ تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى. تنبيه: أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية، ورتب ذلك على أربع مراتب المرتبة الأولى: قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} أي: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإنّ استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله تعالى ورحمته، وفي قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} دليل على أنّ الأولى له أن لا يفعل كما أنك إذا قلت للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح كان معناه: أنّ الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز، والتعريض أنّ الأولى تركه. المرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام لأنّ الرحمة أفضل من القسوة والانتفاع أفضل من الانتقام. وقرأ لهو قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون برفعها. المرتبة الثالثة: هو الأمر الجازم بالترك وهو قوله تعالى: {واصبر} لأنه في المرتبة الثانية ذكر أنّ الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة: صرّح بالأمر بالصبر في هذا المقام. ولما كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقاً ذكر بعده ما يفيد سهولته بقوله تعالى: {وما صبرك إلا بالله} أي: الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم فذلك بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي. ثم ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب بقوله سبحانه وتعالى: {ولا تحزن عليهم} أي: في شدّة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس {ولا تك في ضيق} ولو قل كما لوّح إليه بتنوين التحقير {مما يمكرون} أي: من استمرار مكرهم بك {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر، 99) وكأنك به وقد أتى فاصبر فإنّ الله معزك ومظهر دينك. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بنصبها. تنبيه: هذا من الكلام المقلوب لأنّ الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى: ولا يكن الضيق فيك إلا أنّ الفائدة في قوله تعالى: {ولا تك في ضيق} هو أنّ الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى. المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {إنّ الله} أي: الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه {مع الذين اتقوا} أي: وجد منهم الخوف من الله تعالى واجتنبوا المعاصي {والذين هم محسنون} في أعمالهم والشفقة على خلقه، وهذا يجري مجرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 التهديد لأنّ في المرتبة الأولى رغبة في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} . وفي المرتبة الثالثة: أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة: كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام فقال: {إن الله مع الذين اتقوا} أي: عن استيفاء الزيادة والذين هم محسنون أي: في ترك أصل الانتقام فكأنه تعالى قال: إن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين وهذه المعية بالرحمة والفضل والتربية وفي قوله تعالى: {اتقوا} إشارة إلى التعظيم لأمر الله، وفي قوله: {والذين هم محسنون} إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى قيل لهرم بن حبان عند قرب وفاته أوص فقال: إنّ الوصية في المال ولا مال لي ولكن أوصيكم بخواتيم سورة النحل. تنبيه: قال بعضهم: إنّ قوله تعالى: {وإن عاقبتم} إلى {لهو خير للصابرين} منسوخ بآية السيف. قال الرازي: وهذا في غاية البعد، لأنّ المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوى إلى الله تعالى وترك التعدّي وطلب الزيادة ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله تعالى بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية» . حديث موضوع. قال الرازي: في آخر هذه السورة يقول مصنف الكتاب: الحق عزيز، والطريق بعيد، والمركب ضعيف، والقرب بعد، والوصل هجر، والحقائق مصونة، والمعالي في غيب الغيب مكنونة، والأسرار فيما وراء أقفال العزة مخزونة، وبيد الخلق القيل والقال، والكمال ليس إلا لله تعالى ذي الإكرام والجلال. سورة الإسراء وتسمى سبحان وبني إسرائيل مكية إلا {وإن كادوا} الآيات الثمان مائة وعشر آيات أو إحدى عشرة وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة وعدد حروفها ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفاً. {بسم الله} الملك المالك لجميع الأمر {الرحمن} لكل ما أوجده بما رباه {الرحيم} لمن خصه بالتزام العمل بما يرضاه. وقوله تعالى: {سبحان} اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه وقد يستعمل علماً له فيقطع عن الإضافة ويمنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال الأعشى في مدحه عامر بن الطفيل: *قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر أي: العجب منه إذ يفخر والعرب تقول سبحان من كذا إذا تعجبوا منه الشاهد في سبحان حيث جعله علماً على التنزيه فمنعه الصرف وعلقمة المذكور صحابيّ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شيخ فأسلم وبايع واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حوران فمات بها {الذي أسرى بعبده} هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف عباده على الإطلاق وأحقهم بالإضافة إليه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أسرى بالإمالة محضة وورش بين بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 والباقون بالفتح وقوله تعالى: {ليلاً} نصب على الظرف والإسراء سير الليل. وفائدة ذكره الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدّته فكان هذا الأمر الجليل في جزء يسير من الليل وإلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العليّ الأعلى إلى رياضة بصيام ولا غيره بل كان مهيأ لذلك متأهلاً له فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش {من المسجد الحرام} أي: بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق» وقيل كان نائماً في الحطيم، وقيل في بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب قال البقاعي: وهو قول الجمهور، والمراد بالمسجد حينئذ الحرم لأنه فناء المسجد. {إلى المسجد الأقصى} أي: بيت المقدس الذي هو بعيد المسافة حينئذٍ وأبعد المسجدين الأعظمين مطلقاً من مكة المشرّفة بينهما أربعون ليلة فصلى بالأنبياء كلهم إبراهيم وموسى ومن سواهما على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ورأى من آياتنا الكبرى ما قدرنا له كما سيأتي في حديث المعراج، ورجع بين أظهركم إلى المسجد الأقرب منكم في ذلك الجزء اليسير من الليل، وأنتم تضربون أكباد الإبل في هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً إياباً. ثم وصفه تعالى بما يقتضي تعظيمه، وأنه أهل للقصد بقوله تعالى: {الذي باركنا حوله} أي: بما لنا من العظمة بالمياه والأشجار. وقال مجاهد: سماه مباركاً لأنه مقرّ الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ومنه يحشر الناس يوم القيامة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات، وبارك تعالى حوله لأجله فما ظنك به نفسه فهو أبلغ من باركنا فيه، ثم منه إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى إلى ما لم ينله بشر غيره صلى الله عليه وسلم قال البقاعي: ولعل حذف ذكر المعراج من القرآن هنا لقصور أفهامهم عن إدراك أدلته، لو أنكروه بخلاف الإسراء فإنه أقام دليله عليهم بما شاهدوه من الأمارات التي وصفها لهم وهم قاطعون بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرها قبل ذلك فلما بان صدقه بما ذكر من الأمارات أخبر بعد ذلك من أراد الله تعالى بالمعراج. ثم ذكر سبحانه وتعالى الغرض من الإسراء بقوله تعالى: {لنريه} بعينه وقلبه {من آياتنا} أي: عجائب قدرتنا السماوية والأرضية كما أرينا أباه الخليل عليه السلام ملكوت السموات والأرض. {إنه} أي: الله {هو السميع} لجميع الأقوال {البصير} أي: العالم بأحوال عباده فيكرم ويقرّب من شاء منهم وقيل: إنه أي: هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو أي: خاصة السميع أي: أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرانا البصير بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات وصدقه من الدلالات حتى نعت ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء. واختلف هل أسري بروحه أو بجسده صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول ما فقدت جسد النبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه، والأكثرون على أنه أسري بجسده في اليقظة وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم «أوتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 فربطت الدابة بالحلقة التي تربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، قال جبريل عليه السلام: أصبت الفطرة. قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: من معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: من معك؟ قال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم فإذا هو مستند إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها. قال صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمّتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت له: أي: رب خفف عن أمّتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقال: ما فعلت؟ فقلت: قد حط عني خمساً. قال: إنّ أمّتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، لأنّ أمّتك لا تطيق ذلك. قال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمساً خمساً حتى قال: يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك فإن أمّتك لا تطيق فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت» رواه الشيخان. وروي أنه قال بعد ذلك: «ولكن أرضى وأسلم فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» . وروي أنه لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وصل إلى سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: «ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع إليّ البيت المعمور ثم أوتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فاخترت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمّتك قال: ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة يوم فرضت فمررت على موسى وساق الحديث» . ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ربي عز وجل» . قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. قال: والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم. ومنها ما رواه قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة الإسراء به قال: «بينا أنا في الحطيم وربما قال في الحجر، مضطجع ومنهم من قال: بين النائم واليقظان، وذكر بين رجلين وأتيت بطشت من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ثم أعيد» ، وقال سعيد وهشام: ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة «ثم أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته وساق بقية الحديث» . ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في بيت أمّ هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به، ورجع من ليلته، وقص القصة على أمّ هانئ. وقال: «مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أمّ هانئ بثوبه فقال: ما لك؟ قالت: أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم. قال: وإن كذبوني فخرج إليهم» . وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فكان بذي طوى قال: «يا جبريل إنّ قومي لا يصدّقوني. قال: يصدّقك أبو بكر الصدّيق» . قال ابن عباس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت أنّ الناس يكذبوني» . فروي «أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً فمرّ به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ: هل استفدت من شيء؟ قال: نعم، أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلموا فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال: حدّث قومك بما حدّثتني. قال: نعم، إني قد أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قالوا: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتدّ ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه. فقالوا له: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أو قد قال؟ قالوا: نعم. قال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدّقه على ذلك؟ قال: إني لأصدّقه على أبعد من ذلك أصدّقه على خبر السماء في غدوة أو روحة فسمي الصدّيق. قال: وفي القوم من كان يأتي المسجد الأقصى، فقالوا: فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد الأقصى قال: نعم. قال: فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتى التبس عليّ. قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل، فنعت المسجد وأنا أنظر إليه فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب ثم قالوا: يا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهمّ إلينا هل لقيت منها شيئاً قال: نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ثم وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه. قالوا هذه آية قال: ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فاسألوهما عن ذلك. قالوا: وهذه آية. قالوا: فأخبرنا عن عيرنا متى تجيء قال: مررت بها بالتنعيم قالوا: فما عدّتها وما حملها وما أحمالها ومن فيها. فقال: هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: وهذه آية، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون: والله لقد قص محمد شيئاً وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم: هذه الشمس والله قد أشرقت فقال آخر: والله وهذه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين» والأورق من الإبل الذي في لونه بياض إلى سواد وهو أطيب الإبل لحماً قاله الجوهري. ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذرّ يحدث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، وجاء بطشت من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي وعرج بي إلى السماء فلما جئنا إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: ومن هذا؟ قال جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد. قال: فأرسل إليه؟ قال: نعم ففتح، قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح. قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار وإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، ثم عرج بي جبريل حتى أتى إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها: مثل ما قال خازن السماء الدنيا. فقال أنس بن مالك فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يبين كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة. قال: فلما مرّ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح. قال: فقلت: من هذا؟ قال: إنه إدريس. قال: ثم مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح. قال: قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى فقال: ثم مررت بعيسى فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح. قال: فقلت من هذا؟ قال: عيسى، ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح. قال: فقلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم. قال ابن شهاب: أخبرني ابن حزم أنّ ابن عباس كان يقول كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صرير الأقلام» . وروى معمر عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أتى بالبراق ليلة أسري به مسرجاً ملجماً فاستصعب عليه فقال جبريل أبمحمد تفعل هذا فماركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقاً وقال ابن زيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهيت إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه فخرق بها حجراً وشد به البراق وفي رواية أنه جاء جبريل بالبراق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له يامحمد اركب فركبه صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل وطار به البراق في الهواء فاخترق به الجو فعطش صلى الله عليه وسلم واحتاج إلى الشراب فأتاه جبريل باناءين إناء من لبن وإناء من خمر وذلك قبل تحريم الخمر فعرضهما عليه فتناول اللبن فقال له جبريل عليه السلام أصبت الفطرة أصاب الله تعالى بك أمّتك ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتأوّل اللبن بالعلم فلما وصل إلى السماء الدنيا استفتح إلى أن قال ثم عرج بي إلى سدرة المنتهى وأخبره جبريل أن أعمال بني آدم تنتهي إلى تلك السدرة وأنها مقر الأرواح فهي نهاية لما ينزل مما فوقها ونهاية لما يعرج إليها مما هو دونها وبها مقام جبريل عليه السلام فنزل صلى الله عليه وسلم عن البراق وجيء إليه بالرفرف وهو نظير المحفة عندنا فقعد عليه وسلمه جبريل إلى الملك النازل بالرفرف فسأله الصحبة ليأنس به فقال له: لا أقدر لو خطوت خطوة لاحترقت فما منا إلا له مقام معلوم وما أسرى الله بك يا محمد إلا ليريك من آياته فلا تغفل، فودّعه وانصرف مع ذلك الملك والرفرف، والملك يمشي به إلى أن ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام في الألواح وهي تكتب ما يجريه الله تعالى في خلقه وما تنسخه الملائكة من أعمال عباده قال تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية، 29) ثم زج بي في النور زجة فأفرده الملك الذي كان معه وتأخر عنه فلم يره معه فعلم أن الرفرف ما تدلى إلا لكون البراق له مكان لا يتعدّاه كجبريل، لما بلغ إلى المكان الذي لا يتعدّاه وقف وكذلك الرفرف لما وصل إلى مقام لا يتعدّاه زج به في النور فغمره النور من جميع نواحيه وأعطي علماً آخر لم يكن يعلمه قبل ذلك عن وحي من حيث لا يدري وجهته» : وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد رأيتني وأنا في الحجر وقريش تسألني عن مسراي: فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط فرفعه الله إليّ لأنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبئتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا بموسى قائم يصلي فإذا رجل جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلى الله عليه وسلم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام» . وعن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما كذبني قريش قمت إلى الحجر فجلّى الله لي بيت المقدس» وذكر الحديث. وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره» . فإن قيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره وكيف تصلي الأنبياء بعد الموت وهم في دار الآخرة؟ أجيب: بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام ببيت المقدس يحتمل أن الله تعالى جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدّمه عليهم، ثم إن الله تعالى أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وفضلهم، وأما مروره بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج، وأما حكم صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل هم أفضل منهم، وقد قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء} (آل عمران، 169) فالأنبياء بعد الموت أولى، وأمّا حكم صلاتهم فيحتمل أنها بالذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة. قال تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهمّ} (يونس، 10) وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ويحتمل أن الله تعالى خصهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم. منها أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رآهم يلبون ويحجون فكذلك الصلاة والله أعلم بحقائق الأمور. وروي عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيهم هو. قال أوسطهم: هو خيرهم فقال آخرهم: خذوا خيرهم» وساق حديث المعراج بقصته. قال: «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان قال: ما هذان يا جبريل؟ قال: هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه نهر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده فإذا هو مسك أذفر. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر الذي خبأ لك ربك» وذكر في آخر حديثه أنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث: «ثم علا بي حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار ورب العزة فتدلى فكان منه كقاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه» وذكرت عائشة أنّ الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة النجم. فإن قيل: قوله تعالى: {لنريه من آياتنا} (الإسراء، 1) يدلّ على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأنّ كلمة من تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} (الأنعام، 75) أي: ملكهما فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل من معراج محمد عليهما الصلاة والسلام؟ أجيب: بأنه لما أضيفت تلك الآيات إلى الله تعالى دلّ على أنها أفضل مما رآه إبراهيم. تنبيه: قال النووي في شرح مسلم قد جاء في رواية شريك في حديثه أوهام أنكر عليه العلماء فيها منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه وإنّ الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً. وقال الطبراني: كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزهري: كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين قال ابن إسحق أسرى به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل وقيل كان الإسراء في رجب ويقال في رمضان قال النووي وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحق ومما يدل على أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {أسرى بعبده} ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد. وقوله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بالبراق» وهو اسم للدابة وهي التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤ نوره والحلقة بإسكان اللام ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب وأنّ ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 والتقدير قال لي اختر فاخترت اللبن وقول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام وجعل اللبن علامة الفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلاً طيباً سائغاً للشاربين وإنه سليم العاقبة بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشرّ وقوله: ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فيه بيان الأدب لمن استأذن أن يقول أنا فلان، ولا يقول أنا فقط فإنه مكروه، وفيه أن للسماء أبواباً وبوّابين عليها حرساً وقول بوّاب السماء وقد أرسل إليه وفي الرواية الأخرى، وقد بعث إليه معناه للاستواء وصعود السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة فإنّ ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدّة، وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام الحسن وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه، إذا أمن عليه من الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل ظهره إليها. وقوله ذهب بي إلى السدرة المنتهى هكذا وقع في هذه الرواية بالألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: سميت بذلك لأنّ علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود: سميت بذلك لكونه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل. وقوله وإذا ثمرها مثل القلال هو بكسر القاف جمع قلة بضمها وهي الجرّة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر وقوله فرجعت إلى ربي. قال النووي: معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولاً فناجيته فيه ثانياً وقوله فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه ربي موضع مناجاة ربي. وقوله ففرض على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع عني خمساً وفي رواية شطرها وفي رواية عشراً ليس بين هذه الروايات منافاة لأنّ المراد بالشطر الجزء وهو الخمس وليس المراد منه التنصيف وأمّا رواية العشر فهو رواية شريك ورواية الخمس رواية قتادة وهو أثبت من شريك والمراد حط عني خمساً إلى آخره، ثم قال: هي خمس وهنّ خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأنّ الحسنة بعشر أمثالها، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي الحديث أنه شق صدره ليلة المعراج وقد شق صدره أيضاً في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لما يراد به من الكرامة ليلة المعراج وقوله: أتيت بطشت من ذهب قد يتوهم أنه يجوز استعمال الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأنّ هذا الفعل من فعل الملائكة وهم مباح لهم استعمال الذهب، أو لعل هذا كان قبل تحريمه. وقوله ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري قد يقال الحكمة والإيمان من المعاني والإفراغ صفة الأجسام فما معنى ذلك أجيب بأنه يحتمل أنه جعل في الطشت شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما تسمى إيماناً وحكمة لكونه سبباً لها، وهذا من أحسن المجاز. وقوله في صفة آدم: فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه. فإن قيل: أرواح المؤمنين في السماء وأمّا أرواح الكفار فتحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 الأرض السفلى فكيف تكون في السماء؟ أجيب: بأنه يحتمل أنّ أرواح الكفار تعرض على آدم عليه السلام وهو في السماء فوافق وقت عرضها على آدم مرور النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبر بما رأى. وقوله: إذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى، ففيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم وحزنه على حال الكافر منهم وقوله في إدريس مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح، قد اتفق المؤرخون أنه هو أخنوخ جدّ نوح فيكون جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أنّ إبراهيم جدّه فكان ينبغي أن يقول بالنبيّ الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم؟ وأجيب: بأنه قيل إنّ إدريس المذكور هنا هو إلياس وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جدّ نوح قاله القاضي عياض. وقال النووي: ليس في هذا الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا صلى الله عليه وسلم وأنّ قوله: الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفاً وتأدّباً وهو أخ وإن كان ابناً لأنّ الأنبياء إخوة والمؤمنون إخوة انتهى. وإنما أطلت في بيان ذلك لأنّ الكلام مع الأحبة يحلو ولولا خوف الملل ما اقتصرت على ذلك. فقد قال بعض المفسرين لا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه التي فضل بها كافة الأنبياء ما تضمنته هذه السورة ولكن في هذا القدر كفاية لأولي الألباب. ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن نفسه المقدّسة من عظيم القدرة وما جاءه صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير أتبعه ما منح في السير من مصر إلى الأرض المقدّسة من الآيات في مدد طوال موسى عليه الصلاة والسلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمّة ليلة الإسراء لما أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه من مراجعة الله تعالى في تخفيف الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين فقال: {وآتينا} أي: بعظمتنا {موسى الكتاب} أي: التوراة {وجعلناه} أي: الكتاب بما لنا من العظمة {هدى لبني إسرائيل} بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا ومات كل من خرج إلا المتقين الموفين بالعهد فقد بان الفضل بين الإسراءين كما بان الفضل بين الكتابين، فذكر الإسراء أوّلاً دليل على حذف مثله أوّلاً فالآية من الاحتباك ثم نبه على أنّ المراد من ذلك كلمة التوحيد اعتقاداً وعبادة بقوله تعالى: {أنّ لا} أي: لئلا {يتخذوا} على قراءة أبي عمرو بالياء على الغيبة، وقرأ غيره بالتاء على أن لا تتخذوا كقولك كتبت إليه أن أفعل كذا. {من دوني وكيلاً} أي: ربا تكلون إليه أموركم، وذلك هو التوحيد فلا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا نعمة أعظم من أن يصير المرء غريقاً في بحر التوحيد وأن لا يعوّل في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، فإن نطق نطق بذكر الله، وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله وإن طلب طلب من الله، فيكون كله لله وبالله وإلى الله. وقوله تعالى: {ذرية} نصب على الاختصاص في قراءة أبي عمرو وعلى النداء عند الباقين أي: يا ذرّية {من حملنا} أي: في السفينة بعظمتنا على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء ونبه تعالى على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى: {مع نوح} ففي ذلك تذكير بإنعام الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 عليهم وإنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرّية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاث بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرّية أولئك. قال البقاعي: لأنّ الصحيح أنّ من كان معه من غير ذرّيته ماتوا ولم يعقبوا ولم يقل ذرّية نوح ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى. ثم إنه تعالى أثنى على نوح حثاً على الاقتداء به في التوحيد كما اقتدى به آباؤهم في ذلك بقوله تعالى: {إنه كان عبداً شكوراً} أي: مبالغاً في الشكر الذي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه لما خلق له. روي أنه عليه الصلاة السلام كان إذا أكل قال: «الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني» وفي رواية «أنه يسمي إذا أكل ويحمد إذا فرغ، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حداني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه» . وفي رواية أنه كان يقول: «الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى منفعته في جسدي وأخرج عني أذاه» . وفي رواية: أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من مرّ به فإن وجده محتاجاً آثره به. ولما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد بقوله تعالى: {وقضينا} أي: أوحينا {إلى بني إسرائيل} أي: إلى بني عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه وحياً مقطوعاً مثبوتاً {في الكتاب} أي: التوراة التي قد أوصلناها إليهم على لسان موسى عليه السلام وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: {لتفسدنّ} جواب قسم محذوف ويجوز أن يجري القضاء المثبوت مجرى القسم فيكون لتفسدنّ جواباً له كأنه قال: وأقسمنا لتفسدنّ {في الأرض} أي: أرض الشام قاله السيوطي. وقال الرازي: أرض مصر ويوافق الأوّل قول البقاعي أي: المقدّسة التي كأنها لشرفها هي الأرض. {مرّتين} أي: إفسادتين. قال في «الكشاف» : أولاهما قتل زكريا عليه السلام وحبس أرميا حين أنذرهم بسخط الله تعالى، والأخرى قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى بن مريم. وقال البيضاوي: الأولى مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا أو قتل أرميا. وثانيتهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام. {ولتعلنّ} أي: بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم {علوّاً كبيراً} بالظلم والتمرّد لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم {فإذا جاء وعد أولاهما} أي: أولى مرّتي الفساد وهو الوقت الذي جدّدنا لهم الانتقام فيه {بعثنا عليكم عباداً لنا} أي: لا يدان لكم بهم كما قال تعالى: {أولي بأس شديد} أي: أصحاب قوّة في الحرب. واختلف فيهم فقال في «الكشاف» : سنحاريب وجنوده، وقيل بختنصر. وقال ابن عباس: جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفاً. وقال البيضاوي: عباداً لنا بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده، وقيل: جالوت الحزري وهو بحاء فزاي: مفتوحتين فراء نسبة إلى الحزر وهو ضيق العين وصغرها، وهو الذي قتله داود أو جيل من الناس. وذكر الرازي في ذلك قولين: الأوّل: أنّ الله تعالى سلط عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 بالبقية إلى أرض نفسه، فبقوا هناك في الذل. الثاني: أنّ الله تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال الله ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال: أفسدوا المرّة الأولى، فأرسل الله عليهم جالوت فقتلهم وأفسدوا المرّة الثانية فقتلوا يحيى بن زكريا فبعث الله عليهم بختنصر. وعن ابن مسعود قال: كان أوّل الفساد من قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك القبط. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الأولى قتل زكريا والأخرى قتل يحيى. قاله الرازي. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط الله عليهم أقواماً فقتلوهم وأفنوهم. ثم قال الله تعالى: {فجاسوا} أي: تردّدوا لطلبكم {خلال الديار} أي: وسطها للقتل والغارة. قال البيضاوي: فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرّقوا التوراة وخرّبوا المسجد، والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية انتهى. وفي ذلك تعريض بالزمخشري فإنه قال في «كشافه» : فإن قلت كيف جاز أن يبعث الله تعالى الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه. قلت: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم على أنّ الله عز وجل أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه فهو كقوله تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (الأنعام، 129) . {وكان} أي: ذلك البعث ووعد العقاب به {وعداً مفعولاً} أي: قضاء كائناً لازماً لا شك في وقوعه ولا بدّ أن يفعل. {ثم رددنا لكم الكرّة} أي: الدولة والغلبة {عليهم} حتى تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الفساد في زمن داود بقتله جالوت وذلك بعد مائة سنة {وأمددناكم بأموال} تستعينون بها على قتال عدوّكم {وبنين} تتقوّون بهم {وجعلناكم أكثر} من عدوّكم {نفيراً} أي: عشيرة تنفر معكم عند إرادة القتال وغيره من المهمات والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل: جمع نفر، وهم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ. ولما حكى الله تعالى عنهم أنهم لما عصوا سلط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا الله فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرّوا على المعصية فقد أساؤوا على أنفسهم وقد تقرّر في العقول أنّ الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأنّ الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى: {إن أحسنتم} أي: بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان {أحسنتم لأنفسكم} أي: لأنّ ثوابها لها {وإن أسأتم} بارتكاب المحرّمات والإفساد {فلها} أي: الإساءة لأنّ وبالها عليها. قال النحويون: وإنما قال: {وإن أسأتم فلها} للتقابل، والمعنى فإليها أو فعليها كما مرّ مع أنّ حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى: {يومئذٍ تحدّث أخبارها بأن ربك أوحى لها} (الزلزلة: 4، 5) أي: إليها. تنبيه: قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله غالبة على غضبه بدليل أنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان ذكره مرّتين فقال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرّة واحدة فقال تعالى: {وإن أسأتم فلها} ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك ثم قال: {فإذا جاء وعد الآخرة} أي: ثانية في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 الإفساد وهو الوقت الذي حدّدنا له الانتقام فيه. {ليسوءوا} أي: بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوءوا {وجوهكم} أي: بجعل آثار الإساءة بائنة فيها وحذف متعلق اللام لدلالة الأوّل عليه. وقرأ الكسائي بعد اللام بنون مفتوحة على التوحيد والضمير فيه لله والباقون بالياء مفتوحة، وأمّا الهمزة التي بعد الواو والتي بعد السين فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بضم الهمزة ومدّها والباقون بفتح الهمزة ولا مدّ وقوله تعالى: {وليدخلوا المسجد} عطف على ليسوءوا والمراد بالمسجد الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج وجعلناه محل عزكم وأمنكم ثم جعلناه محلاً لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم، وهذا تعريض بتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا بدل الله أمنهم في الحرم خوفاً وعزهم ذلاً، وأدخل عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم {كما دخلوه} أي: الأعداء {أوّل مرّة} بالسيف ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة {وليتبروا} أي: يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق {ما علوا} أي: عليه من ذلك وقيل ما مصدرية أي: مدّة علوهم {تتبيراً} أي: إهلاكاً. قال الزجاج: وكل شيء جعلته مكسراً مفتتاً فقد تبرته ومنه قيل تبر الزجاج، وتبر الذهب لمكسره، ومنه قوله تعالى: {إنّ هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} (الأعراف، 139) . قال الرازي: وهذه المرّة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام. قال البيضاوي: وذلك بأن سلط عليهم الفرس مرّة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه حردون، وقيل جردوس، قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم جمع قربان فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا: دم قربان لم يقبل منا فقال: ما صدقتموني فقتل عليه ألوفاً منهم فلم يهدأ الدم، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم، ثم قال: يا يحيى أي: خطاباً لدمه قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى أحد منهم فهدأ أي: سكن.l وقال الواحدي: فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وخرب بيت المقدس. قال الرازي: أقوال التواريخ تشهد أنّ بختنصر كان قبل وقت عيسى ويحيى وزكريا بسنين متطاولة، ومعلوم أنّ الملك الذي انتقم من اليهود ملك الروم يقال له قسطنطين الملك والله أعلم بأحوالهم ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام انتهى. ولما انقضى ذلك كان كأنه قيل هل بقي لهم نصرة على عدوّهم؟ فقال تعالى: يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فترد الدولة إليكم ثم بعد أن أطمعهم فزعهم بقوله تعالى: {وإن عدتم} أي: إلى المعصية {عدنا} أي: إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرّة أخرى. قال القفال: إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل: {وإذ تأذن ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامةمن يسومهم سوء العذاب} (الأعراف، 167) . ثم قال وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله تعالى عليهم بالتعذيب على أيدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقي منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان ثم قال تعالى {وجعلنا} أي: بعد ذلك بعظمتنا {جهنم} أي: التي تلقى داخلها بالتجهيم والكراهة {للكافرين} وذكر الوصف الظاهر موضع الضمير لبيان تعلق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم وقوله تعالى {حصيرا} يحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى الفاعل أي: جعلنا جهنم حاصراً لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي: جعلناها موضعاً محصوراً لهم والمعنى أنّ عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد ينقلب بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص منه إمّا بالموت وإمّا بطريق آخر، وأمّا عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً. ولما بين سبحانه وتعالى كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدّة المتطاولة وجعله هدى لبني إسرائيل صادق الوعد والوعيد بين تعالى كتاب محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيره إليه في ذلك، ووصفه بثلاثة أنواع من الصفات الأولى قوله تعالى: {إنّ هذا القرآن} أي: الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس {يهدي للتي} أي: إلى الطريق التي {هي أقوم} أي: أصوب من كل طريق فقوله تعالى: {للتي هي أقوم} نعت لموصوف محذوف كما تقرّر ويصح أن يقدّر الملة والشريعة أي: يهدي إلى الملة والشريعة التي هي أقوم الملل والشرائع ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} (المؤمنون، 96) وقيل إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله. تنبيه: لفظ افعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا الله أكبر أي: الله الكبير وكقولنا الأشج والناقص أعدلا بني مروان، فأقوم يحتمل أن يكون كذلك وأن يبقى على ظاهره. الصفة الثانية قوله تعالى: {ويبشر المؤمنين} أي: الراسخين في هذا الوصف ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله: {الذين} أي: يصدّقون إيمانهم بأنهم {يعملون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم {الصالحات} من التقوى والإحسان {أنّ لهم أجراً كبيراً} هو الجنة والنظر إلى وجه الله تعالى. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشدّدة. فإن قيل: قال هنا {أجراً كبيراً} وفي الكهف {أجراً حسناً} (الكهف، 2) أجيب: بوقوع ذلك لموافقة الفواصل قبل وبعد في كل منهما. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا} أي: أحضرنا وهيأنا {لهم عذاباً أليماً} وهو النار في الآخرة وهو عطف على أنّ لهم أجراً كبيراً، والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، نظيره قولك بشرت زيداً بأنه سيعطى وبأنّ عدوّه سيمنع. فإن قيل: كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب؟ أجيب: بأنّ هذا مذكور على سبيل التهكم أو أنه من باب إطلاق أحد الضدّين على الآخر كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40) أو على يبشر بإضمار يخبر. فإن قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة؟ أجيب: بأنّ أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وبأنّ بعضهم قال: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} (آل الأعراف، 24) فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، والإنسان قد يقدم على ما لا فائدة فيه بينه بقوله تعالى: {ويدع الإنسان بالشرّ} عند ضجره على نفسه وأهله وماله {دعاءه} أي: مثل دعائه {بالخير} ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئنّ في الليل فقالت له: ما لك؟ فبكى وشكا فرحمته فأرخت كتافه فهرب، فلما أصبح النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اقطع يدها فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله تعالى يدها، فندم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضبون فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له وقيل المراد النضر بن الحرث حيث قال: اللهمّ انصر خيرالحزبين اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه وضربت رقبته يوم بدر صبراً. وكان بعضهم يقول: {ائتنا بعذاب الله} (العنكبوت، 29) وآخرون يقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} (يونس، 48) وإنما فعلوا ذلك للجهل ولاعتقاد أنّ محمداً كاذب فيما يقول، وقيل المراد أنّ الإنسان قد يبالغ في الدعاء طالباً لشيء قد يعتقد أنّ خيره فيه مع أنّ ذلك الشيء منبع لشرّه وضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء وإنما يقدّم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغترّاً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها، كما قال تعالى: {وكان الإنسان} أي: الجنس {عجولاً} أي: يسارع إلى كل ما يخطر بباله ولا ينظر إلى عاقبته وقيل المراد آدم عليه السلام لما انتهى الروح إلى سرّته ذهب لينهض فسقط. تنبيه: حذفت واو ويدع أي: التي هي لام الفعل خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفها لفظاً في العربية لكنها لما كانت لا تظهر في اللفظ حذفت في الخط، ونظيره قوله تعالى: {سندع الزبانية} (العلق، 18) و {سوف يؤت الله المؤمنين} (النساء، 146) و {يوم يناد المنادي} (ق، 41) {فما تغن النذر} (القمر، 5) . قال الفراء: ولو كان ذلك بالواو والياء لكان صواباً. وقال الرازي: أقول هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد عظم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإنّ إثبات الواو والياء في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتها في هذه المواضع المعدودة يدل على أنّ هذا القرآن نقل كما سمع وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوّة عقله. ولما بيّن تعالى ما أوصل من نعم الدين وهو القرآن أتبعه بما وصل إليهم من نعم الدنيا فقال: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} دالتين على تمام العلم وشمول القدرة آية الليل كالآيات المتشابهة وآية النهار كالمحكمة فكما أنّ المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يتيسر الانتفاع به إلا بهاتين الآيتين {فمحونا} أي: بعظمتنا الباهرة {آية الليل} أي: طمسنا نورها بالظلام ليسكنوا فيه فجعلناها لا يبصر فيها المرئيات كما لا يبصر الكتاب إذا محي. {وجعلنا} مما لنا من القدرة. {آية النهار مبصرة} أي: مبصراً فيها بالضوء فلا تزال هذه الدار الناقصة في تنقل من نور إلى ظلمة ومن الظلمة إلى النور كما أن الإنسان بعجلته التي يدعو إليها طبعه وتأنيه الداعي إليه عقله من انتقال من نقصان إلى كمال ومن كمال إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 نقصان، كما أن القمر الذي هو أنقص من الشمس كذلك. قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءاً فجعلها مع نور الشمس. وحكي أن الله تعالى أمر جبريل فأمر بجناحه على وجه القمر ثلاث مرّات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور. وسأل ابن ذكوان علياً رضي الله عنه عن السواد الذي في القمر قال هو أثر المحو. تنبيه: المراد من الآيتين بعض الليل والنهار فالإضافة للبيان أي: أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، أمّا الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له مع كونهما متعاقبين على الدوام وهو من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين بذاتهما بل لا بدّ لهما من فاعل يدبرهما ويقدّرهما بالمقادير المخصوصة، وأمّا في الدنيا فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار فلولا الليل ما حصل السكون والراحة ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرّف وقيل الليل والنهار ظرفان والتقدير وجعلنا آيتين في الليل والنهار والمراد بالآيتين على هذا إمّا الشمس والقمر وإمّا تكوير هذا على هذا وهذا على هذا ثم ذكر تعالى بعض المنافع المرتب على ذلك بقوله تعالى: {لتبتغوا} أي: تطلبوا طلباً شديداً {فضلاًمن ربكم} أي: المحسن إليكم فيهما بضياء هذا تارة ونور هذا أخرى {ولتعلموا} بفصل هذا عن هذا {عدد السنين والحساب} لأن الحساب يبنى على أربع مراتب الساعات والأيام والشهور والسنين، والعدد للسنين والحساب لما دون السنين وهي الشهور والأيام والساعات وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلا التكرار كأنهم رتبوا العدد على أربع مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف وليس بعدها إلا التكرار. ولما ذكر تعالى أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وقد ذكر تعالى في آيات كثيرة منافعهما كقوله تعالى: {وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً} (النبأء: 10، 11) . وكقوله تعالى: {جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} (القصص، 73) وشرح تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق، ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وتبياناً كاملاً فلا جرم، قال تعالى: {وكل شيء} أي: لكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم {فصلناه تفصيلاً} أي: بيناه تبييناً، وهو كقوله تعالى: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام، 38) وكقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (النحل، 89) وقوله: {تدمّر كل شيء بأمر ربها} (الأحقاف، 25) . وإنما ذكر تعالى تفصيلاً لأجل توكيد الكلام وتقريره، فكأنه قال: فصلناه حقاً. ولما بين تعالى أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدنيا والدين مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بوجود النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله كما قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه} أي: بعظمتنا {طائره} أي: عمله الذي قدرناه عليه من خير وشرّ، لأن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى عمل شرّ اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه وإذا طار فهو يطير متيامناً أو متياسراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه فقوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء، 13) أي: وكل إنسان ألزمناه عمله {في عنقه} الذي هو محل التزين بالقلادة ونحوها ومحل الشين بالغل ونحوه فإن كان عمله خيراً كان كالقلادة والحلي في العنق وهذا مما يزينه وإن كان عمله شرّاً كان كالغل في عنقه وهو مما يشينه وقال مجاهد ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، قال الرازي: والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والفهم والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك المقدار وإن كان ينحرف عنه بل لا بدّ وأن يصل إليه ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدرة كأنها تطير إليه وتصير إليه فلهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدّرة بلفظ الطائر فقوله تعالى {ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء، 13) كناية عن كل ما قدّره الله ومعنى في عنقه حصوله له فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» انتهى ملخصاً. ثم قال تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً} أي: مكتوباً فيه عمله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قال الحسن: بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك، فأمّا الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمّا الذي عن شمالك فيحفظ لك سيئاتك، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة، وقوله تعالى: {يلقاه منشوراً} صفتان لكتاباً وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف على البناء للمفعول من لقيته كذا أي: استقلبته به والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، وأمال الألف بعد القاف حمزة والكسائي محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ثم إنه إذا لقي كتابه يوم القيامة يوم العرض قيل له: {اقرأ كتابك} أي: بنفسك {كفى بنفسك اليوم} الذي تكشف فيه الستور وتظهر جميع الأمور {عليك حسيباً} أي: حساباً بليغاً فإنك تعطى القدرة على قراءته أمياً كنت أو قارئاً ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاناً ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً وإن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك فيا لها من قدرة باهرة وقوّة قاهرة ونصفة ظاهرة. قال الحسن: عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي: يقول الكافر يومئذٍ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} فإن قيل: قد قال تعالى: {وكفى بنا حاسبين} فكيف الجمع في ذلك؟ أجيب: بأنّ المراد بالحسيب هنا الشهيد أي: كفى بشخصك اليوم شاهداً عليك أو أنّ القيامة مواقف مختلفة ففي موقف يكل الله تعالى حسابهم إلى أنفسهم وعلمه محيط بهم وفي آخر يحاسبهم هو. وقوله تعالى: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} لأنّ ثواب اهتدائه له لا ينجي غيره {ومن ضل فإنما يضل عليها} أي: إثمه عليها فلا يضرّ في ضلاله سواه، كما قال الكلبي دلالة على أنّ العبد متمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 من الخير والشرّ وإنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأنّ قوله تعالى: {من اهتدى} إلى آخره إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد، أمّا المجبور على أحد الطرفين الممنوع عن الطرف الثاني فهذا لا يليق به، هذا مذهب أهل السنة والجماعة فاتبعه ترشد ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنّ كل أحد مختص بأثر عمل نفسه بقوله تعالى: {ولا تزر} أي: نفس {وازرة} أي: آثمة أي: لا تحمل {وزر} نفس {أخرى} بل إنما تحمل وزرها فقط. فإن قيل: ورد أنّ المظلوم يأخذ من حسنات الظالم فإذا لم يوف يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم؟ أجيب: بأنّ ذلك بسببه فهو كفعله. فإن قيل: قد ورد أن الميت ببكاء أهله؟ أجيب: بأنّ ذلك محمول على ما إذا أوصى بذلك وكان ذلك الفعل كقول طرفة بن العبد: *إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد وعليه حمل الجمهور الأخبار الواردة بتعذيب الميت على ذلك. فإن قيل: ذنب الميت فيما إذا أوصى أو أمر بذلك فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه؟ أجيب: بأنّ الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب وشاهده «من سن سنة سيئة» الخ وقال الشيخ أبو حامد: إنّ ما ذكر محمول على الكافر وغيره من أهل الذنوب. ثم قال تعالى: {وما كنا} أي: على ما لنا من القدرة {معذبين} أحداً {حتى نبعث رسولاً} يبين له ما يجب عليه فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم السلام في جميع الأمم قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً} (النحل، 36) . وقال تعالى: {وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير} (فاطر، 24) فإنّ دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت وعمت الأقطار واشتهرت. فإن قيل: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله تعالى وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستحقاقهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان؟ أجيب: بأنّ بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا: {إنا كنا عن هذا غافلين} (الأعراف، 172) ، فهلا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل، وفي الآية دليل على أن لا وجوب قبل الشرع. فائدة: في حكم أهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة عشر قسماً؛ ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة، فأمّا السعداء فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان يقول إذا سئل هل لهذا العالم إله؟ قال: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه، وقسم ألقى في نفسه واطلع من كشفه على منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فآمن من به في عالم الغيب، وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمة، وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلى الله عليه وسلم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن به فله أجران. وأما الأشقياء فقسم عطل لا عن نظر بل عن تقليد، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن استقصاء بنظر، وقسم أشرك عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 تقليد محض، وقسم علم الحق وعانده، وأما الذي تحت المشيئة فقسم عطل فلم يقر بوجوده عن نظر قاصر لضعف في مزاجه، وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن نظر بلغ فيه أقصى القوّة هكذا قسم محيي الدين بن عربي في الباب العاشر من الفتوحات المكية نقل ذلك عن شيخ وقته الشيخ عبد الوهاب الشعراني، ونقل عن السيوطي أنّ أبوي النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجياً ولا يعذب ويدخل الجنة. قال: وهذا مذهب لا خلاف فيه بين المحققين من أئمتنا الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول، ونص على ذلك الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وتبعه على ذلك الأصحاب، قال السيوطي: وقد ورد في الحديث أن الله تعالى أحيا أبويه حتى آمنا به، وعلى ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي وأبو القاسم بن عساكر وأبو حفص بن شاهين والسهيلي والقرطبي والطبري وابن المنير وابن سيد الناس وابن ناصر الدين الدمشقي والصفدي وغيرهم والأولى لنا الإمساك عن ذلك فإنّ الله تعالى لم يكلفنا بذلك ونكل الأمر في ذلك إلى الله تعالى، ونقول كما قال النووي لما سئل عن طائفة ابن عربي {تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} (البقرة، 134) . ولما أشار تعالى إلى عذاب المخالفين قرّر أسبابه وعرف أنها بقدره وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب بقوله تعالى: {وإذا أردنا} أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة ألقينا في قلوب أهلها امتثال أو أمرنا والتقييد باتباع رسلنا وإذا أردنا {أن نهلك قرية} في الزمن المستقبل {أمرنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة الشاملة {مترفيها} أي: منعميها الذين لهم الأمر والنهي قال الأكثرون: أمرهم الله تعالى بالطاعة والخير على لسان رسله {ففسقوا فيها} أي: خرجوا عن طاعة الله ورسوله. وقال صاحب «الكشاف» : ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون إلا أنّ هذا مجاز، ومعناه أنه يفتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا. قال: والدليل على أنّ ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه أن المأمور به إنما حذف لأنّ قوله ففسقوا يدل عليه يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام وقراءة فكذا هنا لما قال: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني وخالفني فإنّ هذا كلام لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنّا نقول: إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فيكون كونها مأموراً بها مخالفاً فلهذه الضرورة تركنا هذا الظاهر انتهى. قال الرازي: ولقائل أن يقول كما أنّ قوله أمرته فعصاني يدل على أنّ المأمور به شيء غير المعصية من حيث إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله أمرته ففسق يدل على أنّ المأمور به غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أنّ كونه معصية ينافي كونها مأموراً بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أنّ المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور ولم أدر لم أصرّ صاحب «الكشاف» على قوله مع ظهور فساده فثبت أنّ الحق ما ذكر الكل وهو أن المعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق {فحق عليها القول} أي: الذي توعدناهم به على لسان رسولنا {فدمرناها تدميراً} أي: أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم، وخص المترفين بالذكر لأنّ غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور، وقيل معناه كثرنا وروى الطبراني وغيره حديثاً: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي: كثيرة النتاج. والسكة بكسر السين وتشديد الكاف الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة الملقحة قال ذلك الجوهري. وروي أنّ رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى أمرك هذا حقيراً؟ فقال صلى الله عليه وسلم «إنه سيأمر» أي: سيكثر وسيكبر. وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول: «لا إلى إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت زينب قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» أي: الشرّ. وويل يقال لمن وقع في مهلكة أو أشرف أن يقع فيها. وقوله تعالى: {وكم أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة وبين مدلول كم بقوله تعالى: {من القرون} أي: المكذبين {من بعد نوح} كعاد وثمود من الأمم الماضية يخوّف به الكفار أي: كفار مكة قال عبد الله بن أبي أوفى: القرن عشرون ومائة سنة. وقيل: مائة سنة. روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشر المازني أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرناً» . قال محمد بن القاسم: ما زلنا نعدّ له حتى تمت له مائة سنة، ثم مات. وقال الكلبي: القرن ثمانون سنة وقيل أربعون. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وكفى بربك} أي: المحسن إليك {بذنوب عباده خبيراً بصيراً} أي: عالماً ببواطنها وظواهرها فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم استقرّت عاقبته على خلاف ذلك وكم من شخص ترونه مجتهداً في العبادة فإذا خلا بارز ربه بالعظائم، وتقديم الخبر لتقديم متعلقه. ولما قرّر أنه سبحانه وتعالى عالم ببواطن عباده وظواهرهم قسمهم إلى قسمين الأوّل: قوله تعالى: {من كان يريد العاجلة} أي: الدنيا مقصوراً عليها همه {عجلنا له فيها} أي: العاجلة بأن نفيض عليه من منافعها {ما نشاء} أي: من البسط والتقتير {لمن نريد} أي: أن نفعل به ذلك فقيد تعالى الأمر بقيدين أحدهما تقييد المعجل بإرادته ومشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته وهكذا الحال ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثير منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة. تنبيه: لمن نريد بدل بعض من كل من الضمير في له بإعادة العامل تقديره لمن نريد تعجيله له ويقال إنّ الآية في المنافقين كانوا يراؤون المسلمين ويقرؤون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {ثم جعلنا له جهنم يصلاها} أي: في الآخرة {مذموماً} أي: مفعولاً به الذم {مدحوراً} أي: مدفوعاً مطروداً مبعداً وإن ذكره البيضاوي بصيغة قيل. ثم ذكر تعالى القسم الثاني وشرط فيه ثلاثة شروط: الأوّل: قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة} أي: أراد بعمله ثواب الآخرة فإنه إن لم ينو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ذلك لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم، 39) . وقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات» . الثاني: قوله تعالى: {وسعى لها سعيها} وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطاعات وكثير من الضلال يتقرّبون بعبادة الأوثان ولهم فيها تأويلات، أحدها أنهم يقولون إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبادة بعض المقرّبين من عباد الله بأن يشتغل بعبادة كوكب أو ملك من الملائكة ثم إن الملك أو الكوكب يشتغل بعبادة الله تعالى فهؤلاء يتقرّبون إلى الله تعالى بهذا الطريق وهذه طريقة فاسدة فلا جرم أنه لم ينتفع بها. ثانيها أنهم قالوا اتخذنا هذه التماثيل على صورة الأنبياء والأولياء والمراد من عبادتها أن تصير تلك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله وهذا الطريق أيضاً فاسد فلا جرم لم ينتفع بها. ثالثها: أنه نقل عن أهل الهند أنهم يتقرّبون إلى الله بقتل أنفسهم تارة أخرى أنفسهم أخرى وهذه الطريقة أيضاً فاسدة فلا جرم لم ينتفع بها. وكذا القول في جميع الفرق المبطلين الذين يتقرّبون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة. الثالث: قوله تعالى: {وهو مؤمن} لأنّ الشرط في كون أعمال البرّ مقتضية للثواب هو الإيمان فإن لم يوجد لم يحصل المشروط، وعن بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب، وتلا هذه الآية. ثم إنه تعالى أخبر عند وجود هذه الشروط بقوله تعالى: {فأولئك} أي: العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة {كان سعيهم مشكوراً} أي: مقبولاً مثاباً عليه بالتضعيف وبعضهم يفتح له أبواب الدنيا مع ذلك كداود وسليمان عليهما السلام ويستعمله فيها بما فيه مرضاة الله تعالى وبعضهم يزويها عنه كرامة له لا هواناً به فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده، فالحاصل أنها إن وجدت عند الولي لم تشرفه وإن عدمت عنه لم تحقره، وإنما التشريف وغيره عند الله تعالى بالأعمال. تنبيه: كل من أتى بفعل إما أن يقصد به تحصيل خيرات الدنيا، وإمّا أن يقصد به خيرات الآخرة، وإمّا أن يقصد به مجموعهما، وإمّا أن لا يقصد به واحداً منهما. فإن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية. وأمّا القسم الثالث فيقسم إلى ثلاثة أقسام: إمّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً أو يكون الطلبان متعادلين، فإن كان طلب الآخرة راجحاً فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى؟ فيه رأيان: أحدهما أنه غير مقبول لقوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى أنه قال: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» . وأيضاً طلب رضوان الله إمّا أن يكون سبباً مستقلاً لكونه باعثاً لهم على ذلك الفعل وداعياً إليه، وإمّا أن لا يكون، فإن كان الأوّل امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأنّ الحكم إذا أسند لسبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني فيكون الداعي إلى ذلك الفعل هو المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله لأنّ المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله فوجب أن لا يكون مقبولاً. الرأي الثاني: أنه مقبول لأنّ طلب الآخرة لما كان راجحاً على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فبقي القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً، وأمّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحاً فقد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة. وأمّا القسم الرابع وهو الإقدام على الفعل من غير داع فهذا مبنّي على أنّ صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه يتوقف على حصول الداعي قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث. ثم إنه تعالى قال: {كلاًّ} أي: من الفريقين مريد الدنيا ومريد الآخرة {نمدّ} أي: بالعطاء ثم أبدل من كلاً قوله تعالى {هؤلاء} أي: الذين طلبوا الدنيا نمدّ {وهؤلاء} أي: الذين طلبوا الآخرة نمدّ {من عطاء ربك} أي: المحسن إليك إن ضيق على مؤمن فبالحماية من الدنيا الفانية التي إنما هي لعب ولهو وإن وسع فبالاستعمال فيها على حسب ما يرضيه {وما كان عطاء ربك} أي: الموجد لك المدبر لأمرك {محظوراً} أي: ممنوعاً في الدنيا عن مؤمن ولا كافر بل هو ملء السهل والجبل من الذهب والفضة والحديد والنحاس والجواهر والثمار وأقوات الناس والبهائم وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى حتى لو اجتمع كل الناس على جمعه ليلاً ونهاراً ولم يكن لهم شغل سوى ذلك لأعياهم ولم يقدروا عليه فسبحان الجواد المعطي المانع ثم إنه تعالى أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا بقوله تعالى: {انظر} أي: أيها الإنسان أو يا محمد {كيف فضلنا بعضهم على بعض} فأوسعنا على مؤمن وقترنا على مؤمن آخر وأوسعنا على كافر وقترنا على كافر آخر وبين سبحانه وتعالى وجه الحكمة في التفاوت في سورة الزخرف بقوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} (الزخرف، 32) الآية. وقال تعالى في آخر سورة الأنعام: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} (الأنعام، 65) . تنبيه: كيفَ: نصب إمّا على التشبيه بالظرف وإما على الحال وهي معلقة لانظر بمعنى فكر أو أبصر. ولما نبه تعالى على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته أخبر أنّ ما بعد الموت كذلك بقوله تعالى: {وللآخرة أكبر} أي: أعظم {درجاتٍ وأكبر تفضيلاً} من درجات الدنيا ومن تفضيلها فإنّ نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإن كان الإنسان تشتدّ رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب الآخرة أحرى لأنها دار المقامة. روي أنّ قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله تعالى عنه فخرج الأذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو: إنما أوتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة. ولما بيّن تعالى أنّ الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العذاب ومنهم من يريد طاعة الله وهم أهل الثواب، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط فصل تلك المجملات وبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشريك والأضداد بقوله تعالى: {لا تجعل مع الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 أي: الذي له جميع صفات الكمال {إلها آخر} قيل الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، والأولى أنه للإنسان فيكون خطاباً عامّاً لكل من يصلح أن يخاطب به. {فتقعد} أي: فيتسبب عن ذلك أن تقعد أي: تصير في الدنيا قبل الآخرة {مذموماً مخذولاً} لأنّ المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذمّ والخذلان ولأنه قد ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر إلا الله تعالى فحينئذ تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله فاستحق الذمّ والخذلان. تنبيه: قال الواحدي: قوله تعالى: {فتقعد} () انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار أن كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك والتقدير لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدّمة بحرف الفاء وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء وأنّ الثاني مسبب عن الأوّل كما تقرّر. ولما ذكر تعالى ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائعه وذلك أنواع الأوّل أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى ويتحرّز عن عبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وقضى} أي: أمر {ربك} أي: المحسن إليك وقوله تعالى: {أن لا تعبدواً} أي: أنت وجميع أهل دعوتك وهم جميع الناس {إلا إياه} فيه وجوب عبادة الله تعالى والمنع من عبادة غيره لأنّ العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله تعالى فكان هو المستحق للعبادة لا غيره. تنبيه: روى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرئ وقضى ربك ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأنّ خلاف قضاء الله ممتنع وهذا القول كما قاله الرازي بعيد جدّاً إذ لو فتح هذا الباب لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ويندفع ما قاله بما فسر قضى به. ولما أمر تعالى بعبادة نفسه أتبعه بالأمر ببر الوالدين بقوله تعالى: {وبالوالدين} أي: وأحسنوا أي: وأوقعوا الإحسان بهما. {إحساناً} أي: بأن تبروهما ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. تنبيهان: أحدهما المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى والأمر ببر الوالدين من وجوه الأوّل أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهر هو الأبوان فأمر الله تعالى بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري. الثاني: أنّ الموجود إمّا قديم وإمّا محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الموجود القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وأحق الخلق بالشفقة الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان» فقوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى. وقوله تعالى: {بالوالدين إحساناً} إشارة إلى الشفقة على خلق الله. الثالث: أنّ الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك وشكره أيضاً واجب لقوله صلى الله عليه وسلم «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» ، وليس لأحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 من الخلائق نعمة على الإنسان مثل الأبوين لأن الولد قطعة من الوالدين قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني» وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة وإيصال الخير إلى الولد منهما أمر طبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعي أيضاً فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة بل هي أكبر من كل نعمة تصل من الإنسان إلى الإنسان وأيضاً حال ما يكون الإنسان في غاية الضعف ونهاية العجز يكون إنعام الأبوين في ذلك الوقت واصلاً إلى الولد، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه كان موقعه عظيماً وأيضاً فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فكان الإنعام فيه أتم وأكمل فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق وهو قوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} . فإن قيل: الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهماً فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخالفات فأي: إنعام للأبوين على الولد، حتى أنّ بعض المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك فقال: اكتبوا على قبري: هذا جناية أبي علي وما جنيت على أحد. وقال في ترك التزوج والولد: *وتركت فيهم نعمة العدم التي ... فيهم لقد سبقت نعيم العاجل *ولو أنهم ولدوا لعانوا شدّة ... ترمي بهم في موبقات الآجل وقيل لإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: أستاذي أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد عند تعليمي فأوقعني في نور العلم، وأمّا الوالد فإن طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن الكلمات المأثورة المشهورة خير الآباء من علمك. أجيب: بأنه وإن كان في أوّل الأمر طلب لذة الوقاع إلا أنّ الاهتمام بإيصال الخيرات إليه ودفع الآفات عنه من أوّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهات الخيرات والمبرات فسقطت تلك الشبهات. التنبيه الثاني: أن لفظ الآية يدل على معان كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين منها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة وجعل من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أنّ هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة، ومنها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث ببر الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة منها أنه تعالى لم يقل وإحساناً بالوالدين بل قال {وبالوالدين إحساناً} فتقديم ذكرهما يدل على شدّة الاهتمام بهما. ومنها أنه تعالى قال: {إحساناً} بلفظ التنكير، والتنكير يدل على التعظيم أي: إحساناً عظيماً كاملاً لأنّ إحسانهما إليك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات لا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك على سبيل الابتداء. وفي الأمثال المشهورة أنّ البادئ بالبرّ لا يكافأ. ولما كان سبحانه وتعالى عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السنّ قال تعالى: {إما} مؤكداً بإدخال ما على إن الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الوالدين {يبلغن عندك الكبر} أي: كأن يضطرا إليك في حالة الضعف والعجز فلا يكون لهما كافل غيرك فيصيرا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوّله {أحدهما أو كلاهما} . وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الغين وكسر النون فالألف ضمير الوالدين لتقدّم ذكرهما وأحدهما بدل منه أو كلاهما عطف عليه فاعلاً أو بدلاً. فإن قيل: هلا كان كلاهما توكيداً لا بدلاً أجيب: بأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيد الاثنين فوجب أن يكون مثله. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون أحدهما بدلاً وكلاهما توكيداً ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل؟ أجيب: بأنّ العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل، وقرأ الباقون بغير ألف وفتح النون والإعراب على هذا ظاهر، وجميع القرّاء يشدّدون النون. ثم أنه تعالى أمر الإنسان في حق والديه بخمسة أشياء: الأوّل منها قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفّ} أي: لا تتضجر منهما قال الزجاج: أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله {فلا تقل لهما أف} أي: لا تتقذرهما كما أنهما كانا لا يتقذران منك حين كنت تخرأ وتبول. وفي رواية أخرى عن مجاهد إذا وجدت منهما رائحة توذيك {فلا تقل لهما أفّ} فلقد بالغ سبحانه وتعالى بالوصية بهما حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخِّص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة وقد قال صلى الله عليه وسلم «إياكم وعقوق الوالدين فإنّ الجنة يوجد ريحها مع مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زانٍ، ولا جارّ إزاره خيلاء، إن الكبرياء لله رب العالمين» . وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال: لا يقوم إلى خدمتهما عن كسل. وقرأ نافع وحفص بالتنوين في الفاء مع الكسر وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين، والباقون بكسر الفاء من غير تنوين. الثاني قوله تعالى: {ولا تنهرهما} أي: لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال تعالى: {وأمّا السائل فلا تنهر} (الضحى، 10) . فإن قيل: المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بالأولى فما فائدة ذكره؟ أجيب: بأن المراد بالمنع من التأفيف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير والمراد من منع الانتهار المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردّ عليهما والتكذيب لهما. الثالث قوله تعالى: {وقل لهما قولاً كريماً} أي: حسناً جميلاً طيباً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو أن يقول يا أبتاه يا أمّاه. وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وعن عطاء أنه قال: هو أن يتكلم معهما بشرط أن لا يرفع إليهما بصره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ولا يشتد إليهما نظره وذلك أنّ هذين الفعلين ينافيان القول الكريم. فإن قيل: إبراهيم الخليل عليه السلام قال لأبيه: {إني أراك وقومك في ضلال مبين} مع أنه عليه السلام من أعظم الناس أدباً وحلماً وكرماً؟ أجيب: بأن حق الله تعالى مقدّم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى. والرابع قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة} أي: لا من أجل الامتثال للأمر وخوف العار فقط بل من أجل الرحمة لهما بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وبما تقدّم لهما من الإحسان إليك والمقصود المبالغة في التواضع وهذه استعارة بليغة. قال القفال: وفي تقريره وجهان: الأوّل أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن جنس التربية فكأنه قال للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك. والثاني أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع وإذا أراد ترك الطيران خفض جناحيه ولم يرفع فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللين. فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟ أجيب: بوجهين: الأوّل: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أنّ المراد هناك حاتم الجواد فكذا هنا المراد اخفض لهما جناحك الذليل، الثاني: أنّ مدار الاستعارة على الخيلان فهنا تخيل للذل جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً وللقرة زماماً في قوله: *وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فأثبت للشمال يداً وللقرة زماماً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هنا ومن ظريف ما حكي أنّ أبا تمام لما نظم قوله: *لا تسقني ماء الملام فإنني ... صبّ قد استعذبت ماء بكائي جاءه رجل بقصعة وقال له: اعطني شيئاً من ماء الملام فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل يريد أنّ هذا مجازاً استعاره لذلك وقال بعضهم: *راشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من حبهم أن أطيرا الخامس قوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً} أي: لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك هذا إذا كانا مسلمين، فإن كانا كافرين فإنّ الدعاء لهما بالرحمة منسوخ بقوله تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} (التوبة، 113) بل يدعو الله تعالى لهما بالهداية والإرشاد فإذا هداهما فقد رحمهما. وسئل بعضهم عن برّ الوالدين فقال: لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزراً ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا. وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» . تنبيه: قد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحسن الناس بصحبتي؟ فقال: أمّك ثم أمّك ثم أبوك ثم أبوك ثم أدناك فأدناك» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 ومنها عنه أيضاً أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة» . ومنها ما روي عنه أيضاً أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه» . ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد. فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» . ومنها ما رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين» . ومنها ما «روي عن أبي الدرداء أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيِّع» . ومنها ما «روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أيّ؟ قال: برّ الوالدين. قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله» . وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع لهم من الاستغفار ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الوالدين. ولقد كرّر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الوصية بالوالدين. ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» . ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب أنّ البارّ بوالديه لا يموت ميتة سوء. ومنها ما «روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما قال: لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» . ومنها ما رواه أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة» . ومنها ما روي «أنّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعاه فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قويّ وفقيراً وأنا غنيّ فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ ويبخل عليّ بماله فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع بهذا إلا بكى ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك» . وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال: «لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر قال: إنها سيئة الخلق قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها واظمأت لك نهارها قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عنقي. قال: ما جزيتها» . وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول: *أنا لها مطية لا تذعر ... إذا الركائب نفرت لا تنفر *ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال الأكبر تظنني جزيتها يا ابن عمر قال: لا، والله ولا زفرة واحدة. ولما كان ما ذكر في حق الوالدين عسراً جدّا يحذر من التهاون به أشار بقوله تعالى: {ربكم} أي: المحسن إليكم في الحقيقة فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك {أعلم} أي: من كل أحد {بما في نفوسكم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 من قصد البرّ بهما وغيره، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن فإنّ ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سبباً لرحمتهما {إن تكونوا صالحين} أي: متقين محسنين في نفس الأمر والصلاح استقامة الفعل على ما يدعو الدليل إليه. وأشار تعالى إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بعد كرّة بقوله تعالى: {فإنه كان للأوابين} أي: الرجاعين إلى الخير مرّة إثر مرّة بعد جماح أنفسهم عنه {غفوراً} أي: بالغ الستر بمن وقع منه تقصير فرجع عنه فإنه مغفور له. ولما حث تعالى على الإحسان للوالدين بالخصوص عمّ بالأمر بالإحسان لكل ذي قرابة ورَحِمٍ وغيره بقوله تعالى: {وآت ذا القربى} من جهة الأب والأمّ وإن بعد {حقه} والخطاب لكل أحد أن يؤتي أقاربه حقوقهم من صلة الرحم والمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمعاضدة ونحو ذلك. وقيل إن كانوا محتاجين ومحاويج وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم عند الإمام أبي حنيفة وقال الشافعيّ: لا يلزم إلا نفقة الوالد على ولده والولد على والده فقط، وقيل المراد بالقرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم {و} آت {المسكين} حقه وإن لم يكن قريباً {و} آت {ابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن ماله ليكون متقياً محسناً. ولما رغب تعالى في البذل وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط أتبع ذلك بقوله تعالى: {ولا تبذر} بتفريق المال سرفاً وهو بذله فيما لا ينبغي وقد كانت الجاهلية تبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها فأمر الله تعالى بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف إليه وفي قوله تعالى: {تبذيراً} تنبيه على أنّ الارتفاع نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير والتبذير بسط اليد في المال على حسب الهوى. وقد سئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه، وأمّا الجود فهو اتباع أمر الله تعالى في حقوق المال. وعن مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً ولو أنفق مدّا في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمر قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أوفي الوضوء سرف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار» . ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين بقوله تعالى: {إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} أي: على طريقتهم أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف أو هم قرناؤهم وهم في النار على سبيل التوعد، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان بقوله تعالى: {وكان الشيطان} أي: هذا الجنس البعيد من كل خير المحترق بكل شرّ {لربه} أي: الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته {كفوراً} أي: ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة ونعمته الباهرة مع الحجة فلا ينبغي أن يطاع لأنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله. قال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم في هذا الباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وقوله تعالى: {وإمّا تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} نزل في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب وكانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك لانتظار رزق من الله يرجوه أن يأتيه فيعطيه {فقل لهم} أي: في حالة الإعراض {قولاً ميسوراً} أي: ذا يسر يشرح صدروهم ويبسط رجاءهم لأنّ ذلك أقرب إلى طريق المتقين المحسنين. قال أبو حيان: روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول: «يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله» انتهى. وقد وقع هذا الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبباً للابتغاء والابتغاء مسبباً عنه فوضع المسبب موضع السبب، ثم أمر تعالى نبيَّه بما وصف له عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان، 67) . فقال تعالى: {ولا تجعل يدك} أي: بالبخل {مغلولة} أي: كأنها بالمنع مشدودة بالغل {إلى عنقك} أي: لا تستطيع مدّها أي: لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط {ولا تبسطها} بالبذل {كل البسط} فتبذر بحيث لا يبقى في يدك شيء. ذكر الحكماء في كتب الأخلاق أنّ لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والمعتدل هو الوسط. وعن جابر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيّ فقال: يا رسول الله إنّ أمي تستكسيك درعاً أي: قميصاً ولم يكن لرسول. الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبيّ: «من ساعة إلى ساعة» . هذا متعلق بمحذوف، أي: أخر سؤالك من ساعة ليس لنا فيها درع إلى ساعة يظهر لنا فيها درع فعد إلينا فذهب إلى أمّه فقالت له: قل له إنّ أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزع قميصه فأعطاه وقعد عرياناً أي: في إزار ونحوه فأذن بلال بالصلاة فانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً. فأنزل الله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} » . فتعطي جميع ما عندك. تنبيه: ما ذكرته عن جابر تبعاً «للكشاف» والبيضاوي والرازي وغيرهم قال الوليّ العراقي: لم أقف عليه وكذا قال الحافظ ابن حجر وقد يقال من حفظ حجة على من لم يحفظ. {فتقعد} أي: توجد كالمقعد {ملوماً} أي: بليغ الرسوخ فيما يلام بسببه عند الله لأنّ ذلك مما نهى الله عنه عند نفسك وعند الناس لأنه يلوم نفسه وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية. {محسوراً} أي: منقطعاً بك لذهاب ما تقوى به. قال القفال: شبه حال من أنفق كل ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته لأنّ ذلك المقدار من المال كأنه مطية تحمل الإنسان إلى آخر الشهر والسنة، كما أنّ ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك الإنسان إذا أنفق مقدار ما يحتاج إليه في مدّة شهر في أقل منه بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل ذلك لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 سوء تدبيره وترك الحرم في مهمات معاشه ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {إن ربك} أي: المحسن إليك {يبسط الرزق} أي: بوسعه {لمن يشاء} البسط دون غيره {ويقدر} أي: يضيقه سواء قبض يده أم بسطها لأنّ الرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ورفع درجاته على مقدار الصلاح في الصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض، لأنّ ذلك هو الصلاح قال تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} (الشورى، 27) . {إنه كان بعباده خبيراً} أي: بالغ الخبر {بصيراً} أي: بالغ البصر بما يكون من كل من القبض والبسط لهم مصلحة ومفسدة فالتفاوت في أنه ربى العباد ليس لأجل بخل بل لأجل رعاية مصلحة لا يعلم بها العبد فسبحان المتصرف في عباده كيف يشاء. ولما أتم سبحانه وتعالى الوصية بالأصول وما يتبع ذلك أوصى بالفروع بقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم} فذكرهم بلفظ الولد الذي هو داعية إلى الحنو والعطف {خشية إملاق} أي: فقر متوقع لم يقع بعد ثم وصل بذلك استئنافاً بقوله تعالى: {نحن نرزقهم وإياكم} مقدّماً ضمير الأولاد لكون الإملاق مترقباً من الإنفاق عليهم ثم علل تعالى ذلك بما هو أعم منه فقال تعالى: {إن قتلهم} أي: مطلقاً لهذا أو لغيره {كان خطأ} أي: إثماً {كبيراً} أي: عظيماً وقرأ ابن كثير بفتح الطاء ومدّ بعدها مدّاً متصلاً، وقرأ ابن ذكوان بفتح الخاء والطاء ولا مدّ بعد الطاء والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء. قال الرمانيّ: الخطء بكسر ثم سكون لا يكون إلا تعمداً إلى خلاف الصواب والخطأ أي: محركاً قد يكون من غير تعمد. وإنما وجب بر الأولاد لأمور: أحدها أنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين وإنما وجب برّ الوالدين مكافأة لما صدر منهما من أنواع البر إلى الولد. الثاني أنّ امتناع الآباء من البرّ بالأولاد يقتضي خراب العالم. الثالث: أنّ قرابة الولادة قرابة الجزئية والبعضية وهي من أعظم الموجبات للمحبة فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة فرغب الله تعالى في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة وعبر تعالى بالأولاد ليشمل الإناث، فإنّ العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة عليهم وأيضاً كانوا يخافون أنهنّ بعد كبرهنّ تفقد أكفاؤهنّ فيحتاجون إلى إنكاحهنّ من غير أكفاء وفي ذلك عار شديد فنهاهم الله تعالى عن ذلك فإنّ الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور والإناث وأما ما يخاف من الفقر في البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين، وكما أنه سبحانه وتعالى يفتح أبواب الرزق على الذكور فكذلك على الإناث. ولما كان في قتل الأولاد حظ من البخل وفي فعل الزنا داع من الإسراف أتبعه به فقال تعالى: {ولا تقربوا الزنا} أدنى قرب ولو بفعل شيء من مقدماته وإنما أتى تعالى بالقربان تعظيماً له لما فيه من المفاسد الجارّة إلى الفتن بالقتل وتضييع النسب والتسبب في إيجاد نفس بالباطل وغير ذلك ثم علل تعالى النهي عن ذلك بقوله تعالى مؤكداً إبلاغاً في التنفير عنه لما للنفس من شدّة الداعية إليه. {إنه كان فاحشة} أي: فعله ظاهرة القبح زائدته وقد نهاكم الله تعالى عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الفحشاء في قوله تعالى: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء} (النحل، 90) الآية. {وساء} أي: وبئس الزنا {سبيلاً} أي: طريقاً طريقه ثم نهى سبحانه وتعالى عن القتل مطلقاً عن التقييد بالأولاد بغير حق بقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله} أي: بالإسلام والعهد {إلا بالحق} وهو المبيح للقتل، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم إمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ رجل كفر بالله بعد إيمانه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير حق» . ومثل انتقال المسلم من دين الإسلام إلى دين الكفر انتقال كافر من دين إلى دين آخر سواء كان ذلك الدين يقرّ عليه أم لا، ومن ذلك قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (التوبة، 29) وقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا} (المائدة، 33) . واختلف الفقهاء في أشياء غير ذلك منها أنّ تارك الصلاة كسلاً هل يقتل فعند الشافعيّ يقتل بشروط معلومة، وعند أبي حنيفة لا يقتل التارك كالزاني. ومنها أنّ عمل اللواط هل يوجب القتل فعند الشافعيّ يوجب قتل الفاعل كالزاني، وعند أبي حنيفة لا يوجبه. ومنها أنّ الساحر إذا قال قتلت فلاناً بسحري عمداً هل يوجب القتل فعند الشافعيّ يوجبه وعند أبي حنيفة لا يوجبه. ومنها أنّ القتل بالمثقل هل يوجب القصاص فعند الشافعيّ يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب. ومنها الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل اختلفوا فيه في زمان أبي بكر رضي الله عنه. ومنها أنّ إتيان البهيمة هل يوجب القتل فعند أكثر الفقهاء لا يوجب وعند قوم يوجبه ولكل ممن ذكر أدلة يستدل بها رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ثم قال تعالى: {ومن قتل مظلوماً} أي: بأي: ظلم كان من غير أن يرتكب ما يبيح قتله {فقد جعلنا لوليه} أي: سواء كان قريباً أم بعيداً {سلطاناً} أي: أمراً متسلطاً به. وقوله تعالى: {فلا يسرف في القتل} قرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على الخطاب أي: أيها الوليّ والباقون بالياء على الغيبة أي: الوليّ وفسر الإسراف بوجوه الأول: أن يقتل القاتل وغير القاتل وذلك أنّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحد من قبيلة شريفة قتلوا خلقاً من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وحكم بقتل القاتل وحده. الثاني: أنّ الإسراف هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإنّ الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل ثم يقتلون منهم قوماً معينين ويتركون القاتل. الثالث: أنّ الإسراف هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يقتله ثم يمثل به ويقطع أعضاءه، قال القفال: ولا يبعد حمله على الكل لأنّ حمله على هذه المعاني مشترك في كونها إسرافاً. واختلف في رجوع الهاء إلى ماذا في قوله تعالى: {إنه كان منصوراً} فقال مجاهد: راجعة إلى المقتول في قوله تعالى: {ومن قتل مظلوماً} أي: أنّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله. وقال قتادة: راجعة لوليّ المقتول، أي: أنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص أو الدية فليكتف بهذا القدر ولا يطمع في الزيادة، وقيل راجعة إلى القاتل الظالم أي: أن القاتل يكتفي منه باستيفاء القصاص ولا يطلب منه زيادة لأنه منصور من عند الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه أو أنه إذا عوقب في الدنيا بأزيد مما فعل نصر في الآخرة. وقيل راجعة إلى الدم وقيل إلى الحق. ولما ذكر تعالى النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 عن إتلاف الأموال لأنّ أعز الأشياء بعد النفوس الأموال وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله، فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم بقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم} عبر بالقربان الذي هو قبل الأخذ تعظيماً للمقام فهو أبلغ من قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً} (النساء، 6) . وفي تفسير قوله تعالى: {إلا بالتي هي أحسن} وجهان الأوّل إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره. الثاني: روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إذا أحتاج أكل بالمعروف وإذا أيسر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه، والوليّ تبقى ولايته على اليتيم. {حتى يبلغ أشدّه} وهو إيناس الرشد منه بعد بلوغه كما بين تعالى ذلك في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} (النساء، 6) . ولما نهى سبحانه وتعالى عن ثلاثة أشياء وهي الزنا والقتل وأكل مال اليتيم أتبعها بثلاثة أوامر الأوّل قوله تعالى: {وأوفوا بالعهد} أي: إذا عاهدتم الله تعالى على فعل المأمورات وترك المنهيات أو الناس على فعل أو قول جائز وفي تفسير قوله تعالى: {إن العهد كان مسؤولاً} وجوه الأوّل: أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسؤولاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف، 82) . ثانيها: {أنّ العهد كان مسؤولاً} أي: مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي. ثالثها: أن يكون هذا تخييلاً كأن يقال للعهد لم نكثت وهلا أوفى بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة {بأي ذنب قتلت} (التكوير، 9) . وكقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} (المائدة، 116) والمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره، الأمر الثاني: قوله تعالى: {وأوفوا الكيل إذا كلتم} أي: لغيركم فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا الكيل. الأمر الثالث: قوله تعالى: {وزنوا} أي: وزناً متلبساً {بالقسطاس} أي: ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين وزاد في تأكيد معناه فقال: {المستقيم} دون شيء من الحيف. تنبيه: القسطاس رومي عرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأنّ الأعجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربياً وقرأ حفص والكسائي وحمزة بكسر القاف والباقون بضمها. {ذلك} أي: الأمر العالي الرتبة الذي أخبرناكم به من الإيفاء بالتمام والكمال {خير} لكم في الدارين الدنيا والآخرة من التطفيف بالكيل أو الوزن من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة وإن تراءى لكم أن التطفيف خير {وأحسن تأويلاً} أي: عاقبة في الدارين، أما في الدنيا فلأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل وكم رأينا من الفقراء من اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة انقلبت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم، وأمّا في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم والتأويل وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع أو أفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة بإرخاء العنان أي: على تقدير أن يكون في كل منهما خير فهذا المعنى الذي ذكرناه أزيد خيراً والعاقل لا يرضى لنفسه بالدون. ولما شرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الله تعالى الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء أوّلها قوله تعالى: {ولا تقف} أي: لا تتبع أيها الإنسان {ما ليس لك به علم} من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً وهو قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، واختلف المفسرون فيها فقال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم. وقيل المراد النهي عن القذف، وقيل المراد النهي عن الكذب. وقيل المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم لأنّ الله تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس} (النجم، 23) . وقيل القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه يقال خلفه وهو في معنى الغيبة. قال صلى الله عليه وسلم «من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال» وراه الطبراني وغيره وردغة بسكون الدال وفتحها عصارة أهل النار. وقال الكميت: *ولا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا اقفو الحواصن إن قفينا ببناء قفينا للمفعول والحواصن النساء العفائف واللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد. تنبيه: يقال قفوت أثر فلان أقفوا إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنّ البيت يقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقفاء الناس أو آثار أقدامهم ويستدلون بها على أحوال الناس. وقال تعالى: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا} (الحديد، 27) وسمي القفا قفاً لأنه مؤخر بدن الإنسان فإن مشى يتبعه ويقفوه. فإن قيل: إنّ هذه الآية تدلّ على منع القياس فإنه لا يفيد إلا الظنّ والظنّ مغاير للعلم؟ أجيب: بأن ذلك عام دخله التخصيص فإنّ الحكم في الدين بمجردّ الظنّ جائز بإجماع الأمة وبأنّ المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعياً أم ظنياً واستعماله بهذا المعنى شائع ذائع وقد استعمل في مسائل كثيرة منها أنّ العمل بالفتوى عمل بالظنّ، ومنها أنّ العمل بالشهادة عمل بالظنّ، ومنها الاجتهاد في طلب القبلة ولا يفيد إلا الظنّ، ومنها قيم المتلفات وإرش الجنايات لا سبيل إليهما إلا بالظنّ، ومنها الفصد والحجامة وسائر المعالجات تبنى على الظنّ، ومنها بعث الحكمين في الشقاق. قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} (النساء 35) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم، ومنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون وينبني على هذا الظنّ أحكام كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين، ومنها الاعتماد على صدق الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون. وقال صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» . وذلك تصريح بأنّ الظنّ معتبر فبطل قول من يقول أنه لا يجوز بناء الأمر على الظنّ، ثم علل تعالى النهي مخوّفاً بقوله تعالى: {إن السمع والبصر} وهما طريقا الإدراك {والفؤاد} الذي هو آلة الإدراك، ثم عوّل تعالى الأمر بقوله تعالى: {كل أولئك} أي: هذه الأشياء العظيمة العالية المنافع البديعة التكوين. تنبيه: أولاء وجميع أسماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقول الشاعر: *ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام يجوز في ذم فتح الميم وكسرها وضمها وقوله بعد منزلة اللوى أي: بعد مفارقتها والإضافة في منزلة اللوى للبيان وهو ممدود ولكن قصره هنا للضرورة والعيش عطف على المنازل والأيام صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان له {كان عنه} أي: بوعد لا خلف فيه {مسؤولاً} بسؤال يخصه. تنبيه: ظاهر الآية يدل على أنّ الجوارح مسؤولة وفيه وجوه الأوّل: أنّ معناه أنّ صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأنّ السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً وهذه الجوارح ليست كذلك بل العاقل الفاهم هو الإنسان كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف، 82) أي: أهلها والمعنى أنه يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحل سماعه ولم نظرت ما لم يحل نظره ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه. الثاني: أنّ تقدير الآية أنّ أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أم في المعصية؟ وكذا القول في بقية الأعضاء وذلك لأنّ الحواس آلات النفس والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملها في الخيرات استوجب الثواب، وإن استعملها في المعاصي استحق العقاب. الثالث: أن الله تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم أنها تسأل لقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} (النور، 24) فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل والحياة والنطق في هذه الأعضاء ثم أنها تسأل روى عن شكل بن حميد قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبيّ الله علمني تعويذاً أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شرّ سمعي وشر بصري وشرّ لساني وشرّ قلبي وشرّ منيي» قال: فحفظتها، قال سعد: المني ماؤه. النهي الثاني: قوله تعالى: {ولا تمش في الأرض} أي: جنسها {مرحاً} أي: ذا مرح وهو شدّة الفرح والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة. قال الزجاج: ولا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} (الفرقان، 63) وقال تعالى في سورة لقمان: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك} (لقمان، 19) وقال تعالى فيها: {ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور} (لقمان، 18) . ثم علل تعالى النهي عن ذلك بقوله تعالى: {إنك لن تخرق الأرض} أي: تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك {ولن تبلغ الجبال طولاً} أي: بتطاولك وهو تهكم بالمختال لأنّ الاختيال حماقة مجردة لا تفيد شيئاً ليس في التذلل وفي ذلك إشارة إلى أنّ العبد ضعيف لا يقدر على خرق أرض ولا وصول إلى جبال فهو محاط به من فوقه ومن تحته بنوعين من الجمادات وهو أضعف منهما بكثير والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله محصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي وقيل ذكر ذلك لأن من مشى خيلاء يمشي مرّة على عقبيه ومرّة على صدور قدميه فقيل له إنك لن تثقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مشى تكفأ تكفأ كأنما ينحط من صبب» . وروى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 أبو هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث» . وقوله تعالى: {كل ذلك} إشارة إلى ما نهى عنه مما تقدّم فإنّ الذي تقدّم منهيات ومأمورات وجملة ذلك من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} (الإسراء، 22) إلى هنا خمسة وعشرون وها أنا أسردها لك تسهيلاً عليك. فأوّلها: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} (الإسراء، 22) . وثانيها وثالثها: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} لاشتماله على تكليفين الأمر بعبادة الله تعالى والنهي عن عبادة غيره. ورابعها: {وبالوالدين إحساناً} . خامسها: {فلا تقل لهما أف} . سادسها: {ولا تنهرهما} . سابعها: {وقل لهما قولاً كريماً} ثامنها: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} . تاسعها: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} . عاشرها: {وآت ذا القربى حقه} . حادي عشرها: {والمسكين} . ثاني عشرها: {وابن السبيل} . ثالث عشرها: {ولا تبذر تبذيراً} . رابع عشرها: {فقل لهم قولاً ميسوراً} . خامس عشرها: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} . سادس عشرها: {ولا تبسطها كل البسط} . سابع عشرها: {ولا تقتلوا أولادكم} . ثامن عشرها: {ولا تقتلوا النفس} . تاسع عشرها: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً} . عشروها: {فلا يسرف في القتل} حادي عشريها: {وأوفوا بالعهد} ثاني عشريها: {وأوفوا الكيل} . ثالث عشريها: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} . رابع عشريها: {ولا تقف ما ليس لك به علم} . خامس عشريها: {ولا تمش في الأرض مرحا} . فكل هذه تكليفات بعضها أوامر وبعضها نواه فالمنهي عنه هو الذي الذي قال تعالى فيه: {كان سيئه عند ربك مكروهاً} أي: يبغضه والعاقل لا يفعل ما يكرهه المحسن إليه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وبالتاء منونة منصوبة وقرأ الباقون بضم الهمزة والهاء مضمومة من غير تنوين. والمعنى على هذا ظاهر، أي: إن سيئ تلك الأقسام يكون مكروهاً، وأمّا القراءة الأولى فسيئة خبر كان وأنث حملاً على معنى كل ثم قال مكروهاً حملاً على لفظها. وقال الزمخشري: إن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنثيه ولا فرق بين سيئة وسيأ ألا ترى أنك تقول الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة فلا فرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث، وفي نصب مكروهاً أوجه أحدها: أنه خبر ثان لكان. الثاني: أنه بدل من سيئة وضعف بأن البدل بالمشتق قليل. الثالث: أنه حال من الضمير المستتر في عند ربك لوقوعه صفة لسيئه. الرابع: أنه نعت لسيئه وإنما ذكّرَ وصف سيئه لأن تأنيثه وتأنيث موصوفه مجازي، وردّ بأن ذلك إنما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازي، أما إذا أسند إلى ضميره فلا نحو الشمس طالعة فلا يجوز طالع. وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى الأحكام المتقدّمة في الأوامر والنواهي {مما أوحى إليك} يا أشرف الخلق {ربك} أي: المحسن إليك {من الحكمة} التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وإنما سميت هذه الأمور حكمة لوجوه الأول: أنّ حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد، وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان، بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن. الثاني: أنّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة، وحكمة من هذا الاعتبار. الثالث: أنّ الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، كما مرّت الإشارة إليه، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب عليها ولا ينحرف عنها فثبت أنّ الأشياء المذكورة من هذه الآيات عين الحكمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام وجعل سبحانه وتعالى فاتحتها قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} وخاتمتها قوله تعالى: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر} تنبيهاً على أنّ التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاه، وأنّ من قصد بفعل أو ترك غيره ضاع سعيه وأنه رأس الحكمة وملاكها ورتب عليه ما هو عائدة الشرك في قوله تعالى أوّلاً: {ولا تجعل مع الله} ، أي: في الدنيا، وثانياً ما هو نتيجته في العقبى فقال: {فتلقى} أي: فيفعل بك في الآخرة في الحشر {في جهنم} من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عال حال كونك. {ملوماً} أي: تلوم نفسك {مدحوراً} أي: مبعداً من رحمة الله. تنبيه: ذكره سبحانه وتعالى في الآية الأولى بقوله تعالى: {مذموماً مخذولاً} وفي هذه الآية {ملوماً مدحوراً} والفرق بين الذم واللوم هو أن يذكر له أنّ الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً ثم يقال له فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه فهذا هو اللوم فأوّل الأمر يصير مذموماً وآخره يصير ملوماً، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه، أي: ضعفت والمدحور هو المطرود والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته فيصير أوّل الأمر مخذولاً وآخره مدحوراً. وقوله تعالى: {فأصفاكم ربكم بالبنين} خطاب للذين قالوا الملائكة بنات الله والهمزة للإنكار، أي: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، ولم يجعل فيهم نصيباً لنفسه {واتخذ من الملائكة إناثاً} أي: بنات لنفسه وهذا خلاف ما عليه معقولكم وعادتكم، فإنّ العبيد لا يستأثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوائب ويكون أردؤها وأدونها للسادات {إنكم لتقولون قولاً عظيماً} بإضافة الأولاد إليه لأن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأبعاض والأجزاء وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته، وأيضاً فبتقدير ثبوت الولد فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم وأخس القسمين لله تعالى وهذا جهل عظيم، وأيضاً جعلوا الملائكة الذين هم من أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على حمل الأرض وقلب أسفلها على أعلاها إناثاً في غاية الرخاوة. ولما كان في هذا من البيان ما لا يخفى على إنسان ولم يرجعوا أشار إلى أنّ لهم مثل هذا الإعراض عن أمثال هذا البيان فقال تعالى: {ولقد صرّفنا} أي: بينا بياناً عظيماً بأنواع طرق البيان من العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام في قوالب الوعد والوعيد والأمر والنهي والمحكم والمتشابه إلى غير ذلك {في هذا القرآن} أي: في مواضع منه من الأمثال كما قال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 مثل} (الروم، 58) قيل لفظة في زائدة كما في قوله تعالى: {وأصلح لي في ذريتي} (الأحقاف، 15) . ورد بأنّ في لا تزاد وما ذكر متأوّل كما يأتي إن شاء الله تعالى في الأحقاف والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى أخرى ثم صار كناية عن التبيين قاله أبو حيان. وقوله تعالى: {ليذكروا} متعلق بصرفنا وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال ورفع الكاف من غير تشديد من الذكر الذي هو بمعنى التذكر والباقون بفتح الذال والكاف مع تشديدهما. {وما يزيدهم} أي: التصريف {إلا نفوراً} أي: تباعداً عن الحق وقلة طمأنينة إليه، وعن سفيان كان إذا قرأها قال: زادني ذلك لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء المشركين ولا تيأس من رجوع بعضهم. {لو كان معه آلهة كما تقولون} من هذه الأقوال التي لو قالها أعظمكم في حق أدناكم وهو يريد بها حقيقتها لصار ضحكة للعباد {إذا لابتغوا} أي: طلبوا طلباً عظيماً {إلى ذي العرش} أي: صاحب السرير الأعظم المحيط الذي من ناله كان منفرداً بالتدبير {سبيلاً} أي: طريقاً سالكاً يتوصلون به إليه ليقهروه ويزيلوا ملكه كما ترون فعل ملوك الدنيا بعضهم مع بعض أو ليتخذوا عنده يداً يقربهم إليه، وقرأ ابن كثير وحفص بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب وأدغم أبو عمرو الشين من العرش في السين بخلاف عنه. ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه فقال عز من قائل: {سبحانه} أي: تنزه التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص {وتعالى} أي: علا أعلى العلوّ بصفات الكمال {عما يقولون} أي: من هذه النقائص التي لا يرضاها لنفسه أحد من عقلاء خلقه {علوّاً} أي: تعالياً {كبيراً} أي: متباعداً غاية البعد عما يقولون فإنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجوب والبقاء لذاته. تنبيه: جعل العلوّ مصدر التعالي ومصدره تعالياً كما قدّرته فهو المراد ونظيره قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} (نوح، 17) . فإن قيل: ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير؟ أجيب: بأنّ المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوّة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها لأنّ المنافاة بين الواجب لذاته وبين الممكن لذاته وبين القديم والمحدث وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة، ثم استأنف تعالى بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال: {تسبح} أي: توقع التنزيه الأعظم {له} أي: الإله الأعظم الذي تقدّم وصفه بالجلال والإكرام خاصة {السموات السبع والأرض} أي: السبع {ومن فيهنّ} أي: من ذوي العقول {وإن} أي: وما وأغرق في النفي فقال: {من شيء} أي: ذي عقل أو غيره {إلا يسبح بحمده} أي: يقول سبحان الله العظيم وبحمده، أو يقول سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس: وإنّ من شيء حيّ إلا يسبح بحمده. وقال قتادة: يعني الحيوانات والناميات. وقال عكرمة: الشجرة تسبح والإسطوانة تسبح وعن المقداد بن عدي: التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح والورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح والماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح والثوب يسبح ما دام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح. وقال السيوطي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 في جواب سؤال عن ذلك: *قد خصصت آية الأسرى بمتصف ... وصف الحياة كرطب الزرع والشجر *فيابس مات لا تسبيح منه كذا ... وما زال عن موضع كالقطع للحجر وقال إبراهيم النخعي: وإنّ من شيء جماد وحيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف، وقال مجاهد: كل الأشياء تسبح لله تعالى حيواناً كانت أو جماداً وتسبيحها سبحان الله وبحمده يدل على ذلك ماروي عن ابن مسعود كنا نعدّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء فقال صلى الله عليه وسلم «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل» . وعن جابر بن سمرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ بمكة حجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت إني لأعرفه الآن» . وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما اتخذ له المنبر تحوّل إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه وفي رواية فنزل فاحتضنه وساره بشيء ففي هذه الأحاديث دليل على أنّ الجماد يتكلم وأنه يسبح. وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال حيث تدلّ على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك ويصير لها بمنزلة التسبيح. قال البغوي: والأول أصح وهو المنقول عن السلف. وقال ابن الخازن: القول الأول أصح لما دلت عليه الأحاديث وأنه منقول عن السلف. قال البغوي: واعلم أنّ لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن يوكل علمه إليه {ولكن لا تفقهون} أي: لا تفهمون {تسبيحهم} أي: لأنه ليس بلغتكم {إنه كان حليماً غفوراً} . ولما ذكر سبحانه وتعالى إثبات الإلهية أتبعه بذكر تقرير النبوّة بقوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن} أي: الذي لا يدانيه واعظ ولا يساويه مفهم وهو تبيان لكل شيء {جعلنا} أي: بما لنا من العظمة {بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} أي: يحجب قلوبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم والانتفاع به. قال قتادة: هو الأكنة فالمستور بمعنى الساتر كقوله تعالى: {كان وعده مأتياً} (مريم، 61) مفعول بمعنى فاعل وقيل: مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه وفسره بعضهم بالحجاب عن الأعين الظاهرة كما روي عن سعيد بن جبير أنه لما نزلت {تبت يدا أبي لهب} (المسد، 1) جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ لقد بلغني أنه هجاني. فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت وهي تقول: قد كنت جئت بهذا الحجر لأرض به رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله؟ قال: «لا ما يزل ملك بيني وبينها يسترني» . {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {على قلوبهم أكنة} أي: أغطية كراهية {أن يفقهوه} أي: يفهموه أي: يفهموا القرآن حق فهمه {وفي آذانهم وقراً} أي: شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم، وعن أسماء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول: مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا. فقال أبو بكر: يا رسول الله معها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 فهر أخشاها عليك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إني رأيت قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وإنّ صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب الكعبة ورب هذا البيت ما هجاك. وروى ابن عباس أنّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويسمعون حديثه فقال النضر يوماً: ما أرى ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه يتحرّكان بشيء. وقال أبو سفيان: إني لا أرى بعض ما يقوله إلا حقاً. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاث آيات وهي في سورة الإسراء: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} (الإسراء، 46) . وفي سورة النحل {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} (النحل، 108) وفي حم الجاثية {أفرأيت من أتخذ إلهه هواه} (الجاثية، 23) إلى آخر الآية، فكان الله تعالى يحجبه ببركة هذه الآيات عن عيون المشركين {وإذا ذكرت ربك} أي: المحسن إليك وإليهم {في القرآن وحده} أي: مع الإعراض عن آلهتهم كأن قلت وأنت تتلو القرآن لا إله إلا الله. تنبيه: في نصب وحده وجهان أحدهما أنه منصوب على الحال وإن كان معرفة لفظاً في قوّة النكرة إذ هو في معنى منفرداً. والثاني: أنه منصوب على الظرف. {ولّوا على أدبارهم نفوراً} أي: هرباً من استماع التوحيد. تنبيه: في نفوراً وجهان أحدهما مصدر من غير اللفظ مؤكد لأنّ التولي والنفور بمعنى والثاني أنه حال من فاعل ولوا وهو حينئذٍ جمع نافر كقاعد وقعود وشاهد وشهود والضمير في ولوا يعود إلى الكفار وقيل يعود إلى الشيطان وإن لم يجر لهم ذكر. قال المفسرون: إنّ القوم كانوا عند استماع القرآن على أقسام منهم من كان يلهو عند استماعه. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه ويساره إخوان من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، ومنهم من كان إذا سمع من القرآن ما فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين لا يفهمون منه شيئاً ومنهم من إذا سمع آيات فيها ذكر الله تعالى وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس. ولما كانوا ربما ادّعوا السمع والفهم فشككوا بعض من لم يرسخ إيمانه أتبعه تعالى بقوله تعالى: {نحن أعلم} أي: من كل عالم {بما يستمعون} أي: يبالغون في الإصغاء والميل لقصد السمع {به} من الآذان والقلوب أو بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن {إذ يستمعون} أي: يصغون بجهدهم {إليك} أي: إلى قراءتك {وإذ} أي: حين {هم} ذو {نجوى} أي: يتناجون بأن يرفع كل منهم بصره إلى صاحبه بعد إعراضهم عن الاستماع ثم ذكر تعالى ظرف النجوى بقوله تعالى: {إذ} وهو بدل من إذ قبله {يقول الظالمون} وقولهم {إن} أي: ما {تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أي: مخدوعاً مغلوباً على عقله. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال: قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم» فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن والدعوى إلى الله تعالى يقولون: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 فإن قيل: أنهم لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يصح أن يقولوا {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أجيب: بأنّ معناه إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً. وقرأ ابو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة بكسر التنوين في الوصل والباقون بالضم ثم قال تعالى: {انظر كيف ضربوا} أي: هؤلاء الضُّلال {لك الأمثال} التي هي أبعد شيء من صفتك من قولهم كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون. {فضلوا} عن الحق في جميع ذلك {فلا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا {يستطيعون سبيلاً} أي: وصولاً إلى طريق الحق. ولما جرت عادة القرآن بإثبات التوحيد والنبوّة والمعاد وقدم الدلالة على الأوّلين وختم بإثبات جهلهم في النبوّة مع ظهورها أتبع ذلك أمراً جلياً في ضلالهم عن السبيل في أمر المعاد وقرّره غاية التقرير، وحرّه أتم تحرير. قال تعالى معجباً منهم: {وقالوا} أي: المشركون المنكرون للتوحيد والنبوّة والبعث مع اعترافهم بأنا ابتدأنا خلقهم ومشاهدتهم في كل وقت إنا نحيي الأرض بعد موتها وقولهم: {أئذا} استفهام إنكاري كأنهم على ثقة من عدم ما ينكرونه والعامل في إذا فعل من لفظ مبعوثون لا هو فإن ما بعد إنّ لا يعمل فيما قبلها فالمعنى أنبعث إذا {كنا} أي: بجملة أجسامنا كوناً لازماً {عظاماً ورفاتاً} أي: حطاماً مكسراً مفتتاً أو غباراً. وقال الفراء: هو التراب وهو قول مجاهد ويؤيده أنه قد يكرر في القرآن تراباً وعظاماً. ويقال للتبن الرفات لأنه دقاق الزرع. {أئنا لمبعوثون} حال كوننا مخلوقين {خلقاً جديداً} . تنبيه: تقرير شبهة هؤلاء الضلال هي أنّ الإنسان جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم فالأجزاء المائية مختلطة بمياه العالم والأجزاء الترابية مختلطة بالتراب، والأجزاء الهوائية مختلطة بالهواء فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرّة أخرى وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرّة أخرى هذا تقرير شبهتهم؟ أجيب: عنها بأنها لا تتم إلا بالقدح في كمال علم الله تعالى وفي كمال قدرته فإنه تعالى قادر على كل الممكنات فهو قادر على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها فمن سلم كمال علم الله تعالى وكمال قدرته زالت عنه هذه الشبهة بالكلية. ولما كان كأنه قيل فماذا يقال لهم في الجواب؟ فقال: {قل} لهم يا أشرف الخلق لا تكونوا رفاتاً بل {كونوا} أصلب من التراب {حجارة} أي: هي في غاية اليبس {أو حديداً} أي: زائداً على يبس الحجارة لشدّة اتصال الأجزاء. تنبيه: ليس المراد به أمر إلزام بل المراد لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة وذلك كقول القائل أتطمع فيّ وأنا فلان فيقول كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقي. {أو خلقاً} غير ذلك {مما يكبر} أي: يعظم عظمة كبيرة {في صدوركم} أي: مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها فإنّ الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين: أنه الموت فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت، أي: لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم، وقيل السموات والأرض والجبال لأنها من أعظم المخلوقات {فسيقولون} تمادياً في الاستهزاء {من يعيدنا} إذا كنا كذلك {قل الذي فطركم} أي: ابتدأ خلقكم {أوّل مرّة} ولم تكونوا شيئاً يعيدكم بالقدرة التي ابتدأكم بها فكما لم تعجز تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 عن البداءة فهي لا تعجز عن الإعادة {فسينغضون} أي: يحركون {إليك رؤوسهم} تعجباً واستهزاء كأنهم في شدة جهلهم على غاية البصيرة من العلم بما يقولون والنغض والإنغاض تحريك بارتفاع وانخفاض {ويقولون} استهزاء {متى هو} أي: البعث والقيامة. قال الرازي: واعلم أنّ هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي تقدمت ثم إنّ الله تعالى بيَّن بالبرهان الباهر كونه ممكناً في نفسه فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالمبحث فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بإمكانه فأما أنه متى يوجد فذلك لا يمكن إثباته من طريق العقل بل إنما يمكن إثباته بالدليل السمعي فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف وإلا فلا سبيل إلى معرفته لأنه تعالى بين في القرآن انه لا يطلع احداً من الخلق على وقته المعين فقال تعالى: {إنّ الله عنده علم الساعة} (لقمان، 34) وقال: {إنما علمها عند ربي} (الأعراف، 187) . وقال تعالى: {إنّ الساعة آتية اكاد أخفيها} (طه، 15) فلا جرم. قال تعالى: {قل عسى أن يكون قريباً} قال المفسرون: عسى من الله واجب ومعناه أنه قريب إذ كل آت قريب وأمال متى وعسى حمزة والكسائي إمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح وقوله تعالى: {يوم يدعوكم} بدل من قريباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم، أي: بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال تعالى: {يوم ينادي المنادي من مكان قريب} (ق، 41) . روي أنّ إسرافيل ينادي أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنتِ. {فتستجيبون} أي: تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أنّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي آكد من الإجابة واختلف في معنى قوله تعالى: {بحمده} فقال ابن عباس: بأمره. وقال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهمّ وبحمدك فيحمدونه حين لا ينفعهم الحمد. وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقال أهل المعاني: تستجيبون بحمده، أي: تستجيبون حامدين كما تقول جاء بغضبه، أي: جاء غضبان وركب الأمير بسيفه، أي: وسيفه معه. وقال الزمخشريّ: بحمده حال منهم، أي: حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر عليه قسراً حتى إنك تلين لين المستميح الراغب فيه الحامد عليه {وتظنون أن} أي: ما {لبثتم إلا قليلاً} أي: مع استجابتكم وطول لبثكم وشدّة ما ترون من الهول فعندها تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم. وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة وقال الحسن: معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدّة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال مدّة لبثهم في برزخ القيامة لأنه لما كان عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا لبثهم في برزخ القيامة. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة والباقون بالإدغام. ولما ذكر تعالى الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله تعالى: {قل الذي فطركم أوّل مرّة} قال تعالى: {وقل} يا محمد {لعبادي} أي: المؤمنين لأنّ لفظ العباد في أكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول} (الزمر: 17، 18) . وقال تعالى: {فادخلي في عبادي} (لبفجر، 29) . وقال تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} (الإنسان، 6) . {يقولوا} للكفار الذين كانوا يؤذونهم الكلمة {التي هي أحسن} ولا يكافؤهم على سفههم بل يقولون يهديكم الله وكان هذا قبل الأذن بالقتال وقيل نزلت في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله تعالى بالعفو وقيل أمرالمؤمنين بأن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن قول لا إلى إلا الله، ثم علل بقوله تعالى: {إن الشيطان} أي: البعيد عن الرحمة المحترق باللعنة {ينزغ بينهم} أي: يفسد ويغري بعضهم على بعض ويوسوس لهم لتقع بينهم المشارّة والمشاقة وأصل النزغ الطعن وهم غير معصومين فيوشك أن يأتوا بما لا يناسب الحال. ثم علل تعالى هذه العلة بقوله تعالى: {إنّ الشيطان كان} أي: في قديم الزمان وأصل الطبع كوناً هو مجبول عليه {للإنسان عدوًّا} أي: بليغ العداوة {مبيناً} أي: بين العداوة، ثم فسر تعالى التي هي أحسن مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى: {ربكم أعلم بكم} فعلم أنّ قوله تعالى: {إن الشيطان} إلى آخره جملة اعتراضية بين المفسر والمفسر وسكن أبو عمرو الميم وأخفاها عند الباء بخلاف عنه وكذا أعلم بمن ثم استأنف تعالى: {إن يشأ} أي: رحمتكم {يرحمكم} أي: بهدايتكم {أو إن يشأ} تعذيبكم {يعذبكم} أي: بإضلالكم فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجرّ إلى غيظ القلوب فلا فائدة لأنّ الخاتمة مجهولة ولا تتجاوزوا فيهم ما أمركم الله به من قول وفعل. ثم رقى الله الخطاب إلى أعلى الخلق، ورأس أهل الشرع ليكون من دونه أولى بالمعنى منه فقال تعالى: {وما أرسلناك} أي: مع ما لنا من العظمة الغنية عن كل شيء {عليهم وكيلا} أي: حفيظاً وكفيلاً تقسرهم على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك على حسب ما نأمرك به بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم، وقد مرّ أنّ هذا قبل الإذن بالقتال. ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه تعالى أخبر بما هو أعم من ذلك قاصراً الخطاب على أعلم خلقه بقوله تعالى: {وربك} أي: المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق {أعلم بمن في السموات والأرض} فعلمه غير مقصور عليكم بل متعلق بجميع الموجودات والمعدومات، ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، فيعلم تعالى حال كل أحد، ويعلم ما يليق به من المفاسد والمصالح، ويعلم اختلاف صورهم وأديانهم وأخلاقهم وأحوالهم وجميع ما هم عليه سبحانه وتعالى، لا تخفى عليه خافية، فيفضل بعض الناس على بعض على حسب إحاطة علمه وشمول قدرته، وبعض النبيين على بعض كما قال تعالى: {ولقد فضلنا} بما لنا من العظمة {بعض النبيين} سواء كانوا رسلاً أم لا {على بعض} بعد أن جعلنا لكل فضلاً لتقوى كل منهم وإحسانه، فخصصنا كلاً منهم بفضيلة كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء، فلا ينكر أحد من العرب، أو بني إسرائيل أو غيرهم، تفضيلنا لهذا النبي الكريم، الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإذا نفعل ما نشاء بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل. وقرأ نافع بالهمزة والباقون بالياء، وورش على أصله يمد على الهمزة ويوسط ويقصر. {وآتينا} موسى التوراة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 و {داود زبوراً} وعيسى الإنجيل، فلم يبعد أيضاً أن نؤتي محمداً صلى الله عليه وسلم القرآن، ولم يبعد أن نفضله على جميع الخلق. فإن قيل: ما السبب في تخصيص داود عليه السلام بالذكر هنا؟ أجيب: بأوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض، ثم قال: {وآتينا داود زبوراً} يعني أنّ داود أوتي ملكاً عظيماً، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أنّ الفضل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال. الثاني: أنه تعالى كتب في الزبور أنّ محمداً خاتم الأنبياء، وأنّ أمّة محمد خير الأمم قال تعالى: {ولقدكتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء، 105) وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته. فإن قيل: هلا عرفه كقوله: {ولقد كتبنا في الزبور} ؟ أجيب: بأنّ التنكير هنا يدل على تعظيم حاله؛ لأنّ الزبور عبارة عن المزبور، فكان معناه الكتاب، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً، ويجوز أنّ يكون زبوراً علماً، فإذا دخلت عليه أل كقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور} كانت للمح الأصل كعباس، والعباس وفضل والفضل الثالث أنّ كفار قريش ماكانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في إستخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون أنّه لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فنقض الله عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود. وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه لتسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ» ، أي: القرآن قال البقاعي: ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا، ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك. أمّا البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأمّا النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأمّا الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع انتهى. وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بالفتح، واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم} أنهم آلهة {من دونه} أي: من سواه كالملائكة وعزير والمسيح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي بضم اللام من قل وكسرها عاصم وحمزة كل هذا في حال الوصل، وأما الابتداء فالجميع ابتدؤوا بهمزة مضمومة {فلا يملكون كشف الضر} أي: البؤس الذي من شأنه أن يمرض الجسم كله {عنكم} حتى لا يدعوا شيئاً منه {ولا تحويلاً} له إلى غيركم. فقال ابن عباس: إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة والشمس والقمر والنجوم، وقيل: إنّ قوماً عبدوا نفراًمن الجنّ فأسلم النفر من الجن وبقي أولئك القوم متمسكين بعبادتهم فنزلت فيهم هذه الآية. وقيل إنّ المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعوا لهم فنزل {قل} للمشركين {ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه} (الأنعام، 94) وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في وصفهم: {أولئك الذين يدعون} أي: يدعونهم الكفار ويتألهونهم {يبتغون} أي: يطلبون طلباً عظيماً {إلى ربهم} أي: المحسن إليهم {الوسيلة} أي: المنزلة والدرجة والقربة لأعمالهم الصالحة، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم. تنبيه: أولئك مبتدأ وخبره يبتغون ويكون الموصول نعتاً أو بياناً أو بدلاً، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله والمراد بالواو والعباد لهم، ويكون العائد على الذين محذوفاً أو المعنى أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون لكشف ضرّهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة {أيهم أقرب} أي: يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل {ويرجون رحمته} رغبة فيما عنده {ويخافون عذابه} فهم كغيرهم موصوفون بالعجز والحاجة فكيف يدعونهم آلهة، وقيل معناه أن الكفار ينظرون أيهم أقرب إلى الله تعالى فيتوسلون به. ثم علل خوفهم بأمر عامّ بقوله تعالى: {أنّ عذاب ربك} أي: المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمّتك {كان} أي: كوناً لازماً {محذوراً} جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل، فضلاً عن غيرهم لما شوهد من إهلاكه للقرون الماضية ولما قال تعالى: {إنّ عذاب ربك كان محذوراً} بين بقوله تعالى: {وإن} أي: وما {من قرية إلا ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً} إنَّ كل قرية، أي: أهلها لابد وأن يرجع حالهم إلى أحد أمرين: إما الإهلاك بالموت والإستئصال، وإمّا العذاب بالقتل وأنواع البلاء. وقال مقاتل: أمّا الصالحة فبالموت وأمّا الطالحة فبالعذاب. وقال عبد الله بن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله تعالى في هلاكها. {كان ذلك} أي: الأمر العظيم {في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ {مسطوراً} أي: مكتوباً. قال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال وما أكتب قال: القدر ما كان وما هو كائن إلى أبد الأبد» أخرجه الترمذي. ولما كان كفار قريش قد تكرر اقتراحهم للآيات وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان كل أحد يحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم فأجاب الله تعالى بقوله: {وما منعنا} أي: على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع {أن نرسل بالآيات} أي: التي اقترحوها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم {فأتنا بآية كما أرسل الأوّلون} (الأنبياء، 5) وقال آخرون {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} (الإسراء، 90) الآيات. وقال سعيد بن جبير: أنهم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من أحيا الموتى فأتنا بشيء من هذه المعجزات فكان كأنه لا آيات عندهم سوى ذلك {إلا} علمنا في عالم الشهادة بما وقع من {أن كذب بها} أي: المقترحات {الأولون} وعلمنا في عالم الغيب أنّ هؤلاء مثل الأوّلين أن الشقّي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو ذلك، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها فكم أجبنا أمّة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً فأخذناهم لأنّ سنتنا جرت أنَّا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها. قال ابن عباس: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا تلك الأراضي فطلب صلى الله عليه وسلم ذلك من الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط إن لم يؤمنوا أهلكتهم فقال صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 عليه وسلم «لا أريد ذلك» فتفضل الله تعالى برحمته هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عباده، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم فقال جلّ ذكره: {بل الساعة موعدها والساعة أدهى وأمرّ} (القمر، 46) . ثم ذكر تعالى من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا ما ذكره تعالى بقوله تعالى: {آتينا ثمود الناقة} حالة كونها {مبصرة} أي: مضيئة بينة جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها فيستدل بها على صدق قول ذلك النبيّ {فظلموا بها} أي: ظلموا أنفسهم بتكذيبها. وقال ابن قتيبة: جحدوا بأنها من الله تعالى فأهلكناهم فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى، وخص تعالى هذه الآية بالذكر لأنّ آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم. ثم قال تعالى: {وما نرسل بالآيات} أي: المقترحات وغيرها {إلا تخويفاً} للمرسل إليهم بها فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا بعذاب الاستئصال من كذب بالآيات المقترحات وبعذاب الآخرة من كذب بغيرها كالمعجزات وآيات القرآن فأمر من بعث إليهم مؤخراً إلى يوم القيامة. فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدّعى فكيف حصل المقصود من إظهارها في التخويف؟ أجيب: بأنه لما كان هو الحامل والغالب على التصديق فكأنه هو المقصود ولما طلب القوم من النبي صلى الله عليه وسلم تلك الآيات المقترحات وأجاب الله تعالى بأنّ إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجراءة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى الله تعالى قلبه وبين له أنه ينصره ويؤيده فقال تعالى: {و} اذكر يا أشرف الخلق {إذ قلنا لك إن ربك} أي: المتفضل بالإحسان إليك بالرفق لأمتّك {أحاط بالناس} علماً وقدرة فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فلا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، وهو حافظك ومانعك منهم فلا تهتم باقتراحهم، وامض فيما أمرك به من تبليغ الرسالة فهو ينصرك ويقوّيك على ذلك كما وعدك بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67) وقيل: إن المراد بالناس أهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم. روي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه كان يدعو ويقول: «اللهمّ إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرّض الناس ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر، 45) » وكان صلى الله عليه وسلم يقول حين ورد بدراً: «والله كأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان» فتسامعت قريش بما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم عطف تعالى على {وما نرسل بالآيات} قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} أي: التي شاهدتها ليلة الإسراء {إلا فتنة} أي: امتحاناً واختباراً {للناس} لأنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان قد آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كانت امتحاناً. وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس أنه قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وتقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 أنه قول الأكثر فمنهم سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وما قاله بعضهم من أن الرؤيا تدل على أنها رؤيا منام ضعيف إذ لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيته بعيني رؤية ورؤيا. فائدة: قال بعض العلماء: كانت إسراآته صلى الله عليه وسلم أربعاً وثلاثين مرّة واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها قال ومما يدل على أنّ الإسراء ليلة فرض الصلاة كانت بالجسم ما ورد في بعض طرق الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استوحش لما زج به في النور ولم ير معه أحداً إذ الأرواح لا توصف بالوحشة ولا بالاستيحاش قال: ومما يدلك على أنّ الإسراء كان بجسمه ما وقع له من العطش فإنّ الأرواح المجردة لا تعطش، ولما كان صلى الله عليه وسلم قد وصل الجحيم وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم وكان ذلك في غاية الغرابة ضمها إلى الإسراء في ذلك بقوله تعالى: {والشجرة الملعونة في القرآن} لأنّ فيها امتحاناً أيضاً بل قال بعض المفسرين هي على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. واختلف في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا: إنها شجرة الزقوم المذكورة في قوله تعالى: {إنّ شجرة الزقوم طعام الأثيم} (الدخان: 43، 44) فكانت الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أنّ أبا جهل قال: زعم صاحبكم أنّ نار جهنم تحرق الحجارة حيث قال: {وقودها الناس والحجارة} (البقرة، 24) ثم يقول في النار شجرة والنار تأكل الشجر فكيف يولد فيها الشجر. والثاني: قال ابن الزبعري: ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجراً {إنا جعلناها فتنة للظالمين} (الصافات، 43) الآيات {وما قدروا الله حق قدره} (الأنعام، 91) من قال ذلك فإن الله تعالى قادر على أن يجعل الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقيت سالمة لا تعمل فيها النار، وترى النعامة تبلع الجمر وتبلع الحديد الحمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه تعالى جعل في الشجر ناراً فما تحرقه قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً} (يس، 80) . فإن قيل: ليس في القرآن لعن هذه الشجرة؟ أجيب: عن ذلك بوجوه الأوّل المراد لعن الكفار الذين يأكلونها لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. الثاني: أنّ العرب تقول لكل طعام ضار إنه ملعون. الثالث: أنّ اللعن في اللغة الإبعاد ولما كانت هذه الشجرة مبعدة عن صفات الخير سميت ملعونة، وقيل إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى: {لعن الذين كفروا} (المائدة، 78) الآية. وقيل: هي الشيطان. وقيل أبو جهل. وعن ابن عباس هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب. ولما ذكر سبحانه وتعالى أنه يرسل بالآيات تخويفاً قال هنا أيضاً: {ونخوّفهم فما يزيدهم} أي: الكافرين والتخويف بالقرآن. {إلا طغياناً كبيراً} أي: تجاوز للحد هو في غاية العظم فبتقدير أن يظهر الله تعالى لهم المعجزات التي اقترحوها لم يزدادوا بها إلا تمادياً في الجهل والعناد فاقتضت الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات فإنهم قد خوّفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر، وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 ما يقترحون من الآيات. ولما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أمّا الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد، وأمّا الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوّة فبيّن تعالى أنّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج عن الإيمان والدخول في الكفر بقوله تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {قلنا} بما لنا من العظمة التي لا ينقض مرادها {للملائكة} حين خلقنا أباك آدم وفضلناه {اسجدوا لآدم} أي: امتثالاً لأمري {فسجدوا إلا إبليس} أي: أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته وذلك معنى قوله تعالى: {قال} أي: منكراً متكبراً {أأسجد} أي: خضوعاً {لمن خلقت} حال كون أصله {طيناً} فكفر بنسبته لنا إلى الجور متخيلاً أنه أفضل من آدم عليه السلام من حيث أن الفروع ترجع إلى الأصول وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم وذهب عنه أن الطين أنفع من النار وعلى تقدير التنزل فالجواهر كلها من جنس واحد والله تعالى هو الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض. وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سبع سور وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدّم في البقرة ولعل هذه القصة إنما كررت تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه فكأنه تعالى يقول ألا ترى أن أول الأنبياء هو آدم عليه السلام ثم أنه كان في محنة شديدة من إبليس وأنّ الكبر والحسد كل منهما بلية عظيمة ومحنة عظيمة للخلق وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفاً ولم يدخل ورش وابن كثير بينهما ألفاً ولورش أيضاً إبدال الثانية ألفاً، وإذا وقف حمزة سهل الثانية كقراءة ابن كثير وقرأ هشام بالتحقيق في الثانية والتسهيل وإدخال ألف بينهما. وقرأ الباقون بتحقيقهما بلا إدخال. ولما أخبر تعالى بتكبره كان كأنه قيل أن هذه الوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى فهل كان منه غير ذلك قيل: {قال أرأيتك} أي: أخبرني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش وجه ثان وهو أن يبدلها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق. {هذا الذي كرّمت عليّ} لم كرّمته عليّ مع ضعفه وقويّ فكأنه قيل لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب فما كان بعد هذا فقيل: قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترئ أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى: {لئن أخرتن} أي: أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتدًّا. {إلى يوم القيامة} حياً متمكناً وجواب القسم الموطأ له باللام. {لأحتنكنّ} أي: بالإغواء {ذريته} أي: لاستولين عليهم استيلاء من جعل في حنك الدابة الأسفل حبلاً يقودها به فلا تأبى عليه. وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد النون في أخرتني عند الوصل وحذفها في الوقف، وأثبتها ابن كثير وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً اتباعاً للرسم. ولما علم أنه لا يقدر على الجميع قال: {إلا قليلاً} وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر، 42) . فإن قيل: كيف ظنّ إبليس هذا الظنّ الصادق بذرية آدم؟ أجيب: بأوجه الأوّل: أنه سمع الملائكة يقولون {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 فعرف هذه الأحوال. الثاني: أنه وسوس إلى آدم ولم يجد له عزماً فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم. الثالث: أنه عرف أنه مركب من قوّة بهيمية شهوية وقوّة وهمية شيطانية وقوّة عقلية ملكية، وقوّة سبعية غضبية، وعرف أن بعض تلك القوى تكون هي المستولية في بعض أوّل الخلقة ثم إن القوّة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ومن كان كذلك كان ما ذكره إبليس لازماً له ثم كأنه قيل لقد أطال عدوّ الله الاجتراء فما قال له ربه بعد ذلك فقيل: {قال} ممدّا له {اذهب} أي: امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سوّلت له نفسه، وتقدّم في الحجر أنه إنما يؤخر إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم ينفخ في الصور لا أنه يؤخر إلى يوم القيامة كما طلب، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائيّ بادغام الباء الموحدة في الفاء، وأظهرها الباقون. ولما حكم تعالى بشقاوته وشقاوة من أراد طاعته له تسبب عنه قوله تعالى: {فمن تبعك منهم} أي: أولاد آدم عليه السلام {فإن جهنم} أي: الطبقة النارية التي تتجهم داخلها {جزاؤكم} أي: جزاؤك وجزاء أتباعك تجزون ذلك {جزاء موفوراً} أي: مكملاً وافياً بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة. ولما طلب إبليس اللعين من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم ذكر الله تعالى له أشياء الأوّل اذهب، أي: امض كما مرّ فإني أمهلتك هذه المدّة وليس من الذهاب الذي هو ضدّ المجيء. الثاني: قوله تعالى: {واستفزز} أي: استخف {من استطعت منهم} أن تستفزه وهم الذين سلطناك عليهم {بصوتك} قال ابن عباس: معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله تعالى فهو من جند إبليس، وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب. الثالث: قوله تعالى: {وأجلب} أي: صح {عليهم} من الجلبة وهي الصياح {بخيلك ورجلك} . واختلفوا في الخيل والرجل على أقوال الأوّل: روى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى وعلى هذا فخيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية. الثاني: يحتمل أن يكون لإبليس جيش من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل. الثالث: أن المراد منه ضرب المثل كما يقال للرجل المجد في الأمر جدّ بالخيل والرجل. قال الرازي: وهذا أقرب. وقال الزمخشري: هو كلام ورد مورد التمثيل مثل في تسلطه على من يغويه بمغوار وقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقلهم عن مراكزهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم والخيل تقع على الفرسان قال صلى الله عليه وسلم «يا خيل الله اركبي» وقد تقع على الأفراس خاصة. وقرأ حفص عن عاصم بكسر الجيم وسكنها الباقون جمع راجل كصاحب وصحب وراكب وركب ورجل بالكسر والضم لغتان مثل حدث وحدث وهو مفرد أريد به الجمع. الرابع قوله تعالى: {وشاركهم في الأموال والأولاد} أمّا المشاركة في الأموال فقال مجاهد: هو كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام. وقال قتادة: هو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو ما يذبحونه لآلهتهم. وقال عكرمة: هو تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله، كقولهم: {هذا لله} {وهذا لشركائنا} (الأنعام، 136) ولا منافاة بين جميع هذه الأقوال. وأمّا المشاركة في الأولاد فقال عطاء عن ابن عباس: هو تسمية الأولاد بعبد شمس وعبد العزى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وعبد الحرث وعبد الدار ونحوها وقال الحسن: هو أنهم هوّدوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم وروي عن جعفر بن محمد أنّ الشيطان يعقد ذكره على ذكر الرجل فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها، كما ينزل الرجل ويقال في جميع هذه الأقوال أيضاً ما تقدّم. وروي أنّ رجلاً قال لابن عباس: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال ذلك من وطء الجنّ. وفي الآثار أنّ إبليس لمّا خرج إلى الأرض قال: يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذرّيته. قال: أنت مسلط. قال: لا أستطيعه إلا بك فزدني قال: {استفزز من استطعت منهم بصوتك} . قال: آدم: يا رب سلطت إبليس عليّ وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك. قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه. قال: زدني. قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها. قال: زدني. قال: التوبة مفروضة ما دام الروح في الجسد. فقال: زدني. فقال: {يا عبادي الذين أسرفوا} (الزمر، 53) الآية. وفي الخبر أنّ إبليس قال: يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قرآني؟ قال: الشعر. قال: فما كتابي؟ قال: الوشم. قال: ومن رسولي؟ قال: الكهنة. قال: فما طعامي؟ قال: ما لم يذكر عليه اسمي. قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر. قال: وأين مسكني؟ قال: الحمامات. وقال: وأين مجلسي؟ قال: الأسواق. قال: وما حبائلي؟ قال: النساء. قال: وما أذاني؟ قال: المزمار. الخامس قوله تعالى: {وعدهم} أي: من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرّهم من ذلك وعدهم بأن لا جنة ولا نار ومن ذلك شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى بالأنساب الشريفة وتسويف التوبة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك. وقوله تعالى: {وما يعدهم الشيطان} من باب الالتفات وإقامة الظاهر مقام الضمير ولو جرى على سنن الكلام الأوّل لقال وما تعدهم بالتاء من فوق. وقوله تعالى: {إلا غروراً} فيه أوجه أحدها: أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه مصدر والأصل إلا وعداً غروراًز الثاني: أنه مفعول من أجله، أي: ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور. الثالث: أنه مفعول به على الاتساع، أي: ما يعدهم إلا الغرور نفسه والغرور تزيين الباطل بما يظنّ أنه حق. فإن قيل: كيف ذكر الله تعالى هذه الأشياء لإبليس وهو يقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء؟ أجيب: بأنّ هذا على طريق التهديد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت، 40) . وكقول القائل: اعمل ما شئت فسوف ترى، وكما يقال اجهد جهدك فسوف ترى ما ينزل بك. ولما قال الله تعالى له افعل ما تقدر عليه قال تعالى: {إنّ عبادي} أي: الذين أهلتهم للإضافة إليّ فقاموا بحق عبوديتي بالتقوى والإحسان {ليس لك عليهم سلطان} أي: فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر فإني وفقتهم للتوكل عليّ فكفيتهم أمرك {وكفى بربك} أي: الموجد لك {وكيلاً} ، أي: حافظاً لهم منك. ولما ذكر تعالى أنه الوكيل الذي لا كافي غيره أتبعه بعض أفعاله الدالة على ذلك بقوله تعالى: {ربكم} أي: المتصرف فيكم هو {الذي يزجي} أي: يجري {لكم الفلك} ومنها التي حملكم فيها مع أبيكم نوح عليه الصلاة والسلام {في البحر لتبتغوا} أي: لتطلبوا {من فضله} الربح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ثم إنه تعالى علل ذلك بقوله عز وجل: {إنه} أي: فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه {كان} أي: أزلاً وأبداً {بكم رحيماً} حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من أسبابه. تنبيه: الخطاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 في قوله ربكم وفي قوله إنه كان بكم عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها وأمّا قوله تعالى: {وإذا مسكم الضرّ} أي: الشدة {في البحر} خطاب للكفار بدليل قوله تعالى {ضلّ} أي: غاب عن ذكركم وخواطركم {من تدعون} أي: تعبدون من الآلهة {إلا إياه} وحده فأخلصتم له الدعاء علماً منكم أنه لا ينجيكم سواه {فلما نجاكم} من الغرق وأوصلكم بالتدريج {إلى البرّ أعرضتم} عن الإخلاص له ورجعتم إلى الإشراك {وكان الإنسان} أي: هذا النوع {كفوراً} أي: جحوداً للنعم بسبب أنه عند الشدّة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره، وقوله تعالى: {أفأمنتم} الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم من البحر فأمنتم بعد خروجكم منه {أن نخسف بكم جانب البرّ} فنغيبكم في، أي: جانب كان منه لأنّ قدرتنا على التغيبين في الماء والتراب على السواء فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله تعالى في جميع الجوانب {أو} أمنتم أن {نرسل عليكم} من جهة الفوق شيئاً من أمرنا {حاصباً} أي: نمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطرناها على قوم لوط قال الله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم حاصباً} (القمر، 34) وقيل الحاصب الريح {ثم لا تجدوا لكم} أيها الناس {وكيلاً} ينجيكم من ذلك ولا من غيره كما لم تجدوا في البحر وكيلاً غيره. {أم أمنتم} أي: جاوزت بكم الغباوة حدّها فلم تجوّزوا ذلك {أن نعيدكم فيه} أي: البحر الذي يضطرّكم إلى ذلك فنقسركم عليه وإن كرهتم {تارة أخرى} بأسباب تضطرّكم إلى أن ترجعوا فتركبوه {فنرسل عليكم قاصفاً من الريح} أي: ريحاً شديدة لا تمرّ بشيء إلا قصفته فتكسر فلككم {فنغرقكم} في البحر الذي أعدناكم فيه بقدرتنا {بما كفرتم} أي: بسبب إشراككم وكفرانكم نعمة الانجاء {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً} أي: مطالباً يطالبنا بما فعلنا بكم. تنبيه: تارة بمعنى مرّة وكرّة فهي مصدر وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر: *وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو وتارات يجم فيغرق وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أن نخسف أو نرسل أن نعيدكم فنرسل فنغرقكم جميع هذه الخمسة بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله تعالى: {ربكم} إلى آخره. والقراءة الثانية على سنن ما تقدّم من الغيبة. ثم إنّ الله تعالى ذكر نعمة أخرى رفيعة جليلة على الإنسان وذكر فيها أربعة أنواع: النوع الأول: قوله تعالى: {ولقد كرّمنا} أي: بعظمتنا تكريماً عظيماً {بني آدم} وحذف متعلق التكريم فلذا اختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده. وعن الرشيد أنه حضر طعاماً عنده فدعاه بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له: جاء في تفسير جدّك ابن عباس {ولقد كرّمنا بني آدم} جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه. وروي عن ابن عباس أنه قال: بالعقل. وقال الضحاك: بالنطق والتمييز. وقيل على سائر الطين بالنموّ، وعلى النامي بالحياة وعلى سائر الحيوان بالنطق. وقال عطاء: بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكسة على وجوهها. قال بعضهم: وينبغي أن يشترط مع هذا شرط وهو طول القامة مع استكمال القوّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 العقلية والحسية والحركية وإلا فالأشجار أطول قامة من الإنسان قيل الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقيل بأن سخر لهم سائر الأشياء وقيل بأنّ منهم خير أمّة أخرجت للناس. وقيل بحسن الصورة. قال تعالى: {وصوّركم فأحسن صوركم} (غافر، 64) . ولما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان وهي {ولقد خلقنا الإنسان} (الحجر، 26) الآية قال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون، 14) . قال الرازي: فإن شئت فتأمّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهي العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين، ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق ذلك البياض سواد الشعر. وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب انتهى. واستدل أيضاً لشرف الإنسان بأنّ الموجود إمّا أن يكون أزلياً وأبدياً وهو الله تعالى وإمّا أن لا يكون لا أزلياً ولا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أحسن الأقسام وإمّا أن يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا ممتنع الوجود لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وإمّا أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أنّ هذا القسم أشرف من الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات. النوع الثاني: قوله تعالى: {وحملناهم في البرّ} على الدوابّ وغيرها {و} في {البحر} على السفن وغيرها، من حملته حملاً إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم في الماء. النوع الثالث: قوله تعالى: {ورزقناهم من الطيبات} أي: المستلذات من الثمرات والأقوات، وذلك لأنّ الأغذية إمّا حيوانية وإمّا نباتية وكلا القسمين فإنّ الإنسان إنما يتغذى بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامّة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان. النوع الرابع: قوله تعالى: {وفضلناهم} في أنفسهم بإحسان الشكل وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين {على كثير ممن خلقنا} أي: بعظمتنا التي خلقناهم بها. وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى: {تفضيلاً} . تنبيه: ظاهر الآية يدل على فضلهم على كثير من خلقه لا على الكل. وقال قوم: فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة. وهو قول ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في بسيطه. وقال الكلبي: فضلوا على جميع الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم. وقال قوم: فضلوا على جميع الخلق وعلى جميع الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} إلى قوله تعالى: {وأكثرهم كاذبون} (الشعراء: 221، 223) أي: كلهم. وروى جابر يرفعه قال: «لما خلق الله تعالى آدم وذرّيته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه روحي كمن قلت له كن فكان» . والأولى كما قاله بعض المفسرين كالبغوي وابن عادل أن يقال عوامّ الملائكة أفضل من عوام المؤمنين، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة. قال تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} (البينة، 7) . وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 عنه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة عنده. رواه البغوي ورواه الواحدي في بسيطه. فإن قيل: قال تعالى في أوّل الآية: {ولقد كرّمنا بني آدم} وقال في آخرها: {وفضلناهم} فلا بدّ من الفرق بين التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار؟ أجيب: بأنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية كالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه سبحانه وتعالى عرّضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة. ولما ذكر تعالى أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة بقوله تعالى: {يوم} أي: اذكر يوم {ندعو} أي: بتلك العظمة {كل أناس} أي: منكم {بإمامهم} الإمام في اللغة كل من ائتمّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبيّ إمام أمّته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين، وإمام القوم هو الذي يقتدون به في الصلاة. وذكروا في تفسير الإمام هنا أقوالاً أحدها إمامهم نبيهم. روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «فينادى يوم القيامة يا أمّة إبراهيم يا أمّة موسى يا أمّة عيسى يا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثم ينادى الأتباع يا أتباع ثمود يا أتباع فرعون يا أتباع فلان وفلان من رؤوساء الضلال وأكابر الكفر» . الثاني: أنّ إمامهم كتابهم الذي أنزل عليهم فينادى في القيامة يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل. الثالث: إمامهم كتاب أعمالهم قال تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12) فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً. قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنّ الإمام جمع أمّ وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمّهاتهم دون آبائهم وان الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا تفتضح أولاد الزنا. قال: وليت شعري أيهما أبدع البدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته. قال ابن عادل: وهو معذور لأن أمّا لا يجمع على إمام هذا قول من لا يعرف الصناعة ولا لغة العرب. {فمن أوتي} أي: من المدعوّين {كتابه} أي: كتاب عمله {بيمينه} وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا {فأولئك يقرؤون كتابهم} ابتهاجاً وتبجحاً بما يرون فيه من الحسنات {ولا يظلمون} بنقص حسنة ما من ظالم ما {فتيلاً} أي: شيئاً في غاية القلة والحقارة بل يزدادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاة الأعمال. تنبيه: الفتيل القشرة التي في شق النواة تسمى بذلك لأنه إذا رام الإنسان إخراجه انفتل وهذا مثل يضرب للشيء الحقير التافه ومثله القطمير وهو الغلالة التي في ظهر النواة، والنقير وهي النقرة التي في ظهر النواة. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الفتيل هو الوسخ الذي يفتله الإنسان بين سبابته وإبهامه. فإن قيل: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أهل الشمال يقرؤونه؟ أجيب: بأن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة فيستولي الخوف على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزون عن القراءة الكاملة وأمّا اصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه ثم لا يقنعون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارئ لأهل المحشر: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} (الحاقة، 19) جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا منهم. ثم قال الله تعالى: {ومن كان} منهم {في هذه} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 أي: الدار {أعمى} أي: ضالاً يعمل في الأفعال فعل الأعمى في أخذ الأعيان لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضرّه ولا يميز بين حسن وقبيح {فهو في الآخرة أعمى} أي: أشدّ عمى مما كان عليه في هذه الدار لا ينجح له قصد ولا يهتدي لصواب ولم يقل تعالى أشدّ عمى كما يقال في الخلق اللازمة لحالة واحدة مثل العور والحمرة والسواد ونحوها لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء. {وأضلّ سبيلاً} لأنّ هذه الدار دار الاكتساب والترقي في الأسباب، وأمّا تلك فليس فيها شيء من ذلك. وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرؤوا ما قبلها فقرؤوا: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك} إلى قوله: {تفضيلاً} . فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضلّ سبيلاً، وعلى هذا فالإشارة في قوله هذه إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدّمة، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر كما قال تعالى: {ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (الحجر، 126) . وقال تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً} (الإسراء، 97) وهذا العمى زيادة في عقوبتهم. ولما عدّد تعالى في الآيات المتقدّمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء عن الاغترار بوسواس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكر والتلبيس فقال تعالى: {وإن كادوا} أي: قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله تعالى لك. ولما كانت إن هذه هي المخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية بقوله تعالى: {ليفتنونك} أي: ليخالطونك مخالطة تميلك إلى جهة قصدهم لكثرة خداعهم. واختلف في سبب نزول هذه الآية فروى عطاء عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال: وما هنّ قالوا أن لا نجبي في الصلاة بفتح الجيم والباء الموحدة المشدّدة، أي: لا ننحني فيها ولا نكسر أصنامنا إلا بأيدينا، وأن لا تمنعنا من اللات والعزى سنة من غير أن نعبدها فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود» . وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأمّا الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها، وفي رواية وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم فقالوا: يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن الكلام كراهة لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وقال سعيد بن جبير: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعه قريش وقالوا: لا ندعك حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها فحدّث صلى الله عليه وسلم نفسه ما عليّ أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها لكاره بعد أن يدعوني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 حتى استلم الحجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أنّ قريشاً قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت: {وإن كادوا ليفتنونك} . {عن الذي أوحينا إليك} من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا {لتفتري} أي: لتقول {علينا غيره} أي: ما لم نقله {وإذاً} أي: لو ملت إلى ما دعوك إليه {لاتخذوك} أي: بغاية الرغبة {خليلاً} أي: لوالوك وصافوك وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ومن يكن خليل الكفار لم يكن خليل الله تعالى، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق. {ولولا أن ثبتناك} أي: على الحق بعصمتنا إياك {لقد كدت} أي: قاربت {تركن} أي: تميل {إليهم} أي: إلى الأعداء {شيئاً} أي: ركونا {قليلاً} لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم ولكنا عصمناك فمنعناك أن تقرب من الركون فضلاً من أن تركن إليهم لأنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا زيد لهلك عمرو ومعناه أنّ وجود زيد منع من حصول الهلاك لعمرو فكذلك ههنا قوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم} معناه لولا حصل تثبيت الله لمحمد صلى الله عليه وسلم فكان تثبيت الله مانعاً من حصول قرب الركون وهذا صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوّة الداعي إليها ودليل على أنّ العصمة بتوفيق الله وحفظه. {إذاً} أي: لو قاربت الركون الموصوف إليهم {لأذقناك ضعف} عذاب {الحياة وضعف} عذاب {الممات} أي: مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة وكان أصل الكلام عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت كما يضاف موصوفها وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وضعف الممات عذاب القبر، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعمة الله تعالى في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى: {يا نساء النبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} (الأحزاب، 30) وقيل الضعف من أسماء العذاب {ثم لا تجد لك} أي: وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم مرتبة وهمة {علينا نصيراً} أي: مانعاً يمنعك من عذابنا. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى: {وإن} أي: وإن هم {كادوا} أي: الأعداء {ليستفزونك} أي: ليزعجونك بمعاداتهم {من الأرض ليخرجوك منها} فقال ابن عباس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فقالوا: يا أبا القاسم إنّ الأنبياء إنما بعثوا بالشأم وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك وأتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله يمنعك منهم فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام فيدخلون في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع وهذا قول الكلبيّ وعلى هذا فالآية مدنية والمراد بالأرض أرض المدينة. وقال قتادة ومجاهد: الأرض أرض مكة والآية مكية، همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 بالهجرة فخرج بنفسه. قال ابن عادل تبعاً للرازي: وهذا أليق بالآية لأنّ ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية وهذا اختيار الزجاج وكثير في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (المائدة، 33) أي: من مواضعهم. وقوله تعالى حكاية عن أخي يوسف: {فلن أبرح الأرض} (يوسف، 80) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة. فإن قيل: قال تعالى: {وكأين من قرية هي أشدّ قوّة من قريتك التي أخرجتك} (محمد، 13) يعني أهل مكة فالمراد أهلها، فذكر تعالى أنهم أخرجوه، وقال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} فكيف الجمع بينهما على القول الثاني؟ أجيب: بأنهم هموا بإخراجه وهو صلى الله عليه وسلم ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى وحينئذٍ فلا تناقض {وإذاً} أي: وإذا أخرجوك {لا يلبثون خلفك} أي: بعد إخراجك لو أخرجوك {إلا} زمناً {قليلاً} وقد كان كذلك على القول الثاني، فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته، وعلى القول الأوّل قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الخاء وسكون اللام والباقون بكسر الخاء وفتح اللام وبعدها ألف، قال الشاعر: عفت الديار، أي: اندرست ـ خلافهم، أي: خلفهم. *فكأنما بسط الشواطب بينهنّ حصيرا الشواطب النساء اللاتي يشققن الجريد ليعملن منه الحصير والشطب والشواطب سعف النخل الأخضر يصف دروس ديار الأحبة بعدهم وأنها غير منكوسة كأنما بسط فيها سعف النخل. ولما أخبره بذلك أعلمه أنه سنة في جميع الرسل بقوله تعالى: {سنة} أي: كسنة أو سننا بك سنة {من قد أرسلنا قبلك} أي: في الأزمان الماضية كلها {من رسلنا} أنا نهلك كل أمّة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم، والسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل عليه قوله تعالى: {ولا تجد لسنتنا تحويلاً} (الإسراء، 77) أي: تغييرا. ولما قرّر تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الآلهيات والمعاد والنبوّات أردفها بذكر الأمر بالطاعة وأشرف الطاعة بعد الإيمان الصلاة فلذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {أقم الصلاة} بفعل جميع أركانها وشرائطها بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها فإنها لب العبادة لما فيها من المناجاة والإعراض عن كل غير، وفناء عن كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي قد اضمحل إليها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أنّ الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ثم عين له الأوقات بقوله تعالى: {لدلوك الشمس} في هذه اللام قولان أحدهما أنها بمعنى بعد، أي: بعد دلوك الشمس ومثله قول متمم: *فلما تقرّقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا والثاني أنها على بابها لأنها إنما تجب بزوال الشمس والدلوك مصدر دلكت الشمس وفيه أقوال أحدها: أنه الزوال وهو قول ابن عباس وابن عمر وجابر وأكثر التابعين ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وقول أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة. والثاني أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 الغروب وهو قول ابن مسعود ونقله الواحدي في «البسيط» عن عليّ رضي الله عنه، وبه قال إبراهيم النخعي والضحاك والسدي وهو اختيار الفراء وكما يقال للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة يقال لها أيضاً إذا غربت دالكة لأنها في الحالين زائلة. قال الأزهري: والثالث أنه من الزوال إلى الغروب وقال في «القاموس» دلكت الشمس غربت أو اصفرّت أو مالت أو زالت عن كبد السماء فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استمعال المشترك في معانيه أمّا في الظهر والمغرب فواضح لما مرّ وأمّا العصر فلأنّ أول وقتها أوّل أخذ الشمس في الاصفرار وأدل دليل على ذلك أنه تعالى غيا الإقامة لوقت العشاء بقوله تعالى: {إلى غسق الليل} أي: ظلمته وهو وقت صلاة عشاء الآخرة والغاية أيضاً هنا داخلة لما سيأتي وقد أجمعوا على أنّ المراد من قوله تعالى: {وقرآن الفجر} أي: صلاة الصبح وهو منصوب قيل على الإغراء، أي: وعليك بقرآن الفجر ورد أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة. وقال الفراء: أنه منصوب بالعطف على الصلاة في قوله تعالى: {أقم الصلاة} والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وحينئذٍ تدخل الصلوات الخمس في هذه الآية. قال ابن عادل كالرازي: وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى انتهى. وسميت صلاة الصبح قرآناً لاشتمالها عليه وإن كانت بقية الصلوات أيضاً مشتملة عليه لأنه يطوّل فيها في القراءة ما لا يطوّل في غيرها فالمقصود من قوله تعالى: {وقرآن الفجر} الحث على طول القراءة فيها أكثر من غيرها لأنّ التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره. ولما كان القيام عن المنام يشق علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأنّ المقام مقام تعظيم فقال: {إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً} أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل، وأوّل ديوان النهار. قال الرازي: ثم أنّ ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا إننا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى لملائكته: اشهدوا بأني قد غفرت لهم. وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً} » وهذا يدل على أنّ التغليس أولى من التنوير لأنّ الإنسان إذا شرع فيها من أوّل الوقت ففي ذلك الوقت ظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرة ثم امتدّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار، وأمّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فقوله: {كان مشهوداً} يدل على أنّ التغليس أفضل، وأيضاً الإنسان إذا شرع في صلاة الصبح من أوّل هذا الوقت فكانت الظلمة القوية في العالم فإذا امتدّت القراءة ففي أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ومن السكون إلى الحركة، وهذه الحالة العجيبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 تشهد العقول بأنه لا يقدر على هذا التقليب إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة فحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة ويتخلص من مرض قلبه، فإن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما كان قد يقوى مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر لأنّ الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه وإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وفي تخفيفه فلما كان مرض الدنيا مستولياً على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوى إلى معرفة الله سبحانه وتعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس وقل من يقبله وينقاد له لا جرم أنّ الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض فحملوا الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أوّل وقت القيام من النوم لأنه مما ينفع في إزالة هذا المرض. ثم حث سبحانه وتعالى على التهجد لأفضليته وارشديته بقوله عز من قائل: {س17ش79/ش82 وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ? نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ? إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ? وَيَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِs خَسَارًا} {ومن الليل} أي: وعليك أو وقم بعض الليل {فتهجد به} أي: واترك الهجود للصلاة يقال هجد وتهجد نام ليلاً وهجد وتهجد سهر فهو من الأضداد ومنه قيل لصلاة الليل التهجد قاله في الصحاح. والضمير في به لمطلق القرآن والمراد من الآية قيام الليل لصلاة النافلة فلا يحصل التهجد إلا بصلاة نفل بعد نوم، وكانت فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته في الابتداء بقوله تعالى: {يا أيها المزمّل قم الليل إلا قليلاً} (المزمل: 1، 2) ثم نسخ بما في آخرها، ثم نسخ بما في الصلوات الخمس وبقي قيام الليل على الاستحباب بقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر منه} (المزمل، 20) وبقي الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {نافلة لك} أي: زيادة لك مختصة بك. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث هنّ عليّ فريضة وهنّ سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل» والصحيح أنه نسخ في حقه أيضاً ودليل النسخ رواه مسلم وقد وردت أحاديث كثيرة في قيام الليل منها ما روي «عن المغيرة بن شعبة أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً» . ومنها ما روي عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين، ثم ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة، فلهذا قيل: إنه أكثر الوتر وهو أحد قولي الشافعيّ والمرجح عنده أن أكثره إحدى عشرة ركعة، لما رواه أبو سلمة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.، أي: وتراً يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي ثلاثاً قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة إن عيني تنام ولا ينام قلبي» . ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه وما نشاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 أن نراه نائماً إلا رأيناه» وفي رواية غيره قال: وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئاً ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئاً ثم قال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك} أي: المحسن إليك {مقاماً محموداً} أتفق المفسرون على أنّ كلمة عسى من الله واجب. قال أهل المعاني: لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً والله أكرم من أن يطمع أحدنا في شيء ثم لا يعطيه ذلك. وأمّا المقام المحمود فقال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي» . وقال حذيفة: يجمع الناس في صعيد واحد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» . فقال هذا هو المراد من قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} . ويدل للأوّل أحاديث؛ منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل نبيّ دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً» . ومنها ما روي عن جابر أنه قال: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة» . ومنها ما روي عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحاً أوّل نبيّ بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب بسؤال ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهنّ ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجياً. قال: فيأتون موسى فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله وكلمته قال: فيأتون عيسى فيقول لست هناكم ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر قال: فيأتوني فاستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول: ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء يعلمنيه قال ثم أشفع فيحدّ لي حدّاً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه قال: ثم أشفع فيحد لي حدّاً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة قال: فلا أدري في الثالثة أو الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: مقاماً محموداً يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فيه على جميع الخلائق سل فتعطى واشفع فتشفع ليس أحد إلا تحت لوائك والأخبار في الشفاعة كثيرة وفي هذا القدر كفاية لأولي البصائر جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا من أهلها الداخلين تحت شفاعة سيد الأنبياء والمرسلين آمين. واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} فقال ابن عباس والحسن: أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق مكة، نزل حين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة. وقال الضحاك: أخرجني مخرج صدق من مكة آمنا من المشركين وأدخلني مدخل صدق ظاهراً عليها بالفتح. وقال مجاهد: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوّة مدخل صدق وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب عليّ من حقها مخرج صدق. وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. وقيل: أدخلني مدخل صدق الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة. وقيل: أدخلني في القبر مدخل صدق إدخالاً مرضياً وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق إخراجاً ملقى بالكرامة. والجامع لهذه الأقوال ما جرى عليه البقاعي في تفسيره بقوله في كل مقام تريد إدخالي فيه حسيّ ومعنويّ دنيا وأخرى مدخل صدق يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق في قولك وفعلك فإنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً. وأخرجني من كل ما تخرجني منه مخرج صدق انتهى. والمراد من المدخل والمخرج الإدخال والإخراج ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما، كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره. ثم سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية بالحجة وبالقهر والقدرة فقال: {واجعل لي من لدنك} أي: عندك {سلطاناً نصيراً} أي: حجة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67) . وقال تعالى: {فإن حزب الله هم الغالبون} (المائدة، 56) . وقال تعالى: {ليظهره على الدين كله} (التوبة، 33) وقال تعالى: {ليستخلفنهم في الأرض} (النور، 55) . ووعده تعالى ليظهره على الدين ووعده تعالى لينزعن ملك فارس والروم فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال: «انطلق فقد استعملتك على أهل الله» فكان شديداً على المرائين المنافقين ليناً على المؤمنين، وقال: والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة إلا منافقاً فقال: أهل مكة يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً فقال صلى الله عليه وسلم «إني رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها» فأعز الله تعالى الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير، ثم أمره الله تعالى أن يخبر بالإجابة بقوله تعالى: {وقل} أي: لأوليائك وأعدائك {جاء الحق} وهو ما أمرني به ربي وأنزله إليّ {وزهق} أي: اضمحل وبطل وهلك {الباطل} وهو كل ما يخالف الحق ثم علل زهوقه بقوله تعالى: {إنّ الباطل} أي: وإن ارتفعت له دولة وصولة {كان} في نفسه بجبلته وطبعه {زهوقاً} أي: لا يبقى بل يزول على أسرع الوجوه وقت وأسرع رجوع قضاء قضاه الله تعالى من الأزل ـ قوله على أسرع الوجوه وقت الخ هكذا في جميع النسخ ولعله على أسرع الوجوه كل وقت ويرجع اه. روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود قال: «دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً صنم كل قوم بحيالهم فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل} فجعل الصنم ينكب لوجهه» حديث وعن ابن عباس كانت لقبائل العرب أصنام يحجون إليها ويخرون لها فشكى البيت إلى الله تعالى فقال:، أي: رب إلى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى إلى البيت أني سأحدث لك نوبة جديدة فاملؤك خدوداً سجداً يدفون إليك دفيف النسور ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج حولك بالتلبية. ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح جاء جبريل عليه السلام وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خذ مخصرتك ثم ألقها فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل} فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان قوارير صفر فقال: «يا علي الزم به» فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد ورمى به فكسره فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلاً أسحر من محمد. قال الزمخشري: وشكاية البيت والوحي إليه تخييل وتمثيل ولما بين سبحانه وتعالى الآلهيات والنبوّات والحشر والنشر والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وكان القرآن هو الجامع لجميع ذلك أتبعه ببيان كونه شفاء ورحمة بقوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} أي: ما هو شفاء في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمريض. تنبيه: في من هذه ثلاثة أوجه أحدها: أنه لبيان الجنس قاله الزمخشريّ والبيضاويّ وابن عطية وأبو البقاء ورد عليهم أبو حيان بأنّ التي للبيان لا بدّ أن تتقدّمها عليه ما تبينه لا أن تتقدّم عليه وهنا قد وجد تقديمها عليه. الثاني: أنها للتبعيض وأنكره الحوفي لأنه يلزم أن لا يكون بعضه شفاء. وأجاب أبو البقاء بأنّ منه ما يشفي من المرض وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيد الحيّ الذي لدغ بالفاتحة فشفي من المرض فيكون التبعيض بالنسبة للأمراض الجسمانية وإلا فهو كله شفاء للأبدان وللقلوب من الاعتقادات وغيرها. الثالث: أنها لابتداء الغاية وهو كما قال ابن عادل واضح. {و} من العجيب أنّ هذا الشفاء {لا يزيد الظالمين} وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه بإعراضهم هما يجب قبوله {إلا خسارا} أي: نقصاناً لأنه إذا جاءهم وقامت به الحجة عليهم أعرضوا عنه فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرهم كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم، وفي الدارمي عن قتادة قال: ما جالس أحد القرآن فقام عنه إلا بزيادة أو نقصان ثم قرأ هذه الآية، ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلاء الكافرين الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أنّ ذلك إنما يحصل بسبب جدّهم واجتهادهم فقال تعالى: {وإذا أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {على الإنسان} أي: هذا النوع هؤلاء وغيرهم وقال ابن عباس: إنّ الإنسان ههنا هو الوليد بن المغيرة. قال الرازي: وهذا بعيد بل المراد، أي: نوعُ الإنسان إذا أنعمنا عليه {أعرض} أي: عن ذكرنا ودعائنا إذ شأن نوع الإنسان أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله متمرّداً عن طاعة الله كما قال تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق: 6/ 7) . {ونأى} عن ذكر الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 {بجانبه} أي: لوى عطفيه وبعد نفسه كأنه مستغني بأمره ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. وقرأ ابن ذكوان بألف ممدودة بعد النون وتأخير الهمزة مثل جاء وفي هذه القراءة تخريجان أحدهما من نأى ينوء، أي: نهض. والثاني: أنه مقلوب من نأى فيكونان بمعنى. قال ابن عادل: ولكن متى أمكن عدم القلب فهو أولى. وقرأ الباقون بالهمزة بعد النون وألف بعد همزة وآمال الألف بعد الهمزة السوسيّ وشعبة وخلاد محضة بخلاف عن السوسي وأمالها ورش بين بين وأمال الهمزة والنون محضة خلف والكسائيّ وفتح الباقون. {وإذا مسه الشرّ} أي: هذا النوع وإن قل {كان يؤساً} أي: شديد اليأس عما عهده من رحمة ربه والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها ونسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله تعالى ونظيره قوله تعالى: {فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} (الفجر: 15، 16) وكذلك {إنّ الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشرّ جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً} (المعارج: 19، 20، 21) إلا من حفظه الله وشرّفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل كل} من الشاكر والكافر {يعمل على شاكلته} أي: طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعناه عليه من خير أو شرّ {فربكم} أي: فتسبب عن ذلك أنّ الذي خلقكم وصوّركم {أعلم} من كل أحد {بمن هو} منكم {أهدى سبيلاً} أي: أوضح طريقاً واتباعاً للحق فيشكر ويصبر احتساباً فيعطيه الثواب ومن هو منكم أضلّ سبيلاً فيجعل له العقاب لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغيره تعالى إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة وقد روى الإمام أحمد لكن بسند منقطع عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا وإذا سمعتم برجل تغير عن طبعه فلا تصدقوا فإنه يصير إلى ما جبل عليه» . واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ويسئلونك} أي: تعنتا وامتحانا {عن الروح} فعن عبد الله بن مسعود قال بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب معه فمرَّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض اسألوه عن الروح وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه فقال بعضهم: لنسألنّ فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت أنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى عنه قال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وقال ابن عباس: إنّ قريشاً اجتمعوا فقالوا: إنّ محمداً نشأ فينا بالصدق والأمانة وما اتهمناه بكذب وقد ادّعى ما ادّعى فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود: سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبيّ وإن أجاب عن اثنين فهو نبيّ فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأوّل ما كان أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب. وعن رجل بلغ مشرق الأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 ومغربها وعن الروح فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبركم بما سألتم غداً ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد: اثنى عشر ليلة وقيل خمسة عشر يوماً وقيل أربعين يوماً وأهل مكة يقولون وعدنا محمد غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23، 24) . ونزل في الفتية: {أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} (الكهف، 9) . ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب {ويسألونك عن ذي القرنين} (الكهف: 83) ونزل في الروح: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} . وقول الرازي: ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه، وذكر من جملة ذلك كيف يليق به أن يقول إني لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة مع جمهور الخلق غير لائق لأنّ ذلك علامة على نبوّته. قال الزمخشري: فبيّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم انتهى. واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه، فروى عن ابن عباس أنه جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة، وروي عن علي أنه قال: ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد: خلق على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش، لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهنّ بلقمة واحدة لفعل، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين يقوم يوم القيامة على يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله تعالى وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ولولا أنّ بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السموات من نوره. وقيل الروح هو القرآن وقيل المراد منه عيسى فإنه روح الله تعالى وكلمته ومعناه أنه ليس كما تقوله اليهود ولا كما تقوله النصارى. وقال بعضهم: هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان. قال البغوي: وهو الأصح وتكلم فيه قوم فقال بعضهم: هو الدم ألا ترى أنّ الحيوان إذا مات لا يفوت منه إلا الدم. وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم: عرض. وقال قوم: هو جسم لطيف. وقال بعضهم: الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات وإذا خرج ذهب الكل. قال البغوي: وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل، وهو قول أهل السنة. قال عبد الله بن بريدة: إنّ الله تعالى لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} أي: في جنب علم الله تعالى: تنبيه: اختلف في المخاطب بقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} () فقيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل اليهود فإنهم يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكبير وقيل عام. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال: «نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً» . فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 كثيراً} (البقرة، 269) وساعة تقول: هذا فنزلت. {ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه} (لقمان، 27) الآية قال الزمخشري: وليس ما قالوا بلازم لأنّ القلة والكثرة يدوران مع الإضافة فيوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك أخباره كان علماً لنبوّته. قال البغوي: والأوّل أصح أنّ الله استأثره بعلمه انتهى. وعن أبي يزيد لقد مضى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح. وقال الرازي: قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أنّ الروح قديمة أو حادثة فقال: بل هي حادثة، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده، ثم احتج على إحداث الروح بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} بمعنى أنّ الروح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم تحصل المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال إلى حال، وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدّل من أمارات الحدوث. فقوله: {قل الروح من أمر ربي} يدل على أنهم سألوه أنّ الروح هل هي حادثة أو قديمة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله تعالى وتكوينه وهو المراد من قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} . ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال، وهو المراد بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فهذا ما نقوله في هذا الباب انتهى. وهو نص لطيف. ولما بيّن سبحانه وتعالى أنهم ما آتاهم من العلم إلا قليلاً بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه بقوله تعالى: {ولئن شئنا} أي: ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء واللام موطئة للقسم وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال: {لنذهبنّ} أي: بما لنا من العظمة ذهاباً محققاً {بالذي أوحينا إليك} بأن نمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان امراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه. {ثم} أي: بعد الذهاب به {لا تجد لك به علينا وكيلاً} أي: لا تجد من تتوكل عليه في ردّ شيء منه وإعادته مسطوراً محفوظاً. وقوله تعالى: {إلا رحمة من ربك} استثناء متصل لأنه مندرج في قوله وكيلاً. والمعنى إلا أن يرحمك ربك فيردّه عليك أو منقطع فتقدر لكن عند البصريين أو بل رحمة من ربك عند الكوفيين. والمعنى ولكن رحمة من ربك أو بل رحمة من ربك بتركه غير مذهوب به وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن. قال الرازي: وهذا تنبيه على أنّ لله تعالى على جميع العلماء نوعين من المنة أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني: إبقاء حفظه عليهم فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين النعمتين وعن القيام بشكرهما وهما منة من الله تعالى عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره ومنته عليه في بقاء المحفوظ. فإن قيل: كيف يذهب القرآن وهو كلام الله تعالى؟ أجيب: بأنّ المراد محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور. قال عبد الله بن مسعود: اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع قيل هذه المصاحف ترفع فكيف ما في صدور الناس قال: يسري عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئاً ولا يجدون في المصاحف شيئاً ثم يفيضون في الشعر. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 له دويّ تحت العرش كدويّ النحل فيقول الرب ما لك؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي. وفي رواية لابن مسعود أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأنّ هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا وتعلمه أبناؤنا ويعلمه أبناؤنا أبناؤهم؟ فقال: يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب وقوله تعالى: {إن فضله كان} أي: ولم يزل {عليك كبيراً} فيه قولان أحدهما المراد منه أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. ثانيهما أنّ المراد أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود، وقد أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك. ونزل حين قال الكفار للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. {قل} أي: لهؤلاء البعداء {لئن اجتمعت الأنس} الذين تعرفونهم وتعرفون ما أوتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم {والجنّ} الذين يأتون كهانهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم وغيرهم وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من التصدي ولأنهم كانوا وسائط {على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى {لا يأتون بمثله} أي: لا يقدرون على ذلك فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله. تنبيه: في قوله تعالى: لا يأتون بمثله قولان أظهرهما أنه جواب للقسم الموطأ له باللام والثاني: أنه جواب لشرط واعتذروا عن رفعه بأنّ الشرط ماض فهو كقوله: وإن أتاه خليل، أي: فقير ـ يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم لأنّ الشرط وقع ماضياً وناقشه أبو حيان بأنّ هذا ليس مذهب سيبويه ولا الكوفيين والمبرد لأنّ مذهب سيبويه في مثله أنّ النية به التقديم ومذهب الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء وهذا مذهب ثالث قال به بعض الناس: {ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} أي: معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه. تنبيه: قد تقدّم في سورة البقرة أنّ الله تعالى قال: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة، 23) وقدّمنا الكلام على ذلك وفي وجه كون القرآن معجزاً قولان أحدهما: أنه معجز في نفسه. والثاني: أنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً والقول الأوّل أظهر. {ولقد صرّفنا} أي: بينا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان {للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي: من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه متوقعاً في الأنفس. وقيل معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها. وقيل صفة لمحذوف، أي: مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا {فأبى أكثر الناس} وهم من هم في صورة الناس ككفار قريش وقد سلبوا معانيهم {إلا كفوراً} أي: جحوداً. فإن قيل: كيف جاز {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} ولم يجز ضربت إلا زيداً؟ أجيب: بأنّ أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفوراً. ولما تبين بالدليل إعجاز القرآن على وفق دعوى محمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 صلى الله عليه وسلم ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح الآيات فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة وذكروا من ذلك ستة أنواع من المعجزات أوّلها: {وقالوا} أي: كفار قريش ومن والاهم {لن نؤمن لك حتى تفجر} أي: تفجيراً عظيماً {لنا من الأرض ينبوعاً} أي: عيناً غزيرة الماء من شأنها أن تنبع بالماء ولا ينضب ماؤها. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة والباقون بضم التاء وفتح الياء وكسر الجيم المشدّدة ثانيها قولهم: {أو تكون لك} أنت وحدك {جنة من نخيل وعنب} أي: وأشجار عنب عبر عنه بالثمرة لأنّ الانتفاع منه بغيرها قليل {فتفجّر الأنهار} الجارية {خلالها} أي: وسطها {تفجيراً} أي: تشقيقاً والفجر شق الظلام عن عمود الصبح والفجور شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد ثالثها قولهم: {أو تسقط السماء} أي: نفسها {كما زعمت} فيما تتوعدنا به {علينا كسفاً} أي: قطعاً جمع كسفة وهي القطعة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بنصب السين مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر، والباقون بسكونها مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة. رابعها: قولهم: {أو تأتي} معك {بالله} أي: الملك الأعظم {والملائكة قبيلاً} أي: عياناً ومقابلة ننظر إليه لا يخفى علينا شيء منه. وقال الضحاك: هو جمع قبيلة، أي: أصناف الملائكة قبيلة قبيلة. قال ابن هانئ كفيلاً، أي: يكفلون بما تقول. خامسها: قولهم: {أو يكون لك} أي: خاصاً بك {بيت من زخرف} أي: ذهب كامل الحسن والزينة. سادسها: قولهم: {أو ترقى} أي: تصعد {في السماء} درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعداً {ولن نؤمن} أي: نصدق مذعنين {لرقيك} أي: أصلاً {حتى تنزل} وحققوا معنى كونه من السماء بقولهم {علينا كتاباً} ومعنى كونه في رق أو نحوه بقولهم {نقرؤه} يأمرنا فيه بأتباعك. روى عكرمة عن ابن عباس أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا البحتري بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبهانا ومنبهاً ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك يكلمونك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظنّ أنهم بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليم لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم أنّ رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه قد غلب عليك لا تستطيع ردّه بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجنّ الرئي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه إليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم. فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً وأشدّ عيشاً منا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهاراً كأنهار الشأم والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدّقوك صدّقناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به وإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردّوه أصبر لأمر الله. قالوا: فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدّقك وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنا نقوم بالأسواق ونلتمس المعاش كما تلتمسه فقال صلى الله عليه وسلم ما بعثت بهذا ولكنّ الله بعثني بشيراً ونذيراً. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل؟ فقال: ذاك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أمية وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب، وقال له: عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى به، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله هذه الآية» وفيها إشارة إلى أنه ليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها إذ لو فتح هذا الباب لزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعجز اقترحوا عليه بمعجز آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدّ ينقطع عنه عناد المعاندين وتعنت الجاهلين مع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الآيات والمعجزات ما أغنى عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبه ذلك. ولما تمّ تعنتهم وكان لسان الحال طالباً من الله تعالى الجواب عنه أمر الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء البعداء والأشقياء: {سبحان ربي} أي: تعجباً من اقتراحاتهم وتنزيهاً لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة. وقرأ ابن كثير وابن عامر بصيغة الماضي والباقون قل بصيغة الأمر و {هل كنت إلا بشراً} لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر {رسولاً} كما كان من قبلي من الرسل وكانوا لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم بما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يتخيروها. هذا هو الجواب المجمل، وأمّا التفصيلي فقد ذكر في آيات أخر كقوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم} (الأنعام، 7) {ولو فتحنا عليهم باباً} (الحجر، 14) ونحو ذلك. ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً أتبعه قوله عطفاً على فأبى أو وقالوا: {وما منع الناس} أي: قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب {أن يؤمنوا} أي: لم يبق لهم مانع من الإيمان والجملة مفعول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 منع {إذ جاءهم الهدى} أي: الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة. وقرأ أبو عمرو وهشام بإدغام ذال إذ عند الجيم والباقون بالإظهار وأمال الألف بعد الجيم حمزة وابن ذكوان محضة وإذا وقف حمزة على جاءهم سهل الهمزة مع المدّ والقصر. {إلا أن قالوا} فاعل منع أن قالوا، أي: منكرين عليه غاية الإنكار متعجبين متهكمين {أبعث الله بشراً رسولاً} لأنّ الكفار كانوا يقولون: لن نؤمن لك لأنك بشر، ولو بعث الله تعالى رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجابهم الله تعالى بقوله: {قل} أي: لهؤلاء المطرودين عن الرحمة {لو كان في الأرض ملائكة يمشون} عليها كالآدميين {مطمئنين} أي: مستوطنين فيها كالبشر {لنزلنا عليهم} مرّة بعد مرّة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليه السلام على الأنبياء من البشر وحقق الأمر بقوله تعالى: {من السماء ملكاً رسولاً} يعلمهم الخير ويهديهم المراشد لتمكنهم من التلقي منه لمشاكلتهم له بخلاف البشر كما هو مقتضى الحكمة لأنّ رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم إذ الشيء عن شكله أفهم وبه آنس وإليه أحنّ وله آلف إلا من فضله الله تعالى بتغلب روحه على نفسه، وبتغلب عقله على شهوته فأقدره بذلك على التلقي من الملك كالمرسلين ثم أجابهم الله تعالى جواباً آخر بقوله عز وجلّ: {قل كفى بالله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً. وأمال الألف حمزة والكسائي محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {شهيداً بيني وبينكم} على أني رسوله إليكم ليظهر المعجزات على وفق دعواهم وإني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم ومن يشهد الله على صدقه فهو صادق فعند ذلك قول القائل بأنّ الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه. تنبيه: شهيداً نصب على الحال أو التمييز، ثم إنه تعالى ذكر ما هو كالتهديد والوعيد بقوله تعالى: {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} يعلم ظواهرهم وبواطنهم، ويعلم من قلوبهم أنهم لا ينكرون هذا إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق. ولما تقدّم أنه تعالى أعلم بالمهتدي والضال عطف عليه قوله تعالى: {ومن يهد الله} بأن يخلق الهداية في قلبه {فهو المهتدى} لا يمكن أحد غيره أن يضله. تنبيه: أثبت نافع وأبو عمرو الياء بعد الدال مع الوصل دون الوقف وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً. {ومن يضلل فلن تجد لهم} أي: الضالين {أولياء} يهدونهم {من دونه} ولا ينفعونهم بشيء أراد الله تعالى غيره. ولما كان يوم القيامة يظهر الله فيه لكل أحد ما كان يعمله نبه على ذلك بقوله تعالى: {ونحشرهم} بنون العظمة، أي: نجمعهم بكره {يوم القيامة} الذي هو محط الحكمة {على وجوههم} مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا. قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم} (القمر، 48) أي: يمشون عليها. روى أبو هريرة قيل: يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال: «إنّ الذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» . قال حكماء الإسلام: إنّ الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأنوار وحضرة الإله سبحانه وتعالى، فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم، وأمّا قوله تعالى: {عمياً وبكماً وصماً} فقد استشكله شخص على ابن عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 فقال: أليس قد قال الله تعالى: {ورأى المجرمون النار} (الكهف، 53) وقال تعالى: {سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} (الفرقان، 12) وقال تعالى: {دعوا هنالك ثبوراً} (الفرقان، 13) وقال تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل، 111) . وقال تعالى حكاية عن الكفار: {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام، 23) . فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال تعالى هنا: {عمياً وبكماً وصماً} ؟ أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه الأوّل: قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرّهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرّهم بكما لا ينطقون بحجة الثاني قال في رواية عطاء عمياً عن النظر، أي: عما جعله الله تعالى لأوليائه وبكماً عن مخاطبة الله تعالى ومخاطبة الملائكة المقرّبين صماً عن ثناء الله تعالى عليهم. الثالث: قال مقاتل: إنه حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون يصيرون عمياً بكماً صماً، أمّا قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون. الرابع: أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا لإلزام حجة الله تعالى عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله تعالى عمياً بكماً صماً. قال الرازي: والجواب الأول أولى لأنّ الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون. ثم بيّن تعالى مكانهم بقوله عز وجلّ: {مأواهم جهنم} تسعر عليهم {كلما خبت} أي: أخذ لهبها في السكون عند أكلها لحومهم وجلودهم {زدناهم سعيراً} توقد بإعادة الجلود واللحوم ملتهبة مسعرة كانهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله تعالى بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بإظهار تاء التأنيث عند الزاي وأدغمها الباقون. ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته بقوله تعالى: {ذلك} أي: العذاب العظيم {جزاؤهم بأنهم} أي: أهل الضلالة {كفروا بآياتنا} القرآنية وغيرها وكانوا كل يوم يزدادون كفراً وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا {وقالوا} إنكاراً لقدرتنا {أئذا كنا عظاماً ورفاتاً} ممزقين في الأرض ثم كرّروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً} فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرّر الخلق الجديد في جلودهم ولحومهم مكرّراً كل لحظة، قال تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} (النسلء، 56) . ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم بقوله تعالى: {أو لم يروا} أي: يعلموا بعيون بصائرهم على ما هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل بصحته من الشواهد الجلائل {أنّ الله الذي خلق السموات} جمعها لما دل على ذلك من الحسن، ولما لم تكن الأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجميع بقوله تعالى: {والأرض} على كبر أجرامها وعظم أحكامها، وقوله تعالى: {قادر على أن يخلق مثلهم} فيه قولان الأوّل: المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً، فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظة المثل كما يقوله المتكلمون أنّ الإعادة مثل الابتداء. الثاني: أنّ المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرّون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا فهو كقوله تعالى: {ويأت بخلق جديد} (إبراهيم، 19) . وقوله تعالى: {ويستبدل قوماً غيركم} (التوبة، 39) . قال الواحدي: والقول هو الأوّل لأنه أشبه بما قبله. ولما بيّن الله تعالى بالدليل المذكور أنّ البعث والقيام أمر ممكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الوجود في نفسه أردفه ببيان أن لوقوعه في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله تعالى: {وجعل لهم أجلاً لا ريب} أي: لا شك {فيه} وهو الموت أو القيامة {فأبى الظالمون إلا كفوراً} أي: بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والجحود. ولما قال الكفار: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم ويتسع عيشهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المتعنتين {لو أنتم} أي: دون غيركم {تملكون خزائن} عبر بصيغة منتهى الجموع لأنّ المقام جدير بالمبالغة {رحمة ربي} أي: خزائن رزقه وسائر نعمه وذلك غير متناه. {إذاً لأمسكتم} أي: لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها {خشية} أي: مخافة عاقبة {الإنفاق} أي: الموصل إلى الفقر فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح والدناءة وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشح. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ: أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده. قال الزمخشريّ: تقديره لو تملكون جرى فيه على مذهب الكوفيين من أن لو يليها الفعل مضمراً كما يليها ظاهراً والبصريون يمنعون إيلاء لها مضمراً إلا في شذوذ كقول حاتم لو ذات سوار لطمتني، وأصل هذا المثل أنّ امرأة عطلاء من الحلي والهيئة لطمت حاتماً على نحر الناقة وقالت له بقسوة إنما أردناك بفصدها والفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق ثم يجمع دمها فيشوى وقيل أصله أنّ المرأة المذكوة لطمت رجلاً فقال: لو ذات سوار لطمتني لاحتملتها فصار مثلاً يضرب لكريم يلطمه الدني، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالشاهد من مضمون قولهم {وكان} أي: جبلة وطبعاً {الإنسان} أي: الذي من شأنه الأنس بنفسه فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها {قتوراً} أي: بخيلاً. تنبيه: فتح الياء في ربي نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ. فإن قيل: قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم؟ أجيب: من وجوه الأوّل: أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بدّ وأن يحبس ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني: أنّ الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وليخرج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل. الثالث: أنّ المراد بهذا الإنسان المعهود السابق وهم الذين قالوا: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} . ولما قدم سبحانه وتعالى أن أكثر الناس جحدوا الآيات لكونه تعالى حكم بضلالهم ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه شرع يسلي نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما أتفق لمن قبله من الأنبياء بقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} أي: واضحات واختلف في هذه الآيات فقال ابن عباس والضحاك هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال مجاهد وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات. وقال البقاعي: وهي كما في التوراة: العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم البرد الكبار التي أنزلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 الله تعالى مع النار المضطرمة فكانت تهلك كل ما مرّت عليه من نبات وحيوان ثم الجراد ثم الظلمة ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان ثم قال: وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت: *عصا قمل موت البهائم ظلمة ... جراد دم ثم الضفادع والبرد *وموت بكور الآدميّ وغيره ... من الحيّ آتاه الذي عز وانفرد قال: وكأنه عدّ اليد مع العصا آية، ولم تفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم اه. وقال البيضاويّ: هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل وذكر محمد بن كعب القرظي الطمس والبحر بدل السنين ونقص من الثمرات. وقال: كان الرجل منهم مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين والمرأة منهم قائمة تخبز وقد صارت حجراً. وقال بعضهم: هي آيات الكتاب وهي أحكام يدل عليها. ما روي عن صفوان «أن يهودياً قال لصاحبه: تعال نسأل هذا النبيّ فقال الآخر: لا تقل نبيّ، فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فقال لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقلته ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تفروا من الزخف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلوا يده، وقالوا: نشهد أنك نبيّ. قال: فما منعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود» . وقال الرازيّ: علم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه السلام، أحدها: أنه تعالى أزال العقدة من لسانه، قيل في التفسير ذهب أعجم وجاء فصيحاً. ثانيها: انقلاب العصا حية. ثالثها: تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها. رابعها: اليد البيضاء. وخمسة أخرى وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعاشر شق البحر وهو قوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر} (البقرة، 50) والحادي عشر الحجر، وهو قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك الحجر} ، (الأعراف، 160) والثاني عشر: إظلال الجبل، وهو قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} . (الأعراف، 171) والثالث عشر: إنزال المنّ والسلوى عليه وعلى قومه. والرابع عشر والخامس عشر: قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات} (الأعراف، 130) والسادس عشر: الطمس على أموالهم حجارة من النخل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير. روي أنّ عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى: {تسع آيات بينات} () فذكر محمد بن كعب في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس. فقال عمر بن عبد العزيز: هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال: يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفوم وعدس وحمص كلها حجارة، وقوله تعالى: {فاسأل} ، أي: يا أعظم خلقنا {بني إسرائيل} يجوز أن يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره. وقرأ ابن كثير والكسائيّ بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ويجوز أن يكون الخطاب له خاصة وأمره بالسؤال لهم ليتبين له كذبهم مع قومهم، أي: فاسأل بني إسرائيل عامّة الذين نبهوا قريشاً على السؤال عن الروح كما في بعض الروايات، وعن أهل الكهف وذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 القرنين وعن حديث موسى عليه السلام والمؤمنين منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه {إذ} ، أي: عن ذلك حين {جاءهم} ، أي: جاء آباءهم فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك {فقال} ، أي: فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك صدق ما يقتضيه الحال وهو أن قال: {له فرعون} عتوًّا واستكباراً {إني لآظنك يا موسى مسحوراً} ، أي: مخدوعاً مغلوباً على عقلك فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر وهذا كما قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} . (الإسراء، 47) وقال في موضع آخر ساحر وأنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة لأنه كالمخبر عن الفعل وفي الأمر بسؤال اليهود تنبيه على ضلالهم ولما لم يؤمن فرعون على تواتر تلك الآيات وعظمها فكأنه قيل فما قال موسى عليه السلام؟ فقيل: {قال} لفرعون {لقد علمت} بفتح التاء قراءة غير الكسائيّ وقرأ الكسائيّ بضمها على إخباره عن نفسه. {وما أنزل هؤلاء} ، أي: الآيات {إلا رب السموات والأرض} ، أي: خالقهما ومدبرهما حال كون هذه الآيات {بصائر} ، أي: بينات يبصر بها صدقي، وأمّا السحر فإنه لا يخفى أنه خيال لا حقيقة له ولكنك تعاند. تنبيه: قوله تعالى: هؤلاء الكلام عليه من جهة الهمزتين كالكلام على هؤلاء إن كنتم في البقرة وقد تقدّم الكلام على ذلك. ثم حكى الله تعالى أن موسى قال لفرعون: {وإني} ، أي: وإن ظننتني يا فرعون مسحوراً {لأظنك يا فرعون مثبوراً} ، أي: ملعوناً مطروداً ممنوعاً من الخير فاسد العقل فعارضه موسى بذلك وشتان بين الظنين فإن ظنّ فرعون كذب صرف لعناده لرب العالمين لوضوح مكابرته للبصائر التي كشف عنها ربها الغطاء فهي أوضح من الشمس، وظنّ موسى عليه السلام قريب إلى الصحة واليقين من نظائر أماراته لأن هذه الآيات ظاهرة وهذه المعجزات قاهرة. ولا يرتاب العاقل أنها من عند الله وفي أنه تعالى أظهرها لأجل تصديقي وأنت منكرها فلا يحملنك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والبغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور {فأراد} ، أي: فما تسبب عن هذا الذي هو موجب للإيمان في العادة إلاأن فرعون أراد {أن يستفزهم} ، أي: يستخف بموسى وبمن آمن معه ويخرجهم فيكونوا كالماء إذا سال من قولهم فز الجرح إذا سال. {من الأرض} بالنفي والقتل للتمكن منهم كما أراد هؤلاء أن يستفزوك منها مما هم عليه من الكفر والعناد. ثم أخذ تعالى يحذرهم سطواته بما فعل بمن كان قبلهم وأكثر منهم وأشدّ بقوله تعالى: {فأغرقناه} ، أي: فتسبب عن ذلك أن رددنا كيده في نحره كما قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} (فاطر، 43) . أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه فأدخله البحر حين أدخل بني إسرائيل فأنجاهم وأغرق آل فرعون {ومن معه جميعاً} كما جرت به سنة الله تعالى فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا خرج رسولنا من بين أظهرهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له صلى الله عليه وسلم في أنّ الله تعالى يسلك به في النصرة والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 والسلام. {وقلنا من بعده} ، أي: الإغراق {لبني إسرائيل} الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم {اسكنوا الأرض} ، أي: التي أراد أن يستفزكم منها {فإذا جاء} ، أي: مجيئاً محققاً {وعد الآخرة} ، أي: القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتاً {جئنا} ، أي: بما لنا من العظمة والقدرة {بكم} منها {لفيفاً} ، أي: بعثناكم وإياهم مختلطين لا حكم لأحد على آخر ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا ثم ميزنا بعضكم عن بعض، ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى: {ولقد صرّفنا} قوله عز وجلّ: {وبالحق} ، أي: من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره {أنزلناه} نحن، أي: القرآن فهو ثابت لا يزول كما أنّ الباطل هو الذاهب الزائل وهذا القرآن الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوّة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة، وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ويشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرّق إليها النقص والتغيير والتحريف وأيضاً هذا القرآن تكفل الله تعالى بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر، 9) . {وبالحق} لا بغيره {نزل} هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلناه سواء غضاً طرياً محفوظاً لم يطرأ عليه طارئ فليس فيه من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين سألهم قومك ثم قال تعالى: {وما أرسلناك} يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة {إلا مبشراً} للمطيع {ونذيراً} للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا ما يقترحونه عليك من المعجزات فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء، ثم إنّ الله تعالى أخبر أنّ الحكمة في إنزال القرآن مفرّقاً بقوله عز وجلّ: {وقرآناً} ، أي: وفصلنا أو وأنزلنا قرآناً {فرقناه} ، أي: أنزلناه منجماً في أوقات متطاولة قال سعيد بن جبير نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى، ثم فصل في السنين التي نزل فيها. قال قتادة: كان بين أوّله وآخره عشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ينزل جملة {لتقرأه على الناس} ، أي: عامّة {على مكث} ، أي: مهل وتؤدة ليفهموه {ونزلناه} من عندنا بما لنا من العظمة {تنزيلاً} بعضه إثر بعض مفرّقاً بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها وأعون على الفهم لطول التأمّل لما نزل من نجومه في مدّة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني ثم إن الله تعالى هدّدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل} لهؤلاء المضلين {آمنوا به} ، أي: القرآن {أو لا تؤمنوا} فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم وإلا لم تضروا إلا أنفسكم فاختاروا ما تريدون فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالاً وامتناعكم منه لا يورثه نقصاناً وقوله تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} ، أي: من قبل إنزاله ممن آمن به من بني إسرائيل تعليل له، أي: إن لم تؤمنوا به وأنتم أهل جاهلية وشرك فإنّ خيراً منكم وأفضل وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع قد آمنوا به وصدّقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربيّ الموعود في كتبهم {إذا يتلى عليهم} ، أي: القرآن {يخرون للأذقان} منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 قال الزجاج: الذقن مجمع اللحيين وكما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقيل: إنّ الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخشوع والخضوع ربما مسح لحيته على التراب، فإنّ اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب في حوض المبالغة فقد أتى بغاية التعظيم، وقيل: إنّ الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه فيكون حينئذ خروره على الذقن فقوله {يخرّون للأذقان} كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته. فإن قيل: لم قال: {يخرّون للأذقان سجداً} ولم يقل يسجدون؟ أجيب: بأنّ المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى كأنهم يسقطون. فإن قيل: لم قال: {يخرّون للأذقان} ولم يقل على الأذقان؟ اجيب: بأن العرب تقول إذا خرّ الرجل فوقع لوجهه خرّ للذقن ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى: {سجداً} ، أي: يفعلون ذلك لما يعلمون من خيفته بما أوتوا من العلم السالف وما في قلوبهم من الإذعان والخشية للرحمن. {ويقولون} ، أي: على وجه التجديد المستمرّ {سبحان ربنا} تنزيهاً له عن خلف الوعد {إن} ، أي: انه {كان} ، أي: كوناً لا ينفك {وعد ربنا} ، أي: المحسن إلينا بالإيمان وما تبعه من وجوه العرفان {لمفعولاً} ، أي: دون خلف ولا بدّ أن يأتي جميع ما وعد به في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال الفرقان عليه ومن الثواب والعقاب وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزؤون بالوعيد في قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ونحوه مما في معناه الطعن في قدرة الله تعالى القادر على كل شيء وقوله تعالى: {ويخرّون للأذقان يبكون} كرّره لاختلاف الحال والسبب فإنّ الأول للشك عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله {ويزيدهم} ، أي: سماع القرآن خشوعاً، أي: خضوعاً وتواضعاً ولين قلب ورطوبة عين. ولما طالت الكلمات في المناظرة مع المشركين ومنكري النبوّات والجواب عن شبهاتهم أتبعها ببيان كيف يدعون الله ويطيعونه وكيف يذكرونه في وقت الاشتغال بأداء العبودية فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} لهم {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذات ليلة وهو ساجد يا الله يا رحمن فسمعها ابو جهل وهم لا يعرفون الرحمن. فقال: إنّ محمداً ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله تعالى يقال له الرحمن، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي: إن شئتم قولوا يا الله وإن شئتم قولوا يا رحمن» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعاء يقول: يا الله يا رحمن فسمعه أهل مكة فأقبلوا عليه فأنزل الله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} الآية» . وعن ابن عباس أنّ ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في أوّل ما أنزل وكان الذين قد أسلموا من اليهود يسوءهم قلة ذلك لكثرته في التوراة كابن سلام وابن يامين وابن صوريا وغيرهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فنزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} ، فقال قريش: ما بال محمد كان يدعو إلها واحداً وهو الآن يدعو إلهين ما نعرف الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 إلا صاحب اليمامة فنزل {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} (الأنبياء، 36) ، ونزل أيضاً قوله تعالى: {قالوا وما الرحمن} (الرحمن، 60) ، وفرح مؤمنو أهل الكتاب وهو قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب} ، أي: مشركي قريش {من ينكر بعضه} (الرعد، 36) . وعن ابن عباس «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمان من السرقة، فإنّ رجلاً من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردوداً فوضع الكارة ففعل ذلك ثلاث مرّات فضحك صاحب الدار فقال: إني أحصن بيتي» . فإن قيل: إذا قال الرجل ادع زيداً أو عمراً فهم منه كون زيد مغايراً لعمرو فيوهم كون الله تعالى غير الرحمن وحينئذ تقوى شبهة أبي جهل لعنه الله تعالى؟ أجيب: بأنّ الدعاء هنا بمعنى التسمية لا بمعنى النداء والتسمية تتعدّى إلى مفعولين يقال دعوته زيداً ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال دعوت زيداً والله والرحمن المراد بهما الاسم لا المسمى وأو للتخيير فمعنى الآية ادعوا باسم الله أو ادعوا باسم الرحمن، أي: اذكروه بهذا الاسم أو اذكروه بذلك الاسم فقوله ادعوا الله ينبه على ملزم في كرمه بحكم الوعد من إفاضة الرحمة والكرم، وأيضاً تخصيص هذين الاسمين بالذكر يدل على على أنهما أشرف من سائر الأسماء وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على أنّ قولنا الله أعظم الأسماء وتقدّم الكلام على ذلك في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم والتنوين في قوله تعالى: {أياً مّا تدعوا} عوض عن المضاف إليه وما صلة للأبهام المؤكد والمعنى أياً تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله تعالى: {فله الأسماء الحسنى} لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها ومعنى كونها أحسن الأسماء أنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم وقد قدّمنا ذكر الأسماء الحسنى في الأعراف عند قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف، 180) وبعض الأحاديث الواردة في فضلها فليراجع، ووقف حمزة والكسائيّ على الألف بعد الياء ووقف الباقون على الألف بعد الميم، واختلف في تفسير ونزول قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} فروى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه {ولا تجهر بصلاتك} فيسمعه المشركون فيسبوا الله تعالى عدواً بغير علم {ولا تخافت بها} فلا تسمع أصحابك {وابتغ بين ذلك سبيلاً} وروي «أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالليل على دور الصحابة فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لم تخفي صوتك فقال: أناجي ربي وقد علم حاجتي، وقال لعمر: لم ترفع صوتك؟ فقال: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً وعمر أن يخفض صوته قليلاً» . وقيل معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً، بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار، وقيل إنّ المراد بالصلاة الدعاء، وهذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وأبي هريرة ومجاهد، قالت عائشة: هي الدعاء. وروي هذا مرفوعاً أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: «إنما ذلك في الدعاء والمسألة» . قال عبد الله بن شدّاد كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهمّ ارزقنا مالاً وولداً يجهرون فأنزل الله تعالى هذه، والمخافتة خفض الصوت والسكون يقال: صوت خفيت، أي: خفيض، ويقال للرجل إذا مات قد خفت، أي: انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال: من لم يخافت لم يسمع أذنيه وقد مدح الله تعالى المؤمنين بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} (الفرقان، 67) وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال عز من قائل: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء، 29) وبعضهم قال الآية منسوخة بقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية} (الأعراف، 55) . قال الرازي: وهو بعيد. ولما أمر الله تعالى أنه لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علم كيفية التحميد بقوله تعالى: {وقل الحمد لله} ، أي: الملك الأعظم ثم ذكر سبحانه وتعالى من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع الأوّل قوله تعالى: {الذي لم يتخذ} ، أي: لكونه محيطاً بالصفات الحسنى {ولداً} والسبب فيه وجوه الأوّل أنّ الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء ذلك الشيء فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد. الثاني: أنّ كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض تلك النعم على عبيده. الثالث: أنّ الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضياً ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات، فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق. النوع الثاني: من الصفات السلبية قوله تعالى: {ولم يكن له} بوجه من الوجوه {شريك في الملك} والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك لم يعرف حينئذ أنّ هذه النعم والمنافع حصلت منه أو من شريكه فلا يعرف كونه مستحقاً للحمد والشكر. النوع الثالث قوله تعالى: {ولم يكن له وليّ من الذل} ، أي: ولم يواله من أجل مذلة به يدفعها بموالاته والسبب في اعتباره أنه لو جاز عليه وليّ يلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأقسام الشكر فنفي عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختياراً أو اضطراراً أو ما يعاونه ويقويه ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه كامل الذات المنفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله تعالى: {وكبره تكبيراً} ، أي: وعظمه تعظيماً على نفي اتخاذ الولد والشريك والذل وكل ما لا يليق به وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد لكمال ذاته وتفرّده في صفاته. روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «آية العز {الحمد لله الذين لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} إلى آخر السورة» . وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدونه في السراء والضراء» . وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» . وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وسلم «إنّ أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» . وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهنّ بدأت» . أخرجه مسلم. وروي أنّ قول العبد الله أكبر خير له من الدنيا وما فيها. وعن عمرو بن شعيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وقل الحمد لله الآية، يقال أفصح الصبيّ في منطقه فهم ما يقول. وعن عبد الله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وأمّا ما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وتبعهما ابن عادل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» فحديث موضوع. سورة الكهف مكية إلا {واصبر نفسك} الآية وهي مائة وعشر آيات وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفاً. {بسم الله} الذي لا كفء له ولا شريك {الرحمن} الذي أقام عباده على أوضح الطرق بإنزال هذا الكتاب {الرحيم} بتفضيل من اختصه بالصواب وهو قوله تعالى: {الحمد لله} تقدّم الكلام عليه مستقصى في أوّل الفاتحة: {الذي أنزل على عبده الكتاب} ، أي: القرآن رتب تعالى استحقاق الحمد على إنزاله تنبيهاً على أنه أعظم إنعامه وخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم، أمّا كونه نعمة عليه فلأنّ الله تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه. وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفليّ بأحوال العالم العلويّ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب، وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، ولا شكّ أنّ ذلك من أعظم النعم. وأمّا كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والعقاب. وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل أحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فوجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته أن يحمدوه على هذه النعم الجزيلة. وقال تعالى: {على عبده} لما في كل من الوصف بالعبودية والإضافة إليه سبحانه وتعالى من الإعلام بتشريفه وإشارة إلى أنه الذي أسرى به إلى حضرات مجده ليريه من آياته. ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين الأوّل قوله تعالى: {ولم يجعل له} ، أي: فيه {عوجاً} ، أي: اختلافاً وتناقضاً كما قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء 84) والجملة حال من الكتاب. الوصف الثاني: قوله تعالى: {قيماً} قال ابن عباس: يريد مستقيما، أي: معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط. قال الرازي: وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 يوجب التكرار بل الحق أنّ المراد من كونه قيما كونه سبباً لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيم المشفق القائم بمصالحهم وقال قبل ذلك أنّ الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره، ويجب أن يكون تامّاً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عنه كمال الغير فقوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله: {قيماً} إشارة إلى كونه مكملاً لغيره. ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة في صفة الكتاب: {لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة، 2) فقوله: {لا ريب فيه} إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه، وقوله: {هدى للمتقين} إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق ولكمال حالهم فقوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} قائم مقام قوله تعالى: {لا ريب فيه} قوله تعالى: {قيماً} قائم مقام قوله تعالى: {هدى للمتقين} . واختلف النحويون في نصب قوله تعالى: {قيماً} على أوجه: الأوّل قال في «الكشاف» : لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأنّ قوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} معطوف على قوله تعالى: {أنزل} فهو داخل في حيز الصلة وأنه لا يجوز. قال: ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير ولم يجعل له عوجاً جعله قيماً لأنه تعالى إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. قال: فإن قلت فما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت: فائدته التأكيد ورب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح. الوجه الثاني: أنه حال ثانية والجملة المنفية قبله حال أيضاً كما مرّ وتعدّد الحال الذي حال واحد جائز، والتقدير أنزله غير جاعل له عوجاً قيماً. الوجه الثالث: أنه حال أيضاً ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز. ولما ذكر تعالى أنه أنزل على عبده هذا الكتاب الموصوف بما ذكر أردفه ببيان ما لأجله أنزله بقوله عز وجلّ: {لينذر} ، أي: يخوّف الكتاب الكافرين {بأساً} ، أي: عذاباً {شديداً من لدنه} ، أي: صادراً من عنده، وقرأ شعبة بإسكان الدال وكسر النون والهاء وصلة الهاء بياء والباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء، وابن كثير على أصله بضم الهاء في الوصل بواو. {ويبشر المؤمنين} ، أي: الراسخين في هذا الوصف، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وسكون الموحدة، وضم الشين مخففة والباقون بضم التحتية وفتح الموحدة وكسر الشين مشدّدة. {الذين يعملون الصالحات} وهي ما أمر به خالصاً له وذانك الشيئان مفتاح الإيمان. {أنّ لهم} ، أي: بسبب أعمالهم {أجراً حسناً} هو الجنة حال كونهم. {ماكثين فيه أبداً} بلا انقطاع أصلاً فإنّ الأبد زمان لا آخر له، وقوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً} معطوف على قوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه، فالأوّل عام في حق كل كافر، والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً. وعادة القرآن جارية بأنه إذاذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98) فكذا ههنا هذا العطف يدل على أنّ أقبح أنواع الكفر إثبات الولد لله تعالى. تنبيه: الذين أثبتوا لله ولداً ثلاث طوائف الأولى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 كفار العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله. الثانية: النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله. الثالثة: اليهود الذين قالوا عزير ابن الله. ثم إنه تعالى أنكر على القائلين ذلك من وجهين الأوّل: قوله تعالى: {ما لهم به} ، أي: القول. {من علم} ، أي: أصلاً لأنه مما لا يمكن أن يتعلق العلم به لأنه لا وجود له ولا يمكن وجوده، ثم قرّر تعالى هذا المعنى وأكده بقوله: {ولا لآبائهم} الذين يغتبطون بتقليدهم في الدين حتى في هذا الذي لا يتخيله عاقل ولو أخطؤوا في تصرف دنيوي لم يتبعوهم فيه. فإن قيل: اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم؟ أجيب: بأن انتفاء العلم بالشيء قد يكن للجهل بالطريق الموصل إليه وقد لا يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به، ونظيره قوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به} (المؤمنين، 117) . الوجه الثاني: {كبرت} ، أي: مقالتهم {كلمة} ، أي: ما أكبرها من كلمة وصور فظاظة اجترائهم على النطق بهابقوله تعالى: {تخرج من أفواههم} ، أي: لم يكفهم خطورها في أنفسهم وتردّدها في صدورهم حتى تلفظوا بها وكان صدورهم بها على وجه التكرير كما يشير إليه التعبير بالمضارع. تنبيه: سميت هذه كلمة كما يسمون القصيدة كلمة. ثم بين تعالى ما أفهمه الكلام من أنه كما أنهم لا علم لهم بذلك لا علم لأحد به أصلاً لأنه لا وجود له فقال تعالى: {إن} ، أي: ما {يقولون إلا كذباً} ، أي: قولاً لا حقيقة له بوجه من الوجوه. ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمان قومه شفقة عليهم وغيرة على المقام الإلهي الذي ملأ قلبه تعظيماً خفض عليه سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {فلعلك باخع} ، أي: قاتل {نفسك} من شدّة الغمّ والوجد وأشار تعالى إلى شدّة نفرتهم وسرعة مفارقتهم وعظيم مباعدتهم بقوله عز من قائل: {على آثارهم} ، أي: حين تولوا عن التوحيد وعن إجابتك {إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} ، أي: القرآن المتجدّد تنزيله على حسب التدريج {أسفاً} منك على ذلك والأسف شدّة الحزن والغضب. فإن قيل: ذلك يدل على حدوث القرآن؟ أجيب: بأنه محمول على الألفاظ وهي حادثة. ثم بين سبحانه وتعالى علة إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ للبشارة والنذارة بأنهم لم يخرجوا عن مراده تعالى، وأنّ الإيمان لا يقدر على إدخاله قلوبهم غيره بقوله عز وجل: {إنّا} ، أي: إنا لا نفعل ذلك لأنا {جعلنا ما على الأرض} من الحيوان والنبات والشجر والأنهار والمعادن وغير ذلك. وقال بعضهم: بل المراد الناس فهم زينة الأرض، وبالجملة فليس في الأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات الشامل للشجر والحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان. {زينة لها} ، أي: الأرض قيل المراد أهلها، أي: زينة لأهلها. قال الرازي: ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها كما جعل الله السماء مزينة بالكواكب. ولما أخبر تعالى بزينتها أخبر تعالى بعلته بقوله تعالى: {لنبلوهم} ، أي: نعاملهم معاملة المختبر {أيهم أحسن عملاً} بإخلاص الخدمة لربه فيصير ما كنا نعلمه منهم ظاهراً فإنّ الله تعالى يعلم السرّ وأخفى، لتقام به عليهم الحجة على ما يتعارفونه بينهم بأن من أظهر موافقة الأمر فيما نال من الزينة حاز المثوبة ومن اجترأ على مخالفة الأمر بما آتاه منها استحق العقوبة فكأنه تعالى يقول: يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمرّدون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضاً يا محمد لا ينبغي أن تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق. ثم إنه تعالى لما بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً بها أبداً، زهد فيها بقوله تعالى: {وإنا لجاعلون ما عليها} من جميع تلك الزينة لا يصعب علينا شيء منه {صعيداً} ، أي: فتاتاً {جزراً} ، أي: يابساً لا ينبت ونظيره قوله تعالى: {كل من عليها فان} (الرحمن، 26) . وقوله تعالى: {فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} (طه: 106، 107) . وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أنّ سائر الآيات على أنّ الأرض أيضاً لا تبقى كما قال تعالى: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض} (إبراهيم، 84) . ولما أنّ القوم تعجبوا في قصة أصحاب الكهف وسألوها النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان قال تعالى: {أم حسبت} ، أي: ظننت على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين {أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب والواقع أنهم كانوا من العجائب ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا فإنّ من كان قادراً على تخليق السموات والأرض كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم والكهف الغار الواسع في الجبل، واختلف في الرقيم فقيل هو اسم كلبهم قال أمية بن أبي الصلت: وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهم؛ وهو بكسر الصاد مفعول مجاورا، أي: فناءهم. والقوم في الكهف هجد؛، أي: نوّم، وقيل هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم وقصصهم جعل على باب الكهف. قال البغويّ: وهذا أظهر الأقاويل. وقيل: إنّ الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل الجبل وقيل قريتهم، وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون غير أصحاب الكهف كانوا ثلاثة يطلبون الكلأ أو نحوه لأهلهم فأخذهم المطر فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدّت عليهم بابه فقال أحدهم: اذكروا ايكم عمل حسنة لعلّ الله يرحمنا ببركته فقال واحد: استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل منهم وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت فمرّ بي بقر فاشتريت فصيلة والفصيلة ولد الناقة إذا انفصل عن أمّه فبلغت ما شاء الله فرجع إليّ بعد حين شيخاً ضعيفاً لا أعرفه وقال: إنّ لي عندك حقاً وذكره حتى عرفته فدفعتها إليه جميعاً اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا فانصدع عنهم الجبل حتى رأوا الضوء والصدع الشق والصداع وجع الرأس. وقال آخر: كان في فضل وأصاب الناس شدّة فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً فقلت: والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثاً ثم ذكرت ذلك لزوجها فقال: أجيبي له وأعيني عيالك فأتت وسلمت إليّ نفسها فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت لها: ما لك؟ فقالت: أخاف الله تعالى: فقلت لها: خفتيه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها اللهمّ إن كنت فعلته لوجهك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 فافرج عنا فانصدع حتى تعارفوا. وقال الثالث: كان لي أبوان هرمان وكان لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيم فلم أرجع حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما قوجدتهما نائمين فشقّ عليّ أنّ أوقظهما فوقفت حابساً محلبي على يديّ حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك الكريم فافرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك النعمان بن بشير وقد قدّمنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} (الإسراء، 85) . وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال: كان النضر بن الحرث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله تعالى وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام وقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ثم قال: إنّ قريشاً بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفته فإنهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال لهم اليهود سلوه عن ثلاثة؛ عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل فإن حديثهم عجيب. وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وسلوه عن الروح وما هي فإن أخبركم فهو نبيّ وإلا فهو متقول، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبراهم بما قالته اليهود، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبركم بما سألتم عنه غداً» ، ولم يستئن فانصرفوا عنه فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لم ينزل عليه وحي وشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله بسورة أهل الكهف وفيها معاتبة الله تعالى إياه على جراءته عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطوّاف ثم بدأ بالفتية فقال: {إذ} ، أي: واذكر إذ {أوى الفتية} وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم جميع فتى وهو الشاب الكامل والشباب أقبل إلى الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ {إلى الكهف} خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج اهل الانجيل وكثرت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له ذقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله ثم نزل مدينة أهل الكهف وهي أفسوس فلما نزل بها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه واتخذ شرطاً من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم في أماكنهم ويخرجوهم إليه فيخيروهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 يعبد غير الله تعالى فيقتل فلما رأى ذلك أهل الشدّة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ثم جعل ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والدعاء والتسبيح وكانوا من أشراف المدينة ومن أشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وجعلوا يقولون ربنا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجوداً على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى فقالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس فقالوا: نجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك فلما سمع ذلك بعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم في التراب فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم بأسوة سراة أهل مدينتكم؟ اختاروا إمّا إن تذبحوا لآلهتنا وإمّا أن أقتلكم فقال له كبيرهم: واسمه مكسلمينا إنّ لنا إلهاً ملء السموات والأرض عظمته لن ندعو من دونه إلهاً أبداً له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً ابداً إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير، وأمّا الطواغيت فلن نعبدها أبداً، اصنع ما بدا لك وقال أصحابه مثل ما قال، فلما قالوا ذلك أمر الملك بنزع لباسهم، وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة، وقال: سأفرغ لكم وأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعي أن أعجل لكم ذلك إلا أني أراكم شباباً حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وترجعون إلى عقولكم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق إلى مدينة أخرى قريبة منهم لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدّقوا منها ويتزوّدوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة فمكثوا فيه ويعبدوا الله تعالى حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما يشاء فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فاخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى إذا أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه. وقال كعب الأحبار: مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جنايتي أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس: هربوا ليلاً من دقيانوس وكانوا سبعة، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد قال ابن اسحق فلبثوا فيه ليس لهم عمل غير الصلاة والصيام والتسبيح والتمجيد ابتغاء وجه الله تعالى وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً وكان من أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم ياخذ وَرِقه وينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 ويتجسس لهم الخبر هل ذكروا أصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا في ذلك ما شاء الله أن يلبثوا ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل أخبرهم أنّ الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا من عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجوداً يدعون ويتضرعون ويتعوذون من الفتنة ثم إن تمليخا قال لهم: يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا ذلك مع غروب الشمس ثم جعلوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً فينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظمائه وعظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي. فقال عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة، فقد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتي بهم فسألهم وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني فقالوا له: أمّا نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى بنجلوس فلما قالوا ذلك خلا سبيلهم وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله تعالى في قلبه أن يسدّ باب الكهف عليهم واراد الله تعالى أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم {أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور} (الحج، 7) ، قوله بنجلوس هكذا في النسخ والذي في حياة الحيوان منحلوس اه. فأمر دقيانوس بالكهف أن يسدّ عليهم وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم إنّ رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من يفتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات وقومه وقرون بعده كثيرة. وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم لما أووا إلى الكهف {فقالوا} ، أي: عقب استقرارهم فيه {ربنا آتنا من لدنك} ، أي: من عندك {رحمة} توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من عدوّك {وهيئ لنا من أمرنا} ، أي: من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار {رشداً} الرشد والرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان الأوّل أنّ التقدير هيئ لنا أمراً ذا رشد، أي: حتى نصير بسبببه راشدين مهتدين. الثاني: اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً. ولما أجابهم سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بقوله تعالى: {فضربنا} ، أي: عقب هذا القول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وبسببه {على آذانهم} حجاباً يمنع السماع، أي: أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. ثم بين تعالى أنه إنما ضرب على آذانهم {في الكهف} ، أي: المعهود وهو ظرف مكان وقوله تعالى: {سنين} ظرف زمان وقوله تعالى: {عدداً} ، أي: ذوات عدد يحتمل التكثير والتقليل فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده كقوله تعالى: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأنفاق، 35) . وقال الزجاج: إذا قل الشيء فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى أن يعدّ وإذا كثر أحتاج إلى أن يعدّ {ثم بعثناهم} ، أي: أيقظناهم من ذلك النوم {لنعلم} ، أي: علم مشاهدة وقد سبق نظير هذه الآية في القرآن كثيراً منها ما سبق في سورة البقرة {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} (البقرة، 143) . وفي آل عمران: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} (آل عمران، 142) وقد نبهنا على ذلك في محله {أيّ الحزبين} ، أي: الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم {أحصى لما لبثوا أمداً} واختلفوا في الحزبين المختلفين فقال عطاء عن ابن عباس: المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وأصحاب الكهف. وقال مجاهد: الحزبان من الفتية أصحاب الكهف لما تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا ويدل له قوله تعالى: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} (الكهف، 19) فالحزبان هما هذان وكان الذين {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول. وقال الفرّاء: إنّ طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدّة لبثهم. تنبيه: أحصى فعل ماض، أي: أيهم ضبط أمر أوقات لبثهم وأمّا من جعله أفعل تفضيل فقال في «الكشاف» : ليس بالوجه السديد وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس ونحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذلق شاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به. ثم قال الله تعالى: {نحن} ، أي: بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة {نقص عليك} يا أشرف الخلق {نبأهم} ، أي: خبرهم العظيم قصاً ملتبساً {بالحق} ، أي: الصدق {إنهم فتية} ، أي: شبان {آمنوا بربهم} ، أي: المحسن إليهم الذي تفرد بخلقهم ورزقهم، ثم وصفهم الله تعالى بقوله: {وزنادهم} بعد أن آمنوا {هدى} بما قذفناه في قلوبهم من المعارف {وربطنا على قلوبهم} ، أي: قويناها فصار ما فيها من القوى مجتمعاً غير مبدد فكانت حالهم في الجلوة حالهم في الخلوة. {إذ قاموا} ، أي: وقت قيامهم بين يدي الجبار دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام {فقالوا ربنا رب السموات والأرض} وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله تعالى وصرحوا بالبراءة من الشرك والأنداد بقولهم: {لن ندعو من دونه إلهاً} لأنّ ما سواه عاجز والله {لقد قلنا إذاً} ، أي: إذا دعونا من دونه غيره {شططاً} ، أي: قولاً ذا بعد عن الحق جداً. وقال مجاهد: كانوا أبناء عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أنّ أحداً يجده قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أنّ ربي رب السموات والأرض. قالوا: نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعاً فقالوا: {ربنا رب السموات والأرض} . وقال عطاء: قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. قال الرازي: وهو بعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 لأنّ الله تعالى استأنف قصتهم بقوله تعالى: {نحن نقص عليك} . وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتياناً مطوّقين مسورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله تعالى في قلوب الفتية الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه فقالوا في أنفسهم: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ثم خرج آخر فخرجوا كلهم جميعاً فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم وكل واحد يكتم صاحبه مخافة على نفسه ثم قالوا: ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفشي كل واحد سرّه إلى صاحبه ففعلوا فإذا هم جميعاً على الإيمان، وإذا بكهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض: { هؤلاء قومنا} وإن كانوا أسنّ منا وأقوى وأجل في الدنيا {اتخذوا من دونه آلهة} أشركوهم معه تعالى لشبهة واهية {لولا} ، أي: هلا {يأتون عليهم بسلطان} ، أي: دليل {بين} ، أي: ظاهر مثل ما نأتي نحن على تقرير معبودنا بالأدلة الظاهرة فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين فلذلك قالوا: {فمن أظلم} ، أي: لا أحد أظلم {ممن افترى} ، أي: تعمد {على الله} ، أي: الملك الأعظم {كذباً} بنسبة الشريك إليه تعالى. ثم قال بعض الفتية لبعض: {وإذ} ، أي: وحين {اعتزلتموهم} ، أي: قومكم {وما يعبدون} ، أي: واعتزلتم معبودهم وقولهم: {إلا الله} يجوز أن يكون استثناء منه متصلاً على ما روي أنهم كانوا يقرّون بالخالق ويشركون معه كما كان أهل مكة، وأن يكون منقطعاً وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية بأنهم لم يعبدوا غير الله تعالى: {فأووا إلى الكهف} ، أي: الغار الذي في الجبل {ينشر} ، أي: يبسط {لكم} ويوسع عليكم {ربكم} ، أي: المحسن إليكم {من رحمته} ما يكفيكم به المهم من أمركم في الدارين {ويهيئ لكم من أمركم} ، أي: الذي من شأنه أن يهمكم {مرفقاً} ، أي: ما ترتفقون به وتنتفعون وجزمهم بذلك لخلوص نيتهم وقوّة وثوقهم بفضل الله. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء والباقون بكسر الميم وفتح الفاء. قال الفراء: وهما لغتان واشتقاقهما من الارتفاق، وكان الكسائي لا يذكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أنّ الفتح أقيس والكسر أكثر والخطاب في قوله تعالى: {وترى الشمس} للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وليس المراد أنّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة {إذا طلعت تزاور} ، أي: تميل {عن كهفهم ذات اليمين} ، أي: نا حيته {وإذا غربت تقرضهم} ، أي: تعدل في سيرها عنهم {ذات الشمال} ، أي: فلا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم لأنّ الله تعالى زواها عنهم. وقيل إنّ باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله. وقرأ السوسي بإمالة ألف ترى المنقلبة بعد الراء في الأصل بخلاف عنه، والباقون بالفتح في الوصل وهم على أصولهم في الوقف وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 بالفتح، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وتزاور بتشديد الزاي وتخفيف الراء مضمومة، وابن عامر بسكون الزاي ولا ألف بعدها وتشديد الواو على وزن تحمرّ، والباقون وهم عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الزاي والواو ولا خلاف في ضم الراء. ولما بين أنه تعالى حفظهم من حرّ الشمس بيّن أنه أنعشهم بروح الهواء وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال تعالى: {وهم في فجوة منه} ، أي: في وسط الكهف ومتسعه ينالهم برد الريح ونسيمها، ثم بيّن تعالى نتيجة هذا الأمر الغريب في النبأ العجيب بقوله تعالى: {ذلك} ، أي: المذكور العظيم {من آيات الله} ، أي: دلائل قدرته {من يهد الله} ، أي: الذي له الملك كله يخلق هذه الهداية في قلبه كأصحاب الكهف {فهو المهتد} في، أي: زمان كان فلن تجد له مضلاً مغويا ففي ذلك إشارة إلى أنّ أهل الكهف جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فلطف بهم وأعانهم وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأنّ كل من سلك طريق المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح واهتدى إلى السعادة، وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد الدال في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وقفاً ووصلاً. {ومن يضلل} ، أي: يضله الله تعالى ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه {فلن تجد له ولياً} ، أي: معيناً {مرشداً} ، أي: يرشده للحق، ثم إنه تعالى عطف على ما مضى بقية أمرهم بقوله تعالى: {وتحسبهم} ، أي: لو رأيتهم أيها المخاطب {أيقاظاً} ، أي: منتبهين لأنّ أعينهم مفتحة للهواء لأنه يكون أبقى لها، جمع يقظ بكسر القاف {وهم رقود} ، أي: نيام جمع راقد قال الزجاج: لكثرة تقلبهم يظنّ أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى: {ونقلبهم} ، أي: في ذلك حال نومهم تقلباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم {ذات} ، أي: في الجهة التي هي صاحبة {اليمين} منهم {وذات الشمال} لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث. تنبيه: اختلف في مقدار مدّة التقليب، فعن أبي هريرة أنّ لهم في كل عام تقليبتين. وعن مجاهد يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنين ثم ينقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة يوم عاشوراء. قال الرازي: وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف انتهى. ولهذا قلت بحسب ما ينفعهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فائدة تقلبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا ثيابهم اه. قال الرازي: وهذا أعجب من ذلك لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر أفلا يقدر على حفظ أجسادهم من غير تقليب اه. وهذا ليس بعجيب لأنّ القدرة صالحة لذلك وأكثر بحسب العادة، وأمّا إمساك أرواحهم فهو خرق للعادة فلا يقاس عليه. {وكلبهم باسط ذراعيه} ، أي: يديه، أي: ملقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» . وقال المفسرون: كان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهما. تنبيه: باسط اسم فاعل ماض وإنما عمل على حكاية الحال والكسائيّ يعمله ويستشهد بالآية الكريمة وأكثر المفسرين على أنّ الكلب من جنس الكلاب. وروي عن ابن جريج أنه كان أسداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 ويسمى الأسد كلباً فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فافترسه الأسد» . وقال ابن عباس: كان كلباً أغزّ واسمه قطمير وعن عليّ اسمه ريان واختلف في قوله تعالى: {بالوصيد} فقال ابن عباس: هو باب الكهف وقيل العتبة. قال السدي: والكهف لا يكون له باب ولا عتبة، وإنما أراد موضع الباب والعتبة وقال الزجاج: الوصيد فناء البيت وفناء الدار، قال الشاعر: *بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها ... عليّ ومعروفي بها غير منكر وقال مجاهد والضحاك: الوصيد الكهف. {لو اطلعت عليهم} بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، أي: وهم على تلك الحالة {لوليت منهم} حال وقوع بصرك عليهم {فراراً} لما البسهم الله تعالى من الهيبة وجعل لهم من الجلالة تدبيراً منه لما أراد منهم حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله. {ولملئت منهم رعباً} ، أي: فزعاً، واختلف في ذلك الرعب كان لماذا؟ فقال الكلبيّ: لأنّ أعينهم مفتتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام، وقيل من وحشة الكلام وقيل لكثرة شعورهم وطول أظفارهم وتقلبهم من غير حس كالمستيقظ وقيل: إنّ الله تعالى منعهم بالرعب حتى لا يراهم أحد. وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً} ، فبعث معاوية ناساً فقال: اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد اللام بعد الميم، والباقون بتخفيفها والسوسي بإبدال الهمزة ياء على أصله وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين والباقون بسكونها. {وكذلك} ، أي: كما فعلنا بهم ما ذكرنا آية {بعثناهم} ، أي: أيقظناهم آية {ليتساءلوا بينهم} ، أي: ليسأل بعضهم بعضاً عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيتعرّفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم فيزدادوا يقيناً على كمال قدرة الله تعالى وليستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم. {قال قائل منهم} مستفهماً من إخوانه: {كم لبثتم} نائمين في ذا الكهف من ليلة أو يوم؟ وهذا يدل على أنّ هذا القائل استشعر طول لبثهم مما رأى من هيئتهم أو بغير ذلك من الأمارات {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} لأنهم دخلوا الكهف طلوع الشمس وبعثوا آخر النهار فلما رأوا الشمس باقية قالوا: أو بعض يوم فلما نظروا إلى طول أظفارهم وشعورهم {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} فأحالوا العلم على الله تعالى قال ابن عباس القائل ذلك هو رئيسهم تمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى، وعلم أن مثل هذا التغيير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند المثناة والباقون بالإدغام، ثم لما علموا أنّ الأمر ملتبس عليهم لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ، أي: بفضتكم، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الراء والباقون بكسرها والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روي أن غرفجة اتخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 أنفاً من ورق ويقال لها الرقة وفي الحديث «في الرقة ربع العشر» . {إلى المدينة} ، أي: التي خرجتم منها وهي مدينة طرسوس وهذه الآية تدل على أنّ السعي في إمساك الزاد أمر مهمّ مشروع وأنه لا يبطل التوكل على الله تعالى إذ حقيقة التوكل على الله تعالى تهيئة الأسباب واعتقاد أن لا مسبب للأسباب إلا الله تعالى، فحمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتوكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضي الله تعالى عنها لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه أوثق عليك نفقتك. وما حكي عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحب إلى أن يرزق حج بيت الله الحرام وعلم منه ذلك فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم قوم على حج أتوه أن يحجوا به وألحوا عليه فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده ما لهذا السفر إلا شيئان شدّ الهميان والتوكل على الرحمن {فلينظر أيها أزكى طعاماً} قال ابن عباس: يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم وقال مجاهد: كان ملكهم ظالماً فقولهم أيها أزكى طعاماً، أي: أيها أبعد عن الغصب وكل سبب حرام، وقيل: أيها أطيب وألذ وقيل أيها أرخص. قال الزجاج: قولهم أيها رفع بالابتداء وأزكى خبره وطعاماً تمييز ولا بدّ هنا من حذف، أي: أيّ أهلها أزكى، أي: أحل، وقيل لا حذف والضمير عائد على الأطعمة المدلول عليها من السياق. {فليأتكم} ذلك الأحد {برزق منه} لنأكل {وليتلطف} ، أي: وليكن في ستر وكتمان في دخول المدينة وشراء الأطعمة حتى لا يعرف {ولا يشعرنّ} ، أي: ولا يخبرنّ {بكم أحداً} من أهل المدينة. {إنهم} ، أي: أهل المدينة {إن يظهروا} ، أي: يطلعوا عالين {عليكم يرجموكم} ، أي: يقتلوكم والرجم بمعنى القتل كثير في القرآن كقوله تعالى: {ولولا رهطك لرجمناك} (هود، 91) وقوله: {لأرجمنك} (مريم، 46) وقوله: {أن ترجمون} (الدخان، 20) . وقال الزجاج:، أي: يقتلوكم بالرجم والرجم أخبث أنواع القتل. {أو يعيدوكم في ملتهم} إن لنتم لهم {ولن تفلحوا إذاً} ، أي: إن رجعتم إلى ملتهم {أبداً} بل تكونوا خاسرين. قال بعض العلماء: ولا خوف على المؤمن الفارّ بدينه أعظم من هذين الأمرين أحدهما ما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل والآخر هلاك الدين. فإن قيل: أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا {ولن تفلحوا إذاً أبداً} أجيب: بأنهم خافوا أنهم لو بقوا على الكفر مظهرين له فقد يميل بهم ذلك إلى الكفر الحقيقي فكان خوفهم بسبب هذا الاحتمال. فإن قيل: ما النكتة في العدول عن واحدكم إلى أحدكم وكل ذلك دال على الوحدة؟ أجيب: بأنّ النكتة فيه أنّ العرب إذا قالوا أحد القوم أرادوا به فرداً منهم وإذا قالوا واحد القوم أرادوا رئيسهم والمراد في القصة، أي: واحد كان والقرآن الكريم أنزل بلغتهم فراعى ما راعوا. {س18ش21 وَكَذَالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُو?ا? أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ رَيْبَ فِيهَآ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ? فَقَالُوا? ابْنُوا? عَلَيْهِم بُنْيَانًا? رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ? قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا? عَلَى? أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} {وكذلك} ، أي: ومثل ما فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم والستر والحماية من الطالبين لهم والحفظ لأجسادهم على ممرّ الزمان وتعاقب الحدثان وغير ذلك {أعثرنا} ، أي: أطلعنا غيرهم {عليهم} يقال عثرت على كذا علمته وأصله أنّ من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثر سبباً لحصول العلم فأطلق السبب على السبب بقوله تعالى: {ليعلموا} متعلق بأعثرنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 والضمير قيل يعود على مفعول أعثرنا المحذوف تقديره أعثرنا الناس وقيل يعود إلى أهل الكهف وهذا هو الظاهر {أنّ وعد الله} الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجثة معاً {حق} لأنّ قيامهم بعد نومهم يتقلبون نيفاً وثلاثمائة سنة مثل من مات ثم بعث. قال بعض العارفين: علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت. ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى: {وأنّ} ، أي: وليعلموا أنّ {الساعة} ، أي: آتية {لا ريب} ، أي: لا شك {فيها} . تنبيه: اختلف في السبب الذي عرف الناس واقعة أصحاب الكهف، فقال محمد بن إسحاق: إنّ ملك تلك البلاد رجل صالح يقال له تندوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانية وستين سنة فتحزب الناس في مملكته فكانوا أحزاباً؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أنّ الساعة حق، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرّع إلى الله تعالى وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلا الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، وجعل الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيراً وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه، وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك دخل بيته وأغلق بابه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً، فجلس عليه ودأب ليله ونهاره زماناً يتضرّع إلى الله تعالى ويبكي، أي: رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم، قوله يقال له تندوسيس الذي في حياة الحيوان يقال تاودوسيوس فليحرّر اه. ثم إنّ الله تعالى الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، ويستجيب لعبده تندوسيس ويتم نعمته عليه، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين وألقى الله في نفس رجل من تلك البلد الذي فيه الكهف أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة حتى إذا نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف أذن الله تعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا في ألوانهم شيء يكرهونه كهيئتم حين رقدوا وهم يرون أنّ ملكهم دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم ائتنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند الجبار وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد تخيل لهم أنهم قد ناموا أطول ما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياماً، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. قالوا ربكم أعلم بما لبثتم، وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا: ألتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مسكلمينا: يا إخواتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرنّ بك أحداً وابتع لنا طعاماً وائتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 جياعاً ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق متخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمئة سنة فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان أمر الإيمان ظاهراً فلما رأى عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وينظر يميناً وشمالاً ثم ترك الباب وتحوّل لباب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه، ويقول: يا ليت شعري ما هذا أمّا عشية أمس فكان المسلمون يخبؤون هذه العلامة ويستخفون بها، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ بكسائه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة، فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا عشية أمس فليس على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلا قتل، وأمّا اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ولا يخاف ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، ووالله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ فقال: اسمها أفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ثم أنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج من هذه المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم فقال: بعني بهذا الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم إلى آخر، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض: إنّ هذا أصاب كنزاً مخبأ في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه فقال لهم: وهو شديد الفرق أفضلوا عليّ قد أخذتم ورقي فأمسكوها، وأمّا طعامكم فليس لي حاجة به. فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين وأنت تريد أن تخفيه انطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت وإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك، فلما سمع قولهم قال: ما وجدت شيئاً وقال قد وقعت في كل شيء أحذر منه قالوا: يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وخاف حتى إنه لم يردّ إليهم جواباً، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطرحوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 في عنقه وجعلوا يقودونه في سكك المدينة حتى سمع من فيها فقيل أخذ رجل عنده كنز واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه قط، وما نعرفه فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة وكان متيقناً أنّ أباه وإخوته في المدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به، فبينما هو قائم كالحيران ينظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من بين أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر أسطيوس، فلما انطلقوا به إليهما ظنّ تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون وجعل تمليخا يبكي ويرفع رأسه إلى السماء. وقال: اللهمّ إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم عليّ صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني بها عند هذا الجبار وجعل يقول في نفسه: فرّق ما بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتوني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار فإنا كنا توافقنا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنّ لا نشرك به شيئاً ولا نفترق في حياة ولا موت، فلما انتهى به إلى الرجلين الصالحين ورأى أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ فقال تمليخا: ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق أبائي ونقش المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال أحدهما: ممن أنت؟ فقال تمليخا: أمّا أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة قالوا: فمن أبوك؟ ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه فقال له: أحدهما أنت رجل كذاب لا تأتينا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً حتى ينفلت منكم. فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً: أتظنّ انا نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه الورق وضربها أكثر من ثلاثمئة سنة، وأنت غلام شاب وتظنّ أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ وشمط كما ترى وحولك سراة هذه المدنية وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته، فلما قال ذلك قال لهم تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدّقتكم عما عندي فقالوا: سل لا نكتمك شيئاً. قال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا: ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ولم يكن إلا ملكاً هلك منذ زمان ودهر طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة. فقال تمليخا: إني إذا لحيران وما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول لقد كنا فتية وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت لأشتري طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي فلما سمع أريوس ما يقول تمليخا قال: يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله تعالى جعلها الله تعالى لكم على يد هذا الغلام فانطلقوا بنا معه ليرينا أصحابه فانطلق معه أريوس وأسطيوس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصخاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه فظنوا أنه قد أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتحققونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة عندهم فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليأتوا بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضاً. وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذا هم باريوس وأصحابه وقوف على باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليهم الخبر كله فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى ذلك الزمن الطويل، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث ويعلم الناس أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجالاً من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجد فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومطرونس وكشطونس وبيرونس وبيطونس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله تعالى وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوساً مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخرّ أريوس وأصحابه سجوداً وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية من آياته، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوه من ملكهم دقيانوس ثم إنّ أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تندوسيس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله تعالى على ملكك وجعلها آية للعالمين ليكون لهم نوراً وضياء وتصديقاً للبعث، فاعجل إلى فتية بعثهم الله تعالى وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، فلما أتى الملك الخبر قام ورجع إليه عقله وذهب همه، فقال: أحمد الله ربّ السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطوّلت عليّ ورحمتني فلم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك فلما نبئ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية تندوسيس فرحوا به وخرّوا سجداً على وجوههم وقام تندوسيس قدّامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله تعالى ويحمدونه ثم قالوا له: نستودعك الله السلام عليك ورحمة الله وبركاته وحفظك وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجنّ، فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم وقام الملك تندوسيس إليهم فجعل ثيابه عليهم، وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام وقالوا له إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكن خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه فأمر الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 حينئذٍ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم، وقيل إنّ تمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أنّ فتية فقدوا في الزمان الأوّل وأن أسماؤهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا باللوح فنظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب في ذكر أسماء ألاخرين فقال تمليخا: هم أصحابي فلما سمع الملك ذلك ركب هو ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي وأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم فقضبت روحه وأرواحهم وأغمي على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا عليهم. ثم وقع التنازع في أمرهم بين أهل المدينة كما قال تعالى: {إذ يتنازعون} ، أي: أهل المدينة {بينهم أمرهم} ، أي: أمر الفتية في البناء حولهم {فقالوا} ، أي: الكفار {ابنوا عليهم} ، أي: حولهم {بنياناً} يسترهم فإنهم كانوا على ديننا وقوله تعالى: {ربهم أعلم بهم} يجوز أن يكون من كلام الله تعالى وأن يكون من كلام المتنازعين فيهم {قال الذين غلبوا على أمرهم} ، أي: أمر الفتية وهم المؤمنون {لنتخذن عليهم} ، أي: حولهم {مسجداً} يصلى فيه وفعل ذلك على باب الكهف، وقيل: إنّ بعضهم قال: الأولى أن نسدّ باب الكهف عليهم لئلا يدخل أحد عليهم ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال الآخرون: بل الأولى أن نبني على باب الكهف مسجداً وهذا القول يدل على أنّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله ومعترفين بالعبادة والصلاة، وقيل: تنازعوا في مقدار مكثهم وقيل في عددهم وأسمائهم. تنبيه: بنياناً يجوز أن يكون مفعولاً به جمع بنيانة وأن يكون مصدراً. ولما ذكر أصحاب الكهف عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع الاختلاف في عددهم كما قال تعالى: أي: الخائضون في قصتهم من أهل الكتاب والمؤمنين فقال بعض أهل الكتاب: {ثلاثة رابعهم كلبهم} ، أي: هم ثلاثة رجال ورابعهم كلبهم بانضمامه إليهم {ويقولون} ، أي: بعضهم {خمسة سادسهم كلبهم} فهذان القولان لنصارى نجران وقيل الأوّل قول اليهود والثاني قول النصارى. فإن قيل: لم جاءت سين الاستقبال في الأوّل دون الأخيرين؟ أجيب: بانّ في ذلك وجهين أن تدخل الأخيرين في حكم السين كما تقول قد أكرم وأنعم تريد معنى التوقع في الفعلين وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له. ولما كان قولهم ذلك بغير علم كان {رجماً بالغيب} ، أي: ظناً في الغيبة عنهم فهو راجع إلى القولين معاً ونصب على المفعول له، أي: لظنهم ذلك {ويقولون} ، أي: المؤمنون {سبعة وثامنهم كلبهم} قال أكثر المفسرين: هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه الأوّل أنه تعالى لما حكى قوله {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} قال بعده: {قل ربي أعلم بعدّتهم ما يعلمهم إلا قليل} وأتبع القولين الأوّلين بقوله تعالى: {رجماً بالغيب} وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أنّ الحال في الباقي بخلافه أن يكون المخصوص بالظنّ الباطل هو القولان الأوّلان، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونه رجماً بالغيب. الوجه الثاني: أنّ الواو في قوله تعالى: {وثامنهم} هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً من المعرفة في نحو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 قولك جاءني رجل ومعه آخر توكيد للصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتصافه بها أمرثابت مستقرّ فكانت هذه الواو دالة على أنّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وقول محمد بن إسحاق: إنهم كانوا ثمانية مردود فكأنّ الله تعالى حكى اختلافهم وتم الكلام عند قوله: {ويقولون سبعة} ثم حقق هذا القول بقوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} والثامن لا يكون إلا بعد السبع وهذه الواو يسمونها واو الثمانية لأنّ العرب تعد فتقول واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأنّ العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة ونظير هذه الآية في ثلاث آيات وهو قوله تعالى: {والناهون عن المنكر} (التوبة، 112) وقوله تعالى: {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} (الزمر، 71) لأنّ ابواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله تعالى: {ثيبات وأبكاراً} (التحريم، 5) . قال القفال: وقولهم واو الثمانية ليس بشيء بدليل قوله تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} (الحشر، 23) ولم يذكروا الواو في النعت الثامن اه. وقد يجاب بأنّ ذلك جرى على الغالب. الوجه الثالث: أنه تعالى قال: {ما يعلمهم إلا قليل} وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدّتهم لذلك القليل. وكان ابن عباس يقول: أنا من أولئك العدد القليل وكان يقول: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم. وكان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول: كانوا سبعة. وقال الرازي: وأسماؤهم تمليخا مكسلمينا مشلينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك وعن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان الملك يستشير هؤلاء الستة ليتصرّفوا في مهماته، والسابع كشفططيوش وهو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: هم مكشلمينا وتمليخا ومرطونس ويدنونس ودونواقس وكقشططونس وهو الراعي واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس. تنبيه: في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة كما تقدّم تقديره فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه وقيل: الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم، أي: ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على الظنّ. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعها بأن نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن شيئين عن المراء وعن الاستفتاء أمّا النهي عن المراء فبقوله تعالى: {فلا تمار} ، أي: تجادل {فيهم} ، أي: في شأن الفتية {إلا مراء} ، أي: جدالاً {ظاهراً} ، أي: غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير أن تكذبهم في تعيين ذلك العدد ونظيره قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (العنكبوت، 46) ، وأمّا النهي عن الاستفتاء فقوله تعالى: {ولا تستفت فيهم} ، أي: ولا تسأل {منهم} ، أي: من أهل الكتاب اليهود {أحداً} عن قصتهم سؤال مسترشد لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم وفيما أوحى إليك مندوحة عن غيره ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق. ولما سأل أهل مكة عن خبر أهل الكهف فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبركم به غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً نزل: {ولا تقولنّ لشيء} ، أي: لأجل شيء تعزم عليه {إني فاعل ذلك} الشيء {غداً} ، أي: فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة. {إلا أن يشاء الله} الله إلا متلبساً بمشيئته بأن تقول إن شاء الله والسبب في ذلك أنّ الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضاً إن بقي حياً أن يعيقه عن ذلك الفعل سائر العوائق فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفر لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلهذا السبب وجب عليه أن يقول إن شاء الله حتى إذا تعذر عليه الوفاء بذلك الوعد لم يصر كاذباً ولم يحصل التنفير. تنبيه: قال كثير من الفقهاء: إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع عليه الطلاق لأنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئته تعالى لم يقع عليه الطلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ومشيئة الله تعالى غيب لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة وقع وهو الطلاق، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة إلا إذا وقع الطلاق ولا يعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفت المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منهما على العلم بالآخر وهو دور فلهذا لا يقع الطلاق وقيل المراد إلا أن يشاء الله، أي: إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك القول والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك بأنك تفعل الفعل الفلاني إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك الإخبار، وقد احتج القائلون بأنّ المعدوم شيء بهذه الآية لأنّ الشيء الذي سيفعله غداً معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. وأجيب: بأنّ هذا الاستدلال لا يفيد إلا أنّ المعدوم يسمى بكونه شيئاً وعندنا أنّ السبب فيما سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما قال تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل، 1) والمراد سيأتي أمر الله. واختلف في معنى قوله تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} فقال ابن عباس ومجاهد والحسن: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس: لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدّة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في رفع الحنث. وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم، وعن طاوس لا يقدر على الاستثناء إلا في مجلسه. وعن عطاء يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة وعند عامّة الفقهاء أنه لا أثر له في الكلام ما لم يكن موصولاً واحتج ابن عباس بأنّ قوله إذا نسيت غير مختص بوقت غير معين بل هو متناول لكل الأوقات وظاهره أنّ الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً أمّا عامّة الفقهاء فقالوا: لو جوّزنا ذلك للزم أن لا يستقرّ شيء من العقود والإيمان يحكى أنّ المنصور بلغه أنّ أبا حنيفة خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له الإمام أبو حنيفة: هذا يرجع عليك لأنك تأخذ البيعة بالإيمان أترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي الله عنه واستدلّ بأنّ الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى: {أوفوا بالعقود} (المائدة، 1) وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد} (الإسراء، 34) فإذا أتى بالعقد أو العهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلاً لأنّ الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أنّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً فهو جار مجرى بعض الكلمة الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، فإذا لم يكن متصلاً أفاد الالتزام التامّ فوجب الوفاء بذلك الملتزم، وقيل أنّ قوله تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله. قال عكرمة: واذكر ربك إذا غضبت وقال وهب: مكتوب في الانجيل ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 الضحاك والسدي هذا في الصلاة المنسية. قال الرازيّ: وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القصة وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز وفي قوله تعالى: {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً} وجوه الأوّل: أن يكون قوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} ليس يحسن تركه وذكره أولى من تركه وهو قوله: {لأقرب من هذا رشداً} والمراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني: أنه لما وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول وعسى أن يهدين ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. الثالث: أنّ قوله: {عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً} إشارة إلى قصة أصحاب الكهف،، أي: لعلّ الله يوفقني من البينات والدلائل على صحة نبوّتي وصدقي في ادعاء النبوّة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل الله تعالى ذلك حين آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك. ثم شرع تعالى في آية هي آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف بقوله تعالى: {ولبثوا في كهفهم} ، أي: نياماً {ثلاثمئة} ، أي: مدّة ثلاثمئة {سنين} قال بعضهم: وهذه السنون الثلاثمئة عند أهل الكتاب شمسية وتزيد القمرية عليها تسع سنين وقد ذكرت في قوله: {وازدادوا تسعاً} ، أي: تسع سنين لأنّ التفاوت بين الشمسة والقمرية في كل ما ئة سنة ثلاث سنين لأنّ السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة فالثلاثمئة سنة الشمسية ثلاثمئة وتسع قمرية قال الرازي: وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال لعلهم لما استكملوا ثلاثمئة سنة قرب أمرهم من الإنتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين وقرأ حمزة والكسائي بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين فسنين عطف بيان لثلاثمائة لأنه لما قال: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمئة} لم يعرف أنها أيام أو شهور أو سنون، فلما قال: {سنين} صار هذا بياناً لقوله ثلاثمئة فكان ذلك عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير، أي: لبثوا سنين ثلاثمئة. وأمّا وجه القراءة الأولى فهو أنّ الواجب في الإضافة أن يقال ثلاثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله تعالى: {بالأخسرين أعمالاً} (الكهف، 103) وحذف مميز تسع لدلالة ما تقدّم عليه إذ لا يقال عندي ثلاثمئة درهم وتسعة إلا وأنت تعني تسعة دراهم، ولو أردت ثياباً أو نحوها لم يجز لأنه ألغاز. ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا نازعوه في مدّة لبثهم في الكهف بقوله تعالى: {قل الله أعلم بما لبثوا} ، أي: فهو أعلم منكم وقد أخبر بمدّة لبثهم، وقيل إنّ أهل الكتاب قالوا إنّ المدّة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثمئة سنين وازدادوا تسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال: الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله {له غيب السموات والأرض} ، أي: ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب ما يغيب عن إدراكك والله عز ذكره لا يغيب عن إدراكه شيء فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة وقوله تعالى: {أبصر به وأسمع} كلمة تذكر في التعجب، أي: ما أبصر الله تعالى بكل موجود وما أسمعه بكل بمسموع {ما لهم} ، أي: أهل السموات والأرض {من دونه} ، أي: الله {من وليّ} ، أي: ناصر {ولا يشرك في حكمه} ، أي: في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 قضائه {أحداً} منهم ولا يجعل له فيه مدخلاً لأنه غني بذاته عن كل أحد، وقيل الحكم هنا علم الغيب، أي: لا يشرك في علم غيبه أحداً. وقرأ ابن عامر بالمثناة فوق قبل الشين وبسكون الكاف على نهي كل أحد عن الإشراك، والباقون بالتحتية وضمّ الكاف. تنبيه: احتج أصحابنا رحمهم الله تعالى بهذه القصة على صحة القول بالكرامة للأولياء وقد قدمنا معرفة الوليّ في سورة يونس عند قوله تعالى: {إلا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس، 62) فمما يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول، أمّا القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات الحجة الأولى قصة مريم عليها السلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها. الحجة الثانية: قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم سالمين من الآفات مدّة ثلاثمئة سنة وتسع سنين، وأنّ الله تعالى كان يعصمهم من حرّ الشمس، ومن الناس من تمسك أيضاً في هذه المسألة بقوله تعالى: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك} (النمل، 40) على أنه غير السيد سليمان والسيد جبريل. وأما الأخبار فكثيرة منها ما أخرج في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة؛ عيسى بن مريم وصبيّ في زمن جريج وصبيّ آخر؛ وأمّا عيسى فقد عرفتموه، وأمّا جريج فكان رجلاً عابداً في بني إسرائيل وكانت له أمّ فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمّه فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمّي وصلاتي الصلاة خير أم رؤيتها ثم يصلي فدعته ثانياً فقال: مثل ذلك حتى تم ثلاث مرّات وكان يصلي ويدعها فاشتدّ ذلك على أمّه فقالت: اللهمّ لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت زانية في بني إسرائيل فقالت لهم: أنا أفتن جريجاً حتى يزني بي فأتته فلم تقدر على شيء، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى صومعته فلما أعياها جريج راودّت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت: ولدي هذا من جريج، فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه ثم نخس الغلام قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال بيده: يا غلام من أبوك؟ فقال: الراعي. فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأمّا الصبيّ الآخر فإنّ امرأة كان معها صبيّ لها ترضعه إذ مرّ بها شاب جميل ذو شارة فقالت: اللهمّ اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبيّ: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثم مرّ بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت: اللهمّ لا تجعل ابني مثل هذه. فقال الصبيّ: اللهمّ اجعلني مثلها. فقالت له أمّه في ذلك، فقال: إنّ الراكب جبار من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإنّ هذه قيل لها زنيت ولم تزن وقيل له سرقت ولم تسرق وهي تقول: حسبي الله فأحببت أن أكون مثلها» . ومنها خبر الغار وهو مشهور في الصحيح عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدّت عليهم باب الغار» وقد ذكرت ذلك عند قوله تعالى: {كانوا من آياتنا عجباً} (الكهف، 9) . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره» . ولم يفرق من شيء وشيء فيما يقسم به على الله تعالى. ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 يسوق بقرة قد حمل عليها التفتت البقرة، وقالت: إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس: سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بهذا وأبو بكر وعمر» . ومنها ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل سمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال: فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له: ما اسمك؟ قال: فلان ابن فلان قلت: فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال: ولم تسأل عن ذلك. قلت: لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال: أمّا إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً» . وأمّا الآثار فكثيرة ايضاً ولنبدأ منها ببعض ما نقل أنه ظهر على يد الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم ببعض ما ظهر على يد بعض الصحابة. أمّا أبو بكر رضي الله تعالى عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر بالباب فإذا بالباب قد فتح وإذا بهاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، وأمّا عمر رضي الله تعالى عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته النوع الأوّل ما روي أنه لما بعث جيشاً وأمرّ عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينما عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كتبت تاريخ هذه الكلمة فلما قدم رسول ذلك الجيش فقال: يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهرنا إلى الجبل فهزم الله تعالى الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت. قال الرازي: قلت سمعت بعض المذكرين قال: كان ذلك معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر: «أنتما بمنزلة السمع والبصر» ، فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى الله عليه وسلم لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم. النوع الثاني: ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة فكان لا يجري حتى تلقى فيه جارية حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص إلى عمر فكتب عمر على خرقة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت إنما تجري بأمرك لا حاجة بنا إليك فألقيت تلك الخرقة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك. النوع الثالث: لما وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر بالدرّة على الأرض وقال: اسكني بأذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الوقت. النوع الرابع: وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة يا نار اسكني بأذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال. النوع الخامس: ما روي أنّ رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظنّ أن داره مثل قصور الملوك فقالوا ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر وضع درّته تحت رأسه ونام على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال أهل المشرق والمغرب يخافون هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ثم قال في نفسه إن وجدته خالياً فاقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله تعالى من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم. قال الرازي: وأقول هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الواقعة رويت بالآحاد وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وغلب الممالك والدول ولو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أوّل عهد عمر إلى الآن ما تيسر له، فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أنّ هذا من أعظم الكرامات. وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة، منها ما روي عن أنس قال: سرت في الطريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلتُ على عثمان فقال: ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ولكن فراسة صادقة، ومنها أنه لما طعن بالسيف فأوّل قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} (البقرة، 137) . ومنها أنّ جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان فكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته. وأما علي رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة أيضاً، منها ما روي أنّ واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى عليّ فقال: أسرقت؟ فقال: بلى. فقطع يده فانصرف من عند علي فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء. فقال ابن الكواء: من قطع يدك؟ فقال له: أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال له سلمان: قطع يدك وتمدحه. فقال: ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار، فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل، ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء: إرفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برئت. وأما ما روي عن بعض الصحابة فشيء كثير، ونذكر منها شيئاً قليلاً، منها ما روى محمد بن المنكدر عن سفينة قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، وركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إليّ يريدني فقلت: يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتقدّم الأسد إليّ ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودّعني ورجع. ومنها ما روى ثابت عن أنس أنّ أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدّثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وكان في يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما افترقت بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى حتى بلغ منزله. ومنها ما روي أنه قيل لخالد بن الوليد أنّ في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه خمر فقال: ما هذا؟ قال: خل. فقال خالد: اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى أصحابه فقال: أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثله فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا: والله ما جئتنا إلا بخل فقال: والله هذا دعاء خالد. ومنها الواقعة المشهورة وهي أنّ خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضرّه. ومنها ما روي أنّ ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم، ثم قال: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. ومنها ما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث العلاء الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحدّ والحصر فمن أرادها طالعها. وأما الدلائل العقلية على جواز الكرامات فمن وجوه: الأوّل: أنه صلى الله عليه وسلم قال حاكياً عن رب العزة: «من آذى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة» فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول يوم القيامة: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، استسقيتك فما سقيتني، استطعمتك فما أطعمتني، فيقول: يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين فيقول: إنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي» . وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أنّ أولياء الله يبلغون هذه الدرجات العالية والمراتب الشريفة. فإذا جاز اتصال العبد إلى هذه الدرجات فأيّ بعد أن يعطيه الله تعالى كسرة خبز أو جرعة ماء أو يسخر له كلباً أو دودة. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال عن رب العزة: «ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترض عليه، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً وقلباً ولساناً ويداً ورجلاً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي» . وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله تعالى لما قال: أنا سمعه وأنا بصره، وهذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع، وإعطاء عنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة من الماء في مفازة. الوجه الثالث: لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إمّا لأجل أنّ الله تعالى ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أنّ المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأوّل قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر. والثاني باطل فإنّ معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة وتسخير حية أو أسد فإن إعطاءه المحبة والذكر والشكر من غير سؤال أولى من أن يعطيه شربة ماء في مفازة فأي بعد فيه. واحتج المنكر للكرامات بوجوه: الأوّل: أنّ ظهور الفعل الخارق للعادة جعله الله تعالى دليلاً على النبوّة فلو حصل لغير النبيّ لبطلت هذه الدلالة. الوجه الثاني: أنّ الله تعالى قال: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} (النحل، 7) . والقول بأنّ الوليّ ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على هذا الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أنّ الوليّ ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في اليوم الواحد. الوجه الثالث: أنّ هذا الوليّ الذي يظهر عليه الكرامات إذا ادّعى على إنسان درهماً واحداً فهل يطلب بالبينة أم لا فإن طالبناه بها كان عبثاً لأنّ ظهور الكرامة عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم يطالب بها فقد تركنا قوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدّعي» . فهذا يدل على أنّ القول بالكرامة باطل، وأجيب عن الأوّل بأنّ الناس اختلفوا هل يجوز للولي دعوى الولاية؟ فقال قوم من المحققين إنه لا يجوز فعلى هذا الفرق بين المعجزة والكرامة، أنّ المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوّة والكرامة لا تكون مسبوقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 بدعوى الولاية وعلى القول بالجواز الفرق بينهما أنّ النبيّ يدّعي المعجزة ويقطع بها والوليّ إذا ادّعى الكرامة لا يقطع بها لأنّ المعجز يجب ظهوره، والكرامة لا يجب ظهورها، وأجيب عن الثاني بأنّ قوله تعالى: {وتحمل أثقالكم} إلى آخره محمول على المعهود المتعارف، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثنيات من ذلك العموم المتعارف، وأجيب عن الثالث بأنّ التمسك بالأمور النادرة لا يعول عليه في الشرع فلا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدّعي» . ومع هذا فصاحب الكرامة يجب عليه أن يكون خائفاً وجلاً ولهذا قال المحققون: أكثر ما حصل الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أشدّ أنواع البلاء. والذي يدل على أنّ الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه: الأوّل: أنّ الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه وتعالى فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور. الوجه الثاني: أنّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومن كان لعمله وقع عظيم في قلبه كان جاهلاً إذ لو عرف ربه لعلم أنّ كل طاعات الخلق في جنب جلاله تقصير وكل شكر في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل. وجدت في بعض الكتب أنه قرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر، 10) فقال: علامة أنّ الحق رفع عملك أن لا يبقى عندك مرتقى عملك في نظرك، فإن بقي عملك في نظرك فهو غير مرفوع وإن لم يبق عملك في نظرك فهو مرفوع مقبول. الوجه الثالث: أنّ صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتضرّع في حضرة الله تعالى، فإذا ترفع وتكبر وتجبر بسبب الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق يؤدّي ثبوته إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر صلى الله عليه وسلم مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر، أي: لا أفخر بهذه الكرامات، وإنما أفخر بالمكرم والمعطي. الوجه الرابع: أنه تعالى وصف عباده المخلصين بقوله تعالى: {ويدعوننا رغباً} (الأنبياء، 90) ، أي: في ثوابنا {ورهباً} ، أي: من عذابنا. وقيل رغباً في وصالنا ورهباً من عقابنا. قال بعض المحققين: والأحسن أن يقال رغباً فينا ورهباً عنا، وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، جعلنا الله تعالى وأحبابنا من أهل ولايته بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحابته. ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث أنها من المغيبات بالإضافة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه بقوله تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} ، أي: القرآن واتبع ما فيه واعمل بما فيه {لا مبدّل لكلماته} ، أي: لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره، وقال بعضهم: مقتضى هذا أن لا يتطرق النسخ إليه وأجاب بأنّ النسخ في الحقيقة ليس تبديلاً لأنّ المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً وهذا لا يحتاج إليه مع التفسير المذكور {ولن تجد من دونه} ، أي: الله {ملتحداً} ، أي: ملجأً في البيان والإرشاد وقيل إن لم تتبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 القرآن. ونزل في عيينة بن حصن الفزاري لما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه ثم ينسجه فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، أي: كما قال قوم نوح: {أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون} (الشعراء، 111) فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً واجعل لهم مجلساً. {واصبر نفسك} ، أي: احبسها وثبتها {مع الذين يدعون ربهم} ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه} (الأنعام، 52) ففي تلك الاية نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن طردهم، وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم وفي قوله تعالى: {بالغداة والعشيّ} وجوه الأوّل: أنهم مواظبون على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل ليس لفلان عمل بالغداة والعشيّ إلا شتم الناس. الثاني: المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث: أنّ المراد الغداة وهو الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من النوم إلى اليقظة، وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة، والعشيّ هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من الحياة إلى الموت ومن اليقظة إلى النوم، والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله تعالى عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه وقرأ ابن عامر بضم الغين المعجمة وسكون الدال وبعدها واو مفتوحة والباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها والرسم في المصحف بالواو هنا وفي سورة الأنعام. {يريدون} بعبادتهم {وجهه} تعالى، أي: رضاه وطاعته لا شيئاً من أعراض الدنيا {ولا تعد} ، أي: تنصرف {عيناك عنهم} إلى غيرهم وعبر بالعينين عن صاحبهما فنهى صلى الله عليه وسلم أن يصرف بصره ونفسه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون وقوله تعالى: {تريد زينة الحياة الدنيا} في موضع الحال، أي: إنك إن فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا. ولما بالغ تعالى في أمره في مجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين بقوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} ، أي: جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا، أي: عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف {واتبع هواه} ، أي: في طلب الشهوات {وكان أمره فرطاً} ، أي: إسرافاً وباطلاً، وهذا يدل على أنّ أشرّ أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق، لأنّ ذكر الله تعالى نور وذكر غيره ظلمة لأنّ الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله تعالى وما سواه فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله تعالى فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامّة والإعراض عن الحق هو المراد بقوله تعالى: {أغفلنا قلبه عن ذكرنا} والإقبال على الخلق هو المراد بقوله تعالى: {واتبع هواه} . روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وأنّ بعضهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ما الذي كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله كان واحد يقرأ من القرآن ونحن نسمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل من أمّتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا وقال: أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة فتدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة سنة» . ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا: إن طردت الفقراء آمنا بك. قال تعالى بعده: {وقل الحق} ، أي: وقل لهؤلاء ولغيرهم هذا الذي جئتكم به في أمر أهل الكهف وغيرهم من هذا الوجه العربي المعرى عن العوج الظاهر الإعجاز الباهر الحجج الحق كائناً {من ربكم} المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين والإعراض عمن سواهم وغير ذلك لا ما قلتموه في أمرهم، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ وخبره الجار بعده {فمن شاء} ، أي: منكم ومن غيركم {فليؤمن} بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً رث الهيئة ولم ينفع إلا نفسه {ومن شاء} منكم ومن غيركم {فليكفر} فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة وإن تعاظمت هيئته وهذا لا يقتضي استقلال العبد بفعله كما تقول المعتزلة، فعن ابن عباس في معنى الآية من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: هذه الصيغة تهديد ووعيد، أي: فهي كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت، 40) فإن الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضرّ بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود على المؤمن وضرر الكفر بعود على الكافر كما قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء، 7) ولما هدد السامعين بما حاصله ليختار كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله أتبعه بذلك الوعيد والأفعال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والأعمال الصالحة، أمّا الوعيد فقوله تعالى: {إنا أعتدنا} ، أي: هيأنا بما لنا من العظمة والقدرة {للظالمين} ، أي: لمن أنف عن قبول الحق لأجل أنّ الذين قبلوه فقراء ومساكين وكذا كل من لم يؤمن {ناراً} وهي الجحيم ثم وصف الله تعالى تلك النار بصفتين؛ الأولى قوله تعالى: {أحاط بهم} كلهم {سرادقها} ، أي: فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل هو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل حائط من نار والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرّجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة من كل الجوانب، وقيل هو دخان يغشاهم قبل دخولهم النار يحيط بهم كالسرداق حول الفسطاط. الصفة الثانية قوله تعالى: {وإن يستغيثوا} ، أي: يطلبوا الغوث {يغاثوا بماء} ووصف هذا الماء بصفتين؛ الأولى قوله تعالى: {كالمهل} وهو كما في حديث مرفوع دردي الزيت، وعن ابن مسعود أنه دخل بيت المال وأخرج نقاعة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال: هذا هو المهل. وقال أبو عبيدة والأخفش: كل شيء أذبته من نحاس أو ذهب أو فضة فهو المهل. وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى: {تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية} (الغاشية: 4، 5) ويحتمل أن يستغيثوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 من حرّ جهنم فيطلبوا ما يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم: {أفيضوا علينا من الماء} (الأعراف، 50) . وقال تعالى في آية أخرى: {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم، 50) . فإذا استغاثوا من حرّ جهنم صب عليهم القطران الذي يعمّ كل أبدانهم كالقميص. والصفة الثانية للماء: قوله تعالى: {يشوي الوجوه} ، أي: إذا قرب إلى الفم ليشرب فكيف بالفم والجوف ثم وصل تعالى بذلك ذمّه فقال تعالى: {بئس الشراب} ، أي: ذلك الماء الذي هو كالمهل لأنّ المقصود من شرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في إحراق الإنسان مبلغاً عظيماً ثم عطف عليه ذمّ النار المعدّة لهم بقوله تعالى: {وساءت} ، أي: النار وقوله تعالى: {مرتفقاً} تمييز منقول من الفاعل، أي: قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله تعالى الآتي في الجنة: {وحسنت مرتفقاً} وإلا فأي ارتفاق في النار. ولما ذكر تعالى وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين فقال تعالى: {إنّ الذين آمنوا} ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك بقوله تعالى: {وعملوا الصالحات} ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى: {إنا لا نضيع} ، أي: بوجه من الوجوه {أجر من أحسن عملاً} وهذه الجملة خبر إن الذين وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر والمعنى أجرهم، أي: نثيبهم بما تضمنه. {أولئك لهم جنات عدن} ، أي: إقامة فكأنه قيل فما لهم فيها فقيل: {تجري من تحتهم} ، أي: من تحت منازلهم {الأنهار} وذلك لأنّ أفضل المساكن ما كان تجري فيه الأنهار أو الماء فكأنه قيل ثم ماذا فقيل: {يحلون فيها} وبنى الفعل المجهول لأنّ المقصود وجود التحلية وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى. ولما كانت نعم الله لا تحصى نوع منها قال تعالى مبعضاً: {من أساور} جمع إسورة كاحمرة جمع سوار كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس وقيل من زائدة، وقيل للابتداء ومن في قوله تعالى: {من ذهب} للبيان صفة لأساور وتنكيرها لتعظيم جنسها عن الإحاطة به. وقيل للتبعيض. ولما كان اللباس جزاء العمل فكان موجوداً عندهم أسند الفعل إليهم فقال: {ويلبسون ثياباً خضراً} لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة ثم وصفها بقوله تعالى: {من سندس} وهو ما رقّ من الديباج {وإستبرق} وهو ما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وفي آية أخرى {بطائنها من إستبرق} (الرحمن، 54) فيكون الغليظ بطانة للرقيق، ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى: {متكئين فيها} ، أي: لأنهم في غاية الراحة {على الأرائك} جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس ثم مدح هذا بقوله تعالى: {نعم الثواب} ، أي: الجزاء الجنة لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {وحسنت} ، أي: الجنة كلها وبين ذلك بقوله تعالى: {مرتفقاً} ، أي: مقرّاً ومرتفقاً ومجلساً ولما افتخر الكفار بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين بيّن الله تعالى أنّ ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغنيّ فقيراً وأمّا الذي يجب الافتخار به فطاعة الله تعالى وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبيّن ذلك بضرب هذا المثل المذكور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 بقوله تعالى: {واضرب لهم} ، أي: لهؤلاء الأغنياء المتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم {مثلاً} لما آتاهم الله من زينة الحياة والدنيا واعتمدوا عليه وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه بل أدّاهم إلى الافتخار والتكبر على من زوي ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه {رجلين} إلى آخر الآية. واختلف في سبب نزولها فقيل نزلت في رجلين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر كافر وهو الأسود بن عبد ياليل، وهما ابنا عبد الأسد بن عبد ياليل. وقيل مثال لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقال مقاتل: تمليخا والآخر كافر واسمه فطروس وقال وهب قطفر، وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة والصافات وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال: كانا رجلين شركين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضاً بألف دينار فقال صاحبه: اللهمّ إنّ فلاناً قد اشترى أرضاً بألف دينار وإني مشتر منك أرضاً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم إن صاحبه بنى داراً بألف دينار فقال صاحبه: اللهمّ إنّ فلاناً بنى داراً بألف دينار وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم تزوّج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا: اللهمّ إني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدّق بها ثم إنّ صاحبه اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال هذا: اللهمّ إني أشتري خدماً ومتاعاً من الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مرّ به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال له: فلان؟ قال: نعم. قال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك فأتيت لتعينني بخير قال: فما فعل مالك وقد اقتسمنا مالاً وأخذت شطره فقص عليه قصته فقال: وإنك لمن المصدّقين بهذا إذهب فلا أعطيك شيئاً فطرده. وروي أنه لما أتاه أخذ بيده فجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما {واضرب لهم مثلاً رجلين} ، أي: اذكر لهم خبر رجلين؛ {جعلنا لأحدهما جنتين} ، أي: بسانين يسر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما {من أعناب} لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها، ثم إنه تعالى وصف الجنتين بصفات الصفة الأولى قوله تعالى: {وحففناهما} ، أي: اطفناهما من جوانبهما {بنخل} لأنها من أشجار البلاد الحارّة، وتصبر على الحرور بما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخلّ، فكان النخل كالأكليل من وراء العنب. تنبيه: الحفاف الجانب وجمعه أحفة يقال: أحف به القوم، أي: أطافوا بجوانبه. الصفة الثانية قوله تعالى: {وجعلنا بينهما} ، أي: أرضي الجنتين {زرعاً} لبعد شمول الآفة للكل لأنّ زمان الزرع ومكانه غير زمان ثمار الشجر ومكانه وذلك هو العمدة في القوت فكانت الجنتان أرضاً جامعة لخير الفاكهة وأفضل الأقوات وعمارتهما متواصلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 متشابكة لم يتوسطها ما يقطعهما ويفصل بينهما مع سعة الأطراف وتباعد الأكتاف وحسن الهيئات والأوصاف. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {كلتا} ، أي: كل واحدة من {الجنتين} المذكورتين {آتت أكلها} ، أي: ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة وهو بمعنى {ولم تظلم} ، أي: ولم تنقص {منه شيئاً} يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالباً والظلم النقصان تقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني. تنبيه: كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد ومعرفة يؤكد به مؤنثان معرفتان وإنما إذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك. وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجرّ والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً فقوله تعالى: {آتت أكلها} حمل على اللفظ لأنّ كلتا لفظ مفرد ولو قيل آتتا على المعنى لجاز. الصفة الرابعة: قوله تعالى: {وفجرنا خلالهما نهراً} ، أي: وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم} (التوبة، 47) ومنه يقال خللت القوم، أي: دخلت القوم وذلك ليدوم شربهما ويستغنيا عن المطر عند القحط ويزيد بهاؤهما. الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وكان له} ، أي: صاحب الجنتين {ثمر} ، أي: أنواع من المال سوى الجنتين قال ابن عباس: من ذهب وفضة وغير ذلك من أثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة خاصة، أي: كان مع الجنتين أشياء من الأموال ليكون متمكناً من العمار بالأعوان والآلات وجميع ما يريد وقرأ أبو عمرو وثمر هنا وثمره الآتي بسكون الميم فيهما بعد ضم الثاء المثلثة، وقرأ عاصم بفتح المثلثة والميم فيهما والباقون بضم المثلثة والميم فيهما ذكر أهل اللغة أنّ الضم أنواع المال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب: وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الثمر المال والولد وأنشد للحرث بن حلزة: *ولقد رأيت معاشراً ... قد أثمروا مالاً وولدا وقال النابغة: *مهلاً فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد {فقال} ، أي: هذا الكافر {لصاحبه} ، أي: المسلم المجعول مثلاً للفقراء المؤمنين {وهو} ، أي: صاحب الجنتين {يحاوره} ، أي: يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا {أنا أكثر منك مالاً} لما ترى من جناتي وثماري، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بالقصر هذا في الوصل، وأمّا في الوقف فبالألف للجميع، وسكن قالون وأبو عمرو والكسائي هاء وهو وضمها الباقون ورقق ورش راء يحاوره {وأعز نفراً} ، أي: ناساً يقومون معي في المهمات وينفعون عند الضرورات لأنّ ذلك لازم لكثرة المال غالباً وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه. {ودخل جنته} بصاحبه يطوف به فيها ويفاخرهُ بها وأفرد الجنة لإرادة الجنس ودلالة ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة وإشارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظّ له في الآخرة {وهو} ، أي: والحال أنه {ظالم لنفسه} لاعتماده على ماله والإعراض عن ربه، ثم استأنف بيان ظلمه بقوله تعالى: {قال ما أظنّ أن تبيد} ، أي: تنعدم {هذه} ، أي: الجنة {أبداً} لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بجهله ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فأنكر البعث بقوله: {وما أظنّ الساعة قائمة} ، أي: كائنة استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه وقوله: {ولئن رددت إلى ربي} المحسن إليّ في هذه الدار في الساعة إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وعلى ما يزعم صاحبه أنّ الساعة قائمة {لأجدنّ خيراً منها} ، أي: من هذه الجنة {منقلباً} ، أي: مرجعاً لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قال ذلك طمعاً وتمنياً على الله وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه كقوله: أنّ لي عنده الحسنى لأوتين مالاً وولداً. {قال له صاحبه} ، أي: المؤمن {وهو} ، أي: والحال أنّ ذلك الصاحب {يحاوره} ، أي: يراجعه منكراً عليه {أكفرت بالذي خلقك من تراب} ، أي: خلق أصلك آدم من تراب لأنّ خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له {ثم من نطفة} متولدة من أغذية أصلها تراب هي مادّتك القريبة {ثم سوّاك} ، أي: عدلك بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة {رجلاً} ، أي: كملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى لأنّ منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ولذلك ترتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإنّ من قدر على بدء خلقه مرّة قدر على أن يعيده منه، ولما أنكر على صاحبه أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه. {لكنا} أصله لكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى النون وحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها كما قال القائل: *وترمينني بالطرف، أي: أنت مذنب ... وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي أي لكن أنا لا أقليك. ولما كان سبحانه وتعالى لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال: {هو} ، أي: الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك {الله} ، أي: المحيط بصفات الكمال {ربي} وحده لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره وهذا اعتقادي في الماضي والحال. وقرأ ابن عامر بإثبات الألف بعد النون وقفاً ووصلاً لاتباع المرسوم والباقون بإثبات الألف بعد النون وقفاً وحذفها وصلاً. فإن قيل: قوله لكنا استدراك لماذا؟ أجيب: بأنه لقوله {أكفرت} فكأنه قال لأخيه: أكفرت بالله لكني مؤمن موحد، كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر. وذكر القفال في قول المؤمن: {ولا أشرك بربي} ، أي: المحسن إليّ في عبادتي {أحداً} وجوهاً أحدها: أني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلى، ولا أكفر عندما ينعم عليّ ولا أرى كثرة الأموال والأعوان من نفسي وذلك لأنّ الكافر لما اغتر بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى. وثانيها: لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبيّن هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها: أنّ هذا الكافر لما عجز الله تعالى عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر: {ولولا إذ} ، أي: وهلا حين {دخلت جنتك قلت} عند إعجابك بها ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى وهو {ما شاء الله} ، أي: الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله كائن على أنّ ما موصولة، أي: وأي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف، أي: إقراراً بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أهلكها، وقرأ ابن ذكوان وحمزة بالإمالة والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام على شاء أبدل الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، وأظهر إذ عند الدال نافع وابن كثير وعاصم والباقون بالإدغام وهلا قلت: {لا قوّة إلا بالله} اعترافاً بالعجز على نفسك والقدرة لله وأنّ ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونة الله تعالى وإقداره أو لا يقوى أحد في بدنه ولا في غير ذلك إلا بالله. وفي الحديث «من أعطى خيراً من أهل أو مال فيقول عند ذلك ما شاء الله لا قوّة إلا بالله لم ير فيه مكروهاً» ثم إنّ المؤمن لما أعلم الكافر بالإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفس فقال: {إن ترني أنا أقلّ منك مالاً وولداً} أي: من جهة المال والولد، ويحتمل أن يكون أنا فصلاً وأن يكون تأكيداً للمفعول الأوّل. وقرأ قالون وأبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً وقوله تعالى: {فعسى ربي} ، أي: المحسن إليّ {أن يؤتيني} من خزائن رزقه {خيراً من جنتك} إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة لإيماني جواب الشرط {ويرسل عليها} ، أي: جنتك {حسباناً} جمع حسبانة، أي: صواعق {من السماء فتصبح} بعد كونها قرّة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع {صعيداً زلقاً} ، أي: أرضاً ملساء باستئصال بنيانها وأشجارها فلا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم وقوله: {أو يصبح ماؤها غوراً} ، أي: غائراً في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء مصدر وصف به كالزلق {فلن تستطيع} أنت {له} ، أي: للماء الغائر {طلباً} يصير بحيث لا تقدر على ردّه إلى موضعه، ثم إنه أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدّره هذا المؤمن فقال: {وأحيط} ، أي: وقعت الإحاطة بالهلاك وبني للمفعول لأنّ النكد حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص والدلالة على سهولته {بثمره} ، أي: الرجل المشرك كله واستؤصل هالكاً ما في السهل منه وما في الجبل وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر. قال بعض المفسرين: إنّ الله تعالى أرسل عليها ناراً فأهلكتها وغار ماؤها {فأصبح يقلب كفيه} ندماً ويضرب أحداهما على الأخرى تحسراً فتقلب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأنّ النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما يكنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد لأنه في معنى الندم فعدى تعديته كأنه قيل فأصبح يندم {على ما أنفق فيها} ، أي: في عمارتها ونمائها {وهي خاوية} ، أي: ساقطة {على عروشها} ، أي: دعائمها التي كانت تحتها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها. وقوله تعالى: {ويقول} عطف على يقلب أو حال من ضميره {يا} للتنبيه {ليتني} تمنياً لرد ما فاته لحيرته وذهول عقله ودهشته وعدم اعتماده على الله تعالى من غير إشراك بالاعتماد على الفاني {لم أشرك بربي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 أحداً} كما قال له صاحبه فندم حيث لا ينفعه الندم على ما فرّط في الماضي لأجل ما فاته على الدنيا لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدة. فإن قيل: إنّ هذا الكلام يوهم أن جنته إنما هلكت بشؤم شركه وليس مراداً لأنّ أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون} (الزخرف، 33) . وقال صلى الله عليه وسلم «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» . وأيضاً لما قال: {يا ليتني لم أشرك بربي أحداً} فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال تعالى بعده: {ولم تكن له فئة} ، أي: جماعة من نفره الذين اغتر بهم ولا من غيرهم {ينصرونه} مما وقع فيه {من دون الله} عند هلاكها {وما كان} هو {منتصراً} بنفسه بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده. أجيب: عن الأوّل بأنه لما عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في عمره كله عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي محروماً من الدنيا والدين، وعن الثاني بأنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في ذلك لأجل طلب الدنيا فلذلك لم يقبل الله توحيده. وقرأ حمزة والكسائي يكن بالتحتيتة على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا أمر لغير الله تعالى المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم ولإغنائهم بعد فقرهم ولإذلال أعدائهم بعد عزهم وكبرهم وإفقارهم بعد إغنائهم وحده وإن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له، صرّح بذلك في قوله تعالى: {هنالك} ، أي: في مثل هذه الشدائد العظيمة {الولاية لله} ، أي: الذي له الكمال كله، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الواو وأي الملك والباقون بفتحها، أي: النصرة وقوله تعالى: {الحق} قرأه أبو عمرو والكسائي برفع القاف على الاستئناف والقطع تعليلاً تنبيهاً على أنّ فزعهم في مثل هذه الأزمان إليه تعالى دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل وأنّ الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل، وأنّ المؤمنين لا يصيبهم فقر ولا يسوغ طردهم لأجله وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوّة وقرأه الباقون بخفضها على الوصف، أي: الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول ولا يغفل ساعة ولا ينام ولا ولاية لغيره بوجه {هو خير ثواباً} من ثواب غيره لو كان يثيب {وخير عقباً} ، أي: عاقبة للمؤمنين، وقرأ عاصم وحمزة بسكون القاف والباقون بضمها ونصب على التمييز. ولما تمّ المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أنظرتهم فكانت سبباً لشقاوتهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامّة لجميع الناس في قلة ثوابها وسرعة فنائها وأنّ من تكبر كان أخس منها فقال: {واضرب} ، أي: صير {لهم} ، أي: لهؤلاء الكفار المغترّين بالعرض الفاني المفتخرين بكثرة ذكر الأموال والأولاد وعزة النفر. وقوله تعالى: {مثل الحياة الدنيا} مفعول أوّل ثم ذكر المثل بقوله تعالى: {كماء} وهو المفعول الثاني {أنزلناه} بعظمتنا وقدرتنا وقال تعالى: {من السماء} تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة {فاختلط} ، أي: فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط {به نبات الأرض} ، أي: التف بسببه حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 خالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه كما قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} (الحج، 5) . وقيل: اختلط ذلك الماء بالنبات حتى روى واهتز ونما وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض لكن لما كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته ثم إذا انقطع ذلك بالمطر مدّة جف ذلك النبات {فأصبح هشيماً} أي يابساً متفرّقة أجزاؤه {تذروه} ، أي: تنثره وتفرّقه {الرياح} فتذهب به والمعنى أنه تعالى شبه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرّقته الرياح حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع {وكان الله} ، أي: المختص بصفات الكمال {على كل شيء} من دون ذلك وغيره إنشاءً وإفناءً وإعادةً. {مقتدراً} أزلاً وأبداً بتكوينه اوّلا وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً فأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أوّلاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن ينتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به. تنبيه: قوله تعالى: {فأصبح} يجوز أن يكون على بابه فإنّ أكثر ما يطرق من الآفات صباحاً كقوله تعالى: {فأصبح يقلب كفيه} ويجوز أن يكون بمعنى صار من غير تقييد كقول القائل: *أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا ولما بيّن سبحانه وتعالى أنّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بيّن بقوله تعالى: {س18ش46/ش48 الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَ? * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى ا?رْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا? عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة?? بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} إدخال هذا الجزئيّ تحت هذا الكلي فينعقد به قياس بين الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا ولما كانت زينة الحياة الدنيا سريعة الانقضاء والانقراض أنتج إنتاجاً بديهياً أنّ المال والبنون سريع الانقضاء والانقراض وما كان كذلك فإنه ينتج بالعقل أن لا يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً وهذا برهان ظاهر باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال. ثم ذكر تعالى ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال: {والباقيات الصالحات خير} ، أي: من الزينة الفانية لأنّ خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لا سيما وقد ثبت أنّ خيرات الدنيا حقيرة خسيسة وأنّ خيرات الآخرة رفيعة شريفة. والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً أحدها أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وزاد بعضهم ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وللغزالي في تفسير وجه لطيف فقال: روي أنّ من قال: سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال: الحمد لله صارت عشرين فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال: والله أكبر صارت أربعين وتحقيق القول فيه أنّ مراتب الثواب أعظمها هو الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته فإذا قال: سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزهاً عن كل ما لا يليق به وكل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك الحمد لله فقد أقرّ بأنّ الحق سبحانه وتعالى مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لكل ما ينبغي ولإفاضة كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا بمضاعفة الثواب فإذا قال مع ذلك: لا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي وهو المبتدئ لكل ما ينبغي ليس في الوجود موجود هكذا إلا هو الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال العبد: والله أكبر فمعنى أنه أكبر أنه أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة فلا جرم صارت درجات الثواب أربعة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس» . وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هنّ يا رسول الله قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله» ، ثانيها أنها الصلاة الخمس، ثالثها أنها الطيب من القول، رابعها وهو أعمها، وأولاها أنها أعمال الخيرات التي تبقى ثمراتها أبد الآباد فيندرج في ذلك الصلاة وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله والكلام الطيب وغير ذلك من كل عمل وقول دعاك لمحبة الله تعالى ومعرفته وخدمته، وأما ما دعاك من قول أو عمل إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك لأن كل ما سوى الحق فهو فانٍ لذاته فكان الاشتغال به والانفاق عليه باطلاً وسعياً ضائعاً، وأما الحق لذاته فهو الباقي الذي لا يقبل الزوال، لا جرم كان الاشتغال بمحبته ومعرفته وطاعته وخدمته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولما كان أهم ما إلي من حصل البقاء ليس لكفايته بل لمن يحفظها له لوقت حاجته قال تعالى: {عند ربك} أي: الجليل المواهب العالم بالعواقب وخير من المال والبنين في العاجل والآجل {ثواباً وخير} من ذلك كله {أملاً} أي: من جملة ما يرجوه فيها من الثواب ويرجوه فيها من الأمل لأن ثوابها إلى بقاء آملها كل ساعة في تحقق وعلوّ وارتقاء وآمل المال والبنين يخان أحوج ما يكون إليهما، وعن قتادة كل ما أريد به وجه الله تعالى خير ثواباً أي: ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة. ولما بيّن سبحانه وتعالى خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وذكر منها أنواعاً النوع الأوّل قوله تعالى: {ويوم} أي: واذكر لهم يوم {نسير} بأيسر أمر {الجبال} عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما نسير نبات الأرض بعد أن صار هشيماً بالرياح كما قال تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّمرّ السحاب} (النمل، 88) تنبيه: ليس في لفظ الآية ما يدل إلى أين تسير، قال الرازي: ويحتمل أن يقال: إن الله يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك لخلقه، والحق أنّ المراد أنّ الله تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} (طه، 105، 106) ولقوله: {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} (الواقعة، 5، 6) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم التاء الفوقية وفتح الياء التحتية بعد السين على فعل ما لم يسم فاعله ورفع الجبال بإسناد تسير إليها كما في قوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} (التكوير، 3) والباقون بالنون المضمومة وكسر الياء التحتية بعد السين بإسناد فعل التسيير إليه تعالى نفسه ونصب الجبال لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 اعتباراً بقوله تعالى: {وحشرناهم} والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله تعالى. النوع الثاني قوله تعالى: {وترى الأرض} بكمالها {بارزة} لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله تعالى: {لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} (طه، 106) وقيل: إنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فإذا هي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف كما قال تعالى: {وألقت ما فيها وتخلت} (الانشقاق، 4) وقال تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة، 2) . النوع الثالث قوله تعالى: {وحشرناهم} أي: الخلائق قهراً إلى الوقت الذي تنكشف فيه المخبآت وتظهر القبائح والمغيبات ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير والناقد فيه بصير {فلم نغادر} أن نترك {منهم} أي: الأوّلين والآخرين {أحداً} لأنه لا ذهول ولا عجز، ونظيره قوله تعالى: {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} (الواقعة: 50، 51) فإن قيل: لم جيء فحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى؟ أجيب: بأن ذلك يقال للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك. ولما ذكر تعالى حشرهم وكان من المعلوم أنه للعرض ذكر كيفية ذلك العرض فقال بانياً الفعل للمفعول على طريقة كلام القادرين ولأن المخوف العرض لا لكونه من معين {وعرضوا على ربك} المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك، وقوله تعالى: {صفاً} حال أي: مصطفين واختلف في تفسيره على وجوه؛ الأوّل: أن تعرض الخلق كلهم صفاً واحداً لاتساع الأرض ظاهرين لا يحجب بعضهم بعضاً، ثانيها: لا يبعد أن يكونوا صفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي تكون بعضها خلف بعض وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: صفاً صفوفاً كقوله تعالى: {يخرجكم طفلاً} (غافر، 67) أي: أطفالاً، ثالثها: المراد بالصف القيام كما في قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} (الحج، 36) أي: قياماً وقيل: كل أمّة صف ويقال لهم: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة} أي: فرادى حفاةً عراةً غرلاً وليس المراد حصول المساواة من كل وجه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد ما مرّ ويقال لمنكري البعث: {بل زعمتم أن} أي: أنا {لن نجعل لكم موعداً} أي: مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز لكم ما وعدناكم به على ألسنة رسلنا فكنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار منكرين البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن القيامة والبعث حق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أوّل خلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم، قال: فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم منذ فارقتهم» وفي رواية فأقول: «سحقاً سحقاً» وقوله: غرلاً أي: قلفا الغرلة القلفة التي تنقطع من جلد الذكر وهو موضع الختان وقوله: سحقاً أي: بعداً. قال بعض العلماء: المراد بهؤلاء الذين ارتدوا من العرب بعده، وعن عائشة رضي الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، فقلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض، فقال: الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك» زاد النسائي في رواية لكم امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: «يحشر الناس على ثلاث طوائف راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا» {ووضع} بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة {الكتاب} المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيّن لا يخفي على قارئ ولا غيره شيء منه، فيوضع كتاب كل إنسان في يده، إما في اليمن وإما في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال {فترى المجرمين مشفقين} أي: خائفين خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة من الخلق {مما فيه} من قبائح أعمالهم وسيء أفعالهم وأقوالهم {ويقولون} عند معاينتهم ما فيه من السيآت وقولهم {يا} للتنبيه {ويلتنا} أي: هلكتنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك {مال هذا الكتاب} أي: أيّ شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا {لا يغادر} أي: لا يترك {صغيرة ولا كبيرة} من ذنوبنا وقال ابن عباس الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة، وقال سعيد بن جبير الصغيرة اللمم والمسيس والقبلة والكبيرة الزنا {إلا أحصاها} أي: عدّها وأثبتها في هذا الكتاب، ونظيره قوله تعالى: {وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون} (الإنفطار: 10، 11، 12) وقوله تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية، 29) تنبيه: إدخال التاء في الصغيرة والكبيرة على تقدير أنّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة، قال بعض العلماء: احتجبوا من الصغائر قبل الكبائر لأن الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر واحترزوا من الصغائر حذراً من أن تقعوا في الكبائر، وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء هذا بعود فطبخوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات {ووجدوا ما عملوا حاضراً} أي: مثبتاً في كتابهم {ولا يظلم ربك} أي: الذي رباك بخلق القرآن {أحداً} منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب بل يجازي الأعداء بما يستحقونه تعذيباً لهم ويجازي أولياءه الذين عادوهم بما يستحقون تنعيماً لهم، روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس مسيرة شهر يستأذن فاستأذن عليه قال: فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته قلت حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله عز وجل الناس أو قال العباد حفاة عراة بهما قلت: وما بهما قال: ليس معهم شيء ثم ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه حق حتى أقتص منه حتى اللطمة، قال: فقلنا كيف وإنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 نأتي حفاة عراة بهما قال: بالحسنات والسيآت» وروى الرازي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحاسب الله الناس في القيامة على ملة يوسف وأيوب وسليمان فيدعوا المملوك فيقال: ما شغلك عني فيقول: جعلتني عبداً لآدمي فلم يفرغني فيدعو يوسف فيقول: كان هذا عبداً مثلك فلم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار ثم يدعو المبتلى، فإذا قال: شغلتني بالبلاء دعا أيوب فيقول: قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك من عبادتي، ثم يؤتى بالملك في الدينا مع ما آتاه الله تعالى من الغنى والسعة فيقول: ما عملت فيما آتيتك؟ فيقول: شغلني الملك عن ذلك فيدعي سليمان فيقول: هذا عبدي آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشلغه ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار» ، وعن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع؛ عن جسده فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به» . ولما كان المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المذكورة في قوله تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {قلنا للملائكة} الذين هم أطوع شيء لأوامرنا المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لإن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين وأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد له وكيف أتواضع له، وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بمعنى هذه المعاملة فقالوا: كيف نجالس هؤلاء الفقراء مع أنّا أناس من أنساب شريفة وهم من أنساب باذلة ونحن أغنياء وهم فقراء، ذكر الله تعالى هذه القصة تنبيهاً على أن هذه الطريقة هي نفسها طريقة إبليس حين أمره الله تعالى في جملة الملائكة بقوله تعالى: {اسجدوا لآدم} سجود انحناء بلا وضع جبهة تحية له {فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} قيل: هم نوع من الملائكة فالاستثناء متصل، وقيل: هو منقطع وإبليس أبو الجن فله ذرّية ذكرت معه بعد، والملائكة لا ذرّية لهم وكرّرت هذه القصة لهذا المقصود المذكور. قال البيضاوي: وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن أي: إنما يكرّر لمناسبة ذلك المحل الذي يذكر فيه {ففسق} أي: خرج بتركه السجود {عن أمر ربه} أي: سيده ومالكه المحسن إليه والفاء للسببية وفيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتة ورنما عصى إبليس لأنه كان خبيثاً في أصله والكلام المستقصى فيه تقدّم في سورة البقرة ثم أنه تعالى حذر عن أتباعه بقوله تعالى: {أفتتخذونه} الخطاب لآدم وذريته والهاء هنا وفيما سيأتي لإبليس والهمزة للإنكار والتعجب أي: يفسق باستحقاركم فنطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه {وذريته} شركاء لي {أولياء} لكم {من دوني} تطيعونهم بدل طاعتي وقوله تعالى: {وهم لكم عدوّ} أي: أعداء حال ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم وصل به قوله تعالى: {بئس للظالمين بدلاً} من الله إبليس وذريته، وكان الأصل لكم ولكنه أبرز الضمير ليعلق الفعل بالوصف لإفادة التعميم. روى مجاهد عن الشعبي قال: إني لقاعد يوماً إذ أقبل جمال فقال: أخبروني هل لإبليس زوجة قلت: إنّ ذلك لعرس ما شهدته ثم ذكرت قوله تعالى: {أفتتخذونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وذريته أولياء من دوني} فعلمت أن لا تكون ذرّية إلا من زوجة فقلت: نعم وقال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقيل: إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض البيضة فتنفلق عن جماعة من الشياطين، قال مجاهد من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة والهفاف ومرة وبه يكنى وزلنيور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والأيمان الكاذبة ومدح السلع ونبز وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة، ومطوس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسم الله ولم يذكر الله دخل معه، وإذا أكل ولم يسم الله أكل معه، قال الأعمش: ربما دخلت البيت ولم أذكر الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا وخاصمتهم ثم اذكر فأقول داسم داسم. وعن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذلك شيطان يقال له خترب فإذا أحسسته فتعوّذ بالله واتفل عن يسارك ثلاثاً قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني» ، وعن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وساوس الماء» ، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت» ، قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه واختلفوا في عود الضمير في قوله تعالى: { ما أشهدتهم} على وجوه؛ أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذين اتخذوهم أولياء {خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى: {اقتلوا أنفسكم} (النساء، 66) نفى إحضار إبليس وذريته خلق السماوات والأرض وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله تعالى: {وما كنت متخذ المضلين} أي: الذين يضلون الناس ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لإضلالهم وذمّاً لهم {عضداً} أي: أعواناً، وثانيها قال الرازي: وهو الأقوى عندي إن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء من عندك فلا تؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على الاقتراح الفاسد قال: والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات فالأقرب في هذه الآية هو أولئك الكفار وهو قوله تعالى: {بئس للظالمين بدلاً} والمراد بالظالمين أولئك الكفار، وثالثها أن يكون المراد من قوله ما أشهدتهم إلى آخره دون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته والشقي من حكم الله بشقاوته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل فإنه تعالى قال: ما أشهدتهم إلى آخره وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلوّ والكمال ولغيركم بالذل والدناءة بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس مما حكمتم به. ولما قرّر تعالى أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتدوا فيه بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأهوال القيامة فقال: {ويوم} التقدير واذكر لهم يا محمد يوم عطفاً على قوله وإذ قلنا للملائكة {يقول} أي: الله يوم القيامة لهؤلاء الكفار تهكماً بهم وقرأ حمزة بالنون والباقون بالياء {نادوا شركائي} أي: ما عبد من دوني وقيل: إبليس وذرّيته ثم بيّن تعالى أن الإضافة ليست على حقيقتها بل توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي {فدعوهم} تمادياً في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي: فلم يغيثوهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم {وجعلنا بينهم} أي: المشركين والشركاء {موبقاً} أي: وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، وهو من وبق بالفتح هلك، نقل ابن كثير عن عبد الله بن عمر أنه قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلال، وقال الحسن البصري: عداوة أي: يؤل بهم إلى الهلاك والتلف كقول عمر رضي الله تعالى عنه: لا يكون حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً أي: لا يكن حبك يجر إلى الكلف ولا بغضك يجر إلى التلف، وقيل: الموبق البرزخ البعيد أي: وجعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهم وهم في أعلى الجنان. ولما قرر سبحانه وتعالى ما لهم مع شركائهم ذكر حالهم في استمرار جهلهم فقال تعالى: {ورأى المجرمون} أي: العريقون في الإجرام {النار} من مكان بعيد {فظنوا} ظناً {أنهم مواقعوها} أي: مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدّة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} (الفرقان، 12) فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامّة يقال لها: مواقعة {ولم} أي: والحال أنهم لم {يجدوا عنها مصرفاً} أي: مكاناً ينصرفون إليه لأن الملائكة تسوقهم إليها والموضع موضع التحقق ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا: اتخذوا الله ولداً بغير علم وما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة إن نظنّ إلا ظناً وما نحن بمستيقنين مع قيام الأدلة التي لا شك فيها، وقيل: الظن هنا بمعنى العلم واليقين. ولما افتخر هؤلاء الكفار على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبيّن الله تعالى الوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبههم باطلة ذكر فيه المثلين المتقدّمين ثم قال بعده: {ولقد صرّفنا} وأظهر نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم الدال وأدغمها الباقون {في هذا القرآن} أي: القيم الذي لا عوج فيه مع جمعه للمعاني {للناس} أي: المزلزلين والثابتين وقوله: {من كل مثل} صفة لمحذوف أي: مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا أو أنّا حولنا الكلام وصرّفناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة والأساليب المتناسقة ما صار بها في غرابته كالمثل يقبله كل من سمعه وتضرب به آباط الأبل في سائر البلاد بين العباد فتسر به قلوبهم وتلهج به ألسنتهم فلم يقبلوه ولم يتركوا المجادلة الباطلة كما قال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء} يتأتى منه الجدال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وميز الأكثرية بقوله تعالى: {جدلاً} أي: خصومة، قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جادلوهم في الدين لأنّ المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين ولهذا قيل: أراد بالإنسان الكافر، وقيل الآية على العموم، قال ابن الخازن: وهو الأصح وكذا قال البغوي فعن عليّ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنها ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً، وقال ابن عباس أراد النضر بن الحارث وجداً له في القرآن، وقال الكلبي: أراد به خلفاً الجمحي. ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم بيّن موجبه عندهم فقال تعالى: {وما منع الناس} أي: الذين جادلوا بالباطل الإيمان هكذا كان الأصل ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله: {أن يؤمنوا} ليفيد التجديد وذمّهم على الترك {إذ} أي: حين {جاءهم الهدى} أي: القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف على المفعول الثاني معبراً بمثل ما مضى لما مضى قوله تعالى: {ويستغفروا ربهم} أي: لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة. ولما كان الاستثناء مفرغاً أتى بالفاعل فقال: {إلا أن} أي: طلب أن {تأتيهم سنة الأوّلين} أي: سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدّر عليهم {أو} طلب أن {يأتيهم العذاب قبلاً} أي: مقابلة وعياناً وهو القتل يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة وقرأ الكوفيون برفع القاف والباء الموحدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء الموحدة. ولما كان ذلك ليس إلى الرسول وإنما هو إلى الله تعالى نبه بقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} بالثواب على أفعال الطاعة {ومنذرين} بالعقاب على أفعال المعصية فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم {ويجادل الذين كفروا} أي: يجدّدون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا {بالباطل} من قولهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو كنتم صادقين لأتيتم بما يطلب منكم مع أن ذلك ليس كذلك إذ ليس لأحد غير الله من الأمر شيء {ليدحضوا به} أي: ليبطلوا بجدالهم {الحق} أي: القرآن والمعجزات المثبتة لصدقهم {واتخذوا آياتي} أي: القرآن {وما أنذروا} أي: وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب {هزوا} أي: استهزاء وقرأ حفص بالواو وقفاً ووصلاً وحمزة بالواو ووقفاً لا وصلاً وسكن الزاي حمزة ورفعها الباقون ولحمزة في الوقف أيضاً النقل. ولما حكى الله تعالى عن الكفار أحوالهم الخبيثة وصفهم بما يوجب الخزي بقوله تعالى: {ومن أظلم} أي: لا أحد أظلم وهو استفهام على سبيل التقرير {ممن ذكر بآيات ربه} أي: المحسن إليه بها وهي القرآن {فأعرض عنها} تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجب ذلك الإحسان من الشاكر {ونسي ما قدّمت يداه} من الكفر والمعاصي فلم يتفكر في عاقبتها ثم علل تعالى ذلك الإعراض بقوله تعالى: {أنا جعلنا على قلوبهم} فجمع رجوعاً إلى أسلوب واتخذوا آياتي لأنه أنص على ذم كل واحد {أكنة} أي: أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الخير يصل إليها فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودلّ تذكير الضمير وإفراده على أنّ المراد بالآيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 القرآن فقال: {أن} أي: كراهة أن {يفقهوه} أي: يفهموه {وفي آذانهم وقراً} أي: ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع ولا يعون حق الوعي {وإن تدعهم} أي: تكرّر دعاءهم كل وقت {إلى الهدى} لتنجيهم بما عندك من الحرص والجد على ذلك {فلن يهتدوا} أي: بسبب دعائك {إذا} أي: إذا دعوتهم {أبداً} لأن الله تعالى حكم عليهم بالضلال فلا يقع منهم إيمان ثم قال تعالى: {وربك} مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه حال الوصف من الإحسان {الغفور} أي: البليغ المغفرة الذي يستر الذنوب إمّا بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت آخر {ذو الرحمة} أي: الموصوف بالرحمة الذي يعامل وهو قادر مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام، ثم استشهد تعالى على ذلك بقوله تعالى: {لو يؤاخذهم} أي: هؤلاء الذين عادوك وهو عالم أنهم لا يؤمنون أو يعاملهم معاملة المؤاخذة {بما كسبوا} من الذنوب {لعجل لهم العذاب} أي: في الدنيا {بل لهم موعد} وهو إمّا يوم القيامة وإمّا في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح {لن يجدوا من دونه} أي: الموعد {موئلاً} أي: ملجأ ينجيهم منه فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأوّل ظلمهم وآخره وقوله تعالى: {وتلك} مبتدأ وقوله تعالى: {القرى} أي: الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم صفته لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر {أهلكناهم} والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم {لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً} أي: وقتاً معلوماً لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي: لهلاكهم، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام والباقون بضم الميم وفتح اللام أي: لإهلاكهم، ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة} (الكهف، 50) {وإذ} أي: واذكر لهم حين {قال موسى لفتاه} يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام وإنما قال فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ منه العلم وقيل فتاه عبده، وفي الحديث: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» . تنبيه: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة، وعن كعب الأحبار أنه موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران، قال البغوي: والأول أصح واحتج له القفال بأن الله تعالى لم يذكر في كتابه موسى إلا أراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان المراد شخصاً آخر يسمى موسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة كما أنه لما كان المشهور في العرف عن أبي حنيفة هذا الرجل المعين، فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواه لقيدناه مثل أن نقول: قال أبو حنيفة الدينوري: وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدوّ الله ونوف البكالي هو نوف بن فضالة الحميريّ الشامي البكالي، ويقال: إنه دمشقي وكانت أمه زوجة كعب الأحبار نقله ابن كثير، وحجة الذين قالوا: موسى هذا غير صاحب التوراة أنه يقال بعد أن أنزل عليه التوراة وكلمه بلا واسطة وخصه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكبر أكابر الأنبياء يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 والاستفادة وأجيب: بأنه لا يبعد أن يكون العالم الكامل في كثرة العلوم يجهل بعض العلوم فيحتاج في تعلمها إلى من هو دونه وهو أمر متعارف. روى البخاري حديث أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي: الناس أعلم قال: أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله تعالى إليه أنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال: يا رب فكيف لي به قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم قال: {لا أبرح} أي: لا أزال أسير في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي: ملتقى بحر الروم وبحر فارس ممايلي الشرق قاله قتادة أي: المكان الجامع لذلك فألقاه هناك {أو أمضي حقباً} أي: دهراً طويلاً في بلوغه إن لم أظفر به بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعد إليّ في لقائه والحقب، قال في «القاموس» ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة والسنون انتهى فسارا وتزوّدا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع كما قال تعالى: {فلما بلغا مجمع بينهما} أي: بين البحرين قال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني وناما واضطرب الحوت في المكتل وخرج وسقط في البحر فلما استيقظا {نسيا حوتهما} أي: نسي يوشع حمله عند الرحيل ونسي موسى عليه السلام تذكيره وقيل: الناسي يوشع فقط وهو على حذف مضاف أي: نسي أحدهما كقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن، 22) {فاتخذ} الحوت {سبيله في البحر} أي: جعله بجعل الله {سرباً} أي: مثل السرب وهو الشق الطويل لا نفاذ له وذلك أنّ الله تعالى أمسك عن الحوت جري الماء فانجاب عنه فبقي كالكوة لم يلتئم وجمد ما تحته، وقد ورد في حديثه في الصحيح أنّ الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء فصار طاقاً لا يلتئم وكأنّ المجمع كان ممتداً فظن عليه السلام أنّ المطلوب أمامه أو ظنّ المراد مجمع البحرين آخراً فسارا {فلما جاوزا} ذلك المكان بالسير بقية يومهما وليلتهما واستمرّا إلى وقت الغداء من ثاني يوم {قال} موسى عليه السلام {لفتاه آتنا} أي: أحضر لنا {غداءنا} وهو ما يؤكل أوّل النهار لنقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ولذلك وصل به قوله: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} أي: تعباً ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله تعالى به فقوله هذا إشارة إلى السفر الذي وقع بعد مجاوزتهما الموعد أو مجمع البحرين ونصبا مفعول بلقينا {قال} له فتاه {أرأيت} أي: ما دهاني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ولورش وجه آخر وهو إبدالها حرف مدّ وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق {إذ أوينا إلى الصخرة} التي بمجمع البحرين {فإني نسيت الحوت} أي: نسيت أن أذكر لك أمره ثم علل عدم ذكره بقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان} بوسواسه، وقرأ حفص بضم الهاء وأمال الألف الكسائي محضة وورش بين بين وبالفتح والباقون بالفتح وقوله: {أن أذكره} لك في محل نصب على البدل من هاء أنسانيه بدل اشتمال أي: أنساني ذكره {واتخذ سبيله} أي: طريقه الذي ذهب فيه {في البحر عجباً} وهو كونه كالسرب معجزة لموسى أو الخضر وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا النسيان ليس مفوتاً لطاعة بل فيه ترقية لهما في معراج المقامات العالية لوجدان التعب بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 المكان الذي فيه البغية وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من الآيات الظاهرة وقوله تعالى: {إنما سلطانه على الذين يتولونه} (النحل، 100) مبين، أن السلطان الحمل على المعاصي وقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد كان في هذه القصة خوارق منها حياة الحوت ومنها إيجاد ما كان أكل منه ومنها إمساك الماء عن مدخله وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم نفسه وأتباعه ببركته مثل ذلك، أمّا إعادة ما أكل من الحوت المشوي وهو جنبه، فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوّة عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم أتي بشاة مشوية فقال لبعض أصحابه: «ناولني ذراعها» وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدّمها ثم قال: «ناولني ذراعها» فناوله ثم قال: «ناولني ذراعها» فقال: يا رسول الله إنما هما ذراعان وقد ناولتك فقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لو سكت ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك ناولني ذراعاً» فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت أوجد الله تعالى ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا، وأمّا حياة الحوت المشوي ففي قصة الشاة المشوية المسمومة أنّ ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسموم فهذا أعظم من عود الحياة من غير نطق وكذا حنين الجذع وتسليم الحجر وتسبيح الحصى ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً. وروى البيهقي في «الدلائل» عن عمرو بن سواد قال: قال الشافعي: ما أعطى الله تعالى نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم قلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال: أعطى محمد صلى الله عليه وسلم إحياء الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين هيئ له المنبر وحنّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك انتهى، وقد ورد أشياء كثيرة من إحياء الموتى له صلى الله عليه وسلم ولبعض أمّته، وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة ومعها ابن لها فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بجهازه فلما أردنا أن نغسله قال: «ائت أمّه فأعلمها» فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك تطوّعاً وخلعت الأوثان زهداً وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال: فوالله ما انقضى كلام المرأة حتى حرّك قدميه وألقى الثوب عن وجهه وعاش حتى قبض الله رسول صلى الله عليه وسلم وحتى هلكت أمّه، وأمّا آية الماء فمرجعها إلى صلابته ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق، وقد جهز عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جيشاً واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي فحصل لهم حرّ شديد وجهدهم العطش، قال بعض الجيش: فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مدّ يده وما نرى في السماء شيئاً فوالله ما حط يده حتى بعث الله تعالى ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت القدور والشعاب فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدوّنا وقد جاوزنا خليجاً في البحر إلى جزيرة فوقف على الخليج وقال: «يا عليّ يا عظيم يا حليم يا كريم» ثم قال: «أجيزوا بسم الله» فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا فأصبنا العدوّ عليه فقتلنا وأسرنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا وما بل الماء حوافر دوابنا والأخبار في ذلك كثيرة. ولما قال فتاه ذلك كأنه قيل فما قال موسى عليه السلام حينئذٍ؟ {قال} له {ذلك} أي: الأمر العظيم من فقد الحوت {ما كنا نبغ} أي: نريد من هذا الأمر المغيب عنا فإن الله تعالى جعله موعداً في لقاء الخضر، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفاً وابن كثير يثبتها وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف {فارتدّا على آثارهما} أي: فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يقصانها {قصصاً} أي: يتبعان أثرهما إتباعاً أو مقتصين حتى يأتيا الصخرة، قال البقاعي: يدل على أنّ الأرض كانت رملاً لا علم فيها فالظاهر والله أعلم أنه مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركب في سفينته للتعدية كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح ومن المشهور في بلاد رشيد أنّ الأمر كان عندهم وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون: إنه من نسل تلك السمكة والله أعلم انتهى. وتقدم عن قتادة أنه ملتقى بحر فارس والروم، وقال محمد بن كعب طنجة، وقال أبيّ بن كعب: إفريقية، وقيل: البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري علم، قال ابن عادل: وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح في الخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه انتهى. ثم استمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت {فوجدا عبداً من عبادنا} مضافاً إلى حضرة عظمتنا قيل: كان ملكاً من الملائكة والصحيح الذي جاء في التواريخ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس، قيل: كان من بني إسرائيل وقيل: من أبناء الملوك الذين تنزهوا وتركوا الدنيا، والخضر لقب سمي بذلك لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء والفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة، وقيل: سمي خضراً لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما حوله، روي أن موسى عليه السلام رأى الخضر مسجى موكأ فسلم عليه فقال الخضر: وأني بأرضك السلام، قال: أنا موسى أتيتك تعلمني مما علمت رشداً، وفي رواية لقيه وهو مسجى بثوب مستلقياً على قفاه بعض الثوب تحت رأسه وبعضه تحت رجليه، وفي رواية لقيه وهو يصلي، ويروى لقيه وهو على طنفسة خضراء على كبد البحر، وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: ما عرّفك هذا؟ فقال: الذي بعثك إليّ، وكان الخضر في أيام أفريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وقيل: إن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: «الذي يذكرني ولا ينساني» ، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى» فقال: فأي عبادك أعلم؟ قال: «الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى» ، فقال: إن كان في عبادك أفضل مني فادللني عليه قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل عند الصخرة، قال كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك {آتيناه} بعظمتنا {رحمة من عندنا} أي: وحياً ونبوة وكونه نبياً هو قول الجمهور، وقيل: إنه ليس بنبي. قال البغوي: عند أهل العلم أي: فعندهم أنه وليّ {وعلمناه من لدنا} أي: مما لم يجر على قوانين العادات على أنه ليس بمستغرب عند أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 الاصطفاء {علماً} قذفناه في قلبه بغير واسطة، وأهل التصوّف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني فإذا سعى العبد في الرياضات بتزين الظاهر بالعبادات وتخلي النفس عن العلائق وعن الأخلاق الرذيلة بتحليتها بالأخلاق الجميلة صارت القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوى العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهرة العقل وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمّل وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على طريق الاستئناف على تقدير سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله وذلك أنه من المعلوم أنّ الطالب للشخص إذا لقيه كمله لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال: لمن؟ كأنه سأل عن ذلك {قال له موسى} طالباً منه على سبيل التأدّب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان {هل أتبعك} أي: اتباعاً بليغاً حيث توجهت والاتباع الإتيان بمثل فعل الغير لمجرّد كونه آتياً به وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله: {على أن تعلمني} أثبت الياء نافع وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً وابن كثير وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف وزاد في التعطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه يسترشد بها إلى باقيه فقال: {مما علمت} وبناه للمفعول لعلم المتخاطبين لكونهما من المخلصين بأن الفاعل هو الله تعالى وللإشارة إلى سهولة كل أمر إلى الله تعالى {رشداً} أي: علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده، وقرأ أبو عمرو بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين. ولما أتم موسى عليه السلام العبارة عن السؤال. {قال} له الخضر عليه السلام {إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها لا تصح ولا تستقيم وفتح الياء من معي صبراً في المواضع الثلاثة هنا حفص وسكنها الباقون ثم علل عدم الصبر معه واعتذر عنه بقوله: {وكيف تصبر} يا موسى {على ما لم تحط به خبراً} أي: وكيف تصبر على أمور وأنت نبيّ ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك بل يبادر ويأخذ في الإنكار وخبراً مصدر لمعنى لم تحط به أي: لم تخبر حقيقته. {قال} له موسى عليه السلام آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل الله تعالى له النفع به {ستجدني} فأكد الوعد بالسين ثم أخبر تعالى أنه قوّي تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدّم الحق عليه في هذه السورة في قوله تعالى ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ليعلم أنه منهاج الأنبياء فقال: {إن شاء الله} أي: الذي له صفات الكمال {صابراً} على ما يجوز الصبر عليه ثم زاد التأكيد بقوله: عطفاً بالواو على صابراً لبيان التمكن في كل من الموضعين {ولا أعصي} أي: وغير عاص {لك أمراً} تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله تعالى. تنبيه: دلت هذه الآية الكريمة على أنّ موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، منها أنه جعل نفسه تبعاً له بقوله: هل أتبعك ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية كأنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وهذه مبالغة عظيمة في التواضع، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «على أن تعلمني» وهذا اقرار منه على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم، ومنها قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 {مما علمت} وصيغة من للتبعيض وطلب منه تعليم بعض ما علم، وهذا أيضاً اقرار بالتواضع كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء ما علمت، ومنها أن قوله: مما علمت اعتراف منه بأن الله تعالى علمه ذلك العلم، ومنها قوله: {رشداً} طلب منه الإرشاد والهداية، ومنها قوله: {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} ، ومنها أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أن موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أبواب المبالغة في التواضع وذلك يدل على أن هذا هو اللائق به، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر كان طلبه لها أشدّ، فكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأرشد، وكل ذلك يدل على أنّ الواجب على المتعلم إظهار التواضع بكل الغايات، وأمّا المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيد نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإنّ السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور وذلك يمنعه من التعلم. وروي أن موسى عليه السلام لما قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً؟ قال له الخضر: كفى بالتوراة علماً وببني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى: الله أمرني بهذا {قال} له الخضر: {فإن اتبعتني} أي: صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطاً فقال: {فلا تسألني عن شيء} أقوله أو أفعله {حتى أحدث لك} خاصة {منه ذكراً} أي: حتى أبدأك بوجه صوابه فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر، وإن كان ظاهره غير ذلك فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم من العالم، ولما تشارطا وتراضيا على الشرط تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فانطلقا} أي: موسى والخضر عليهما السلام على الساحل فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فما زالا يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرّا {حتى إذا ركبا في السفينة} التي مرت بهما وأجاب الشرط بقوله: {خرقها} أي: أخذ الخضر فأساً فخرق السفينة بأن قلع لوحاً أو لوحين من ألواحها من جهة البحر لما بلغت اللجة ولم يقترن خرق بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب، ثم استأنف قوله: {قال} أي: موسى عليه السلام منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس ناسياً لما عقد على نفسه على أنه لو لم ينسَ لم يترك الإنكار كما فعل عند قتل الغلام لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأنّ المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً {أخرقتها} وبين عذره في الإنكار لما في غاية الخرق من الفظاعة فقال: {لتغرق أهلها} فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية مفتوحة وفتح الراء ورفع اللام من أهلها والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الراء ونصب لام أهلها، ثم قال له موسى: والله {لقد جئت شيئاً أمراً} أي: عظيماً منكراً. {قال} الخضر: {ألم أقل إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} فذكره بما قال له عند الشرط. {قال} موسى: {لا تؤاخذني} يا خضر {بما نسيت} أي: غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، قال ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 عباس: إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام أي: وهي التورية بالشيء عن الشيء، وفي المثل: إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب، أي: سعة فكأنه نسي شيئاً آخر وقيل معناه بما تركت من عهدك والنسيان الترك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً» {ولا ترهقني من أمري عسراً} أي: لا تكلفني مشقة يقال: أرهقه عسراً وأرهقته عسراً أي: كلفته ذلك، يقول: لا تضيق علي أمري ولا تعسر متابعتك علي ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر، وعسراً مفعول ثان لترهقني من أرهقه كذا إذا حمله إياه وغشاه به وما في بما نسيت مصدرية أو بمعنى الذي والعائد محذوف. وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء، وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق، وروي أن الخضر أخذ قدحاً من زجاج ورقع به خرق السفينة فإن قيل: قول موسى عليه السلام أخرقتها لتغرق أهلها إن كان صادقاً في هذا دل ذلك على صدور ذنب عظيم من الخضر إن كان نبياً، وإن كان كاذباً دل ذلك على صدور الذنب من موسى وأيضاً فقد التزم موسى أن لا يعترض عليه وجرت العهود المذكورة بذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب أجيب: بأن كلاً منهما صادق فيما قال موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فإنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى بما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر أنه لا يقدم على منكر. {فانطلقا} بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب {حتى إذا لقيا غلاماً} قال ابن عباس: لم يبلغ الحنث {فقتله} حين لقيه كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط، قال البغوي في القصة: إنهما خرجامن البحر يمشيان فمرّ بغلمان يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، قال السدي: كان أحسنهم وجهاً كان وجهه يتوقد حسناً، قال البقوي: وروينا أنه أخذ رأسه فاقتلعه بيده، وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بيده بأصابعه الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه، وروي أنه رضخ رأسه بالحجارة، وقيل: ضرب رأسه بالجدار فقتله وكونه لم يبلغ الحنث هو قول الأكثرين. وقال الحسن: كان رجلاً، قال شعيب الحياني: وكان اسمه جيسور، وقال الكلبي: كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلتجئ إلى أبويه، وقال الضحاك: كان غلاماً يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه، وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» . قال الرازي: وليس في القرآن كيف لقياه، هل كان يلعب مع جمع من الغلمان أو كان منفرداً؟ وهل كان مسلماً أوكافراً؟ وهل كان بالغاً أو صغيراً؟ وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله بغير نفس أليق بالبالغ منه بالصبيّ لأن الصبي لا يقتل وإن قتل، قال البقاعي: إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ، وقال ابن عباس: ولم يكن نبي الله يقول: أقتلت نفساً زاكية بغير نفس إلا وهو صبيّ، قال الرازي أيضاً: وكيفية قتله هل قتله بأن حزّ رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام انتهى. ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 {قال} موسى: {أقتلت} يا خضر {نفساً زاكية بغير نفس} قتلتها ليكون قتلها لها قوداً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بألف بعد الزاي وتخفيف الياء التحتية والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد التحتية، قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان ومعنى هذه الطهارة، وقال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب والزكية التي اذنبت ثم تابت ثم استأنف قوله: {لقد} أظهر الدال نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون {جئت} في قتلك إياها {شيئاً} وصرح بالإنكار في قوله: {نكراً} لأن مباشرة الخرق سبب، ولهذا قال بعضهم: النكر أعظم من الأمر في القبح لأن قتل الغلام أعظم من خرق السفينة لأنه يمكن أن لا يحصل الغرق، وأمّا هنا فقد حصل الإتلاف قطعاً، والنكر ما أنكرته العقول ونفرت منه النفوس فهو أبلغ في القبح من الأمر، وقيل: الأمر أعظم لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذا القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد، وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبة برفع الكاف والباقون بكسونها. ولما كانت هذه ثانية. {قال} له الخضر: {ألم أقل لك إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه هنا زاد لفظه لك {فإن قيل} لم زادها هنا؟ أجيب: بأنه زادها مكافحة بالعقاب على رفض الوصية ووسماً بقلة الصبر والثبات لما تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار ولم يرعو بالتذكير أول مرّة، قال ابن الأثير: المكافحة المدافعة والمضاربة والاشمئزاز من اشمأز الرجل أي: انقبض قلبه، قال البغوي: وفي القصة أن يوشع كان يقول لموسى يا نبيّ الله اذكر العهد الذي أنت عليه {قال} موسى حياءً منه لما أفاق بتذكيره ما حصل من فرط الوجد لأمر الله تعالى فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر الله تعالى {إن سألتك عن شيء بعدها} أي: بعد هذه المرّة وأعلم بشدّة ندمه على الإنكار بقوله: {فلا تصاحبني} أي: لا تتركني أتبعك بل فارقني ثم علل ذلك بقوله: {قد بلغت} وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال: {من لدني} أي: من قبلي {عذراً} باعتراضي مرّتين واحتمالك لي فيهما، وقد أخبر الله بحسن حالك في غزارة عملك فمدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرّتين أوّلاً وثانياً مع قرب المدّة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك، ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمة الله علينا وعلى موسى ـ وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه ـ لولا أن عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة أي: حياء واشفاق، فقال: إن سألتك إلى آخره» ، وقرأ نافع بضم الدال وتخفيف النون، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه يشم الدال فتصير ساكنة قريبة من الضم والباقون بضم الدال وتشديد النون. {فانطلقا} أي: موسى والخضر يمشيان لينظر الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علمه وورش يغلظ اللام في لفظ انطلقا على أصله بعد قتل الغلام {حتى إذا أتيا أهل قرية} ، قال ابن عباس: هي انطاكية، وقال ابن سيرين: هي الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء وعبر عنها بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذمّ، وقيل: برقة، وعن أبي هريرة بلدة بالأندلس {استطعما أهلها} أي: طلبا من أهل القرية أن يطعموهما، وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 مجالس أولئك القوم يستطعمانهم {فأبوا أن يضيفوهما} أي: أن ينزلوهما ويطعموهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض وضيفه وأضافه أنزله وجعله ضيفاً فإن قيل: الاستطعام ليس من عادة الكرام وكيف قدم عليه موسى والخضر وقد حكى الله تعالى عن موسى أنه قال عند ورود ماء مدين ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير؟ أجيب: بأن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند الخوف من الضرر الشديد فإن قيل: لم قال: حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ولم يقل استطعماهم؟ أجيب: بأن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر: *ليت الغراب غداة يبعث دائباً ... كان الغراب مقطع الأوداج» وعن قتادة شر القرى التي لا تضيف الضيف. فائدة: قال الرازي: وفي كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذهب وقالوا: يا رسول الله جئناك بهذا الذهب لتجعل الباء تاء حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي: أتيناهم لأجل الضيافة حتى يندفع عنا هذا اللوم فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى وذلك يوجب القدح في الإلهية» فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية. ولما أبوا أن يضيفوهما انصرفا {فوجدا فيها} أي: القرية ولم يقل فيهم إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع {جداراً} أي: حائطاً مائلاً مشرفاً على السقوط ولذا قال: مستعيراً لما لم يعقل صفة من يعقل {يريد أن ينقص} أي: يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأنّ الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها فاستعير الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم في قوله: *يريد الرمح صدر أبي براء ... ويعدل عن دماء بني عقيل» وقول الآخر: *إنّ دهراً يلف صدري بجمل ... لزمان يهم بالإحسان» ففي البيت الأوّل دليل على استعارة الإرادة للمشارفة، وفي الثاني دليل على استعارة الهم لها وجمل اسم محبوبته يقول: إن دهراً يجمع بيني وبينها زمان قصده الإحسان لا الإساءة ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب} (الأعراف، 154) وقوله تعالى: {أن يقول له كن فيكون} (يس، 82) وقوله تعالى: {قالتا أتينا طائعين} (فصلت، 11) ، قال الزمخشري ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر، وقيل: إن الله تعالى خلق للجدار حياة وإرادة كالحيوان {فأقامه} أي: سواه، وفي حديث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «فقال الخضر بيده فأقامه» ، وقال ابن عباس: هدمه وقعد يبنيه، وقال سعيد بن جبير: مسح الجدار بيده فاستقام وذلك من معجزاته، وقال السدي: بلّ طيناً وجعل يبني الحائط فشق ذلك على موسى عليه السلام فإن قيل: الضيافة من المندوبات فتركها ترك مندوب وذلك غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 قوله: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} وأيضاً مثل الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله تعالى أجيب: بأن تلك الحالة كانت حالة افتقار واضطرار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى عليه السلام ما قاله فلا جرم {قال} موسى: {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} أي: لطلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف التاء بعد اللام وكسر الخاء، وأظهر ابن كثير الذال عند التاء على أصلها، وأدغمها أبو عمرو والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء، وأظهر حفص الذال على أصله وأدغمها الباقون. ولما كان كلام موسى هذا متضمناً للسؤال. {قال} له الخضر: {هذا} أي: هذا الإنكار على ترك الأجر {فراق بيني وبينك} وقيل: إن موسى عليه السلام لما شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر حصل به الفراق حيث قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فلما ذكر هذا السؤال فارقه وهذا فراق بيني وبينك أي: هذا الفراق المعهود الموعود فإن قيل: كيف ساغ إضافة بين إلى غير متعدّد؟ أجيب: بأنّ مسوّغ ذلك تكريره بالعطف بالواو، ألا ترى أنك لو اقتصرت على قولك المال بيني لم يكن كلاماً حتى تقول: بيننا أو بيني وبين فلان ثم قال له الخضر: {سأنبئك} أي: سأخبرك يا موسى قبل فراقي لك {بتأويل} أي: بتفسير {ما لم تستطع عليه صبراً} لأن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبنية على الظواهر كما قال صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» والخضر ما كانت أموره وأحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الخفية الواقعة في نفس الأمر، وذلك لأن الظاهر في أموال الناس وفي أرواحهم أنه يحرم التصرّف فيها، والخضر تصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن الإقدام على خرق السفينة وقتل الإنسان من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف محرّم، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل للتعب والمشقة من غير سبب ظاهر، ثم أخذ الخضر في تأويل ذلك مبتدئاً بالمسألة الأولى بقوله: {أما السفينة} أي: التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها {فكانت لمساكين} عشرة إخوة خمسة زمني وخمسة {يعملون في البحر} أي: يؤاجرون ويكتسبون، واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن حال الفقير أشدّ في الحاجة والضرر من حال المسكين لأن الله تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة {فأردت أن أعيبها} أي: أن أجعلها ذات عيب بأن تفوت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكلف أهلها لوحاً أو لوحين يسدونها بذلك أخف عليهم من أن تفوتهم منفعتها بالكلية كما يعلم من قوله: {وكان وراءهم} أي: أمامهم كقوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ} (المؤمنين، 100) وقيل خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه {ملك} كان كافراً واسمه الجلندي، وقال محمد بن إسحاق اسمه سولة بن خليد الأزدي، وقيل: اسمه هدد بن بدد {يأخذ كل سفينة} أي: صالحة وحذف التقييد بذلك للعلم به {غصباً} من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به فإذا مرّت به تركها لعيبها فإذا جاوزته أصلحوها فانتفعوا بها قيل: سدوها بقارورة وقيل: بالفار فإن قيل: قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدّم عليه؟ أجيب: بأن النية به التأخير وإنما قدم للعناية ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين، فلما كان كل من الغصب والمسكنة سبب الفعل قدمها على الغصب إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين. ثم شرع في تأويل المسألة الثانية بقوله: {وأمّا الغلام} الذي قتلته {فكان أبواه مؤمنين} التثنية للتغليب يريد أباه وأمه فغلب المذكر وهو شائع ومثله العمران، قيل: إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة، وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير سبباً لوقوعهما في الفسق وربما قاد ذلك الفسق إلى الكفر، وقيل: إنه كان صبياً إلا أنه علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت فيه هذه المفاسد، وفي الحديث أنه طبع كافراً ولو عاش لأرهقهما ذلك كما قال {فخشينا} أي: خفنا، والخشية خوف يشوبه تعظيم {أن يرهقهما} أي: يغشيهما ويلحقهما {طغياناً وكفراً} أي: لمحبتهما له يتبعانه في ذلك فإن قيل: هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان بمثل ذلك؟ أجيب: بأنه إذا تأكد ذلك بوحي من الله تعالى جاز، وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله أي: كيف قتل الخضر الغلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان فكتب إليه: «إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل» . رواه بمعناه مسلم. ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد تسبب عنه قوله: {فأردنا} أي: بقتله وإراحتهما من شره {أن يبدلهما ربهما} أي: المحسن إليهما بإعطائه وأخذه، قال مطرف: فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض كل امرىء بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله تعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ولهذا أبدلهما الله تعالى {خيراً منه زكاة} أي: طهارة وبركة من الذنوب والأخلاق الرديئة وصلاحاً وتقوى {وأقرب رحماً} أي: رحمة وعطفاً عليهما، وقيل: هو من الرحم والقرابة، قال قتادة: أي: أوصل للرحم وأبرّ للوالدين، قال الكلبي: أبدلهما الله تعالى جارية فتزوجها نبيّ من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى الله تعالى على يديه أمّة من الأمم، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أبدلهما الله تعالى جارية ولدت سبعين نبياً، وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام مسلم، وقرأ نافع وأبو عمرو أن يبدّلهما بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال، وقرأ ابن عامر رحماً برفع الحاء والباقون بالسكون. ثم شرع في تأويل المسألة الثالثة بقوله: {وأما الجدار} أي: الذي أشرت بأخذ الأجر عليه {فكان لغلامين} ودل على كونهما دون البلوغ بقوله: {يتيمين} وكان اسم أحدهما أصرم والآخر صريماً. ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة وكان التعبير بالقرية أولاً أليق عبر بها لأنها مشتقة من معنى الجمع فكان أليق بالذم في ترك الضيافة، ولما كانت المدينة بمعنى محل الإقامة عبر بها فقال: {في المدينة} فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يعملون فيها فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز كما قال، {وكان تحته كنز لهما} فلذلك أقمته احتساباً، واختلف في ذلك الكنز كما قال: {وكان تحته كنز لهما} فلذلك أقمته احتساباً واختلف في ذلك الكنز فعن أبي الدرداء أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان ذهباً وفضة» رواه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه والذم على كنزهما في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} (التوبة، 34) لمن لا يؤدي زكاتهما وما يتعلق بهما من الحقوق، وعن سعيد بن جبير قال: كان الكنز صحفاً فيها علم رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس قال: كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل كل الويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، قال البغوي: وهذا قول أكثر أهل التفسير وروي أيضاً ذلك مرفوعاً. قال الزجاج: الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ويجوز عند التقييد أن يقال عنه كنز علم وهذا اللوح كان جامعاً لهما، وقوله: {وكان أبوهما صالحاً} فيه تنبيه على أن سعيه في ذلك كان لصلاحه فيراعى وتراعى ذريته، وكان سياحاً واسمه كاسح، قال ابن عباس: حفظا لصلاح أبيهما وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب: إني أصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي، وعن الحسن أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله الغلامين قال: بصلاح أبيهما، قال: فأبي وجدي خير منه، قال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان من الذين تضع الناس الودائع عنده فيردها إليهم {فأراد ربك أن يبلغا} أي: الغلامان {أشدّهما} أي: الحلم وكمال الرأي {ويستخرجا كنزهما} لينتفعا به وينفعا الصالحين. تنبيه: أسند الإرادة في قوله: فأردت أن أعيبها إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب، وثانياً في قوله: فأردنا إلى الله وإلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله تعالى بدله، وثالثاً في قوله: فأراد ربك إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين، أولأن الأول في نفسه شرّ والثالث خير والثاني ممتزج، أو لأنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه، ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى لأنّ التكفل بصلاح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا لله تعالى أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسايط فإن قيل: اليتيمان هل أحد منهما عرف حصول ذلك الكنز تحت ذلك الجدار أم لا فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار، وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟ وأجيب: لعلهما كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم إن ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط، ولما قرّر الخضر هذه الجوابات قال: رحمة من ربك أي: إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة الله لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما تقرّر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 {وما فعلته} أي: شيئاً من ذلك {عن أمري} أي: عن اجتهادي ورأيي بل بأمر من له الأمر وهو الله تعالى. تنبيه: احتج من ادعى نبوّة الخضر بأمور أحدها قوله تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا} والرحمة هي النبوّة، قال تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} (القصص، 86) والمراد من هذه الرحمة النبوة، قال الرازي: ولقائل أن يقول مسلم: إنّ النبوة رحمة ولكن لا يلزم أن تكون كل رحمة نبوة، الثاني: قوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علماً} وهذا يقتضي أن الله تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله تعالى بلا واسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من الله تعالى، قال الرازي: وهذا الاستدلال ضعيف لأنّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من الله وذلك لا يدل على النبوّة، الثالث: أن موسى عليه السلام قال: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت} والنبي لا يتبع غير نبي في التعلم؟ قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير نبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما غير تلك العلوم فلا، الرابع: أنه أظهر على موسى الترفع حيث قال: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً، وأما موسى فإنه أظهر له التواضع حيث قال: ولا أعصي لك أمراً، وهذا يدل على أنه كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق نبي. قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها، الخامس: قوله وما فعلته عن أمري، وفي المعنى: أني فعلته بوحي من الله وهذا يدل على النبوة. قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف ظاهر الحجة، السادس: ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائىل، فقال موسى: من عرّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إليّ، وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة، قال الرازي: ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات انتهى. وبالجملة فالجمهور على أنه نبي كما مرّ واختلفوا هل هو حيّ أو ميت؟ فقيل: إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم، قال البغوي: وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمة ليطلب عين الحياة وكان الخضر على مقدّمته فوقع الخضر على العين فنزل فاغتسل وشرب وشكر الله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق، وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى: {وما جعلنا البشر من قبلك الخلد} (الأنبياء، 34) وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده. ولما بيّن لموسى سر تلك القضايا قال له {ذلك} أي: هذا التأويل العظيم {تأويل ما لم تسطع} يا موسى {عليه صبراً} وحذف تاء الاستطاعة هنا تخفيفاً فإنّ استطاع واسطاع بمعنى واحد. تنبيه: من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعمله ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سراً لا يعرفه وأن يداوم على التعلم ويتذلل للعلماء ويراعي الأحب في المقال، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حين يتحقق إصراره ثم يهاجره، روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني؟ قال: لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه للعمل به. ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد وقدم الأول إشارة إلى علوّ درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل امرئ فقال عاطفاً على {ويجادل الذين كفروا بالباطل} (الكهف، 56) {ويسألونك} أي: اليهود وقيل: مشركو مكة يا أشرف الخلق {عن ذي القرنين} وذكروا في سبب تسميته بذلك وجوهاً، الأول: قال أبو الطفيل سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبياً أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أمر قومه بتقوى الله تعالى فضربوه على قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه الله تعالى فأمرهم بتقوى الله تعالى فضربوه على قرنه الأيسر فمات، ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين، فيكم مثله يعني نفسه، الثاني: أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث: أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، الرابع: كان على رأسه ما يشبه القرنين، الخامس: كان لتاجه قرنان، السادس: أنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، السابع: كان له قرنان أي: ضفيرتان، الثامن: أنّ الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهدي النور من أمامه وتمتدّ الظلمة من ورائه، التاسع: أنه لقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً لأنه ينطح أقرانه، العاشر: أنه رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها أي: جانبيها فسمي بذلك لهذا السبب، الحادي عشر: أنه كان له قرنان تواريهما العمامة، الثاني عشر: أنه دخل النور والظلمة، وذكروا في اسمه أيضاً وجوهاً الأول: اسمه مرزبان اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، الثاني: اسمه اسكندر بن فيلفوس الرومي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه أقصى المشرق والمغرب وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الاسكندرية وسماها باسم نفسه، الثالث: شمر بن عمر بن أفريقيس الحميري وهو الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وافتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال: *قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً ... ملكاً علا في الأرض غير مفند *بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم سيد واختلفوا في نبوّته مع الاتفاق على إيمانه فقال بعضهم: كان نبياً واحتجوا على ذلك بوجوه، الأول: قوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض} وحمل على التمكين في الدنيا والتمكين الكامل في الدين هو النبوّة، الثاني: قوله تعالى: {وآتيناه من كل شيء سبباً} وهذا يدل على أنه تعالى آتاه من النبوّة سبباً، الثالث: قوله تعالى: {يا ذا القرنين إما أن تعذب} الخ والذي يتكلم الله معه لا بد أن يكون نبياً ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه الله سبحانه وتعالى الملك والحكمة وألبسه الهيبة وقد قالوا: ملك الأرض مؤمنان ذوالقرنين وسليمان وكافران نمروذ وبختنصر ومنهم من قال: إنه كان ملكاً من الملائكة، عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقول: يا ذا القرنين فقال: اللهم غفراً أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة، والأكثر على القول الثاني، ويدل له قول عليّ رضي الله تعالى عنه المتقدم. تنبيه: قد قدّمنا أنّ اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح، والمراد من قوله تعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 هو ذلك السؤال، ثم قال الله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المتعنتين {سأتلو} أي: أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان أعلمني الله تعالى به {عليكم} أي: أيها البعداء، والضمير في قوله تعالى: {منه} لذي القرنين وقيل لله تعالى {ذكراً} أي: خبراً كافياً لكم في تعرّف أمره جامعاً لمجامع ذكره {إنا مكنا له في الأرض} أي: مكنا له أمره من التصرّف فيها مكنة يصل بها إلى جميع مسالكها ويظهر بها على سائر ملوكها {وآتيناه} بعظمتنا {من كل شيء} يحتاج إليه في ذلك {سبباً} أي: وصله توصله إليه من العلم والقدرة والآلة {فأتبع سبباً} أي: سلك طريقاً نحو المغرب قال البقاعي: ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر واتبع في المواضع الثلاثة بتشديد التاء الفوقية ووصل الهمزة قبل الفوقية والباقون بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية واستمرّ متبعاً له {حتى إذا بلغ} في ذلك السير {مغرب الشمس} أي: موضع غروبها {وجدها تغرب في عين حمئة} أي: ذات حمأة وهي الطين الأسود أي: بلغ موضعاً في الغرب لم يبق بعده شيء من العمران وجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة وغروبها في رأي العين كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغرب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر وإلا فهي أكبر من الأرض مرّات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، قال البيضاوي: ولعله بلغ ساحل المحيط فرأى ذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال: وجدها تغرب ولم يقل كانت تغرب، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم. عن أبي درّ قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تغرب في عين حمئة، وقرأ الباقون بغير ألف بعد الحاء وبعد الميم همزة مفتوحة، واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال ابن عباس: حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر: كيف تقرأ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار وسأله كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين كذلك نجده في التوراة {ووجد عندها} أي: عند تلك العين على الساحل المتصل بها {قوماً} أي: أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب أي: تغرب، قيل: كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما يلفظه البحر كانوا كفاراً فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى ذلك بقوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين} إما بوّاسطة الملك إن كان نبياً أو بواسطة نبي زمانه إن لم يكن أو باجتهاد في شريعته {إمّا أن تعذب} بالقتل على كفرهم {وإمّا أن تتخذ} أي: بغاية جهدك {فيهم حسناً} بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل: خيره بين القتل والأسر وسماه حسناً في مقابلة القتل ويؤيد الأوّل قوله {قال أمّا من ظلم} باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله وإلى ذلك أشار بقوله: {فسوف نعذبه} بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق، وقال قتادة كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب المنكر {ثم يردّ إلى ربه} في الآخرة {فيعذبه عذاباً نكراً} أي: شديداً جداً في النار وتقدّم في نكراً سكون الكاف وضمها {وأما من آمن وعمل صالحاً} تصديقاً لما أخبر به من تصديقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 {فله} في الدارين {جزاء الحسنى} أي: الجنة، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة بعد الزاي منوّنة وتكسر في الوصل لالتقاء الساكنين، قال الفراء: نصبه على التفسير أي: لجهة النسبة، وقيل: منصوب على الحال أي: فله المثوبة الحسنى مجزياً بها، والباقون بضم الهمزة من غير تنوين فالإضافة للبيان، قال المفسرون: والمعنى على قراءة النصب فله الحسنى جزاء كما تقول له هذا الثوب هبة، وعلى قراءة الرفع وجهان، الأول: فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح، والثاني: فله جزاء المثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله: ولدار الآخرة، وأمال ألف الحسنى حمزة والكسائي محضة وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح والإمالة بين بين {وسنقول} بوعد لا خلف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة {له} أي: لأجله {من أمرنا} أي: ما نأمره به {يسراً} أي: قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها وهو ما يطيقة ولا يشق عليه مشقة كثيرة {ثم أتبع} لإرادة طلوع مشرق الشمس {سبباً} من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مرّ عليها {حتى إذا بلغ} في مسيره ذلك {مطلع الشمس} أي: الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض {وجدها تطلع على قوم} ، قال الجلال المحلى: هم الزنج وقوله تعالى: {لم نجعل لهم من دونها} أي: الشمس {ستراً} فيه قولان، الأول: أنه لا شيء لهم من سقف ولا جبل يمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم لأن أرضهم لا تحمل بنياناً، قال الرازي: ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس ويظهرون عند غروبها فيكونون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرّف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش وأحوالهم بالضدّ من أحوال سائر الخلق، وقال قتادة: يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم، والثاني: أن معناه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً وفي كتب الهيئة أن أكثر حال الزنج كذلك وحال كل من سكن البلاد القريبة من خط الاستواء، كذلك قال الكلبي: هم عراة يفرش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، وقال الزمخشري وعن بعضهم قال: خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم وإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس سمعت صوتاً كهيئة الصلصلة فغشى عليّ ثم أفقت فلما طلعت الشمس فإذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلوني سربالهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض وقوله تعالى: {كذلك} فيه وجوه؛ الأول: أن معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها، الثاني: أن أمره كما وصفناه من رفعة المكان وبسطة الملك، قال البغوي: والصحيح أن معناه كما حكم في القوم الذين هم عند غروب الشمس كذلك في القوم الذين هم عند مطلعها {وقد أحطنا بما لديه} أي: عند ذي القرنين من الآلات والجند وغيرهما {خبراً} أي: علماً تعلق بظواهره وخفاياه والمعنى أن كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير {ثم} إن ذا القرنين لما بلغ المغرب والمشرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 {أتبع سبباً} آخر من جهة الشمال في إرادة ناحية السدّ مخرج يأجوج ومأجوج واستمر آخذاً فيه {حتى إذا بلغ} في مسيره ذلك {بين السدّين} أي: بين الجبلين وهما جبلا أرمينية وأذربيجان وقيل: جبلان في أواخر الشمال، وقيل: هذا المكان في منقطع بلاد الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج، قال الرازي: والأظهر أن موضع السد في ناحية الشمال سد الاسكندر ما بينهما كما سيأتي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بفتح السين والباقون بضمها وهما لغتان معناهما واحد، وقال عكرمة: ما كان من صنع بني آدم فهو السد بالفتح وما كان من صنع الله فهو بالضم وقاله أبو عمرو وقيل بالعكس {وجد من دونهما} أي: بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين {قوماً} أي: أمة من الناس لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم عن بقية البلاد فهم كذلك {لا يكادون} أي: لا يقربون {يفقهون} أي: يفهمون {قولاً} ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر القاف والباقون بفتحهما، وقال ابن عباس: لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم واستشكل بقولهم: {قالوا يا ذا القرنين} وأجيب بأنه تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم {إن يأجوج ومأجوج} وهما اسمان أعجميان لقبيلتين فلم ينصرفا، وقرأ عاصم بهمزة ساكنة بعد الياء والميم والباقون بالألف فيهما وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوءها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم وهم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام، قال الضحاك: هم جيل من الترك، قال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجة فجميع الترك منهم، وعن قتادة أنهم اثنان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السدّ على إحدى وعشرين قبيلة وبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين، قال: أهل التواريخ أولاد نوح عليه السلام ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وقال ابن عباس في رواية عطاء هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء، وروي عن حذيفة مرفوعاً أن يأجوج أمة ومأجوج أمة وكل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون في خراب الأرض، وقال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة وهؤلاء لا تقوم لهم الجبال ولا الحديد، وصنف منهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ومنهم أن ثبت لهم مخالب في أظفارهم وأضراسهم كأضراس السباع، وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول، وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم، وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز فلما بلغ كان عبداً صالحاً قال الله تعالى: إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها: هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها: ناويل وأمم في وسط الأرض منهم الجن والأنس ويأجوج ومأجوج، فقال ذو القرنين: بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم، قال الله تعالى: إني سأطوقك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحفظك الظلمة من ورائك فانطلق حتى أتي مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته فمنهم من آمن ومنهم من كفر ومنهم من صدّ عنه فعمد إلى الذين تولوا عنه وأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ثم أخذ بناحية الأرض اليسرى فأتى ناويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي وسط الأرض فلما كان مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم أي: وهم يأجوج ومأجوج {مفسدون في الأرض} يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلقه الله في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا يشك أنهم سيملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها، وقال الكلبي: فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه وأدخلوه أرضهم وقد بالغوا ولقوا منهم أذى شديداً وقتلاً، وقيل: فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس، وقيل: معناه أنهم سيفسدون في الأرض بعد خروجهم {فهل نجعل لك خرجاً} أي: جعلا من المال، وقرأ حمزة والكسائى بفتح الراء وألف بعدها والباقون بسكون الراء ولا ألف بعدها فقيل: هما بمعنى، وقيل: الخرج ما تبرّعت به والخراج ما لزمك {على أن تجعل} في جميع ما {بيننا وبينهم} من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك الله من المكنة {سدّاً} أي: حاجزاً بين هذين الجبلين فلا يصلون إلينا، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة برفع السين والباقون بالنصب، { قال} لهم ذو القرنين {ما مكّنى فيه ربي} أي: المحسن إليّ مما ترونه من الأموال والرجال والتوصل إلى جميع الممكن للمخلوق {خير} من خراجكم الذي تريدون بذله كما قال سليمان عليه السلام: {فما آتاني الله خير مما آتاكم} (النمل، 36) ، وقرأ ابن كثير بنون مفتوحة بعد الكاف وبعدها نون مكسورة والباقون بنون واحدة مكسورة مشدّدة {فأعينوني بقوّة} أي: أني لا أريد المال بل أعينوني بأيديكم وقوّتكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وبالآلات التي أتقوّى بها في فعل ذلك فإن ما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه لا لمثل هذا {أجعل بينكم} أي: بين ما تحتصون به {وبينهم ردماً} أي: حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض من التلاصق والتلاحم وهو أعظم من السد من قولهم ثوب ردم إذا كان رقاعاِ فوق رقاع قالوا: وما تلك القوة؟ قال: فعلة وصناع يحسنون البناء، قالوا: وما تلك الآلات؟ قال: {آتوني} أي: أعطوني {زبر الحديد} أي: قطعة وهو جمع زبرة كغرفة وغرف، قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة فأتوه به وبالحطب حفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم {حتى إذا ساوى} أي: بذلك البناء {بين الصدفين} أي: بين جانبي الجبلين أي: سوى بين طرفي الجبلين سميا بذلك لأنهما يتصادفان أي: يتقابلان من قولهم: صادفت الرجل لاقيته وقابلته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع الصاد والدال وشعبة برفع الصاد وسكون الدال والباقون بنصب الصاد والدال، ثم وضع المنافخ وأطلق النار في الحطب والفحم و {قال} أي: للعملة {انفخوا} فنفخوا {حتى إذا جعله} أي: الحديد {ناراً} أي: كالنار {قال آتوني} أي: أعطوني {أفرغ عليه قطراً} أي: أصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فصبه عليه فدخل في خلال الحديد مكان الحطب لأن النار أكلت الحطب حتى لزم الحديد النحاس فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، قال الزمخشري: قيل ما بين السدين مائة فرسخ، وروي أن عرضه كان خمسين ذراعاً وارتفاعه مائتي ذراع، وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً «وفي رواية عن رجل من أهل المدينة قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء» وهذه معجزة عظيمة إن كان نبياً أو كرامة إن لم يكن؛ لأنّ هذه الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان أن يقرب منها والنفخ عليها لا يكون إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها حتى تمكنوا من العمل فيها. تنبيه: قطراً هو المتنازع فيه وهذه الآية أشهر أمثلة النحاة في باب التنازع وبها تمسك البصريون على أن أعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى إذ لو كان قطراً مفعول آتوني لأضمر مفعول أفرغ حذراً من الإلباس، ثم قال تعالى: {فما} أي: فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمل الردم وأحكمه ما {اسطاعوا} أي: يأجوج ومأجوج وغيرهم {أن يظهروه} أي: يعلوا ظهره لعلوّه وملاسته، وقرأ حمزة بتشديد الظاء والباقون بالتخفيف {وما استطاعوا له نقباً} أي: خرقاً لصلابته وسمكه وزيادة التاء هنا تدل على أنّ العلوّ عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علوّ الجبل فإنهم ولو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنهم لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر، ويؤيده أنهم إنما يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهورهم عليه ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن «عن أبي رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله تعالى فيستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس» الحديث، وفي حديث الصحيحين عن زينب بنت جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وروياه عن أبي هريرة وفيه مثل هذا وعقد تسعين لأن هذا في آخر الزمان، ثم إنه قيل فما قال حين فراغه قيل: {قال هذا} أي: السد يعني الإقدار عليه {رحمة} أي: نعمة {من ربي} أي: المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع العادية {فإذا جاء وعد ربي} بقرب قيام الساعة أو بوقت خروجهم {جعله دكاً} أي: مدكوكاً مبسوطاً، روي أنهم يخرجون على الناس فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون: قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسوة وعلواً، فيبعث الله تعالى عليهم نغفاً في رقابهم، وفي رواية في آذانهم فيهلكون، قال صلى الله عليه وسلم «فو الذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً» أخرجه الترمذي، قوله قسوة وعلواً أي: غلظة وفظاظة وتكبراً، والنغف دود يخرج في أنوف الإبل والغنم، وقوله: وتشكر من لحومهم شكراً يقال: شكرت الشاة شكراً حين امتلأ ضرعها لبناً، والمعنى أنها تمتلئ أجسادها لحماً وتسمن، وعن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة من النخل فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم وإنه شاب قطط أي: شديد الجعودة، وقيل: حسن الجعودة عينه طافية أي: بارزة، وقيل: مخسوفة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من حلة بين الشام والعراق فعاث أي: أفسد يميناً وعاث شمالاً يا عباد الله فاثبتوا قلنا: يا رسول الله وما مكثه في الأرض قال: أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيام كأيامكم قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا أقدروا له قدره أي: واليوم الثاني والثالث كذلك، وسكت عن ذلك للعلم به من الأوّل، قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال: «كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درّاً واسعة ضروعها وأملأها خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شاباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين أي: حلتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه حتى يدركه بباب لد قرية بالشام قريبة من الرملة فيقتله ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويخبرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فجوّز عبادي إلى الطور ويبعث يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم وهو بالتحريك دود يكون في أنوف الإبل والغنم كما مرّ واحدتها نغفة فيصبحون فرساً أي: قتلى الواحد فريس، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله تعالى عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم حيث شاء الله تعالى، ثم يرسل الله تعالى مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة وهي بالتحريك جمعها زلف مصانع الماء، ويجمع على المزالف أيضاً أي: فتصير الأرض كأنها مصنعة من مصانع الماء، وقيل كالمرآة، وقيل الزلفة الروضة، وقيل بالقاف أيضاً ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل وهو بتحريك الراء والسين من الإبل والغنم من عشرة إلى خمسة وعشرين حتى أن اللقحة من الأبل لتكفي الفئام من الناس وهو مهموز الجماعة الكثيرة واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى عليهم ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيهاتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة {وكان وعد ربي} الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج وإحراقهم الأرض وإفسادهم لها قرب قيام الساعة {حقاً} كائناً لا محالة فلذلك أعان تعالى على هدمه هذا آخر حكاية ذي القرنين. وفي القصة أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشيرزور وذكر بعضهم أنّ عمره كان نيفاً وثلاثين سنة، سبحان من يدوم عزه وبقاؤه، ثم إنه تعالى قال عاطفاً على ما تقديره فقد بان أمر ذي القرنين أيّ بيان وصدق في قوله فإذا جاء وعد ربي فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاً فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال { وتركنا بعضهم} أي: يأجوج ومأجوج {يومئذٍ} أي: حين يخرجون {يموج} أي: يضطرب {في بعض} كموج البحر أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ويؤيده {ونفخ في الصور} أي: القرن النفخة الثانية لقوله تعالى: {فجمعناهم} أي: الخلائق في مكان واحد يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 القيامة، قال البقاعي: ويجوز أن تكون هذه الفاء فاء الفصيحة فيكون المراد النفخة الأولى أي: ونفخ فمات الخلائق كلهم فبليت أجسامهم وتفتت عظامهم كما كان من تقدّمهم، ثم نفخ الثانية فجمعناهم من التراب بعد تمزقهم فيه وتفرّقهم في أقطار الأرض بالسيول والرياح وغير ذلك {جمعاً} فأمتناهم دفعة واحدة كلمح البصر وحشرناهم إلى الموقف للحساب ثم للثواب والعقاب، {وعرضنا} أي: أظهرنا {جهنم يومئذٍ} أي: إذ جمعناهم لذلك {للكافرين عرضاً} ظاهرة لهم بكل ما فيها من الأهوال وهم لا يجدون لهم عنها مصرفاً. ثم وصفهم بما أوجب لهم ذلك بقوله تعالى: {الذين كانت} كوناً كأنه جبلة لهم {أعينهم} وهو بدل من الكافرين {في غطاء عن ذكري} أي: عن القرآن فهم لا يهتدون به وعما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه ثم إحيائه وإعادته بعد إبداده {وكانوا} بما جعلناهم عليه {لا يستطيعون سمعاً} أي: لا يقدرون أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يتلو عليهم بغضاله فلا يؤمنون به. ولما بيّن تعالى أمر الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أتبعه بقوله تعالى: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي} من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح والأموات كالأصنام {من دوني} وقوله تعالى: {أولياء} أي: أرباباً مفعول ثان ليتخذوا، والمفعول الثاني لحسب محذوف والمعنى أظنوا أنّ الاتخاذ المذكور ينفعهم ولا يغضبني ولا أعاقبهم عليه كلا، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها وهم على مراتبهم في المدّ. ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري ليس الأمر كذلك حسن جداً قوله تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم {إنا أعتدنا جهنم} التي تقدم أنا عرضناها لهم {للكافرين} أي: هؤلاء وغيرهم {نزلاً} أي: هي معدة لهم كالمنزل المعد للضعيف وهذا على سبيل التهكم ونظيره قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران، 21) {س18ش103/ش110 قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِا?خْسَرِينَ أَعْمَا? * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُو?لَا??ـ?ِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا? بِـ?َايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآ?ـ?ِهِ? فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَالِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا? وَاتَّخَذُو?ا? ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُوًا * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا? وَعَمِلُوا? الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُ? * خَالِدِينَ فِيهَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَ? * قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ? مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَآ أَنَا? بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى? إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله وَاحِدٌ? فَمَن كَانَ يَرْجُوا? لِقَآءَ رَبِّهِ? فَلْيَعْمَلْ عَمَ? صَالِحًا وَيُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ? أَحَدَ?ا} ثم ذكر تعالى ما فيه تنبيه على جهل القوم فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم. {قل} لهم {هل ننبئكم} أي: نخبركم وأدغم الكسائي لام هل في النون والباقون بالإظهار {بالأخسرين أعمالاً} أي: الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً ونوالاً فنالوا هلاكاً وبواراً، واختلفوا فيهم فقال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص: هم اليهود والنصارى وهو قول مجاهد، قال سعد بن أبي وقاص: أما اليهود فكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما النصارى فكفروا بالجنة فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب انتهى. قال البقاعي: وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني، وقيل: هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع. تنبيه: أعمالاً تمييز للأخسرين جمع عمل وإن كان مصدر التنوع أعمالهم، ثم وصفهم تعالى بضدّ ما يدّعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال تعالى: {الذين ضلّ} أي: ضاع وبطل {سعيهم في الحياة الدنيا} لكفرهم. تنبيه: محل الموصول الجر نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو النصب على الذم أو الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال، ومعنى خسرانهم أنه مثلهم بمن يشتري سلعة يرجو فيها ربحاً فخسر وخاب سعيه كذلك أعمال هؤلاء الذين أتعبوا أنفسهم مع ضلالهم فبطل جدّهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 واجتهادهم في الحياة الدنيا {وهم يحسبون} أي: يظنون، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر {أنهم يحسنون صنعاً} أي: عملاً يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق. ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى: {أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين كفروا بآيات ربهم} أي: بدلائل توحيده من القرآن وغيره {ولقائه} أي: رؤيته لأنه يقال: لقيت فلاناً أي: رأيته فإن قيل: اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى: فالتقى الماء على أمر قد قدر وذلك في حق الله تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب الله تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب: بأنّ لفظ اللقاء، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول: إن المراد لقاء ثواب الله قال: لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار، ثم قال تعالى: {فحبطت} أي: فبسبب جحدهم الدلائل بطلت {أعمالهم} فصارت هباءً منثوراً فلا يثابون عليها، وفي قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} قولان؛ أحدهما: أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار، تقول العرب: ما لفلان عندي وزن أي: قدر لخسته، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» ، وقال: اقرؤوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} » ، الثاني: لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات، وقال أبو سعيد الخدري: تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً فذلك قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} . ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى: {ذلك} أي: الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم {جزاؤهم} ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى: {جهنم} وصرّح بالسببية بقوله تعالى: {بما كفروا} أي: بما أوقعوا التغطية للدلائل {واتخذوا آياتي} الدالة على واحدانيتنا {ورسلي} المؤيدين بالمعجزات الظاهرات {هزوا} أي: مهزوءاً بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقاراً. ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لا حد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله: {إن الذين آمنوا} أي: باشروا الإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الخصال {كانت لهم} أي: في علم الله قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس {جنات} أي: بساتين {الفردوس} أي: أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان، روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، وقال كعب: الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب، وقال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الزجاج: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وقال عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة الأشجار {نزلاً} أي: منزلاً كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً وقوله تعالى: {خالدين فيها} حال مقدرة {لا يبغون} أي: لا يريدون أدنى إرادة {عنها حولاً} أي: تحويلاً إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحوّلوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. ولما ذكر تعالى في هذه السورة أنواع الدلائل والبيّنات وشرح فيها أقاصيص الأوّلين والآخرين نبه على حال كمال القرآن بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم. {قل} يا أشرف الخلق للخلق {لو كان البحر} أي: ماؤه على عظمته عندكم {مداداً} وهو اسم لما يمدّ به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج {لكلمات} أي: لكتب كلمات {ربي} أي: المحسن إليّ {لنفد} أي: فني مع الضعف فناء لا تدارك له {البحر} لأنه جسم متناه {قبل أن تنفذ} أي: تفنى وتفرغ {كلمات ربي} لأنّ معلوماته تعالى غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال تعالى: {ولو جئنا بمثله} أي: بمثل البحر الموجود {مدداً} أي: زيادة ومعونة ونظيره قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} (لقمان، 27) ، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال البغوي وابن عباس: قالت اليهود: تزعم يا محمد أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} (النبوة، 269) ، ثم تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال البيضاوي: وسبب نزولها أن اليهود قالوا: في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وتقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً انتهى. وقال في «الكشاف» يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله، وقيل: لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، قالت اليهود: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية. ولما كانوا ربما قالوا: مالك لا تحدّث من هذه الكلمات بكل ما سألنا عنه قال الله تعالى: {قل} يا خير الخلق لهم {إنما أنا بشر} في استبداد القدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالغيب {مثلكم} أي: لا أمر لي ولا قدرة إلا ما يقدرني ربي عليه ولكن {يوحى إليّ} أي: من الله تعالى الذي خصني بالرسالة كالوحي إلى الرسل قبلي {أنما إلهكم} الذي يجب أن يعبد {إله واحد} لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها قادر على ما يريد، لا منازع له لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا من جهل هذا الذي يعني كل أحد علمه، وأما ما سألتم عنه في أمر الروح والقصتين تعنتا لي فأمر لو جهلتموه ما ضرّكم جهله {فمن} أي: فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من {كان يرجو لقاء ربه} أي: يخاف المصير إليه وقيل يأمل رؤية ربه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً قال الشاعر: *فلا كل ما ترجو من الخير كائن ... ولا كل ما ترجو من الشر واقع فجمع بين المعنيين {فليعمل عملاً} ولو قليلاً {صالحاً} يرتضيه الله {ولا يشرك} أي: وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء {بعبادة ربه أحداً} فإذا عمل ذلك حاز فخار علوم الدنيا والآخرة، روي أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 العمل لله فإذا اطلع عليه سرّني فقال: «إن الله لا يقبل ما شورك فيه فنزلت تصديقاً، وروي أنه قال له: لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وذلك إذا قصد أن يقتدي به، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي عمله» ، وعن سعيد بن فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله تبارك وتعالى الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه منه فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك» والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة. خاتمة: روي في فضائل سورة الكهف أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره من قرأها عند مضجعه كان له نور يتلألأ في مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ، وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» ، وقال البيضاوي وعنه عليه السلام: «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه» ، ولكن الذي رواه الإمام أحمد: «من قرأ أول سورة الكهف كانت له نوراً من فرقه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء» ، وروى البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ أوّل سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء» فنسأل الله تعالى أن ينوّر قلوبنا وأبصارنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، وأن يفعل ذلك بوالدينا وأولادنا وأقاربنا وأصحابنا ومشايخنا وجميع إخواننا المسلمين وأحبابنا آمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين. سورة مريم عليها السلام مكية وهي ثمان وتسعون آية، وسبعمائة واثنان وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان {بسم الله} المنزه عن كل شائبة نقص القادر على كل ما يريد {الرحمن} الذي عم نواله سائر مخلوقاته {الرحيم} بسائر خلقه، واختلف في تفسير قوله تعالى: {كهيعص} قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن، وقيل: هو اسم الله الأعظم، وقيل: هو اسم السورة، وقيل: قسم أقسم الله به. وعن الكلبي: هو ثناء أثنى الله به على نفسه، وعنه معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده. وعن ابن عباس قال: الكاف من كريم وكبير، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقيل: إنه من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وقرأ نافع بإمالة الهاء والياء بين بين وأمالهما محضة شعبة والكسائي وأمال الهاء محضة أبو عمرو وابن عامر وحمزة، وللسوسي في الياء خلاف في الإمالة محضة والفتح والباقون، وهم ابن كثير وحفص بفتحهما بلا خلاف ولجميع القراء في العين المدّ والتوسط، وقوله تعالى: {ذكر} مبتدأ محذوف الخبر تقديره مما يتلى عليكم أو خبر محذوف المبتدأ تقديره المتلو ذكر أو هذا ذكر {رحمت ربك} وقوله تعالى: {عبده} مفعول رحمة لأنها مصدر بني على التاء لأنها دالة على الوحدة ورسمت بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف بالتاء على الرسم الباقون وقوله تعالى: {زكريا} بيان له. تنبيه: اعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصص جملة من الأنبياء. الأولى: هذه القصة وهي قصة زكريا فيحتمل أن المراد من قوله تعالى: {رحمة ربك} أنه عني عبده زكريا في كونه رحمة وجهان: أحدهما: أنه يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعة، والثاني: أن يكون رحمة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى لما شرع له صلى الله عليه وسلم طريقته في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لطفاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة، فكان زكريا رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي يرحم بها عبده زكريا {إذ نادى ربه نداء} مشتملاً على دعاء {خفياً} أي: سراً جوف الليل؛ لأنه أسرع إلى الإجابة وإن كان الجهر والإخفاء عند الله سيان، وقيل: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمن الشيخوخة، وقيل: أسره من مواليه الذين خافهم، وقيل: خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات. فإن قيل: من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً؟. أجيب: بوجهين، الأول: أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن صوته كان ضعيفاً لنهاية ضعفه بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى القصد خفياً نظراً إلى الواقع، الثاني: أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك} (آل عمران، 39) وكون الإجابة في الصلاة يدلّ على كون الدعاء فيها فيكون النداء فيها خفياً. تنبيه: في ناصب إذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ذكر ولم يذكر الحوفي غيره، والثاني: رحمة ولم يذكر الجلال المحلى غيره وذكر الوجهين أبو البقاء، والثالث: أنه بدل من زكريا بدل اشتمال لأن الوقت مشتمل عليه ثم كأنه قيل: ما ذلك النداء؟ فقيل: {قال ربّ} بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب {إني وهن} أي: ضعف جداً {العظم مني} أي: هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها وقوله: {واشتعل الرأس} أي: مني {شيباً} تمييز محوّل عن الفاعل أي: انتشر الشيب في شعره كما ينتشر شعاع النار في الحطب وإني أريد أن أدعوك {ولم أكن بدعائك} أي: بدعائي إياك {رب شقياً} أي: خائباً فيما مضى فلا تخيبني فيما يأتي وإن كان ما أدعو به في غاية البعد في العادة لكنك فعلت مع أبي إبراهيم مثله فهو دعاء وشكر واستعطاف، ثم عطف على قوله: إني وهن قوله: {وإني خفت الموالي} أي: الذين يلوني في النسب كبني العم أن يسيئوا الخلافة {من ورائي} أي: في بعض الزمان الذي بعدي {وكانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 امرأتي عاقراً} لا تلد أصلاً بما دل عليه فعل الكون {فهب لي} أي: فتسبب عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة وخوفي من سوء خلافة أقاربي ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي وبلوغي من الكبر حدّاً لا حراك بي معه أني أقول لك: يا قادر على كل شيء هب لي {من لدنك} أي: من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات {ولياً} أي: ابناً من صلبي {يرثني} في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوّة والعمل {ويرث} زيادة على ذلك {من آل يعقوب} جزءاً مما خصصتهم به من المنح وفضلتهم به من النعم ومحاسن الأخلاق ومعالي الشيم فإن الأنبياء لا يورثون المال، وقيل: يرثني الحبورة أي: العلم بتحبير الكلام وتحسينه فإنه كان حبراً هو بالفتح والكسر وهو أفصح، يقال: للعالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام. وقيل: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوّة ولفظ الإرث يستعمل في المال وفي العلم والنبوّة، أما في المال فلقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} (الأحزاب، 27) ، وأما في النبوة فلقوله تعالى: {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} (غافر، 53) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم «العلماء ورثة الأنبياء» ولأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليه السلام: {ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} (يوسف، 6) ولأن إسرائيل قد صار علماً على الأسباط كلهم وكانت قد غلبت عليهم الأحداث، وقرأ أبو عمرو والكسائي بجزم الثاء المثلثة فيهما على أنهما جواب الأمر إذ تقديرهما إن تهب يرث والباقون بالضم فيهما على أنهما صفة واعتراض بأن زكريا دعا الله تعالى أن يهبه ولداً يرثه مع أن يحيى قتل قبله فلم يجبه إلى أرثه منه وأجيب: بأن إجابة دعاء الأنبياء غالبة لا لازمة فقد يتخلف لقضاء الله تعالى بخلافه كما في دعاء إبراهيم عليه السلام في حق أبيه وكما في دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» ، ولما كان من قضاء الله تعالى وقدره أن يوجد يحيى نبياً صالحاً ثم يقتل استجيب دعاء زكريا في إيجاده دون إرثه. ولما ختم دعاءه بقوله: {واجعله رب} أي: أيها المحسن إليّ {رضياً} أي: مرضياً عندك، أجابه الله تعالى بقوله تعالى: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام} يرث كما سألت {اسمه يحيى} وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الموحدة وكسر الشين مشددة وكذلك في آخر السورة. تنبيه: يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: منقول من الفعل المضارع كما سموا بيعمر، وإنما تولى تعالى تسميته تشريفاً له قال تعالى: {لم نجعل له من قبل سمياً} (مريم، 65) أي: مسمى بيحيى، قال قتادة والكلبي: لم يسمّ أحد قبله بيحيى. تنبيه: سمياً مأخوذ من السمّو وفيه دلالة لقول البصريين إن الاسم من السمو، ولو كان من الوسم لقيل وسيماً، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبهاً ومثلاً كما قال تعالى: {هل تعلم له سمياً} أي: مثلاً والمعنى أنه لم يكن له مثل لأنه لم يعص ولم يهمّ بمعصية قط، وردّ هذا لأن هذا يقتصي تفضيله على الأنبياء قبله كإبراهيم وموسى وليس كذلك، وقيل: لم يكن له ميل إلى أمر النساء لأنه كان سيداً وحصوراً، وعن ابن عباس لم تلد العواقر مثله ولداً، ثم كأنه قيل: فما قال في جواب هذه البشارة العظيمة؟ فقيل: {قال} عالماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 بصدقها طالباً لتأكيدها وللتلذذ بترديدها وهل ذلك من امرأته أو من غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل؟ {رب} أيها المحسن إليّ بإجابة الدعاء دائماً {أنّى} أي: من أين وكيف وعلى أي: حال {يكون لي غلام} يولد في غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة {وكانت} أي والحال أنه كانت {امرأتي} إذ كانت شابة {عاقراً} غير قابلة للولد وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيلين فكيف بها وقد أيست؟ قال الجلال المحلي: بلغت ثماناً وتسعين سنة {وقد بلغت} أنا {من الكبر عتياً} من عتا يبس أي: نهاية السنّ، قال الجلال المحلي: مائة وعشرين سنة وبما تقرر سقط ما قيل لم تعجب زكريا عليه السلام بقوله: أنى يكون لي غلام مع أنه هو الذي طلب الغلام، وقرأ حفص وحمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً بكسر عين الأوّل وصاد الثاني وجيم الثالث وضم الباقون، وأما بكياً فكسر الباء الموحدة حمزة والكسائي وضمها الباقون، وأصل عتي عتو وكسرت التاء تخفيفاً وقلبت الواو الأولى ياء لمناسبة الكسرة، والثانية ياء لتدغم فيها وإنما استعجب للولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافاً بأن المؤثر فيه كامل القدرة وأن الوسايط عند المحققين ملغاة ولذلك {قال} أي: الله تعالى كما قال الأكثرون لأن زكريا إنما كان يخاطب الله ويسأله بقوله: رب إني وهن العظم مني أو الملك المبلغ للبشارة تصديقاً له لقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى} (آل عمران، 39) وأيضاً فإنه لما قال: وقد بلغت من الكبر عتياً قال: {كذلك} أي: الأمر كذلك فهو خبر مبتدأ محذوف ثم علله بقوله: {قال ربك} أي: الذي عوّدك بالإحسان فدل ذلك على أنه كلام الملك، قال ابن عادل: ويمكن أن يجاب بأنه يحتمل أن يحصل النداآن نداء الله تعالى ونداء الملك، ثم ذكر مقول القول فقال: {هو} أي: خلق يحيى منكما على هذه الحالة {عليّ} أي: خاصة {هين} أي: بأن أردّ عليك قوّة الجماع وأفتق رحم امرأتك للعلوق {وقد خلقتك} أي: قدّرتك وصوّرتك وأوجدتك {من قبل ولم} أي: والحال أنك لم {تك شيئاً} بل كنت معدوماً صرفاً وفيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشيء ولإظهار الله تعالى هذه القدرة العظيمة ألهمه السؤال ليجاب بما يدل عليها، وقرأ حمزة والكسائي بعد القاف بنون بعدها ألف والباقون بعد القاف بتاء مضمومة. ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به {قال رب اجعل لي} على ذلك {آية} أي: علامة تدلني على وقوعه {قال آيتك} على وقوع ذلك {أن لا تكلم الناس} أي: لا تقدر على كلامهم بخلاف ذكر الله تعالى {ثلاث ليال} أي: بأيامها كما في آل عمران ثلاثة أيام حال كونك {سوياً} من غير خرس ولا مرض وجعلت الآية الدالة عليه سكوت ثلاثة أيام ولياليهن من غير ذكر الله دلالة على اخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله تعالى دون غيره {فخرج} عقب إعلام الله تعالى له بهذا {على قومه من المحراب} أي: من المسجد وهم ينتظرونه أن يفتح لهم الباب متغيراً لونه فأنكروه وهو منطلق اللسان بذكر الله تعالى منحسبه عن كلام الناس فقالوا: مالك يا نبيّ الله؟ {فأوحى إليهم} أي: أشار بشفتيه من غير نطق، وقال مجاهد: كتب لهم في الأرض {أن سبحوا} أي: أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها {بكرة وعشياً} أي: أوائل النهار وأواخره على العادة فعلم بمنعه من كلامهم حملت امرأته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 بيحيى، قال الجلال المحلي: وبعد ولادته بسنين قال الله تعالى له: {يا يحيى خذ الكتاب} أي: التوراة {بقوة} أي: جدّ ثم إن الله تعالى وصفه بصفات الأولى قوله تعالى: {وآتيناه الحكم} قال ابن عباس النبوّة {صبياً} قال الجلال المحلي: تبعاً للبغوي ابن ثلاث سنين أي: أحكم الله عقله في صباه واستنبأه وقيل المراد بالحكم الحكمة وفهم التوراة فقرأ التوراة وهو صغير. قال البغوي: وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبياً. الصفة الثانية قوله تعالى: {وحناناً} أي: وآتيناه رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة {من لدنّا} أي: من عندنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وزكاة} أي: وآتيناه طهارة في دينه، قال ابن عباس: يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقال قتادة: هي العمل الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدّق الله بها على أبويه. الصفة الرابعة قوله تعالى: {وكان} أي: جبلة وطبعاً {تقياً} أي: مخلصاً مطيعاً، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهمّ بها. الصفة الخامسة قوله تعالى: {وبراً بوالديه} أي: بارّاً لطيفاً بهما محسناً إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من برّ الوالدين يدل عليه قوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً} (الإسراء، 23) . الصفة السادسة قوله تعالى {ولم يكن جباراً} أي: متكبراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {واخفض جناحك للمؤمنين} (الحجر، 88) ، وقال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران، 159) ولأن رأس العبادة معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به التجبر والترفع ولذلك لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعداً عن رحمة الله تعالى وعن المؤمنين، وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من التعظيم والذهاب بنفسه من أنه لا يلزمه قضاء حق لأحد، وقيل: هو كل من عاقب على غضب نفسه. الصفة السابعة قوله تعالى: {عصياً} أي: عاقاً أو عاصي ربه وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم. الصفة الثامنة قوله تعالى: {وسلام عليه} منا {يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً} . فإن قيل: لم خص هذه الأوقات الثلاثة؟ أجيب: بوجوه: الأول: قال محمد بن جرير الطبري: وسلام عليه يوم ولد أي: أمان من الله تعالى عليه يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم ويوم يموت أي: أمان من الله من عذاب القبر، ويوم يبعث أي: ومن عذاب الله يوم القيامة. الثاني: قال ابن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن؛ يوم ولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى في محشر عظيم، فأكرم الله تعالى يحيى عليه السلام فخصه بالسلام في هذه المواطن. الثالث: قال عبد الله بن نفطوية: وسلام عليه يوم ولد أي: أوّل ما يرى في الدنيا ويوم يموت أي: أول يوم يرى فيه أمر الآخرة، ويوم يبعث حياً أي: أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال: حياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لأنه قتل، وقد قال تعالى {أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران، 169) فروع: الأول: هذا السلام يمكن أن يكون من الله وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين ففيه دلالة على تشريفه لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى. الثاني: ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 لقوله تعالى: {سلام على نوح} (الصافات، 79) {سلام على إبراهيم} (الصافات، 109) لأنه تعالى قال يوم ولد وليس كذلك سائر الأنبياء. الثالث: روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام: أنت أفضل مني لأن الله تعالى قال: سلام عليه وأنا سلمت على نفسي، قال الرازي: وهذا ليس بقوي لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله تعالى على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمر الله تعالى انتهى ولكن بين السلامين مزية. تنبيه: هذه القصة قد ذكرت في آل عمران بقوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً} (آل عمران، 37) إلى أن قال: {هنالك دعا زكريا ربه قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم} (آل عمران، 38) لأن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حق نفسه فدعا وقد وقعت المخالفة في ذكر ما هنا وهناك في الألفاظ من وجوه، الأول منها: أن الله تعالى صرّح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة بقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} (آل عمران، 39) وفي هذه السورة الأكثر على أن المنادي بقوله يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى هو الله تعالى وأجيب: بأن الله تعالى هو المبشر سواء كان بواسطة أم لا، الثاني: أنه قال تعالى في آل عمران: {أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} (آل عمران، 40) فذكر أولاً كبر سنه ثم عقر امرأته، وفي هذه السورة قال: {أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً} ، وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، الثالث: قال في آل عمران وقد بلغني الكبر، وقال هنا: وقد بلغت من الكبر عتياً وأجيب بأن ما بلغك فقد بلغته، الرابع: قال في آل عمران: {آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} ، وقال هنا: ثلاث ليال سوياً وأجيب بأن الآيتين دلتا على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ كما مرّ. القصة الثانية قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب من قصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد لا من أب البتة وأحسن طرق التعليم والفهم الأخذ من الأقرب فالأقرب مرتقياً إلى الأصعب فالأصعب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره اذكر هذا لهم {واذكر} بلفظ الأمر {في الكتاب} أي: القرآن {مريم} أي: قصتها وهي ابنة عمران خالة يحيى كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك بن صعصعة الأنصاري في حديث الإسراء «فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ثم أبدل من مريم بدل اشتمال فقال: {إذ} أي: اذكر ما اتفق لها حين {انتبذت} أي: كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت {من أهلها} حالة {مكاناً شرقياً} أي: شرقي بيت المقدس. وقال الرازي: شرقي دارها، وعن ابن عباس إني لأعلم خلق الله تعالى لأي شيء اتخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى: {مكاناً شرقياً} فاتخذت ميلاد عيسى قبلة، واقتصر الجلال المحلي على الشرق من الدار وتردّد البيضاوي بينهما فقال: شرقيّ بيت المقدس أو شرقي دارها انتهى، ويحتمل أن يكون شرقي بيت المقدس هو شرقي دارها فلا مخالفة {فاتخذت} أي: أخذت بقصد وتكلف ودل على قرب المكان بالإتيان بالجارّ فقال: {من دونهم} أي: أدنى مكان من مكانهم {حجاباً} أي: أرسلت ستراً تستتر به لغرض صحيح وليس بمذكور، واختلف المفسرون فيه على وجوه: أحدها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 أنها طلبت الخلوة كيلا تشتغل عن العبادة. ثانيها: أنها عطشت فخرجت إلى المفازة تستقي. ثالثها: أنها كانت في منزل زوج أختها زكريا وفيه محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها وثوبها فانفجرت لها الشمس فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك كما قال تعالى: {فأرسلنا} لأمر يدل على عظمتنا {إليها روحنا} أي: جبريل عليه السلام ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب لئلا يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها غماً {فتمثل لها} أي: تشبح بشين معجمة ثم باء موحدة ثم حاء مهملة وهو روحاني بصورة الجسماني {بشراً سوياً} في خلقه حسن الشكل. رابعها: أنها قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها، وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها متمثلاً بصورة شاب أمرد سوي الخلق تستأنس بكلامه إذ لو أتاها في الصورة الملكية لنفرت منه ولم تقدر على استماع كلامه، قال البيضاوي: ولعله لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها أي: مع أمنها الفتنة لعفتها، قال الرازي: وكل هذه الوجوه محتملة وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها. ولما رأت مريم جبريل نحوها {قالت إني أعوذ} أي: أعتصم {بالرحمن} ربي الذي رحمته عامة لجميع خلقه {منك} أي: أن تقربني وفتح ياء أني نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ، ولما تفرست فيه بما أنار الله تعالى من بصيرتها وأصفى من سريرتها التقوى قالت {إن كنت تقياً} أي: مؤمناً مطيعاً، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي: إني عائذة منك أو نحو ذلك دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها فإن قيل: إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت: إن كنت تقياً؟ أجيب: بأن هذا كقول القائل إن كنت مؤمناً فلا تظلمني أي: ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً لك من الظلم كذلك هنا ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنها لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (البقرة، 278) أي: إن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال، وقيل: كان في ذلك الزمان إنسان فاجر يتبع النساء اسمه تقي فظنت مريم أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك فاستعاذت منه، قال الرازي: والأول هو الوجه. ولما علم جبريل عليه السلام خوفها {قال} مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً مؤكداً لأجل استعاذتها {إنما أنا رسول ربك} أي: الذي عذت به فأنا لست متهماً بل متصف بما ذكرت وزيادة الرسالة وعبر باسم الرب المقتضى للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده وقوله: {ليهب لك} قرأ ورش وأبو عمرو وقالون بخلاف عنه بالياء أي: ليهب الله تعالى لك، وقرأ الباقون بالهمز أي: لأهب أنا لك وفي مجازه وجهان، الأول: أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي ينفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى من هو سبب مستعمل، قال الله تعالى في الأصنام: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} (إبراهيم، 36) ، الثاني: أن جبريل عليه السلام لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 بشرها بذلك كانت البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة. ثم بيّن الموهوب بقوله: {غلاماً} أي: ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية ثم وصفه بقوله: {زكياً} أي: نبياً طاهراً من كل ما يدنس البشر نامياً على الخير والبركة {قالت} مريم {أنّى} أي: من أين وكيف {يكون لي غلام} ألده {ولم يمسسني بشر} بنكاح {ولم أك بغياً} أي: زانية فتعجبت مما بشرها به جبريل عليه السلام لأنها قد عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل، والعادة عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداءً وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدّ ولأنها كانت منفردة للعبادة ومن يكون كذلك لا بدّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك وبما تقرر سقط ما قيل، قولها ولم يمسسني بشر يدخل تحته قولها: ولم أك بغياً ولهذا اقتصر عليه في سورة آل عمران بقولها: {قالت رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} (آل عمران، 47) فلم تذكر البغي، ويجوز أن يقال: إنها أفردت ذكر البغي مع دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه فهو نظير قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة، 238) وقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98) {قال} لها جبريل عليه السلام الأمر {كذلك} من خلق غلام منك بغير أب. ولما كان لسان الحال قائلاً كيف يكون بغير سبب أجاب جبريل بقوله: {قال ربك هو} أي: المذكور وهو إيجاد الولد على هذه الهيئة {عليّ} وحدي لا يقدر عليه غيري {هيّن} أي: بأن ينفخ بأمري جبريل فيك فتحملي به ولكون ما ذكر في معنى العلة عطف عليه {ولنجعله} بما لنا من العظمة {آية للناس} أي: علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر وحواء من ذكر بلا أثنى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً {ورحمة منا} على العباد يهتدون به {وكان} ذلك كله {أمراً مقضياً} به في علمي وقوله تعالى: {فحملته} فيه حذف تقديره فنفخنا فيها فحملته دل على ذلك قوله تعالى في سورة التحريم: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} (الأنبياء، 91) ، واختلف في النافخ فقال بعضهم: كان النفخ من الله تعالى لهذه الآية ولأنه تعالى قال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (آل عمران، 59) ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل، وفي حق آدم النافخ هو الله تعالى قال تعالى: {ونفخت فيه من روحي} (الحجر، 29) فكذا ههنا، وقال بعضهم: النافخ جبريل لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام: {لأهب لك} على أحد القراءتين أنه النافخ، واختلف في كيفية نفخه فقيل: إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبها فحملت حين لبسته، وقيل: مدّ إلى جيب درعها أصابعه ونفخ في الجيب، وقيل: نفخ في كمّ قميصها، وقيل: في فيها، وقيل: نفخ جبريل نفخاً من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى في الحال، وقيل: نفخ في ذيلها فدخلت النفخة في صدرها فحملت فجاءت أختها امرأة زكريا تزورها فلما التزمتها عرفت أنها حبلى وذكرت مريم حالها فقالت امرأة زكريا: إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى: {مصدقاً بكلمة من الله} (آل عمران، 39) وقيل: حملت وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وقيل: بنت عشرين وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، قال الرازي: وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقوال المذكورة. ثم عقب بالحمل قوله: {فانتبذت به} أي: فاعتزلت به وهو في بطنها حالة {مكاناً قصياً} أي: بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله: {فأجاءها} أي: فأتى بها وألجأها {المخاض} وهو تحرك الولد في بطنها للولادة {إلى جذع النخلة} وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان وكأنّ تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها فكانت كالعلم لما فيها من العجب لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها لأنها لا تحمل إلا باللقاح من ذكر النخل فحملها بمجرّد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد فكيف إذا كان ذلك في غير وقته، وكانت يابسة مع مالها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك والخرسة بخاء معجمة مضمومة طعام النفساء وهو مراد الجوهري بقوله: طعام الولادة. قال ابن عباس: الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل: ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل: كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر النساء، وقيل: كانت مدة حملها ثمانية أشهر وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدّة وعاش، وقيل: ولد لستة أشهر. ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً كان كأنه قيل: يا ليت شعري ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار {يا ليتني مت} وأشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جارّ {قبل هذا} أي: الأمر العظيم، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي مت بكسر الميم والباقون بالضم {وكنت نسياً} أي: شيئاً من شأنه أن يطرح وينسى {منسياً} أي: متروكاً بالفعل لا يخطر على بالٍ. فإن قيل: لم قالت ذلك مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام إليها ووعدها بأن يجعلها وولدها آية للعالمين؟. أجيب عن ذلك بأجوبة: الأول: أنها تمنت ذلك استحياء من الناس فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى. الثاني: أنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجر وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر، وعن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئاً، وعن علي رضي الله عنه يوم الجمل: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال: ليت بلالاً لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث: لعلها قالت ذلك لئلا يقع في المعصية من يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به، وقرأ حفص وحمزة نسياً بفتح النون والباقون بالكسر وقوله تعالى: {فناداها من تحتها} قرأه نافع وحفص وحمزة بكسر من وجر التاء من تحتها والباقون بفتح من ونصب تحتها وأمال ألف ناداها حمزة والكسائى إمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وفي المنادي أوجه. أحدها: أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير. ثانيها: أنه جبريل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 السلام وأنه كالقابلة للولد. ثالثها: أن المنادي على القراءة بالفتح هو عيسى وعلى القراءة بالكسر هو جبريل وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم، قال الرازي: والأول أقرب وصدر به البيضاوي واقتصر الجلال المحلي على الثاني، والمعنى على الأول أن الله تعالى أنطقه لها حين ولدته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل من علو شأن ذلك الولد، وعلى الثاني أن الله تعالى أرسله إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أوّل الأمر تذكيراً للبشارات المتقدمة والضمير في تحتها للسيدة مريم وعلى تقدير أن يكون المنادي هو عيسى فهو ظاهر، وإن كان جبريل فقيل: إنه كان تحتها يقبل الولد كالقابلة، وقيل: تحتها أسفل من مكانها، وقيل: الضمير فيه للنخلة أي: ناداها من تحتها {أن لا تحزني} يجوز في أن أن تكون مفسرة لتقدمها ما هو بمعنى القول ولا على هذا ناهية وحذف النون للجزم وأن تكون الناصبة و {لا} حينئذٍ نافية وحذف النون للنصب ومحل {أن} إما نصب أو جرّ لأنها على حذف حرف الجر أي: فناداها بكذا {قد جعل ربك} أي: المحسن إليك {تحتك} في هذه الأرض التي لا ماء جار فيها {سرياً} أي: جدولاً من الماء تطيب به نفسك، قال الرازي: اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري: هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه، وأما الحسن وابن زيد فإنهما جعلا السري هو عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال: فلان من سروات قومه أي: أشرافهم، واحتج من قال: هو النهر بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السري فقال: «هو الجدول» وبقوله تعالى: {فكلي واشربي} فدل على أنه النهر حتى يضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب، واحتج من قال: إنه عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كقول فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} (الزخرف، 51) لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى لم يحتج إلى هذا المجاز وأيضاً فإنه موافق لقوله وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأجيب: بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان تحت. تنبيه: إذا قيل بأن السري هو النهر ففيه وجهان؛ الأول: قال ابن عباس: إن جبريل ضرب برجله الأرض، وقيل: عيسى فظهر عين ماء عذب وجرى، وقيل: كان هناك ماء جار، قال ابن عادل: والأول أقرب لأن قوله قد جعل ربك تحتك سرياً يدل على الحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها، وقيل: كان هناك نهر يابس أجرى الله فيه الماء وحييت النخلة اليابسة وأورقت وأثمرت وأرطبت، قال أبو عبيدة والفراء: لسري هو النهر مطلقاً، وقال الأخفش: هو النهر الصغير. {وهزي إليك} أي: أوقعي الهز وهو جذب بتحريك {بجذع النخلة} أي: التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها {تساقط عليك} من أعلاها {رطباً جنياً} طرياً آية أخرى عظيمة روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل الله تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً، وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة وفتح القاف وحفص بضم التاء وفتح السين مخففة وكسر القاف والباقون بفتح التاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وتشديد السين مفتوحة وفتح القاف. تنبيه: الباء في بجذع زائدة والمعنى هزّي إليك جذع النخلة كما في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم} (البقرة، 195) قال الفراء: تقول العرب: هزه وهزيه وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة، وقال الأخفش: يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي: على جذعها ورطباً تمييز وجنياً صفته والرطب اسم جنس بخلاف تخم فإنه جمع لتخمة والفرق: أنهم التزموا تذكيره فقالوا: هو الرطب وتأنيث ذلك فقالوا: هي التخم فذكروا الرطب باعتبار الجنس وأنثوا التخم باعتبار الجمعية، قال ابن عادل: وهو فرق لطيف والرطب ما قطع قبل يبسه وجفافه وخص الرطب بالذكر قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل وهذه الأفعال الخارقة للعادة كرامات لمريم أو إرهاص لعيسى، وفي ذلك تنبيه على أنّ من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل وتطييب لنفسها فلذلك قال: {فكلي} أي: من الرطب {واشربي} من السري أو كلي من الرطب واشربي من عصيره، {وقرّي عيناً} أي: وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنها، وقدّم الأكل على الشرب لأن حاجة النفساء إلى الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدم. فإن قيل: إن مضرة الخوف أشدّ من مضرة الجوع والعطش لأن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن، روي أنه أجيعت شاة فقدّم إليها علف وعندها ذئب فبقيت الشاة مدّة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها خوفاً من الذئب، ثم كسر رجلها وقدم إليها العلف فتناولت العلف مع ألم البدن فدل ذلك على أن ألم الخوف أشدّ من ألم البدن، وإذا كان كذلك فلم قدّم ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟ أجيب: بأنّ هذا الخوف كان قليلاً لأنّ بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدّمت فما كانت تحتاج إلا إلى التذكير مرة أخرى، وقيل: قرّي عيناً بولدك عيسى وقيل: بالنوم فإنّ المهموم لا ينام، وقوله: {فإمّا} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {ترينّ} حذفت منه لام الفعل وعينه وألقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير لالتقاء الساكنين، {من البشر أحداً} ينكر عليك {فقولي} يا مريم لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه، {إني نذرت للرحمن} أي: الذي عمت رحمته {صوماً} أي: إمساكاً عن الكلام في شأنه وغيره مع الإناسي بدليل {فلن أكلم اليوم إنسياً} فإنّ كلامي يقبل الردّ والمجادلة، ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع وأمّا أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء، قالوا: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر. وقيل: صياماً لأنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا؟ قال القفال: لعله يجوز لأنّ الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر بذكر الله تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس، وروي أنه دخل أبو بكر رضي الله عنه على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 أبو بكر: إنّ الإسلام قد هدم هذا فتكلمي. تنبيه: اختلفوا في أنها هل قالت لهم إني نذرت للرحمن صوماً؟ فقال قوم: إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأنها تأتي بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها سكتت وأشارت برأسها وقال آخرون: إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم أنها نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا بعد هذا الكلام {فأتت} أي: فلما سمعت هذا الكلام اشتدّ قلبها وزال حزنها فأتت {به} أي: عيسى {قومها} وإن كان فيهم قوّة المحاولة لكل ما يريدون إتيانه البرئ الموقن بأنّ الله معه حالة كونها {تحمله} غير مبالية بأحد ولا مستحيية واختلفوا في أنها كيف أتت به؟ فقيل: ولدته ثم حلمته في الحال إلى قومها، وقيل: احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار ومكثت فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ثم حملته إلى قومها فكلمها في الطريق فقال يا أمّاه أبشري فإني عبد الله ومسيحه فلما دخلت على أهلها ومعها الصبيّ بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين قال الرازي وليس في القرآن ما يدل على التعيين ثم كأنه قيل فلما أتت به قومها ماذا قالوا لها فقيل {قالوا يا مريم} ما هذا الولد؟ لأنّ حالها في إتيانها به أمر عجيب {لقد جئت شيئاً فرياً} أي: عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذمّ فهو من أفرى الجلد يقال أفريت الأديم إذا قطعته على جهة الإفساد لا من فريته يقال فريته قطعته على جهة الإصلاح ويدل على أنّ مرادهم الأوّل قولهم بعده {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء} أي: زانياً {وما كانت أمّك بغياً} أي: زانية فمن أين لك هذا الولد لأنّ هذا القول ظاهره التوبيخ وفي هارون هذا أربعة أقوال؛ أحدها: أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهارون فكيف صرت هكذا؟ وروي أنّ هارون هذا لما مات تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل تبركاً باسمه، سوى سائر الناس شبهوها به على معنى إنا ظننا أنك مثله في الصلاح وليس المراد منه الأخوّة في النسب كقوله تعالى: {إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (الإسراء، 27) وروى المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» قال ابن كثير وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً فإنّ بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على من عنده أدنى علم وكأنه غرّه في أوّل التوراة أنّ مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله تعالى موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه وجنوده فاعتقد أنّ هذه هي تلك وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح المتقدّم. الثاني: أنه هارون أخو موسى لأنها كانت من نسله كما يقال التميمي يا أخا تميم وللهمداني يا أخا همدان أي: يا واحداً منهم. الثالث: أنه كان فاسقاً في بني إسرائيل فنسبت إليه أي: شبهوها به. الرابع: أنه كان لها أخ من أبيها يسمى هارون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به قال الرازي وهذا هو الأقرب لوجهين؛ الأول: أنّ الأصل في الكلام الحقيقة فيحمل الكلام على أخيها المسمى بهارون الثاني: أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح فحينئذٍ يصير التوبيخ أشدّ لأن من كان حال أبويه وأخيه بهذا الحال يكون صدور الذنب منه أفحش {فأشارت إليه} أي: لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إلى عيسى عليه السلام أنه هو الذي يجيبكم قال ابن مسعود لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا وقالوا سخريتها بنا أشدّ من زناها ثم {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} لم يبلغ سنّ هذا الكلام الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير بكان يدل على أنه عند الإشارة إليه لم يحوجهم إلا أن يكلموه بل حين سمع المحاورة ورأى الإشارة بدا منه قول خارق لعادة الرضعاء بل الصبيان روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابة يمينه وقيل: كلمهم ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان تنبيه: في كان هذه أقوال أحدها: إنها زائدة وهو قول أبي عبيد أي: كيف نكلم من في المهد وصبياً على هذا نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة. ثانيها: أنها تامّة بمعنى حدث ووجدوا والتقدير كيف نكلم من وجد صبياً؟ وصبياً حال من الضمير في كان قال الرازي وهذا هو الأقرب. الثالث: أنها بمعنى صار أي: كيف نكلم من صار في المهد صبياً وصبياً على هذا خبرها، فإن قيل: كيف عرفت مريم من حال عيسى أنه يتكلم؟ أجيب: بأنّ جبريل أو عيسى عليه السلام لما ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت صار ذلك كالتنبيه لها على أنّ المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكريا أو إليها على سبيل الكرامة واختلفوا في المهد فقيل: هو حجرها لما روي أنها أخذته عليه السلام في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل بعد حتى يعد لها المهد وقيل: هو المهد بعينه والمعنى كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد وقال وهب: أتى زكريا مريم عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فوصف نفسه بثمان صفات الصفة الأولى: {قال إني عبد الله} أي: الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره وفي ذلك إشارة إلى أنّ عبد الله لا يتخذ إلهاً من دونه ولا يستعبده شيطان ولا هوى. الصفة الثانية: قوله تعالى {آتاني الكتاب} واختلف في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأنّ الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم هو الإنجيل لأنّ الألف واللام ههنا للجنس وقال قوم التوراة والإنجيل لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق واقتصر البيضاوي على الأوّل والبقاعي على الثالث وزاد عليه والزبور وغيرها من الصحف. الصفة الثالثة: قوله {وجعلني نبيا} واختلف في معنى ذلك فقيل معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً وأتى بلفظ الماضي بجعل المحقق وقوعه كالواقع كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل، 1) وقيل: هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً قال كنت وآدم بين الروح والجسد وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل وكان يعقل عقل الرجال وقال الحسن أُلهم التوراة وهو في بطن أمه. الصفة الرابعة قوله: {وجعلني مباركاً} بأنواع البركات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 {أينما} أي في أي مكان {كنت} وذكروا في تفسير المبارك وجوها. أحدها: أنّ البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير ومعناه وجعلني ثابتاً على دين الله تعالى مستمرّاً عليه. ثانيها: إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله، روى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: سلمت أم عيسى عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال: أيّ شيء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرّة ليضربه فقال: يا مؤّدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فإنني أعلمك؛ الألف من آلاء الله والباء من بهائه والجيم من جماله والدال من أداء الحق إلى الله تعالى» . ثالثها: البركة الزيادة والعلوّ فكأنه قال: جعلني في جميع الأحوال منجحاً مفلحاً لأني ما دمت أتقي الله في الدنيا أكون مستعلياً على الغير بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم أكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء. رابعها: مباركاً على الناس من حيث يحصل بسبب دعائه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وعن قتادة أنّ امرأة رأته وهو يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً تنبيه: قوله: أينما كنت يدل على أنّ حاله لم يتغير كما قيل أنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف. الصفة الخامسة قوله: {وأوصاني بالصلاة} له طهرة للنفس {والزكاة} طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري {ما دمت حيا} ليكون ذلك حجة على من ادّعى أنه إله لأنه لا شبهة في أنّ من يصلي إلى إله ليس بإلاه. فإن قيل: كيف يؤمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً والقلم مرفوع عن الصغير لقوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث» الحديث. أجيب بوجهين؛ الأوّل: أنّ ذلك لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فيكون المعنى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ وهو وقت البلوغ، الثاني: أنّ عيسى لما انفصل صيره الله بالغاً عاقلاً تامّ الخلقة ويدل عليه قوله تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (آل عمران، 59) فكما أنه تعالى خلقه آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيس عليه السلام، قال الرازي: وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ لقوله ما دمت حياً فهذ يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه جميع زمان حياته. فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه رأوا شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يتعجبوا. أجيب: بأنه تعالى جعله مع صغر جثته قويّ التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية والة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل. الصفة السادسة قوله: {وبرّا} أي: وجعلني بارا ولما كان السياق لبراءة والدته قال: {بوالدتي} أي: التي أكرمها الله تعالى بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر وفي ذلك إشارة إلى تنزيه أمّه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها. الصفة السابعة: قوله: {ولم يجعلني جباراً} متعاظماً {شقياً} أي: عاصياً بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق إنما أفعل ذلك بمن يستحق وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال قلبي لين وإني ضعيف في نفسي وعن بعض العلماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 لا أجد العاق إلا جباراً شقياً ولا أجد سي الملكية إلا مختالاً فخوراً وتلا وما ملكت أيمانكم أنّ الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً الصفة الثامنة: قوله: {والسلام} من الله {عليّ} فلا يقدر أحد على ضرّى {يوم ولدت} فلا يضرني شيطان {ويوم أموت} فلا يضرني أيضاً ومن يولد ويموت فليس بإلاه {ويوم أبعث حياً} يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام وفي ذلك إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر وإذا كان جنس السلام عليه كان اتباعه كذلك ولم يبق لأعدائه إلا اللعن، ونظيره قول موسى عليه السلام {والسلام على من اتبع الهدى} (طه، 47) بمعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى {ذلك} أي: الذي تقدّم نعته بقوله: {إني عبد الله} إلى آخره هو {عيسى بن مريم} لا ما يصفه النصارى بقولهم أنه الله أو ابنه أو إله ثالث فهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعل الموصوف بأضداد ما يصفونه وفي ذلك تنصيص على أنه ابن هذه المرأة وقوله تعالى: {قول الحق} قرأ عاصم وابن عامر بنصب اللام على أنه مصدر مؤكد والباقون بالرفع على أنه خبر محذوف أي: هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة ثم عجب تعالى من ضلالهم فيه بقوله تعالى {الذي فيه يمترون} أي: يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلون فيه فتقول اليهود ساحر وتقول النصارى ابن الله مع أنّ أمه امرأة في غاية الوضوح ليس موضعاً للشك أصلاً ثم دل على كونه حقاً في كونه ابناً لأمّه مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضلّ {ما كان} أي: ما صح ولا يتأتى ولا يتصوّر في العقول ولا يصح ولا يأتي لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة {لله} الغني عن كل شيء {أن يتخذ من ولد} وأكده بمن لأنّ المقام يقتضي النفي العام، ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزه عن كل نقص أي: من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله عز وجل {إذا قضى أمراً} أي: أيّ أمر كان أي: أراد أن يحدثه {فإنما يقول له كن} أي: يريده ويعلق قدرته به وقوله تعالى: {فيكون} قرأه ابن عامر بنصب النون بتقدير أن أو على الجواب والباقون بالرفع بتقدير هو وقوله: {وإنّ الله ربي وربكم} إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال ذلك وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها بتقدير حذف حرف الجرّ متعلق بما بعده والتقدير ولأنّ الله ربي وربكم {فاعبدوه} وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده كقوله تعالى: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} (الحجر، 18) ، والمعنى لوحدانيته أطيعوه وقيل: إنه عطف على الصلاة والتقدير وأوصاني بالصلاة وبأنّ الله وإليه ذهب الفراء {هذا} أي: الذي أمرتكم به {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: يقود إلى الجنة وقرأ قنبل بالسين وخلف بإشمام الصاد والباقون بالصاد الخالصة، واختلف في قوله تعالى: {فاختلف الأحزاب من بينهم} فقيل هم النصارى واختلافهم في عيسى أهو ابن الله أو إله معه أو ثالث ثلاثة وسموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية، وقيل: هم اليهود والنصارى فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً، وقيل: هم الكفار الشامل لليهود والنصارى وغيرهم من الذين كانوا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ابن عادل: وهذا هو الظاهر لأنه لا تخصيص فيه ويؤيده قوله تعالى: {فويل للذين كفروا} أي: شدّة عذاب لهم {من مشهد يوم عظيم} أي: حضور يوم القيامة وأهواله وقوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر} أي: بهم، صيغتا تعجب بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم {يوم يأتوننا} في الآخرة لأنّ حالهم في شدّة السمع والبصر جديرة بأن يتعجب منها فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم وقوله تعالى: {لكن الظالمون} من إقامة الظاهر مقام المضمر إشعاراً بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر والأصل ولكنهم {اليوم} أي: في الدنيا {في ضلال مبين} أي: بين بذلك الضلال صموا عن سماع الحق وعموا عن إبصاره أي: اعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً، وقيل: معناه التهديد بما سيسمعونه وسيبصرون ما يسوءهم ويصدع قلوبهم ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه بقوله: {وأنذرهم} أي: خوّفهم {يوم الحسرة} هو يوم القيامة يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان والمحسن على عدم الازدياد من الإحسان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندمه يا رسول الله قال إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع» وفي قوله تعالى: {إذ قضى الأمر} وجوه: أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب. ثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف. ثالثها: قضى الأمر فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت كما روى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {إذ قضي الأمر} فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم» وقوله تعالى: {وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} جملتان حاليتان وفيهما قولان؛ أحدهما: أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي: استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين، والثاني: أنهما حالان من مفعول أنذرهم أي: أنذرهم على هذه الحالة وما بعدها وعلى الأوّل يكون قوله وأنذرهم اعتراضاً والمعنى وهم في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وهم لا يصدّقون بذلك اليوم ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله وكان سبحانه وتعالى قد قضى بموت الخلائق أجمعين وأنه تعالى يبقى وحده عبّر عن ذلك بالإرث مقرّراً به مضمون الكلام السابق فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم: إنّ الدهر لا يزال هكذا حياة لناس وموت لآخرين {إنّا نحن} بعظمتنا التي اقتضت ذلك {نرث الأرض} فلا ندع بها شيئاً من عاقل ولا غيره ولما كان العاقل أقوى من غيره صرح به بعد دخوله فقال {ومن عليها} أي: من العقلاء بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم {وإلينا} لا إلى غيرنا {يرجعون} فنجازيهم بأعمالهم. القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إبراهيم} أي: خبره وقرأ هشام إبراهام بألف بعد الهاء والباقون بالياء وإنما أمر الله تعالى نبيه بالذكر لذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلده مشتغلين بالتعليم ومطالعة الكتب فإذا أخبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب ومعجزاً باهراً دالاً على نبوّته، وإنما ذكر الاعتبار بقصة إبراهيم عليه السلام لوجوه: الأوّل: أنّ منكري التوحيد والذين أثبتوا توحيداً ومعبوداً سوى الله تعالى فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى حياً عاقلاً وهم النصارى، ومنهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى جماداً ليس بحيّ ولا عاقل وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أنّ ضلال عبدة الأوثان أعظم فلما بين الله تعالى ضلال الفريق الأوّل تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان. الثاني: أنّ إبراهيم عليه السلام كان أبا العرب وكانوا مقرّين بعلوّ شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى أبيكم إبراهيم، وقال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} (البقرة، 130) فكأنه تعالى قال للعرب: إن كنتم مقلدين لأبيكم على قولكم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} (الزخرف، 22) فأشرف آبائكم وأعلاهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأصنام والأوثان، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إمّا تقليداً وإمّا استدلالاً. الثالث: أنّ كثيراً من الكفار في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وهو أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ثم قال تعالى في صفة إبراهيم {إنه كان} جبلةً وطبعاً {صدّيقاً} أي: بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله أي: كان من أوّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة وسيأتي الكلام على قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} (الأنبياء، 63) {وإني سقيم} (الصافات، 89) في محله ولما كانت مرتبة النبوّة أرفع من مرتبة الصدّيقية قال تعالى: {نبيا} أي: استنبأه الله تعالى: إذ لا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده وقوله تعالى {إذ قال} بدل من إبراهيم وما بينهما اعتراض أو متعلق بكان أو بصدّيقاً نبياً أي: كان جامعاً لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين قال {لأبيه} آزر هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله: {يا أبت} والتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يجمع بينهما وقرأ ابن عامر بفتح التاء في الوصل والباقون بكسرها وأمّا الوقف فوقف ابن كثير وابن عامر بالهاء والباقون بالتاء، ثم إنّ الله تعالى حكى عنه أيضاً: أنه تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأوّل قوله: {لم تعبد} مريداً بالاستفهام المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله: {ما لا يسمع ولا يبصر} أي: ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً {ولا يغني عنك شيئاً} في جلب نفع ودفع ضرّ فوصف الأوثان بصفات ثلاث كل واحدة منها قادحة في الآلهية وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أنّ العبادة غاية التعظيم فلا تستحق إلا لمن له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما تقرّر في تفسير قوله: {وإنّ الله ربي وربكم} (مريم، 36) وكما أنه لا يجوز الاشتغال بشكر ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها. وثانيها: أنها إذا لم تسمع ولا تبصر ولا تميز من يطيعها عمن يعصيها فأيّ فائدة في عبادتها؟ وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وثالثها: أنّ الدعاء مخ العبادة فإذا لم يسمع الوثن دعاء الداعي فأيّ منفعة في عبادته وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه فأيّ منفعة في ذلك التقرّب. ورابعها: أنّ السامع المبصر الضارّ النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبودية الأخس. وخامسها: إن كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى بها منفعة ولا يخاف من ضررها فأيّ فائدة في عبادتها؟. وسادسها: إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد حين جعلها إبراهيم عليه السلام جذاذاً فأي رجاء فيها للغير؟ فكأنه عليه السلام قال: ليست الإلهية إلا لرب يسمع ويبصر ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه، النوع الثاني: قوله: {يا أبت إني قد جاءني} من المعبود الحق {من العلم ما لم يأتك} منه {فاتّبعني} أي: فتسبب من ذلك أني أقول لك وجوباً عليّ للنهي عن المنكر ونصيحة لمالك عليّ من الحق اجتهد في تبعي {أهدك صراطاً} أي: طريقاً {سوياً} أي: مستقيماً كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أنّ أمامنا مهلكاً لا ينجو منه أحد وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك لأطعتني ولو عصيتني فيه عدّك كل أحد غاوياً. النوع الثالث: قوله: {يا أبت لا تعبد الشيطان} فإنّ الأصنام ليس لها دعوة أصلاً والله تعالى قد حرّم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل وليّ فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان فكأنه هو المعبود بعبادتها في الحقيقة ثم علل هذا النهي بقوله {أنّ الشيطان} البعيد من كل خير المحترق باللعنة {كان للرحمن عصياً} بالقوّة من حين خلق وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم عليه السلام فأبى فهو عدوّ لله وله والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء لأنّ صديق العدوّ عدوّ. فإن قيل: هذا القول يتوقف على إثبات أمور؛ أحدها: إثبات الصانع، وثانيها: إثبات الشيطان، وثالثها: أنّ الشيطان عاص، ورابعها: أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته، وخامسها: أن الاعتقاد الذي كان عليه آزر مستفاد من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الشخص أن تكون مركبة من مقدّمات معلومة ليسلمها الخصم ولعلّ إبراهيم كان منازعاً في هذه المقدّمات وكيف والمحكي عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يسلم أنّ الشيطان عاص للرحمن وبتقدير تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرّد هذا الكلام أنّ مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يغلب ذلك على خصمه؟ وأجيب: بأنّ الحجة المعوّل عليها في إبطال مذهب آزر هو قوله: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً} وهذا الكلام جرى مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة فيسقط السؤال. النوع الرابع قوله: {يا أبت إني أخاف} لمحبتي لك وعزتي عليك {أن يمسك عذاب} أي: كائن {من الرحمن} الذي هو مولى كل من تولاه لعصيانك إياه {فتكون} أي: فتسبب عن ذلك أن تكون {للشيطان ولياً} أي: ناصراً وقريناً في النار ولما دعا إبراهيم عليه السلام أباه إلى التوحيد وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلائل بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً بالرفق واللطف قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا أن n {قال أراغب أنت عن آلهتي} بإضافتها إلى نفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 فقط إشارة إلى مبالغته في تعظيمها والرغبة عن الشيء تركه عمداً فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل قوله بالرفق يا أبت بالعنف حيث لم يقل يا بنيّ بل قال {يا إبراهيم} وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم بقوله مقسماً {لئن لم تنته} عما أنت عليه {لأرجمنك} أي: لأقتلنك أو لأرجمنك بالحجارة حتى تموت أو تبعد عني أو بالكلام القبيح فاحذرني {واهجرني} أي: بعد عني بالمفارقة من الدار والبلد وهي كهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي: تباعد عني {ملياً} أي: دهراً طويلاً لكي لا أراك، وقيل: اهجرني بالقول ولا تخاطبني دهراً طويلاً لأجل ما صدر منك من هذا الكلام وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ويقاسي من قومه من العناد ومن عمه أبي لهب من الشدائد بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً، فلما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجاب بأمرين أحدهما أن {قال} له مقابلاً لما كان منه من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العقل والعلم {سلام عليك} توديع ومتاركة أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أؤمر فيك بشيء فإنه لم يؤمر بقتاله على كفره كقوله: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55) {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان، 63) وهذا يدل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه يحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة استمالة، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار فيكون سلام برّ ولطف وهو جواب الحليم للسفيه كقوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان، 63) ثم استأنف قوله: {سأستغفر لك ربي} أي: المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام {إنه كان بي حفياً} أي: مبالغاً في إكرامي مرّة بعد مرّة وكرّة في إثر كرّة وقد وفىّ بوعده بقوله المذكور في الشعراء: {واغفر لأبي} (الشعراء، 86) وهذا قبل أن يتبين له أنه عدوّ لله كما ذكره في براءة، وثانيهما: أنه قال له انقياداً لأمر أبيه {وأعتزلكم} أي: جميعاً بترك بلادكم وأشار إلى أنّ من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله {وما تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} الذي له الكمال كله فمن أقبل عليه وحده أصاب ومن أقبل على غيره ولو طرفة عين فقد خاب وخسر {وأدعو} أي: أعبد {ربي} وحده لاستحقاقه ذلك مني ولم يقيد الاعتزال بزمن بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ثم دعا لنفسه بما ينبههم به على خسة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه {عسى أن لا أكون بدعاء ربي} المنفرد بالإحسان إليّ {شقياً} أي: كما شقيتم بعبادة الأصنام فإنها لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضرّكم ولما رأى من أبيه ومعاشرته ما رأى عزم على غربة مشقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي: *وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل *وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي وحقق ما عزم عليه فبين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال: {فلما اعتزلهم} أي: بالهجرة إلى الأرض المقدّسة {وما يعبدون من دون الله} لم يضرّه ذلك ديناً ولا دنيا بل نفعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وعوّضه الله أولاداً كما قال تعالى {وهبنا له} كما هو الشأن في كل من ترك شيئاً لله {إسحاق} ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سنّ اليأس وأخذه هو في السنّ إلى حد لا يولد لمثله {ويعقوب} ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأمّا إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه وتعالى هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإحيائه تلك المشاعر العظام فأفرده بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه بقوله بعد {واذكر في الكتاب إسماعيل} فترك ذكره مع إسحاق الذي هو أخوه لذلك ثم صرح بما وهب لأولاده جزاءً على هجرته بقوله تعالى: {وكلاً} أي: منهما {جعلنا نبياً} عالي المقدار ويخبر بالأخبار العظيمة كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً {ووهبنا لهم} كلهم {من رحمتنا} أي: شيئاً منها عظيماً من النسل الطاهر والذرّية الطيبة وإجابة الدعاء واللطف في القضاء والبركة في المال والأولاد وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة {وجعلنا لهم لسان صدق علياً} وهو الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطية واستجاب الله تعالى دعوته في قوله تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، 84) فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم فقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} (الحج، 87) وقد اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في غيره أوّلها أنه اعتزل عن الخلق على ما قال {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} فلا جرم بارك الله له في أولاده فقال: {ووهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً} . ثانيها: أنه تبرأ من أبيه كما قال عز وجل {فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرّأ منه} (التوبة، 114) لا جرم سماه الله أبا المسلمين فقال: ملة أبيكم إبراهيم ثالثها: تلّ ولده للجبين ليذبحه في الله على ما قال تعالى: {وتله للجبين} (الصافات، 103) لا جرم فداه الله تعالى على ما قال {وفديناه بذبح عظيم} (الصافات، 107) . رابعها: أسلم نفسه فقال: {أسلمت لرب العالمين} فجعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فقال: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} (الأنبياء، 69) خامسها: أشفق على هذه الأمّة فقال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} (البقرة، 129) لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات في قوله: {كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم} سادسها: وفي حق سارة في قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} (النجم، 37) لا جرم جعل موطئ قدميه مباركاً {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة، 125) سابعها: عادى كل الخلق في الله فقال فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين فاتخذه الله خليلاً كما قال: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (النساء، 125) ليعلم صحة قولنا ما خير على الله أحداً. القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى {واذكر في الكتاب} أي: الذي لا كتاب مثله في الكمال {موسى} أي: الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من العبودية ثم إنّ الله تعالى وصفه بأمور أحدها قوله تعالى: {إنه كان مخلصاً} قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام أي: مختاراً اختاره الله تعالى واصطفاه وقيل أخلصه الله تعالى من الدنس والباقون بالكسر أي: أخلص التوحيد لله والعبادة ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين. ثانيها: قوله تعالى: {وكان رسولاً} إلى بني إسرائيل والقبط {نبياً} ينبئه الله بما يريد من وحيه لينبئ به المرسل إليهم فيرتفع بذلك قدره فلذلك صرح بها بعد دخولها في الرسالة ضمناً إذ كل رسول نبيّ وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 كل نبيّ رسولاً خلافاً للمعتزلة فإنهم زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبيّ وكل نبيّ رسول وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ} (الحج، 52) ثالثها: قوله تعالى: {وناديناه} أي: بما لنا من العظمة {من جانب الطور} هو اسم جبل {الأيمن} أي: الذي يلي يمين موسى حين أقبل من مدين فأنبأناه هناك حين كان متوجهاً إلى مصر بأنه رسولنا ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون فكان لبني إسرائيل به من العجائب في رحمتهم بإنزال الكتاب والإلذاذ بالخطاب من جوف السحاب وفي إماتتهم لما طلبوا الرؤية ثم إحيائهم وغير ذلك ما يجل عن الوصف. رابعها: قوله تعالى {وقرّبناه} بما لنا من العظمة تقريب تشريف حالة كونه {نجياً} نخبره من أمرنا بلا واسطة من النجوى وهي السر والكلام بين اثنين كالسر وقيل قرب مكان أي: مكانا عالياً، عن أبي العالية أنه قرب حتى سمع صرير القلم حيث يكتب التوراة في الألواح وقيل أنجيناه من أعدائه، خامسها: قوله تعالى: {ووهبنا له} أي: هبة تليق بعظمتنا {من رحمتنا} أي: من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا {أخاه} أي: معاضدة أخيه وموازرته لا شخصه وإخوته وذلك إجابة لدعوته {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون} (طه: 29، 30) فإنه كان أسن من موسى تنبيه: أخاه مفعول أو بدل على تقدير أن تكون من للتبعيض وقوله: {هارون} عطف بيان وقوله {نبياً} حال منه هي المقصودة بالهبة. القصة الخامسة: قصة إسماعيل عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل} بن إبراهيم عليهما السلام الذين هم معترفون بنبوّته ومفتخرون برسالته وأبوّته فلزم من ذلك فساد تعليلهم إنكار نبوّتك بأنك من البشر ثم إنّ الله تعالى وصف إسماعيل بأمور: أوّلها: قوله تعالى: {إنه كان} أي: جبلة وطبعاً {صادق الوعد} في حق الله وفي حق غيره لمعونة الله له على ذلك بسبب أنه لا يعد وعداً إلا مقروناً بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبره بأمر ذبحه: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات، 102) وخصه بالمدح به وإن كان الأنبياء كلهم كذلك لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله مطلقاً وروي عن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وروي أنّ عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هناك للميعاد، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى غروب الشمس» وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أيّ وقت ينتظره؟ قال: فإن واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل، وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال: إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى. ثانيها: قوله تعالى: {وكان رسولاً نبياً} قد مرّ تفسيره. وثالثها: قوله تعالى: {وكان يأمر أهله بالصلاة} أي: التي هي طهرة البدن وقرّة العين وخير العون على جميع المآرب {والزكاة} أي: التي هي طهرة المال كما أوصى الله تعالى بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمراد بالأهل قومه، وقيل: أهله جميع أمته كان رسولاً إلى جرهم قاله الأصفهاني وإلى أهل تلك البراري بدين أبيه إبراهيم والمراد بالصلاة قال ابن عباس: يريد التي افترضها الله تعالى عليهم قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 البغوي وهي الحنيفية التي افترضت علينا قيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء، 214) {وأمر أهلك بالصلاة} (طه، 132) {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} (التحريم، 6) وبالزكاة قال ابن عباس إنها طاعة الله والإخلاص فكأنه تأوّله على ما يزكو به الفاعل عند ربه تعالى والظاهر كما قال ابن عادل إنّ الزكاة إذا قرنت بالصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة. رابعها: قوله تعالى: {وكان عند ربه} بعبادته على حسب ما أمره به {مرضياً} وهذا في نهاية المدح لأنّ المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات فاقتد أنت به فإنه من أجلّ آبائك لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال فتنال رتبة الرضا. القصة السادسة: قصة إدريس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب} أي: الجامع لكل ما يحتاج إليه حتى ما يحتاج إليه من قصص المتقدّمين والمتأخرين {إدريس} وهو جدّ أبي نوح عليه السلام قيل: سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب واسمه أحنوخ بمهملة ونون وآخره خاء معجمة وصفه الله تعالى بأمور أحدها: وثانيها: قوله تعالى: {إنه كان صدّيقاً نبياً} أي: صادقاً في أفعاله وأقواله ومصدّقاً بما آتاه الله من آياته وعلى ألسنة الملائكة، ثالثها: قوله تعالى: {ورفعناه مكاناً علياً} وفيه قولان: أحدهما: أنه من رفع المنزلة كقوله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وسلم {ورفعنا لك ذكرك} (الإنشراح، 40) فإنّ الله تعالى شرّفه بالنبوّة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا من قبله يلبسون الجلود وأوّل من اتخذ السلاح وقاتل الكفار. وثانيهما: أنه من رفعة المكان ثم اختلفوا فقال بعضهم: رفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة وهي التي رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء وقيل: إلى الجنة وهو حيّ لا يموت وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس واثنان في السماء عيسى وإدريس وقال وهب كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجبت منه الملائكة واشتاق له ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس وقال له الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت، قال أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فقال: لي إليك حاجة قال ما هي قال تقبض روحي فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمته فأكون أشدّ استعداد له، ثم قال له إدريس: إنّ لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله تعالى له في ذلك فرفعه فلما قرب من النار قال: لي إليك حاجة، قال: وما تريد؟ قال: تسأل مالكاً أن يفتح أبوابها فأردها، ففعل ثم قال: كما أريتني النار فأرني الجنة فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتح أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مكانك فتعلق بشجرة وقال ما أخرج منها فبعث الله تعالى ملكاً حكماً بينهما، فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: إنّ الله تعالى قال: {كل نفس ذائقة الموت} (آل عمران، 185) وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 ذقته، وقال: {وإن منكم إلا واردها} (مريم، 71) وقد وردتها وقال: {وما هم منها بمخرجين} (الحجر، 48) فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبإذني لا يخرج فهو حيّ هناك، وقال آخرون: بل رفع إلى السماء وقبض روحه. وقال كعب الأحبار: إنّ إدريس سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إني مشيت يوماً فكيف يمشي من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهمّ خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرّها ما لا يعرفه فقال: يا رب خففت عني حرّ الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال تعالى: إنّ عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرّها فأجبته قال يا رب اجعل بيني وبينه خلة، فأذن له حتى أتى إدريس فكان إدريس يسأله فكان مما سأله أن قال له: إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي ليؤخر أجلي فازداد شكراً وعبادة، فقال الملك: لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله فقال ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدّم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: إني أتيتك وتركته هناك، قال: فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتاً. ولما انقضى كشف هذه الأخبار العلية المقدار الجليلة الأسرار شرع سبحانه وتعالى ينسب أهلها بأشرف نسبهم ويذكر المنن بينهم، فقال عز من قائل: {أولئك} أي: العالو الرتبة الشرفاء النسب المذكورون في هذه السورة من لدن زكريا إلى إدريس وهو مبتدأ وقوله {الذين أنعم الله عليهم} بما خصهم به من مزيد القرب إليه وعظيم المنزلة لديه صفة له وقوله تعالى {من النبيين} أي: المصطفين بالنبوّة الذين أنبأهم الله تعالى بدقائق الحكم ورفع محالهم بين الأمم بيان لهم وهو في معنى الصفة وما بعده إلى جملة الشرط صفة للنبيين فقوله: {من ذرية آدم} أي: إدريس لقربه منه لأنه جدّ أبي نوح {وممن حملنا مع نوح} في السفينة أي: إبراهيم ابن ابنه سام {ومن ذرية إبراهيم} أي: إسماعيل وإسحاق ويعقوب {و} من ذرية {إسرائيل} وهو يعقوب أي: موسى وهارون وزكريا ويحيى وكذا عيسى لأنّ مريم من ذريته {وممن هدينا} إلى أقوم الطرق {واجتبينا} للنبوّة والكرامة أي: من جملتهم. وخبر أولئك {إذا تتلى عليهم} من أيّ: تالٍ كان {آيات الرحمن خرّوا سجداً} للمنعم عليهم تقرّباً إليه لما لهم من البصائر النيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم {وبكياً} خوفاً منه وشوقاً إليه فكونوا مثلهم تنبيه: سجداً حال مقدرة قال الزجاج لأنهم وقت الخرور ليسوا سجداً وهو جمع ساجد وبكيا جمع باك وليس بقياس بل قياس جمعه على فعلة كقاض وقضاة ولم يسمع فيه هذا الأصل وأصل بكيا بكوياً قلبت الواو ياء والضمة كسرة، واختلف في هذا السجود فقال بعضهم: إنه الصلاة وقال بعضهم: سجود التلاوة على حسب ما تعبدوا به. قال الرازي: ثم يحتمل أن يكون المراد سجود القرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بسجود فيفعلون ذلك لأجل ذكر السجود في الآية انتهى. وروى ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 ماجه وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المزني قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما غرغرت عين بماء إلا حرّم الله تعالى على النار جسدها» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن القرآن نزل محزناً فإذا قرأتموه فتحازنوا» وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا يلج النار من بكى من خشية الله» . وقال العلماء: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهمّ اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المتكبرين عن أمرك، وإذا قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الآسفين لك، وإن قرأ هذه قال: اللهمّ اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الباكين عند تلاوة آيات كتابك وقرأ حمزة والكسائي بكيا بكسر الباء والباقون بضمها ولما وصف سبحانه وتعالى هؤلاء الأنبياء بصفة المدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذكر بعدهم من هو بالضدّ منهم فقال: {فخلف من بعدهم} أي: في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً {خلف} في غاية الرداءة من أولادهم يقال خلفه إذا عقبه خلف سوء بإسكان اللام والخلف بفتح اللام الصالح كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث: «في الله خلف من كل هالك» وفي الشعر: *ذهب الذي يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وقال السدي: أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وقال قتادة: في {أضاعوا الصلاة} تركوا الصلاة المفروضة، وقال ابن مسعود وإبراهيم: أخروها عن وقتها، وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس. {واتبعوا الشهوات} أي: المعاصي قال ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمور واستحلوا نكاح الأخت من الأب، وقال مجاهد: هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة {فسوف يلقون غياً} وهو كما قال وهب وابن عباس: واد في جهنم بعيد قعره تستعيذ منه أوديتها كما رواه الحاكم وصححه، وقيل: هو الخسران وقيل هو الشر كقول القائل: *فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما على الغيّ متعلق بلائماً وقيل: يلقون جزاء الغي كقوله يلق أثاماً أي: مجازاة الآثام تنبيه: قوله تعالى: يلقون ليس معناه يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية. ولما أخبر تعالى عن هؤلاء بالخيبة فتح لهم باب التوبة وحداهم إلى غسل هذه الحوبة بقوله: {إلا من تاب} أي: مما هو عليه من الضلال وبادر بالأعمال وحافظ على الصلوات وكف نفسه عن الشهوات {وآمن} بما أخذ عليه به العهد {وعمل} بعد إيمانه تصديقاً له {صالحاً} من الصلوات والزكوات وغيرها {فأولئك} العالو الهمم الطاهرو الشيم {يدخلون الجنة} التي وعد المتقون {ولا يظلمون} من ظالم ما {شيئاً} من أعمالهم. فإن قيل: الاستثناء دل على أنه لا بدّ من التوبة والإيمان والعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 الصالح وليس الأمر كذلك لأنّ من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليهم الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة وكذلك الصوم فهذا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر منه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح؟ أجيب بأنّ هذه الصورة نادرة والأحكام إنما تناط بالأعمّ الأغلب تنبيه: في هذا الاستثناء وجهان قال ابن عادل أظهرهما: أنه متصل وقال الزجاج: هو منقطع وهذا بناءً منه على أنّ المضيع للصلاة من الكفار ووافق الزجاج الجلال المحلي. ولما ذكر تعالى في التائب أنه يدخل الجنة وصفها بأمور أحدها قوله تعالى: {جنات عدن} أي: إقامة لا يظعن عنها بوجه من الوجوه وصفها بالدوام على خلاف وصف الجنان في الدنيا التي لا تدوم ثم بيّن تعالى أنها {التي وعد الرحمن عباده} الذين هو أرحم بهم وقوله {بالغيب} فيه وجهان؛ أحدهما: أنّ الباء حالية وفي صاحب الحال احتمالان؛ أحدهما: ضمير الجنة وهو عائد الموصول أي: وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها، والثاني: عباده أي: وهم غائبون عنها لا يرونها إنما آمنوا بها بمجرّد الأخبار منه. والوجه الثاني: أنّ الباء سببية أي: بسبب تصديق الغيب وسبب الإيمان به ولما كان من شأن الوعود الغائبة على ما يتعارفه الناس بينهم احتمال عدم الوقوع بيّن أنّ وعده ليس كذلك بقوله تعالى: {إنه كان} أي: كوناً هو سنة ماضية {وعده مأتياً} أي: مقصوداً بالفعل فلا بدّ من وقوعه فهو كقوله إن كان وعد ربنا لمفعولا ثانيها قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً} وهو فضول الكلام وما لا طائل تحته وفيه تنبيه ظاهر على تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله تعالى عنه الدار الآخرة التي لا تكليف فيها، وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً} (الفرقان، 72) {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55) نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا وقوله تعالى: {إلا سلاما} استثناء منقطع أي: ولكن يسمعون قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض ويجوز أن يراد باللغو مطلق الكلام قال في القاموس لغا لغواً تكلم، فيكون الاستثناء متصلاً أي: لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض. ثالثها: قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها} أي: على ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بدّ من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا منة عليهم به {بكرةً وعشياً} أي: على قدرهما في الدنيا وليس في الجنة نهار ولا ليل بل ضوء ونور أبداً وقيل: إنهم يعرفون النهار برفع الحجب والليل بإرخائها، فإن قيل: المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرةً وعشياً ليس من الأمور المستعظمة أجيب بوجهين؛ الأوّل: قال الحسن: أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرّة وكانت عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أنّ المراد دوام الرزق تقول أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين، وقيل: المراد رفاهية العيش وسعة الرزق أي: لهم رزقهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 متى شاؤوا، ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل أشار إلى علوّ رتبتها وما هو سببها بقوله تعالى: {تلك الجنة} بأداة البعد لعلو قدرها وعظم أمرها {التي نورث من عبادنا} أي: نعطي عطاء الإرث الذي لا كدّ فيه ولا استرجاع وتبقى له الجنة كما يبقى للوارث مال الموروث وقيل تنقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل النقل إرثاً قاله الحسن {من كان تقياً} أي: المتقين من عباده. فإن قيل: الفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك الوصف فلا يدخلها؟. أجيب: بأن الآية تدل على أن الجنة يدخلها المتقي وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل الجنة فدلالة الآية على أنّ صاحب الكبيرة يدخلها أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها. واختلف في سبب نزول قول جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم {وما نتنزل إلا بأمر ربك} فقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» فنزلت الآية وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال لعلى أبطأت قال: قد فعلت، قال: ولم لا أفعل وأنتم لا تتسوّكون ولا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم وقال وما نتنزل إلا بأمر ربك فنزلت وقال قتادة والكلبي احتبس جبريل عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح وسبب سؤالهم عن ذلك ما روي «أنّ قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم وسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث فلم يعرف فسلوه عنهنّ فإن أخبركم عن خصلتين فاتبعوه فسألوه عن قصة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشقّ ذلك عليه مشقة عظيمة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك، قال إني إليك أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت هذه الآية وأنزل قوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف، 23) وسورة الضحى» فإن قيل: قوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً} كلام الله وقوله: وما نتنزل إلا بأمر ربك كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل؟ أجيب: بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة، 117) وهذا كلام الله تعالى ثم عطف عليه قوله: {وأنّ الله ربي وربكم فاعبدوه} (مريم، 36) ثم علل جبريل قوله ذلك بقوله: {له ما بين أيدينا} أي: أمامنا من أمور الآخرة {وما خلفنا} أي: من أمور الدنيا {وما بين ذلك} أي: ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة أي: له علم ذلك جميعه وقيل: ما بين ذلك ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما مضى منها وما بين ذلك مدّة حياتنا وقيل: ما بين أيدينا بعد أن نموت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وما خلفنا قبل أن نخلق وما بين ذلك مدّة الحياة وقيل: ما بين أيدينا الأرض إذا أردنا النزول إليها وما خلفنا السماء وما ينزل منها وما بين ذلك الهواء يريد أنّ ذلك كله لله فلا نقدر على شيء إلا بأمره {وما كان ربك} المحسن إليك {نسياً} بمعنى ناسيا أي: تاركاً لك بتأخير الوحي عنك لقوله تعالى: {ما ودّعك ربك وما قلى} (الضحى، 3) أي: وما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به وما كان ذلك عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك ثم استدل على ذلك بقوله: {رب السموات والأرض وما بينهما} فلا يجوز عليه النسيان إذ لا بدّ أن يمسكهما حالاً بعد حال وإلا لبطل الأمر فيهما وفيمن يتصرّف، والآية دالة على أنّ الله تعالى رب لكل شيء حصل بينهما ففعل العبد مخلوق له تعالى لأنّ فعل العبد حاصل بين السماء والأرض تنبيه: يجوز في رب أن يكون بدلاً من ربك وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو رب وقوله تعالى {فاعبده واصطبر لعبادته} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مرتب على ما تقدّم أي: لما عرفت أنّ ربك لا ينساك فاعبده بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي من مثلك واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفار بك. فإن قيل: لم لم يقل واصطبر على عبادته لأنها صلته فكان حقه تعديه بعلى؟ أجيب: بأنه ضمن معنى الثبات لأنّ العبادة ذات تكاليف قلّ من يثبت لها فكأنه قيل اثبت لها مصطبراً كقولك للمحارب اصبر لقرنك ثم علل ذلك بقوله: {هل تعلم له سمياً} قال ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أي: نظيراً فيما يقتضي العبادة والذي يقتضيها كون منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه وتعالى وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة. وقال الكلبي هل تعلم أحداً تسمى الله غيره فإنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله تعالى على شيء. ولما أمر تعالى بالعبادة والمصابرة عليها فكأنّ سائلاً سأل وقال هذه العبادة. لا منفعة فيها في الدنيا وأمّا في الآخرة فقد أنكرها بعضهم فلا بدّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أنّ الاشتغال بالعبادة يفيد فلهذا حكى الله سبحانه وتعالى قول منكري الحشر فقال تعالى: {ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً} قال الكلبيّ: نزلت في أبيّ بن خلف حين أخذ عظاماً بالية فتتها بيديه ويقول زعم لكم محمد أنا نبعث بعدما نموت وقيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث ثم إنّ الله تعالى أقام الدليل على صحة البعث بقوله: {أولا يذكر الإنسان} أي: المجترئ بهذا الإنكار على ربه {أنّا خلقناه من قبل} أي: من قبل جدله {ولم يك شيئاً} أصلاً وأنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك قال بعض العلماء لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أوّلاً. ونظيره قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة} (يس، 79) وقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} (الروم، 27) وهو أهون عليه وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بسكون الذال وضم الكاف مخففة والباقون بفتح الذال مشدّدة وكذا الكاف. فإن قيل: كيف أمر الله الإنسان بالتذكر مع أنّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ أجيب: بأنّ المراد أولاً يتفكر فيعلم خصوصاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 إذا قرئ أولا يذكر مشدّداً، أمّا إذا قرئ مخففاً فالمراد أولاً يعلم ذلك من حال نفسه لأنّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً. ثم إنه تعالى لما قرّر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أوّلها قوله تعالى: {فوربك} أي: المحسن إليك بالانتقام منهم {لنحشرنهم} بعد البعث {والشياطين} الذين يضلونهم بأن نحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة وفائدة القسم أمران: أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني: في إقسام الله باسمه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تفخيم لشأنه ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى: {فورب السماء والأرض أنه لحق} (الذاريات، 23) والواو في والشياطين يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهو أولى. ثانيها: قوله تعالى {ثم لنحضرنهم} بعد طول الوقوف {حول جهنم} من خارجها ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله تعالى منها وخلصهم فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطتهم وسروراً إلى سرورهم ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغبطهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم وقوله تعالى {جثياً} حال مقدرة من مفعول لنحضرنهم وهو جمع جاث جمع على فعول نحو قاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثوو بواوين أو جثوى من جثاً يجثو ويجثى لغتان. فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى: {وترى كل أمّة جاثية} (الجاثية، 28) ولأنّ العادة جارية بأنّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، وإذا كان هذا حاصلاً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار؟ أجيب: بأنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد ذلهم وقرأ حفص وحمزة والكسائي جثياً وعتياً وصلياً بكسر أوّلها والباقون بضمه ثالثها: قوله تعالى: {ثم لننزعنّ} أي: لنأخذن أخذاً بشدّة وعنف {من كل شيعة} أي: فرقة مرتبطة بمذهب واحد {أيهم أشدّ على الرحمن} الذي غمرهم بالإحسان {عتياً} أي: تكبراً مجاوزاً للحدّ والمعنى أنّ الله تعالى يحضرهم أوّلاً حول جهنم ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدّهم تمرّداً في كفره خص بعذاب عظيم لأنّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرّد ويتجبر كعذاب المقلد ففائدة هذا التمييز التخصيص بشدّة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب، ولذلك قال تعالى في جميعهم: {ثم لنحن أعلم} من كل عالم {بالذين هم} بظواهرهم وبواطنهم {أولى بها} أي: بجهنم {صلياً} أي: دخولاً واحتراقاً فنبدأ بهم ولا يقال أولى إلا مع اشتراكهم وأصله صلوى من صلى بكسر اللام وفتحها تنبيه: في إعراب أيهم أشدّ أقوال كثيرة أظهرها عند جمهور المعربين وهو مذهب سيبويه أن أيهم موصولة بمعنى الذي وإن حركتها حركة بناء بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر وأشدّ خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأيهم وأيهم وصلتها في محل نصب مفعول بها، ولأيّ أحوال أربعة ذكرتها في شرح القطر. ولما كانوا بهذا الإعلام المؤكد بالإقسام من ذي الجلال والإكرام جديرين بإصغاء الأفهام إلى ما توجه إليها من الكلام التفت إلى مقام الخطاب إفهاماً للعموم فقال تعالى: {وإن} أي: وما {منكم} أيها الناس أحد {إلا واردها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 كان} ذلك الورود {على ربك} الموجد لك المحسن إليك {حتماً مقضياً} أي: حتمه وقضى به لا يتركه والورود موافاة المكان فاختلفوا في معنى الورود هنا. فقال ابن عباس والأكثرون: الورود ههنا هو الدخول والكناية راجعة إلى النار وقالوا يدخلها البرّ والفاجر ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ويدل على أنّ الورود هو الدخول قوله تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} (هود، 98) وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول وقال نافع ليس الورود الدخول، فتلا ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} (الأنبياء، 98) أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال: يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله يخرجك منها بتكذيبك، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا} أي: الكفر منها ولا يجوز أن يقول ثم ننجي الذين اتقوا {ونذر الظالمين} بالكفر {فيها جثياً} على الركب ألا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول روي أنّ عبد الله بن رواحة قال أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصدر فقال صلى الله عليه وسلم «يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا» فدلّ على أنّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر أنه سأل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الورود الدخول ولا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أنّ للنار ضجيجاً من بردها» ولأنّ حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله تعالى محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأجزاء المؤمنين يجعلها برداً وسلاماً كما في حق إبراهيم عليه السلام وكما أنّ الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها وكما في الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فيكون دماً ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً. وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وقال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة» وخامدة بخاء معجمة أي: ساكنة وروي بالجيم أي: باردة ولا بدّ من ذلك في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين. فإن قيل: فإذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول؟ أجيب بوجوه؛ أحدها: أنّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منها. ثانيها: أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها. ثالثها: أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين. رابعها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة، وقيل: المراد بالذين يردونها من تقدّم ذكرهم من الكفار فكنى عنهم أوّلاً كناية الغيبةثم خاطب خطاب المشافهة وعلى هذا القول فلا يدخل النار مؤمن واستدل له بقوله تعالى: {إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها} (الأنبياء: 101، 102) والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها بقوله تعالى: {وهم من فزع يومئذٍ آمنون} (النمل، 89) وروي عن مجاهد من حمّ من المؤمنين فقد وردها وفي الخبر الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 من النار وفي رواية الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء وقوله من فيح جهنم أي: وهجها وحرّها وقال ابن مسعود وإن منكم إلا واردها يعني القيامة والكناية راجعة إليها قال البغوي والأوّل أصح وعليه أهل السنة وروي أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير وفي رواية من إيمان وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول وجدتها ملأى فيقول الله: له اذهب فادخل الجنة فإنّ لك مثل الدنيا وعشر أمثالها فيقول له أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي: أنيابه وأضراسه وقيل: هي أعلى الأسنان. وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة قال فيخرجون فيطرحون على باب الجنة قال فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل الحمم الفحم والغثاء كل ما جاء به السيل» وقرأ الكسائي ننجي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ولما أقام تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث قال تعالى عطفاً على قوله ويقول الإنسان: {وإذا تتلى عليهم} أي: الناس من المؤمنين والكفار من أيّ تال كان {آياتنا} أي: القرآن حال كونها {بينات} أي: واضحات وقيل مرتبات الألفاظ ملخصات المعاني وقيل: ظاهرات الإعجاز {قال الذين كفروا} بآيات ربهم البينة جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم {للذين آمنوا} أي: لأجلّهم أو مواجهة لهم إعراضاً عن الاستدلال بالآيات بالإقبال على هذه الشبهة الواهية وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا من قولهم {أي الفريقين} نحن بما لنا من الاتساع أم أنتم بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال ولو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا لأنّ الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة وإنما كان الأمر بالعكس فإنّ الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة هذا حاصل شبهتهم والقائل ذلك هو النضر بن الحارث وذووه من قريش للذين آمنوا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين أيّ الفريقين {خير مقاماً} أي: موضع قيام أو إقامة على قراءة ابن كثير بضم الميم والباقون بفتحها ففي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان إما من قام ثلاثياً أو من أقام تنبيه: قالوا زيد خير من عمرو وشر من بكر ولم يقولوا أخير منه ولا أشرّ منه لأنّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما ولم يثبتا إلا في فعل التعجب فقالوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 أخير بزيد وأشرر بعمرو وما أخير زيداً وما أشر عمراً، والعلة في إثباتهما في فعلي التعجب أنّ استعمال هذين اللفظين اسماً أكثر من استعمالهما فعلاً فحذفت الهمزة في موضع الكثرة وبقيت على أصلها في موضع القلة {وأحسن ندياً} أي: مجمعاً ومتحدثاً والنديّ المجلس يقال نديّ وناد والجمع الأندية منه {وتأتون في ناديكم المنكر} (العنكبوت، 29) وقال تعالى: {فليدع ناديه} (العلق، 17) ويقال ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في مجلس ومنه دار الندوة وكانت تجمع القوم فجعلوا ذلك الامتحان بالإنعام والإحسان دليلاً على رضا الرحمن مع التكذيب والكفران وغفلوا عن أنّ في ذلك مع التكذيب بالبعث تكذيباً بما يشاهدون منا من القدرة على العقاب بإحلال النقم وسلب النعم ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به. {وكم أهّلكنا قبلهم} ثم بيّن إبهام كم بقوله: {من قرن} شاهدوا ديارهم ورأوا آثارهم {هم} أي: أهل تلك القرون {أحسن} من هؤلاء {أثاثاً} أي: أمتعة {ورئياً} أي: ومنظراً فلو دلّ حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيب الله لوجب أن لا يصل إلى هؤلاء غمّ في الدنيا وقرأ قالون وابن ذكوان بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء وقفاً ووصلاً وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياءً وله فيها الإدغام والإظهار تنبيه: كم مفعول أهلكنا مقدّم واجب التقديم لأنّ له صدر الكلام لأنها إمّا استفهامية أو خبرية وهي محمولة على الاستفهامية أي: كثيراً من القرون أهلكنا ومن قرن تمييز لكم مبين لها وإنما سمى أهل كل عصر قرناً لأنهم يتقدّمون من بعدهم وقول البيضاوي وهم أحسن صفة لكم تبع فيه الزمخشريّ وغيره ورد بأن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها فهم أحسن في محل جر صفة لقرن وجمعه نظراً للمعنى لأنّ القرن مشتمل على أفراد كثيرة ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم. {قل} لهؤلاء المبعدين ردّاً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة بل على عكس ذلك فقد جرت عادته تعالى أنه {من كان في الضلالة} مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها ونعم بأنواع الملاذ وقوله {فليمدد له الرحمن مدّاً} أمر بمعنى الخبر معناً فندعه في طغيانه ونمهله في كفره بالبسط في الآثار والسعة في الديار والطول في الأعمال وإنفاقها فيما يستلذ به من الأوزار ولا يزال يمدّ له استدراجاً {حتى إذا رأوا} أي: كل من كفر بأعينهم {ما يوعدون} من قبل الله {إمّا العذاب} في الدنيا بأيدي المؤمنين وغيرهم أو في البرزخ {وإما الساعة} أي: القيامة التي هم بها مكذبون وعن الاستعداد لها معرضون ولا شيء يشبه أهوالها وخزيها ونكالها {فسيعلمون} إذا رأوا ذلك {من هو شرّ مكاناً} أي: من جهة المكان الذي قوبل به المقام في قولهم خير مقاماً {وأضعف جنداً} أي: أقل ناصراً أهم أم المؤمنون أي: أضعف من جهة الجند أي: الذي أشير به إلى النديّ في قولهم وأحسن ندياً لأنهم في النار والمؤمنون في الجنة فهذا ردّأ عليهم في قولهم أيّ الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً {ويزيد الله الذين اهتدوا} إلى الإيمان {هدى} بما ينزل عليهم من الآيات عوض ما زوى عنهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسط للضلال لهوانهم عليه وأشار إلى أنّ مثل ما خذل أولئك بالنوال وفّق هؤلاء لمحاسن الأعمال بإقلال الأموال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 فقال عز من قائل {والباقيات الصالحات} أي: الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور وأنارت بها القلوب وأوصلت إلى علام الغيوب {خير عند ربك} مما متع به الكفرة والخيرية هنا في مقابلة قولهم أي: الفريقين خير مقاماً وقيل: الباقيات الصالحات هي الصلوات وقيل: التسبيح روى أبو الدرداء قال: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عوداً يابساً وأزال الورق عنه ثم قال: إنّ قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله تحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ الباقيات الصالحات وهي من كنوز الجنة» فكان أبو الدرداء يقول: لأعملنّ ذلك ولأكثرنّ عمله حتى إذا رآني الجهال حسبوا أني مجنون. قال الرازي: والقول الأوّل أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها فلا تختص ببعض العبادات فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى أثرها الذي هو الهداية ثم بيّن تعالى خيريتها بقوله تعالى {ثواباً} أي: من جهة الثواب {وخيرٌ مرداً} أي: من جهة العاقبة يوم الحسرة. فإن قيل: لا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره والذي عليه الكفار لا خير فيه أصلاً أجيب بأنّ المراد خير مما ظنه الكفار بقولهم خير مقاماً وأحسن ندياً، وقيل: هو كقولهم الصيف أحرّ من الشتاء بمعنى أنه في حرّه أبلغ منه في برده فالكفرة يردّون إلى فناء وخسارة والمؤمنون إلى ربح وبقاء. ولما ذكر تعالى الدلائل أوّلاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عليهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال تعالى: {أفرأيت الذي} أي: الذي يعرض عن هذا اليوم ويزيد على ذلك بأن {كفر بآياتنا} الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات {وقال} جرأة منه وجهلاً {لأوتينّ} أي: والله لأوتين في الساعة على تقدير قيامها {مالاً وولداً} أي: عظيمين فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز وقرأ حمزة والكسائي وولداً وكذا ولداً في جميع ما في هذه السورة بضم الواو وسكون اللام والباقون بفتح الواو واللام في الجميع يقال ولد وولد كما يقال عرب وعرب وعدم وعدم أما القراءة بفتحتين فواضحة وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع وأما قراءة الضم والإسكان فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى وقيل: بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وأنشدوا على ذلك *ولقد رأيت معاشراً ... قد أثمروا مالاً وولداً وأنشدوا شاهداً على أنّ الولد والولد مترادفان قول الآخر *فليت فلاناً كان في بطن أمه ... وليت فلاناً كان ولد حماره ولما كان ما ادعاه لا علم به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما أنكر قوله ذلك بقوله تعالى: {أطلع الغيب} الذي هو غائب عن كل مخلوق فهو في بعد عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع إليه وتفرد به الواحد القهار {أم اتخذ} أي: بغاية جهده {عند الرحمن عهداً} عاهده عليه بأن يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله وقيل في العهد كلمة الشهادة، وعن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول، وعن الكلبي هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك وعن الحسن رحمه الله تعالى نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث قال: فإني إذا مت بعثت قلت: نعم قال: إذا بعثت جئني وسيكون لي ثمّ مال وولد فأعطيك وقيل: صاغ له خباب حُلياً فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأنّ في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً فأعطيك حينئذٍ ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن من حاله ضدّ ما ادعاه فقال تعالى: {كلا} وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي: هو مخطئ فيما يقول ويتمناه {سنكتب} أي: نحفظ عليه {ما يقول} فنجازيه به في الآخرة وقيل: نأمر الملائكة حتى يكتبوا عليه ما يقول {ونمدّ له من العذاب مدّاً} أي: نزيده بذلك عذاباً فوق عذاب كفره وقيل: نطيل مدّة عذابه {ونرثه} بموته {ما يقول} أي: ما عنده من المال والولد {ويأتينا} يوم القيامة {فرداً} لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمّ زائداً قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى} (الأنعام، 94) وقيل: فرداً رافضاً لهذا القول منفرداً عنه ولما تكلم سبحانه وتعالى في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الردّ على عباد الأصنام فقال: {واتخذوا} أي: كفار قريش {من دون الله} أي: الأوثان {آلهة} يعبدونها {ليكونوا لهم عزاً} أي: منفعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب تعالى بقوله تعالى: {كلا} ردع وإنكار لتعززهم بها {سيكفرون بعبادتهم} أي: تستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا كقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} (البقرة، 166) وفي آية أخرى: {ما كانوا إيانا يعبدون} (القصص، 63) وقيل: أراد بذلك الملائكة لأنهم كانوا يكفرون بعبادتهم ويتبرؤون منهم ويخصمونهم وهو المراد من قوله تعالى: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ، 40) وقيل: إنّ الله تعالى يحي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ويجوز أن يراد الملائكة والأصنام {ويكونون عليهم ضدّا} أي: أعواناً وأعداءً. فإن قيل: لم وحده وهو خبر عن جمع؟ أجيب: بأنه إما مصدر في الأصل والمصادر موحدة مذكرة وإما لأنه مفرد في معنى الجمع قال الزمخشري: والضدّ العون وحد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام: «وهم يد على من سواهم لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامّهم وتوافقهم» انتهى. والحديث رواه أبو داوود وغيره والشاهد فيه قوله يد حيث لم يقل أيد. ولما ذكر تعالى ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم في الآخرة ذكر بعده ما لهم مع الشياطين في الدنيا وأنهم يتولونهم وينقادون إليهم فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم. {ألم تر} أي: تنظر {أنّا أرسلنا} أي: سلطنا {الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} الأز والهز والاستفزاز أخوات ومعناها التهييج وشدّة الإزعاج أن تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات {فلا تعجل عليهم} أي: تطلب عقوبتهم بأن يهلكوا ويبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم {إنما نعدّ لهم عدّاً} أي: ليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، ونظيره قوله تعالى: {ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ} (الأحقاف، 35) وعن ابن عباس كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك. وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد، وقيل: نعدّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها، وقيل نعدّ الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان. ثم بيّن تعالى ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين في كيفية الحشر فقال: {يوم} أي: واذكر يوم {نحشر المتقين} بإيمانهم {إلى الرحمن} أي: إلى محل كرامته وقوله تعالى {وفداً} حال أي: وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم والوفد الجماعة الوافدون يقال وفد يفد وفداً ووفوداً ووفادة أي: قدم على سبيل التكرمة فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالصف، وقال أبو البقاء وفد جمع وافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهذا الذي قاله ليس بمذهب سيبويه لأنّ فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه وأجازه الأخفش وجرى عليه الجلال المحلي فقال: وفد جمع وافد بمعنى راكب انتهى. وقال ابن عباس: وفداً ركباناً، وقال أبو هريرة على الإبل وقال عليّ رضي الله تعالى عنه والله ما يحشرون على أرجلهم ولكن فوق نوق رحالها الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت {ونسوق المجرمين} بكفرهم {إلى جهنم} وقوله تعالى: {ورداً} حال أي: مشاة بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء وقيل: عطاش قد تقطعت أعناقهم من شدّة العطش لأنّ من يرد الماء لا يرد إلا بعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء وقوله تعالى: {لا يملكون الشفاعة} الضمير فيه للعباد المدلول عليهم بذكر المتقين والمجرمين وقيل للمتقين وقيل: للمجرمين وقوله تعالى: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} استثناء متصل على القولين الأوّلين، منقطع على الثالث والمعنى أنّ الشافعين لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً كقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء، 28) ويدخل في ذلك أهل الكبائر من المسلمين إذ كل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد فوجب دخوله تحته ويؤيده ما روى عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا: وكيف ذلك قال: يقول كل صباح ومساء: اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهد توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة» فظهر أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر ولما ردّ سبحانه وتعالى على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولداً بقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} أي: قالت اليهود: عزير ابن الله وقالت النصارى: المسيح ابن الله وقالت العرب: الملائكة بنات الله. {لقد جئتم شيئاً إدّاً} قال ابن عباس أي: منكراً وقال قتادة أي: عظيماً وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ابن خالويه: الأدّ والإدّ العجب وقيل: العظيم المنكر والإدة الشدّة وأدّني الأمر وأدني أثقلني وعظم عليّ وقرأ: {تكاد السموات} نافع والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وقرأ {يتفطرن منه} أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففاً والباقون بعد الياء بتاء وفتح الطاء مشدّدة يقال انفطر الشيء وتفطر أي: تشقق وقراءة التشديد أبلغ لأنّ التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأنّ أصل التفعل التكلف {وتنشق الأرض} أي: تنخسف بهم {وتخرّ الجبال هدّاً} أي: تسقط وتنطبق عليهم {أن} أي: من أجل أن {دعوا للرحمن ولداً} قال ابن عباس وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا اتخذ الله ولداً. فإن قيل: كيف يؤثر القول في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ أجيب بوجوه؛ الأوّل: أنّ الله تعالى يقول كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوّه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة، الثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لقواعده وأركانه الثالث: أنّ السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل كذلك لو كانت تعقل هذا القول ثم نفى الله تعالى عن نفسه الولد بقوله تعالى: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} أي: ما يليق به اتخاذ الولد؛ لأنّ ذلك محال أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها وأمّا التبني فإنّ الولد لا بدّ وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا شبيه لله تعالى لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض إمّا من سرور أو استعانة أو ذكر جميل وكل ذلك لا يصح في حق الله تعالى {إن} أي: ما {كل من في السموات والأرض} أي: أنّ كل معبود من الملائكة في السموات والأرض من الناس منهم العزير وعيسى {إلا آتي الرحمن} أي: ملتجئ إلى ربوبيته {عبداً} منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد ومن المفسرين كالجلال المحلي من حمله على يوم القيامة خاصة والأوّل أولى لأنه لا تخصيص في الآية {لقد أحصاهم} أي: حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوزه وعلمه وقبضته وقدرته وكلهم تحت تدبيره وقهره {وعدّهم عدّاً} أي: عدّ أشخاصهم وأيامهم وأنفاسهم وأفعالهم فإنّ كل شيء عنده بمقدار لا يخفى عليه شيء من أمورهم. {وكلهم آتيه} أي: كل واحد منهم يأتيه {يوم القيامة فرداً} أي: وحيداً ليس معه من الدنيا شيء من مال أو نصير يمنعه ولما رد سبحانه وتعالى على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً} أي: سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرّض منهم لأسبابها من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك. روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبداً يقول لجبريل أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء قد أحبّ الله فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم توضع له المحبة في الأرض» وإذا أبغض الله العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك والسين في سيجعل إما لأنّ السورة مكية وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا قوي الإسلام والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودة وإمّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم، وروي عن كعب قال مكتوب في التوراة لا محبة لأحدٍ في الأرض حتى يكون ابتداؤها من السماء من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ومصداق ذلك في القرآن قوله سيجعل لهم الرحمن ودّاً وقال أبو مسلم معناه يهب لهم ما يحبون والودّ والمحبة سواء، ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة التوحيد والنبوّة والحشر والردّ على فرق المبطلين بيّن تعالى أنه يسر ذلك بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فإنما يسرناه} أي: القرآن {بلسانك} أي: العربي أي: لولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك لك {لتبشر به المتقين} أي: المؤمنين {وتنذر} أي: تخوّف {به قوماً لدّاً} جمع ألد أي: جدل بالباطل وهم كفار مكة ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة عظيمة بليغة فقال تعالى: {وكم} أي: كثيراً {أهكلنا قبلهم من قرن} أي: أمّة من الأمم الماضية بتكذيب الرسل لأنهم إذا تأمّلوا وعلموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا وأنه لا بدّ فيها من الموت وخافوا سوء العاقبة في الآخرة كانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب. ثم أكد ذلك بقوله تعالى {هل تحس} أي: ترى وقيل: تجد {منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} أي: صوتاً خفياً لا قال الحسن بادوا جميعاً فلم يبق منهم عين ولا أثر أي: فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء. تنبيه: الركز الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ومنه ركز الرمح أي: غيبه في الأرض وأخفاه ومنه الركاز وهو المال المدفون لخفائه واستتاره، والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدّق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله تعالى» حديث موضوع. سورة طه مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية وعدد كلماتها ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة وعدد حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفاً وعن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه ويس والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتيح القرآن وخواتيم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة» . {بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} الذي عمّ نعمه على خلقه أجمعين {الرحيم} الذي خص بجنته عباده المؤمنين وقرأ {طه} شعبة وحمزة والكسائي بإمالة الطاء والهاء ووافقهم ورش وأبو عمرو على إمالة الهاء محضة ولم يمل ورش محضة إلا هذه الهاء وقد تقدّم الكلام في الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وفي هذه ههنا قولان: الصحيح أنها من تلك وقيل: إنها كلمة مفيدة أما على القول الأوّل فقد تقدّم الكلام فيه في أوّل سورة البقرة والذي زادوه هنا أمور: أحدها: قال الثعالبي: الطاء شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار. ثانيها: يحكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 عن جعفر الصادق الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم. ثالثها: قال سعيد بن جبير: هذا افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي. رابعها: مطمع الشفاعة للأمة وهادي الخلق إلى الملة. خامسها: الطاء من الطهارة والهاء من الهداية فكأنه قيل يا طاهراً من الذنوب يا هادياً إلى علام الغيوب. سادسها: الطاء طول القراءة والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} (آل عمران، 151) سابعها: الطاء بتسعة في الحساب والهاء بخمسة تكون أربعة عشر ومعناها يا أيها البدر وأمّا على القول الثاني فقيل: معنى طه يا رجل وهو يروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي، ثم قال سعيد بن جبير بالنبطية، وقال قتادة بالسريانية وقال عكرمة بالحبشية وقال الكلبي بلغة عك وهو بتشديد الكاف ابن عدنان أخو معد، وحكى الكلبي أنك لو قلت في عك يا رجل لم تجب حتى تقول طه، وقال السدّي: معناه يا فلان وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فؤمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً وقال الكلبيّ: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه وكان يصلي الليل كله فأنزل الله عليه هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال تعالى: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} أي: لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل أي: خفف عن نفسك فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلى الليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام ابق على نفسك فإنّ لها عليك حقاً ما أنزلناه لتهلك نفسك بالصلاة وتذيقها المشقة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام وقيل: لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك أي: لتتعنى وتتعب وما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك فنزلت، وأصل الشقاء في اللغة العناء وقيل: المعنى أنك لا تلام على كفر قومك، كقوله تعالى: {لست عليهم بمسيطر} (الغاشية، 22) وقوله تعالى: {وما أنت عليهم بوكيل} (الأنعام، 107) أي: أنك لا تؤاخذ بذنبهم وقيل: إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء فكأنه تعالى قال لا تظنّ أنك تبقى أبداً على هذه الحالة بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرّماً. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة وأبو عمرو بين بين وورش بين اللفظين والفتح عنده ضعيف جدّاً، وكذلك جميع رؤوس آي هذه السورة من ذوات الياء وقوله تعالى: {إلا تذكرة} استثناء منقطع أي: لكن أنزلناه تذكرة. قال الزمخشري: فإن قلت هل يجوز أن يكون تذكرة بدلاً من محل لتشقى قلت لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن {لمن يخشى} أي: لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار أو لمن علم الله تعالى منه أن يخشى بالتخويف منه، فإنه المنتفع به وقوله تعالى: {تنزيلاً} بدل من اللفظ بفعله الناصب له {ممن خلق الأرض} أي: من الله الذي خلق الأرض {والسموات العلى} أي: العالية الرفيعة التي لا يقدر على خلقها في عظمها غير الله تعالى والعلي جمع علياً كقولهم كبرى وكبر وصغرى وصغر وقدّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 الأرض على السموات لأنها أقرب إلى الجنس وأظهر عنده من السموات ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش وأجرى منه الأحكام والتقادير وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسبما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال تعالى: {الرحمن على العرش} وهو سرير الملك {استوى} أي: استواء يليق به فإنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان وإذا خلق الله الخلق لا يحتاج إلى مكان فهو بالصفة التي كان لم يزل عليها وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف مستوفي فراجعه، ثم استدل سبحانه وتعالى على كمال قدرته بقوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} فهو مالك لما في السموات من ملك ونجم وغيرهما ومالك لما في الأرض من المعادن والفلوات ومالك لما بينهما من الهواء ومالك لما تحت الثرى وهو التراب الندي والمراد الأرضون السبع لأنها تحته وقال ابن عباس: إنّ الأرضين على ظهر النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قصة لقمان {فتكن في صخرة} (لقمان، 16) والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله عز وجل وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله تعالى البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور فإذا وقعت في جوفه يبست. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة وورش بين اللفظين وكذا جميع رؤوس أي السورة من ذوات الراء. ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على حدّ سواء فقال تعالى: {وإن تجهر بالقول} أي: تعلن بالقول في ذكر أو دعاء فالله تعالى غنيّ عن الجهر به {فإنه يعلم السر وأخفى} قال الحسن: في السر ما أسرّ الرجل إلى غيره وأخفى من ذلك ما أسرّ في نفسه، وعن ابن عباس السر ما تسر في نفسك وأخفى من السر ما يلقيه الله تعالى في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غداً، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السر ما أسر ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفى عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه، وقال مجاهد السر العمل الذي يسر من الناس وأخفى الوسوسة، وقيل: السرّ هو العزيمة وأخفى ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه، وقال زيد بن أسلم: يعلم أسرار العباد وأخفى سره من عباده فلا يعلمه. أحد ولما ذكر صفاته وحّد نفسه فقال تعالى: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} التسعة والتسعون الوارد بها الحديث والحسنى تأنيث الأحسن وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها. روي أنّ لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف لا يعلمها إلا هو وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء وأما الألف الرابعة فالمؤمنون يعلمونها فثلاثمائة في التوراة وثلاثمائة في الإنجيل وثلاثمائة في الزبور ومائة في القرآن تسعة وتسعون منها ظاهرة وواحد مكنون من أحصاها دخل الجنة وذكر في لا إله إلا الله فضائل كثيرة أذكر بعضها وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ومحبينا من أهلها. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء أستغفر الله ثم تلا رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات» . وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى خلق ملكاً من الملائكة قبل أن يخلق السموات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله» . وعن أنس قال صلى الله عليه وسلم «مازلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله فقال يا محمد ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله» . وقال سفيان الثوري: سألت جعفر بن محمد عن حم عسق فقال الحاء حلمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته يقول الله عز وجل بحلمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. روي عن موسى عليه السلام أنه قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال: قل لا إله إلا الله، قال: إنما أردت شيئاً تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهنّ في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهنّ لا إله إلا الله، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة} (إبراهيم، 24) أنها لا إله إلا الله {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر، 10) لا إله إلا الله {وتواصوا بالحق} (العصر، 4) لا إله إلا الله {قل إنما أعظكم بواحدة} (سبأ، 46) لا إله إلا الله {وقفوهم إنهم مسؤولون} (الصافات، 24) عن قول لا إله إلا الله {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} (الصافات، 37) هو لا إله إلا الله {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (إبراهيم، 27) هو لا إله إلا الله {ويضل الله الظالمين} (إبراهيم، 27) عن قول لا إله إلا الله. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال في السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة» قال الرازي وفي النكت ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يخلصوا في أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله التصديق والتعظيم والجلالة والحرمة فمن ليس له التصديق فهو منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الجلالة فهو مراء ومن ليس له الحرمة فهو فاجر وكذاب. وحكي أنّ بشراً الحافي رأى كاغداً فيه بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك فرأى في النوم كأنه نودي يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة. وذكر أنّ صياداً كان يصيد السمك وكانت ابنته تطرحها في الماء وتقول إنما وقعت في الشبكة لغفلتها إلهنا تلك الصبية كانت ترحم غفلتها وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة الشيطان وأخرجنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منه وألقنا في بحار رحمتك مرّة أخرى. وعن محمد بن كعب القرظي قال: قال موسى: إلهي أي: خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري، قال: فأي خلقك أعظم؟ قال: الذي يلتمس إلى علمه علم غيره، قال: فأيّ خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس، قال: وأيّ خلقك أعظم جرماً؟ قال: الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قسمت له. إلهنا إنا لانتهمك فإنّا نعلم أنّ كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما لا تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أفعالنا وأعمالنا. وعن الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد سيعلم الجمع من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 أولى بالكرم أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس، ثم يقال: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم ينادي منادٍ أين: الحامدون الله كثيراً على كل حال؟ ثم يكون الحساب على من بقي. إلهنا نحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار طاقتنا ومنتهى قدرتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ولما عظّم الله تعالى حال القرآن وحال رسوله صلى الله عليه وسلم بما كلفه أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله تعالى: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} (هود، 120) وبدأ بموسى عليه السلام لأنّ فتنته كانت أعظم الفتن ليتسلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويصبر على حمل المكاره، فقال تعالى: {وهل أتاك حديث موسى} وهذا محتمل لأن يكون هذا أوّل ما أخبر به من أمر موسى فقال: وهل أتاك أي: لم يأتك إلى الآن فتنبه له وهذا قول الكلبي ومحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال: أليس قد أتاك؟ وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس وهذا وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله تعالى لكن المقصود منه تقرير الخبر في نفسه وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك هل بلغك عني كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يومئ إليه ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل موسى لا من قبل الله تعالى، وقيل: إن هل بمعنى قد وجرى على ذلك الجلال المحلي تبعاً للبغوي وقوله تعالى: {إذ رأى} يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينصب باذكر مقدراً أي: واذكر إذ رأى {ناراً} وذلك أنّ موسى عليه السلام استأذن شعيباً عليه السلام في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخيه فأذن له فخرج بأهله وماله وكانت أيام شتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل في شهرها لا تدري ليلاً تضع أو نهاراً فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد. قيل: كانت ليلة جمعة وأخذت امرأته في الطلق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وجعل يقدح زنده فلا يوري فأبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور {فقال لأهله امكثوا} أي: أقيموا في مكانكم والخطاب لامرأته وولدها والخادم ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإنّ الأهل يقع على الجمع وأيضاً قد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً وقرأ حمزة بضم الهاء في الوصل والباقون بالكسر {إني آنست} أي: أبصرت {ناراً} والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجنّ لاستتارهم. وقيل: إبصار ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان متيقناً حققه لهم بكلمة إني ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال: {لعلي آتيكم منها بقبس} أي: شعلة في رأس فتيلة أو عود أو نحو ذلك وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء في إني ولعلي الآتية والباقون بالسكون إلا ابن عامر ففتح لعلى مع من ذكروهم على مراتبهم في المدّ {أو أجد على النار هدى} أي: هادياً يدلني على الطريق ومعنى الاستعلاء في على النار أنّ أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب من زيد أو لأنّ المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها. وقال بعضهم: النار أربعة أقسام نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ونار تشرب ولا تأكل وهي التي في الشجر الأخضر كما قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً} (يس، 80) ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى عليه السلام. وقيل أيضاً: النار أربعة؛ أحدها: نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام، ثانيها: لها حرقة بلا نور وهي نار جهنم أعاذنا الله تعالى منها، ثالثها: لها الحرقة والنور وهي نار الدنيا، رابعها: لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار تنبيه: إن وصلت هدى ب {فلما} فليس فيها إلا التنوين للجميع وإن وقف عليها فهم على أصولهم في الفتح والإمالة وبين اللفظين {فلما أتاها} أي: النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدّة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة يغير ضوء النار قال ابن مسعود كانت الشجرة مثمرة خضراء وقال مقاتل وقتادة والكلبي: كانت من العوسج، وقال وهب: كانت من العليق، وقيل: من العناب قال أكثر المفسرين: إنّ الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان من نور الرب تعالى وهو قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما ذكر بلفظ النار لأنّ موسى عليه السلام حسبه ناراً فلما دنا منها سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً قال وهب ظنّ موسى أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها فإذا خضرتها ساطعة في السماء وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار فلما رأى موسى عليه السلام ذلك وضع يديه على عينيه وألقيت عليه السكينة {نودي يا موسى} . {إني أنا ربك} قال وهب نودي من الشجرة فقيل: يا موسى فأجاب سريعاً ولم يدر من دعاه فقال إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك فعلم أنّ ذلك لا ينبغي إلا لله تعالى فأيقن به. وقيل: إنه سمع بكل أجزائه حتى أنّ كل جارحة منه كانت أذناً وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة من إني على تقدير الباء أي: بأني لأنّ النداء يوصل بها تقول ناديته بكذا وأنشد الفارسي قول الشاعر: *ناديت باسم ربيعة بن مكدّم ... أنّ المنوه باسمه الموثوق وجوّز ابن عطية أن تكون بمعنى لأجل وليس بظاهر والباقون بالكسر إمّا على إضمار القول كما هو رأي البصريين أي: فقيل: وإما لأنّ النداء في معنى القول عند الكوفيين وقوله تعالى أنا يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن ويجوز أن يكون توكيد للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلاً. وروى ابن مسعود مرفوعاً في قوله تعالى: {فاخلع نعليك} إنهما كانا من جلد حمار ميت ويروى غير مدبوغ فأمر بخلعهما صيانة للوادي المقدّس وقال عكرمة ومجاهد: إنما أمر بذلك ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدّسة فيناله بركتها ويدل لذلك أنه قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 تعالى عقبه: {إنك بالوادي المقدّس} أي: المطهر أو المبارك فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي هذا ما قاله أهل التفسير. وذكر أهل الإشارة في ذلك وجوهاً: أحدها: أنّ النعل في النوم يعبر بالزوجة وقوله فاخلع نعليك إشارة إلى أنه لا يلتفت بخاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما. ثانيها: المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره أن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى فلا يلتفت إلى المخلوقات. ثالثها: أن الإنسان حال الاستدلال على وجود الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث وكل ما كان كذلك فله مؤثر ومدبر وصانع فهاتان المقدمتان شبيهتان بالنعلين لأنّ بهما يتوصل العقل إلى المقصود وينتقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتاً إلى تلك المقدمتين، فكأنه قيل: لا تكن مشتغل الخاطر بتلك المقدّمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى: وقوله تعالى: {طوى} بدل أو عطف بيان وقرأه هنا وفي النازعات نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين فهو ممنوع من الصرف باعتبار البقعة مع العلمية وقيل: لأنه معدول عن طاو فهو مثل عمر للعدل عن عامر وقيل: إنه اسم أعجمي ففيه العلمية والعجمة والباقون بالتنوين فهو مصروف باعتبار المكان ففيه العلمية فقط وعند هؤلاء ليس بأعجميّ وقوله تعالى: {وأنا اخترتك} أي: اصطفيتك للرسالة من قومك قرأ حمزة بتشديد النون من أنا وقرأ اخترناك بنون بعدها ألف بلفظ الجمع والباقون بتاء مضمومة وقوله تعالى: {فاستمع لما يوحى} أي: إليك مني فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه تعالى قال: لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه وفي قوله تعالى وأنا اخترتك نهاية اللطف والرحمة فيحصل له من الأوّل نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف. تنبيه: يجوز في لام لما أن تتعلق فاستمع وهو أولى وأن تكون مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى: {ردف لكم} (النحل، 72) وجوّز الزمخشريّ أن يكون ذلك من باب التنازع ونازعه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لأعاد الضمير مع الثاني فكان يقول فاستمع له لما يوحى، وأجيب عنه بأنّ مراده التعلق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يعنه. وقوله تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل وفي هذه الآية دلالة على أنّ علم أصول الدين مقدّم على علم الفروع، وأيضاً فالفاء في قوله تعالى فاعبدني تدل على أنّ عبادته إنما لزمت لآلهيته لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع وخص الصلاة بالذكر وأفردها في قوله تعالى {وأقم الصلاة لذكرى} للعلة التي أناط بها إقامتها وهو تذكير المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وقيل: لذكرى لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها وقيل: لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إنّ الله يقول وأقم الصلاة لذكري» وقيل: لأنّ أذكرك بالثناء والمدح واجعل لك عليها لسان صدق علياً وقيل: لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. ولما خاطب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 تعالى موسى عليه السلام بقوله تعالى: {فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} أتبعه بقوله تعالى: {إنّ الساعة آتية} أي: كائنة {أكاد أخفيها} قال أكثر المفسرين معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها غيري من الخلق وكيف أظهرها لكم ذكر تعالى على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقول الرجل كتمت سري من نفسي أي: أخفيته غاية الإخفاء والله تعالى لا يخفى عليه شيء والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت لأنّ الله تعالى وعد قبول التوبة فإذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت موته فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية فإذا لم يعلم وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت خوف معاجلة الأجل. وقال أبو مسلم: أكاد بمعنى أريد وهو كقوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} (يوسف، 76) ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي: لا أريد أن أفعله وقال الحسن: إن أكاد من الله واجب فمعنى قوله تعالى: أكاد أخفيها أي: أنا أخفيها عن الخلق كقوله تعالى: {عسى أن يكون قريباً} (الإسراء، 51) أي: هو قريب وقيل: أكاد صلة في الكلام والمعنى أنّ الساعة آتية أخفيها. قال زيد الخيل: *سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ... فما أن يكاد قرنه يتنفس أي فما أن يتنفس قرنه وقوله تعالى: {لتجزى كل نفس بما تسعى} أي: تعمل من خير أو شرّ متعلق بآتية، واختلف في المخاطب بقوله تعالى: {فلا يصدّنك} أي: يصرفنك {عنها من لا يؤمن بها} فقيل: وهو الأقرب كما قاله الرازي أنه موسى عليه السلام لأنّ الكلام أجمع خطاب له، وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم واختلف أيضاً في عود هذين الضميرين على وجهين: أحدهما: قال أبو مسلم لا يصدّنك: عنها أي: عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي: بالساعة فالضمير الأوّل عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليردّ السامع إلى كل خبر حقه. ثانيهما: قال ابن عباس: فلا يصدنك عن الساعة أي: عن الإيمان بها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة وهذا أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا. تنبيه: المقصود من ذلك نهى موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صدّ موسى وفيه وجهان: أحدهما: أنّ صدّ الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على حمله على المسبب. الثاني: أنّ صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك ههنا المراد نهي المخاطب عن حضوره له لا أن يراه هو فالرؤية مسببة عن الحضور كما أنّ صدّ الكافر مسبب عن الرخاوة والضعف في الدين فقيل: لا تكن رخواً بل كن شديداً صلباً حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه {واتبع هواه} أي: ميل نفسه إلى اللذات المحبوبة المخدجة لقصر نظره عن غيرها وخالف أمر الله {فتردى} أي: فتهلك إن انصددت عنها وما في قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 تعالى: {وما تلك بيمينك} مبتدأ استفهامية وتلك خبره وبيمينك حال من معنى الإشارة وقوله تعالى: {يا موسى} تكرير لأنه ذكره قبل في قوله تعالى: {نودي يا موسى} وبعد في مواضع كألقها يا موسى لزيادة الاستئناس والتنبيه. فإن قيل: السؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة في ذلك؟ أجيب: بأنّ في ذلك فوائد؛ الأولى: توقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره هل تعرف هذا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ويريد أن يضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. الثانية: أن يقرّر عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها. الثالثة: أنه تعالى لما أراه تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه كلام نفسه ثم أورد عليه التكليف الشاق وذكر له المعاد وختم ذلك بالتهديد العظيم فتحير موسى عليه السلام ودهش فقيل له وما تلك بيمينك يا موسى؟ وتكلم معه بكلام البشر إزالةً لتلك الدهشة والحيرة. فإن قيل: هذا خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم أجيب: بالمنع فقد خاطبه في قوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (النجم، 10) إلا أنّ الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه إلى الخلق والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلم كان سراً لم يؤهل له أحد من الخلق وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمة محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مراراً على ما قاله صلى الله عليه وسلم «المصلي يناجي ربه والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} (يس، 58) تنبيه: قوله تعالى: وما تلك إشارة إلى العصا وقوله تعالى بيمينك إشارة إلى اليد وفي هذا نكت ذكرها الرازي رحمه الله تعالى الأولى: أنه تعالى لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزة قاهرة وبرهاناً ساطعاً ونقله من حدّ الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً صار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة إلى قلب العبد فأيّ عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى السعادة بالطاعة ونور المعرفة. ثانيها: أنّ بالنظر الأول الواحد صار الجماد ثعباناً فبلغ سحر النفس الأمارة بالسوء. ثالثها: أن العصا كانت في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركته انقلبت ثعباناً فبلع سحر السحرة فأيّ عجب لو صار القلب ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليد موسى عليه السلام هذه المنزلة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب أصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية. ولما سأل تعالى موسى عليه السلام عن ذلك أجاب بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال أوّلها: {قال هي عصاي} وقد تم الجواب بذلك إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. ثانيها: قوله: {أتوكأ} أي: أعتمد {عليها} إذا مشيت وإذا عييت وإذا وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. ثالثها: قوله: {وأهش} أي: أخبط ورق الشجر {بها} ليسقط {على غنمي} لتأكله فبدأ عليه السلام أولاً بمصالح نفسه في قوله أتوكأ عليها ثم بمصالح رعيته في قوله: أهش بها على غنمي وكذلك في القيامة يقول نفسي نفسي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمّة {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال، 33) «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون» فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمّته فيقول: أمّتي أمّتي رابعها قوله {ولي فيها مآرب} جمع مأربة بتثلث الراء حوائج ومنافع {أخرى} كحمل الزاد والسقي وطرد الهوام وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله تعالى مرّة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك وقيل: انقطع لسانه بالهيبة فاجمل وقيل: اسم العصا نبعة وقيل: في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناء بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أداوته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل والزندين بفتح الزاي تثنية زند وزندة والزند العود الأعلى الذي تقدح به النار والزندة السفلى فيها ثقب فإذا اجتمعا قيل: زندان ولم نقل زندتان وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويكونان شمعتين بالليل وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وروي عن ابن عباس أنها كانت تماشيه وتحدّثه ولما ذكر موسى هذه الجوابات لربه {قال} له {ألقها} أي: أنبذها {يا موسى} {فألقاها فإذا هي حية} أي: ثعبان عظيم {تسعى} أي: تمشي على بطنها سريعاً وهنا نكت خفية. إحداها: أنه عليه السلام لما قال ولي فيها مآرب أخرى أراد الله تعالى أن يعرفه أنّ فيها مآرب لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائرها وأربى. ثانيها: كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا فالرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فقال أوّلاً: فاخلع نعليك إشارة إلى ترك الهرب، ثم قال: ألقها وهو إشارة إلى ترك الطلب، كأنه تعالى قال: إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك طالباً لحظك فلا تكن خالصاً لمعرفتي، فكن تاركاً للهرب والطلب تكن خالصاً لي. ثالثها: أنّ موسى عليه السلام مع علوّ درجته وكمال صفته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بإلقائها حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت في ألف وقر من المعاصي فكيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟ فإن قيل: كيف قال هنا حية وفي موضع آخر جان وهي الحية الخفيفة الصغيرة وقال في موضع آخر ثعبان وهو أكبر ما يكون من الحيات؟ أجيب: بأنّ الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف لأنّ الثعبان العظيم من الحيات كما مرّو الجان الدقيق وفي ذلك وجهان؛ أحدهما: أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جلدها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أوّل حالها وبالثعبان مآلها. الثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجانّ لقوله تعالى: {فلما رآها تهتز كأنها جانّ} (النمل، 10) قال وهب: لما ألقى العصا على وجه الأرض نظر إليها فإذا هي حية تسعى صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً صارت شعبتاها شدقين لها والمحجن عنقاً وعرفاً يهتز وعيناها تتقدان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفاً عظيماً فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً وهرب ثم نودي يا موسى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف {قال} تعالى له {خذها} أي: بيمينك {ولا تخف} وكان على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان فلما قال تعالى له خذها لف طرف المدرعة على يده فأمره الله أن يكشف يده، وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له الملك أرأيت إن أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً قال: لا ولكنني ضعيف ومن ضعف خلقت وكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها كما قال تعالى: {سنعيدها سيرتها الأولى} وقد أظهر الله تعالى في هذه العصا معجزات لموسى عليه السلام منها انقلاب العصا حية ومنها وضع يده في فمها من غير ضرر ومنها انقلابها خشبة مع الأمارات التي تقدّمت تنبيه: في نصب سيرتها أوجه: أحدها: أن تكون منصوبة على الظرف أي: في سيرتها أي: طريقتها: ثانيها: على البدل من هاء سنعيدها بدل اشتمال لأنّ السيرة الصفة أي: سنعيدها صفتها وشكلها. ثالثها: على إسقاط الخافض أي: إلى سيرتها وقيل غير ذلك. فإن قيل: لما نودي يا موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلماذا خاف؟ أجيب عن ذلك بأوجه أحدها: أنّ ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط وهذا معلوم بدلائل العقول ثانيها: إنما خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم عليه السلام منها. ثالثها: أنّ مجرد قوله ولا تخف لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى: {ولا تطع الكافرين} (الأحزاب، 1) لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله: {فلما رآها تهتز كأنها جانّ ولى مدبراً} (النمل، 10) يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار وقوله تعالى: {واضمم يدك} أي: اليمنى {إلى جناحك} أي: جنبك الأيسر تحت العضد في الإبط {تخرج بيضاء} أي: نيرة مشرقة تضيء كشعاع الشمس تعشى البصر لا بدّ فيه من حذف والتقدير واضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف من الأوّل والثاني وأبقى مقابليهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج وبيضاء حال من فاعل تخرج وقوله تعالى: {من غير سوء} متعلق بتخرج وروي عن ابن عباس إلى جناحك إلى صدرك والأّول أولى كما قال الرازي لأنه يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جانباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما أي: يميلهما عند الطيران وجناحا الإنسان عضداه فعضداه يشبهان جناحي الطير، ولأنه قال: تخرج بيضاء ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله تخرج معنى والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة. والبرص أبغض شيء إلى العرب ولهم عنه نفرة عظيمة وإسماعهم لاسمه مجاجة فكان جديراً بأن يكنى عنه ولا ترى أحسن ولا أظرف ولا أخف للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. يروى أنّ موسى عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 في جيبه فأدخلها في إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير مرض ثم إذا أردّها عادت إلى لونها الأوّل من غير نور وقوله تعالى: {آية أخرى} أي: معجزة ثابتة حال من ضمير تخرج كبيضاء وقوله تعالى: {لنريك} متعلق بما دل عليه آية أي: دللنا بها لنريك وقوله تعالى: {من آياتنا الكبرى} أي: العظمى على رسالتك متعلق بمحذوف على أنه حال من الكبرى والكبرى مفعول ثان لنريك والتقدير لنريك الكبرى حال كونها من آياتنا أي: بعض آياتنا واختلف أيّ الآيتين أعظم في الإعجاز فقال الحسن: اليد لأنه تعالى قال: لنريك من آياتنا الكبرى والذي عليه الأكثر أنّ العصا أعظم إذ ليس في اليد إلا تغير اللون وأمّا العصا ففيها تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم إعادتها عصا بعد ذلك فقد وقع التغير في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم وأما قوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى} فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام وأنه غير مختص باليد، فإن قيل: لم لم يقل تعالى من آياتنا الكبر؟ أجيب: بأنّ ذلك ذكر لرؤوس الآي وقيل فيه إضمار معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى وهذا التقدير يقوّي قول القائل بأنّ اليد أعظم آية. ولما أظهر سبحانه وتعالى لموسى هذه الآيات عقبها بأمره بالذهاب إلى فرعون بقوله تعالى: {اذهب} أي: رسولاً {إلى فرعون} وبيّن تعالى العلة في ذلك بقوله تعالى: {إنه طغى} أي: جاوز الحد في كفره إلى أن ادّعى الإلهية ولهذا خصه الله تعالى بالذكر مع أنه عليه السلام مبعوث إلى الكل قال وهب: قال الله تعالى لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإنّ معك يدي ونصري وإني ألبسك جبة من سلطاني تستكمل بها القوّة في أمرك أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرّته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً لينا لا يغترّ بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك فعند ذلك {قال رب اشرح لي صدري} أي: وسعه لتحمل الرسالة، قال ابن عباس: يريد حتى لا أخاف غيرك والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر بقوله: {قال ربّ إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} (الشعراء: 12، 13) وذلك أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون اللعين خوفاً شديداً لشدّة شوكته وكثرة جنوده وكان يضيق صدراً بما كلف من مقاومة فرعون وحده فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أنّ أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى وإذا علم ذلك لم يخف فرعون وشدّة شوكته وكثرة جنوده، وقيل: اشرح لي صدري بالفهم عنك ما أنزلت عليّ من الوحي {ويسر} أي: سهّل {لي أمري} أي: ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وذلك لأنّ كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فالله تعالى هو الميسر له، فإن قيل: قوله لي في اشرح لي صدري ويسر لي أمري ما جدواه والأمر مستتم مستتب بدونه؟ أجيب: بأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 قد أبهم الكلام أوّلاً فقال اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بيّن ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره من أن يقول: اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل {واحلل عقدة من لساني} قال ابن عباس كان في لسانه عليه السلام رته وذلك أنّ موسى عليه السلام كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته إنّ هذا عدوّي وأراد أن يقتله فقالت له آسية: إنه صبي لا يعقل ولا يميز وفي رواية أنّ أمّ موسى لما فطمته ردّته إلى فرعون فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته يربيانه واتخذاه ولداً فبينما هو ذات يوم يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير بضربه وهمّ بقتله فقالت آسية: أيها الملك إنه صغير لا يعقل جربه إن شئت فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فأراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى عليه السلام فوضعها على النار فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة. وقيل: قربا إليه تمرة وجمرة فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فاحترق لسانه، ويروى أنّ يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال إلى أي: رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها وعن بعضهم أنها لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. وقيل: كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته واختلفوا في أنه لم طلب حل تلك العقدة؟ فقيل: لئلا يقع خلل في أداء الوحي وقيل لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه وقيل: لإظهار المعجزة كما أنّ حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى معجز في حقه واختلفوا في زوال العقدة بكمالها فقيل: بقي بعضها لقوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} (القصص، 34) وقول فرعون ولا يكاد يبين وكان في لسان الحسين بن عليّ رضى الله تعالى عنهما رته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ورثها من عمه موسى» وقال الحسن: زالت بالكلية لقوله تعالى: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} (طه، 36) وضعف هذا الرازي بأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقد من لساني بل قال واحلل عقدة من لساني فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله قال والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء وقال الزمخشري وفي تنكير العقدة ولم يقل واحلل عقدة لساني أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً أي: ولذا قال: {يفقهوا} أي: يفهموا {قولي} عند تبليغ الرسالة ولم يطلب الفصاحة الكاملة ومن لساني صفة للعقدة كأنه قيل: عقدة من عقد لساني تنبيه: استدل على أنّ في النطق فضيلة عظيمة بوجوه: أوّلها: قوله تعالى: {خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن، 3) فماهية الإنسان هي الحيوان الناطق. ثانيها: اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير: *لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وقالوا ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة أي: لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم، وقالوا: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وقالوا المرء مخبوء تحت لسانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 ثالثها: أنّ في مناظرة آدم عليه السلام مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض} (البقرة: 33) ولما رأى موسى عليه السلام أنّ التعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الودّ وزوال التهمة قربة عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى طلب المعاونة على ذلك بقوله: {واجعل لي وزيراً} أي: معيناً على الرسالة ولذلك قال عيسى بن مريم عليه السلام: {من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله} (آل عمران، 52) وقال محمد صلى الله عليه وسلم «إنّ لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر» وقال صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله تعالى بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شرّاً كفه» وقال أنوشروان: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ولا أكرم الدواب عن السوط ولا أعلم الملوك عن الوزير. ولما كان التعاون على الدين منقبة عظيمة أراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله فقال: {من أهلي} أي: أقاربي وقوله: {هارون} قال الجلال المحلي: مفعول ثان وقوله: {أخي} عطف بيان وذكر غيره أعاريب غير ذلك لا حاجة لنا بذكرها. تنبيه: الوزير مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه، أو من الوزر لأنّ الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره، أو من الموازرة وهي المعاونة. قال الرازي: وكان هارون مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقول موسى: {هو أفصح مني لساناً} (القصص، 34) ومنها الرفق لقول هارون: {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} (طه، 94) أنه كان أكبر سناً منه وقال ابن عادل كان أكبر سناً من موسى بأربع سنين وكان أفصح لساناً منه وأجمل وأوسم أبيض اللون وكان موس آدم اللون أقنى جعدا. ولما طلب موسى عليه السلام من الله تعالى أن يجعل هارون وزيراً له طلب منه أن يشد أزراره بقوله: {اشدد به أزري} أي: أقوّي به ظهري {وأشركه في أمري} أي: في النبوّة والرسالة، وقرأ ابن عامر بسكون الياء من أخي وهمزة مفتوحة من أشدد وهو على مرتبته في المدّ وهمزة مضمومة من أشركه وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وأشركه بهمزة مفتوحة والباقون بسكون الياء من أخي وهمزة وصل من أشدد وفتح الهمزة من أشركه ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال: {كي نسبحك} تسبيحاً {كثيراً} قال الكلبي: نصلي لك كثيراً نحمدك ونثني عليك والتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عما لا يليق به. {ونذكرك} ذكراً {كثيراً} أي: نصفك بصفات الكمال والجلال والكبرياء وجوّز أبو البقاء أن يكون كثيراً نعتاً لزمان محذوف أي: زماناً كثيراً. {إنك كنت بنا بصيراً} أي: عالماً بأنّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك أو بصيراً بأنّ الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوّة إليها أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو الأصلح لنا. ولما سأل موسى عليه السلام ربه تلك الأمور المتقدّمة وكان من المعلوم أنّ قيامه بما كلف به لا يتم إلا بإجابته إليها لا جرم {قال} الله تعالى: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} أي: أعطيت جميع ما سألته منا عليك لما فيه من وجوه المصالح {ولقد مننا عليك مرّة أخرى} أي: أنعمنا عليك في وقت آخر وفي ذلك تنبيه على أمور أحدها: كأنه تعالى قال: إني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ثانيها: إني كنت ربيتك فلو منعتك الآن كان ذلك ردّاً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي ثالثها: إنّا أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك الدرجة العالية وهي منصب النبوّة فكيف يليق بمثل هذه التربية المنع عن المطلوب فإن قيل: لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أنّ هذه اللفظة مؤذية والمقام مقام تلطف؟ أجيب: بأنه إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أنّ هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها لمحض فضله وإحسانه، فإن قيل: لم قال مرّة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة؟ أجيب: بأنه لم يعن بمرّة أخرى واحدة من المنن لأنّ ذلك قد يقال في القليل والكثير، ثم بيّن تلك المنة وهي ثمانية أولها قوله تعالى: {إذ أوحينا إلى أمّك} وحياً لا على وجه النبوّة إذ المرأة لا تصلح للقضاء ولا للإمامة ولا تلي عند أكثر العلماء تزويج نفسها فكيف تصلح للنبوّة ويدل على ذلك قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحى إليهم} (النحل، 43) والوحي جاء لا بمعنى النبوّة في القرآن كثيراً قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل، 68) {وإذا أوحيت إلى الحواريين} (المائدة، 111) ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه: أحدها: أنه رؤيا رأتها أمّ موسى وكان تأويلها وضع موسى في التابوت وقذفه في البحر وأنّ الله تعالى يردّه عليها. ثانيها: أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة. ثالثها: المراد خطور البال وغلبته على القلب، فإن قيل: هذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأنّ الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني؟ أجيب: بأنها لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون. رابعها: لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إنّ ذلك النبيّ عرفها إمّا مشافهة أو مراسلة واعترض على هذا بأنّ الأمر لو كان كذلك لما لحقها الخوف. وأجيب: بأنّ ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أنّ الله تعالى كان أمره بالذهاب إليه مراراً. خامسها: لعل بعض الأنبياء المتقدّمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك الخبر وانتهى ذلك الخبر إلى أمّه. سادسها: لعلّ الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوّة كما بعث إلى مريم في قوله: {فتمثل لها بشراً سوياً} (مريم، 17) وأمّا قوله تعالى: {ما يوحى} فمعناه ما لا يعلم إلا بالوحي أو ما ينبغي أن يوحى ولا يخلّ به لعظم شأنه وفرط الاهتمام ويبدل منه {أن اقذفيه} أي: ألقيه {في التابوت} أي: ألهمناها أن اجعليه في التابوت {فاقذفيه} أي: موسى بالتابوت {في اليمّ} أي: نهر النيل {فليلقه اليمّ بالساحل} أي: شاطئه والأمر بمعنى الخبر والضمائر كلها لموسى فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر تنبيه: اليمّ البحر والمراد به هنا نيل مصر في قول الجميع واليمّ اسم يقع على النهر والبحر العظيم قال الكسائي والساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 لأن الماء يسحله أي: يحسره إذا علاه وقوله تعالى: {يأخذه عدوّ لي وعدوّ له} أي: فرعون جواب فليلقه وتكرير عدوّ للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع أي: سيصير عدوّاً له بعد ذلك فإنه لم يكن في ذلك الوقت بحيث يعادى، روي أنها اتخذت تابوتاً قال مقاتل: إنّ الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون وجعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليمّ وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم إذا بتابوت يجري به الماء فأمر فرعون الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه كما قال تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} وهذه هي المنة الثانية قال الزمخشري: مني لا يخلو إمّا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإمّا أن يتعلق بمحذوف وهو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وآسية حتى قالت قرّة عين لي ولك لا تقتلوه. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من يراه وهو كقوله تعالى: {سيجعل لهم الرحمن ودّاً} (مريم، 96) المنة الثالثة قوله تعالى {ولتصنع على عيني} أي: تربى على رعايتي وحفظي لك فأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ويقول للصانع اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي. تنبيه: ولتصنع معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون. المنة الرابعة قوله تعالى: {إذ تمشي أختك} والعامل في إذ ألقيت أو تصنع ويجوز أن يكون بدلاً من إذ أوحينا واستشكل بأنّ الوقتين مختلفان متباعدان وأجيب: بأنه يصح مع اتساع الوقت كما يصح أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا فتقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها {فتقول هل أدلكم على من يكفله} يروى أنّ أخته واسمها مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم ذلك فقالوا نعم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله تعالى: {فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها} بلقائك ورؤيتك {ولا تحزن} أي: هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع. المنة الخامسة: قوله تعالى: {وقتلت نفساً} قال ابن عباس: هو الرجل القبطي الذي قتله خطأً بأن وكزه حين استغاثه الإسرائيلي إليه قال الكسائي: كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة {فنجيناك من الغمّ} أي: من غم قتله خوفاً من اقتصاص فرعون كما قال تعالى في آية: {فأصبح في المدينة خائفاً يترقب} (القصص، 18) بالمهاجرة إلى مدين. المنة السادسة: قوله تعالى: {وفتناك فتوناً} قال ابن عباس: اختبرناك اختباراً وقيل: ابتليناك ابتلاءً، قال ابن عباس: الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى منها أوّلها أنّ أمّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 إلا من ثدي أمّه ثم أخذه بلحية فرعون حتى همّ بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً. فإن قيل: إنه تعالى عدد أنواع مننه على موسى في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع وفتناك فتونا؟ أجيب: بجوابين الأوّل: فتناك أي: خلصناك تخليصاً من قولهم فتنت الذهب إذا أردت تخليصه من الفضة أو نحوها. الثاني: أنّ الفتنة تشديد المحنة يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدّت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى: {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} (العنكبوت، 10) وقال تعالى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين} (العنكبوت: 2، 3) ولما كان التشديد في المحنة يوجب كثرة الثواب عده الله تعالى من جملة النعم وتقدّم تفسير ابن عباس وهو قريب من ذلك، فإن قيل: هل يصح إطلاق الفتان على الله تعالى اشتقاقاً من قوله تعالى: وفتناك فتونا؟ أجيب: بأنه لا يصح لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي. المنة السابعة: قوله تعالى: {فلبثت سنين في أهل مدين} والتقدير وفتناك فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم عند شعيب عليه السلام وتزوّجت بابنته وهي إمّا عشر أو ثمان لقوله: {على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك} (القصص، 27) وقال وهب: لبث موسى عند شعيب عليه السلام ثماناً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته فإنه قضى أوفى الأجلين والآية دالة على أنه لبث عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر كما قاله الرازي وإن قال ابن عادل يرده قوله تعالى: {فلما قضى موسى الأجل} (القصص، 29) أي: الأجل المشروط عليه في تزويجه وسار بأهله ومدين بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر {ثم جئت على قدر} أي: على القدر الذي قدّرت أنك تجي فيه لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر وقال عبد الرحمن بن كيسان على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه للأنبياء وهذا قول أكثر المفسرين أي: على الموعد الذي وعد الله وقدّر أنه يوحي إليه بالرسالة وهو أربعون سنة وكرّر تعالى قوله: {يا موسى} عقب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك. المنة الثامنة: قوله تعالى: {واصطنعتك} أي: اخترتك {لنفسي} لأصرّفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك ثم بيّن تعالى ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء بقوله تعالى: {اذهب أنت وأخوك بآياتي} أي: بمعجزاتي وقال ابن عباس: الآيات التسع التي بعث بها موسى وقيل: إنها العصا واليد لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع ولم يذكر أنه عليه السلام أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى حكاية عن فرعون: {إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} (الأعراف: 106، 107، 108) وقال تعالى: {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه} (القصص، 32) فإن قيل: كيف أطلق لفظ الجمع على الاثنين؟ أجيب: بأنّ العصا كانت آيات انقلابها حيواناً ثم إنها في أوّل الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى: تهتز كأنها جانّ ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 كانت تصير ثعباناً وهذه آية أخرى ثم إنه عليه السلام كان يدخل يده في فمها فما كانت تضرّه فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى وكذلك اليد فإنّ بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالها بعد ذلك آية أخرى فدل ذلك على أنها كانت آيات كثيرة. وقيل: الآيات العصا واليد وحلّ عقدة لسانه وقيل: معناه أمدّكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تنزاح به العلل من فرعون وقومه {ولاتنيا} أي: لا تفترا ولا تقصرا {في ذكري} أي: بتسبيح وغيره فإنّ من ذكر جلال الله استخف غيره فلا يخاف أحداً وتقوى روحه بذلك الذكر فلا تضعف في مقصوده، ومن ذكر الله لا بدّ وأن يكون ذاكر إحسانه، وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره وقيل: لاتنيا في ذكرى عند فرعون بأن تذكرا لفرعون وقومه أنّ الله لا يرضى منهم الكفر وتذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وقيل: المراد بالذكر تبليغ الرسالة {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أي: بادّعاء الربوبية تنبيه: ذكر الله تعالى المذهوب إليه هنا وهو فرعون وحذفه في قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي اختصاراً في الكلام وقال القفال فيه وجهان؛ أحدهما: أنّ قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد فقيل مرّة أخرى اذهبا لتعرفا أنّ المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر والثاني: أنّ قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ثم إن قوله تعالى: اذهبا إلى فرعون أمر بالذهاب إلى فرعون وحده واستبعد هذا بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وقد حذف من كل من الذهابين ما أثبته في الآخر وقيل: إنه حذف المذهوب إليه من الأوّل وأثبته في الثاني، وحذف المذهوب به وهو بآياتي من الثاني وأثبته في الأوّل. {فقولا له قولاً ليناً} أي: مثل {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} (النازعات: 18، 19) فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة، فإن قيل: لم أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد؟ أجيب: بأنّ عادة الجبار إذا أغلظ عليه في الوعظ يزداد عتوّاً وتكبراً فأمر باللين حذراً من أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليهما واحتراماً لما له من حق التربية وقيل: كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرّة وقيل: عداه شباباً لا هرم بعده وملكاً لا يزول إلا بالموت وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمراً دون هامان وكان غائباً فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال أردت أن أقبل منه فقال له هامان كنت أرى أنّ لك عقلاً ورأياً أنت رب تريد أن تكون مربوباً وأنت تعبد تريد أن تعبد فغلبه على رأيه وقوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى} متعلق باذهبا أو قولا أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوقه ويسعى بأقصى وسعه، قال الزمخشري: ولا يستقيم أن يراد ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالم بعواقب الأمور، وعن سيبويه كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب بمعنى أنه يستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى وقال الفرّاء: إن لعلّ بمعنى كي فتفيد العلية كما تقول اعمل لعلك تأخذ أجرتك. فائدة: قرأ رجل عند يحيى بن معاذ {فقولا له قولاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 لينا} فبكى يحيى وقال إلهي هذا برك بمن يقول أنا الإله فكيف برك بمن يقول أنت الإله فإن قيل: ما الفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه تعالى بأنه لا يؤمن؟ أجيب: بأنّ ذلك الإلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ولذلك قدّم الأوّل أي: إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى. ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة فقولا له قولاً ليناً وسأقسي قلبه فلا يؤمن ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك حين ألجمه الغرق قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين} (يونس، 90) ثم إنّ موسى وهارون. {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط} أي: يعجل {علينا} بالعقوبة {أو أن يطغى} أي: يتجاوز الحد في الإساءة علينا، فإن قيل: لما تكرّر الأمر من الله تعالى بالذهاب، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على معصية؟ أجيب: بأنّ الأمر ليس على الفور فسقط السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أنّ الأمر لا يقتضي الفور، فإن قيل: قوله تعالى: قالا ربنا يدل على أنّ المتكلم موسى وهارون ولم يكن هارون هناك حاضراً؟ أجيب: بأنّ الكلام كان مع موسى إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير في تلك الحالة وإن كان موسى وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} (البقرة، 72) وقوله: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل} (المنافقون، 8) روي أنّ القائل عبد الله بن أبيّ وحده، فإن قيل: إنّ موسى عليه السلام قال: {رب اشرح لي صدري} (طه، 25) فأجابه الله تعالى بقوله: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} (طه، 36) وهذا يدل على أنه تعالى قد شرح صدره ويسر له ذلك الأمر.u فكيف قال بعده إنا نخاف فإنّ حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر؟ أجيب: بأنّ شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير الخوف {قال} الله تعالى لهما {لا تخافا إنني معكما} حافظكما وناصركما {أسمع وأرى} أي: ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصري، وقال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع فلست بغافل عنكما فلا تهتما، وقال القفال: قوله تعالى: {أسمع وأرى} يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله تعالى {يفرط علينا أو أن يطغى} ؛ يفرط علينا بأن لا يسمع منا أو أن يطغى بأن يقتلنا، قال تعالى: إنني معكما أسمع كلامكما فأسخره للاستماع منكما، وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه ثم إنه سبحانه وتعالى أعاد ذلك التكليف فقال: {فأتياه} لأنه سبحانه وتعالى قال في المرّة الأولى: {اذهبا إلى فرعون} (طه، 43) وفي الثانية قال: {اذهب أنت وأخوك} (طه، 42) وفي الثالثة قال: {اذهب إلى فرعون} (طه، 24) وفي الرابعة قال ههنا: فأتياه، فإن قيل: إنه تعالى أمرهما في الثانية بأن يقولا له قولاً ليناً، وههنا أمرهما بقوله تعالى: {فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل} أي: إلى الشام {ولا تعذبهم} أي: خل عنهم من استعمالك إياهم في أشغالك الشاقة كالحفر والبناء وحمل الثقيل وقطع الصخور وكان فرعون يستعملهم في ذلك مع قتل الأولاد وفي هذا تغليظ من وجوه؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 الأول: قوله: إنا رسولا ربك، وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع. الثاني: قولهما: فأرسل معنا بني إسرائيل فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال أيضاً. الثالث: قولهما: ولا تعذبهم. الرابع: قولهما {قد جئناك بآية من ربك} فما الفائدة في التليين أوّلاً والتغليظ ثانياً؟ أجيب: بأنّ الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بدّ له من التغليظ حيث لم ينفع التليين. فإن قيل: أليس الأولى أن يقول إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم لأن ذكر المعجز مقروناً بالدعاء للرسالة أولى من تأخيره عنه؟. أجيب: بأنّ هذا أولى لأنهما ذكرا مجموع الدعاوي ثم استدلا على ذلك المجموع بالمعجز وقولهما: قد جئناك بآية من ربك قال الزمخشري: هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي أنا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتهما التي هي مجيء الآية. فإن قيل: إنّ الله تعالى قد أعطاهما آيتين هما العصا واليد ثم قال تعالى: {اذهب أنت وأخوك بآياتي} ، وذلك يدل على ثلاث آيات وقالا هنا قد جئناك بآية من ربك وذلك يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع؟ أجاب القفال: بأنّ معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنهما قالا قد جئناك ببينات من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة وتقدّم الجواب عن التثنية والجمع وأنّ في العصا واليد آيات. وقوله تعالى: {والسلام على من اتبع الهدى} يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى كأنه تعالى قال: فقولا إنا رسولا ربك وقولا له والسلام على من اتبع الهدى ويحتمل أن يكون كلام الله قد تمّ عند قوله قد جئناك بآية من ربك، وقوله تعالى بعد ذلك والسلام على من اتبع الهدى وعد من قبلهما لمن آمن وصدّق بالسلامة له من عقوبات الله في الدنيا والآخرة أو أنّ سلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين، وقال بعضهم: إن على بمعنى اللام أي: والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} (فصلت، 46) وقال تعالى في موضع آخر: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء، 7) نا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب ما جئنا به {وتولى} أعرض عنه، قال البيضاوي: ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأنّ التهديد في أوّل الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق. ولما أتياه وقالا: إنا رسولا ربك وبلغاه ما أمرا به {قال} لهما {فمن ربكما يا موسى} إنما نادى موسى وحده بعد مخاطبته لهما معاً إما لأنّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي كانت في لسان موسى عليه الصلاة والسلام ويعلم فصاحة أخيه بدليل قوله: {هو أفصح مني لساناً} (القصص، 34) فأراد أن يفحمه ويدل عليه قول فرعون ولا يكاد يبين وإمّا لأنه حذف المعطوف للعلم به أي: يا موسى وهارون قاله أبو البقاء، ثم إنّ فرعون لم يشتغل مع موسى بالبطش والإيذاء لما دعاه إلى الله تعالى مع أنه كان شديد القوّة عظيم الغلبة كثير العسكر بل خرج معه في المناظرة لأنه لو أذاه لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة وذلك يدل على أنّ السفاهة من غير حجة لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدّعي الإسلام والعلم تنبيه: قال ههنا {فمن ربكما يا موسى} وقال في سورة الشعراء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 {وما ربّ العالمين} (الشعراء، 23) وهو سؤال عن الماهية فهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة قال ابن عادل والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدّماً على سؤال ما لأنه كان يقول: إني أنا الله والرب فقال: فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى طلب الماهية لأنّ العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. فإن قيل: لم قال فمن ربكما ولم يقل فمن إلهكما؟ أجيب: بأنه أثبت نفسه رباً في قوله: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء، 18) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال أنا ربك فلم تدع رباً آخر وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال له نمروذ أنا أحيي وأميت فلم تكن الإماتة التي ذكرها إبراهيم هي الإماتة مع الإحياء التي عارضه نمروذ بها إلا فيّ اللفظ فكذا ههنا لما ادّعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام أي: أنا الرب الذي ربيتك ومعلوم أنّ الربوبية التي ادعاها موسى عليه السلام غير الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما، ثم كأنه قيل: فما أجاب به موسى فقيل: {قال} مستدلاً على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات {ربنا الذي أعطى كل شيء} أي: من الأنواع {خلقه} أي: صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار والأذن الشكل الذي يوافق الإسماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناء عنه أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحجرة زوجين والبعير والناقة كذلك والرجل والمرأة كذلك فلم يزاوج منهما شيئاً غير جنسه وما هو على خلاف خلقه {ثم هدى} أي: ثم عرّف الله تعالى الحيوان الكائن من المخلوق كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل إليه. قال الزمخشريّ: ولله در هذا الجواب ما أحضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظره بين الأنصاف وكان طالباً للحق ولما خاف فرعون أن يزيد موسى في إظهار تلك الحجة فيظهر للناس صدقه {قال} لموسى {فما بال} أي: حال {القرون} أي: الأمم {الأولى} كقوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث فمن شقي منهم ومن سعد أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ويشغله بهذه الحكايات فلم يلتفت إليه فلذلك {قال علمها عند ربي} استأثر به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلكم لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب وعلم أحوال هذه القرون مثبت عند ربي {في كتاب} هو اللوح المحفوظ ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لتمكنه في علمه تعالى بما استحفظه العالم وقيده بالكتابة ويؤيده قوله {لا يضلّ ربي ولا ينسى} والضلال أن يخطئ الشيء في مكانه فلم يتهد إليه، والنسيان أن يذهب عنه بحيث لا يخطر بباله، وهما محالان على علام الغيوب بخلاف العبد الذليل والبشر الضئيل أي: لا يضل تعالى ولا ينسى كما تضلّ أنت وتنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة ثم عاد إلى تتميم كلامه الأوّل وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال {الذي جعل لكم} في جملة الخلق {الأرض مهداً} أي: فراشاً تنبيه: هذا الموصول في محل رفع صفة لربي وخبره محذوف تقديره هو، أو منصوب على المدح. وقرأ عاصم وحمزة هنا وفي سورة الزخرف مهداً بفتح الميم وسكون الهاء أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 مهدها مهداً أو تتمهدونها فهي لهم كالمهاد وهو ما يمهد للصبيّ، وقرأ الباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد {وسلك} أي: سهل {لكم فيها سبلاً} أي: طرقاً بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها {وأنزل من السماء ماءً} أي: مطراً وعدل بقوله {فأخرجنا به} عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى تنبيهاً على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال قدرته والحكمة وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته وعلى هذا نظائره كقوله تعالى: {ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها} (فاطر، 27) {أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق} (النحل، 60) {أزواجاً} أي: أصنافاً سميت بذلك لأنها مزدوجة مقترنة بعضها مع بعض وقوله تعالى {من نبات} بيان وصفة لا زواجاً وكذلك {شتى} وهو جمع شتيت من شت الأمر تفرّق نحو مرضى جمع مريض وجرحى جمع جريح فألفه للتأنيث أي: أزواجاً متفرّقة ويجوز أن يكون صفة للنبات فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع أي: أنها مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال تعالى: {كلوا وارعوا أنعامكم} والأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم يقال رعت الأنعام ورعيتها والأمر للإباحة وتذكير النعمة والجملة حال من ضمير أخرجنا أي: مبيحين لكم الأكل ورعي الأنعام أي: وبقية الحيوانات {إنّ في ذلك} أي: فيما ذكرت من هذه النعم {لآيات} أي: لعبراً {لأولي النهى} أي: أصحاب العقول جمع نهية كغرفة وغرف سمي به العقل لأنه ينهي صاحبه عن ارتكاب القبائح. ولما ذكر سبحانه وتعالى منافع الأرض والسماء بيّن أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال: {منها} أي: الأرض {خلقناكم} فإن قيل: إنما خلقنا من النطفة على ما بيّن في سائر الآيات؟ أجيب: بأوجه. أحدها: أنه لما خلق أصلنا آدم عليه السلام من تراب كما قال تعالى: {كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران، 59) حسن إطلاق ذلك علينا. ثانيها: أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما متولدان من الأغذية والغذاء إمّا حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النباتي والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة. ثالثها: روى ابن مسعود أنّ ملك الأرحام يأتي إلى الرحم حين يكتب أجل المولود ورزقه والأرض التي يدفن فيها فإنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة ثم يدخلها في الرحم وأخرج ابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إنّ الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة {وفيها نعيدكم} أي: مقبورين بعد الموت {ومنها نخرجكم} أي: عند البعث {تارة} أي: مرّة {أخرى} أي: بتألف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب ونردّهم كما كانوا أحياء ونخرجهم إلى المحشر يوم يخرجون من الأجداث سراعاً ولما كان المقام لتعظيم القدرة عطف عليه قوله تعالى: {ولقد أريناه} أي: أبصرناه {آياتنا كلها} أي: التسع المختصة بموسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل {فكذب} بها وزعم أنها سحر {وأبى} أن يسلم، فإن قيل: قوله تعالى: كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات فإنّ من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى عليه السلام وبعده؟ أجيب: بأنّ لفظ الكل وإن كان للعموم قد يستعمل في الخصوص مع القرينة كما يقال: دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال: إنّ موسى عليه السلام أراه آياته وعدّد عليه آيات غيره من الأنبياء فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى سبحانه وتعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم كأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه فقيل: {قال} حين علم حقيقة ما جاء به موسى وظهوره وخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ووهن في نفسه وهناً عظيماً {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا} أي: الأرض التي نحن مالكوها ويكون لك الملك فيها فصارت فرائصه ترعد خوفاً مما جاء به موسى لعلمه وإيقانه أنه على الحق وأنّ المحق لو أراد قود الجبال لانقادت له وإن مثله لا يخذل ولا يذل ناصره وأنه غالبه على ملكه لا محالة ثم خيل لأتباعه أن ذلك سحر بقوله {بسحرك يا موسى} فكان ذلك مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال صارفاً لهم عن اتباع ما رأوه من البيان ثم أظهر لهم أنه يعارضه بمثل ما أتى به بقوله: {فلنأتينك بسحر مثله} أي: مثل سحرك يعارضه {فاجعل بيننا وبينك موعداً} أي: من الزمان والمكان {لا نخلفه} أي: لا نجعله خلفنا {نحن ولا أنت} أي: لا نجاوزه ولما كان كل من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال: {مكاناً} وآثر ذلك المكان لأجل وصفه بقوله {سوى} أي: عدلاً وقال ابن عباس نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه فانظر إلى هذا الكلام الذي زوّقه ونمقه وصنعه بما وقف به قومه عن السعادة واستمرّ يقودهم بعناده حتى أوردهم البحر فأغرقهم ثم في غمرات النار أحرقهم، وقيل: معنى سوى أي: سوى هذا المكان، وقرأ شعبة وابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها وأمال شعبة وحمزة والكسائي في الوقف محضة والباقون بالفتح، وقيل: المراد بالموعد الوعد لأنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان أي: بل الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه وإلى هذا نحا جماعة مختارين له. وردّ عليهم بقوله: {قال موعدكم يوم الزينة} فإنه لا يطابقه. تنبيه: يحتمل أنّ قوله: قال موعدكم يوم الزينة أن يكون من قول فرعون فبين الوقت وأن يكون من قول موسى عليه السلام وهذا أظهر كما قال الرازي لوجوه؛ الأوّل: أنه جواب لقول فرعون: {فاجعل بيننا وبينك موعداً} الثاني: وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أنّ اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ثالثها: أن قوله: موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إمّا أن نحمله على التعظيم أو أن أقل الجمع اثنان فالأوّل لا يليق بحال فرعون معهما والثاني غير جائز، فإذا جعلناه من موسى عليه السلام استقام الكلام واختلف في يوم الزينة فقال مجاهد وقتادة: النيروز، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو يوم عاشوراء، وقيل: كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة، وقيل: يوم كانوا يتخذون فيه سوقاً ويتزينون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 ذلك اليوم. وبنى قوله: {وأن يحشروا} للمفعول؛ لأن القصد الجمع لا كونه من معين {الناس} أي: يجتمعوا {ضحى} أي: وقت الضحوة، فيكون أظهر لما يعمل، وأجلى، فلا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، ويكثر التحديث بذلك في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر. {فتولى} أي: أعرض {فرعون} عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله تعالى {فجمع كيده} أي: مكره وحيلته وخداعه الذي دبره على موسى عليه السلام بجميع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة حشرهم من كل فج، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناءً بالسحر، وأمهر ما كانوا وأكثر {ثم أتى} للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها، ولما تشوق السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك استأنف تعالى الخبر عنه بقوله تعالى: {قال لهم} أي: لأهل الكيد والعناد، وهم السحرة وغيرهم {موسى} حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم {ويلكم} يا أيها الناس الذين خلقكم الله تعالى لعبادته {لا تفتروا} أي: لا تتعمدوا {على الله كذباً} بإشراك أحد معه {فيسحتكم} قال مقاتل: يهلككم، وقال قتادة: يستأصلكم {بعذاب} من عنده، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء، وكسر الحاء من الإسحات، وهو لغة نجد وتميم، والباقون بفتحهما، والسحت لغة الحجاز {وقد خاب من افترى} كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك له، فلم ينفعه. {فتنازعوا} أي: تجاذب السحرة {أمرهم بينهم} لما سمعوا هذا الكلام علماً منهم أنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جمع جنوده وأتباعه، ثم يسلم منه إلا من الله تعالى معه {وأسروَّا النجوى} قال الكلبي: قالوا سراً: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقال محمد بن إسحاق: لما قال لهم موسى: لا تفتروا على الله كذباً، قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، وبالغوا في إخفاء ذلك، فإن النجوى الإسرار لئلا يظهر فرعون وأتباعه على ذلك، فكأنه قيل: ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل: {قالوا} أي السحرة: {إن هذان لساحران} أي: موسى وهارون، وقرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من إن، وشدَّدها الباقون، وقرأ أبو عمرو بالياء بعد الذال، والباقون بالألف على لغة من يجعل ألف المثنى لازماً في كل حال، قال أبو حيان: وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب، وبعض كنانة وخثعم وزيد وبني النضر وبني الجهيم ومراد وعذرة، وقال شاعرهم: تزوّد مني بين أذناه ضربة يريد أذنيه، وقال آخر: *إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها* وقيل: تقدير الآية أنه هذان، فحذف الهاء، وذهب جماعة إلى أن حرف أن ههنا بمعنى نعم، أي: نعم هذان، روي أن أعرابياً سأل ابن الزبير شيئاً، فحرمه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إنَّ وصاحبها، أي: نعم، وشدَّد ابن كثير النون، فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام، وتزويره خوفاً من غلبتهما، وتثبيطاً للناس عن اتباع موسى وهارون {يريدان} أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها {أن يخرجاكم} أيها الناس {من أرضكم} هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 عن سلف {بسحرهما} الذي أظهراه لكم وغيره. ولما كان كل حزب بما لديهم فرحين قالوا: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} مؤنث الأمثل، وهو الأفضل، أي: بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبه، وإعلاء دينه لقوله تعالى: {إني أخاف أن يبدل دينكم} (غافر، 26) ، وقيل: أراد أهل طريقتكم، وهم بنو إسرائيل، فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى: {أرسل معنا بني إسرائيل} (الشعراء، 17) ، وقيل: الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم. {فأجمعوا كيدكم} أي: من السحر وغيره، فلا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به، وقرأ أبو عمرو بهمزة الوصل بين الفاء والجيم، وفتح الميم، والباقون بهمزة مقطوعة وكسر الميم {ثم ائتوا} أي: للقاء موسى وهارون {صفاً} أي مصطفين؛ لأنه أهيب في صدور الرائين. تنبيه: اختلفوا في عدد السحرة، فقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحراً؛ اثنان من القبط، وسبعون من بني إسرائيل، وقال عكرمة: كانوا تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الاسكندرية، وقال وهب: خمسة عشرة ألفاً، وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفاً، وقال القاسم بن سلام: كانوا سبعين ألفاً، وقيل: اثني عشر ألفاً مع كل منهم على كل قول حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال. ولما كان التقدير: فمن أتى كذلك فقد استعلى عطف عليه قوله: {وقد أفلح اليوم} في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط {من استعلى} أي: فاز بالمطلوب من غلب، فلما أتى السحرة موسى. {قالوا} له متأدبين؛ لأنّ لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر؛ بل نفعهم قال بعضهم: ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته {يا موسى إما أن تلقي} أي: ما معك مما تناظرنا به أولاً {وإما أن نكون} نحن {أوّل من ألقى} ما معه {قال} لهم موسى عليه السلام مقابلاً لأدبهم بأحسن منه، ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء، وليكون هو الآخر، فتكون له العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم، فلا يكون بعدها شك لا ألقي أنا أولاً {بل ألقوا} أنتم أولاً، فانتهزوا الفرصة؛ لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تغيير السياق والتصريح بالأول، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي {فإذا حبالهم وعصيّهم} أي: التي ألقوها قد فاجأت أنه {يخيل إليه} تخييلاً مبتدأً {من سحرهم} أي: الذي قد فاقوا به أهل الأرض {أنها} لشدة اضطرابها {تسعى} فإن قيل: كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام: بل ألقوا فيأمرهم بما هو سحر أجيب: بأن ذلك الأمر كان مشروطاً، والتقدير: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين؛ كما في قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} ، أي: إن كنتم صادقين، وفي القصة أنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس، فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات، وكانت قد أخذت ميلاً من كل جانب، ورأوا أنها تسعى، وقيل: لطخوها بالزئبق، فلما وقعت عليها الشمس اضطربت، فخيل إليهم أنها تتحرك، وقرأ ابن ذكوان تخيل بالتاء الفوقية على التأنيث، والباقون بالياء على إسناده إلى ضمير الحبال {فأوجس} أي: أحس {في نفسه خيفة موسى} عليه الصلاة والسلام فإن قيل: كيف استشعر الخوف، وقد عرض عليه المعجزات الباهرات كالعصا واليد، ثم إن الله تعالى قال له بعد ذلك: إنني معكما أسمع وأرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 فكيف وقع الخوف في قلبه؟ أجيب بأوجه أحدها: أنه خاف من جهة أن سحرهم من جنس معجزته أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به، الثاني: أنه خوف طبع البشرية مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك، الثالث: لعله كان مأموراً أن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخَّر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل عليه الوحي في ذلك الجمع، فيبقى الخجل؛ ثم إنه أزال ذلك الخوف بقوله تعالى: {قلنا لا تخف} من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله تعالى، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه {إنك أنت} خاصة {الأعلى} أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها {وألقِ ما في يمينك} أبهمه، ولم يقل: عصاك تحقيراً لها؛ أي: لا تبال بكثرة حبالهم، وعصيهم، وألقِ العويد الذي في يدك، أو تعظيماً لها أي: لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أي: العصا، وهي التي قلنا لك أول ما شرَّفناك بالمناجاة: {وما تلك بيمينك يا موسى} (ظه، 17) ، ثم أريناك منها ما أريناك {تلقف} أي: تبتلع بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك {ما صنعوا} أي: فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، فلما ألقاها صارت أعظم حية من حياتهم، ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي، ثم صعدت حتى علقت ذنبها بطرف الثنية، ثم هبطت وأكلت كل ما عملوه في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها نحو ثمانين ذراعاً، فصاح بموسى، فأخذها، فإذا هي عصا كما كانت، ونظرت السحرة، فإذا هي لم تدع من حبالهم، وعصيهم شيئاً إلا أكلته، وعرفوا أنه ليس بسحر، وأصل تلقف تتلقف حذفت إحدى التاءين، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث على إسناد الفعل إلى العصا، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ ابن ذكوان برفع الفاء على الحال أو الاستئناف، والباقون بسكونها، وحفص بسكون اللام وتخفيف القاف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته {إنما} أي: الذي {صنعوا} أي: زوَّروا وافتعلوا وهالك أمره {كيد ساحر} أي: كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين، وسكون الحاء بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحراً على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه، والباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما. فإن قيل: لم وحد الساحر ولم يجمع؟ أجيب بأن القصد من هذا الكلام معنى الجنسية لا معنى العدد، فلو جمع خيل أن المقصود هو العدد؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا يفلح الساحر} أي هذا الجنس {حيث أتى} أي: كيفما سار، وقال ابن عباس: لا يسعد حيث كان، وقيل: معناه حيث احتال، فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له. فإن قيل: لم نكر أولاً، ثم عرف ثانياً أجيب بأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر لا فائدة فيه، ولا شك أن الكلام على هذا الوجه أبلغ، ثم أنه امتثل ما أمره به ربه من إلقاء العصا، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا في غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً، فعلم كل من رأى ذلك حقيته، وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله تعالى ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه السلام، وحذف ذكر الإلقاء، وما سببه من التلقف؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية. {فألقي السحرة} أي: فألقاهم ما رأوا من أمر الله تعالى بغاية السرعة، وبأيسر أمر {سجداً} على وجوههم لله تعالى توبة مما صنعوا وإغباناً لفرعون بسجودهم، وتعظيماً لما رأوا، وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر، فلما رأوا فعل موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة، ويقال: قال رئيسهم: كنا نغلب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً، فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله لا جرم تابوا وآمنوا، وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود؛ قال الأصبهاني: سبحان الله ما أعظم شأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، فكأن قائلاً قال هذا فعلهم، فماذا قالوا؟ فقيل: {قالوا: آمنا برب هارون وموسى} ولم يقولوا: آمنا برب العالمين؛ لأن فرعون ادّعى الربوبية في قوله: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات، 24) والإلهية في قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص، 38) ، فلو أنهم قالوا ذلك لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل على ذلك أنهم لم يقتصروا على موسى بل قدّموا هارون لأن فرعون ربى موسى في صغره، فلو اقتصروا على موسى أو قدّموا ذكره فربما توهم أن المراد فرعون، وذكر هارون على الاستتباع وقيل: قدموه لكبر سنه، أو لرويّ الآية، فسبحان الله ما أعظم أمرهم كانوا أول النهار سحرة يقرون لفرعون بالربوبية، وآخره شهداء بررة روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، وعن عكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فكأنه قيل: ما قال لهم فرعون حينئذٍ؟ فقيل: {قال} لهم: {آمنتم} أي: بالله {له} أي: مصدِّقين أو متبعين لموسى {قبل أن آذن لكم} في ذلك، قال ذلك إيهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن، ثم استأنف قوله معلماً مخيلاً لاتباعه صداً لهم عن الاقتداء بالسحرة {إنه} أي: موسى {لكبيركم} أي: معلمكم {الذي علمكم السحر} أي: فلم تتبعوه لظهور الحق بل لإرادتهم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه بما يوقفهم عن اتباع الحق. ولما خيلهم شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة، فقال مقسماً {فلأقطعن} أي: بسبب ما فعلتم {أيديكم} على سبيل التوزيع {وأرجلكم} أي: من كل رجل يداً ورجلاً، وقوله: {من خلاف} حال يعني مختلفة، أي: الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى {ولأصلبنكم} وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم في المصلوب عليه تمكين المظروف في ظرفه، فقال: {في جذوع النخل} تشنيعاً لقتلكم وردعاً لأمثالكم {ولتعلمن أينا} يريد نفسه لعنه الله وموسى عليه السلام بدليل قوله: آمنتم له، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله؛ كقوله: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، وفيه تبجح باقتداره وقهره، وما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء. وقيل: يريد رب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 موسى الذي آمنوا به {أشد عذاباً وأبقى} أي: أدوم على مخالفته فإن قيل: إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزىء بموسي في قوله: أينا أشد عذاباً وأبقى؟ أجيب: بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره، قال الرازي: ومن استقرىء أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على معاندته قوله: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء، ثم كأنه قيل فما قالوا له؟ فقيل: {قالوا} له: {لن نؤثرك} أي: نختارك {على ما جاءنا} على لسان موسى {من البينات} التي عايناها، وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضادتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله إشارة إلى علوِّ قدره، فقالوا: {والذي} أي: ولا نؤثرك بالإتباع على الذي فطرنا أي: ابتدأ خلقنا إشارة إلى شمول ربوبية الله تعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استخفه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم. تنبيه: قد علم مما تقرر أن والذي معطوف على ما وإنما أخروا ذكر الباري تعالى؛ لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل: الواو قسم والموصول مقسم به وجواب القسم محذوف، أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، وعلموا أن ما يفعله بهم هو بإذن الله تعالى قالوا له: {فاقض} أي: فاصنع في حكمك الذي تمضيه {ما أنت قاض} أي: فاقض الذي أنت قاضيه، ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنما تقضي} أي: تصنع بنا ما تريد إن قدّرك الله عليه {هذه الحياة الدنيا} النصب على الاتساع أي: إنما حكمك فيها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقبها راحة، ونحن لا نخاف إلا ممن يحكم على الروح، وإن فني الجسد فذاك هو العذاب الشديد الدائم، ثم عللوا تعظيم الله تعالى، واستهانتهم بفرعون بقولهم: {إنا آمنا بربنا} أي: المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره {ليغفر لنا} من غير نفع يلحقه بالفعل، أو ضرر يدركه بالترك {خطايانا} التي قابلنا بها إحسانه، ثم خصوا بعد العموم فقالوا: {وما أكرهتنا عليه} وبينوا ذلك بقولهم: {من السحر} لنعارض المعجزة، فإنه كان الأكمل لنا عصيانك فيه؛ لأن الله تعالى أحق بأن يتقى. فإن قيل: كيف قالوا ذلك وقد جاؤوا مختارين يحلفون بعزة فرعون آن لهم الغلبة؟ أجيب: بأنه قد روي أن رؤوساء السحرة كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً، وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون: إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا نقدر على معارضته، فأبى عليهم، وأكرههم على المعارضة. وقيل: إنَّ الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم، ويكلفونه تعلم السحر، فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه. ولما كان التقدير فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة عطفوا عليه مستحضرين لكماله {والله} أي: الجامع لصفات الكمال {خير} جزاء منك فيما وعدتنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 به {وأبقى} ثواباً وعقاباً قال أبو حيان: والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى: {ومن اتبعكما الغالبون} (القصص، 35) ، وقال الرازي: ليس في القرآن أنَّ فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم، ولم يثبت في الأخبار، وقال البقاعي: سيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم، ثم عللوا هذا الحكم بقولهم: {إنه} أي: الأمر والشأن {من يأت ربه} أي: الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه {مجرماً} بأن يموت على كفره {فإن له جهنم} دار الإهانة {لا يموت فيها} فيستريح من عذابها بخلاف عذابك، فإن آخره الموت وإن طال {ولا يحيى} فيها حياة مهنأة، وبها يندفع ما قيل: إن الجسم الحيِّ لا بد أن يبقى إمَّا حياً أو ميِّتاً، فخلوه عن الوصفين محال، وقال بعضهم: إن لنا حالة ثالثة، وهي كحالة المذبوح قبل أن يهدأ، فلا هو حي لأنه قد ذبح ذبحاً لا تبقى الحياة معه، ولا هو ميت؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، فهي حالة ثالثة {ومن يأته} أي: ربه الذي قد أوجده ورباه {مؤمناً} أي: مصدقاً به {قد} ضم إلى تصديق الإيمان أنه {عمل} أي: في الدنيا الصالحات أي: التي أمر بها، فكان صادق الإيمان مستلزماً لصالح الأعمال {فأولئك} أي: العالوا الرتبة {لهم الدرجات العلى} جمع علياء مؤنث أعلى التي لا نسبة لدرجاتك التي أوعدتناها إليها، ثم بينوها بقولهم: {جنات عدن} أي: أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها {تجري من تحتها الأنهار} أي: من تحت غرفها وأسرتها وأرضها، فلا يراد موضع منها؛ لأن يجري فيه نهر الأجرى، وقولهم: {خالدين فيها} حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار {وذلك جزاء} كل {من تزكى} أي: تطهر من أدناس الكفر. تنبيه: هذه الآيات الثلاث وهي من قوله أنه من يأت ربه مجرماً إلى هنا يحتمل أن تكون من كلام السحرة كما تقرر، وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى، وقوله تعالى: عطف على قوله: {ولقد أريناه آياتنا} (طه، 56) وفيه دليل على أن موسى عليه السلام كثر مستجيبوه، فأراد الله تعالى تمييزهم من طبقة فرعون وخلاصهم، فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً، والسري اسم لسير الليل، والإسراء مثله، والحكمة في السري بهم لئلا يشاهدهم العدو فيمنعهم عن مرادهم، أو ليكون ذلك عائقاً لفرعون عن طلبه وتتبعه، أو ليكون إذا تقارب العسكر أن لا يرى عسكر موسى عليه الصلاة والسلام عسكر فرعون لعنه الله فلا يهابونهم. وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون وهمزة وصل بعدها من سرى، والباقون بسكون النون، وهمزة قطع بعدها من أسرى لغتان أي أسر ببني إسرائيل من أرض مصر التي لينت قلب فرعون لهم حتى أذن لهم في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم، أو يكف عنهم العذاب فأقصد بهم ناحية بحر القلزم {فاضرب} أي: اجعل {لهم} بالضرب بعصاك {طريقاً في البحر} والمراد بالطريق الجنس، فإنه كان لكل سبط طريق، وقوله {يبساً} صفة لطريق وصف به لما يؤول إليه؛ لأنه لم يكن يبساً إلا بعد أن مرت عليه الصبا، فجففته كما روي، وقيل في الأصل مصدر وصف به مبالغة، وقيل: جمع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة، فلما امتثل ما أمر به، وأيبس الله تعالى له الأرض، وأراد المرور بها قال الله تعالى له: {لا تخاف دركاً} أي: أن يدركك فرعون {ولا تخشى} غرقاً وقرأ حمزة بجزم الفاء ولا ألف بينها وبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 الخاء على أن يكون نهياً مستأنفاً، والباقون برفع الفاء، وألف بينهما وبين الخاء على أنه مستأنف، فلا محل له من الإعراب، أو أنه في محل نصب على الحال من فاعل اضرب، أي: اضرب غير خائف {فاتبعهم فرعون بجنوده} أي: وهو معهم على كثرتهم وعلوّهم، وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه، والمتبوع بنو إسرائيل، وذلك أن موسى خرج بهم أول الليل، فأخبر فرعون بذلك، فقص أثرهم، والمعنى: فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده، فحذف المفعول الثاني، وقيل: إن الباء زائدة {فغشيهم} أي: فرعون وقومه {من اليم} أي: البحر {ما غشيهم} أي: أمر لا تحتمل العقول وصفه، فأهلكهم، وقطع دابرهم، ولم يبق منهم أحداً وما شاك أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة {وأضل فرعون قومه} أي: بدعائهم إلى عبادته {وما هدى} أي: ما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون وتهكم به في قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} (غافر، 29) تنبيه: لا بأس بذكر شيء من هذه القصة، فنقول: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدوابّ لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلاً، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم، فأخذوه، وقال موسى عليه السلام للعجوز: احتكمي، أي: انظري لك شيئاً اطلبيه، فقالت: أكون معك في الجنة، فلما خرجوا تبعهم فرعون وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب، فلما انتهى موسى إلى البحر قال: هنا أمرت، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق، فقال لهم موسى: ادخلوا فيه، فقالوا: كيف وهي رطبة؟ فدعا ربه فهبت عليها الصبا، فجفت، فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى يرى بعضم بعضاً، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال له قومه: إن موسى قد سحر البحر كما ترى، وكان على فرس حصان، فأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، فسار جبريل بين يدي فرعون، فأبصر الحصان الفرس، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة في الناس: الحقوا حتى إذا لحق آخرهم، وكاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم، فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم، وقالوا: يا موسى ادع الله يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فلفظهم البحر إلى الساحل، وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل قال: يا محمد لو رأيتني وأنا أدس في في فرعون الماء والطين مخافة أن يتوب، فهذا معنى قوله تعالى: فغشيهم من اليم ما غشيهم، ولما أنعم الله تعالى على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكر أولادهم تلك النعم، فناداهم بقوله تعالى: {يا بني إسرائيل} والمنادى من وجد من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخوطبوا بما أنعم به على أجدادهم زمن موسى عليه السلام، ولا شك أن إزالة الضرر يجب تقديمها على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله: {قد أنجيناكم من عدوكم} ، فإنّ فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيراً من القتل والإذلال والخراج والأعمال الشاقة، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله تعالى: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} أي: الذي على أيمانكم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر، وناحية مكة واليمن، ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك القرب عليهم كتاباً فيه بيان دينهم، وشرح شريعتهم. ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: {ونزلنا عليكم} بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم {المنِّ} أي: الترنجبين {والسلوى} أي: الطير السماني بتخفيف الميم والقصر، وقوله تعالى: v {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أمر إباحة أن فسر الطيب باللذيذ؛ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة، وإن فسر بالحلال؛ لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم تمسه يد الآدميين، فهو أمر إيجاب، وقرأ حمزة والكسائي قد أنجيناكم ووعدناكم ما رزقناكم بتاء مضمومة بعد التحتية من أنجينا، وبعد الدال من وعدنا، وبعد القاف من رزقنا، ولا ألف في الثلاثة، والباقون بالنون، وألف بعدها في الثلاثة، وأسقط أبو عمرو الألف قبل العين من وعدنا، وأثبتها الباقون، ثم زجرهم عن العصيان بقوله تعالى: {ولا تطغوا فيه} أي: فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتعدي بما حد الله لكم فيه من السرف والبطر والمنع عن المستحقين، وقرأ الكسائي {فيحل} بضم الحاء، أي: ينزل، والباقون بكسرها، أي: يجب {عليكم غضبي} أي: عقوبتي {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} أي: هلك، وقيل: شقي، وقيل: وقع في الهاوية، وقرأ الكسائي بضم اللام الأولى، وكسرها الباقون، ولما كان الإنسان محل الزلل، وإن اجتهد رجاه واستعطفه بقوله سبحانه: {وإني لغفار} أي: ستار بإسبال ذيل العفو {لمن تاب} أي: رجع عن ذنوبه من الشرك، وما يقاربه {وآمن} بكل ما يجب الإيمان به {وعمل صالحاً} تصديقاً لإيمانه {ثم اهتدى} باستمراره على ذلك إلى موته. فائدة: اعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً، وبأن له غفراناً ومغفرة، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر، أمَّا وصف كونه غافراً، فقوله تعالى {غافر الذنب} (غافر، 3) وأما كونه غفوراً، فقوله تعالى: {وربك الغفور} (الكهف، 58) ، وأما كونه غفاراً، فقوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن} ، وأما الغفران، فقوله تعالى: {غفرانك ربنا} (البقرة، 285) ، وأما المغفرة، فقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس} (الرعد، 6) ، وأما صيغة الماضي فقوله تعالى في حق داوود عليه السلام: {فغفرنا له} (ص، 25) ، وأما صيغة المستقبل فقوله تعالى: {يغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء، 48) ، وقوله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} (الفتح، 2) ، وأما لفظ الاستغفار، فقوله تعالى: {استغفروا ربكم} (هود، 3) ، {ويستغفرون لمن في الأرض} (الشورى، 5) {ويستغفرون للذين آمنوا} (غافر، 7) وههنا نكتة لطيفة وهي أن العبد له أسماء ثلاثة؛ الظالم والظلوم والظلام إذا كثر منه الظلم، ولله تعالى في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم، فكأنه تعالى قال: إن كنت ظالماً فأنا غافر، وإن كنت ظلوماً فأنا غفور، وإن كنت ظلاماً فأنا غفار، فيجب على كل من ارتكب معصية كبيرة أو صغيرة أن يتوب منها لهذه الآية، ودلت على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان؛ لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف غاير المعطوف عليه. ولما أمر تعالى موسى عليه السلام بحضور الميقات مع قوم مخصوصين قال المفسرون: هم السبعون الذين اختارهم الله تعالى من جملة بني إسرائيل ليذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسار بهم موسى، ثم عجل موسى عليه السلام من بينهم شوقاً إلى ربه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وخلف السبعين، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال تعالى له: أي: لمجيء ميعاد أخذ التوراة {يا موسى} {قال} مجيباً لربه تعالى: {هم أولاء} أي: بالقرب مني يأتون {على أثري} أي: ماشين على آثار مشي قبل أن ينطمس، وما تقدمتهم إلا بخطاً يسيرة لا يعتد بها عادة، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم على بعض {وعجلت إليك رب لترضى} أي: لتزداد عني رضاً، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك. تنبيه: في الآية سؤالات: الأول: قوله تعالى: وما أعجلك استفهام، وهو على الله تعالى وأجيب عنه: بأنه كان في صورة الاستفهام، ولا مانع منه. الثاني: أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يكون ممنوعاً من ذلك التقدم، أو لم يكن، فإن كان الأول كان التقدم معصية، وإن لم يكن فلا إنكار، وأجيب عنه: بأنه عليه السلام لعله ما وجد نصاً في ذلك، فاجتهد، فأخطأ في اجتهاده، فاستوجب العتاب. الثالث: قوله: وعجلت، والعجلة مذمومة، أجيب عنه بأنها ممدوحة في الدين قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (آل عمران، 133) الرابع: قوله لترضى يدل على أنه إنما فعل ذلك ليحصل الرضا، وإذا لم يكن راضياً عنه، وجب أن يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام، أجيب عنه: بأن المراد تحصيل دوام الرضا، أو زيادته كما مرَّ. الخامس: قوله إليك يقتضي كون الله تعالى في جهة لأن إلى لانتهاء الغاية، وأجيب عنه: بأنا اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل، فالمراد مكان وعدك. السادس: قوله تعالى: ما أعجلك عن قومك سؤال عن سبب العجلة، فكان جوابه اللائق به أن يقول: طلب زيادة رضاك، أو التشوق إلى كلامك، وأما قوله: هم أولاء على أثري، فغير منطبق عليه كما ترى؛ أجيب عنه بأن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين؛ أحدهما: إنكار نفس العجلة، والثاني: السؤال عن سببب التقدم، فأجاب عن السؤال عن العجلة؛ لأنها أهم، فقال: وعجلت إليك رب لترضى {قال} تعالى: {فإنا} أي: تسبب عن عجلتك عنهم أنا {قد فتنا} أي: ابتلينا {قومك من بعدك} أي: بعد فراقك لهم بعبادة العجل، وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، وما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفاً {وأضلهم السامري} باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، فأطاعه بعضهم، وامتنع بعضهم، والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لهم السامرة، وقيل: كان علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر، وقيل: كان من قوم يعبدون البقر جبران لبني إسرائيل، ولم يكن منهم، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقاً {فرجع موسى} لما أخبره ربه بذلك {إلى قومه} بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وأخذ التوراة {غضبان} عليهم {أسفاً} أي: حزينا بما فعلوا {قال} أي: لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم: {يا قوم} وأنكر عليهم بقوله: {ألم يعدكم ربكم} أي: الذي أحسن إليكم {وعداً حسناً} أي: بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم إلى غير ذلك من إكرامه، ولما جرت العادة بأنّ طول الزمان ناقض للعزائم مغير للعهود كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري: *لا أنسينك طال الزمان بنا ... وكم حبيب تمادى عهده فنسى قال لهم: {أفطال عليكم العهد} أي: زمن لطف الله تعالى بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما تغير أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الرذائل والانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر {أم أردتم} أي: بالنقض مع قرب العهد، وذكر الميثاق {أن يحل} أي يجب {عليكم} بسبب عبادة العجل {غضب من ربكم} المحسن إليكم، أي: وكلا الامرين لم يكن أما الأول فواضح، وأما الثاني: فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول: فعلتم ما لا يفعله عاقل {فأخلفتم} أي: فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم {موعدي} أي: وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام على ما أمركم به، ولما تشوق السامع إلى جوابهم استأنف ذكره، فقال: {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي: بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا، وأمرنا ولم يسوِّل لنا السامري لما أخلفناه، واختلف في هذا المجيب على وجهين. الأول: هم الذين لم يعبدوا العجل، فكأنهم قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا أي: بأمر كنا نملكه، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه كقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر} (البقرة، 50) ، {وإذ قتلتم نفساً} (البقرة، 72) ، وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم، فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل، فلم نقدر على منعهم عنه، ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع النفرة، وزيادة الفتنة. الثاني: أن هذا قول عبدة العجل، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا، وفاعل السبب فاعل المسبب، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة، فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل: كيف كان رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجل يعرف فسادها بالضرورة؟ أجيب: بأنَّ هذا غير ممتنع في حق البله من الناس وقرأ عاصم ونافع بفتح الميم، وحمزة والكسائي بضمها، والباقون بكسرها، وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، ثم إن القوم فسروا الضرر الحامل لهم على ذلك الفعل، فقالوا: {ولكنا حملنا} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددة، وأبو عمرو، وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الحاء والميم مخففة {أوزاراً} أي: أثقالاً {من زينة القوم} أي: حلي قوم فرعون استعارها منهم بنو إسرائيل بسبب عرس، وقيل: استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا به، وقيل: هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم، فأخذوه، قال البيضاوي: ولعلهم سموها أوزاراً لأنها آثام فإن الغنائم لم تكن تحل بعد، ولأنهم كانوا مستأمنين، وليس للمستأمن أن يأخذ من مال الحربي {فقذفناها} أي: في النار {فكذلك ألقى السامري} أي: ما كان معه إما من المال أو من أثر الرسول، روي أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون، وأجلهم ثلاثين يوماً، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه، وريح فمه متغير، فمضغ شيئاً من نبات الأرض، فقال له ربه: أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشراً، وقيل: إنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين بأيامها، وقالوا: قد كملت العدة، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عوار، فاحفروا حفرة وألقوها فيها، ثم أوقدوا عليها ناراً، فلا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري قد رأى أثراً، فقبض منه قبضة، فمر بهارون فقال له: يا سامري ألا تلقي ما في يدك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها على شيء إلا أن تدعوا الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون فقال: أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما في الحفرة وصار عجلاً، فهذا معنى قوله تعالى: {فأخرج لهم عجلاً جسداً} من ذلك الحلي المذاب به جوف ليس فيه روح {له خوار} أي: صوت يسمع؛ قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره، فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، وقيل: إنه صاغه، ووضع التراب بعد صوغه في فمه {فقالوا} : أي السامري: ومن افتتن به أول ما رأوه مشيرين إلى العجل {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} أي: فنسيه موسى، وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري، أي: ترك ما كان عليه من الإيمان {أفلا يرون} أي: قالوا ذلك فتسبب عن قولهم علمهم عن روية {أن} أي: أنه {لا يرجع إليهم قولاً} والإله لا يكون أبكم {ولا يملك لهم ضراً} فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون، فيقولون ذلك خوفاً من ضرره {ولا نفعاً} فيقولون ذلك رجاءً له {ولقد قال لهم هارون من قبل} أي: قبل رجوع موسى مستعطفاً لهم {يا قوم إنما فتنتم} أي: وقع اختياركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه، وثباتكم عليه {به} أي: بهذا العجل في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة، وأكد لأجل إنكارهم، فقال: {وإن ربكم} أي: الذي أخرجكم من العدم، ورباكم بالإحسان {الرحمن} وحده الذي فضله عامّ ونعمه شاملة، فليس على بر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه تعالى قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده، ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وأرجوا إسباغها بطاعته {فاتبعوني} بغاية جهدكم في الرجوع إليه {وأطيعوا أمري} أي: في الثبات على الدين {قالوا لن نبرح عليه} أي: العجل {عاكفين} أي: مقيمين {حتى يرجع إلينا موسى} فدافعهم فهموا به، وكان معظمهم قد ضل فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكفار، فلا يفيد ذلك شيئاً مع أن موسى لم يأمره بجهاد من ضل، وإنما قال له: {وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} ، فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي. تنبيه: إنما قال هارون ذلك شفقة على نفسه وعلى الخلق؛ أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه بقوله: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (الأعراف، 142) ، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى، ولأمر موسى، وذلك لا يجوز. أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، ومائتي ألف من شرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين، فليس منهم» وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد» وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: «خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر عنده، فجاء صغير يبكي، فقال لعمر: ضم الصبي إليك، فإنه ضال، فأخذه عمر، وإذا أم الصبي تولول كاشفة عن رأسها جزعاً على ابنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدرك المرأة، فنادها، فجاءت، وأخذت ولدها، وجعلت تبكي والصبي في حجرها، فالتفتت، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت، فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أترون هذه رحيمة بولدها؟ قالوا: يا رسول الله كفى بهذه رحمة، فقال: والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها» ولقد سلك هارون في موعظته أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله: إنما فتنتم به، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانياً بقوله: وإن ربكم الرحمن، ثم دعاهم ثالثاً إلى النبوة بقوله: فاتبعوني، ثم دعاهم رابعاً بقوله: وأطيعوا أمري، وهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً، ولما ذكر الله تعالى ما قال هارون تشوقت النفس إلى علم ما قال موسى فقيل: {قال يا هارون} أنت نبي الله، وأخي ووزيري وخليفتي، فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه {ما منعك إذ} أي: حين {رأيتهم ضلوا} عن طريق الهدى واتبعوا سبيل الردى {أن لا تتبعني} في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً. تنبيه: لا مزيدة للتأكيد؛ لأن النافي إذا زيد في كلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضمون ونفياً لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد، وأثبت الياء بعد النون ابن كثير وقفاً ووصلاً، وأثبتها نافع، وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً {أفعصيت} أي: فتكبرت عن اتباعي، فتسبب عن ذلك أنك عصيت {أمري} وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى، فكأنه قيل: ما قال له؟ فقال: {قال} مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة {يا ابن أمّ} فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه؛ لأنها يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب، وقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو وحفص بفتح الميم، وكسرها ابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي {لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} أي: بشعرهما. ثم علل ذلك بقوله: {إني خشيت أن تقول} إذا شددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال {فرقت بين بني إسرائيل} يفعلك هذا الذي لم يجسد شيئاً لقلة من كان معك وضعفك عن ردهم {ولم ترقب قولي} {اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (الأعراف، 142) ، ولم تقل: وارددهم، ولو أدى الأمر إلى السيف، ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه، وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله: {قال} أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه {فما خطبك} ؟ أي: أمرك هذا العجب العظيم الذي حملك على ما صنعت، وأخبرني ربي أنك أضللتهم به {يا سامري} {قال} السامري: مجيباً له {بصرت} من البصر والبصيرة {بما لم يبصروا به} أي: رأيت ما لم ير بنو إسرائيل، وعرفت ما لم يعرفوا، وقال ابن عباس: علمت ما لم يعلموا، ومنه قولهم: رجل بصير، أي: عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام، فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب كما قال: {فقبضت} أي: فكان ذلك سبباً؛ لأن قبضت {قبضة} أي: مرة من القبض أطلقها على المقبوض تشبيهاً للمفعول بالمصدر {من أثر} فرس ذلك {الرسول} أي: المعهود {فنبذتها} أي: في الحلي الملقى في النار، أو في العجل {وكذلك} أي: وكما سولت لي نفسي أخذ أثره {سوَّلت} أي: حسنت وزينت {لي نفسي} نبذها في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 الحلي، فنبذتها، وكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع، ولا حملني عليه حامل غير التسويل. تنبيه: كون المراد بالرسول جبريل عليه السلام هو ما عليه عامة المفسرين، وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس، واختلفوا في أنه كيف اختص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين الناس، فقال ابن عباس في رواية الكلبي: إنما عرفه لأنه رباه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولدت طرحت ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون، فتأخذ الملائكة الولدان ويربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام، وجعل كف نفسه في فيه، وارتضع منه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فلما رآه عرفه؛ قال ابن جريح: فعلى هذا قوله: بصرت بما لم يبصروا به يعني: رأيت ما لم يروه. ومن فسر الإبصار بالعلم، فهو صحيح، ويكون المعنى: علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء؛ قال أبو مسلم ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، فههنا وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: إن فلاناً يقفوا أثر فلان، ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل، قال: بصرت بما لم يبصروا به؛ أي: عرفت أن الذي أنت عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول؛ أي: شيئاً من دينك، فقذفته؛ أي: طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا، أو بماذا يأمر الأمير، وأما ادعاؤه أن موسى رسول مع جحده وكفره. فعلى مذهب من حكى الله فيه قوله: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قال الرازي: وهذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا أنه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه: أحدها: أنَّ جبريل عليه السلام ليس معهود باسم الرسول، ولم يجرِ له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار، وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول، والإضمار خلاف الأصل. وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، وكيف عرف أن تراب حافر فرسه له هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل هو الذي رباه فبعيد؛ لأن السامري إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى نبّي صادق، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ، فأنى ينفعه كون جبريل مر بباله حال الطفولية في حصول تلك المعرفة، ثم إن موسى عليه السلام لما سمع من السامري ما ذكر {قال} له {فاذهب} أي: فتسبب عن فعلك أن أقول لك: اذهب من بيننا، وحيث ذهبت {فإن لك في الحياة} أي: ما دمت حياً {أن تقول} لكل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 رأيته {لا مساس} أي: لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحداً أو مسه أحد حما جميعاً عاقبه الله تعالى بذلك، وكان إذا لقي أحداً يقول لا مساس؛ أي: لا تقربني ولا تمسني، وقال ابن عباس لا مساس لك ولولدك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإذا مس أحد من غيرهم أحداً منهم حما جميعاً في ذلك الوقت {وإن لك} بعد الممات {موعداً} للثواب إن تبت، والعقاب إن أبيت {لن تخلقه} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام أي: لن تغيب عنه، والباقون بفتحها أي: بل تبعث إليه، فلا انفكاك لك عنه كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو. ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين أتبعه عجز العجل، فقال: {وانظر إلى إلهك} أي: بزعمك {الذي ظلت} أي: دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف، فإن أصله ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفاً {عليه عاكفاً} أي: مقيماً تعبده {لنحرّقنّه} أي: بالنار وبالمبرد قال البقاعي: كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان، فهان على المبارد انتهى، {ثم لننسفنه} أي: لنذرينه إذا صار سحالة {في اليمّ} أي: في البحر الذي أغرق الله تعالى فيه آل فرعون، ثم يجمع الله تعالى سحالته التي هي من حليهم، فيحميها في نار جهنم، ويكويهم بها، ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله تعالى الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد، فقال: {نسفاً} قال الجلال المحلي، وفعل موسى عليه السلام بعد ذبحه ما ذكره انتهى، وعلى هذا لا يصح أن يبرد بالمبرد؛ قال الرازي: ويمكن أن يقال صار لحماً ودماً، وذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها، ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان أخبرهم بالحق على وجه الحصر، فقال: {إنما إلهكم الله} أي: الجامع لصفات الكمال، ثم كشف المراد من ذلك، وحققه بقوله: {الذي لا إله إلا هو} أي: لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره؛ لأنه {وسع كل شيء} وقوله: {علماً} تمييز محمول على الفاعل، أي: أحاط علمه بكل شيء، فكل شيء إليه مفتقر، وهو غني عن كل شيء، وأما العجل الذي عبدوه، فلا يصلح للإلهية بوجه، ولا في عبادته شيء من حق، ولما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً، ثم مع السامري ثانياً على هذا الأسلوب الأعظم والسبيل الأقوم كان كأنه قيل: هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع، والمثال الرفيع، فقيل: نعم {كذلك} أي: مثل هذا القص العالي في هذا النظم العزيز الغالي كقصة موسى ومن ذكر معه {نقص عليك من أنباء} أي: أخبار {ما قد سبق} من الأمم زيادة في علمك وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك بما اتفق للرسل من قبلك، وتكثيراً لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر {وقد أتيناك} أي: أعطيناك تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك {من لدنا} أي: من عندنا {ذكراً} أي: كتاباً هو القرآن وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، وثانيها: أنه يذكر فيه أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة، وثالثها: فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال الله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك، وسمى الله تعالى كل كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 أنزله ذكراً فقال: {فاسألوا أهل الذكر} ، والتنتكير فيه للتعظيم، فإنه مشتمل على أسرار كتب الله تعالى المنزلة {من أعرض عنه} فلم يؤمن به {فإنه يحمل يوم القيامة وزراً} أي: حملاً ثقيلاً من الإثم {خالدين فيه} أي: في عذاب الوزر {وساء} أي: وبئس {لهم} أي: ذلك الحمل {يوم القيامة} وقوله: {حملاً} تمييز مفسر للضمير في ساء، والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم، واللام للبيان، ومن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة ويبدل من يوم القيامة {يوم ينفخ في الصور} أي: القرن النفخة الثانية، وقرأ أبو عمرو بنونين الأولى مفتوحة، وضم الفاء على إسناد الفعل إلى الآمر به تعظيماً له، أو إلى النافخ، والباقون بياء مضمومة، وفتح الفاء {ونحشر المجرمين} أي: الكافرين {يومئذٍ زرقاً} أي: عيونهم مع سواد وجوههم؛ لأن زرقة العيون أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب؛ لأن الروم أعداؤهم، وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين، وقيل: المراد العمى؛ لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق، وقيل: عطاشاً حال كونهم {يتخافتون} أي: يخفضون أصواتهم {بينهم} لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، والخفت خفض الصوت وإخفاؤه {إن} أي: يقول بعضهم لبعض ما {لبثتم} أي: مكثتم {إلا عشراً} أي: من الليالي بأيامها في الدنيا، وقيل: في القبور وقيل: بين النفختين، وهو مقدار أربعين سنة؛ قالوا: ذلك إما استقصاراً لمدة الراحة في جنب ما بدا لهم من المخاوف؛ لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم، وانقضت، والذاهب وإن طالت مدته قصيرة بالانتهاء، ومنه توقيع عبد الله بن المعتز أطال الله تعالى بقاءك كفى بالانتهاء قصراً، وإما لاستطالتهم الآخرة، فإنه يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة كما قال تعالى: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين} (المؤمنين: 112، 113) ، وإما غلطاً ودهشة قال الله تعالى: {نحن أعلم} أي: من كل أحد {بما يقولون} في ذلك اليوم أي: ليس كما قالوا: {إذ يقول أمثلهم} أي: أعدلهم {طريقة} أي: رأياً أو عملاً في الدنيا فيما يحسبون {أن} أي: ما {لبثتم إلا يوماً} أي: مبدأ الآحاد لا مبدأ العقود كما قال تعالى في آية أخرى: {يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} (الروم، 55) ، فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين؛ لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ولما وصف سبحانه وتعالى أمر يوم القيامة حكى سؤال من لا يؤمن بالحشر فقال تعالى: {ويسئلونك} يا أشرف الخلق {عن الجبال} كيف تكون يوم القيامة؟ قال الضحاك: نزلت في مشركي مكة قالوا: يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة، وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء، ولما كان مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر، فلا جرم أمره الله تعالى بالجواب مقروناً بحرف التعقيب بقوله: {فقل} لهم {ينسفها ربي نسفاً} ؛ لأن تأخير البيان في هذه المسألة الأصولية غير جائز، وأما المسائل الفروعية فجائز فلذلك ذكر هناك في نحو قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة، 219) ، وقوله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} (البقرة، 220) بغير حرف التعقيب والنسف التذرية، وقيل: القلع الذي يقلعها من أصلها ويجعلها هباءً منثوراً؛ قال الخليل: ينسفها يذهبها ويطيرها، وفي ضمير {فيذرها} قولان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 أحدهما: أنه ضمير الأرض أضمرت للدلالة عليها كقوله تعالى: {ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر، 45) ، والثاني: ضمير الجبال، وذلك على حذف مضاف أي: فيذر مراكزها ومقارها، ويذر يجوز أن يكون بمعنى يخليها، فيكون {قاعاً} حالاً وأن يكون بمعنى يترك التصييريه، فيتعدى لاثنين فقاعاً ثانيهما، والقاع هو المكان المستوي، وقيل: الأرض التي لا بناء فيها، ولا نبات، وفي قوله تعالى: {صفصفاً} قولان أحدهما: الأرض الملساء، والثاني: المستوية، والقاع والصفصف قريبان من الترادف، وجمع القاع أقوع وأقواع وقيعان {لا ترى فيها} أي: الأرض أو مواضع الجبال {عوجاً} أي: انخفاضاً {ولا أمتاً} أي: ارتفاعاً بوجه من الوجوه، وعبر هنا في العوج بالكسر، وهو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي توصف به الأعيان، فإن الأرض أو مواضع الجبال أعيان لا معان نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأرض لاتفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا بمقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك. {يومئذٍ} أي: يوم إذ نسفت الجبال {يتبعون} أي: الناس بعد القيام من القبور بغاية جهدهم {الداعي} أي: إلى المحشر، وهو إسرافيل يضع الصور على فيه ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول: أيتها العظام البالية، والجلود الممزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن {لا عوج له} أي: الداعي في شيء من قصدهم إليه؛ لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعويج، ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء، وقيل: لا عوج لدعائه، وهو من المقلوب، أي: لا عوج له عن دعاء الداعي لا يزيغون عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يقدرون عليه، بل يتبعونه سراعاً {وخشعت الأصوات} أي: سكنت وذلت وتطامنت لخشوع أهلها {للرحمن} الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، وتخشى نقمه {فلا} أي: فتسبب عن خشوعها أنك لا {تسمع إلا همساً} أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل: أخفى شيء من أصوات الأقدام في نقلها إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل في مشيها. {يومئذٍ} أي: إذا كان ما تقدم {لا تنفع الشفاعة} أحداً {إلا من أذن له الرحمن} أن يشفع له {ورضي له قولاً} ولو الإيمان المجرد قال ابن عباس: يعني قال: لا إله إلا الله، فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن، ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك كما سلف في آية الكرسي بقوله: {يعلم ما بين أيديهم} أي: الخلائق من أمور الآخرة {وما خلفهم} من أمور الدنيا، وقيل: ما بين أيديهم ما قدموا وما خلفهم ما خلفوا من الأعمال {ولا يحيطون به علماً} أي: لا يحيط علمهم بمعلوماته، وقيل: الضمير إلى ما أي: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يعلمونه، وقيل: راجع إلى الله تعالى أي: ولا يحيطون بالله علماً، ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها، فقال: {وعنت الوجوه} أي: ذلت وخضعت في ذلك اليوم، ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره، وخص الوجوه بالذكر مع أن المراد الأشخاص لشرف الوجوه، ولأنها أول ما يظهر فيها الذل {للحي} الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل {القيوم} الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت؛ روى ابن أسامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث: البقرة وآل عمران، وطه» ، قال الرازي: فوجدنا المشترك في السور الثلاث: الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم {وقد خاب} أي: خسر خسارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 ظاهرة {من حمل ظلماً} قال ابن عباس: خسر من أشرك بالله، والظلم الشرك. ولما شرح الله تعالى أحوال القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين، فقال: {ومن يعمل من الصالحات} أي: التي أمره الله تعالى بها بحسب طاقته؛ لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه {وهو مؤمن} ليكون بناؤها على الأساس كما في قوله تعالى: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات} (ظه، 75) {فلا يخاف ظلماً} أي: بزيادة في سيئاته {ولا هضماً} أي: بنقص من حسناته؛ قاله ابن عباس، وقيل: لا يؤاخذ بذنب لم يعمله، ولا تبطل حسنة عملها، وعبّر تعالى بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال، وأما غير المؤمن، فلو عمل أمثال الجبال لم يكن لها وزن، وقوله تعالى: {وكذلك} معطوف على قوله تعالى: {وكذلك نقص} ، أي: ومثل إنزال ما ذكر {أنزلناه} أي: القرآن {قرآناً} جامعاً لجميع المعاني المقصودة، ثم وصفه تعالى بأمرين؛ أحدهما: قوله تعالى {عربياً} أي: بلسان العرب ليفهموه، ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر، الثاني: قوله تعالى: {وصرّفنا فيه من الوعيد} أي: كرّرناه، وفصلناه، ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم؛ لأن الوعد بهما يتعلق بتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام، فلذلك قال تعالى: {لعلهم يتقون} أي: يجتنبون الشرك والمحارم، وترك الواجبات، فتصير التقوى لهم ملكة {أو يحدث لهم ذكراً} أي: عظة واعتباراً حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم، والأحداث إلى القرآن. {فتعالى الله} في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته وصفاته ذاتهم وصفاتهم {الملك} الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره {الحق} أي: الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما، ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة، ولما شرح الله تعالى كيفية نفع القرآن للمكلفين، وبيّن أنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن كل ما لا ينبغي موصوف بالإحسان والرحمة، ومن كان كذلك صان رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي، فلذلك قال تعالى: {ولا تعجل بالقرآن} أي: بقراءته {من قبل أن يقضى إليك وحيه} من الملك النازل به إليك من حضرتنا كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه، ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه، فإنا نجمعه في قلبك، ولا نكلفك المساوقة بتلاوته {وقل رب} أيها المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ {زدني علماً} أي: سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة؛ روى الترمذي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني علماً ويقيناً، ولما قال تعالى: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} (طه، 99) ذكره هذه القصة إنجازاً للوعد، فقال تعالى: {ولقد عهدنا} بما لنا من العظمة {إلى آدم} أبي البشر أي: وصيناه أن لا يأكل من الشجرة، وإنما عطفها على قوله تعالى: {وصرفنا فيه من الوعيد} (طه، 113) للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ بالنسيان {من قبل} أي: في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدّم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم {فنسي} عهدنا، وأكل منها {ولم نجد له عزماً} أي: تصميم رأي وثبات على الأمر؛ إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان، ولم يستطع تغريره؛ قال البيضاوي: ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق أريها وشريها انتهى، والأري العسل، والشري: الحنظل؛ قال البغوي: قال أبو أمامة الباهلي: لو وزن حلم آدم بحلم ولده لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى: {ولم نجد له عزماً} ، وقال البيضاوي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه» ، وقد قال تعالى: ولم نجد له عزماً، قال ابن الأثير: والحلم بالكسرة الأناة والتثبت في الأمور. فإن قيل: ما المراد بالنسيان أجيب بأنه يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر، وإنه لم يعنِ بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بقصد القلب عليها، وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان بل كان يؤاخذ به، وإنما رفع عنا، وكان الحسن يقول: ما عصى أحد قط إلا بنسيان، وإن يراد الترك وأنه ترك ما أوصي به من الاحتراز عن الشجرة وأكل ثمرتها، وقيل: نسي عقوبة الله تعالى، وظن أنه نهي تنزيه. تنبيه: هذا هو المرّة الخامسة من قصة آدم في القرآن أولها في البقرة، ثم في الأعراف، ثم في الحجر، ثم في الكهف، ثم ههنا، وقوله تعالى: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} تقدَّم الكلام على ذلك مفصلاً في سورة البقرة، وقوله تعالى: {أبى} جملة مستأنفة؛ لأنها جواب سؤال مقدر؛ أي: ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبى، ومفعول الإباء يجوز أن يكون مراداً، وقد صرح به في الآية الأخرى في قوله تعالى: {أبى أن يكون من الساجدين} (الحجر، 31) ، وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة، ويجوز أن لا يراد أصلاً، وأنَّ المعنى أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو {فقلنا} بسبب امتناعه بعد أن حلمنا عليه ولم نعاجله بالعقوبة {يا آدم إنَّ هذا} الشيطان الذي تكبر عليك {عدوّ لك ولزوجك} حوَّاء بالمدّ لأنها منك، وسبب تلك العداوة من وجوه؛ الأول: أن إبليس كان حسوداً، فلما رأى آثار نعم الله في حق آدم حسده، فصار عدواً له، الثاني: أن آدم عليه السلام كان شاباً عالماً لقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة، 30) ، وإبليس كان شيخاً جاهلاً؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وذلك جهل، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدواً للشاب العالم، الثالث: أن إبليس مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الماء والتراب، فبين أصليهما عداوة، فثبتت تلك العداوة فإن قيل: لمَ قال تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة} مع أن المخرج لهما منها هو الله تعالى؟ أجيب بأنه لما كان هو الذي فعل بوسوسته ما ترتب عليه الخروج صح ذلك فإن قيل: لمَ قال تعالى: {فتشقى} أي: فتتعب وتنصب في الدنيا، ولم يقل: فتشقيا؟ أجيب بوجهين؛ أحدهما: أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيّم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم، فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على كونه رأس فاصلة، وعن سفيان بن عيينة قال: لم يقل فتشقيا؛ لأنها داخلة معه، فوقع المعنى عليهما جميعاً وعلى أولادهما جميعاً كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} (الطلاق، 1) ، و {يا أيها النبي لم تحرِّم ما أحل الله لك قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (التحريم، 1) ، فدخلوا في المعنى معه، وإنما كلم النبي وحده، الثاني: أريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك على الرجل دون المرأة؛ لأن الرجل هو الساعي على زوجته، روي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه ويحتاج بعد الحرث إلى الحصد والطحن والخبز وغير ذلك مما يحتاج إليه، وعن الحسن قال: عنى به شقاء الدنيا، فلا تلقى ابن آدم إلا شقياً ناصباً أي: ولو أراد شقاوة الآخرة ما دخل الجنة بعد ذلك، ولما كان الشبع والريّ والكسوة والمكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الناس ذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب، وذكرها بلفظ النفي لأضدادها بقوله تعالى: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى} {وإنك لا تظمأ} أي: تعطش {فيها ولا تضحى} أي: لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة بل أهلها في ظل ممدود وهذه الأشياء كأنها تفسير للشقاء المذكور في قوله تعالى: فتشقى {فوسوس} أي: فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في زمان أن وسوس {إليه الشيطان} المحترق المطرود وهو إبليس أي: أنهى إليه الوسوسة، وأما وسوس له، فمعناه لأجله، فلذلك عدي تارة باللام في قوله تعالى: {فوسوس لهما} (الأعراف، 20) ، وتارة بإلى، ثم بيّن تعالى تلك الوسوسة ما هي بقوله تعالى: {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد} أي: على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً {وملك لا يبلى} أي: لا يبيد ولا يفنى، قال الرازي: واقعة آدم عجيبة، وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} ، ورغبة إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله تعالى: هل أدلك على شجرة الخلد وفي انتظام المعيشة بقوله، وملك لا يبلى، فكان الشيء الذي رغب الله تعالى فيه آدم هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك الأمر على الاحتراس عن تلك الشجرة، وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه وناصره ومربيه وعلمه بأن إبليس عدوّه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة، والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه الناصر له والمربي، ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه، وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله، ولا مانع له منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة، فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدَّره انتهى.w ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء، وقرّبك نجياً فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؛ قال موسى: بأربعين عاماً قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى» ، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء، وقال: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» ، ثم كأن إبليس قال لآدم بلسان الحال أو المقال مشيراً إلى الشجرة التي نهي عنها ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها {فأكلا} أي: فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل {منها} هو وزوجته متبعين لقوله ناسين ما عهد إليهما لأمر قدّره الله في الأزل {فبدت لها سوآتهما} قال ابن عباس عرياً من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما، وإنما جمع سوآتهما كما قال: صغت قلوبكما، أي: فظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره، وسمى كل منهما سوأة؛ لأن انكشافه يسوء صاحبه {وطفقا يخصفان} أي: أخذا يلزقان {عليهما من ورق الجنة} ليستترا به، قال ابن عادل: وهو ورق التين {وعصى آدم} بالأكل من الشجرة، وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء، ودوام المراقبة {ربه} المحسن إليه بما لم ينله أحد من بنيه من تصويره له بيده، وإسجاد ملائكته له، ومعاداة من عاداه {فغوى} أي: فعل ما لم يكن له فعله، وقيل: أخطأ طريق الحق، وقيل: حيث طلب الخلد بأكل ما نهى عنه، فخاب، ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب؛ قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال: عصى آدم، ولا يجوز أن يقال: آدم عاص؛ لأنه إنما يقال: عاص لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه، فيقال: خاط ثوبه، ولا يقال: هو خياط حتى يعاوده ويعتاده. تنبيه: تمسك بعضهم بقوله تعالى: وعصى آدم ربه فغوى في صدور الكبيرة عنه من وجهين؛ الأول: أن العاصي اسم للذم، فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها} (الجن، 23) ، ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلاً يعاقب عليه، الثاني: أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشاد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه، وأجيب: بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وقد يكون بالمندوب، فإنك تقول: أمرته فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه للمندوب، وإن كان وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز، وأجاب أبو مسلم الأصبهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف، وكذا القول في غوى؛ قال الرازي: والأولى عندي في هذا الباب أن يقال: هذه الواقعة كانت قبل النبوَّة، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة، وقيل: بل أكل من الشجرة متأولاً، وهو لا يعلم أنَّ الشجرة التي نهى الله عنها شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة، فهو كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين أي: يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات {ثم اجتباه ربه} أي: اختاره واصطفاه {فتاب عليه} أي: قبل توبته، وأعاد عليه بالعفو والمغفرة {وهدى} أي: هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار، ولما كانت دار الملوك لا تحتمل مثل ذلك وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها قال على طريق الاستئناف. {قال} الرب سبحانه وتعالى: الذي انتهكت حرمة داره {اهبطا} أي: آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما {منها} أي: الجنة {جميعاً} وقيل: الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس، فقوله تعالى: {بعضكم لبعض عدوٌّ} يكون على التفسير الأول بعض الذرية لبعض عدوٌّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 من ظلم بعضهم لبعض، وعلى الثاني آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله تعالى: {فإما} فيه إدغام نون أن الشرطية في ما المزيدة {يأتينكم مني هدى} أي: كتاب ورسول {فمن اتبع هداي} الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول {فلا يضل} أي: بعد ذلك عن طريق السداد في الدنيا {ولا يشقى} في الآخرة؛ قال ابن عباس: من قرأ القرآن، واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة، ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب، وذلك أن الله تعالى يقول: فمن اتبع هداي، فلا يضل ولا يشقى، ولما وعد تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض فقال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري} أي: عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه {فإن له معيشة ضنكاً} والضنك أصله الضيق والشدة، وهو مصدر، فكأنه قال: له معيشة ذات ضنك، واختلف في ذلك، فقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وروى أبو هريرة أنَّ عذاب القبر للكافر، قال: قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون» ، وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم، فإنّ طعامهم الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وقال ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، وعن عطاء: المعيشة الضنك هي معيشة الكافر؛ لأنه غير موقن بالثواب والعقاب، وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عقوبة المعصية ثلاثة؛ ضيق المعيشة والعسر في الشدة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله» ، وذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله تعالى، وعلى قسمته، فهو ينفق ما رزقه الله تعالى بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً رفيعاً كما قال الله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} (النحل، 97) ، والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، قال صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه. قال بعض الصوفية: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وقال تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} (نوح: 10، 11) الآية، وقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} (الجن، 16) . ثم ذكر حال المعرض في الآخرة بقوله تعالى: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال ابن عباس: إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، ولعله جمع بذلك بين هذا وبين قوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} (مريم، 38) ، وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ قال: لا يبصر إلا النار، وعن مجاهد المراد بالعمى عدم الحجة، ويؤيد الأول قوله تعالى: {قال رب لم حشرتني أعمى} في هذا اليوم؟ {وقد كنت بصيراً} أي: في الدنيا، أو في أول هذا اليوم، فكأنه قيل: بما أجيب؟ فقيل: {قال} له ربه {كذلك} أي: مثل ذلك فعلت، ثم فسره، فقال: {أتتك آياتنا} واضحة نيرة {فنسيتها} فعميت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 عنها، وتركتها غير منظور إليها {وكذلك} أي: ومثل تركك إياها {اليوم تنسى} أي: تترك في العمى والعذاب {وكذلك} أي: ومثل هذا الجزاء الشديد {نجزي من أسرف} في متابعة هواه، فتكبر عن متابعة أوامرنا {ولم يؤمن} بل كذب {بآيات ربه} وخالفها {ولعذاب الآخرة أشدّ} مما نعذبهم به في الدنيا والقبر لعظمه {وأبقى} فإنه غير منقطع. ولما بيّن الله تعالى أنَّ من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة اتبعه بما يعتبر به المكلف من الأفعال الواقعة في الدنيا ممن كذب الرسل، فقال: أي: يبين بياناً يقود إلى المقصود {لهم} أي: هؤلاء الذين أرسلت إليهم أعظم رسلي، وفاعل يهد مضمون قوله: {كم أهلكنا} وقال أبو البقاء: الفاعل ما دل عليه أهلكنا أي: إهلاكنا، والجملة مفسرة له، وقال الزمخشري: فاعل لم يهد الجملة بعده يريد: ألم يهدلهم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين} (الصافات: 78، 79) ، أي: تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكم خبرية مفعول أهلكنا {قبلهم من القرون} أي: بتكذيبهم لرسلنا حال كونهم {يمشون} أي: هؤلاء العرب من أهل مكة وغيرهم {في مساكنهم} أي: في سفرهم إلى الشام، ويشاهدون آثار هلاكهم {إن في ذلك} أي: الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة {لآيات} عظيمات بينات {لأولي النهى} أي: لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي. ولما هددهم بإهلاك الماضين ذكر سبب التأخير عنهم بقوله تعالى: {ولولا كلمة} أي: عظيمة قاضية نافذة {سبقت} أي: في أزل الآزال {من ربك} الذي عودك بالإحسان بتأخير العذاب عنهم إلى الآخرة فإنه يعامل بالحلم والأناة {لكان} أي: العذاب {لزاماً} أي: لازماً أعظم لزوم لهم في الدنيا مثل ما نزل بعاد وثمود، ولكن نمدُّ لهم لنرد من شئنا منهم، ونخرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، وإنما فعلنا ذلك إكراماً لك ورحمة لأمتك، فيكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» ، وفي رفع قوله تعالى {وأجل مسمى} وجهان؛ أظهرهما: عطفه على كلمة أي، ولولا أجل مسمى لكان العذاب لازماً لهم، وهذا ما صدَّر به البيضاوي، والثاني: أنه معطوف على الضمير المستتر في كان، وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد، واقتصر الجلال المحلي على هذا، وجوَّزه الزمخشري والبيضاوي، وفي هذا الأجل المسمى قولان؛ أحدهما: ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب، وهو يوم بدر، والثاني: ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذاب، وهذا كما قال الرازي أقرب قال أهل السنة تعالى بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله، ومن شاء بعذابه من غير علة إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إما قديمة، فيلزم قدم الفعل، وإما حادثة، فيلزم افتقارها إلى علة أخرى، ويلزم التسلسل، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه لا يهلك أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر، فقال: {فاصبر على ما يقولون} لك من الاستهزاء وغيره، وهذا كان أول الأمر، ثم نسخ بآية القتال {وسبح} أي: صل، وقوله تعالى: {بحمد ربك} حال أي: وأنت حامد لربك على أنه وفقك لذلك، وأعانك عليه {قبل طلوع الشمس} صلاة الصبح {وقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 غروبها} صلاة العصر {ومن أناء الليل} أي: ساعاته {فسبح} أي: صل المغرب والعشاء، وقوله تعالى: {وأطراف النهار} معطوف على محل من آناء المنصوب أي: صل الظهر؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني قال ابن عباس: دخلت الصلوات الخمس في ذلك، وقيل: المراد الصلوات الخمس والنوافل؛ لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين. وأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما، فبقي قوله: ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار للنوافل، وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل التسبيح على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات. فإن قيل: النهار له طرفان، فكيف قال: وأطراف النهار، ولم يقل: طرفي النهار أجيب بوجهين أظهرهما: أنه إنما جمع لأنه يلزم في كل نهار ويعود، والثاني: أن أقل الجمع اثنان، وقرأ قوله تعالى {لعلك ترضى} أبو بكر والكسائي بضم التاء أي: ترضى بما تنال من الثواب كقوله تعالى: {وكان عند ربه مرضياً} (مريم، 55) ، وقرأ الباقون بفتحها أي: ترضى بما تنال من الشفاعة قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى، 5) ، وقال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء، س79) ، والمعنى: على القراءتين لا يختلف؛ لأن الله تعالى إذا أرضاه، فقد رضيه، وإذا رضيه، فقد أرضاه، ولما كانت النفس ميالة إلى الدنيا مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخليها عن ذلك هو الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها قال تعالى مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك: {ولا تمدن} مؤكداً له بالنون الثقيلة {عينيك} أي: لا تطول نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها {إلى ما متعنا به} في هذه الحياة الفانية {أزواجاً} أي: أصنافاً {منهم} أي: الكفرة استحساناً له وتمنياً أن يكون لك مثله والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة، ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح، وقوله تعالى: {زهرة الحياة الدنيا} أي: زينتها وبهجتها منصوب بمحذوف دل عليه متعنا، أو به على تضمنه معنى أعطينا، فأزواجاً مفعول أول، وزهرة هو الثاني، وذكر ابن عادل غير هذين الوجهين سبعة أوجه لا حاجة لنا بذكرها، ثم علل تعالى تمتعهم بقوله تعالى: {لنفتنهم فيه} أي: لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغرّ من لم يتأمل معناه حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه {ورزق ربك} في الجنة {خير} مما أوتوه في الدنيا {وأبقى} أي: أدوم أو ما رزقته من نعمة الإسلام والنبوّة، أو لأنّ أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال خير وأبقى، قال الزمخشري: لأن الله تعالى لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى زرقاً انتهى، وهذا جار على مذهبه المخالف لأهل السنة من أن الحرام لا يسمى زرقاً، وقال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله: ولا تمدَّن عينيك ليس هو النظر بل هو الأسف أي: لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا، وقال أبو رافع: نزلت هذه الآية في ضيق نزل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهودي يبيع أو يستلف إلى مدة، فقال: والله لا أفعل إلا برهن، فأخبرته بقوله فقال صلى الله عليه وسلم «إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض احمل إليه درعي الحديد» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 فنزل قوله: ولا تمدن عينيك، وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ، وقال أبو الدرداء: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له، وعن الحسن لولا حمق الناس لخربت الدنيا، وعن عيسى ابن مريم عليه السلام: لا تتخذوا الدنيا داراً، فتتخذكم لها عبيداً. ولما أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتزكية النفس أمره بأن يأمر أهله بالصلاة بقوله عز وجل: {وأمر أهلك بالصلاة} أي: أمر أهل بيتك والتابعين لك من أمتك بالصلاة كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام يدعوهم إلى كل خير إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، وكان صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي رضي الله عنهما كل صباح ويقول: الصلاة {واصطبر} أي: داوم {عليها لا نسألك} أي: نكلفك {رزقاً} لنفسك ولا لغيرك {نحن نرزقك} وغيرك كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد إن يطعمون إن الله هو الرازق ذو القوة المتين} (الذاريات، 58) ففرِّغ بالك لأمور الآخرة، وفي معناه قول الناس: من كان في عمل الله كان الله في عمله. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهله ضرٌّ أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلطان قرأ: ولا تمدن عينيك الآية، ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية: {والعاقبة} أي: الجميلة المحمودة {للتقوى} أي: لأهل التقوى قال ابن عباس: الذين صدقوك واتبعوك واتقوني، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: {والعاقبة للمتقين} (الأعراف، 128) ، ولا معونة على الرزق وغيره بشيء يوازي الصلاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر أي بالباء الموحدة أي: إذا أحزنه فزع إلى الصلاة قال ثابت: وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به هموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك» وعن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» ، ثم إنه تعالى بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهاً بقوله تعالى: {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه} فكأنه من لوازم قوله تعالى: {فاصبر على مايقولون} وهو قولهم لولا أي: هلا يأتينا بآية، وقال في موضع آخر: لو ما تأتينا بآية كما أرسل الأوّلون، ثم أجاب الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {أولم تأتهم بينة} أي: بيان {ما في الصحف الأولى} من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية المشتمل عليه القرآن أنباء الأمم الماضية وإهلاكهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 بتكذب الرسل فما يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك، وقرأ نافع وأبوعمرو وحفص بالفوقية على التأنيث، والباقون بالتحتية على التذكير {ولو أنّا أهلكناهم} معاملة لهم في عصيانهم {بعذاب من قبله} أي: هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها، وفي قوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن} (طه، 114) وفي مثنى السورة في: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} (طه، 2) أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {لقالوا} أي: يوم القيامة {ربنا} يا من هو متصف بالإحسان إلينا {لولا} أي: هلا ولم لا {أرسلت إلينا رسولاً} يأمرنا بطاعتك {فنتبع} أي: فيتسبب عنه أن نتبع آياتك التي تنجينا بها {من قبل أن نذل} بالعذاب هذا الذل {ونخزى} بالمعاصي التي عملناها على جهل، فلأجل ذاك أرسلناك إليهم، وأقمنا بك الحجة عليهم، ولما علم بهذا أنّ إيمانهم كالممتنع، وجدالهم لا ينقطع بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا كان كأنه قيل: فما الذي أفعل معهم؟ فقيل: {قل} لهم {كل} أي: كل مني ومنكم {متربص} أي: منتظر ما يؤول إليه أمري وأمركم {فتربصوا} فأنتم كالبهائم ليس لكم تأمل {فستعلمون} أي: عما قريب بوعد لا خلف فيه، وهو يوم القيامة {من أصحاب الصراط} أي: الطريق {السويّ} أي: المستقيم {ومن اهتدى} أي: من الضلال، فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره أنحن أم أنتم؟ قال ابن عادل: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة ينزل عليها هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا» ، وعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه» انتهى، ولم يذكر لذلك سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار» فحديث موضوع. سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكية قال الرازي بإجماع: وهي مائة وإحدى أو ثنتا عشرة آية وألف ومائة وستون كلمة وأربعة آلاف وثمان وتسعون حرفاً {بسم الله} الحكم العدل الذي تمت قدرته وعمّ أمره {الرحمن} الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده {الرحيم} الذي نجى من شاء من عباده في معاده قال أبو جعفر بن الزبير في برهانه لما تقدم قوله تعالى: {ولا تمدن عينيك} (الحجر، 88) إلى قوله: {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى} (طه، 135) قال تعالى: {اقترب} أي: قرب {للناس حسابهم} أي: في يوم القيامة أي: فلا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة، وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب؛ لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها، وأخر الفاعل تهويلاً لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب فإن قيل: كيف وصف ذلك اليوم بالاقتراب وقد عدت دون هذا القول أكثر من تسعمائة عام أجيب بأنه مقترب عند الله، والدليل عليه قوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج، 47) ولأن كل آت، وإن طالت أوقات استقباله وترقبه قريب وإنما البعيد هو الذي وجد وانقرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 قال الشاعر: *فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ماتخشاه أبعد من أمس ولأنّ ما بقي من الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها بدليل انبعاث خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه الموعود ببعثه في آخر الزمان، وقال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وأشار بإصبعيه وقال صلى الله عليه وسلم «ختمت النبوة بي» كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي، وعن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون وهو من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين، وهو قوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {في غفلة} أي: عن الحساب {معرضون} عن التأهب لهذا اليوم لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء، وأيضاً إن هذه الآية نزلت في كفار مكة، ولما أخبر تعالى عن غفلتهم وإعراضهم دلّ على ذلك بقوله: {ما يأتيهم} وأغرق في النفي بقوله: {من ذكر} أي: وحي ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة، وقوله تعالى: {من ربهم} صفة ذكر أوصلة ليأتيهم {محدث} إنزاله أي: ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به، وبهذا سقط احتجاج المعتزلة بأن القرآن حادث لهذه الآية، وقيل: معناه أن الله تعالى يحدث الأمر بعد الأمر، فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع، وقيل: الذكر المحدث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وإضافه إليه؛ لأن الله تعالى قال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3، 4) {إلا استمعوه} أي: قصدوا إسماعه وهو أجد الجد وأحق الحق {وهم} أي: والحال أنهم {يلعبون} أي: يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء والسخرية لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب {لاهية} أي: غافلة معرضة {قلوبهم} عن ذكر الله. تنبيه قوله تعالى: وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان، أو متداخلتان، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفاً على استمعوه: {وأسروا} أي: الناس المحدّث عنهم {النجوى} أي: بالغوا في إسرار كلامهم، وقوله تعالى: {الذين ظلموا} بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أومبتدأ والجملة المتقدمة خبره، والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم، وقيل: جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث وقيل: منصوب المحل على الذم، ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى: {هل} أي: فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل {هذا} الذي أتاكم بهذا الذكر {إلا بشر مثلكم} أي: في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب، والحياة والممات، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذٍ تسبب عن هذا الإنكار قولهم: {أفتأتون السحر وأنتم} أي: والحال أنكم {تبصرون} بأعينكم أنه بشر مثلكم، فكأنهم استدلوا بكونه بشراً على كذبه في ادعاء النبوة والرسالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر، فأنكروا حضوره. فإن قيل: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب: بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، ويجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع. ومنه قول الناس: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، قال البقاعي: فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها، ثم كأنه قيل: فإذا يقال لهؤلاء فقال: {قال} لهم: {ربي} المحسن إلي {يعلم القول} سواء كان سراً أم جهراً كائناً {في السماء والأرض} على حد سواء؛ لأنه لا مسافه بينه وبين شيء من ذلك {وهو السميع العليم} ، فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون. فإن قيل: هلا قيل يعلم السر لقوله تعالى: {وأسروا النجوى} (طه، 62) أجيب بأن القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر كما أن قوله: يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم. فإن قيل: لم ترك هذا الآكد في سوره الفرقان في قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} (الفرقان، 6) ، ولم يقل: يعلم القول كما هنا؟ أجيب: بأنه ليس بواجب أن يأتي بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد تارة أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتاناً، ويجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إنّ ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأنه أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فهو كقوله تعالى: {علام الغيوب} (المائدة، 109) {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة} (سبأ، 3) ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي قال بصيغة الماضي بالإخبار عن الرسول والباقون قل بصيغة الأمر، ثم إنه تعالى بيّن أنّ المشركين اقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفيما يقوله بقوله تعالى: {بل قالوا} أي: قال بعضهم هذا الذي قال لكم: {أضغاث أحلام} أي: أخلاط أحلام رآها في النوم، وقال بعضهم: {بل افتراه} أي: اختلقه من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى، وقال بعضهم: {بل هو} أي: النبي صلى الله عليه وسلم {شاعر} فما جاءكم به شعر، والشاعر يخيل ما لا حقيقة له لغيره، أو أنهم كلهم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا المبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد؛ قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذا الرابع أفسد من الثالث، ثم إنهم لما قدحوا في أعظم المعجزات طلبوا آية غيره، فقالوا: {فليأتنا} دليلاً على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 رسالته {بآية كما} أي: مثل ما {أرسل الأولون} بالآيات كتسبيح الجبال وتسخير الريح وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وصحة التشبيه من حيث إن الإرسال يتضمن الإتيان بالآية قال الله تعالى مجيباً لهم: {ما آمنت قبلهم} أي: قبل مشركي مكة {من قرية} أي: من أهل قرية أتتهم الآيات {أهلكناها} باقتراح الآيات لما جاءتهم {أفهم يؤمنون} أي: لو جئتهم بها وهم أغنى منهم، وفيه دليل على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به لم يؤمنوا، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم، ولما بيّن تعالى بطلان ما اقترحوا به في رسوله صلى الله عليه وسلم بكونه بشراً قال تعالى عاطفاً على آمنت مجيباً عن قولهم: {هل هذا إلا بشر مثلكم} {وما أرسلنا قبلك} أي: في جميع الزمان الذي تقدّم زمانك في جميع طوائف البشر {إلا رجالاً} أي: لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالاً {نوحي إليهم} مثلك ثم إنه تعالى أمر المشركين أن يسألوا أهل الكتاب بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً، وإن أنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المراد بالذكر القرآن، أي: فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين، ولا همزة بعدها، وكذا يفعل حمزة في الوقف، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها، ثم نبّه تعالى على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما قد كان بلغهم على الإجمال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهم السلام بقوله تعالى معبراً بأداة الشك محركاً لهم على المعالي {إن كنتم} أي: بجبلاتكم {لا تعلمون} أي: لا أهلية لكم في اقتناص علم بل كنتم أهل تقليد محض، وتبع صرف، ولما بيّن تعالى أنه صلى الله عليه وسلم على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلاً بيّن أنه على سنتهم في جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر في العيش والموت، فنبه على الأول بقوله تعالى: {وما جعلناهم} أي: الذين اخترنا بعثتهم إلى الناس ليأمروهم بأوامرنا {جسداً} أي: ذوي جسد ولحم ودم متصفين بأنهم {لا يأكلون الطعام} بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون، وليس ذلك بمانع من إرسالهم. فائدة: قال ابن فارس في المجمل وفي كتاب الخليل: إن الجسد لا يقال لغير الإنسان، وتوحيد الجسد لإرادة الجنس كأنه قيل: ذوي ضرب من الأجساد، أو على حذف المضاف، أي: ذوي جسد كما مر، أو تأويل الضمير لكل واحد، وهو جسم ذو لون، قال البيضاوي: ولذلك أي: ولكون الجسد جسماً ذا اللون لا يطلق على الماء والهواء، وهو في الماء مبني على أنه لا لون له، وإنما يتلون بلون ظرفه أو مقاله؛ لأنه جسم شفاف؛ لكن قال الإمام الرازي: بل له لون ويرى، ومع ذلك لا يحجب عن رؤية ما وراءه، ثم نبه على الثاني بقوله تعالى: {وما كانوا خالدين} أي: بأجسادهم، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن الناس بما يأتيهم عن الله تعالى ورسولكم صلى الله عليه وسلم ليس بخالد، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه، فإنه متربص بكم، وأنتم عاصون الملك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له {ثم صدقناهم الوعد} أي: الذي وعدناهم بإهلاكهم، وهذا مثل قوله تعالى: {واختار موسى قومه} (الأعراف، 155) في حذف الجار والأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 في الوعد، ومن قومه ومنه صدقوهم القتال، وصدقني سنّ بكره والأصل في هذا المثل أن أعرابياً عرض بعيراً للبيع، فقال له المشتري: ما سنه؟ قال: بكر، فاتفق أنه ند، فقال صاحبه هدع هدع، وهذه اللفظة مما يسكن بها صغار الإبل لا الكبار، فقال المشتري: صدقني سنّ بكره، وأعرض، فصار مثلاً. تنبيه: أشار تعالى بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم، وصبرهم عليهم، ثم أحل بهم سطوته، وأراهم عظمته {فأنجيناهم} أي: الرسل {ومن نشاء} وهم المؤمنون أو من في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو واحد من ذريته، ولذلك حميت به العرب من عذاب الاستئصال، {وأهلكنا المسرفين} أي: المشركين؛ لأن المشرك مسرف على نفسه {لقد أنزلنا إليكم} يا معشر قريش {كتاباً} أي: القرآن {فيه ذكركم} أي: شرفكم ووصيتكم كما قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد ودق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك، وقيل: فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، أو لأنه نزل بلغتكم، وقيل: فيه تذكرة لكم لتحذروا، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد {أفلا تعقلون} فتؤمنوا به، وفي ذلك حث على التدبر؛ لأن الخوف من لوازم العقل {وكم قصمنا} أي: أهلكنا {من قرية} أي: أهلها بغضب شديد؛ لأن القصم أفظع الكسر، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم، وقوله تعالى: {كانت ظالمة} أي: كافرة صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامها، ثم بيّن الغنى عنها بقوله تعالى: {وأنشأنا بعدها} أي: بعد إهلاك أهلها {قوماً آخرين} مكانهم، ثم بيّن حالها عند إحلال البأس بها بقوله تعالى: {فلما أحسوا} أي: أدرك أهلها بحواسهم {بأسنا} أي: عذابنا {إذا هم منا} أي: القرية {يركضون} هاربين منها مسرعين راكضين دوابهم لما أدركتهم مقدّمة العذاب والركض ضربة الدابة بالرجل، ومنه اركض برجلك، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم بعد تجبرهم على الرسل، وقولهم لهم: لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، فناداهم لسان الحال تقريعاً وتشنيعاً لحالهم {لا تركضوا} أو المقال والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين {وارجعوا} إلى قريتكم {إلى ما أترفتم} أي: تمتعتم {فيه} من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة والترفه، ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن قال: {ومساكنكم} أي: التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء بما أوسعتم من فنائها، وعليتم من بنائها، وحسنتم من مشاهدها {لعلكم تسألون} وفي هذا تهكم بهم وتوبيخ أي: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما يجري عليكم، وينزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ارجعوا، واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره، وينفذ فيه أمركم ونهيكم، فيقولوا لكم بم تأمرون وماذا ترسمون، أو شيئاً من دنياكم على العادة، أو تسألون في الإيمان كما كنتم تسألون، فتأبوا بما عندكم من الأنفة والحمية والعظمة، أو في المهمات كما تكون الرؤساء في مقاعدهم العلية، ومراتبهم السنية، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا، ولما كان كأنه قيل: بم أجابوا هذا القائل؟ قيل: {قالوا} حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 {يا ويلنا} إشارة إلى أنه حل بهم؛ لأنه ينادي بيا القريب ترفقاً به كما يقول الشخص لمن يضربه: يا سيدي كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم؛ لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب، ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم: {إنا كنا} جبلة وطبعاً {ظالمين} حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف لفوات محله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه القرية حَضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة، وهي وسحول قريتان قريبتان من اليمن تنسب إليهما الثياب، وفي الحديث: «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين» ، وروي حضوريين بعث الله لهم نبياً، فقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه الله على أهل بيت المقدس، فاستأصلهم، وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى منادٍ من السماء: يا لثأرات الأنبياء، وهي بفتح اللام، وبمثلثة وهمزة ساكنة أي: يا لأهل ثأراتهم أي: الطالبة بدمهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فندموا وقالوا ذلك {فما} أي: فتسبب عن إحلالنا بهم ذلك البأس أنه ما {زالت تلك} الدعوى البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم: يا ويلنا {دعواهم} يرددونها لا دعوى لهم غيرها؛ لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم {حتى جعلناهم حصيداً} كالزرع المحصود بالمناجل بأن قتلوا بالسيف، تنبيه: حصيد على وزن فعيل بمعنى مفعول، ولذلك لم يجمع؛ لأنه يستوي فيه الجمع وغيره {خامدين} أي: ميتين كخمود النار إذا طفئت وصارت رماداً فإن قيل: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل أجيب بأنَّ حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد؛ لأن معنى قولك: جعلته حلواً حامضاً جعلته جامعاً للطعمين، وكذلك معنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود أو خامدين صفة لحصيداً أو حال من ضميره، ثم نبههم سبحانه وتعالى على النظر في خلق السموات وما بينهما ليعتبروا، فقال تعالى: {وما خلقنا السماء} على علوِّها وإحكامها {والأرض} على عظمها واتساعها {وما بينهما} مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف البدائع وغرائب الصنائع {لاعبين} أي: عابثين كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم، وسائر زخارفهم للهو واللعب، وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار، وتذكيراً لذوي الاعتبار، وتسبيباً لما ينتظم به أمر العباد في المعاش والمعاد، ولما نفى عنه اللعب أتبعه دليله، فقال عز وجل: {لو أردنا} أي: بما لنا من العظمة {أن نتخذ لهواً} أي: ما يتلهى به ويلعب، وقيل: هو الولد بلغة اليمن، وقيل: الزوجة والمراد الرد على النصارى {لاتخذناه من لدنا} أي: من عندنا مما يليق أن ينسب لحضرتنا من الحور العين والملائكة بما لنا تمام القدرة، وكمال العظمة {إن كنا فاعلين} ذلك لكنا لم نفعله؛ لأنه لا يليق بجنابنا، فلم نرده، وقوله تعالى: {بل نقذف} أي: نرمي {بالحق} أي: الإيمان {على الباطل} أي: الكفر إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب بل شأننا أن نرمي بالحق الذي من جملة الجد على الباطل الذي من عداد اللهو {فيدمغه} أي: يذهبه، واستعار لدحض الباطل بالحق القذف والدمغ تصويراً لإبطاله به، وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة، ووجه استعارة القذف والدمغ لما ذكر أن أصل استعمالهما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الأجسام، ثم استعير القذف لدحض الباطل بالحق والدمغ لإذهاب الباطل، فالمستعار منه حسيّ، والمستعار له عقليّ {فإذا هو} في الحال {زاهق} أي: ذاهب، والزهوق ذهاب الروح، وذكره لترشيح المجاز من إطلاق القذف على دحض الباطل، ثم عطف على ما أفادته إذا قوله تعالى: {ولكم} أي: وإذا لكم أيها المبطلون {الويل} أي: العذاب الشديد {مما تصفون} الله تعالى به بما تهوى أنفسكم كالزوجة والولد تنبيه: ما إمّا مصدرية أو موصولة أو موصوفة، ولما حكى الله تعالى كلام الطاعنين في النبوات، وأجاب عنها بأن أغراضهم من تلك المطاعن التمرد، وعدم الانقياد بيّن بقوله تعالى: {وله من في السموات} أي: الأجرام العالية، وهي ما تحت العرش، وجمع السماء هنا لاقتضاء تفخيم الملك ذلك، ولما كانت عقولهم لا تدرك تعدّد الأرض وحدها، فقال: {والأرض} أي: له ذلك خلقاً وملكاً أنه منزه عن طاعتهم؛ لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات، وعبر بمن تغليباً للعقلاء، وقوله تعالى: {ومن عنده} أي: وهم الملائكة بإجماع الأمة، ولأن الله تعالى وصفهم بأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهذا لا يليق بالبشر، مبتدأ خبره {لا يستكبرون عن عبادته} بنوع كبر طلباً ولا إيجاداً، وخصهم بالذكر لكرامتهم عليه تنزيلاً لهم منزلة المقرّبين عند الملك. تنبيه: هذه العندية للشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة، فكأنه تعالى قال: الملائكة مع كمال شرفهم وعلو مراتبهم، ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن عبادته، فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته {و} مع ذلك أيضاً {لا يستحسرون} أي: لا يعيون، وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور تنبيهاً على أن عبادتهم من ثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون، ولا يطلبون أن ينقطعوا عنها، فأنتج ذلك قوله تعالى: H {يسبحون} أي: ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال {الليل والنهار} أي: جميع آنائهما دائماً {لا يفترون} أي: عن ذلك وقتاً من الأوقات، فهو منهم كالنفس منا لا يشغلنا عنه شاغل، ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد، فلم يفعلوا كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم بالتوبيخ والتهكم والتعنيف، فقال تعالى: {أم اتخذوا} أي: بل اتخذوا، فأم بمعنى بل للانتقال والهمزة لإنكار اتخاذهم {آلهة من الأرض} ومعنى نسبتها إلى الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض؛ لأن الآلهة على ضربين؛ أرضية وسماوية، ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، فقال: إنها مؤمنة» ؛ لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات أن السماء مكان الله تعالى، ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض؛ لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض {هم ينشرون} أي: يحيون الموتى لا يقدرون على ذلك، وهم وإن لم يصرّحوا بذلك لزم من ادعائهم لها آلهة أنهم يقدرون على ذلك، فإنّ من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات، فالمراد به تجهيلهم والتهكم بهم، وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الانتشار بهم، ثم إنه سبحانه وتعالى أقام البرهان القطعي على نفي إله غيره ببرهان التمانع، وهو أشدّ برهان لأهل الكلام، فقال: {لو كان فيهما} أي: السموات والأرض أي: في تدبيرهما {آلهة إلا الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 أي: غير الله تعالى {لفسدتا} أي: لخرجتا عن نظامهما المشاهد لوجود التمانع بينهم على وفق العادة عند تعدّد الحاكم، وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول، وهذا ظاهر. وأما طريقة التمانع فقال المتكلمون: القول بوجود إلهين مفضٍ إلى المحال لأنّا لو فرضنا وجود إلهين، فلا بدّ أن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه، ولو فرضنا أنّ أحدهما أراد تحريكه والآخر أراد تسكينه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدّين، أو لا يقع واحد منهما، وهو محال؛ لأنّ المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محال؛ لأنّ الذي وقع مراده يكون قادراً، والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً، والعجز نقص، وهو على الإله محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، وإذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أنّ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل على أنّ وحدانية الله تعالى والدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن، ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر للسموات والأرض إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله تعالى قال: {فسبحان الله} أي: فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال {ربّ} أي: خالق {العرش} أي: الكرسي المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير، ومنشأ التقادير {عما يصفون} أي: الكفار الله به من الشريك له وغيره، ثم بيّن تعالى ذلك بقوله عز وجل: {لا يسأل} أي: من سائل ما {عما يفعل} لعظمته وقوّة سلطانه، وإذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً مع جواز الخطأ والزلل، وأنواع الفساد عليهم كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه تعالى الخطأ {وهم يسألون} لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه، ولما قام الدليل ووضح السبيل واضمحلّ كل قال وقيل، وانمحقت الأباطيل كرّر تعالى: {أم اتخذوا من دونه آلهة} كرّره استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، وإظهاراً لجهلهم، ولما كان جوابهم: اتخذنا ولا نرجع، أمر الله تعالى نبيه بجوابهم فقال: {قل هاتوا برهانكم} على ما ادّعيتموه من عقل أو نقل كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل، ولما كان تعالى لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضمّ إليه دليل النقل أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله تعالى به الرسل من الكتب {هذا ذكر} أي: موعظة وشرف {من معي} ممن آمن بي وهو القرآن الذي عجزتم عن معارضته {وذكر} أي: وهذا ذكر {من قبلي} من الأمم الماضية وهو التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب السماوية، فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ولما كانوا لا يجدون شبهة لهم فضلاً عن حجة ذمّهم الله تعالى على جهلهم بمواضع الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 فقال تعالى: {بل أكثرهم} أي: هؤلاء المدّعون {لا يعلمون الحق} فلا يميزون بينه وبين الباطل بل أكثرهم جهلة، والجهل أصل الشرّ والفساد {فهم} أي: فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم {معرضون} عن التوحيد واتباع الرسل، ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدّم كما أنّ الرسالة لا يقوم بها كل واحد، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن أثبت الجار في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك} وأغرق في النفي فقال: {من رسول} في شيع الأوّلين {إلا نوحي إليه} من عندنا {أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وهذا مقرّر لما سبقه من آي التوحيد، وقال تعالى: إلا أنا، ولم يقل: نحن لئلا يجعلوا ذلك وسيلة إلى ما ادّعوه من تعدّد الآلهة، ولذلك قال: فاعبدون بالإفراد، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء، ولما بيّن سبحانه وتعالى بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضدّ والندّ أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد بقوله: {وقالوا اتخذ} أي: تكلف كما يتكلف من لا يكون له ولد {الرحمن} أي: الذي كل موجود من فيض نعمه {ولداً} نزل في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: نزل ذلك في اليهود حيث قالوا: إنه تعالى صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة كما حكى الله تعالى عنهم قولهم، وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزه عن أن يكون له ولد، فإنّ ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد، ولا تصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي {بل} أي: الذين جعلوهم له ولداً وهم الملائكة {عباد} من عباده أنعم عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد، فإنّ العبودية تنافي الولدية {مكرمون} بالعصمة من الزلل ولذلك فسر الإكرام بقوله تعالى: {لا يسبقونه} أي: لا يسبقون إذنه {بالقول} أي: لا يقولون شيئاً حتى يقوله كما هو شأن العبيد المؤدّبين {وهم بأمره} إذا أمرهم {يعملون} لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له تعالى، فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل، وذلك غاية الطاعة، ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه بقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي: ما عملوا وما هم عاملون لا تخفى عليه تعالى خافية مما قدّموا وأخروا، ثم صرح تعالى بلازم الجملة الأولى، فقال: {ولا يشفعون} أي: لا في الدنيا، ولا في الآخرة {إلا لمن ارتضى} فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى؛ قال ابن عباس والضحاك: إلا لمن ارتضى أي: لمن قال: لا إله إلا الله، فسقط بذلك قول المعتزلة: إنّ الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر، ثم صرّح بلازم الجملة الثانية فقال: {وهم من خشيته} أي: لا من غيرها {مشفقون} أي: خائفون، وأصل الخشية خوف مع تعظيم، ولذلك خص بها العلماء والإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدّى بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدى بعلى فبالعكس، ولما نفى تعالى الشريك مطلقاً، ثم مقيداً بالولدية أتبعه التهديد على ادّعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع بقوله تعالى: {ومن يقل منهم} أي: من الخلائق حتى العباد المكرمين الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم {إنى إله من دونه} أي: الله أي غيره، والذي قال ذلك كما قال الجلال المحلي هو إبليس دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها {فذلك} أي: اللعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 الذي لا يصلح للتقريب أصلاً {نجزيه جهنم} لظلمه {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الفظيع جدّاً {نجزي الظالمين} أي: المشركين، ثم إنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدّالة على وجود الصانع، فذكر منها ستة أنواع؛ النوع الأوّل: قوله تعالى: {أولم ير} أي: يعلم {الذين كفروا} علماً هو كالمشاهدة {أن السموات والأرض كانتا} ولم يقل: كنَّ؛ لأنّ المراد جماعة السموات وجماعة الأرض {رتقاً} قال ابن عباس والضحاك: كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين زبدة واحدة {ففتقناهما} أي: فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة السد، والفتق الشق، قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً توسطتهما، ففتحهما بها، وقال مجاهد والسدّي: كانت السموات رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض كانت رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين، وقال عكرمة وعطية: كانت السموات رتقاً لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، فيكون المراد بالسموات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق أو السموات بأسرها على أن لها مدخلاً في الأمطار، وإنما قال تعالى: رتقاً على التوحيد، وهو نعت للسموات والأرض لأنه مصدر، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك، فهم متمكنون من العلم بالنظر، أو باستفسار من العلماء، أو مطالعة الكتب، وقرأ ابن كثير ألم بغير واو بين الهمزة ولم، والباقون بالواو بين الهمزة واللام. النوع الثاني من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا} أي: خلقنا بما اقتضته عظمتنا {من الماء} الماء هو الدافق وغيره {كل شيء حي} مجازاً في النبات وحقيقة في الحيوان فإن قيل: قد خلق الله تعالى بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة؟ أجيب: بأن هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، أي: أن أكثر ما خلق الله خلق من الماء وبقاؤه بالماء، وقيل: المراد بالماء ما نزل من السماء أو نبع من الأرض {أفلا يؤمنون} مع ظهور هذه الآيات الواضحات بتوحيدي، النوع الثالث من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي} أي: جبالاً ثوابت كراهة {أن تميد} أي: تتحرك {بهم} قيل: إن الأرض بسطت على الماء، فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء، فأرساها الله وأثبتها بالجبال، النوع الرابع من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا فيها} أي: في الرواسي {فجاجاً} أي: مسالك واسعة سهلة، ثم أبدل منها {سبلاً} أي: مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد {لعلهم يهتدون} إلى منافعهم من ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية، النوع الخامس من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا السماء} وأفردها مع إرادة الجنس؛ لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا السماء الدنيا، ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن {سقفاً} أي: للأرض كالسقف للبيت {محفوظاً} أي: عن السقوط بالقدرة، وعن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بالمشيئة، وعن الشياطين بالشهب {وهم} أي: أكثر الناس {عن آياتها} أي: من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره، وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال من الجلال والجمال {معرضون} لا يتفكرون فيما فيها من السير والتدبير وغير ذلك، فيعلمون أنّ خالقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 لا شريك له، النوع السادس من الدلائل: قوله تعالى: {وهو} أي: لا غيره {الذي خلق الليل والنهار} ثم أتبعهما أعظم آيتهما بقوله تعالى: {والشمس} التي هي أعظم آية النهار {والقمر} الذي هو أعظم آية الليل {كل} أي: من الشمس والقمر، وتابعه وهو النجوم {في فلك} أي: مستدير كالطاحونة في السماء {يسبحون} أي: يسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وللتشبيه به أتى بضمير جمع من يعقل والمراد بالفلك الجنس كقولك: كساهم الأمير حلة، وقلدهم سيفاً، أي: كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصاراً، ولأن الغرض الدلالة على الجنس، ونزل لما قال الكفار: إن محمداً سيموت: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} أي: البقاء في الدنيا {أفإن} أي: أيتمنون موتك، فإن {مت فهم الخالدون} فيها لا والله ليسوا بخالدين، فالجملة الأخيرة هي محل الاستفهام الإنكاري، وفي معنى ذلك قول فروة بن مسيك الصحابي: *وقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا وقرأ نافع وحفص والكسائي بكسر الميم والباقون بضمها، ثم بيّن تعالى أن أحداً لا يبقى في هذه الدنيا بقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} أي: ذائقة مرارة الموت، أي: مرارة مفارقة روحها جسدها، فلا يفرح أحد، ولا يحزن لموت أحد بل يشتغل بما يهمه، وإليه الإشارة بقوله: {ونبلوكم} أي: نعاملكم معاملة المبتلي المختبر ليظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر، والمؤمن والكافر كما هو عندنا في عالم الغيب بأن نخالطكم {بالشر} ، وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والألم، وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين {والخير} وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، والتمكن من المرادات، وقوله تعالى: {فتنة} مفعول له أي: لننظر أتصبرون وتشكرون أم لا كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، فبين تعالى أنّ العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح ويصبر على المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم {وإلينا} بعد الموت لا إلى غيرنا {ترجعون} فنجازيكم بما فعلتم، ثم عطف تعالى على قوله: {وأسرّوا النجوى} قوله تعالى: {وإذا رآك} أي: وأنت أشرف الخلق {الذين كفروا إن} أي: ما {يتخذونك} أي: حال الرؤية {إلا هزواً} أي: مهزواً به يقولون إنكاراً واستصغاراً {أهذا الذي يذكر آلهتكم} أي: بسوء، والذكر يكون بالخير والشر، فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه وذكر العدوّ لا يكون إلا بسوء {وهم} أي: والحال أنهم {بذكر الرحمن} أي: إذا ذكر لهم الرحمن {هم كافرون} وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وهم الثانية للتأكيد، ونزل في استعجالهم العذاب {خلق الإنسان من عجل} كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه كقولك: خلق زيد من الكرم، فجعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له، ولذلك قيل: إنه على القلب أي: خلق العجل من الإنسان، ومن عجلته مبادرته إلى الكفر، واستعجال الوعد، وقال سعيد بن جبير والسدّي: لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة، فوقع، فقيل: خلق الإنسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 من عجل، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، وقال قوم: معناه خلق الإنسان يعني آدم عليه السلام من تعجيل في خلق الله تعالى إياه لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس، قال مجاهد: فلما أحيا الروح رأسه قال: يارب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقيل بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة وغيرها، وقال قوم: من عجل أي: من طين قال الشاعر: *والنبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل ثم قال تعالى مهدداً للمكذبين: {سأريكم آياتي} أي: مواعيدي بالعذاب {فلا تستعجلون} أي: تطلبون أن أوجد العجلة بالعذاب، أو غيره فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم؛ لأنها إرادة الشيء قبل أوانه فإن قيل: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله: خلق الإنسان من عجل وقوله تعالى: {وكان الإنسان عجولاً} ، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ أجيب: بأن هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة، وقد أراهم بعض آياته وهو القتل ببدر. {ويقولون} في استهزائهم {متى هذا الوعد} أي: بإتيان الآيات من الساعة ومقدّماتها وغيرها {إن كنتم} فيما توعدون به {صادقين} أي: عريقين في هذا الوصف يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء، ثم بيّن تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم بقوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا} وذكر المفعول به بقوله تعالى: {حين} أي: وقت {لا يكفون} أي: لا يدفعون {عن وجوههم} التي هي أشرف أعضائهم {النار} استسلاماً وعجزاً {ولا عن ظهورهم} التي هي أشدّ أجسامهم السياطَ {ولا هم ينصرون} أي: لا يمنعون من العذاب في القيامة وجواب لو محذوف والمعنى: لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا العذاب، ولا قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. {بل تأتيهم} أي: القيامة {بغتة} أي: فجأة {فتبهتهم} أي: تحيرهم، يقال: فلان مبهوت أي: متحير {فلا يستطيعون ردّها} أي: لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم منه {ولا هم ينظرون} أي: يمهلون لتوبة أو معذرة، ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك أتبعه ما يدل على أنّ الرسل في ذلك شرع واحد تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال عاطفاً على وإذا رآك: {ولقد استهزئ برسل من قبلك} أي: كثيرين فلك بهم أسوة، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر الدال والباقون بالضم وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء ساكنة {فحاق} أي: نزل {بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك، ولما أعلم الله تعالى أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجهوهم النار ولا عن ظهورهم بسائر ما وصفهم به. أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أنّ الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قل} يا أشرف المرسلين للمستهزئين {من يكلؤكم} أي: يحفظكم {بالليل والنهار من الرحمن} أي: من عذابه إن نزل بكم أي: لا أحد يفعل ذلك {بل هم عن ذكر ربهم} أي: القرآن {معرضون} لا يتفكرون فيه ولا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه. {أم} فيها معنى الهمزة للإنكار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 أي: الله {لهم آلهة} {موصوفة بأنها تمنعهم} مما يسوءهم {من دوننا} ليس لهم ذلك ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال تعالى: {لا يستطيعون} أي: الآلهة {نصر أنفسهم} فكيف ينصرون عابديهم {ولا هم} أي: الكفار {منّا} أي: من عذابنا {يصحبون} أي: يجارون يقال: صحبك الله أي: حفظك وأجارك. {بل متعنا هؤلاء} أي: الكفار على حقارتهم {وآباءهم} من قبلهم بالنعم استدراجاً {حتى طال عليهم العمر} أي: امتدّت بهم أيام الدنيا بالروح والطمأنينة فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنتهم واستمتاعهم فاغتروا بذلك وذلك طمع فارغ وأمل كاذب، وغلظ ورش اللام بخلاف عنه {أفلا يرون} أي: يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر {أنّا نأت الأرض} أي: أرض الكفرة {ننقصها من أطرافها} بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها بقتل بعض ورّد بعض عن دينه إلى الإسلام فهم في نقص وأولياؤنا في زيادة {أفهم الغالبون} أي: مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا. ولما كرّر سبحانه وتعالى في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله تعالى: {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء المشركين {إنما أنذركم} أي: أخوّفكم {بالوحي} أي: بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أنه من قبل نفسي {ولا يسمع الصم الدعاء} أي: ممن يدعوهم {إذا ما ينذرون} أي: يخوّفون فهم لترك العمل بما سمعوه كالصم فإن قيل: الصم لا يسمعون دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل: إذا ما ينذزون؟ أجيب: بأنه وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا، أي: هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة وعلى التصامّ عن آيات الإنذار، وقرأ ابن عامر ولا تسمع بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم ونصب ميم الصم على الخطاب النبوي والباقون بالياء التحتية وفتح الميم ورفع ميم الصم وفي الدعاء، وإذا همزتان مختلفتان من كلمتين؛ الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء والباقون بتحقيق الهمزتين، وهذا في حال الوصل، فإن وقف على الهمزة الأولى فالجميع يبتدئون الثانية بالتحقيق، ويقف حمزة وهشام بإبدال الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر. {ولئن مستهم} أي: أصابتهم {نفحة} أي: دفعة خفيفة وفي ذلك مبالغات ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة فإنّ أصل النفح هبوب رائحة الشيء والتاء الدالة على المرّة {من عذاب ربك} المحسن إليك بنصرك عليهم من الذي ينذرون به {ليقولنّ} وقد أذهلهم أمرها {يا ويلنا} الذي لا نرى بحضرتنا الآن غيره {إنّا كنّا ظالمين} دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقرّوا بالظلم، ثم ذكر تعالى بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل، فقال عاطفاً على قوله تعالى: {بل تأتيهم بغتة} : {ونضع الموازين القسط} أي: ذوات العدل {ليوم القيامة} أي: فيه وإنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم ويجوز أن يرجع إلى الوزنات وقيل: وضع الموازين تمثيلاً لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله تعالى يضع ميزاناً حقيقة توزن به أعمال العباد وعن الحسن هو الميزان له كفتان ولسان، ويروى أنّ داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 ثم أفاق فقال: إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، قال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة فإن قيل: كيف توزن الأعمال مع أنها أعراض؟ أجيب: بأن فيه طريقين؛ أحدهما أن توزن صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة وصحائف السيئات في كفة والثاني أن توضع في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل: هذه الآية يناقضها قوله تعالى في الكفار: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} (الكهف، 105) أجيب: بأن المراد منه أنا لا نكرمهم ولا نعظمهم {فلا تظلم نفس شيئاً} أي: من نقص حسنة أو زيادة سيئة {وإن كان} أي: العمل {مثقال} أي: وزن {حبة من خردل} أو أصغر منه وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وقرأ نافع برفع اللام على أنّ كان تامّة والباقون بالنصب وكذا في لقمان {أتينابها} أي: بوزنها ولما كان حساب الخلائق كلهم في كل ما صدرمنهم أمراً باهراً للعقل حقره عند عظمته فقال: {وكفى بنا} أي: بما لنا من العظمة {حاسبين} أي: محصين في كل شيء، فلا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أن لا يروج عليه شيء من خداع، ولا يقبل غلطاً ولا يضل ولا ينسى إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس وشوب منقص ووعد من جهة أنه مطلع على حسن قصد وإن دق وخفي. ولما تكلم سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض وذكر منها عشراً: القصة الأولى: قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهرون} أي: أخاه الذي سأل ربه أن يشدّ أزره به {الفرقان} أي: التوراة الفارقة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام {وضياء} بهاء لا ظلام معه أي: ليستضاء بها في ظلمات الحيرة والجهل وقرأ قنبل بعد الضاد بهمزة مفتوحة ممدودة والباقون بياء بعدها ألف {وذكراً} أي: عظة {للمتقين} أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع وقيل الفرقان النصر وقيل فلق البحر ويراد بالضياء على هذين التوراة، ثم بيّن المتقين بوصفهم بقوله تعالى: {الذين يخشون} أي: يخافون خوفاً عظيماً {ربهم} أي: المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان {بالغيب} عن الناس أي: في الخلاء عنهم أو بالغيب قبل أن يكشف لهم الحجاب في الجنة {وهم من الساعة} التي توضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير ومباعد عن كل ضير {مشفقون} أي: خائفون لأنهم لقيامها متحققون ولنصب الموازين فيها عالمون، ولما ذكر تعالى فرقان موسى عليه السلام وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به حثهم على كتابهم هو أشرف منه بقوله تعالى: {وهذا} أي: القرآن وأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم {ذكر} أي: موعظة {مبارك} أي: كثير خيره {أنزلناه} على أشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {أفأنتم له منكرون} أي: جاحدون استفهام توبيخ، القصة الثانية: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد أتينا} بما لنا من العظمة {إبراهيم رشده} أي: صلاحه وهداه {من قبل} أي: من قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله وسلم عليهم وقيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال: إني وجهّت وجهي {وكنّا به} ظاهراً وباطناً {عالمين} بأنه أهل لما آتيناه لأنه جبلة خير جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق والخصال يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه، وفي ذلك إشارة إلى أنه فعله تعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات. وتعليق {إذ قال} أي: إبراهيم {لأبيه وقومه} بعالمين إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضا لنا نصرناه وهو وحده على قومه كلهم، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه، ثم ذكر مقول القول في قوله: منكراً عليهم محقراً لأصنامهم {ما هذه التماثيل} أي: الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح الله جاعلين لها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له وهي الأصنام {التي أنتم لها} أي: لأجلها وحدها مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها {عاكفون} أي: مقيمون على عبادتها فإن قيل: هلا قال عليها عاكفون، كقوله تعالى: يعكفون على أصنام لهم؟ أجيب: بأن اللام للاختصاص لا للتعدية، ولو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي على، ثم إنه تعالى ذكر جوابهم له بما لزم الاستفهام عن السؤال بأنهم {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك فانظر ما أقبح التقليد وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حتى استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم وهم معتقدون أنهم على شيء وجادّون في نصرة مذهبهم ومجادلون أهل الحق عن باطلهم وكفى أهل التقليد مسبة أن عبدة الأصنام منهم والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق. ولذا {قال} إبراهيم عليه السلام {لقد كنتم} وأكده بقوله: {أنتم} لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل والعطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه: {اسكن أنت وزوجك الجنة} (البقرة، 35) ، {وآباؤكم} أي: من قبلكم {في ضلال مبين} فبين أن المقلدين والمقلدين جميعاً منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة لاستناد الفريقين إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع لاستبعادهم أن يكون ماهم عليه ضلالاً بقوا متعجبين من تضليله إياهم. فلذا {قالوا} ظناً منهم أنه لم يقل لهم ذلك على ظاهره {أجئتنا} في هذا الكلام {بالحق} الذي يطابقه الواقع {أم أنت من اللاعبين} أي: تقوله على وجه المزاح والملاعبة لا على وجه الجد. {قال} عليه السلام بانياً على ما تقديره ليس كلامي لعباً بل هو جد وهذه التماثيل ليست أرباباً {بل ربكم} أي: الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة {رب السموات والأرض} أي: مدبرهنّ القائم بمصالحهنّ {الذي فطرهنّ} أي: خلقهنّ على غير مثال سبق وأنتم وتماثيلكم بما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجرّدة عن الهوى وقيل: الضمير في فطرهنّ للتماثيل قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم {وأنا على ذلكم} أي: الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره {من الشاهدين} أي: الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس لا كما فعلتم أنتم حين اضطرّكم السؤال إلى الضلال، ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق أتبعه البرهان على إبطال الباطل بقوله: {وتالله} وهو قسم والأصل في القسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الباء الموحدة والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها مع كونها بدلاً زيادة على التأكيد التعجب {لأكيدن أصنامهم} أي: لأجتهدنّ في كسرها والتأكيد وما في التاء من التعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأنّ ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره ولعمري إنّ مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتّوه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه، ولكن إذا الله سنى عقد شيء تيسراً، ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أي جزء تيسر له منه أسقط الجار فقال: {بعد أن تولّوا مدبرين} أي: بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم قال مجاهد وقتادة: إنما قال إبراهيم هذا سراً من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، وقال السدّي: كان لهم في كل سنة مجمع عيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي برجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا وقد بركت الأصنام الآلهة عليه أكلنا منه فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون؟ فلما لم يجيبوه قال لهم مالكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل: {فجعلهم جذاذاً} أي: فتاتاً وقرأ الكسائي بكسر الجيم والباقون بضمها {إلا كبيراً لهم} فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وخشب وحجر وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان {لعلهم} أي: هؤلاء الضلال {إليه} أي: إبراهيم {يرجعون} عند إلزامه بالسؤال فتقوم عليهم الحجة فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال {قالوا من فعل هذا} الفعل الفاحش {بآلهتنا إنه لمن الظالمين} حيث وضع الإهانة في غير موضعها فإنّ الآلهة حقها الإكرام لا الإهانة والانتقام {قالوا} أي: الذين سمعوا قول إبراهيم وتاالله لأكيدنّ أصنامكم {سمعنا فتى} أي: شاباً من الشباب {يذكرهم} أي: يعيبهم ويسبهم {يقال له إبراهيم} أي: هو الذي نظنّ أنه صنع هذا، فلما بلغ ذلك نمروذ الجبار وأشراف قومه {قالوا فأتوا به} إلى بيت الأصنام {على أعين الناس} أي: جهرة والناس ينظرون إليه نظر الإخفاء معه حتى كأنه ماش على أبصارهم متمكن منها تمكن الراكب على المركوب {لعلهم يشهدون} عليه بأنه الذي فعل بالآلهة هذا الفعل كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، وقيل معناه: لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به، فلما أتوا به {قالوا} منكرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 عليه {أأنت فعلت هذا} الفعل الفاحش {بآلهتنا يا إبراهيم} . تنبيه: هنا همزتان مفتوحتان من كلمة فالقرّاء الجميع على تحقيق الأولى، وأمّا الثانية فيسهلها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وهشام بخلاف عنه وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو والباقون بتحقيقهما وعدم الإدخال بينهما. ثم {قال} إبراهيم متهكماً بهم وملزماً بالحجة {بل فعله كبيرهم} غيرة أن يعبد معه من هو دونه وتقييده بقوله: {هذا} إشارة إلى الذي تركه من غير كسر، ولما أخبرهم ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعام لهم محل من يعقل تسبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال: {فاسألوهم} أي: عن الفاعل ليخبروكم به وقوله: {إن كانوا ينطقون} أي: على زعمكم أنهم آلهة يضرّون وينفعون فيه تقديم جواب الشرط أي: فإن قدروا على النطق أمكنت عنهم القدرة وإلا فلا، فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك. روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: هذه أختي» ، وقال في حديث الشفاعة، ويذكر كذباته أي: إنه لم يتكلم بكلمات صورتها صورة الكذب وإن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات، وقيل في قوله: إن سقيم أي: سأسقم، وقيل سقيم القلب أي: مغتم بضلالتكم، وقوله لسارة هذه أختي أي: في الدين وقوله بل فعله كبيرهم هذا؛ روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ويقول: معناه بل فعله من فعله، وقوله: كبيرهم هذا مبتدأ وخبر قال البغوي: وهذه التأويلات لنفي الكذب، والأولى هو الأول للحديث فيه، ويجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن ليوسف عليه السلام حتى نادى مناديه فقال: {أيتها العير إنكم لسارقون} (يوسف، 70) ولم يكونوا سرقوا، وقال الرازي: الحديث محمول على المعاريض، فإن فيها مندوحة عن الكذب، أي: تسمية المعاريض كذباً لما أشبهت صورتها صورته، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمزة، وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وبعدها همزة مفتوحة، وقيل: الوقف على بل فعله، ثم يبتدىء بقوله: كبيرهم هذا. ولما اضطرّهم الدليل أن يحققوا أنهم على محض الباطل {فرجعوا إلى أنفسهم} بالتفكر {فقالوا} أي: بعضهم لبعض {إنكم أنتم الظالمون} لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها إلا إبراهيم، فإنه أصاب بإهانتها. {ثم نكسوا على رؤوسهم} أي: انقلبوا غير مستحبين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه إلى المجادلة له بعدما استقاموا بالمراجعة من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى حاله الأول، شبّه عودهم إلى الباطل بصورة جعل أسفل الشيء مستعلياً على أعلاه، ثم إنهم قالوا في مجادلتهم عن شركائهم والله {لقد علمت} يا إبراهيم {ما هؤلاء} لا صحيحهم ولا جريحهم {ينطقون} أي: فكيف تأمرنا بسؤالهم؟ ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم اتجه لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم. {قال} منكراً عليهم موبخاً لهم {أفتعبدون من دون الله} أي: بدله {ما لا ينفعكم شيئاً} من رزق وغيره لترجوه {ولا يضرّكم} شيئاً إذا لم تعبدوه لتخافوه. {أفٍ} أي: تباً وقبحاً {لكم ولما تعبدون من دون الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 أي: غيره، وقرأ نافع وحفص بتنوين الفاء مكسورة وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين والباقون بكسر الفاء من غير تنوين، ولما تسبب عن فعلهم هذا وضوح أنه لا يقربه عاقل، أنكر عليهم ووبخهم بقوله: {أفلا تعقلون} قبح صنيعكم وأنتم شيوخ قد مرّت بكم الدهور وحنكتكم التجارب ولما دحضت حجتهم وبان عجزهم، وظهر الحق واندفع الباطل {قالوا} عادلين إلى العناد، واستعمال القوّة الحسية {حرّقوه} بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً أعظم مما فعل بآلهتكم {وانصروا آلهتكم} التي جعلها جذاذاً {إن كنتم فاعلين} نصرتها قال ابن عمر: إنّ الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل: اسمه هيتون، فخسف الله تعالى به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقيل: قاله نمروذ بن كوش بن حام بن نوح عليه السلام، وروي أنّ نمروذ وقومه حين هموا بإحراقه حبسوه في بيت، ثم بنوا عليه بيتاً كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى، ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدّة شهر حتى كان الرجل يمرض، فيقول: لئن عوفيت لأجمعنّ حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري بغزلها الحطب احتساباً في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه، فلما جمعوا ما أرادوا وأشعلوا في كل ناحية من الحطب ناراً، فاشتعلت النار، واشتدت حتى كان الطير يمرّ بها، فيحترق من شدّة وهجها وحرّها، وأوقدوا عليه سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقوه، فجاءهم إبليس عليه اللعنة، فعلّمهم عمل المنجنيق فعملوا ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض، ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة ربنا خليلك يلقى في النار وليس في أرضك من يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال عز وجل: إنه خليلي وليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع أحداً غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه، فقال: إن أردت أخمدت النار وأتاه خازن الرياح، فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام: لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل، وروي عن كعب الأحبار أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم عليه السلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (آل عمران، 173) قالها إبراهيم عليه السلام: حين ألقي في النار وقالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} (آل عمران، 173) ؛ قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفىء النار عنه إلا الوزغ، فإنه كان ينفخ في النار، وعن أمّ شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ، وقال: «كان ينفخ على إبراهيم» ، ولما أراد الله تعالى الذي له القوّة جميعاً سلامته منها قال تعالى: {قلنا يا نار كوني} بإرادتنا التي لا يتخلف عنها مراد {برداً} قال ابن عباس: لو لم يقل: {وسلاماً} لمات إبراهيم من بردها، وفي الآثار أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل تعالى: {على إبراهيم} لبقيت ذات برد أبداً، والمعنى كوني ذات برد وسلام على إبراهيم، فبولغ في ذلك حتى كان ذاتها برد وسلام، والمراد: ابردي فيسلم منك إبراهيم أو ابردي برداً غير ضارّ، قال السدّي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا بعين ماء عذب وورد أحمر، ونرجس قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام قال المنهال ابن عمرو قال إبراهيم: ما كنت أياماً قط أنعم مني في الأيام التي كنت في النار، وقال ابن يسار وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه قال وبعث الله تعالى جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة، فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدّثه، وقال جبريل: يا إبراهيم إنّ ربك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضر أحبابي، ثم نظر نمروذ وأشرف على النار من صرح له، فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب فناداه يا إبراهيم بإلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: هل تخشى إن قمت فيها أن تضرك قال: لا، قال: قم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال له: من الرجل الذي رأيته معك في مثل صورتك قاعداً إلى جنبك قال: ذاك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني فيها، فقال نمروذ: إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة قال: إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني، فقال: لا أستطيع ترك ملكي، ولكن أذبحها له فذبحها له نمروذ، ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله تعالى منه وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء في الحديث: «لا يعذب بالنار إلا خالقها» ، وقيل: إنّ الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت والله على كل شيء قدير، فدفع عن إبراهيم حرّها كما يدفع ذلك عن خزنة جهنم. {وأرادوا به كيداً} أي: مكراً في إضراره بالنار، وبعد خروجه منها {فجعلناهم} أي: بما لنا من الجلال {الأخسرين} أي: أخسر من كل خاسر عاد سعيهم برهاناً قاطعاً على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجباً لزيادة درجته واستحقاقهم أشدّ العذاب، وقد أرسل الله تعالى على نمروذ، وعلى قومه البعوض فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة، فأهلكته. فائدة: وقع مثل هذه القصة لبعض أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أبو مسلم الخولانيّ طلبه الأسود العنسي لما ادّعى النبوّة فقال له: اشهد أني رسول الله، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار، فألقي فيها، ثم وجده قائماً يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهم، وقال عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله. {ونجيناه ولوطاً} من نمروذ وقومه من أرض العراق {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} وهي الشام بارك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء قال أبيّ بن كعب بارك الله فيها وسماها مباركة؛ لأن ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس أي: يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرّق في الأرض قاله أبو العالية، وعن قتادة أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال لكعب الأحبار ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، فقال كعب: إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين إن الشام كنز الله في أرضه، وبها كنزه من عباده، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم؛ قال محمد بن إسحاق استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله عز وجل به من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمروذ وملئهم، وآمن به لوط، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارح وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناحور بن تارح، وآمنت به أيضاً سارة وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم، فخرج من كوثى وهي بضم الكاف ومثلثة قال ابن الأثير هي كوثن العراق وهي سرّة السواد، وبها ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وخرج مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة كما قال تعالى: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي} فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران، فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه الله تعالى نبياً إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى: {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} (الأنبياء، 71) أي: كما أنجيناك أنت يا أشرف الخلق ويا أفضل أولاده، وصديقك أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى طيبة التي شرفناها بك وبثثنا من أنوارها في أرجاء الأرض وأقطارها ما لم نبث مثله قط وباركنا فيها للعالمين بالخلفاء الراشدين وغيرهم من العلماء والصالحين الذين انبثت خيراتهم العملية والعلمية والمالية في جميع الأقطار، ولما ولد لإبراهيم عليه السلام في حال شيخوخته وعجز امرأته مع كونها عقيماً، وكان ذلك دالاً على الاقتدار على البعث الذي السياق كله له قال تعالى: {ووهبنا له} دالاً على ذلك بنون العظمة {إسحاق} أي: من شبه العدم وترك شرح حاله لتقدّمه أي: فكان ذلك دليلاً على اقتدارنا على ما نريد لا سيما من إعادة الخلق في يوم الحساب، ثم إنه قد يظن أنه لتولده بين شيخٍ فانٍ وعجوز عقيم كان على حالة من الضعف لا يولد لمثله معها نفى ذلك بقوله تعالى: {ويعقوب نافلة} أي: ولداً لإسحاق زيادة على ما دعا به إبراهيم عليهما السلام، ثم نمى سبحانه وتعالى أولاد يعقوب، وهو إسرائيل وذرّياتهم إلى أن ساموا النجوم عدّة وباروا الجبال شدّة {وكلاً} من هؤلاء الأربعة وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وعظم رتبتهم بقوله تعالى: {جعلنا صالحين} أي: مهيئين لطاعتهم لله تعالى لكل ما يرونه أو يرادون له، أو يراد منهم، ثم لما ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة الصلاح في أنفسهم ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة لإصلاح لغيرهم، فقال تعالى معظماً لإمامتهم: {وجعلناهم أئمة} أي: أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين لما آتيناهم من العلم والنبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 الهمزة الثانية المكسورة بين الهمزة والياء، ويجوز إبدالها عندهم ياء خالصة ولا يدخلون بينهما شيئاً وقرأ هشام بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما بخلاف عنه في الإدخال وعدمه، والباقون بتحقيق الهمزتين من غير إدخال بلا خلاف {يهدون} أي: يدعون إلينا من وفقناه للهداية {بأمرنا} أي: بإذننا {وأوحينا إليهم} أيضاً {فعل} أي: أن يفعلوا {الخيرات} ليحثوهم عليها، فيتم كمالهم بانضمام العلم إلى العمل، قال البقاعي: ولعله تعالى عبّر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما يوحي إليهم، وقال الزمخشري: أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات، وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة انتهى. وقوله تعالى: {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} من عطف الخاص على العام تعظيماً لشأنهما؛ لأن الصلاة تقرب العبد إلى الحق تعالى، والزكاة إحسان إلى الخلق، قال الزجاج: الإضافة في الصلاة عوض عن تاء التأنيث يعني: فيكون من الغالب لا من القليل {وكانوا لنا} دائماً جبلة وطبيعة {عابدين} أي: موحدين مخلصين في العبادة ولذلك قدَّم الصلة، القصة الثالثة: قصة لوط عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولوطاً} أي: وآتينا لوطاً أو واذكر لوطاً، ثم استأنف قوله تعالى: {آتيناه حكماً} أي: نبوّة وعملاً محكماً بالعلم، وقيل: فصلاً بين الخصوم {وعلماً} مزيناً بالعمل مما ينبغي علمه للأنبياء {ونجيناه من القرية} أي: قرية سدوم {التي كانت} قبل إنجائنا له منها {تعمل} أي: أهلها الأعمال {الخبائث} من اللواط والرمي بالبندق واللعب بالطيور والتضارط في أنديتهم وغير ذلك وإنما وصف القرية بصفةأهلها وأسندها إليها على حذف المضاف وأقامته مقامه ويدل عليه {إنهم كانوا} أي: بما جبلوا عليه {قوم سوء} أي: ذوي قدرة على الشرّ بانهماكهم في الأعمال السيئة {فاسقين} أي: خارجين من كل خير {وأدخلناه} دونهم {في رحمتنا} أي: في الأحوال السنية والأقوال العلية والأفعال الزكية التي هي سببب للرحمة العظمى ومسببة عنها ثم علل ذلك بقوله تعالى {إنه من الصالحين} أي: الذين سبقت لهم منا الحسنى أي: لما جبلناه عليه من الخير. القصة الرابعة: قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ونوحاً} أي: واذكر نوحاً {إذ} أي: حين {نادى} أي: دعا الله تعالى على قومه بالهلاك بقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح، 26) ونحوه من الدعاء {من قبل} أي: من قبل لوط ومن تقدّمه {فاستجبنا} أي: أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا {له} في ذلك النداء، ثم تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فنجيناه وأهله} أي: الذين دام ثباتهم على الإيمان وهم من كان معه في السفينة {من الكرب العظيم} أي: من أذى قومه ومن الغرق والكرب الغمّ الشديد قاله السدّي وقال أبو حيان الكرب أقصى الغمّ والأخذ بالنفس وهو هنا الغرق عبّر عنه بأوّل أحوال مأخذ الغريق. {ونصرناه} أي: منعناه {من القوم} أي: المتصفين بالقوّة {الذين كذبوا بآياتنا} من أن يصلوا إليه بسوء، وقيل: من بمعنى على {أنهم كانوا قوم سوء} أي: لا عمل لهم إلا ما يسوء {فأغرقناهم أجمعين} لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى. القصة الخامسة: قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى: {وداود وسليمان} ابنه أي: اذكرهما واذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 شأنهما {إذ} أي: حين {يحكمان في الحرث} الذي أنبت الزرع وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت، قال ابن عباس: وأكثر المفسرين كان ذلك كرماً قد تدلت عناقيده، وقال قتادة: كان زرعاً قال ابن الخازن وهو أشبه للعرف {إذ نفشت} أي: انتشرت ليلاً بغير راع {فيه غنم القوم} فرعته، قال قتادة: النفش في الليل والعمل في النهار {وكنا لحكمهم} أي: الحكمين والمتحاكمين إليهما {شاهدين} أي: كان ذلك بعلمنا ومرأى منّا لا يخفى علينا علمه، وقال الفرّاء: جمع الاثنين فقال لحكمهم ويريد داود وسليمان؛ لأن الاثنين جمع وهو مثل قوله تعالى: {فإن كان له أخوة فلأمه السدس} (النساء، 110) وهو يريد أخوين، قال ابن عباس وقتادة وذلك أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إنّ هذا انفلتت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فأفسدته، فلم تبق منه شيئاً، فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه، فقال سليمان وهو ابن إحدى عشر سنة: لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا، وروي أنه قال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي، ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوّة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيت. كما قال تعالى: {ففهمناها} أي: الحكومة {سليمان} أي: علمناه القضية وألهمناها له. تنبيه: يجوز أن تكون حكومتهما بوحي إلا أنّ حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ويجوز أن تكون باجتهاد إلا أن اجتهاد سليمان أشبه بالصواب فإن قيل: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ أجيب: بأنّ وجه حكومة داود أنّ الضرر وقع بالغنم فسلمت بجنايتها إلى المجني عليه. كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك، أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ووجه حكومة سليمان: أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبداً وأبق من يده أنه يضمن بالقيمة، فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادَّا. فإن قيل: لو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ أجيب: بأن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون فيها ضماناً بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد لقوله صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار» ، أي: هدر رواه الشيخان وغيرهما، والشافعي وأصحابه يوجبون الضمان بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلاً، ولذلك قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطاً وأفسدته، فقال على: «أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل» ، ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود، نفاه بقوله تعالى: {وكلاً} أي: منهما {آتينا حكماً} أي: نبوّة وعملاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 مؤسساً على حكمة العلم {وعلماً} مؤيداً بصالح العمل، وعن الحسن لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان عليه السلام لصوابه، وعلى داود باجتهاده انتهى، وهذا على الرأي الثاني، وعليه أكثر المفسرين، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر» ، وهل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا بعينه؟ رأيان أظهرهما الثاني، وإن كان مخالفاً لمفهوم الآية إذ لو كان كل مجتهد مصيباً لم يكن للتقسيم في الحديث معنى وقوله صلى الله عليه وسلم وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق؛ لأنّ اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع. فائدة: من أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى» أخرجاه في الصحيحين، ثم إنه تعالى ذكر لداود وسليمان بعض معجزات، فمن بعض معجزات الأوّل ما ذكره بقوله تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال} مع صلابتها وعظمها {يسبحن} معه أي: يقدّسن الله تعالى، ولو شئنا لجعلنا الحرث والغنم تكلمه بصواب الحكم، وقال ابن عباس: كان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وقوله تعالى: {والطير} عطف على الجبال أو مفعول معه، وقال: وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذا الطير، وقال قتادة: يسبحن أي: يصلين معه إذا صلى، وقيل: كان داود إذا فتر يسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه، وقيل: يسبحن بلسان الحال، وقيل: يسبح من رآها تسير معه بتسيير الله تعالى، فلما جبلت على التسبيح وصفت به {وكنا غافلين} أي: من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل، ولكل شيء نريده، فلا تستكثروا علينا أمراً، وإن كان عندكم عجباً، وقد اتفق نحو هذا لغير واحد من هذه الأمة. كان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه أبنيته، وأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان الطعام يسبح بحضرته والحصى وغيره {وعلمناه صنعة لبوس} أي: صنعة الدروع التي تلبس في الحرب؛ قال قتادة: أوّل من صنع هذه الدروع وسردها واتخذها حلقاً داود، وكانت من قبل صفائح، وقد ألان الله تعالى لداود الحديد فكان يعمل منه بغير نار كأنه طين؛ قال البغوي: وهو أي: اللبوس في اللغة: اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب، وقوله تعالى: {لكم} متعلق بعلم أو صفة للبوس، وقوله تعالى: {لتحصنكم من بأسكم} بدل منه بدل اشتمال بإعادة الجار ومرجع الضمير يختلف باختلاف القراءات، فقرأ شعبة بالنون فالضمير لله تعالى، وقرأ ابن عامر وحفص بالتاء على التأنيث، فالضمير للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، وقرأ الباقون بالياء التحتية، فالضمير لداود أو للبوس، وقوله تعالى: {فهل أنتم شاكرون} أي: لنا على ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة أو التقريع، ومن بعض معجزات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الثاني ما ذكره بقوله: {ولسليمان} أي: وسخر لسليمان {الريح} قال البغوي: وهو هواء يتحرّك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته والريح تذكر وتؤنث {عاصفة} أي: شديدة الهبوب فإن قيل: قد قال تعالى في موضع آخر تجري بأمره رخاء، والرخاء اللين؟ أجيب: بأنها كانت تحت أمره إن أراد أن تشتدّ اشتدّت، وإن أراد أن تلين لانت، وقيل: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرّت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} (سبأ، 12) وقوله تعالى: {تجري بأمره} أي: بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأوّل أو حال من ضميرها {إلى الأرض التي باركنا فيها} أي: الشام، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان، ثم يعود إلى منزله بالشام. قال وهب بن منبه: كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام إليه الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره، وكان امرأً غزاء قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، فكان إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهراً في روحته، وشهراً في غدوته إلى حيث أراد، وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء بالمزرعة، فما تحركها ولا تثير تراباً، ولا تؤذي طائراً. وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسطه البساط، فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة تقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، ومن الرواح إلى الغروب. وقال سعيد بن جبير: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي تجلس الإنس ما يليه، ثم تليهم الجنّ، ثم تظلهم الطير، ثم تحملهم الريح، وقال الحسن لما شغلت الخيل نبيّ الله سليمان حتى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله مكانها خيراً منها، وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء، فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر، ثم يروح منها، فيكون رواحها ببابل. وقال ابن زيد: كان له مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت تركب معه فيه الجنّ والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك الركن، فإذا ارتفعت أتت الريح الرخاء، فسارت به وبهم يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش {وكنا} أي: أزلاً وأبداً بإحاطة العظمة {بكل شيء} أي: من هذا وغيره من أمره وغيره {عالمين} ومن علمنا أنّ ذلك لا يزيدهم إلا تواضعاً، وكما سخرنا الريح له سخرناها للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليالي الأحزاب قال حذيفة رضي الله عنه حتى كانت تقذفهم بالحجارة ما تجاوز عسكرهم، فهزمهم الله تعالى بها، وردّوا بغيظهم لم ينالوا خيراً وأعطي صلى الله عليه وسلم أعمّ مما أعطي جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أعطي صلى الله عليه وسلم التصرف في العالم العلوي الذي جعل الله تعالى منه الفيض على العالم السفلي بالاحتراق لطباقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 بالإسراء تارة وبإمساك المطر لما دعا بسبع كسبع يوسف عليه السلام وبإرساله أخرى كما في أحاديث كثيرة، وأتى مع ذلك بمفاتيح خزائن الأرض كلها، فردّها صلى الله عليه وسلم. {ومن} أي: وسخرنا لسليمان من {الشياطين} الذين هم أكثر شيء تمرداً وعتواً {من يغوصون له} أي: يدخلون في البحر، فيخرجون منه الجواهر وغيرها من المنافع وذلك بأن أكثفنا أجسامهم مع لطافتها لتقبل الغوص في الماء معجزة في معجزة، وقد خنق نبينا صلى الله عليه وسلم العفريت الذي جاءه بشهاب من نار، وأسر جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم عفاريت أتوا إلى تمر الصدقة، وأمكنهم الله تعالى منهم {ويعملون عملاً دون ذلك} أي: سوى الغوص كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة كقوله تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} (سبأ، 13) الآية {وكنا لهم حافظين} أي: حتى لا يخرجوا عن أمره، وقال الزجاج: معناه: حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا، وكان من عادة الشياطين إذا عملوا عملاً بالنهار، وفرغوا منه قبل الليل أفسدوه وخربوه، وفي القصة أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له: إذا فرغ من عمله قبل الليل فأشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه. القصة السادسة: قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {س21ش83 وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ?? أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} {وأيوب} أي: واذكر أيوب ويبدل منه {إذ نادى ربه} قال وهب بن منبه: كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمّه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا. وكانت له الثنية من أرض البلقاء من أعمال حوران من أرض الشام كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم، والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدّة والكثرة.u وكان له خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وعبد وولد ومال، ويحمل آلة كل فدّان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاث أو أربع أو خمس وفوق ذلك. وكان الله تعالى قد أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان برّاً تقياً رحيماً بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكراً لأنعم الله مؤدياً لحق الله تعالى قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرّة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا. وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من اليمن يقال له اليفن، ورجلان من بلده يقال لأحدهما بلدد، والآخر صابر، وكانوا كهولاً، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهنّ حيثما أراد حتى رفع الله تعالى عيسى عليه السلام، فحجب من أربع، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم عن السموات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب عليه السلام، وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال: إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب، فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك، ولخرج من طاعتك؛ قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله، فانقض عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض، ثم جمع عفاريت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 الجنّ ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوّة، فإني قد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار، وأحرقت كل شيء آتى عليه؛ قال إبليس: فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل، وقد وضعت رؤوسها ورعت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق، فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها. ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب، فوجده قائماً يصلي فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك، فأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب: الحمد لله الذي أعطانيها، وهو أخذها وإنها مال الله أعارنيها، وهو أولى بها إذا شاء تركها، وإذا شاء نزعها، وقديماً كنت وطنت نفسي ومالي على الفناء؛ قال إبليس: فإن الله ربك أرسل عليها ناراً من السماء، فاحترقت، فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها؛ منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان أيوب إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ليشمت به عدوّه ويفجع صديقه، فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني، وحين نزع مني عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله عز وجل ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعطاك الله وتجزع حين قبض الله على عاريته الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله تعالى فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح، وصرت شهيداً، ولكنه علم منك شرّاً، فأخرجك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً، فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت: عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه؛ قال إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق حتى توسطها، ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً من عند آخرها، وماتت رعاتها. ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي فقال له مثل القول الأول، فردّ عليه أيوب مثل الردّ الأوّل، ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت: عندي من القوّة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه، قال: فأتِ الفدادين والحرث، فانطلق حين شرع الفدادون في الحرث والزرع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن. ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأوّل، فردّ عليه أيوب مثل ردّه الأوّل، وجعل إبليس يهلك أمواله مالاً مالاً حتى مرّ على آخره كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله تعالى، وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال، فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال: إلهي إنّ أيوب يرى أنك ما متعته بولده، فأنت تعطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال. قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدوّ الله إبليس حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم، فلم يزل يزلزله بهم حتى تداعى من قواعده وجعل جدره يضرب بعضها بعضاً، ويرميهم بالخشب والحجارة حتى مثل بهم كل مثلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 ورفع القصر فقلبه، فصاروا منكبين وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكبين على رؤوسهم تسيل دماؤهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول: هذا أو نحوه حتى رق قلب أيوب وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: ليت أمّي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك، فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فسبقت توبته إلى الله عزّ وجلّ، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئاً ذليلاً. وقال: إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه، فإنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فقال الله عزّ وجلّ: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة لأيوب ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعالمين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب، فانقض عدوّ الله سريعاً فوجد أيوب في مصلاه ساجداً، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها سائر جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحكها حتى بقل لحمه، وتقطع وتغير وأنتن، وأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، ولما رأى الثلاثة من أصحابه وهم اليفن وبلدد وصابر ما ابتلاه الله تعالى به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه، فبكتوه ولاموه، وقالوا له: تب إلى الله تعالى من الذنب الذي عوقبت عليه، قال وحضره معهم فتى حديث السنّ قد آمن به وصدّقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول، وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم، ولكنكم تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؛ ألم تعلموا أنه أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئاً من أمره منذ ما آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أنه نزع شيئاً منه من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أنّ أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك على سخطه عليهم، ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخبرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 البلاء ولا يعيره بالمصيبة، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه، ويستغفر له، ويحزن لحزنه ويدله على أرشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول، فقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم، ويكسر قلوبكم، ألم تعلموا أنّ لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ، ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإجلالاً له، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار براء، ومع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء. فقال أيوب: إنّ الله سبحانه وتعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله تعالى على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة، ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله تعالى نور الكرامة، ثم أعرض عنهم أيوب عليه السلام يعني الثلاثة وقال: أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، فكيف بي لو قلت تصدقوا عليَّ بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوضتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوباً قد سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم، وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام، وأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستعيناً به مستغفراً متضرّعاً إليه. فقال: يا رب لأيّ شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت، فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني، فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي؛ ألم أكن للغريب داراً وللمسلمين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً؛ إلهي أنا عبدك إن أحسنت إليّ فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي؛ جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً، وقد وقع بي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، فإن قضاءك هو الذي أذلني، وإنّ سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب. ثم نودي: يا أيوب إنّ الله تعالى يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً، قم فأدل بعذرك وتكلم بحجتك، وخاصم عن نفسك، واشدد أزرك، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي؛ لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما بلغ مثله قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمدّ بأطرافها؟ هل أنت علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي: شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها، ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت مني يوم أنبعت الأنهار، وسكرت البحار؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حتى بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أيّ شيء أرسيتها، أم بأيّ مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أيّ شيء أنشىء السحاب؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ أم أين جبال البرد؟ أم أين خزانة الليل بالنهار، وخزانة النهار بالليل؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ من جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار؟ ومن دانت الملائكة لملكه، وقهر الجبارين بجبروته، وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير يدل على كمال قدرته ذكرها لأيوب. فقال أيوب عليه الصلاة والسلام: كلّ شأنيّ وكلّ لساني وكل عقلي ورأيي وضعفت قوّتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي، قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يدك، وتدبير حكمتك، وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت، لا يعجز عنك شيء، ولا تخفى عليك خافية؛ أذلني البلاء يا إلهي، فتكلمت فكان البلاء هو الذي أنطقني، فليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها، ولم أتكلم بشيء يسخط ربي وليتني مت بغمي في أشدّ بلائي قبل ذلك، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت مني فلم أعد قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدي أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء، فأجرني، وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعين بك على أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني، وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني. قال الله تعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي، فقد غفرت لك. فقال أيوب: {أني} قد {مسّني الضّرّ} بتسليطك الشيطان عليَّ في بدني وأهلي ومالي، وقد طمع الآن في ديني وذلك أنه زين لامرأة أيوب أن تأمره أن يذبح لصنم فإنه يبرأ ثم يتوب، ففطن لذلك، وحلف ليضربنها إن برأ مائة جلدة، وقال وهب: لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين، وروي عن أنس يرفعه «أنّ أيوب لبث ببلائه ثمان عشرة سنة» ، وقال كعب سبع سنين، وقال الحسن: مكث أيوب مطروحاً على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وشهراً يختلفون في الدواء ولا يقربه أحد غير امرأته رحمة صبرت معه تحمد الله معه إذا حمد وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى والصبر على بلائه، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؛ قالت: نعم، قال: هل تعرفيني قالت: لا فقال لها أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك لأنه أطاع إله السماء، وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان من مال وولد، وأراها إياهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه؛ قال وهب: وقد سمعت أنه إنما قال لها: لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء، وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها: اسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 والأولاد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها، وما أراها قال: لقد أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة جلدة، وعند ذلك قال: مسني الضرّ من طمع إبليس في سجود حرمتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر {وأنت} أي: والحال أنت {أرحم الراحمين} فافعل بي ما يفعل الرحمن بالمضرور، وهذا تعريض بسؤال الرحمة حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرّح فكان ذلك ألطف في السؤال، فهو أجدر بالنوال. ويحكى أنّ عجوزاً تعرّضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا، فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردّنّها تثب وثب الفهود، وملأ بيتها حباً، ثم إنّ الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها، وأراد أن يبر يمين أيوب فأمره أن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغار، فيضربها به ضربة واحدة كما قال الله تعالى في آية أخرى: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} (ص، 44) وروي أنّ إبليس اتخذ تابوتاً وجعل فيه أدوية وجلس على طريق امرأة أيوب يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب، فقالت: إنّ لي مريضاً أفتداويه قال: نعم ولا أريد شيئاً إلا أن يقول إذا شفيته: أنت شفيتني، فذكرت ذلك لأيوب فقال: هو إبليس قد خدعك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، وقال وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتجيئه بقوته، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلا يستعملها أحد، فالتمست له يوماً من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئاً، فجزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به، فقال لها: أين قرنك، فأخبرته فحينئذٍ قال: مسني الضرّ، وقال قوم: إنما قال ذلك حين قصد الدود إلى قلبه ولسانه، فخشي أن يمتنع عن الذكر والفكر، وقال حبيب بن أبي ثابت: لم يدع الله تعالى بالكشف حتى ظهرت له ثلاثة أشياء. أحدها: قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره، فجاءا إليه ولم تبق إلا عيناه، ورأيا أمراً عظيماً فقالا: لو كان عند الله لك منزلة ما أصابك هذا. والثاني: أنّ امرأته طلبت طعاماً. فلم تجد ما تطعمه، فباعت ذؤابتها، وحملت إليه طعاماً. والثالث: قول إبليس إني أداويه على أن يقول: أنت شفيتني، وقيل: إن إبليس وسوس إليه أن امرأته زنت، فقطعت ذؤابتها فحينئذٍ عيل صبره، وحلف ليضربنها مائة جلدة، وقيل معناه مسني الضرّ من شماتة الأعداء، وقيل: قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فردّها إلى موضعها، وقال: كلي جعلني الله طعامك، فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان فإن قيل: إن الله تعالى سماه صابراً، وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله: أني مسني الضرّ، ومسني الشيطان بنصب؟ أجيب: بأن هذا ليس بشكاية إنما هو دعاء بدليل قوله تعالى: {س21ش84/ش86 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ? فَكَشَفْنَا مَا بِهِ? مِن ضُرٍّ? وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ? وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ? كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَآ? إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ} {فاستجبنا له} والجزع إنما هو الشكوى إلى الخلق، وأما الشكوى إلى الله تعالى، فلا يكون جزعاً، ولا ترك صبر، كما قال يعقوب عليه السلام: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (يوسف، 86) وقال سفيان بن عيينة من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله تعالى لا يكون ذلك جزعاً، كما روي «أن جبريل عليه السلام دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تجدك، قال: أجدني مغموماً أجدني مكروباً» ، وقال صلى الله عليه وسلم «لعائشة رضي الله تعالى عنها حين قالت: وارأساه، بل أنا وارأساه» وروي أن امرأة أيوب قالت له يوماً: لو دعوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 الله فقال لها: كم كانت مدّة الرخاء، فقالت: ثمانين سنة، فقال: أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدّة بلائي مدّة رخائي، ثم تسبب عن الإجابة قوله تعالى: {فكشفنا} أي: بما لنا من العظمة {ما به من ضرّ} بأن أمرناه أن يركض برجله فتنبع له عين من ماء كما قال تعالى: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} (ص، 42) فركض برجله، فانفجرت له عين ماء فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله تعالى كل ما كان به من البلاء بظاهره، ثم مشى أربعين خطوة، فأمره أن يضرب برجله الأرض مرّة أخرى، ففعل، فنبع عين ماء بارد، فأمره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه، فصار كأصح ما يكون من الرجال وأجملهم، فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه، فلم تجده، فقامت كالوالهة، ثم جاءت إليه وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ههنا؟ قال: نعم وما لي لا أعرفه، فتبسم وقال: أنا هو، فعرفته بضحكه، فاعتنقته قال ابن عباس: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى ردّ لهما كل ما كان لهما كما قال تعالى: {وآتيناه أهله} أي: أولاده الذكور والإناث بأن أحيوا له وكل من الصنفين ثلاث أو سبع {ومثلهم معهم} أي: من زوجته رحمة، وزيد في شبابها هذا ما دل عليه أكثر المفسرين، وقيل: آتاه الله تعالى المثل من نسل ماله وولده الذي رده إليه، أي: فولد له من ولده نوافل، وقال: وهب كان له سبع بنات، وثلاثة بنين، وروى الضحاك عن ابن عباس رد إلى امرأته شبابها، فولدت له ستة وعشرين ذكراً، وقال قوم: آتى الله تعالى أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأمّا الذين هلكوا فإنهم لم يردّوا عليه في الدنيا، وقال عكرمة: قيل لأيوب: إنّ أهلك لك في الآخرة، وإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا، فعلى هذا يكون معنى الآية: وآتيناه أهله في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة، وأوتي مثلهم في الدنيا، وروي عن أنس يرفعه «كان لأيوب أندران؛ أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين، فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض» وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكاً فقال: إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك فخرج إليه فأرسل عليه جراداً من ذهب قيل: إنه لما اغتسل وخرج الدود منه جعل الله تعالى لها أجنحة، فطارت فجعلها الله تعالى جراداً من ذهب، وأمطرت عليه، فطارت واحدة فاتبعها وردّها إلى أندره، فقال له الملك: أما يكفيك ما في أندرك، فقال: هذا بركة من بركات ربي، ولا أشبع من بركته، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينما أيوب يغتسل عرياناً خرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك» ، وقوله تعالى: {رحمة} مفعول له: أي: نعمة عظيمةوفخمها بقوله تعالى: {من عندنا} بحيث لا يشك من ينظر ذلك أنا ما فعلناه إلا رحمة منا له، وإنّ غيرنا لا يقدر على ذلك {وذكرى} أي: عظمة عظيمة {للعابدين} أي: كلهم ليتأسوا به، فيصبروا إذا ابتلوا ولا يظنوا أنّ ذلك إنما نزل بهم لهوانهم، ويشكروا فيثابوا كما أثيب، وقيل: لرحمتنا العابدين فإنا نذكرهم بالإحسان ولا ننساهم.l القصة السابعة: قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل المذكورة في قوله تعالى: {وإسماعيل} أي: واذكر إسماعيل بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 إبراهيم عليهما السلام الذي سخرنا له من الماء بواسطة الروح الأمين ما عاش به صغيراً بعدما كان هالكاً لا محالة، ثم جعلناه طعام طعم وشفاء سقم دائماً وصناه وهو كبير من الذبح حين رأى أبوه في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء وحي، {وفديناه بذبح عظيم} (الصافات، 107) {و} اذكر {إدريس} أي: ابن شيث بن آدم عليهم السلام الذي أحييناه بعد موته ورفعناه مكاناً عليا وهو أوّل نبيّ بعث من بني آدم عليهم السلام وتقدّمت قصته في سورة مريم {و} اذكر {ذا الكفل} سمي بذلك قال عطاء: لأن نبياً من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله تعالى إليه أني أريد أن أقبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه، ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى به، فشكر الله له، ونبأه فسمي ذا الكفل، وقال مجاهد لما كبر إليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً من الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل قال: فجمع الناس، فقال: من يقبل مني ثلاثاً أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل فقال: أنا، فاستخلفه، فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة، فدق الباب فقال: من هذا؟ فقال: شيخ كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا ما فعلوا، وجعل يطوّل حتى ذهبت القائلة، فقال: إذا رحت فأتني فإني آخذ حقك، فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه فلم يجده، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينظره، فلم يره. فلما رجع إلى القائلة، وأخذ مضجعه أتاه، فدق الباب، فقال من أنت؟ فقال: الشيخ المظلوم، ففتح له وقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني، فقال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني قال: فانطلق فإذا جلست فأتني وفاتته القائلة، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله: لا تدعوا هذا الرجل يقرب من هذا الباب حتى أنام، فإنه قد شق عليّ النعاس، فلما كانت تلك الساعة جاء، فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر، فرأى كوّة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت يدق عليه الباب من داخل فاستيقظ فقال: يا فلان ألم آمرك قال: أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا بالرجل معه في البيت، فقال: أتنام والخصوم ببابك، فقال: أعدوّ الله قال: نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله تعالى، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، وقيل إن إبليس جاءه وقال: إن لي غريماً يظلمني، فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال صاحبي هرب وقيل: إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله تعالى، فوفى به واختلفوا في أنه هل كان نبياً؟ فقال الحسن: كان نبياً، وعن ابن عباس أنه إلياس، وقيل: هو زكريا، وقيل: هو يوشع بن نون، وقال أبو موسى: لم يكن نبياً، ولكن كان عبداً صالحاً، ولما قرن الله تعالى بين هؤلاء الثلاثة استأنف مدحهم بقوله تعالى {كلٌ} أي: كل واحد منهم {من الصابرين} على ما ابتليناه به فآتيناهم ثواب الصابرين {وأدخلناهم في رحمتنا} أي: فعلنا بهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم، فكان ظرفاً لهم، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنهم من الصالحين} أي: لكل ما يرضاه تعالى منهم يعني أنهم جبلوا جبلة خير، فعملوا على مقتضى ذلك فكانوا من الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء لأنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد. القصة الثامنة: قصة يونس عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى: {وذا النون} أي: واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ويبدل منه {إذ ذهب مغاضباً} واختلفوا في معنى ذلك، فقال الضحاك: مغاضباً لقومه، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان قوم يونس يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبيّ عليه السلام أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبياً قوياً إلى هؤلاء فإني ألقي في قلوبهم الرعب حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة أنبياء فقال يونس: فإنه قويّ أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي قال: لا قال: فهل سماني لك، قال: لا، قال: فههنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، فأتى بحر الروم فركبه، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم به وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي رفع به العذاب عنهم، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذاباً لا كراهية الحكم لله تعالى. وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرب عليه الكذب، فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب والمغاضبة ههنا من المفاعلة التي تكون من واحد كالمنافرة والمعاقبة، فمعنى قوله مغاضباً أي: غضباناً. وقال الحسن: إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليذهب، فقيل له: إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأله أن ينظره إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها، فلم ينظره، وكان في خلقه ضيق، فذهب مغاضباً، وعن ابن عباس قال: أتى جبريل يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال التمس دابة قال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة وقال وهب: إنّ يونس كان عبداً صالحاً، وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوّة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها بين يديه وخرج هارباً، فلذلك أخرجه الله تعالى من أولي العزم، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف، 35) ، وقال: {ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} (القلم، 48) {فظن أن لن نقدر عليه} أي: لن نقضي عليه بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه، فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} (الرعد، 26) وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك، قال: وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية فقال: أويظن نبيّ الله أن لن يقدر عليه، قال هذا من القدر الذي معناه الضيق لا من القدرة، وقال ابن زيد: هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه {فنادى} أي: فاقتضت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 حكمتنا أن عاتبناه حتى يستسلم، فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة، وقال عطاء: سبعة أيام. وقيل: إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة، وقيل: بلغ به تخوم الأرض السابعة، ومنعناه أن يكون له طعاماً، فنادى {في الظلمات} ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وقيل: في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى: {ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات} (البقرة، 17) وقوله: {يخرجهم من النور إلى الظلمات} (البقرة، 257) ، وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فجعل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر {أن لا إله إلا أنت} ولما نزهه عن الشريك عمم فقال تعالى: {سبحانك} أي: تنزهت عن كل نقص فلا يقدر على الإنجاء مما أنا فيه إلا أنت، ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله {إني كنت من الظالمين} أي: في خروجي من بين قومي قبل الإذن فاعف عني كما هي سيرة القادرين. روي عن أبي هريرة مرفوعاً «أوحى الله تعالى إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر؛ قال: فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى فنبذناه بالعراء وهو سقيم» فذلك قوله تعالى: {فاستجبنا له} أي: أجبناه {ونجيناه من الغم} أي: من تلك الظلمات بتلك الكلمات {وكذلك} أي: وكما نجيناه {ننجي المؤمنين} من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين قال الرازي في اللوامع: وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار، وهذا شرط كل داع1.هـ. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» ، وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم على أنّ أصله ننجي، فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون، وهي إن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الذي لمعنى وقيل: هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وهو النجاء، وقرأ الباقون بنونين الثانية مخفاة عند الجيم. تنبيه: اختلفوا في متى كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في سورة والصافات: {فنبذناه بالعراء} (الصافات، 145) ، ثم ذكر بعده: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} (الصافات، 147) ، وقال آخرون: إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات، 144) القصة التاسعة: قصة زكريا عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى: {وزكريا} أي: واذكر زكريا ويبدل منه {إذ نادى ربه} نداء الحبيب القريب فقال: {رب} بإسقاط أداة البعد {لا تذرني فرداً} أي: وحيداً من غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ولد ذكر يرث ما آتيتني من الحكمة {وأنت} أي: والحال أنك {خير الوارثين} أي: الباقي بعد فناء خلقك، وكثيراً ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيداً آخرين، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحب، فتهبني ولداً تمنّ عليَّ به {فاستجبنا له} بعظمتنا وإن كان في حدّ من السن لا حراك به معه، وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها فكيف وقد جاوزت سن اليأس، ولذلك عبر بما يدل على العظمة، فقال تعالى: {ووهبنا له يحيى} ولداً وارثاً نبياً حكيماً عظيماً {وأصلحنا له} خاصة من بين أهل ذلك الزمان {زوجه} أي: جعلناها صالحة لكل خير خالصة له، فأصلحناها للولادة بعد عقمها، وأصلحناها لزكريا بعد أن كانت سريعة الغضب سيئة الخلق، فأصلحناها له ورزقناها حسن الخلق {إنهم} أي: الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة وقيل: زكريا وزوجه ويحيى {كانوا} أي: جبلة وطبعاً {يسارعون في الخيرات} أي: الطاعات يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر، ودل على عظيم أفعالهم بقوله تعالى: {ويدعوننا} مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا {رغباً} أي: طمعاً في رحمتنا {ورهباً} أي: خوفاً من عذابنا {وكانوا} أي: جبلة وطبعاً {لنا} خاصة {خاشعين} أي: خائفين خوفاً عظيماً يحملهم على الخضوع والانكسار، قال مجاهد: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، وقيل: متواضعين، وسئل الأعمش عن هذه الآية فقال: أما إني سألت إبراهيم فقال: ألا تدري؟ قلت: أفدني، قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره عليه وأغلق بابه فلير الله منه خيراً لعلك ترى أنه يأكل خشناً ويلبس خشناً ويطأطىء رأسه. القصة العاشرة: قصة مريم وابنها عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى: {والتي} أي: واذكر مريم التي {أحصنت فرجها} أي: حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدّث به كما قال تعالى حكاية عنها، {ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً} (مريم، 20) ؛ لأنّ ذلك غاية في العفة والصيانة والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة مع ما جمعت مع ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة والصحيح أنها ليست بنبية {فنفخنا فيها من روحنا} أي: أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه تعالى تشريفاً لعيسى عليه السلام كبيت الله وناقة الله. ثم بيّن تعالى ما خص مريم وعيسى من الآيات فقال تعالى: {وجعلناها وابنها} أي: قصتهما أو حالهما، ولذلك وحد قوله تعالى: {آية للعالمين} من الجنّ والإنس والملائكة، وإنّ تأمّل حالهما تحقق كمال قدرة الله تعالى فإن قيل: هلا قال تعالى آيتين كما قال تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} (الإسراء، 12) أجيب: بما تقدّم وبأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل. وههنا آخر القصص. ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أنهم كلهم متفقون على التوحيد الذي هو أصل الدين قال تعالى: {إن هذه} أي: ملة الإسلام {أمّتكم} أي: دينكم أيها المخاطبون أي: يجب أن تكونوا عليها حال كونها {أمة} قال البغوي وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحدأ. هـ فجعل الشريعة أمّة لاجتماع أهلها على مقصد واحدأ. هـ ثم أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالى: {واحدة} فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان {وأنا ربكم} أي: المحسن إليكم لا غيري في كل زمان فإني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 لا أتغير على طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن {فاعبدون} دون غيري فإنه لا كفء لي، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى {وتقطعوا} أي: بعض المخاطبين {أمرهم بينهم} أي: تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى؛ قال الكلبي: فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض. تنبيه: الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبح عليهم فعلهم عندهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه بينهم، فيصير لهذا نصيب، ولذاك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى، ثم توعدهم بقوله تعالى: {كلٌ} أي: من هذه الفرق وإن بالغ في التمرّد {إلينا} يوم القيامة {راجعون} فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنّا نجازيهم إقامة للعدل، فنعطي كلاً من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً إلى الفضل {فمن يعمل} أي: منهم الآن {من الصالحات وهو} أي: والحال أنه {مؤمن} أي: يأتي بعمله على الأساس الصحيح {فلا كفران} أي: لا جحود {لسعيه} بل يشكر ويثاب عليه. تنبيه: قوله تعالى: فلا كفران نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه {وإنّا له} أي: لسعيه {كاتبون} أي: مثبتون في صحيفة عمله وما أثبتناه فهو غير ضائع فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل، ومن المعلوم أنّ قسيمه وهو من يعمل من السيئات وهو كافر، فلا نقيم له وزناً، ومن يعمل منها وهو مؤمن فهو تحت مشيئتنا قال البقاعيّ: ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان، ولما كان هذا غير صريح في أنَّ هذا الرجوع بعد الموت بيّنه بقوله تعالى: {وحرام} أي: ممنوع {على قرية} أي: أهلها {أهلكناها} أي: بالموت {أنهم لا يرجعون} أي: إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحباس بل إلينا بموتهم راجعون فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً أو عذاباً دون النعيم والعذاب الأكبر. تنبيه: ما قدّرناه في الآية هو ما جرى عليه البقاعيّ والذي قدّره الزمخشري أنَّ معنى أهلكناها عزمنا على إهلاكها، أو قدّرنا إهلاكها، ومعنى الرجوع الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة، فتكون لا مزيدة والذي قدّره الجلال المحلي أنّ لا زائدة أي: يمتنع رجوعهم إلى الدنيا فيكون الإهلاك بالموت، وهذا قريب مما قاله ابن عباس فإنه قال: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك، فجعل لا زائدة قال البغويّ وقال آخرون: الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا يكون لا ثابتاً ومعناه واجب على أهل قرية أهلكناهم أي: حكمنا بهلاكهم أن لا تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه تعالى قال في الآية التي قبلها: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} أي: يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقبه وبين أنّ الكافر لايتقبل عمله انتهى والذي قدّره البيضاوي قريب مما قدّره الزمخشري وكل هذه التقادير صحيحة؛ لكن الأوّل أظهر، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء والباقون بفتح الحاء والراء وألف بعد الراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 قال البغوي: وهما لغتان مثل حل وحلال، وقوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} متعلق كما قال الزمخشري بحرام وحتى غاية له؛ لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام أي: فهي الابتدائية لا الجارّة ولا العاطفة والمحكي هو الجملة الشرطية، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان اسم لقبيلتين من جنس الإنس ويقدر قبله مضاف أي: سدّهما، وذلك قرب الساعة يقال الناس عشرة أجزاء؛ تسعة منها يأجوج ومأجوج، وقرأهما عاصم بهمزة ساكنة والباقون بالألف، ثم عبّر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {من كل حدب} أي: نشز عال من الأرض {ينسلون} أي: يسرعون من النسلان، وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب، وفي العبارة إيماء إلى أنّ الأرض كرة، وقيل: الضمير راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر. روي عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: «اطلع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ما تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة، قال: إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» {واقترب الوعد الحق} أي: يوم القيامة؛ قال حذيفة: لو أنّ رجلاً اقتنى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} قال الكلبيّ: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم. تنبيه: فإذا هي إذا للمفاجأة وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء كقوله تعالى: {إذا هم يقنطون} (الروم، 36) ، فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكد، ولو قيل: إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة كان سديداً، قال سيبويه: والضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة يعني القصة أنّ أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك، وقال الزمخشري: هي ضمير مبهم توضحه الأبصار، وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا النجوى وقولهم: {يا ويلنا} أي: هلاكنا متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا، ويقولون في موضع الحال من الذين كفروا ويا للتنبيه {قد كنا} أي: في الدنيا {في غفلة من هذا} أي: اليوم حيث كذبنا وقلنا: إنه غير كائن، ثم أضربوا عن الغفلة فقالوا: {بل كنا ظالمين} أنفسنا بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمّل دلائله، والنظر في مخايله، وكذبنا الرسل وعبدنا الأوثان، وقوله تعالى: d {إنكم} خطاب لأهل مكة، وأكده لإنكارهم مضمون الخبر {وما تعبدون من دون الله} أي: غيره من الأوثان {حصب جهنم} أي: وقودها، وهو ما يرمى به إليها وتهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصب والحصب في لغة أهل اليمن الحطب، وقال عكرمة: هو الحطب بالحبشية قال الضحاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصب، وقوله تعالى: {أنتم لها واردون} أي: داخلون استئناف أو بدل من حصب جهنم، واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أنّ ورودهم لأجلها {لو كان هؤلاء} أي: الأوثان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 {آلهة} أي: كما زعمتم {ما وردوها} أي: ما دخل الأوثان وعابدوها النار، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياءً خالصة في الوصل بعد تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما {وكل} أي: من العابدين والمعبودين {فيها} أي: في جهنم {خالدون} لا انفكاك لهم عنها بل يحمى بكل منهم فيها على الآخر فإن قيل: لم قرنوا بآلهتهم؟ أجيب: بأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب؛ لأنهم قدروا أنهم يستشفعون في الآخرة وينتفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم. فإن قيل: إذا عنيت بما تعبدون الأوثان فما معنى قوله تعالى: {لهم فيها زفير} أي: تنفس عظيم على غاية من الشدّة والمد تكاد تخرج معه النفس؟ أجيب: بأنهم إذا كانوا هم وأوثانهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم: زفير، وإن لم يكن الزافرون إلا هم دون الأوثان للتغليب ولعدم الإلباس {وهم فيها لا يسمعون} شيئاً لشدّة غليانها، وقال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنّ أحداً يعذب في النار غيره، وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم إنكم وما تعبدون من دون الله الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعري السلمي، فرآهم يتهامسون فقال: فيم خوضكم، فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعري: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} أي: الحكم بالموعدة البالغة في الحسن في الأزل، ومنهم من ذكر سواء أضل بأحد منهم الكفار فأطروه أم لا {أولئك} أي: العالو الرتبة {عنها} أي: جهنم {مبعدون} برحمة الله تعالى لأنهم أحسنوا في العبادة واتقوا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وفي رواية ابن عباس «أن ابن الزبعرى لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت ولم يجب، فضحك القوم، فنزل قوله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدّون وقالوا: أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} ، ونزل في عيسى والملائكة أن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية، وقد أسلم ابن الزبعري بعد ذلك رضي الله تعالى عنه، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم وادّعى جماعة أنّ المراد من الآية الأصنام؛ لأنّ الله تعالى قال: وما تعبدون من دون الله، ولو أراد الملائكة والناس لقال: ومن تعبدون، يروى أن علياً رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول: {لا يسمعون حسيسها} أي: حركتها البالغة وصوتها الشديد، فكيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 بما دونه؛ لأنّ الحس مطلق الصوت أو الصوت الخفي كما قاله البغوي، فإذا زادت حروفه زاد معناه، فذكر ذلك بدلاً من مبعدون أو حال من ضميره للمبالغة في إبعادهم عنها {وهم} أي: الذين سبقت لهم منا الحسنى {في ما اشتهت أنفسهم} في الجنة كما قال تعالى: {وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف، 71) والشهوة طلب النفس اللذة {خالدون} أي: دائماً أبداً في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به. فائدة: في هنا مقطوعة من ما ولما كان معنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال أكده بقوله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} قال الحسن: هو حين يؤمر بالعبد إلى النار، وقال ابن عباس: هو النفخة الأخيرة لقوله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض} (النمل، 78) ، وقال ابن جريج: هو حين يذبح الموت وينادى: يا أهل النار خلود بلا موت، وقال سعيد بن جبير هو أن تنطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله تعالى منها من يريد أن يخرجه {وتتلقاهم} أي: تستقبلهم {الملائكة} قال البغوي: على أبواب الجنة يهنونهم، وقال الجلال المحلي: عند خروجهم من القبور، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين ويقولون لهم: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} أي: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا فيه بجميع ما يسركم، ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال تتشوّف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه قال تعالى: {يوم} أي: تكون هذه الأشياء يوم {نطوي السماء} طياً، فتكون كأنها لم تكن ثم صوّر طيها بما يعرفونه، فقال مشبهاً للمصدر الذي دل عليه الفعل {كطيّ السجلّ} ، واختلف في السجلّ فقال بعضهم: هو الكاتب الذي له العلوّ والقدرة على مكتوبه {للكتاب} أي: القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وقال السدّي: هو ملك يكتب أعمال العباد، وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والكتاب على هذه الأقوال اسم للصحيفة المكتوب فيها، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون: السجل الصحيفة والمعنى كطيّ الصحيفة على مكتوبها، والطي هو الدرج، وهو ضدّ النشر، وإنما وقع هذا الاختلاف؛ لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب قاله في القاموس، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الكاف والتاء على الجمع، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء، وبين الكاف والتاء ألف على الإفراد، فقراءة الإفراد لمقابلة لفظ السماء والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السموات تطوى. روي عن ابن عباس أنه قال: يطوي الله تعالى السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه أي بقدرته، حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة، وروي عن ابن عباس أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً أي: غير مختونين» {كما بدأنا أوّل خلق نعيده} أي: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً غير مختونين نعيدهم يوم القيامة؛ نظيره قوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة} (الأنعام، 94) {وعداً} وأكد ذلك بقوله تعالى {علينا} وزاده بقوله تعالى: {إنّا كنّا} أي: أزلاً وأبداً على حالة لا تحول {فاعلين} أي: شأننا أن نفعل ما نريد لا كلفة علينا في شيء من ذلك، ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 كتب الله تعالى المنزلة والذكر أمّ الكتاب الذي عنده، ومعناه من بعدما كتب ذكره في اللوح المحفوظ، وقال ابن عباس والضحاك: الزبور والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة، وقال الشعبي: الزبور كتاب داود الذكر التوراة، وقيل: الزبور كتاب داود عليه السلام، والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك} (الكهف، 79) أي: أمامهم، وقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات، 30) أي: قبله، وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها {أن الأرض} أي: أرض الجنة {يرثها عبادي} وحقق ذلك ما أفادته إضافتهم إليه بقوله تعالى: {الصالحون} أي: المتحققون بأخلاق أهل الذكر، المقبلون على ربهم الموحدون له، المشفقون من الساعة، الراهبون من سطوته، الراغبون في رحمته، الخاشعون له، فهذا عام في كل صالح، وقال مجاهد: يعني أمّة محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء} (الزمر، 74) وقال ابن عباس: أراد أنّ أراضي الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين، وقيل: أراد بالأرض الأرض المقدسة، وقيل: أراد جنس الأرض الشامل لبقاع أرض الدنيا كلها ولأرض المحشر والجنة وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى، وجرى على هذا البقاعي في تفسيره، وقرأ حمزة بسكون الياء، والباقون بفتحها {إنّ في هذا} أي: القرآن كما قاله البغوي {لبلاغاً} أي: وصولاً إلى البغية، فإن من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، وقيل: بلاغاً أي: كفاية يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي: كفاية، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر، وقال الرازي: هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة {لقوم عابدين} أي: عاملين به، وقال ابن عباس: عالمين، قال الرازي: والأولى أنهم الجامعون بين أمرين؛ لأن العلم كالشجرة، والعمل كالثمر والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن، وقال كعب الأحبار هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس، وشهر رمضان، ولما كان هذا مشيراً إلى إرشادهم فكان التقدير فما أرسلناك إلا لإسعادهم عطف عليه قوله تعالى: {وما أرسلناك} أي: على حالة من الأحوال {إلا} على حال كونك {رحمة للعالمين} كلهم أهل السموات وأهل الأرض من الجنّ والإنس وغيرهم طائعهم بالثواب وعاصيهم بتأخير العقاب الذي كنا نستأصل الأمم به، فنحن نمهلهم ونترفق بهم إظهاراً لشرفك، وإعلاء لقدرك، ثم نردّ كثيراً منهم إلى دينك ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك بعد طول ارتكابهم الضلال، وارتباكهم في إشراك المحال، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين، وتقوم الملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم، ويموج بعضهم في بعض من شدّة ما هم فيه يطلبون من يشفع لهم فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام، فيحيل بعضهم على بعض وكل منهم يقول: لست لها حتى ىأتوه صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها» ، ويقوم معه لواء الحمد، فيشفعه الله تعالى، وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين، ولما أورد تعالى على الكفار الحجج في أن لا إله سواه وبيّن أنه أرسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد} أي: ما يوحى إلي في أمر الإله إلا وحدانيته وما إلهكم إلا إله واحد لم يوح إلي فيما تدّعون من الشركة غير ذلك فالأوّل من قصر الصفة على الموصوف، والثاني: من قصر الموصوف على الصفة والمخاطب بهما من يعتقد الشركة فهو قصر قلب، وقال الزمخشري: إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية؛ لأن إنما يوحي إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم إله واحد بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله تعالى بالوحدانية انتهى. ولما كان الوحي الوارد على هذه السنن موجباً أن يخلصوا التوحيد لله تعالى قال صلى الله عليه وسلم {فهل أنتم مسلمون} أي: منقادون لما يوحى إلي من وحدانية الإله، والاستفهام بمعنى الأمر أي: أسلموا {فإن تولوا} أي: لم يقبلوا ما دعوتهم إليه {فقل} أي: لهم {آذنتكم} أي: أعلمتكم بالحرب كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ إليهم العهد وأشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعاً بذلك، وقوله: {على سواء} حال من الفاعل والمفعول أي: مستوين في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم ولا أستبدّ به دونكم لتتأهبوا {وإن} أي: وما {أدري أقريب} جدّاً بحيث يكون قربه على ما يتعارفونه {أم بعيد ما توعدون} من غلب المسلمين عليكم أو عذاب الله أو القيامة المشتملة عليه، وإنّ ذلك كائن لا محالة ولا بدّ أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك؛ لأنّ الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه، وإنما يعلمه الله تعالى {إنه} تعالى {يعلم الجهر من القول} أي: مما يجهرون به من العظائم وغير ذلك، ونبه تعالى على ذلك فإنّ من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين، فأعلم سبحانه وتعالى أنه لا يشغله صوت عن آخر، ولا يفوته شيء من ذلك ولو كثر {ويعلم ما تكتمون} مما تضمرونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين، ونظير ذلك قوله تعالى في أول السورة: {قل ربي يعلم القول في السماء والأرض} (الأنبياء، 4) ومن لازم ذلك من المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل فستعلمون كيف تخيب ظنونكم ويتحقق ما أقول فتنطقون حينئذٍ بأني صادق ولست بساحر ولا شاعر ولا كاهن، فهو من أبلغ التهديد، فإنه لا أبلغ من التهديد بالعلم، ولما كان الإمهال قد يكون نعمة وقد يكون نقمة قال: {وإن} أي: وما {أدري} أن يكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أم لا {لعله} أي: تأخير العذاب {فتنة} أي: اختبار {لكم} ليظهر ما يعلمه منكم من السر لغيره لأنّ حالكم حال من يتوقع منه ذلك {ومتاع} لكم تتمتعون به {إلى حين} أي: بلوغ مدّة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل، ثم يأخذكم بغتة وأنتم لا تشعرون، ولما كان لله أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل، وكان من العدل جواز تعذيب الله تعالى الطائع وتنعيم المؤمن العاصي، وكان صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية في البيان لهم، وهم قد بلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه أمر الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه تسلية له بقوله تعالى: {قل رب} أيها المحسن إليّ {احكم} أي: أنجز الحكم بيني وبين قومي {بالحق} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 أي: بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان، وقرأ حفص بفتح القاف وألف بعدها، وفتح اللام بصيغة الماضي على حكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم والباقون بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر فإن قيل: كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احكم بالحق والله تعالى لا يحكم إلا بالحق؟ أجيب: بأن الحق ههنا بمعنى العذاب، فكأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر، نظيره قوله: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} (الأعراف، 89) ، وقال أهل المعاني: معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، والله تعالى يحكم بالحق طلب أم لم يطلب، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق {وربنا} أي: المحسن إلينا أجمعين {الرحمن} أي: العام الرحمة لنا ولكم بإدرارها علينا، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين، وإن كنا نحن أطعناه لأنّا لا نقدره حقّ قدره، {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر، 45) {المستعان} أي: المطلوب منه العون {على ما تصفون} من كذبكم على الله تعالى في قولكم: اتخذ الله ولداً، وعليّ في قولكم ساحر، وعلى القرآن في قولكم شعر قال الرازي: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في حروبه، ولم يذكر له سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ اقترب حاسبه الله حساباً يسيراً، وصافحه وسلم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن» ، فحديث موضوع والله تعالى أعلم بالصواب. سورة الحج مكية إلا {ومن الناس من يعبد الله على حرف} الآيتين وإلا {هذان خصمان} الست آيات فمدنيات، وهي ثمان، وقيل: خمس أو ست أو سبع وسبعون آية. {بسم الله} أي: الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء {الرحمن} الذي عمّ برحمته كل موجود {الرحيم} الذي خص بفضله من شاء من عباده. ولما ختمت السورة التي قبل هذه بالترهيب من الفزع الأكبر وطي السماء وإتيان ما يوعدون، وكان أعظم ذلك يوم الدين افتتحت هذه السورة بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم بقوله تعالى: {يا أيها الناس} أي: الذين تقدّم أوّل تلك أنه اقترب لهم حسابهم إن أريد أنّ ذلك عام وإلا فهم وغيرهم {اتقوا} أي: احذروا عقاب {ربكم} أي: المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية الطاعات، ولما أمرهم بالتقوى علل ذلك مرهباً لهم بقوله تعالى: {إنّ زلزلة الساعة} أي: حركتها الشديدة للأشياء على الإسناد المجازي، فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله، ويصح أن يكون إلى المفعول فيه على طريق الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} (سبأ، 33) ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} (الزلزلة، 1) واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة، وعن علقمة والشعبي عند طلوع الشمس من مغربها الذي هو أقرب للساعة {شيء عظيم} أي: أمر كبير وخطر جليل وحادث هائل لا تحتمل العقول وصفه وهذا للزلزلة نفسها، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بدّ لكم من الحشر فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 إلى الله تعالى ليجازيكم على ما كان منكم لا ينسى منه نقير ولا قطمير {يوم ترونها} أي: الزلزلة أو الساعة، أو كل مرضعة أضمرها قبل الذكر تهويلاً للأمر، وترويعاً للنفس {تذهل} بسبب ذلك {كل مرضعة} أي: بالفعل أي: تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، والعامل في يوم تذهل. فإن قيل: لم قال تعالى: {مرضعة} ، ولم يقل: مرضع؟ أجيب: بأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للطفل والمرضع التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وضعها، فقال: مرضعة ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت ثديها تنزعه من فيه لما يلحقها من الدهشة {عما أرضعت} عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته، وهو الطفل، فما إمّا مصدرية أو موصولة {وتضع كل ذات حمل حملها} أي: تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً. تنبيه: هذا ظاهر على القول الثاني وهو قول علقمة والشعبيّ على أنّ ذلك يكون عند طلوع الشمس من مغربها، وأمّا على القول الأوّل وهو قول الحسن على أنّ ذلك يوم القيامة كيف يكون ذلك؟ فقيل: هو تصوير لهولها، قاله البيضاوي، وقال البقاعي في المرضعة: هي من ماتت مع ابنها رضيعاً، وفي ذات الحمل: من ماتت حاملاً، فإنّ كل أحد يقوم على ما مات عليه، وهذا أولى فإني في حال كتابتي في هذا المحل حضر عندي سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته، فذكرت له هذين القولين، فانشرح صدره لترجيح هذا الثاني، وذلك يوم تاسوعاء من شهر الله المحرّم سنة ست وخمسين وتسعمائة، وعن الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام. ويؤيد أنّ هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك ـ زاد في رواية والخير في يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار؛ قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تضع الحوامل حملها، ويشيب الوليد وساق بقية الآية» ، وهي {وترى الناس سكارى} أي: لما هم فيه من الدهشة والحيرة، ثم بيّن الله تعالى أنّ ذلك ليس بسكر حقيقة بقوله تعالى: {وما هم بسكارى} أي: من الشراب، ولما نفى أن يكونوا سكارى من الشراب أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة بقوله: {ولكنّ عذاب الله} ذي العزة والجبروت {شديد} فهو الذي أوجب أن يظن بهم السكر؛ لأنّ هوله أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم، تم الحديث عند آخر الآية، «فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم زاد في رواية قالوا: يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار، وإني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبّرنا» ، وفي رواية: «إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة» . روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فلم نرَ أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال ذلك يوم يقول الله لآدم: قم فابعث بعث النار ـ وذلك نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ـ ثم قال: «يدخل من أمّتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب» قال عمر: سبعون ألفاً؟ قال: «نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً» . وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وسكون الكاف فيهما، والباقون بضم السين وفتح الكاف وبعد الكاف ألف، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح. ونزل في النضر بن الحرث، وكان كثير الجدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وكان ينكر البعث وإحياء من صار تراباً {ومن الناس} أي: المذبذبين {من} لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيبها، فيكذب فيؤبق بسوء عمله؛ لأنه {يجادل في الله} أي: في قدرته على ذلك اليوم، وفي غير ذلك بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم {بغير علم} بل بالباطل الذي هو جهل صرف فيترك اتباع الهداة {ويتبع} بغاية جهده في جداله {كل شيطان} محترق بالسوء مبعد باللعن {مريد} أي: متجرّد للفساد ولا شغل له غيره؛ قال البيضاوي: وأصله العري أي: عن الساتر {كتب} أي: قدّر وقضي على سبيل الحتم الذي لا بدّ منه تعبيراً باللازم عن الملزوم {عليه} أي: على ذلك الشيطان {أنه} أي: الشأن {من تولاه} أي: فعل معه فعل الولي مع وليه باتباعه والإقبال على ما يزينه {فإنه يضله} بما يبغض إليه من الطاعات، فيخطىء سبيل الخير {ويهديه} أي: بما يزين له من الشهوات الحاملة على الزلات {إلى عذاب السعير} أي: النار، ثم ألزم الحجة منكري البعث بقوله تعالى: {يا أيها الناس} أي: كافة ويجوز أن يراد به المنكر فقط {إن كنتم في ريب} أي: شك وتهمة وحاجة إلى البيان {من البعث} وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها فتفكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أنّ القادر على خلقكم أوّلاً قادر على خلقكم ثانياً، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة: المرتبة الأولى: قوله تعالى: {فإنّا خلقناكم} بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء {من تراب} لم يسبق له اتصاف بالحياة، وفي الخلق من تراب وجهان؛ أحدهما: أنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه الصلاة والسلام من تراب كما قال تعالى: {كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران، 59) ، الثاني: من الأغذية والأغذية إمّا حيوانية وإما نباتية وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعاً للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله تعالى: {إنا خلقناكم من تراب} . المرتبة الثانية: قوله تعالى: {ثم من نطفة} وحالها أبعد شيء عن حال التراب فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال تعالى: {من ماء دافق} وأصلها الماء القليل؛ قاله البغوي، وأصل النطف الصب؛ قاله البيضاوي. المرتبة الثالثة: قوله تعالى: {ثم من علقة} أي: قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة. المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {ثم من مضغة} أي: قطعة لحم صغيرة وهي في الأصل قدر ما يمضغ {مخلقة} أي: مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب يقال: خلق السواك والعود سوّاه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء {وغير مخلقة} أي: وغير مسوّاة، فكأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد: المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط، وقال قوم: المخلقة المصوّرة وغير المخلقة غير المصوّرة، وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل، واحتجوا بما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه قال: إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال: غير مخلقة قذفها في الرحم دماً، ولم تكن نسمة، وإن قال: مخلقة قال الملك: أي رب ذكر أم أنثى، وشقيّ أم سعيد، ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض تموت؟ فيقال له: اذهب إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أمّ الكتاب فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» فكأنه تعالى يقول: إنما نقلناكم من حال إلى حال، ومن خلقه إلى خلقة {لنبيّن لكم} بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا، وإنّ من قدر على خلق البشر من التراب والماء أوّلاً، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبدأه بل هو أدخل في القدرة من تلك وأهون في القياس، وورود الفعل غير معدّى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يحيط به الوصف ولا يكتنهه الذكر {ونقرّ في الأرحام} أي: من ذلك الذي خلقناه {ما نشاء} إتمامه {إلى أجل مسمى} هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه آخر أربع سنين بحسب قوّة الأرحام وضعفها، وقوّة المخلقات وضعفها وكثرة تغذيه من الدماء، وقلته إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا باريها جلت قدرته وتعالت عظمته، وما لم نشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته دون التمام، أو تحرقه فيضمحل. المرتبة الخامسة: قوله تعالى: {ثم نخرجكم طفلاً} وهو معطوف على نبين، ومعناه خلقناكم مدرّجين هذا التدريج لغرضين أحدهما: أن نبين قدرتنا، والثاني: أن نقرّ في الأرحام من نقرّ حتى تولدوا في حال الطفولية من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر، وجميع الحواس لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم. المرتبة السادسة: قوله تعالى: {ثم} أي: نمدّ أجلكم {لتبلغوا} بهذا الانتقال في أسنان الأجسام من الرضاع إلى المراهقة إلى البلوغ إلى الكهولة {أشدكم} أي: الكمال والقوّة، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين جمع شدّة كالأنعم جمع نعمة كأنه شدّة في الأمور. المرتبة السابعة: قوله تعالى: {ومنكم من يتوفى} أي: عند بلوغ الأشدّ أو قبله {ومنكم من يردّ} بالشيخوخة وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه لاستبعاده لولا تكرار المشاهدة عند الناظر لتلك القوّة والنشاط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط {إلى أرذل} أي: أخس {العمر} وهو سنّ الهرم فتنقص جميع قواه {لكيلا يعلم من بعد علم} كان أوتيه {شيئاً} أي: ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر من عرفه حتى يسأل عنه من ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. فإن قيل: هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أجيب: بأن معنى قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين} هو دلالة على الذمّ، فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة، ولذلك قال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لكن قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة، وقد علم بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، ولما تم هذا الدليل على الساعة بحكم المقدّمات وأصح النتائج، وكان أوّل الإيجاد فيه غير مشاهد ذكر الله تعالى دليلاً آخر على البعث مشاهداً بقوله: {وترى الأرض هامدة} أي: يابسة ساكنة سكون الميت {فإذا أنزلنا} أي: بما لنا من القدرة {عليها الماء اهتزت} أي: تحركت وتأهلت لإخراج النبات {وربت} أي: ارتفعت، وذلك أوّل ما يظهر منها للعين، وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء، وقوله تعالى: {وأنبتت} مجاز؛ لأنّ الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعاً أي: أنبتت بتقديرنا لا أنها المنبتة {من كل زوج} أي: صنف {بهيج} أي: حسن نضير من أشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ومقاديرها، قال الجلال المحلي: من زائدة، ولم أرَ من ذكر ذلك من المفسرين. تنبيه: في الآية إشارة إلى أنّ النبات كما يتوجه من نقص إلى كمال، فكذلك الإنسان المؤمن يترقى من نقص إلى كمال، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعدّ له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود في دار السلام مبرأ عن عوارض هذا العالم، ولما قرّر سبحانه هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة، وذكر أموراً خمسة أحدها قوله تعالى: {ذلك} أي: المذكور من بدء الخلق إلى آخر إحياء الأرض {بأنّ} أي: بسبب أن تعلموا أنّ {الله} أي: الجامع لأوصاف الكمال {هو} أي: وحده {الحق} أي: الثابت الدائم وما سواه فان، ثانيها قوله تعالى: {وأنه يحيي الموتى} أي: قادر على ذلك وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة، ثالثها: قوله تعالى: {وأنه على كل شيء} من الخلق وغيره {قدير} {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس، 82) ، رابعها: قوله تعالى: {وأن الساعة} التي تقدّم ذكرها وتقدّم التحذير منها وهي حشر الخلائق كلهم {آتية لا ريب} أي: لا شك {فيها} أي: بوجه من الوجوه مما دلّ عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله، وهو حكيم لا يخلف ميعاده، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب، خامسها: قوله تعالى: {وأنّ الله يبعث} بالإحياء {من في القبور} بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بدّ أن يفي بما وعد ونزل في أبي جهل بن هشام كما قاله ابن عباس: {ومن الناس من يجادل} أي: بغاية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 جهده {في الله} أي: في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل له ولا خفاء فيه {بغير علم} أتاه عن الله تعالى على لسان أحد من أصفيائه أعمّ من أن يكون كتاباً أو غيره {ولا هدى} أرشده إليه أعمّ من كونه بضرورة أو استدلال {ولا كتاب منير} له نور منه صح لديه أنه من الله تعالى، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل، وقيل: قوله تعالى: {ومن الناس} كرّر كما كرّرت سائر الأقاصيص، وقيل: الأوّل في المقلدين، وهذا في المقلدين، وقوله تعالى: {ثاني عطفة} حال أي: لاوي عنقه تكبراً عن الإيمان كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً} (لقمان، 7) والعطف في الأصل الجانب عن يمين أو شمال، وقوله تعالى: {ليضلّ عن سبيل الله} علة للجدال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بضمها. فإن قيل: على قراءة الضمّ ما كان غرضه في جداله الضلال لغيره عن سبيل الله، فكيف علل به وما كان على قراءة الفتح مهتدياً حتى إذا جادل خرج بالجدال عن الهدى إلى الضلال؟ أجيب عن الأوّل: بأن جداله لما أدّى إلى الضلال جعل كأنه غرضه، وعن الثاني: بأنّ الهدى لما كان معرّضاً له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال الباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. ولما ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه في الدنيا بقوله تعالى: {له في الدنيا خزي} أي: إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه، وما أعدّ له عليه في الآخرة بقوله تعالى: {ونذيقه يوم القيامة} الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت {عذاب الحريق} أي: الإحراق بالنار، وعن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرّة ويقال له حقيقة أو مجازاً. {ذلك} أي: العذاب العظيم {بما قدمت يداك} أي: بعملك، ولكن جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد؛ لأنها آلة أكثر العمل وإضافة ما يؤدي إليهما أنكى {وأنّ} أي: وبسبب أنّ {الله ليس بظلام} أي: بذي ظلم ما {للعبيد} وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم أو أن المبالغة لكثرة العبيد. ونزل في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت به خيراً، واطمأن به، وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرّاً، فينقلب عن دينه {ومن الناس من يعبد الله} أي: يعمل على سبيل الاستمرار والتجدّد بما أمر الله به من طاعته {على حرف} فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة استمرّ، وإن توهم خوفاً طار وفرّ، وذلك معنى قوله تعالى: {فإن أصابه خير} أي: من الدنيا {اطمأنّ به} أي: بسببه وثبت على ما هو عليه {وإن أصابته فتنة} أي: محنة وسقم في نفسه وماله {انقلب على وجهه} أي: رجع إلى الكفر، وعن أبي سعيد الخدريّ: «أن رجلاً من اليهود أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني، فقال: إن الإسلام لا يقال، فنزلت» ولما كان انقلابه هذا مفسدة لدنياه ولآخرته قال تعالى: {خسر الدنيا} بفوات ما أمّله منها ويكون ذلك سبب التقتير عليه قال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وروي إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيب} . {والآخرة} بالكفر، ثم عظم مصيبته بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر العظيم {هو} أي: لا غيره. {الخسران المبين} أي: البين إذ لا خسران مثله ثم بين هذا الخسران الذي ردّه إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفيّ بقوله تعالى: {يدعو} أي: يعبد حقيقة أو مجازاً {من دون اللَّه} أي: غير من الصنم {ما لا يضرّه} إن لم يعبده {وما لا ينفعه} إن عبده {ذلك} أي: الدعاء {هو الضلال البعيد} عن الحق والرشاد استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً فطالت وبعدت مسافة ضلاله. ولما كان الإحسان جالباً للإنسان لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بَيَّن أن ما قيل في جلب النفع إنما هو على سبيل الفرض، فقال تعالى: {يدعو لمن} أي: من {ضرّه} بكونه معبوداً، لأنه يوجب القتل والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة {أقر من نفعه} الذي يتوقع منه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى. تنبيه: علم مما تقرّر أنّ اللام في لمن مزيدة كما قال الجلال المحلي، {فإن قيل} : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا متناقض. (أجيب) بأنّ المعنى إذا حصل ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضرّاً ولا نفعاً فيه بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع به ثم يوم القيامة يقوم هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم بدليل قوله تعالى: {لبئس المولى} أي: الناصر هو {ولبئس العشير} أي: الصاحب هو قال الرازيّ وهذا الوصف بالرؤساء أليق لأنّ ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء. ولما بين سبحانه وتعالى حال الكفار عقبه بحال المؤمنين بقوله تعالى: {إنّ الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص {يُدخل الذين آمنوا} بالله ورسله {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان {جنات تجري من تحتها} أي: في أيّ مكان من أرضها {الأنهار} . ولما بين سبحانه وتعالى حال الفريقين قال تعالى {إن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يفعل ما يريد} من إكرام من يطيعه وإهانة من بعصيه لا دافع له ولا مانع وقوله تعالى: {من كان يظنّ أن لن بنصره الله في الدنيا والآخرة} فيه اختصار والمعنى أنّ الله ناصر رسوله في الدنيا والآخر فمن كان يظنّ خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فالضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل لم يجرل هـ ذكر في هذه الآية {أجيب} بأنّ فيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله تعالى: {إن الله يُدخل الذين آمنوا} والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله، وقيل: الضمير راجع إلى من في أوّل الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى المذكور إذا أمكن ذلك، وعلى هذا المراد بالنصر الرزق. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله؟ أي: من يعطني أعطاه الله فكأنه قال من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة {فليمدد بسبب} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 بحبل {إلى السماء} أي: سقف بيته يشدّ بينه وبين عنقه {ثم ليقطع} أي: ليختنق به بأن يقطع نفسه من الأرض كما في الصحاح. وقيل: فليمدد حبلاً إلى سماء الذنيا ثم ليصعد عليه فيجتهد في دفع نصر النبي صلى الله عليه وسلم على الأوّل، أو يحصل رزقه على الثاني، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام والباقون بسكونها {فلينظر} ببصره وبصيرته {هل يُذهبنّ} وإن اجتهد {كيده} في عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته أو أنّ ذلك لا يغلب القسمة فإنّ الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع: اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا، مت غيظاً ونحو ذلك، والحاصل: إن لم يصبر طوعاً صبر كرهاً واختلف في سبب نزول هذه الآية على القولالأوّل فذكروا فيها وجوهاً. أحدها: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على الكفار يستبطؤن ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت. ثانيها: قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أنّ الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائهنا من اليهود فلا يميروننا. ثالثها: أنّ حساده وأعداءه كثيرة وكانوا يتوقعون أن لا ينصره وأن لا يعينه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك {وكذلك} أي: ومثل ما أنزلنا هذه الآيات لبيان حكمها وإظهار أسرارها {أنزلناه} أي: القرآن الباقي وقوله تعالى: {آيات بينات} أي: معجزاً نظمها كما كان معجزاً حكمها حال وقوله تعالى: {وأنّ الله} أي: الموصوف بالإكرام كما هو موصوف على محل أنزلناه. ولما قال تعالى: {وأنّ الله يهدي من يريد} أنبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه، وبدأ بالقسم الأوّل بقوله: {إن الذين آمنوا} بالله ورسوله وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان الذي هو أدنى وجوه الإيمان ثم شرع في القسم الثاني بقوله تعالى: {والذين هادوا} أي: انتحلوا دين اليهودية {والصابئين} وهم فرقة من النصارى سميت بذلك قيل: لنسبتها إلى صابي عم نوح عليه السلام، وقيل: لخروجهم عن دين إلى دين لآخر، وإطلاق الصابئة على هذا هو المشهور وتارة يوافقونهم في أصول دينهم فتحل مناكحتهم وتارة يخالفونهم فلا تحل مناكحتهم وتطلق أيضاً على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة ويضيفون الآثار إليها وينفون الصانع المختار فهؤلاء لا تحل مناكحتهم وقد أفتى الإصطخري والمحاملي بقتلهم لما استفتى القاهر الفقهاء فيهم فبذلوا له أموالاً كثيرة فتركهم والبلاء قديم وقرأ نافع بالياء التحتية بعد الباء والباقون بهمزة مكسورة بعد الباء الموحدة {والنصارى} أي: الذين انتحلوا دين النصرانية {والمجوس} قال قتادة: هم عبدة الشمس والقمر والنيران قال: {والذين اشركوا} هم عبدة الأوثان قال مقاتل: الأديان كلها ستة واحد للرحمن وهو الإسلام، وخمسة للشيطان وقيل: خمسة، أربعة للشيطان، وواحد للرحمن بجعل الصابئين مع النصارى لأنهم فرع منهم كما مر على المشهور وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة {إنّ الله} الذي هو أحكم الحاكمين {يفصل بينهم يوم القيامة} بإدخال المؤمنين الجنة وغيرهم النار وأدخلت إنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير: u *إنّ الخليفة إنّ اللَّه سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم ثم ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال {على كل شيء} من الأشياء كلها {شهيد} أي: عالم به علم مشاهدة {ألم تر} أي تعلم {أن الله يسجد له} أي: يخضع منقاداً لأمره سبحانه مسخراً لما يريد منه تسخير من هو في غاية الإجتهاد في العبادة والإخلاص فيها {من في السموات ومَنْ في الأرض} إن خصصت بذلك العاقل أفهم خضوع غيره من باب أولى وإن أدخلت غير العاقل فبالتغليب ثم أتبعه بأشرف ما ذكر مما لا يعقل لأنّ كلاً منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال تعالى: {والشمس والقمر والنجوم} من الأجرام العلوية فعبد الشمس حمير، والقمر كنانة، والدبران تميم، والشعري لخم، والثريا طيىء، وعطارد أسد، قاله أبو حيان، روى عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلاً يطوف بالبيت ويبكي فإذا هو طاووس فقال أعجبت من بكائي؟ قلت: نعم. قال: ورب الكعبة إن هذا القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له. ثم أتبع ذلك أعلى الذوات السفلية فقال {والجبال} أي: التي قد نختت منها الأصنام {والشجر} أي: التي عبد بعضها {والدوابّ} أي: التي عبد منها البقر، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله ولا تأبى عن تدبيره {وكثير من الناس} وهم المؤمنون بزيادة الخضوع سجد سجوداً هو منه عبادة مشروعة فحق له الثواب {وكثير} أي: من الناس {حق عليه العذاب} وهم الكافرون؛ لأنهم أَبَو، السجود المتوقف على الإيمان {ومَن يُهن الله} أي: يُشْقِهِ {فما له من مكرم} أي: مسعد، لأنه لا قدرة لغيره أصلاً {إنّ الله} أي: الملك الأعظم {يفعل ما يشاء} من الإكرام والإهانة، لا مانع له من ذلك، نقل عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: إنّ رجلاً يتكلم في المشيئة فقال له عليّ يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت؟ قال بل لما يشاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو ءذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. ولما بين تعالى أنّ الله قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر كيفية اختصامهم بقوله تعالى: {هذان خصمان} أي: المؤمنون خصم والكفار الخمسة خصم وهو يطلق على الواحد والجماعة وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف {اختصموا} أي: أوقعوا الخصومة بغاية الجهد {في ربهم} أي: دينه، وروى عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذرّ يقسم قسماً إن هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيد بن الحارث وعتبة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أخرجاه في الصحيحن وعن ابن عباس قال لما بارز عليّ وحمزة وعبيدة عتبة وشيبة والوليد قالوا لهم: تكلموا نعرفكم. قال أنا عليّ وهذا حمزة وهذا عببيدة فقالوا: أكفاء كرام فقال عليّ أدعوكم إلى الله وءلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عتبة هلم للمبارزة فبارز عليّ شيبة فلم يلبث أن قتله بارز حمزة عتبة فقتله وبارز عبيدة الوليد فصعق عليه فأتى عليّ فقتله فنزلت وعن قتادة نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم قال المسلمون كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فنحن أولى بالله منكم، وعن ابن عباس أنها نزلت كذلك لكن قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم بين يديكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنكم تعرفون نبينا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم، وقيل: المؤمنون والكافرون من أيّ ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم، وقيل: الخصمان الجنة والنار لما روي عن أبي هريرة أنه قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» وعن عكرمة فقالت النار خلقني الله لعقوبته وقال الجنة خلقني الله لرحمته وهذا القول بعيد عن لاسياق لأنّ الله تعالى ذكر جزاء الخصمين بقوله تعالى: {فالذين كفروا} وهو الفصل بينهم المعني بقوله تعالى: {إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة} {قطعت} أي: قدّرت {لهم} على تقادير جثثهم {ثبات من نار} أي: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب سابغة عليهم كما كانوا يسبلون الثياب في الدنيا تفاخراً وتكبراً وعن إبراهيم التيمي أنه قال: سبحان من قطع من النار ثياباً. وعن سعيد بن جبير قال: قطعت من نحاس وليس من الآنية شيء إذا حمى أشدّ حرارة منه. وقال في قوله: {يصبّ} أي: ادخلوها {من فوق رؤوسهم الحميم} قال ابن النحاس يذاب على رؤوسهم ولكن المشهور أنه الماء الحار وعن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، والجملة حال من الضمير في لهم، أو خبر ثان وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وقرأ حمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا في الوصل، فإن وقف على رؤوسهم فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم وحمزة على أصله في الوقف على رؤوسهم بتسهيل الهمزة {يصهر} أي: يذاب {به} من شدّة حرارته {ما في بطونهم} من شحم وغيره {والجلود} فيكون أثره في الباطن والظاهر سواء وقال ابن عباس يسقون ماء إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون {ولهم مقامع} جمع مقمعة بكسر ثم فتح وهو عمود حديد وقيل: سوط يضرب به الوجه والرأس ليردّ المضروب عن مراده ردّا عنيفاً ثم نفي المجاز بقوله تعالى: {من حديد} أي: يقمعون بها روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أنّ مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان {كلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي: من تلك الثياب أو من النار {من غمّ} أي: كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم {أعيدوا فيها} أي: ردّوا إليها بالمقامع، وعن الحسن أنهم يضربون بلهب النار فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً، وعن الفضيل بن عياض قال: والله ما طمعوا في الخروج لأنّ الأرجل مقيدة والأيدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 موثقة ولكن يرفعهم لهبها وتردّهم مقامعها وعن الحسن قال كان عمر يقول أكثروا ذكر النار فإنّ حرّها شديد، وقعرها بعيد، وإنّ مقامعها من حديد {و} قيل لهم {ذوقوا عذاب الحريق} أي: البالغ نهاية الإحراق. ولما ذكر تعالى مالاً حد الخصمين وهم الكافرون أتبعه ما للآخر وهم المؤمنون، وغير الأسلوب فيه حيث لم يقل والذين آمنوا عطفاً على الذين كفروا وأسند الإدخال فيه إلى الله تعالى وأكده بأنّ احماداً لحال المؤمنين وتعظيماً لشأنهم فقال {إن الله} أي الذي له الأمر كله {يدخل الذين آمنوا} بالله ورسوله {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان {جنات تجري} أي: دائماً {من تحتها الأنهار} أي: المياه الواسعة أينما أردت من أرضها جري لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار، عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال إنّ في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعده» أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح {يحلون فيها} من حليت المرأة إذا لبست الحلي في مقابلة ما يزال من بواطن الكفرة وظواهرهم وقوله تعالى {من أساور} صفة مفعول محذوف أي: حلياً من أساور ومن زائدة أو تبعيضية وأساور جمع أسورة وهي جمع سوار. ولما كان المقصود الحث على التقوى المعلية إلى الإنعام بالفضل شوّق إليه بأعلى ما يعرف من الحلية فقال {من ذهب} وقوله تعالى: {ولؤلؤ} معطوف على أساور لا على ذهب لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد المرصعة وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضىء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب وقرأ نافع وعاصم بنصب الهمزة الثانية مع التنوين عطفاً على محل أساور أو إضمار الناصب مثل ويؤتون والباقون بالخفض مع التنوين وأبدل الهمزة الأولى الساكنة حرف مدّ السوسي وأبو بكر هذا حالة الوصل، وأمّا الوقف فحمزة يبدل الأولى واواً وكذا الثانية تبدل واواً له أيضاً فيها الرَّوْم وقوله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} وهو الإبريسم المحرم لبسه على الرجال المكلفين في الدنيا في مقابلة ثياب الكفار كما كان لبسا الكفار في الدنيا حريراً ولباس المؤمنين دون ذلك، وقد ورد في الصحيحين عن عبد الله ابن الزبير عن عمر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «لا تلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» قال ابن كثير قال عبد الله بن الزبير ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} انتهى وفي الصحيحين أيضاً عن عمر رضي الله عنه أن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» قال البقاعي: فيوشك المتشبه بالكفار في لباسهم أن يلحقه الله بهم فلا يموت ملسماً اه والأولى أن يحمل ذلك على أنه لا يلبسه مع السابقين فإنّ من مات على الإسلام لا بدّ من دخوله الجنة أو على من استحله من الرجال المكلفين {وهدوا} أي: في الدنيا {إلى الطيب من القول} قال ابن عباس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 هو شهادة أن لا إله إلا الله وقيل هو لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله، وقال السدي: هو القرآن. وقال عطاء: هو قول أهل الجنة الحمد لله الذي صدقنا وعده {وهدوا إلى صراط الحميد} أي طريق الله المحمود ودينه فكان فعلهم حسناً كما كان قولهم حسناً فدخلوا الجنة التي هي أشرف دار عند خير جار، وحلوا فيها أشرف الحلي كما تحلوا في الدنيا بأشرف الطرائق عكس الكفار فإنهم آثروا الفاني لحضوره وأعرضوا عن الباقي مع شرفه لغياته فدخلوا ناراً كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ثم ذكر تعالى بعد ما فصل بين الفريقين حرمة البيت وعظم جرممن صدّ عنه فقال تعالى: {إن الذين كفروا} أي: أوقعوا هذا الفعل الخبيث وصح عطف {ويصدون} وإن كان مضارعاً على الماضي لأنّ المضارع قد لا يلاحظ منه زمان معين م حال أو استقبال بل يكون المقصود منه الدلالة على مجرّد الاستمرار كما يقال: فلا يحسن إلى الفقراء لا يراد حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه فالصدود منهم مستمرّ دائم للناس {عن سبيل الله} أي: عن طاعته باقتسامهم طرق مكة يقول بعضهم لمن يمرّ به خرج فينا ساحر وآخر يقول شاعر وآخر يقول كاهن فلا تسمعوا منه فإنه يريد أن يردكم عن دينكم حتى قال من أسلم لم يزالوا بي حتى جعلت في أذني الكُرسف مخافة أن أسمع شيئاً من كلامهم وكانوا يؤذون من أسلم إلى غير ذلك من أعمالهم {و} يصدّون عن {المسجد الحرام} أن تقام شعائره من الطواف بالبيت، والصلاة، والحج، والاعتمار ممن هو أهل ذلك من أوليائنا، ثم وصفه بما يبين شديد ظلمهم في الصدّ عنه بقوله تعالى: {الذين جعلناه} بما لنا من العظمة {للناس} أي: كلهم ثم بين جعله لهم بقوله تعالى: {سواء العاكف} أي: المقيم {فيه والباد} أي: الطارىء من البادية وهو الجائي إليه من غربة، وقال بعضهم: يدخل في العاكف الغريب إذا جاءه للتعبد وإن لم يكن من أهله قال الزمخشري: وقد استشهد بهذا أصحاب أبي حنيفة قائلين إنّ المراد بالمسجد الحرام مكة على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها انتهى. وأيضاً هو مذهب ابن عمر وعمر ابن عبد العزيز وإسحاق الحنطي المعروف بابن راهويه قال البيضاويّ وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} الآية. وشرى عمر داراً ليسجن فيها من غير نكير انتهى ووجه الرازي الضعيف بقوله: لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكر ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من الأوقات من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات انتهى واستدل أيضاً للجواز بقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له أسامة بن زيد «يا رسول الله أتنزل غداً بدارك بمكة فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» وكان عقيل ورث أبا طالب دون علي وجعفر لأنهما كانا مسلمين ولا يورث إلا ما كان الميت مالكاً له قال الروياني: ويكره بيعها وإجارتها للخروج من الخلاف ونازعه النووي في مجموعه وقال: إنه خلاف الأولى لأنه لم يرد فيه نهي مقصود والأوّل كما قال الزركشيّ هو المنصوص بل اعترض على النوويّ فإنه صرّح بكراه بيع المصحف والشطرنج ولم يرد في ذلك نهي مقصود. تنبيه: محل الخلاف بين العلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 في بيع نفس الأرض أمّا البناء فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف أي: إذا لم يكن من أجزاء أرضها قيل: إن إسحاق الحنطيّ ناظر الشافعيّ رضي الله تعالى عنه بمكة في بيع دور مكة فاستدلّ الشافعي بما مرّ واستدلّ هو على المنع بقوله حدّثني بعض التابعين بأنها لا تباع فقال له الشافعيّ: لو قام غيرك مقامك لأمرت بفرك أذنيه، أقول لك: قال الله ورسوله تقول: حدّثني بعض التابعين وقال الرازي فقال إسحاق: فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي. وقرأ حفص سواء بالنصب على أنه ثاني مفعولي جعلناه أي: جعلناه مستوياً العاكف فيه والباد، والباقون بالرفع على أن الجملة مفعول ثان لجعلناه، ويكون للناس حالاً من الهاء ويصح أن يكون حالاً من المستكنّ في للناس بجعله مفعولاً ثانياً لجعلنا وقرأ ورش وأبو عمرو البادي بإثبات الياء بعد الدال وصلاً لا وقفاً وأثبتها ابن كثير وقفاً ووصلاً وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً {ومن يرد فيه} أي: المسجد الحرام {بإلحاد بظلم} أي: بميل إلى الظلم والإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاداً لحافر وقيل: الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله، وقيل: هو كل شيء منهيّ عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم، وقيل: هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر، وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك، أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد: هو تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال سعيد بن جبير: احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد وعن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله بلى والله وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له فقال كنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: لا والله وبلى والله. تنبيه: قوله: بإلحاد بظلم حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال: ومن يرد فيه مراداً أمّا عادلاً عن القصد ظالماً {نذقه من عذاب أليم} أي: مؤلم أي: بعضه وخبر إنّ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، فكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده. ولما ذكر تعالى الفريقين وجزاء كل وختمه بذكر البيت أتبعه التذكير به فقال تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {بوأنا لإبراهيم مكان البيت} أي: جعلنا له مكان البيت مبوّأ أي: مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة، فإنّ البيت رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها يقال لها: الخجوج كشفت ما حوله فبناه على أسِّهِ القديم، وقيل: بعث الله تعالى له سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن علي دوري فبني عليه، وعن عطاء بن أبي رباح قال: لما أهبط الله آدم عليه السلام كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع تسبيح أهل السماء ودعاءهم وأنس إليهم فهابت الملائكة منه حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها، وقيل في صلاتها فأخفضه الله تعالى إلى الأرض، فلما فقدما كان يسمع منهم استوحش وقيل: أوّل من بني البيت إبراهيم لما روى وورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 في الصحيحين عن بي ذر قال: «قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أولاً؟ قال المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: بيت المقدس قلت كم بينهما قال أربعون سنة» ثم فسر التبوئة بقوله تعالى: {أن لا تشرك بي شيئاً} فابتدأ بأُسِّ العبادة ورأسها وعطف على النهي قوله تعالى: {وطهر بيتي} أي: عن كل ما لا يليق به من الأوثان والأقذار وطواف عريان به كما كان العرب تفعل {للطائفين} أي: الذين يطوفون بالبيت فإن قيل كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسير للتبوئة؟ (أجيب) بأنّ التبوئة لما كانت مقصودة من أجل العبادة فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفتين، وقال ابن عباس للطائفين بالبيت من غير أهله {والقائمين} أي: المقيمين {والركوع السجود} أي: المصلين من الكل وقال غيره القائمين هم المصلون لأنّ المصلي لا بدّ أن يكون في صلاته جامعاً بين القيام والركوع والسجود، قال البيضاويّ: ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أنّ كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت {وأذن في الناس} أي: أعلمهم وناد فيهم {بالحج} وهو قصد البيت على سبيل التكرار للعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة، وفي المأمور بذلك قولان أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه إبراهيم عليه السلام، قالوا: لما فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له أذن في الناس بالحج. قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي أخرى على المقام قال إبراهيم: كيف أقول قال جبريل قل لبيك اللهمّ لبيك فهو أوّل من لبى وفي رواية أخرى صعد على الصفا فقال: يا أيها الناس إنّ الله كتب عليكم حج هذا البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهمّ لبيك، وفي رواية أخرى: إنّ الله يدعوكم إلى حج بيته الحرام ليثيبكم به الجنة ويجيركم من الناس فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر، أو شجر، أو آنية، أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرّة حج مرّة، ومن أجاب مرّتين أو أكثر فيحج مرّتين أو أكثر بذلك المقدار، وفي رواية فنادى على جبل أبي قبيس يا أيها الناس إنّ ربكم بنى بيتاً وأوجب الحج عليكم إليه فأجيبوا ربكم والتفت بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجل وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك، وعن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، القول الثاني أنّ المأمور بذلك هو النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختاره أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأنّ ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أنّ محمد صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى لأنّ قوله تعالى: {وإذ بوأنا} تقديره واذكر يا محمد إذ بوّأنا فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: وأذن فإليه يرجع الخطاب أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع، روي عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا» وجواب الأمر {يأتوك} أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مجنبين خاشعين من أقطار الأرض كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بعد الموت بمثل ذلك {رجالاً} أي: مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام {و} ركباناً {على كل ضامر} أي: بعير مهزول وهو يطلق على الذكر والأنثى. تنبيه على كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجلاً وركباناً وقوله تعالى: {يأتين} صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع {من كل فج} أي: طريق واسع بين جبلين {عميق} أي بعيد روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال كل حسنة بمائة ألف حسنة» وفي هذا دلالة على أنّ المشي أفضل من الركوب وفي ذلك خلاف بين الأئمة محله كتب الفقه. ولما كان الإنسان ميالاً إلى الفوائد متشوفاً إلى جميل العوائد علل الإتيان بما يرغبه مبيحاً من فضله ما يقصده من أمر المعاش بقوله تعالى: {ليشهدوا} أي: ليحضروا حضوراً تاماً {منافع لهم} واختلف في تلك المنافع فبعضهم حملها على منافع الدنيا وهي أن يتجروا في أيام الحج وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً وهو كما قال الرازي أولى فيأتون لتلك المنافع يتنقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى مشعر، ومن مشهد إلى مشهد، مجموعين بالدعوة، خاشعين بالهيبة، خائفين من السطوة، راجين للمغفرة، ثم يتفرّقون إلى منازلهم ومواطنهم ويتوجهون إلى مساكنهم كالسائرين إلى مواقف الحشر يوم البعث والنشر، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم، فيا أيها المصدقون بأنّ خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله تعالى حجه على بعد أقطارهم وتناي دارهم ممن كان موجوداً في ذلك الزمان وممن كان في ظهور الآباء والأمّهات الأقربين والأبعدين صدّقوا أنّ الداعي من قبلنا بالنفح في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار تراباً وما بين ذلك لأنّ الكل علينا يسير، قال الزمخشريّ: وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات كلها قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص. ولما كانت المنافع لا تطيب ولا تثمر إلا بالتقوى وكان الحامل على التقوى ذكر الله تعالى قال تعالى: {ويذكروا اسم الله} أي: الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره وقيل كنى بالذكر عن الذبح لأنّ ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهاً على أنّ المقصود مما يتقرّب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه. واختلف في الأيام المعلومات في قوله تعالى {في أيام معلومات} فالذي عليه أكثر المفسرين وهو اختيار الشافعيّ وأبي حنيفة أنه عشر ذي الحجة واحتجوا بأنها معلومة عند الناس بحرصهم على علمّها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام، ولتلك الذبائح وقت منها وهو يوم النحر وعن ابن عباس أنها أيام التشريق وقيل يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وقيل يوم النحر إلى آخر أيام التشريق واستدلّ لهذا بقوله تعالى {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم من الهدايا والضحايا أي: يذكروا اسم الله تعالى عند نحرها ونحر الضحيا والهدايا يكون في هذه الأيام وتقدّم الكلام على الأيام المعدودات في سورة البقرة عند قوله تعالى: {واذكروا الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 في أيام معدودات} (البقرة: 203) وقوله تعالى {فكلوا منها} أي: لحومها أمر إباحة، وذلك أنّ الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً فأمر الله تعالى بمخالفتهم، واتفق العلماء على أنّ الهدي إذا كان تطوّعاً يجوز للمهتدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوّع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع «فأتى عليّ ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة ونحر عليّ ما غبر أي ما بقي وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة أي بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» أخرجه مسلم واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل شيئاً منه؟ قال الشافعي رضيّ الله عنه لا يأكل منه شيئاً وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر رضي الله عنهما لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر، وعن أصحاب أبي حنيفة أنه يأكل من كل من دم التمتع والقرآن ولا يأكل من واجب سواهما وقوله تعالى: {وأطعموا البائس} أي: الذي أصابه بؤس أي: شدّة {الفقير} أي: المحتاج أمر إيجاب وقد قيل به في الأوّل {ثم ليقضوا تفثهم} أي: يزيلوا أوساخهم وشعثهم كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال {وليوفوا نذورهم} من الهدايا والضحايا {وليطوّفوا} طواف الإفاضة الذي به تمام التحلل {بالبيت العتيق} أي القديم لأنه أوّل بيت وضع للناس وقال ابن عباس سمي عتيقاً لأنّ الله تعالى أعتقه من تسلط الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى منه فإن قيل: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع أجيب بأنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه ولما قصد التسلط عليه أبرهة فعل به ما فعل، وقيل لأنّ الله تعالى أعتقه من الغرق فإنه رفع في أيام الطوفان، وقال مجاهد لأنه لم يملك قط وقيل بيت كريم أي: العتيق بمعنى الكريم، من قولهم عتاق الخيل والطير، والطواف ينقسم إلى ثلاثة هذا ويدخل وقته بعد الوقوف وهذا لا يجبر تركه بدم لأنه ركن الثاني: طواف الوداع ووقته عند إرادة السفر من مكة وهو واجب يجبر تركه بدم، الثالث: طواف القدوم وهو مستحب للحاج والحلال إذا قدم مكة روت عائشة رضي الله تعالى عنها «أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حج» أبو بكر وعمر مثله وقرأ ابن ذكران وليوفوا وليطوفوا بكسر اللام فيهما والباقون بإسكانها وفتح أبو بكر الواو ومن وليوفوا وشدّد الفاء وقوله تعالى: {ذلك} خبر مبتدأ مقدر أي: الأمر أو الشأن ذلك المذكور كما تقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا فقد كان كذا {ومن يعظم} أي بغاية جهده {حرمات الله} ذي الجلال والإكرام كلها وهي ما لا يحلّ انتهاكه من مناسك الحج وغيرها وقيل: الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحلّ {فهو} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجه واجتناب المنهي عنه كالذبح بذكر اسم غير الله والطواف عرياناً {خير} كائن {له عند ربه} أي: الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم في الآخرة ومن انتهكها فهو شر عليه عند ربه ثم إنه تعالى بين أحكام الحج بقوله تعالى: {وأحلت لكم الأنعام} أي: أكلها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم {إلا ما يتلى} أي: على سبيل التحذير مستمرّاً {عليكم} تحريمه في قوله تعالى {حرّمت عليكم الميتة} (المائدة: 3) الآية فالاستثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم لما عرض من الموت ونحوه فحافظوا على حدوده وإياكم أن تحرّموا مما أحلّ شيئاًكتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك وأن تحلوا مما حرم الله شيئاً كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك. ولما فهم من ذلك حلّ السوائب وما معها وتحريم المذبوح للأنصاب وكان سبب ذلك كله الأوثان تسبب عنه قوله تعالى {فاجتنبوا} أي: بغاية الجهد اقتداء بأبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تقدّم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة {الرجس} أي: القذر الذي من حقه أنّ يجتنب من غير أمر ثم بينه وميزه بقوله تعالى: {من الأوثان} أي: الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس فهو بيان للرجس وتمييز له، كقولك عندي عشرون من الدراهم وسمى الأوثان رجساً وكذا الخمر والميسر والأزلام على طريق التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم من الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة، ونبه على هذا المعنى بقوله تعالى {رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (المائدة: 90) جعل العلة في اجتنابه أنه رجس والرجس مجتنب وقوله تعالى {واجتنبوا قول الزور} تعميم بعد تخصيص فإنّ عبادة الأوثان رأس الزور لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة كأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع وقيل: قول الزور قولهم: هذا حلال وهذا حرام. وما أشبه ذلك من افترائهم وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك له إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: هو شهادة الزور لما روى أبو داود والترمذي «أنّه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فلما سلم قام قائماً مستقبل الناس بوجهه الكريم وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله قالها ثلاثاً وتلا هذه الآية» وقوله تعالى {حنفاء} أي: مسلمين عادلين عن كل دين سوى دينه {غير مشركين به} تأكيد لما قبله وهما حالان من الواو {ومن يشرك} أي: يوقع شيئاً من الشرك {با} الذي له العظمة كلها بشيء من الأشياء في وقت من الأوقات {فكأنما خر} أي: سقط {من السماء} لعلوّ ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك {فتخطفه الطير} أي: تأخذه بسرعة وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض {أو تهوي به الريح} أي: حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه {في مكان} من الأرض {سحيق} بعيد فهو لا يرجى خلاصه. تنبيه قال الزمخشري يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه هلاكاً ليس بعده هلاك بأن صوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرّق مزعاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة اه قوله يطوح به الباء مزيدة للتأكيد قال الجوهري: طوّحه أي توّهه وذهب به ههنا وههنا وقرأ نافع بفتح الخاء وتشديد الطاء والباقون بإسكان الخاء وتخفيف الطاء ثم عظم ما تقدّم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى: {ذلك} أي: الأمر العظيم الكبير فمن راعاه فاز ومن حاد عنه خاب، ثم عطف عليه ما هو أعمّ من هذا القدر فقال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله} جمع شعيرة وهي البدن التي تهدي للحرم لأنها من معالي الحج بأن يختار عظام الأجرام حساناً سماناً غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها فقد كانوا يغالون في ثلاث، ويكرهون المكاس فيهنّ الهدي والأضحية والرقبة، وروى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما «أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب» وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدّق بلحومها وجلالها ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه {فإنها} أي: تعظيمها ناشىء {من تقوى القلوب} فمن للابتداء فإن جعلت تبعيضية فلا بدّ من حذف تقديره: فإنّ تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بدّمن راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء وسميت تلك البدن شعائر لإشعارها بما يعرف به أنهار هدي كطعن حديدة بسنامها قال البقاعي: ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو أزيل عن محل الجرح فيكون من الإزالة {لكم فيها} أي: البدن {منافع} كركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وعن إبراهيم: من احتاج إلى ظهرها ركب ومن احتاج إلى لبنها شرب وقال أصحاب الرأي: لا يركبها إلا إذا اضطرّ إليها {إلى أجل مسمى} وهو وقت نحرها {ثم محلها} أي: مكان حلّ نحرها {إلى البيت العتيق} أي: عنده والمراد الحرم جميعه وقيل المراد بالشعائر المناسك ومشاهد الحج وبالمنافع الأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء آجالها وبحملها إلى محل الناس من إحرامهم إلى البيت يطوفون به طواف الزيارة {ولكل أمّة} أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم {جعلنا منسكاً} أي: متعبداً وقرباناً يتقرّبون به إلى الله تعالى، وقرأ حمزة والكسائي منسكاً هنا وفي آخر السورة بكسر السين في الموضعين فيكون بمعنى الموضع والباقون بفتحها مصدر بمعنى النسك {ليذكروا اسم الله} أي: الملك لا على وحده على ذبائحهم وقرابتهم لأنه الرازق لهم وحده فيقولون عند النحر الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهمّ منك وإليك ثم علل الذكر بالنعمة تنبيها على التفكر فيها فقال تعالى: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فوجب شكره لذلك عليهم، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام {فإلهكم} أي: الذي شرع هذه المناسك كلها {إله واحد} وإن اختلفت فروع شرائعه، ونسخ بعضها بعضاً، وإذا كان واحداً وجب اختصاصه بالعبادة فلذا قال تعالى: {فله} وحده {أسلموا} أي: انقادوا بجميع طواهركم وبواطنكم في كل ما أمر به أو نهى عنه {وبشر المخبتين} أي: المطيعين المتواضعين من الخبث، وهو المطمئن من الأرض وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. ثم بين علاماتهم بقوله تعالى: {الذين إذا ذكر الله} أي: الذي له الجلال والجمال {وجلت} أي: خافت خوفاً مزعجاً {قلوبهم} فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى {والصابرين} الذين صار الصبر عادتهم {على ما أصابهم} من الكلف والمصائب ولماكان ذلك قد يشغل عن الصلاة قال تعالى {والمقيمي الصلاة} في أوقاتها والمحافظة عليها، وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع تلك المشاق والشواغل إلا راسخ في حبها فهم لما تمكن حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها كأنهم دائماً في صلاة {ومما رزقناهم ينفقون} في وجوه الخير من الهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك إحساناً إلى خلق الله تعالى. ولما قدّم تعالى الحث على التقرّب بالأنعام كلها وكانت الإبل أعظمها خلقاً وأجلها في أنفسهم أمراً خصها بالذكر فقال تعالى: {والبدن} أي: الإبل المعروفة جمع بدنة كخشب وخشبة وانتصابه بفعل يفسره {جعلناها لكم من شعائر الله} أي: من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى وقيل لأنها تُشْعَر وهي أن تطعن بحديدة في سنامها ليعلم بذلك أنها هدي {لكم فيها خير} أي: نفع في الدنيا وثواب في العقبى كما قال ابن عباس دنياً وأخرى، وروى الترمذيّ وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدم وأنه ليؤتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفساً» وروى الدارقطني في السنن عن ابن عباس قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» وعن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال سمعت ربي يقول {لكم فيها خير} {فاذكروا اسم الله عليها} أي: على ذبحها بالتكبير حال كونها {صواف} أي قائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى لأنّ البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث {فإذا وجبت جنوبها} أي: سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً، من وجب الحائط وجبة سقط، ووجبت الشمس وجبة غربت، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع ولا تعجلوا النفوس أن تزهق وقوله تعالى {فكلوا منها} أي: إذا كانت تطوّعاً أمر إباحة دفعاً لما قد يظنّ أنه يحرم الأكل منها للأمر بتقريبها لله تعالى: {وأطعموا القانع} أي المتعرّض للسؤال بخشوع وانكسار {والمعتر} أي: السائل وقيل بالعكس وهو قول الشافعيّ رحمه الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 قال في كتاب اختلاف الحديث القانع هو السائل، والمعتر هو الزائر، وقيل: القانع هو الجالس في بيته المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرّض، والمعتر المعترّض وقيل القانع هو المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين، ولا تكون له ذبيحة فيجيء إلى القوم فيتعرّض لهم لأجل لحمهم {كذلك} أي مثل هذا التسخير العظيم الذي وصفناه من نحرها قياماً {سخرناها} بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك {لكم} وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوّتها تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها ولو شئنا لجعلناها وحشية لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة {لعلكم تشكرون} إنعامنا عليكم لتعرفوا أنّ ما ذللها لكم إلا الله تعالى، فيكون حالكم حال من يرجو شكره فتوقعوا لشكر بأن لا تحرّموا منها إلا ما حرّم عليكم ولا تحلوا منها إلا ما أحلّ، وتهدوا منها ما حث على إهدائه وتتصرفوا بحسب ما أمركم. ولما حث تعالى على التقرّب بها مذكوراً اسمه عليها قال تعالى: {لن ينال الله} الذي له صفات الكمال {لحومها} المأكولة {ولا دماؤها} المهراقة أي: لا يرفعان إليه {ولكن يناله التقوى منكم} أي: يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الإيمان، كما قال تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) أي: يقبله وقيل: كان أهل الجاهلية إذ انحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت. ثم كرّر سبحانه وتعالى التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به بقوله تعالى: {كذلك} أي: التسخير العظيم {سخرها لكم} بعظمته وغناه عنكم {لتكبروا الله على ما هداكم} أي: أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، كأن تقولوا الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعدّي تعديته. ثم وعد من امتثل الأمر بقوله تعالى: {وبشر المحسنين} أي: المخلصين فيما يفعلونه ويذرونه كما قال تعالى من قبل {وبشر المخبتين} والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير مخبتاً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه، وقال ابن عباس: الموحدين. وقوله تعالى: {إنّ الله} أي: الذي لا كفء له {يدفع عن الذين آمنوا} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء والباقون بضم الياء وفتح الدال وبعدها ألف وكسر الفاء أي: يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه ولم يذكر الله تعالى ما يدفعه عنهم حتى يكون أعظم وأفخم وأعمّ وإن كان في الحقيقة أنه يدفع بأس المشركين فلذلك قال تعالى بعده {إنّ الله} أي: الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي: لا يكرم كما يفعل المحب {كل حوّان} في أمانته {كفور} لنعمته وهم المشركون، قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا معه شريكاً وكفروا نعمه، فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته وقال مقاتل: يدفع عن الذين آمنوا بمكة حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتلهم سرّاً فنهاهم عن ذلك ثم أذن الله تعالى لهم قتالهم بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون} أي: المشركين والمأذون فيه وهو في القتال محذوف لدلالة يقاتلون عليه {بأنهم} أي بسبب أنهم {ظلموا} فكانوا يأتونه صلى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت وهي أوّل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية وقيل نزلت في قوم بأعيانهم مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي منعوهم من الهجرة بأنهم ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بضم الهمزة والباقون بفتحها. ولماكان التقدير فإنّ الله أراد إظهار دينه بهم عطف عليه قوله تعالى: {وإنّ الله} أي: الذي هو الملك الأعلى {على نصرهم لقدير} وفي ذلك وعد من الله بنصر المؤمنين ثم وصفهم بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} إلى الشعب والحبشة والمدينة {بغير حق} أوجب ذلك ما أخرجوا {إلا أن يقولوا} أي: بقولهم {ربنا الله} وهذا القول حق والإخراج به إخراج بغير حق ونظير ذلك قوله تعالى: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا با} (المائدة: 59) . تنبيه: الذين أخرجوا مجرور نعت للذين يقاتلون، أو بدل منه، أو منصوب على المدح، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف {ولولا دفع الله} أي: المحيط بكل شيء علماً {الناس بعضهم ببعض} أي: بتسليط المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم وعلى متعبداتهم كما قال تعالى: {لهدّمت} أي: خربت {صوامع} وهي: معابد صغار للرهبان مرتفعة {وبيع} كنائس للنصارى {وصلوات} أي: كنائس لليهود وسميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل: هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا {ومساجد} للمسلمين {يذكر فيها} أي: هذه المواضع المذكورة {اسم اللَّه} العليّ العظيم {كثيراً} وتنقطع العبادات بخرابها، وقيل: الضمير يرجع للمساجد فقط تشريفاً لها بأن ذكر الله يحصل فيها كثيراً فإن قيل لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد أجيب بأنها أقدم في الوجود وقيل: أخرها في الذكر كما في قوله تعالى ومنهم سابق بالخيرات ولأنّ الذكر آخر العمل فلما كان نبينا صلى الله عليه وسلم خير الرسل وأمتنا خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون والسابقون» وقيل: أخرها لتكون بعيدة عن الهدم قريبة من الذكر وقرأ نافع دفاع بكسر الدال وفتح الفاء وألف بعدها والباقون بفتح الدال وسكون الفاء وقرى نافع وابن كثير لهدمت بتخفيف الدال والباقون بتشديدها وأظهر التاء عند الصاد نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها الباقون {ولينصرن الله} أي: الملك الأعظم {من ينصره} أي: ينصر دينه وأولياءه كائناً من كان منهم أو من غيرهم وقد أنجز الله تعالى وعده بأن سلطا المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم {إنّ الله} أي: الذي لا كفء له {لقويّ} أي: على ما يريد {عزيز} أي: منيع في سلطانه وقدرته وقوله تعالى: {الذين إن مكناهم} أي: بما لنا من القدرة {في الأرض} بإعلائهم على ضدّهم {أقاموا الصلاة} أي: التي هي عماد الدين الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني {وآتوا الزكاة} أي المؤذنة بالزهد في الحاصل منه المؤذن بعمل النفس للرحيل {وأمروا بالمعروف} أي: الذي أمر الله تعالى ورسوله به {ونهوا عن المنكر} أي: الذي نهى الله ورسوله عنه وصف للذين هاجروا وهو إخبار من الله تعالى بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه هذا والله ثناء قبل بلاء يريد أن الله تعالى أثنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. تنبيه: في ذلك دليل على صحة خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين وإذا ثبت ذلك وجب أن يكونوا على الحق ولا يجوز حمل الآية على أمير المؤمنين عليّ وحده لأنّ الآية دالة على الجمع، وعن الحسن هم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الذين منصوب بدل من قوله تعالى من ينصره {و} أي: الملك الأعلى {عاقبة الأمور} أي: آخر أمور الخلق ومصيرها إليه في الآخرة فلا يكون لأحد فيها أمر حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن منه. ولما بين سبحانه وتعالى فيما تقدّم إخراج الكفار للمؤمنين من ديارهم بغير حق وأذن في مقاتلتهم وضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم النصرة وبين أنّ الله عاقبة الأمور أردفه بما يرجي مجرى التسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره فقال تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم} أي: قبل قومك {قوم نوح} وتأنيث قوم باعتبارالمعنى وتحقير المكذبين في قدرته وإن كانوا من أشدّ الناس {وعاد} أي: ذوو الأبدان الشداد قوم هود {وثمود} ولو الأبنية الطوال في السهول والجبال قوم صالح {وقوم إبراهيم} التجبرون المتكبرون {وقوم لوط} الأنجاس بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس {وأصحاب مدين} أرباب الأموال المجموعة من خزائن الضلال فأنت يا أشرف الخلق لست بأوحديّ في التكذيب، فإنّ هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومك. ولما كان موسى عليه السلام قد أتى من الآيات المرئية ثم المسموعة بما لم يأت بمثله أحدهن تقدّمه فكان تكذيبه في غاية البعد غير سبحانه وتعالى الأسلوب تنبيها على ذلك وعلى أنّ الذين أطبقوا على تكذيبه القبط وأمّا قومه فما كذبه منهم إلا أناس يسير فقال تعالى: {وكذب موسى} وفي ذلك أيضاً تعظيم للتأسية وتفخيم للتسلية {فأمليت للكافرين} أي: أمهلتهم بتأخير العقاب عنهم إلى الوقت الذي ضربته لهم وعبر عن طول الإملاء بأداة التراخي لزيادة التأسية فقال تعالى {ثم أخذتهم} أخذ عزيز مقتدر. ثم نبه سبحانه وتعالى بالاستفهام في قوله تعالى: {فكيف كان نكير} أي: إنكاري لأفعالهم على أنه كان في أخذهم عبر وعجائب وأهوال وغرائب حيث أيد لهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكاً، وبالعمارة خراباً، والاستفهام للتقرير أي: وهو واقع موقعه فليحذر هؤلاء الذين أتبتهم بأعذم ما أتى به رسول قومه مثل ذلك فإن لم يؤمنوا بك فعلت بهم كما فعلت بهؤلاء وإنكانوا أمكن الناس فلا يحزنك أمرهم. تنبيه: أثبت ورش الياء بعد الراء من نكير في الوصل وحذفها الباقون وقفاً وصلاً {وكأين} أي: وكن {من قرية} وقيل: معنى كأين رُبَّ، وقوله تعالى: {أهلكتها} قرأه أبو عمرو بعد الكاف بتاء فوقية مضمومة والباقون بعد الكاف بنون وبعدها ألف والمراد أهلها بدليل قوله تعالى {وهي} أي والحال أنها {ظالمة} أي أهلها بكفرهم ويحتمل أن يكون المراد أهلاك نفس القرية فيدخل تحت هلاكها هلاك من فيها لأنّ العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة جعل هالكاً لمن فيها وإن كان الأوّل أقرب {فهي} أي: فتسبب عن إهلاكها أنها {خاوية} أي: منهدمة ساقطة أي: جدرانها {على عروشها} أي: سقوفها إذ كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 أو كرم فهو عرش والخاوي الساقط من خوى إذا سقط أو الخالي من خوى المنزل إذا خلا من أهله وخوى بطن الحامل. تنبيه: قوله: {على عروشها} لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى إنها ساقطة على عروشها أي: سقوفها، أي: تقصفت الأخشاب أوّلاً من كثرة الأمطار وغير ذلك من الأشرار، فسقطت ثم سقط عليها الجدران، فسقطت فوق السقوف أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها وإما أن يكون خبراً بعد خبر كأنه قيل: هي خاوية وهي على عروشها، أي: قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان مائلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة، وقوله: {فهي خاوية} جملة معطوفة على {أهلكتها} لا على {وهي ظالمة} ، فإنها حال كما قدّرته، والإهلاك ليس حال خرابها، فلا محل لها إن نصبت كأين بمقدّر يفسره أهلكتها لأنها معطوفة على جملة أهلكتها كما مرّ، وهي مفسرة لا محل لها، وإن رفعت كأين بالابتداء فمحلها رفع خبراً ثانياً لكأين والخبر الأوّل أهلكتها {و} كم من {بئر معطلة} أي: متروكة بموت أهلها {وقصر مشيد} أي: رفيع خال بموت أهله. تنبيه: علم مما قدّرته أن بئر معطوف على قرية، وهو يقوي على أنّ عروشها بمعنى مع أوجه، وروي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهي بحضرموت، وإنما سميت بذلك؛ لأنّ صالحاً حين حضرها مات، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح وأمّروا عليهم جهلس بن جلاس وأقاموا بها زماناً، ثم كفروا وعبدوا صنماً فأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان عليه السلام نبياً فقتلوه، فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم، وخرب قصورهم، وقوله تعالى: {أفلم يسيروا} أي: كفار مكة {في الأرض} يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله تعالى بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، وإن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا {فتكون} أي: فتسبب عن سيرهم أن تكون {لهم قلوب} واعية {يعقلون بها} ما رأوه بأبصارهم مما نزل بالمكذبين قبلهم {أو} أي: أو يكون لهم إن كانوا عمي الأبصار كما دل عليه جعل هذا قسيماً {آذان يسمعون بها} أخبارهم بالإهلاك وخراب الديار فيعتبروا {فإنها} أي: القصة {لا تعمى الأبصار} ويجوز أن يكون الضمير مبهماً يفسره الأبصار وفي تعمى راجع إليه، والمعنى أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى فيها، وإنما العمى لقلوبهم كما قال تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ولا يعتد بعمى الأبصار، فإنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. فإن قيل: فأي فائدة في ذكر الصدور؟ أجيب: بأن الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة للبصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة وتمثيل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تبيين وفضل تعريف ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك: الذي بين فكيك تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت؛ لأن محل المضاء هو لا غير، فكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً. قيل: لما نزل قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} فهو في الآخرة أعمى؛ قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى، فنزلت: {ويستعجلونك بالعذاب} الذي توعدتهم به تكذيباً واستهزاء {و} الحال أنه {لن يخلف الله} أي: الذي لا كفء له {وعده} لامتناع الخلف فيه وفي خبره سبحانه وتعالى فيصيبهم ما وعدهم به، ولو من بعد حين لكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، وقد أنجزه يوم بدر {وإنّ يوماً عند ربك} أي: المحسن إليك بتأخير العذاب عنهم إكراماً لك من أيام الآخرة بالعذاب {كألف سنة مما تعدّون} في الدنيا وطول أيامه حقيقة أو من حيث أنّ أيام الشدائد مستطالة، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب {وكأين من قرية أمليت لها} أي: أمهلتها كما أمهلتكم {وهي ظالمة} كظلمكم بالاستعجال وغيره {ثم أخذتها} أي: بالعذاب والمراد أهلها {وإليّ المصير} أي: المرجع فينقطع كل حكم دون حكمي ففيه وعيد وتهديد. فإن قيل: لم قال: {فكأين من قرية أهلكناها} (الحج، 45) بالفاء، وقال هنا بالواو؟ أجيب: بأنّ الأولى وقعت بدلاً عن قوله تعالى: {فكيف كان نكير} ، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدّم من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله تعالى: ولن يخلف الله وعده وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، ولما كان الاستعجال لا يطلب من الرسول وإنما يطلب من المرسل، أمره الله تعالى بأن يديم لهم التخويف والإنذار بقوله تعالى: {قل} أي: لهم ولا يصدَّنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عملهم {يا أيها الناس} أي: جميعاً من قومك وغيرهم {إنما أنا لكم نذير مبين} أي: بين الإنذار والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب، وذكر الفريقين لأنّ صدر الكلام وسياقه للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم بقوله: {فالذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم تلك {الصالحات لهم مغفرة} أي: لما فرط منهم {ورزق} أي: في الدنيا بالغنائم وغيرها، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {كريم} أي: لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره زيادة في غيظهم، ولما كان في سياق الإنذار قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف {والذين سعوا} أي: أوقعوا السعي ولو مرّة واحدة {في آياتنا} أي: القرآن بإبطالها {معجزين} من اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم أي: ينسبونهم إلى العجز ويثبطونهم عن الإيمان أو مقدّرين عجزنا عنهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الجيم بعد العين على أنها حال مقدّرة والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم أي: مسابقين مشاقين للساعين فيها بالتثبيط {أولئك} البعداء البغضاء {أصحاب الجحيم} أي: النار استحقاقاً بما سعوا فيسكنهم فيها ليعلموا أنهم هم العاجزون، ولما لاح من ذلك أنّ الشيطان ألقى شبهاً يفاخرون فيها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإظهاره وتقريره وإشهاره عطف عليه تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وما أرسلنا} أي: بعظمتنا {من قبلك} ثم أكد الاستغراق بقوله تعالى: {من رسول} وهو نبيّ أمر بالتبليغ {ولا نبيّ} وهو من لم يؤمر بالتبليغ وهذا هو المشهور، فمعنى أرسلنا أوحينا، فالنبي أعم من الرسول، ويدل عليه ما رواه الإمام أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 «سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل: فكم الرسل، فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً» . وقيل: كما هو ظاهر الآية الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه، والنبيّ غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: يمكن حمل الآية عليه أيضاً، والرسول من يأتيه الكتاب، والنبيّ يقال له ولمن يوحى إليه في المنام {إلا إذا تمنّى} أي: تلا على الناس ما أمره الله تعالى به أو حدّثهم به، واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم {ألقى الشيطان} من التشبيه والتخييلات {في أمنيته} أي: فيما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل ما يتلقفه منه أولياؤه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، {وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} (الأنعام، 112) كما يفعل هؤلاء فيما يفترقون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم في القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} (الأنعام، 148) ، وقولهم: إنّ ما قتله الله تعالى بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم: نحن أهل الله وسكان حرمه، ولا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمشعر الحرام، وتقف الناس بعرفة، ونحن نطوف في ثيابنا وكذا من ولدناه، وأمّا غيرنا فلا يطوف إلا عارياً ذكراً كان أو أنثى إلا أن يعطيه أحدنا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله تعالى، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية، وأنظارهم التي ألحدوا فيها يضل الله تعالى بها من يشاء، ثم يمحوها ممن أراد من عباده، وما أراد من أمره {فينسخ} أي: فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ {الله} أي: المحيط بكل شيء علماً وقدرة {ما يلقي الشيطان} فيبطله بإيضاح أمره {ثم يحكم الله آياته} أي: ثم يجعلها جلية فيما يريد منها وأدل دليل على أنّ هذا هو المراد من الافتتاح بالمتأخرة في الآيات الختام بقوله عطفاً على ما تقديره فالله على ما يشاء قدير {والله عليم} بأحوال خلقه {حكيم} فيما يفعله بهم. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت، وقال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسريين لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم لما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذٍ أن يأتيه من الله تعالى شيء لم ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة والنجم إذا هوى، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى ففرح به المشركون، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة السورة كلها، وسجد في آخرها، وسجد المسلمون لسجوده وجميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها على جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرهم ما سمعوا، وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا تشفع بأحسن الذكر وقالوا: قد عرفنا أنّ الله تعالى يحيي ويميت ويرزق، ولكن هذه آلهتنا تشفع لنا عنده، فإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 جعل لهم محمداً نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله تعالى خوفاً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية تعزية له وكان به رحيماً، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش، وقيل: قد أسلمت أهل مكة، فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يتحدّثون به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار مستخفياً، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله تعالى، فغيّر ذلك. قال الرازي: هذه رواية عامّة المفسرين الظاهرية أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا على البطلان بالقرآن والسنة والمعقول. أمّا القرآن فبوجوه أحدها: قوله تعالى: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة: 44، 45، 46) ثانيها: قوله تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} (يونس، 15) ، ثالثها: قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} (النجم، 3) وأمّا السنة فمنها ما روي عن محمد بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة، فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً، وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، فقد روى البخاري في صحيحه: «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها، وسجد المسلمون والكفار والإنس والجن» ، وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أنّ من جوّز على النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أن النبيّ كان معظم سعيه في نفي الأوثان، ثانيها: قوله تعالى: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته} (الحج، 52) ، وإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من نسخ هذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى، ثالثها: وهو أقوى الوجوه لو جوّزنا ذلك ارتفع الإيقان عن شرعه ولجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك فيبطل قوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67) ، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه. وزاد الرازي أدلة أخرى على ذلك ثم قال: وقد عرفنا أنّ هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعاً من المفسرين ذكروها وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة، انتهى. وهذا هو الذي يطمئن إليه القلب وإن أطنب ابن حجر العسقلاني في صحتها، ثم قال: وحينئذٍ فيتعين تأويل ما وقع فيها مما ينكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق إلخ، انتهى. وعلى القول بها قد سلك العلماء في ذلك مسالك أحسنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، وقال البيضاوي: بعد أن ذكر بعض هذه القصة وهو مردود عند المحققين، وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه، انتهى.l قال ابن الأثير: والغرانيق هنا الأصنام، وهي في الأصل للذكور من طير الماء واحدها غرنوق وغرنيق سمي به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 لبياضه قال: وكانوا يزعمون أنّ الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التى تعلو إلى السماء وترتفع، وقيل: تمنى أي: قرأ، كقول حسان في حق عثمان بن عفان: *تمنى كتاب الله أوّل ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل أي: على تأن وتمهل. ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء ذكر العلة في ذلك بقوله تعالى: {ليجعل ما يلقي الشيطان} أي: في المتلو أو المحدّث به من تلك الشبهة في قلوب أوليائه على التفسير الأوّل، وعلى الثاني وغيره يؤوّل بما يناسبه {فتنة} أي: اختباراً وامتحاناً {للذين في قلوبهم مرض} أي: شك ونفاق {والقاسية} أي: الجافية {قلوبهم} عن قول الحق وهم المشركون {وإنّ الظالمين} أي: الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام {لفي شقاق} أي: خلاف لكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبهة التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن {بعيد} عن الصواب {لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} (الأنعام، 113) ، وعلى ثبوت ذكر القصة وجرى عليه الجلال المحلي؛ قال: إنهم في خلاف طويل مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم، ثم أبطل ذلك. {وليعلم الذين أوتوا العلم} بإتقان حججه وإحكام براهينه وضعف شبه المعاجزين {أنه} أي: الشيء الذي تلوته أو تحدثت به {الحق} أي: الثابت الذي لا يمكن زواله {من ربك} أي: المحسن إليك بتعليمك إياه {فيؤمنوا به} لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبهة {فتخبت} أي: تطمئن وتخضع {له قلوبهم} وتسكن به نفوسهم {وإنّ الله} بجلاله وعظمته {لهادي الذين آمنوا} في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان {إلى صراط مستقيم} أي: قويم، وهو الإسلام يصلون به إلى معرفة بطلانه حتى لا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين {ولا يزال الذين كفروا} أي: وجد منهم الكفر وطبعوا عليه {في مرية} أي: شك {منه} قال ابن جريج: أي: من القرآن، وقيل: مما ألقى الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولون: فما باله ذكرها بخير ثم ارتدّ عنها، وقيل: من الدين وهو الصراط المستقيم {حتى تأتيهم الساعة} أي: القيامة، وقيل: أشراطها، وقيل: الموت {بغتة} أي: فجأة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} قال عكرمة والضحاك: لا ليل بعده وهو يوم القيامة، والأكثرون على أنه يوم بدر، وسمي عقيماً لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، وقيل: لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، ويقوي التفسير الأوّل قوله تعالى: {الملك يومئذٍ} أي: يوم القيامة {لله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال وحده، ولما كان كأنه قيل: ما معنى اختصاصه به، وكل الأيام له قيل: {يحكم بينهم} أي: المؤمنين والكافرين بالأمر الفصل الذي لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره كما ترونه الآن بل يمشي فيه الأمر على أتم شيء من العدل {فالذين آمنوا وعملوا} أي: وصدّقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا {الصالحات} وهي ما أمرهم الله به {في جنات النعيم} فضلاً منه ورحمة لهم بما رحمهم الله تعالى من توفيقهم للأعمال الصالحات {والذين كفروا} أي: ستروا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا {وكذبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 بآياتنا} أي: ساعين بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه {فأولئك} أي: البعداء عن أسباب الكرم {لهم عذاب مهين} أي: شديد بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتنا والتكبر عن آياتنا. فإن قيل: لم أدخل الفاء في خبر الثاني دون الأوّل؟ أجيب: بأن في ذلك تنبيهاً على أنّ إثابة المؤمنين بالجنان تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال: {لهم عذاب} ولم يقل: هم في عذاب، ولما كان المؤمنون في حصر مع الكفار رغبهم الله في الهجرة بقوله تعالى: {والذين هاجروا في سبيل الله} أي: فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب مرضاته من مكة إلى المدينة {ثم قتلوا} في الجهاد بعد الهجرة، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه بقوله تعالى: {أو ماتوا} أي: من غير قتل {ليرزقنّهم الله} أي: الجامع لصفات الكمال {رزقاً حسناً} هو رزق الجنة من حين تفارق أرواحهم أشباحهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم {وإنّ الله} أي: الملك الأعلى القادر على الإحياء كما قدر على الإماتة {لهو خير الرازقين} فإنه يرزق بغير حساب يرزق الخلق عامة البارّ منهم والفاجر. فإن قيل: الرازق في الحقيقة هو الله تعالى لا رازق للخلق غيره فكيف قال: {لهو خير الرازقين} ؟ أجيب: بأنّ غير الله يسمى رازقاً على المجاز كقولهم: رزق السلطان الجيش أي: أعطاهم أرزاقهم، وإن كان الرازق في الحقيقة هو الله تعالى، ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار وكان ذلك من أفضل الرزق قال تعالى دالاً على ختام التي قبل: {ليدخلنّهم مدخلاً يرضونه} هو الجنة يكرمون فيه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا ينالهم فيها مكروه، وقيل: هو خيمة في الجنة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع، وقرأ نافع بفتح الميم أي: دخولاً، أو مكان دخول، والباقون بالضم أي: إدخالاً أو مكان إدخال {وإنّ الله} أي: الذي عمت رحمته وتمت عظمته {لعليم} أي: بمقاصدهم وما عملوا مما يرضيه وغيره {حليم} عما قصروا فيه من طاعته وما فرّطوا في جنبه تعالى، فلا يعاجل أحداً بالعقوبة. روي أنّ طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين {ذلك} أي: الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك {ومن عاقب} أي: جازى من المؤمنين {بمثل ما عوقب به} ظلماً من المشركين أي: قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام {ثم بغي عليه} أي: ظلم بإخراجه من منزله، قال مقاتل: نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم، فقال بعضهم لبعض: إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام، فأبى المشركون، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى: {لينصرنّه الله} أي: الذي لا كفء له {إنّ الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {لعفو} عن المؤمنين {غفور} لهم. فإن قيل: لم سمى ابتداءً فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 أجيب: بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40) {يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء، 142) ، وكما في قوله: كما تدين تدان. فإن قيل: كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين؛ لأنهم مظلومون؟ أجيب: بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى، 43) وبقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} (الشورى، 40) وبقوله تعالى: {وأن تعفو أقرب للتقوى} (البقرة، 237) ، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال: عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له، فإني أنا الذي أذنت له فيها، وفي ذكر العفو تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه {ذلك} أي: النصر {بأنّ الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال {يولج} أي: يدخل لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن {الليل في النهار} فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء الله تعالى مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار {ويولج النهار في الليل} فينسخ ضياءه بظلامه ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو بأنّ يدخل كلاً منهما في الآخر فيزيد به وذلك من أثر قدرته التي بها النصر {وأنّ الله} بجلاله وعظمته {سميع} لكل ما يقال {بصير} لكل ما يفعل، دائم الاتصاف بذلك، فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر؛ لأنه سبحانه وتعالى منزه عن الأغراض، ولما وصف تعالى نفسه بما ليس لغيره علله بقوله تعالى: {ذلك} أي: الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم {بأنّ الله} أي: القادر على كل ما أراد {هو} وحده {الحق} أي: الثابت الواجب الوجود {وأنّ ما يدعون} أي: يعبد المشركون {من دونه} وهو الأصنام {هو الباطل} الزائل، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بالتاء على الخطاب للمشركين، والباقون بالياء على الغيبة، وأنّ هذه مقطوعة من ما في الرسم {وأنّ الله} لكونه هو الحق الذي لا كفء له {هو} وحده {العليّ} أي: العالي على كل شيء بقدرته {الكبير} وكل ما سواه سافل حقير تحت قهره وأمره، ثم إنه سبحانه وتعالى استدل على كمال قدرته بأمور ستة: الأول: قوله تعالى: {ألم ترَ} أي: أيها المخاطب {أنّ الله} أي: المحيط قدرة وعلماً {أنزل من السماء ماءً} أي: مطراً بأنّ يرسل رياحاً فتثير سحاباً، فيمطر على الأرض الماء {فتصبح الأرض} أي: بعد أنّ كانت مسودّة يابسة ميتة جامدة {مخضرة} حية يانعة مهتزة نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد فإن قيل: لم قال تعالى: {فتصبح} ، ولم يقل: فأصبحت؟ أجيب: بأنّ ذلك لنكتة وهي إفادة بقاء المطر زماناً بعد زمان كما تقول: أنعم عليّ فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكراً له لم يقع ذلك الموقع. فإن قيل: لم رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام؟ أجيب: بأنه لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض؛ لأنّ معناه أنبتت الأخضر فينقلب بالنصب إلى نفي الأخضر، ووجه ذلك: بأنّ النصب بتقدير أنّ وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقباً والرفع جزم بإثباته مثاله أنّ تقول لصاحبك: ألم ترَ أني أنعمت عليك فتشكر، فإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك في تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره، وهذا وأمثاله مما يجب أنّ يتنبه له من اتسم بالعلم في علم الإعراب، وتوقير أهله {إن الله} أي: الذي له تمام النعم وكمال العلم {لطيف} بعباده في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 إخراج النبات بالماء {خبير} أي: بمصالح الخلق ومنافعهم، فإنه مطلع على السرائر، وإن دقت فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط. الأمر الثاني: قوله تعالى: {له ما في السموات} أي: التي أنزل منها الماء {وما في الأرض} أي: التي استقر فيها ملكاً وخلقاً {وإنّ الله} أي: الذي له الإحاطة التامة {لهو} أي: وحده {الغني} في ذاته عن كل شيء {الحميد} أي: المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله. الأمر الثالث: قوله تعالى: {ألم ترَ} أي: أيها المخاطب {أنّ الله} ذا الجلال والإكرام {سخر لكم} فضلاً منه {ما في الأرض} كله من مسالكها وفجاجها، وما فيها من حيوان وجماد وزرع وثمار، فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى ذللهما للضعيف من الناس لما انتفع بهما أحد منهم. الأمر الرابع: قوله تعالى: {والفلك} أي: وسخر لكم الفلك أي: السفن، ثم بيّن تسخيرها بقوله: {تجري في البحر} العجاج المتلاطم بالأمواج بريح طيبة للركوب والحمل {بأمره} أي: بإذنه. الأمر الخامس: قوله تعالى: {ويمسك السماء} أي: كراهة {أنّ تقع على الأرض} التي تحتها مع علوها وعظمها وكونها بغير عمد فتهلكوا {إلا بإذنه} أي: بمشيئته، فيقع ذلك يوم القيامة حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء {إن الله} أي: الذي له الخلق والأمر {بالناس} أي: على ظلمهم {لرؤوف} أي: بما يحفظ من سرائرهم {رحيم} أي: حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أبواب المضار. {وهو} أي: وحده {الذي أحياكم} أي: عن الجمادية بعد أنّ أوجدكم من العدم {ثم يميتكم} أي: عند انقضاء آجالكم ليكون الموت واعظاً لأولي البصائر منكم {ثم يحييكم} أي: يوم البعث للثواب والعقاب وإظهار العدل في الجزاء {إن الإنسان} أي: المشرك {لكفور} أي: لبليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به فيوحد الله تعالى، وقال ابن عباس: هو الأسود بن عبد الأسد، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبيّ بن خلف، قال الرازي: والأولى تعميمه في كل المنكرين. {لكل أمة} أي: في كل زمان {جعلنا منسكاً} قال ابن عباس: شريعة يتعبدن بها {هم ناسكوه} أي: عاملون بها، وروي عنه أنه قال: عيداً، وقال مجاهد وقتادة: موضع قربان يذبحون فيه، وقيل: موضع عبادة، وقرأ حمزة والكسائي: منسكاً، بكسر السين، والباقون بفتحها {فلا ينازعنك في الأمر} أي: أمر الذبائح، نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ: صلى الله عليه وسلم ما لكم تأكلون مما تقتلون، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى؟ يعنون الميتة، وقال الزجاج: هو نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربنك فلان أي: فلا تضاربه، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين معناه لا تنازعهم أنت {وادع} أي: أوقع الدعوة لجميع الخلق {إلى ربك} المحسن إليك أي: إلى دينه، ثم علل ذلك بقوله: {إنك} مؤكداً له بحسب ما عندهم من الإنكار {لعلى هدى} أي: دين واضح {مستقيم} هو دين الإسلام. {وإن جادلوك} أي: في أمر الدين بعد أنّ ظهر الحق ولزمت الحجة {فقل الله} أي: الملك المحيط بالعز والعلم {أعلم بما تعملون} من المجادلة الباطلة وغيرها، فيجازيكم عليه وهذا وعيد فيه رفق، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال، ولما أمر الله تعالى بالإعراض عنهم، وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 ذلك شديداً على النفس لتشوقها إلى النصرة رجاه في ذلك بقوله تعالى مستأنفاً تحذيراً لهم: {الله} أي: الذي لا كفء له {يحكم بينكم} أي: بينك مع اتباعك وبينهم {يوم القيامة} الذي هو يوم التغابن {فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حلّ به، فهو كقوله: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} (الشعراء، 227) ؛ قال البغوي: والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر. {ألم تعلم أنّ الله} بجلال عزه وعظيم سلطانه {يعلم ما في السماء والأرض} فلا يخفى عليه شيء {إن ذلك} أي: ما ذكر {في كتاب} كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه، وكتب جزاؤه وهو اللوح المحفوظ {إن ذلك} أي: علم ما ذكر {على الله} وحده {يسير} أي: سهل؛ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على السواء. {ويعبدون} أي: المشركون على سبيل التجدّد والاستمرار {من دون الله} أي: من أدنى رتبة من رتبه الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال وتنزيهه عن شوائب النقص {ما لم ينزل به سلطاناً} أي: حجة واحدة من الحجج وهو الأصنام {وما ليس لهم به علم} حصل لهم من ضرورة العقل واستدلاله بالحجة {وما للظالمين} أي: الذين وضعوا التعبد في غير موضعه لارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر، وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار، فقال تعالى: {من نصير} أي: ينصرهم من الله لا مما أشركوه به ولا من غيره فيدفع عنهم عذابه أو يقرّر مذهبهم. {وإذا تتلى} أي: على سبيل التحذير والمبالغة من أيّ تال كان {عليهم آياتنا} أي: من القرآن حال كونها {بينات} لا خفاء فيها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع {تعرف في وجوه الذين كفروا} أي: تلبسوا بالكفر {المنكر} أي: الإنكار الذي هو منكر في نفسه، فيظهر أثره في وجوههم من الكراهة والعبوس لما حصل لهم من الغيظ، ثم بيّن ما لاح في وجوههم بقوله تعالى: {يكادون يسطون} أي: يوقعون السطوة بالبطش والعنف {بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي: الدالة على أسمائنا الحسنى وصفاتنا العليا القاضية بوحدانيتنا مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنّ يقابلهم بالوعيد بقوله تعالى: {قل أفأنبئكم} أي: أفأخبركم خبراً عظيماً {بشر من ذلكم} بأكره إليكم من القرآن المتلوّ عليكم، وقوله تعالى: {النار} كأنه جواب سائل قال: ما هو؟ فقيل: النار، أي: هو النار، ويجوز أنّ تكون مبتدأ خبره {وعدها الله الذين كفروا} جزاء لهم فبئس الموعد هي {وبئس المصير} أي: النار، ولما بين تعالى أنه لا حجة لعابد غيره اتبعه بأنّ الحجة قائمة على أنّ ذلك الغير في غاية الحقارة، فقال تعالى منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً: {يا أيها الناس ضرب مثل} حاصله أنّ من عبدتموه من الأصنام أحقر منكم {فاستمعوا} أي: أنصتوا {له} وتدبروه، ثم فسره بقوله تعالى: {إن الذين تدعون} أي: تعبدون وتدعونهم في حوائجكم وتجعلونهم آلهة {من دون الله} أي: الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترّون {لن يخلقوا ذباباً} أي: لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره فكيف بما هو أكبر منه {ولو اجتمعوا} أي: الذين زعمتموهم شركاء {له} أي: الخلق فهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 في هذا أمثالكم. تنبيه: {محل ولو اجتمعوا له} النصب على الحال كأنه قال تعالى: يستحيل أنّ يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أنّ الشيطان قد خدعهم بخداعه حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أنّ تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم أنّ هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أنّ يستخلصوه منه لم يقدروا كما قال تعالى: {وإن يسلبهم الذباب} أي: الذي تقدّم أنهم لا قدرة لهم على خلقه، وهو غاية في الحقارة {شيئاً} أي: من الأشياء جل أو قل {لا يستنقذوه منه} لعجزهم، فكيف يجعلونهم شركاء لله؟ هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل. تنبيه: الذباب مفرد وجمعه القليل: أذبة، والكثير: ذبان مثل غراب وأغربة وغربان، وعن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل، ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وعن ابن زيد: كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلىء، وأنواع الجواهر ويطيبونها بألوان الطيب فربما يسقط شيء منها فيأخذه طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استرداده منه {ضعف الطالب} قال الضحاك: هو العابد {والمطلوب} المعبود، وقال ابن عباس: الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم، والمطلوب هو الصنم، وقيل: على العكس الطالب الصنم، والمطلوب الذباب، أي: لو طلب الصنم أنّ يخلق الذباب لعجز عنه، ولما أنتج هذا جهلهم بالله عز وجل عبّر عنه بقوله تعالى: {ما قدروا الله} أي: الذي له الكمال كله {حق قدره} أي: ما عظموه حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع عن الذباب ولا ينتصف منه {إنّ الله} أي: الجامع لصفات الكمال {لقويّ} على خلق الممكنات بأسرها {عزيز} أي: لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها؛ قال الكلبي في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الإنعام أنها نزلت في جماعة من اليهود مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم حيث قالوا: إنّ الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض وأجناس خلقها استلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} (ق، 38) ؛ قال الرازي: واعلم أنّ منشأ هذه الشبهة هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني عن الغرض والدواعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما يقوله المعتزلة، قال أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى: فهو سبحانه وتعالى خير النعت عزيز الوصف، فالأوهام لا تصوّره والأفكار لا تقدره، والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحدّه، صمديّ الذات سرمديّ الصفات.v ولما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوّات بقوله تعالى: {الله} أي: الملك الأعلى {يصطفي} أي: يختار ويختص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 {من الملائكة رسلاً} كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام {ومن الناس} كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم نزلت حين قال المشركون: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} (ص، 8) فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه {إنّ الله} أي: الذي له الجلال والجمال {سميع} لمقالتهم {بصير} بمن يتخذه رسولاً. {يعلم ما بين أيديهم} أي: الرسل {وما خلفهم} أي: علمه محيط بما هم مطلعون عليه، وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه {وإلى الله} أي: وحده تعالى {ترجع} بغاية السهولة {الأمور} يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهراً لا خفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: تلبسوا بالإيمان {اركعوا} تصديقاً لإيمانكم {واسجدوا} أي: صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان. تنبيه: إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون، وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى: {واعبدوا} أي: بأنواع العبادة {ربكم} أي: المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، أو قد يكون بلا نية، فقال: {وافعلوا الخير} أي: كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى؛ قال أبو حيان: بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة، ثم بعام وهو: واعبدوا ربكم، ثم بأعمّ وهو: وافعلوا الخير {لعلكم تفلحون} أي: افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ: لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكلٌ ميسر لما خلق له. تنبيه: اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما» حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه، وذهب قوم إلى أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري، وقول أبي حنيفة وأصحابه؛ لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع في ذلك، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، ولما كان الجهاد أساس العبادة وهو مع كونه حقيقة في جهاد الكفار صالح لأنّ يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل، بالسيف وغيره وكل جهاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 في تهذيب النفس وإخلاص العمل ختم به فقال تعالى: {وجاهدوا في الله} أي: لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس، وقول البيضاوي: وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» . حديث رواه البيهقي وضعف إسناده، وقال غيره: لا أصل له، قيل: أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس {حق جهاده} أي: باستفراغ الطاقة في كل ما أمر به من جهاد العدوّ والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما. فإن قيل: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس في حق الجهاد في الله أو حق جهادكم في الله، كما قال تعالى: {وجاهدوا في الله} ؟ أجيب: بأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث أنه مفعول لأجله صحت إضافته إليه، وعن مجاهد عن الكلبي أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن، 16) ، ولما أمر الله تعالى بهذه الأوامر أتبعها ببعض ما يجب به شكره وهو كالتعليل لما قبله فقال تعالى: {هو اجتباكم} أي: اختاركم لدينه ولنصرته، وجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أشرف الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم لكونكم أتباعه خير الأمم {وما جعل عليكم في الدين} أي: الذي اختاره لكم {من حرج} أي: من ضيق وشدّة وهو أنّ المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله تعالى له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها بردّ المظالم والقصاص، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفقه الله تعالى وسهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر، وغير ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري، وعن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، وقوله تعالى: {ملة أبيكم} نصب بنزع الخافض وهو الكاف أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أي: اتبعوا ملة أبيكم، أو على الاختصاص أي: أعني بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد، وقوله تعالى: {إبراهيم} عطف بيان. فإن قيل: لم كان إبراهيم أباً للأمة كلها؟ أجيب: بأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أباً لأمّته؛ لأنّ أمّة الرسول في حكم أولاده. واختلف في عود ضمير {هو} على قولين أحدهما أنه يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ لكل نبيّ دعوة مستجابة، ودعوة إبراهيم عليه السلام: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} ، فاستجاب الله تعالى له فجعلها محمداً صلى الله عليه وسلم وأمّته، والثاني: أنه يعود على الله تعالى في قوله تعالى: {هو اجتباكم} ، وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى {سمّاكم المسلمين من قبل} أي: في كل الكتب المنزلة التي نزلت قبل إنزال هذا لقرآن {وفي هذا} أي: وسماكم في هذا القرآن الذي أنرل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب، وهذا القول كما قال الرازي: أقرب لأنه تعالى قال: {ليكون الرسول شهيداً عليكم} أي: يوم القيامة أنه بلغكم {وتكونوا شهداء على الناس} أي: أنّ رسلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 بلغتهم، فبيّن أنه تعالى سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى، وإنما كانوا شهداء على الناس لسائر الأنبياء؛ لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أنّ أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك صحت شهادتهم وقبلها الحكم العدل وعن كعب أعطيت هذا الأمة ثلاثاً لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} ، وعن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: لم يذكر الله بالإيمان والإسلام غير هذه الأمّة ذكرها بهما وكرّرهما جميعاً، ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام والإيمان غيرها وعن مكحول أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تسمى الله عز وجل باسمين سمى بهما أمّتي؛ هو السلام وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين» . تنبيه: في الآية دليل على أنّ شهادة غير المسلم ليست مقبولة، ولما ندبهم تعالى ليكونوا خير الأمم تسببب عن ذلك قوله تعالى: {فأقيموا الصلاة} التي هي أركان قلوبكم وصلة ما بينكم وبين ربكم أي: داوموا عليها {وآتوا الزكاة} التي هي طهرة أبدانكم، وصلة بينكم وبين إخوانكم {واعتصموا بالله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال في جميع ما أمركم به من المناسك التي تقدمت وغيرها، ثم علل تعالى أهليته بقوله تعالى: {هو} أي: وحده {مولاكم} أي: المتولي لجميع أموركم فهو ينصركم على كل من يعاديكم بحيث أنّ تتمكنوا من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها، ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله تعالى: {فنعم المولى} أي: هو {ونعم النصير} أي: الناصر لكم لأنه تعالى إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه وإذا نصر أحد أعلاه عن كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت الحديث إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها فقد انطبق آخر السورة على أوّلها ورد مقطعها على مطلعها، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» حديث موضوع. سورة المؤمنين مكية وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمانمائة حرف {بسم الله} الذي له الأمر كله {الرحمن} الذي عم إنعامه {الرحيم} الذي خص من أراد بالإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل، فأنزل عليه يوماً فمكث ساعة حتى سرّي عنه، فاسقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا، ثم قال: لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ، ثم قرأ: {قد أفلح المؤمنون} حتى ختم العشرة آيات، قال ابن عباس: قد سعد المصدّقون بالتوحيد وبقوا في الجنة، وقيل: الفلاح البقاء والنجاة، روى هذا الحديث الترمذي وغيره وأنكره النسائي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وغيره. تنبيه: قال الزمخشري قد نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. فإن قيل: ما المؤمن؟ أجيب: بأنه في اللغة هو المصدق وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه، فهو مؤمن والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقي دون الفاسق، ثم إنه تعالى حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعاً لصفات سبعة: الصفة الأولى: كونهم مؤمنين. الصفة الثانية: المذكورة في قوله تعالى: {الذين هم} أي: بضمائرهم وظواهرهم {في صلاتهم خاشعون} قال ابن عباس: مخبتون أذلاء، وقيل: خائفون، وقيل: متواضعون، وعن قتادة: الخشوع إلزام موضع السجود، روى الحاكم ـ وقال: صحيح على شرط الشيخين: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده» أي: موضع سجوده وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أنّ يشدّ بصره إلى شيء أو يحدّث بشيء من شأنّ الدنيا، وقيل: هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أنّ يستعمل الأدب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والتشبيك والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والاختصار، وتقليب الحصى؛ روى الترمذي لكن بسند ضعيف: «أنه صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» ، ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوّجني الحور العين فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث، وعنه أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله وهو في الصلاة فلا صلاة له، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها» ، وقال صلى الله عليه وسلم «كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب» وقال: «من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» . فينبغي للشخص أنّ يحتاط في صلاته ليوقعها على التمام، فإنّ بعض العلماء اختار عدم الإمامة، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أنّ يعاتبني الشافعيّ وإن قرأتها أنّ يعاتبني أبو حنيفة فاخترت عدم الإمامة طلباً للخلاص من هذا الخلاف. فإن قيل: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ أجيب: بأنّ الصلاة وصلة بين الله وبين عباده والمصلي هو المنتفع بها وحده، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته، وأما الله تعالى فهو غنيّ متعالٍ عن الحاجة إليها والانتفاع بها. الصفة الثالثة المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم} أي: بضمائرهم التي تتبعها ظواهرهم {عن اللغو} قال ابن عباس: عن الشرك {معرضون} أي: تاركون، وقال الحسن: عن المعاصي، وقال الزجاج: هو كل باطل ولهو وما لا يحمد من القول والفعل، وقيل: هو كل ما لا يعني الشخص من قول أو فعل وهو ما يستحق أنّ يسقط ويلغى، فمدحهم الله تعالى بأنهم معرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأنّ لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال تعالى: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً} أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه. الصفة الرابعة المذكورة في قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 {والذين هم للزكاة فاعلون} أي: مؤدون. تنبيه: الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين هو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى المستحق والمعنى فعل المزكي الذي هو التزكية، وهو المراد هنا؛ لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بالفعل، ويقال لمحدثه: فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكي: فاعل التزكية، ويجوز أنّ يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء، وقيل: الزكاة هنا هي العمل الصالح؛ لأنّ هذه السورة مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة قال البقاعي: والظاهر أنّ التي فرضت بالمدينة هي ذات النصب، وأنّ أصل الزكاة كان واجباً بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الأنعام، 141) انتهى. الصفة الخامسة المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم} في الجماع ومقدّماته {حافظون} أي: دائماً لا يتبعونها شهوتها، والفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام، ثم استثنى من ذلك قوله تعالى: {إلا على أزواجهم} اللاتي استحقوا أبضاعهنّ بعقد النكاح، ولعلوّ الذكر عبر بعلى ونظيره كان زياد على البصرة أي: والياً عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثم سميت المرأة فراشاً، وقيل: على بمعنى من، وجرى على ذلك البغوي {أو ما ملكت إيمانهم} رقابه من الإماء. فإن قيل: هلا قال تعالى: أو من ملكت؟ أجيب: بأنه إنما عبر بما لقرب الإماء مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكر ولأنه اجتمع فيها وصفان: أحدهما: الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والأخرى: كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع، قال البغوي: والآية في الرجال خاصة؛ لأنّ المرأة لا يجوز لها أنّ تستمتع بفرج مملوكها {فإنهم غير ملومين} على ذلك إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي، وفي حال الحيض أو النفاس أو نحو ذلك كوطء الأمة قبل الاستبراء، فإنه حرام ومن فعله فإنه ملوم. {فمن ابتغى} أي: طلب متعدياً {وراء ذلك} العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنا أو لواط أو استمناء بيد أو بهمية أو غيرها {فأولئك} المبعدون من الفلاح {هم العادون} أي: المبالغون في تعدّي الحدود، عن سعيد بن جبير قال: عذب الله تعالى أمّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم، أي: في أيديهم، وقيل: يحشرون وأيديهم حبالى. الصفة السادسة: المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم} أي: في الفروج وغيرها سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام، أو بينهم وبين الخلق كالودائع والبضائع، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق {وعهدهم راعون} أي: حافظون بالقيام والرعاية والإصلاح، والعهد ما عقده الشخص على نفسه فيما يقربه إلى ربه، ويقع أيضاً على ما أمر الله تعالى به كقوله تعالى: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا} (آل عمران، 183) تنبيه: سمي الشىء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً، ومنه قوله تعالى: {إنّ الله يأمركم أنّ تؤدّوا الأمانات إلى أهلها} (النساء، 58) ، وقال تعالى: {وتخونوا أماناتكم} (الأنفال، 37) ، وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها. وقرأ ابن كثير: لأمانتهم بغير ألف بين النون والتاء على الإفراد لا من الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر، والباقون بالألف على الجمع. الصفة السابعة المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم على صلواتهم} التي وصفوا بالخشوع فيها {يحافظون} أي: يواظبون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 عليها ولا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم، ويؤدّونها في أوقاتها. فإن قيل: كيف كرّر الصلاة أولاً وآخراً؟ أجيب: بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخر بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها، وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أيّ صلاة كانت وجمعت آخراً على غير قراءة حمزة والكسائي، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء، والوتر والضحى وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل، ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى: {أولئك} أي: البالغون من الإحسان أعلى مكان {هم الوارثون} أي: المستحقون لهذا الوصف، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وقال مجاهد: لكل واحد منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار» ، وقال بعض المفسرين: معنى الوراثة هو أنّ يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث. {الذين يرثون الفردوس} وهو أعلى الجنة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» اللهمّ بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله {هم فيها خالدون} أي: لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى: {فيها} ، على تأنيث الجنة، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر، روي «أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الإذفر ـ وفي رواية: ولبنة من مسك مذرى ـ وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان» ، وروي «أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» ، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة، والجنة مخلوقة الآن؛ قال تعالى: {أعدت للمتقين} (آل عمران، 133) ، ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعاً: الأول: الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة، وهي تسع مراتب. الأولى: قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} أي: آدم {من سلالة} هي من سللت الشيء من الشيء أي: استخرجته منه، وهو خلاصته، وقال ابن عباس: السلالة صفرة الماء، وقوله تعالى: {من طين} متعلق بسلالة، وقيل: المراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 بالإنسان هذا النوع؛ والسلالة قال مجاهد: من بني آدم، وقال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر، والعرب تسمي النطفة سلالة، والولد سليلاً وسلالة؛ لأنهما مسلولان منه. المرتبة الثانية: قوله تعالى: {ثم جعلناه} أي: نسله، فحذف المضاف {نطفة} أي: منياً من الصلب والترائب بأنّ خلقناه منها {في قرار مكين} أي: مستقر حصين هو الرحم. تنبيه: مكين في الأصل صفة للمستقر في الرحم وصف به المحل للمبالغة كما عبّر عنه بالقرار. المرتبة الثالثة: قوله تعالى: {ثم} أي: بعد تراخ في الزمان، وعلوّ في المرتبة والعظمة {خلقنا} أي: بما لنا من العظمة {النطفة} أي: البيضاء جداً {علقة} حمراء دماً غليظاً. شديد الحمرة جامداً غليظاً، المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {فخلقنا} أي: بما لنا من القوة والقدرة العظيمة {العلقة مضغة} أي: قطعة لحم قدر ما يمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط. المرتبة الخامسة: قوله تعالى: {فخلقنا المضغة} أي: بتقليبها بما شئنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة {عظاما} من رأس ورجلين وما بينهما. المرتبة السادسة: قوله تعالى: {فكسونا} بما لنا من قوة الاختراع تلك {العظام لحماً} بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظاماً فسترنا تلك العظام، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر: عظاماً، والعظام بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع، والباقون بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع؛ قال الجلال المحلي: وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى صيرنا. المرتبة السابعة: قوله تعالى: {ثم أنشأناه} أي: هذا المحدث عنه بعظمتنا {خلقاً آخر} أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً وناطقاً، وكان أبكم وسميعاً، وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع ظاهره وباطنه بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطره وغرائب حكمه لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح، وثم لما بين الخلقين من التفاوت؛ قال الزمخشري: وقد احتج به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده، فقال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة، اه. ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق؛ قال تعالى: {فتبارك الله} أي: تنزه عن كل شائبة نقص وحاز جميع صفات الكمال، وأشار إلى جمال الإنسان بقوله تعالى: {أحسن الخالقين} أي: المقدرين، ومميز أحسن محذوف أي: خلقا. روي «عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله {خلقاً آخر} قال: فتبارك الله أحسن الخالقين» وروي «أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا فنزلت فقال عبد الله: إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ» ، فلحق بمكة كافراً، ثم أسلم يوم الفتح، وروى «سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت يا عمر وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع: الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن أو ليبدلن الله خيراً منكن فنزل قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن} (التحريم، 5) الآية، والرابع: قلت: فتبارك الله أحسن الخلقين، فقال: هكذا نزل» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 قال العارفون: هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر والشقاوة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه قيل: إنه مات كافراً؛ قال الله تعالى: {يضل به كثيراً} (البقرة، 26) ويهدي به كثيراً، المرتبة الثامنة: قوله تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك} أي: الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد فى العمر في آجال متفاوتة ما بين طفل ورضيع ومحتلم شديد وشاب نشيط وكهل عظيم وشيخ هرم إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير {لميتون} أي: لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت وهو ميت دون اسم الفاعل، وهو مائت، فإنه للحدوث لا للثبوت. المرتبة التاسعة: قوله تعالى: {ثم إنكم يوم القيامة} أي: الذي تجمع فيه جميع الخلائق {تبعثون} للحساب والجزاء. النوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بخلق السموات وهو قوله تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم} في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك {سبع طرائق} أي: سموات جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة ومتعلقاتهم، وقيل: الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها، وقيل: لأنها طرق بعضها فوق بعض كطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة {وما كنا} أي: بمالنا من العظمة {عن الخلق} أي: الذي خلقناه تحتها {غافلين} أي: أنّ تسقط عليهم فتهلكهم بل نمسكها كآية ويمسك السماء أنّ تقع على الأرض إلا بإذنه ولا مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلاف وتدبير أمرها حتى تبلغ منتهى أمرها، وما قدر لها من الكمال حسب ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة. النوع الثالث من الدلائل: الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيرها في النبات، وهو قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء} أي: من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه {ماء بقدر} أي: بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار {فأسكناه} أي: فجعلناه ثابتاً مستقراً {في الأرض} كقوله تعالى: {فسلكه ينابيع في الأرض} (الزمر، 21) ، و «عن ابن عباس عن النبي: صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند، وجيحون نهر بلخ، ودجلة والفرات نهرا العراق، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء» وذلك قوله تعالى: {وإنا على ذهاب به لقادرون} قدرة هي في نهاية العظمة، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا؛ قال البغوي: وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حبان. تنبيه: في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 في الإيعاد من قوله تعالى: {قل أرأيتم إنّ أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين} (الملك، 30) ، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى: {فأنشأنا} أي: فأخرجنا وأحيينا {لكم} خاصة لا لنا {به} أي: بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي {جنات} أي: بساتين {من نخيل وأعناب} صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني، فإنه المقصود من شجرته، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى: {لكم} أي: خاصة {فيها} أي: الجنات {فواكه كثيرة} تتفكهون بها {ومنها} أي: ومن الجنات من ثمارها وزروعها {تأكلون} رطباً ويابساً وتمراً وزبيباً، وقوله تعالى: {وشجرة} عطف على جنات أي: وأنشأنا لكم شجرة أي: زيتونة {تخرج من طور سيناء} وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه السلام بين مصر وإيلة، وقيل: بفلسطين، وفي رواية أخرى: طور سينين، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين، وإما أنّ يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس، وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون لم يصرفه؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء؛ قال مجاهد: معناه البركة أي: من جبل مبارك، وقال قتادة: معناه الحسن أي: الجبل الحسن، وقال الضحاك: هو بالقبطية ومعناه الحسن، وقال عكرمة: بالحبشية، وقال مقاتل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سيناء وسينين بلغة القبط. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {تنبت} بضم التاء الفوقية، وكسر الباء الموحدة من الرباعي، والباقون بفتح الفوقية وضم الموحدة من الثلاثي فقوله تعالى: {بالدهن} تكون الباء على الأول زائدة، وعلى الثاني معدية قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل؛ لأنّ منه تشعبت في البلاد وانتشرت؛ ولأنّ معظمها هناك. قال بعض المفسرين: وإنما عرف الدهن؛ لأنه أجل الأدهان وأكملها، وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وقوله تعالى: {وصبغ للآكلين} عطف على الدهن أي: إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه، وهو الزيت؛ قيل: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة} (النور، 35) النوع الرابع من الدلائل: الاستدلال بأحوال الحيوانات، وهو قوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} عظيمة تعتبرون بها وتستدلون بها على البعث وغيره {نسقيكم مما في بطونها} أي: اللبن نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به من بين الفرث والدم {ولكم فيها} أي: جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيماً لمنافعها حتى كأنّ غيرها عدم {منافع كثيرة} باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها وبأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من آثارها {ومنها تأكلون} أي: وكما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بسهولة من غير امتناع مّا من شيء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 ذلك ولو شاء لمنعها وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج أو جعله قذراً لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها. {وعليها} أي: الأنعام الصالحة للحمل وهي الإبل والبقر، وقيل: المراد الإبل خاصة؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفن في قوله تعالى: {وعلى الفلك تحملون} لأنها سفائن البر، فكما يحمل على الفلك في البحر فيحمل على هذه في البر قال ذو الرمة في المعنى: *سفينة بر تحت خدي زمامها قال الزمخشري: يريد صيدحه أي: ناقته؛ لأنّ اسمها كان صيدح قال: *رأيت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا يريد بلال بن أبي بردة الأشعري والي الكوفة، ولما بيّن سبحانه وتعالى دلائل التوحيد أردفها بذكر القصص كما هو العادة في سائر السور مبتدئاً بقصة نوح عليه السلام، فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {نوحاً} وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما الصلاة والسلام، وكان اسمه يشكر، وسمي نوحاً لوجوه: أحدها: لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم الله تعالى بالطوفان، فندم على ذلك، ثانيها: لمراجعته ربه في شأنّ ابنه، ثالثها: أنه مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. {إلى قومه} وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة محصورين لا أنه أرسل إلى الخلق كافة؛ لأنّ ذلك من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء {فقال} أي: فتسبب عن ذلك أنّ قال {يا قوم} ترفقاً بهم {اعبدوا الله} وحده لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال، واستأنف على سبيل التعليل قوله: {ما لكم من إله} أي: معبود بحق {غيره} فلا تعبدوا سواه {أفلا تتقون} أي: أفلا تخافون عقوبته إن عبدتم غيره، وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء، والباقون بضمهما. {فقال} أي: فتسبب عن ذلك أنّ كذبوه بأنّ قال {الملأ} أي: الأشراف الذي تملأ رؤيتهم الصدور عظمة {الذين كفروا من قومه} لعوامهم {ما هذا} أي: نوح عليه السلام {إلا بشر مثلكم} أي: فلا يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أنّ يكون بعض البشر نبياً، ولم ينكروا أنّ يكون بعض الطين إنساناً وبعض الماء علقة، وبعض العلقة مضغة إلى آخره، فكأنه قيل: ما حمله على ذلك فقالوا: {يريد أنّ يتفضل} يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا {عليكم} لتكونوا أتباعاً له ولا خصوصية له دونكم {ولو شاء الله} أي: الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره {لأنزل} كذلك {ملائكة} رسلاً بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري: وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للألوهية بحجر {ما سمعنا بهذا} أي: الذي دعا إليه نوح من التوحيد {في آبائنا الأولين} أي: الأمم الماضية. {إن} أي: ما {هو إلا رجل به جنة} أي: جنون ولأجله يقول ما يدعيه {فتربصوا به} أي: فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه {حتى} أي: إلى {حين} لعله يفيق أو يموت، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال} عندما أيس من فلاحهم {رب انصرني} أي: أعني عليهم {بما كذبون} أي: بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل. {فأوحينا} أي: فتسبب عن دعائه أنّ أوحينا {إليه أنّ اصنع الفلك} أي: السفينة {بأعيننا} أي: إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 ولا من أمرهم، وأنّ تعرف قدرتنا على كل شيء، فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم، روي أنه لما أوحي إليه أنّ يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر؛ قال الجوهري: جؤجؤ الطائر والسفينة صدرهما والجمع الجآجىء. ولما كان لا يعلم الصنعة قال تعالى: {ووحينا} أي: وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع، فإنّ جبريل علمه عمل السفينة، ووصف كيفية اتخاذها له، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في سورة هود {فإذا جاء أمرنا} أي: بالهلاك عقب فراغك منها أو بالركوب {وفار التنور} قال ابن عباس: وجه الأرض، وفي القاموس: التنور الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وعن قتادة: أنه أشرف موضع في الأرض أي: أعلاه، وعن علي: طلع الفجر، وعن الحسن: أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه، وقيل: هو مثل كقولهم: حمي الوطيس، والأقرب كما قال الرازي، وعليه أكثر المفسرين، هو التنور المعروف بتنور الخباز، فيكون له فيه آية، روي أنه قيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور في التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته، فركب وقيل: كان تنور آدم، وكان من حجارة، فصار إلى نوح، واختلف في مكانه، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد، وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة، وقيل: بالهند. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من الهمزتين المفتوحتين من كلمتين، وحقق الأولى وسهل الثانية ورش وقنبل {فاسلك} أي: أدخل {فيها} أي: السفينة {من كل زوجين،} من الحيوان {اثنين} ذكراً وأنثى، وقرأ حفص بتنوين اللام من كل أي: من كل نوع زوجين، فزوجين مفعول واثنين تأكيد، والباقون بغير تنوين، فاثنين مفعول، ومن متعلق باسلك، وفي القصة إن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب يده في كل جمع، فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة، وروي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض {وأهلك} أي: وأهل بيتك من زوجك وأولادك {إلا من سبق عليه} لا له {القول منهم} بالهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث، فحملهم وزوجاتهم الثلاثة، وفي سورة هود {ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} (هود، 40) ، قيل: كانوا ستة رجال ونساءهم، وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء {ولا تخاطبني} أي: بالسؤال في النجاة {في الذين ظلموا} أي: كفروا، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنهم مغرقون} أي: قد حتم القضاء عليهم لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له، فإنه تعالى بعد أنّ أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أنّ يجعلوا عبرة للمعتبرين ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل، ولقد بالغ سبحانه وتعالى حيث اتبع النهي عنه الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم بقوله تعالى: {فإذا استويت} أي: اعتدلت {أنت ومن معك} أي: من البشر وغيرهم {على الفلك} ففرغت من امتثال الأمر بالحمل {فقل الحمد لله} أي: الذي لا كفء له؛ لأنه مختص بصفات الحمد {الذي نجانا} بحملنا فيه {من القوم} أي: الأعداء الأغبياء {الظالمين} أي: الكافرين لقوله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} (الأنعام، 45) تنبيه: إنما قال تعالى: قل، ولم يقل: قولوا؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان لهم نبياً وإماماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وإن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي، ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالحمل أتبعه بالإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض بقوله تعالى: {وقل رب أنزلني} في الفلك ثم في الأرض، وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه {منزلاً مباركاً} أي: يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وقرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي: مكان النزول، والباقون بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان، ثم إن الله تعالى أمره أنّ يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته وهو قوله تعالى: {وأنت خير المنزلين} ما ذكر لأنك تكفي نزيلك كل ملم وتعطيه كل أمر، ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص حث على تدبرها بقوله تعالى: {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من أمر نوح والسفينة وإهلاك الكفار {لآيات} أي: دلالات على قدرة الله تعالى وصدق الأنبياء في أنّ المؤمنين هم المفلحون وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين، وإن عظمت شوكتهم واشتدت صولتهم {وإن كنا} بما لنا من العظمة والوصف الثابت الدال على تمام القدرة {لمبتلين} أي: فاعلين فعل الخبير المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالح منهم من غيره، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم وينقص سيئاتهم ويعلي درجاتهم، ثم نجعل لهم العاقبة كما قال تعالى: {والعاقبة للمتقين} (الأعراف، 128) تنبيه: إن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة. القصة الثانية: قصة هود، وقيل: صالح عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى: {ثم أنشأنا} أي: أحدثنا وأحيينا {من بعدهم} أي: من بعد إهلاكهم {قرناً} أي: قوماً {آخرين} هم عاد قوم هود، وقيل: ثمود قوم صالح. {فأرسلنا} أي: فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أنا أرسلنا {فيهم رسولاً منهم} هو هود، وقيل: صالح؛ قال البغوي: والأوّل هو الأظهر وهو المروي عن ابن عباس ويشهد له حكاية الله قول هود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} (الأعراف، 69) ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء، ثم بين تعالى ما أرسل به بقوله تعالى: {أن اعبدوا الله} أي: وحدوه لأنه لا مكافىء له، ثم دل على الاستغراق بقوله تعالى: {ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} أي: هذه الحالة التي أنتم عليها مخافة عقابه فتؤمنون، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بكسرها، والقراءة في غيره ذكرت قريباً.k {وقال الملأ} أي: الأشراف التي تملأ رؤيتهم الصدور {من قومه الذين كفروا} أي: غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين {وكذبوا بلقاء الآخرة} أي: بالمصير إليها {وأترفناهم} أي: والحال أنا بما لنا من العظمة نعمناهم {في الحياة الدنيا} بالأموال والأولاد وكثرة السرور يخاطبون أتباعهم {ما هذا} أشاروا إليه تحقيراً له عند المخاطبين {إلا بشر مثلكم} في الخلق والحال، ثم وصفوه بما يوهم المساواة لهم في كل وصف فقالوا: {يأكل مما تأكلون منه} أي: من طعام الدنيا {ويشرب مما تشربون} أي: من شرابها فكيف يكون رسولاً دونكم، وقولهم: {ولئن} اللام لام قسم أي: والله لئن {أطعتم بشراً مثلكم} أي: فيما يأمركم به {إنكم إذاً} أي: إن أطعتموه {لخاسرون} أي: مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه، ثم بينوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 إنكارهم بقولهم: {أيعدكم أنكم إذا متم} ففارقت أرواحكم أجسادكم {وكنتم} أي: وكانت أجسادكم {تراباً} باستيلاء التراب على ما دون عظامكم {وعظاماً} مجردة عن اللحوم والأعصاب {أنكم مخرجون} أي: من تلك الحالة التي صرتم إليها فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام. تنبيه: قوله تعالى: مخرجون خبر إنكم الأولى، وإنكم الثانية تأكيد لها لما طال الفصل، ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعاد ذلك فقالوا: {هيهات هيهات} اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي: بعد بعد جداً، وقال ابن عباس: هي كلمة بعد أي: بعيد، ثم كأنه قيل: لأي شيء هذا الاستبعاد؟ فقيل: {لما توعدون} من الإخراج من القبور فإن قيل: ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أنّ يرفع بهيهات كما ارتفع به في قوله: *فهيهات هيهات العقيق وأهله فما هذه اللام؟ أجيب: بأنّ الزجاج قال في تفسيره: البعد لما توعدون فنزل منزلة المصدر، ويصح أنّ تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به أو أنّ اللام زائدة للبيان. فائدة: وقف البزي والكسائي على هيهات الأولى والثانية بالهاء، والباقون بالتاء على المرسوم. وقولهم: {إن هي} ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة {إلا حياتنا الدنيا} ثم وضع هي موضع الحياة؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت، والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس {نموت ونحيى} أي: يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم، وقيل: يموت قوم ويحيا قوم، وقيل: تموت الآباء وتحيا الأبناء، وقيل: في الآية تقديم وتأخير أي: نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا: {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت فكأنه قيل: فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل: كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا: {إن} أي: ما {هو إلا رجل افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {كذباً} فلا يلتفت إليه {وما نحن له بمؤمنين} أي: بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال رب} أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم {انصرني} أي: أوقع لي النصر {بما كذبون} فأجابه ربه بأن: {قال عما قليل} من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها {ليصبحن} أي: ليصيرنّ {نادمين} أي: على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب. {فأخذتهم الصيحة} أي: صيحة العذاب والهلاك كائنة {بالحق} أي: الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا، وقيل: صيحة جبريل عليه السلام، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق {فجعلناهم} بسبب الصيحة {غثاء} أي: مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله: {فجعله غثاء أحوى} (الأعلى، 5) أي: أسود يابساً، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى: {فبعداً} أي: هلاكاً وطرداً عن الرحمة {للقوم الظالمين} الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم. تنبيه: يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم، ووضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعداً وسحقاً ونفراً وتخويفاً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها. القصة الثالثة: المذكورة في قوله تعالى: {ثم أنشأنا} أي: بعظمتنا التي يضرها تقديم ولا تأخير {من بعدهم} أي: من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده {قرونا} أي: أقواماً {آخرين} فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلاً كما تقدم، وتارة يقص مجملاً كما هنا، وقيل: المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام، وعن ابن عباس: بني إسرائيل، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى: {ما تسبق من أمة أجلها} أي: الذي قدر لها بأنّ تموت قبله {وما يستأخرون} عنه. تنبيه: ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة. {ثم أرسلنا رسلنا تتراً} أي: متتابعين بين كل اثنين زمان طويل، وقرأ أبو عمرو: رسلنا بسكون السين، والباقون برفعها، وقرأ تترا، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالاً، والباقون بغير تنوين، ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: {كلما جاء أمّة رسولها} أي: بما أمرناه من التوحيد {كذبوه} أي: كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك. تنبيه: أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو، والباقون بتحقيقهما، وهم على مراتبهم في المدّ {فأتبعنا} القرون بسبب تكذيبهم {بعضهم بعضاً} في الإهلاك، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أحاديث} أي: أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل: *ولا شيء يدوم فكن حديثاً ... جميل الذكر فالدنيا حديث والأحاديث تكون جمعاً للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعاً للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى: {فبعداً لقوم} أي: أقوياء على ما يطلب منهم {لا يؤمنون} أي: لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل. القصة الرابعة: قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى: {ثم أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {موسى وأخاه هارون بآياتنا} قال ابن عباس: الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات {وسلطان مبين} أي: حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى: {من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} ، ويجوز أنّ يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السلام، وإنّ يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج، وإنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي، قال الرازي: واعلم أنّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات. {إلى فرعون وملئه} أي: وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدماً، ومن الواضح أنّ التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأشار بقوله تعالى: {فاستكبروا} إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت، وطلبوا أنّ لا يكونوا تحت أمر من دعاهم، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى: {وكانوا قوماً} أي: أقوياء {عالين} أي: متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم، ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى: {فقالوا أنؤمن} أي: بالله تعالى مصدقين {لبشرين مثلنا} أي: في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم: {وقومهما} أي: والحال أنّ قومهما أي: بني إسرائيل {لنا عابدون} خضوعاً وتذللاً أي: في غاية الذل والانقياد كالعبيد، فنحن أعلى منهما بهذا، أو لأنه كان يدعي الإلهية، فادعى للناس العبادة وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة. {فكذبوهما} أي: فرعون وملؤه موسى وهارون، {فكانوا} أي: فرعون وملؤه بسبب تكذيبهم {من المهلكين} أي: بالغرق ببحر القلزم ولم تغنِ عنهم قوّتهم في أنفسهم، ولا قوتهم على خصوص بني إسرائيل واستعبادهم ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم، ولما كان ضلال بني إسرائيل بعد إنقاذهم من عبودية فرعون وقومه أعجب قال تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولقد آتينا} أي: بعظمتنا {موسى الكتاب} أي: التوراة {لعلهم} أي: قوم موسى وهارون عليهما السلام {يهتدون} من الضلالة إلى المعارف والأحكام، ولا يصح عود الضمير إلى فرعون وملئه؛ لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه بدليل قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} (القصص، 43) القصة الخامسة: قصة عيسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وجعلنا} أي: بعظمتنا وقدرتنا {ابن مريم} نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية، وزاد في تحقيق ذلك بقوله: {وأمه} وقال تعالى: {آية} ولم يقل: آيتين؛ لأنّ الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل، ويحتمل أنّ الآية الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية لأنّ الله تعالى: جعل مريم آية لأنها حملته من غير ذكر، وقال الحسن: قد تكلمت في صغرها كما تكلم عيسى وهو قولها: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} ، ولم تلتقم ثدياً قط. تنبيه: قال بعض المفسرين: ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية للقدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومن ذكر بلا أنثى وهي حوّاء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام، ومن الزوجين وهو بقية الناس {وآويناهما} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 بعظمتنا {إلى ربوة} أي: مكان عالٍ من الأرض. تنبيه: قد اختلف في هذه الربوة، فقال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وكعب، قال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وقال أبو هريرة: هي الرملة، وقال السدي: هي أرض فلسطين، وقال ابن زيد: هي مصر، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء، والباقون بضم الراء {ذات قرار} أي: منبسطة مستوية واسعة يستقر عليها ساكنوها {ومعين} أي: ماء جار ظاهر تراه العيون. تنبيه: قد اختلف في زيادة ميم معين وأصالتها فوجه من جعلها مفعولاً أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلاً أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة قيل: سبب الإيواء أنها مرت بابنها إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم وههنا آخر القصص. وقد اختلف في المخاطب بقوله تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} على وجوه؛ أحدها: أنه محمد صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة، ثانيها: أنه عيسى عليه السلام؛ لأنه روي أنّ عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، ثالثها: أنه كل رسول خوطب بذلك، ووصي به لأنه تعالى في الأزل متكلم آمر ناهٍ، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين بل الخطاب أزلاً على تقدير وجود المخاطبين، فقول البيضاوي: لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أنّ كلاً منهم خوطب به في زمانه، تبع فيه «الكشاف» ، فإن المعتزلة أنكروا قدم الكلام فحملوا الآية على خلاف ظاهرها، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط ما ذكر إنما هو في التعلق المعنوي لا التنجيزي الذي الكلام فيه، فإنه مشروط فيه ذلك، وإنما خاطب جميع الرسل بذلك ليعتقد السامع أنّ أمراً خوطب به جميع الرسل ووصوا به حقيق أنّ يؤخذ به ويعمل عليه، وهذا كما قال الرازي أقرب؛ لأنه روي «عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم، فرد صلى الله عليه وسلم إليها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي، ثم رده صلى الله عليه وسلم وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي، فأخذه ثم إنها جاءته فقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى الله عليه وسلم بذلك أمرت الرسل أنّ لا تأكل إلا طيباً، ولا تعمل إلا صالحاً» ، والمراد بالطيب الحلال، وقيل: طيبات الرزق الحلال الصافي القوام، فالحلال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه، والصافي هو الذي لا ينسى الله فيه، والقوام هو الذي يمسك النفس ويحفظ العقل، وقيل: المراد بالطيب المستلذ أي: ما تستلذه النفس من المأكل والمشرب والفواكه، ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} (المؤمنون، 50) ، واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} قال للمؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، ودل سبحانه وتعالى على أنّ الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى: {واعملوا صالحاً} فرضاً ونفلاً سراً وجهراً غير خائفين من أحد غير الله تعالى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى: {إني بما} أي: بكل شيء {تعملون عليم} أي: بالغ العلم فأجازيكم عليه، وقرأ: {وإن هذه} بكسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 الهمزة الكوفيون على الاستئناف، والباقون بفتحها على تقدير واعلموا أنّ هذه أي: ملة الإسلام، وخفف النون ساكنة ابن عامر وشدّدها مفتوحة الباقون {أمتكم} أي: دينكم أيها المخاطبون أي: يجب أنّ تكونوا عليها حال كونها {أمة واحدة} لا شتات فيها أصلاً، فما دامت موحدة، فهي مرضية {وأنا ربكم} أي: المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي، فمن وحدني نجا، ومن أشرك معي غيري هلك {فاتقون} أي: فاحذرون. {فتقطعوا} أي: الأمم وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم؛ لأنّ الآية التي قبلها قد صرحت بأنّ الأنبياء ومن نجا منهم أمة واحدة لا خلاف بينهما، فعلم قطعاً أنّ الضمير للأمم، ومن نشأ بعدهم ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم فقدم، وقوله: {أمرهم} أي: دينهم بعد أنّ كان مجتمعاً متصلاً {بينهم} وقوله تعالى: {زبراً} حال من فاعل تقطعوا أي: أحزاباً متخالفين، فصاروا فرقاً كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الأديان المختلفة جمع زبور بمعنى الفرقة، وقيل: معنى زبراً كتباً أي: تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب {كل حزب} أي: فرقة من المتحزبين {بما لديهم} أي: عندهم من ضلال وهدى، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {فرحون} أي: مسرورون فضلاً عن أنهم راضون، وقوله تعالى: {فذرهم} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: اترك كفار مكة {في غمرتهم} أي: ضلالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها {حتى حين} أي: إلى أنّ يقتلوا أو يموتوا، سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره، ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أنّ حالهم في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد حالة رضا عنهم أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة، وكتبت له الحسنى وزيادة فقال تعالى: {أيحسبون} أي: لضعف عقولهم، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها {أنما نمدهم} أي: نعطيهم ونجعله مدداً لهم {به من مال} نيسره لهم {وبنين} نمتعهم بهم، ثم أخبر عن أنّ بقوله تعالى: {نسارع} أي: نعجل {لهم} أي: به {في الخيرات} لا نفعل ذلك {بل لا يشعرون} أنهم في غاية البعد عن الخيرات {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} (الأعراف، 182) ، وقال تعالى في موضع آخر: {فلا تعجبك أمولهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (التوبة، 55) ، وروي عن زيد بن ميسرة أنه قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أنّ أبسط إليه الدنيا، وهو أبعد له مني، ويحزن أنّ أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني، وعن الحسن أنه لما أتي عمر رضي الله عنه بسواري كسرى فأخذهما ووضعهما في يد سراقة بن مالك فبلغا منكبيه، فقال عمر: اللهم إني قد علمت أنّ نبيك عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يصيب مالاً لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه، ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك اللهم لا يكون ذلك مكراً منك، ثم تلا: {أيحسبون} الآية. ولما ذكر أهل الافتراق ذكر أهل الوفاق ووصفهم بأربع صفات. الأولى: قوله تعالى: {إن الذين هم} أي: ببواطنهم {من خشية ربهم} أي: الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم {مشفقون} أي: دائمون على الحذر. الصفة الثانية: قوله تعالى: {والذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 هم بآيات ربهم} أي: القرآن {يؤمنون} أي: يصدقون. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {والذين هم بربهم} أي: الذي لا محسن إليهم غيره {لا يشركون} أي: شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في الإحسان إليهم أحد، ولما أثبت لهم الإيمان الخالص نفى عنهم العجب بقوله تعالى: {والذين يؤتون} أي: يعطون {ما آتوا} أي: ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة، وهذه الصفة الرابعة {وقلوبهم وجلة} أي: شديدة الخوف أنّ لا يقبل منهم ولا ينجيهم من عذاب الله، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {أنهم إلى ربهم} أي: الذي طال إحسانه إليهم {راجعون} بالبعث، فيجازيهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل وكثير، وهو الناقد البصير، ولا تنفع هناك الندامة، وليس هناك إلا الحكم العدل والحكم القاطع من جهة مالك الملك؛ قال الحسن البصري: المؤمن جمع إيماناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً، ثم أثبت لهم ما أفهم أنّ ضده لأضدادهم بقوله تعالى: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} أي: يبادرون إلى الأعمال الصالحة قبل الموت، ولما ذكر تعالى كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر أنه تعالى لا يكلف أحداً فوق طاقته بقوله تعالى: {ولا نكلف نفساً إلا وسعها} أي: طاقتها، فمن لم يستطع أن يصلي الفرض قائماً فليصل قاعداً، ومن لم يستطع أنّ يصلي قاعداً فليصل مضطجعاً، ومن لم يستطع أنّ يصوم رمضان فليفطر؛ لأنّ مبنى المخلوق على العجز {ولدينا} أي: وعندنا {كتاب ينطق بالحق} بما عملته كل نفس، وهو اللوح المحفوظ تسطر فيه الأعمال، وقيل: كتب الحفظة ونظيره قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} (الجاثية، 29) ، وقوله تعالى: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف، 49) ، فشبه تعالى الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرف بما فيه كما يعرف بنطق الناطق إذا كان محقاً فإن قيل: ما فائدة ذلك الكتاب مع أنّ الله تعالى يعلم ذلك إذ لا تخفى عليه خافية؟ أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء، وقد يكون في ذلك حكمة لا يطلع عليها إلا هو تعالى {وهم} أي: الخلق كلهم {لا يظلمون} أي: لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم، ثم ذكر حال الكفار فقال تعالى: {بل قلوبهم} أي: الكفرة من الخلق {في غمرة} أي: جهالة قد أغرقتها {من هذا} أي: القرآن أو الذي وصف به حال هؤلاء أو من كتاب الحفظة {ولهم أعمال من دون ذلك} المذكور للمؤمنين {هم} أي: الكفار {لها} أي: لتلك الأعمال الخبيثة {عاملون} أي: لا بد أنّ يعملوها فيعذبون عليها لما سبق من الشقاوة. {حتى إذا أخذنا مترفيهم} أي: رؤساءهم وأغنياءهم {بالعذاب} قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر، وقيل: هو الجوع دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فابتلاهم الله تعالى بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والقذر والأولاد {إذا هم يجأرون} أي: يصيحون ويستغيثون ويجزعون، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع؛ قاله البغوي، فكأنه قيل: فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم؟ فقيل: لا بل يقال لهم بلسان الحال أو المقال. {لا تجأروا اليوم} فإن الجأر غير نافع لكم، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنكم منا لا تنصرون} أي: بوجه من الوجوه، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصراً فلا فائدة لجأره إلا إظهار الجزع، ثم علل عدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 نصره لهم بقوله تعالى: {قد كانت آياتي} أي: من القرآن {تتلى عليكم} أي: من أوليائي وهم الهداة النصحاء {فكنتم} كوناً هو كالجبلة {على أعقابكم} عند تلاوتها {تنكصون} أي: تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها، والنكوص الرجوع القهقرى. {مستكبرين} عن الإيمان، واختلف في عود الضمير في {به} فقال ابن عباس: بالبيت الحرام، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره، وذلك أنهم يقولون: نحن أهل حرم الله وجيران بيته، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحداً، فيأمنون فيه، وسائر الناس في الخوف، وقيل: بالقرآن، فلم يؤمنوا به، وقوله تعالى: {سامراً} نصب على الحال أي: جماعة يتحدثون بالليل حول البيت، وقوله تعالى: {تهجرون} قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي: تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم، أي: تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحراً وشعراً، ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردَّ عليهم بأنّ بين أنّ إقدامهم على هذه الأمور لا بد أنّ يكون لأحد أمور أربعة: أحدها: أنّ لا يتأملوا في دليل نبوّته، وهو المراد من قوله تعالى: {أفلم يدّبروا القول} أي: القرآن الدال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال. ثانيها: أنّ يعتقدوا أنّ ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى: {أم جاءهم} في هذا القول {ما لم يأت آباءهم الأولين} الذين بعد إسماعيل وقبله. ثالثها: أنّ لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة، وهو المراد من قوله تعالى: {أم لم يعرفوا رسولهم} أي: الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلى الله عليه وسلم وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين {فهم} أي: فتسبب عن جهلهم به أنهم {له} أي: نفسه أو القول الذي أتى به {منكرون} فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل، ثم كذبوه. رابعها: أنّ يعتقدوا فيه الجنون فيقولوا إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، وهو المراد من قوله تعالى: {أم يقولون} أي: بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن {به} أي: رسولهم {جنة} أي: جنون فلا يوثق به. ولما كانت هذه الأقسام منفية عنه فإنهم أعرف الناس بهذا النبي الكريم، وإنه أكملهم خلقاً وأشرفهم خلقاً، وأظهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً وأمتنهم رأياً، وأرضاهم قولاً وأصوبهم فعلاً أضرب عنها وقال تعالى: {بل} أي: لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأنّ هذا الرسول الكريم {جاءهم بالحق} أي: القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام، وقال الجلال المحلي: الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسول للأمم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأنّ لا جنون به، وبل للانتقال {وأكثرهم} أي: والحال أنّ أكثرهم {للحق كارهون} متابعة للأهواء الردية والشهوات البهيمية عناداً، وإنما قيد تعالى الحكم بالأكثر؛ لأنّ بعضهم يتركه جهلاً وتقليداً وخوفاً من أنّ يقال صبأ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله تعالى وتأييداً، ثم بين تعالى أنّ اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم بقوله تعالى: {ولو اتبع الحق} أي: القرآن {أهواءهم} بأنّ جاء بما يهووه من الشرك والولد لله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {لفسدت السموات} على علوها وإحكامها {والأرض} على كثافتها وانتظامها {ومن فيهن} على كثرتهم وانتشارهم وقوّتهم أي: خرجت عن نظامها المشاهد بسبب ادعائهم تعدد الآلهة لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم كما سبق تقريره في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء، 22) ، {بل أتيناهم} بعظمتنا {بذكرهم} أي: بالقرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم، وقيل: بالذكر الذي تمنوه بقولهم: لو أنّ عندنا ذكراً من الأولين {فهم عن ذكرهم} أي: الذي هو شرفهم {معرضون} لا يلتفتون إليه، ثم بين تعالى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً لنفرتهم بقوله تعالى: {أم تسألهم} أي: على ما جئتم به {خرجاً} أي: أجراً، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبعدها ألف، والباقون بسكون الراء، ولما كان الإنكار معناه النفي حسن موقع فاء السببية في قوله تعالى: {فخراج ربك} أي: رزقه في الدنيا وثوابه في العقبى {خير} لسعته ودوامه، ففيه مندوحة لك عن عطائهم، وقرأ ابن عامر بسكون الراء والباقون بفتحها وألف بعدها قال أبو عمرو بن العلاء: الخرج ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه؛ قال الزمخشري: والوجه أنّ الخرج أخص من الخراج كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة أي: الرقبة زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ خرجاً فخراج ربك يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير، وقوله تعالى: {وهو خير الرازقين} تقرير لخيرية خراجه. ولما زيف سبحانه وتعالى طريق القوم أتبعه بصحة ما جاء به الرسول عليه السلام بقوله تعالى: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} تشهد عقولهم السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له، كما تشهد له به العقول الصحيحة، فمن سلكه أوصله إلى الغرض، فحاز كل شرف. تنبيه: قد ألزمهم الله تعالى الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم، فإن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأنّ يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل له سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم إلا مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل من غير برهان. {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: بالبعث والثواب والعقاب {عن الصراط} أي: الذي لا صراط غيره؛ لأنه لا موصل إلى القصد غيره {لناكبون} أي: عادلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلاً بل خبط عشواء. {ولو رحمناهم} أي: عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى قوله تعالى: {وكشفنا ما بهم من ضر} أي: جوع أصابهم بمكة سبع سنين {للجوا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 أي: عادوا وتمادوا {في طغيانهم} الذي كانوا عليه قبل هذا {يعمهون} أي: يترددون. {ولقد أخذناهم بالعذاب} وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أنّ يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. تنبيه: العلهز وبر يخلط بدماء اللحم، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضاً: القراد الضخم، وشكا بعض الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم السنة فقال: *ولا شي مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل *وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم «واستسقى لرفع هذه المحن» فقال الله تعالى عنهم: {فما استكانوا} أي: خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون {لربهم} أي: المحسن إليهم عقب المحنة {وما يتضرعون} أي: يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو. {حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا} أي: صاحب {عذاب شديد} قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر، وهو قول مجاهد، وقيل: هو الموت، وقيل: هو قيام الساعة {إذا هم فيه} أي: ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص {مبلسون} متحيرون آيسون من كل خير، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه: أحدها: ما ذكره بقوله تعالى: أي: خلق {لكم} يا من يكذب بالآخرة {السمع} بمعنى الإسماع {والأبصار} على غير مثال سبق لتحسنوا بها ما نصب من الآيات {والأفئدة} أي: التي هي مراكز العقول فتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها على الوحدانية فكنتم بها أعلى من بقية الحيوان جمع فؤاد وهو القلب، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، فمن لم يعملها فيما خلقت له، فهو بمنزلة عادمها كما قال عز وجل: {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم، ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} (الأحقاف، 26) ، ولما صور لهم هذه النعم وهي بحيث لا يشك عاقل في أنه لو تصور أنّ يعطي آدمي شيئاً منها لم يقدر على مكافأته حسن تبكيتهم في كفر النعم، فقال تعالى: {قليلاً ما تشكرون} لمن أولاكم هذه النعم التي لا يقدر غيره على شيء منها مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك مثل الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً؛ قال أبو مسلم: ليس المراد أنّ لهم شكراً وإن قل، لكنه يقال للكفور الجاحد النعمة ما أقل شكر فلان. ثانيها: ما ذكره في قوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي ذرأكم} أي: خلقكم وبثكم {في الأرض} للتناسل {وإليه} وحده {تحشرون} يوم النشور. ثالثها: ما ذكره بقوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي} من شأنه أنه {يحي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 ويميت} فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده. رابعها: ما ذكره بقوله تعالى: {وله اختلاف الليل والنهار} أي: التصرف فيهما بالسواد والبياض والزيادة والنقصان {أفلا تعقلون} أي: بالنظر والتأمل أنّ الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها، وأن البعث من جملتها فتعتبرون، ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي حسن بعده بقوله تعالى: {بل قالوا} أي: هؤلاء العرب {مثل ما قال الأولون} من قوم نوح ومن بعدهم فقالوا ذلك تقليداً للأولين، ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين: أحدهما: ما ذكره بقوله تعالى: {قالوا} أي: منكرين للبعث متعجبين من أمره {أئذا متنا وكنا} أي: بالبلاء بعد الموت {تراباً وعظاماً} نخرة، ثم أكدوا الإنكار بقولهم: {أئنا لمبعوثون} أي: لمحشورون بعد ذلك قالوا ذلك استبعاداً ولم يتأملوا أنهم قبل ذلك أيضاً كانوا تراباً فخلقوا. ثانيهما: ما ذكره بقوله تعالى: إنهم قالوا: {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا} أي: البعث بعد الموت {من قبل} كأنهم قالوا: إن هذا الوعد كما وقع منه صلى الله عليه وسلم فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ولم يوجد مع طول العهد، وظنوا أنّ الإعادة تكون في دار الدنيا، ثم قالوا: {إن} أي: ما {هذا إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأولين} كالأضاحيك والأعاجيب جمع أسطورة بالضم، وقيل: جمع أسطار جمع سطر؛ قال رؤبة: *إني وأسطار سطرن سطراً وهو ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له. ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد ونفوه هذا النفي المحتم أمره الله تعالى أنّ يقررهم بثلاثة أشياء هم بها مقرون، ولها عارفون يلزمهم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعاً: أحدها: قوله تعالى: {قل} أي: مجيباً لإنكارهم البعث ملزماً لهم {لمن الأرض} أي: على سعتها وكثرة عجائبها {ومن فيها} على كثرتهم واختلافهم {إن كنتم} أي: مما هو كالجبلة لكم {تعلمون} أي: أهلاً للعلم وفيه تنبيه على أنهم أنكروا شيئاً لا ينكره عاقل، ولما كانوا مقرين بذلك أخبر تعالى عن جوابهم قبل جوابهم ليكون من دلائل النبوة وإعلام الرسالة بقوله تعالى استئنافاً: {سيقولون} أي: قطعاً ذلك كله {لله} أي: المختص بصفات الكمال، ثم إنه تعالى أمره بقوله: {قل} أي: لهم إذا قالوا لك ذلك منكراً عليهم {أفلا تذكرون} أي: في ذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها وهو ملكه أنّ يكون شريكاً له تعالى ولا ولداً وتعلموا أنّ القادر على الخلق ابتداءً قادر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يصح في الحكمة أصلاً أنّ يترك البعث لأنّ أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء الثانية في الذال. ثانيها: قوله تعالى: {قل} أي: لهم {من رب} أي: خالق ومدبر {السموات السبع} كما تشاهدون من حركاتها وسير أفلاكها {ورب العرش} أي: الكرسي {العظيم} كما قال تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} (البقرة، 255) {سيقولون لله} أي: الذي له كل شيء هو رب ذلك لا جواب لهم غير ذلك، ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح حسن التهديد على التمادي فقال تعالى: {قل} أي: منكراً عليهم {أفلا تتقون} أي: تحذرون عبادة غيره. ثالثها قوله: {قل} أمره الله تعالى بعدما قرّرهم بالعالمين العلوي والسفلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 أن يقرّرهم بما هو أعم وأعظم وهو قوله تعالى: {من بيده} أي: من تحت قدرته ومشيئته {ملكوت كل شيء} من إنس وجن وغيرهما، والملكوت: الملك البليغ، قال ابن الأثير: كانت العرب إذا كان السيد فيهم أجار أحداً لا يخفر جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يعاب عليه، ولو أجار ما أفاد، ولهذا قال تعالى: {وهو يجير} أي: يمنع ويغيث من شاء فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنو من ساحته {ولا يجار عليه} أي: ولا يمكن أحداً أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه ولا ولد يضارعه، وأنه السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ثم ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: في عداد من يعلم، ولذلك استأنف قوله تعالى: {سيقولون لله} أي: الذي بيده ذلك خاصاً به. تنبيه: سيقولون لله الأول لا خلاف فيها، وأما الثانية والثالثة فقرأ أبو عمرو: سيقولون الله بزيادة همزة الوصل مع التفخيم فيهما، ورفع الهاء والباقون بغير همز الوصل مع الترقيق وكسر الهاء والتقدير ذلك كله لله، ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث استأنف قوله تعالى: {قل} أي: لهم منكراً عليهم {فأنى تسخرون} أي: فكيف بعد إقراركم بهذا كله تخدعون وتصرفون عن الحق وكيف يخيل لكم أنه باطل، ولما كان الإنكار بمعنى النفي حسن قوله تعالى: {بل} أي: ليس الأمر كما يقولون بل {أتيناهم بالحق} أي: بالصدق من التوحيد والوعد بالنشور {وإنهم لكاذبون} في كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده ومن أعظم كذبهم قولهم: {اتخذ الرحمن ولداً} (مريم، 88) قال تعالى رداً عليهم: {ما اتخذ الله} أي: الذي لا كفء له {من ولد} أي: لا من الملائكة ولا من غيرهم لما قام من الأدلة على غناه وأنه لا مجانس له، ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال تعالى: {وما كان معه} أي: بوجه من الوجوه {من إله} يشابهه في الألوهية {إذاً} لو كان معه إله آخر {لذهب كل إله بما خلق} بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره. فإن قيل: إذاً لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله تعالى: {لذهب} جزاءً وجواباً، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؟ أجيب: بأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله تعالى: وما كان معه من إله عليه وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين {ولعلا بعضهم} أي: بعض الآلهة {على بعض} إذا تخالفت أوامرهم، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده كما هو مقتضى العادة، فلا يكون المغلوب إلهاً لعجزه ولا يكون مجيراً غير مجار عليه بيده وحده ملكوت كل شيء. ولما طابق الدليل الإلزامي نفي الشريك نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك من قوله تعالى: {سبحان الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن شائبة كل نقص {عما يصفون} من كل ما لا يليق بجناية المقدس من الأنداد والأولاد لما سبق من الدليل على فساده، ثم أقام دليلاً آخر على كماله يوصفه بقوله تعالى: {عالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 الغيب والشهادة} أي: ما غاب وما شوهد، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي برفع الميم على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو، والباقون بالخفض على أنه صفة لله، ثم رتب على هذا الدليل قوله تعالى: {فتعالى} أي: تعاظم {عما يشركون} معه من الآلهة، ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل رب} أي: أيها المحسن إليّ {إما} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة أي: إن كان لا بد أن {تريني} لأنَّ ما والنون للتأكيد {ما يوعدون} من العذاب في الدنيا والآخرة. {رب فلا تجعلني} بإحسانك إليّ {في القوم الظالمين} أي: قرينا لهم في العذاب. فإن قيل: كيف يجوز أن يجعل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ أجيب: بأنه يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه وإخباتاً له واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك وما أحسن قول الحسن في قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: وليتكم ولست بخيركم، كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه وإنما ذكر ربه مرتين مرة قبل الشرط، ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع. {وإنا} أي: بما لنا من العظمة {على أن نريك} أي: قبل موتك {ما نعدهم} من العذاب {لقادرون} لكنا نؤخره علماً بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون وهو صادق بالقتل يوم بدر أو فتح مكة، ثم كأنه قال: فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم، فقال تعالى: b {ادفع بالتي هي أحسن} أي: من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة {السيئة} أذاهم إياك وهذا قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة، وقيل: محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة {نحن أعلم بما يصفون} في حقك وحقنا، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب، وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولما أدب سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع بالتي هي أحسن علمه ما به يقوى على ذلك بقوله تعالى: {وقل رب} أي: أيها المحسن إليّ {أعوذ بك} أي: ألتجىء إليك {من همزات الشياطين} أي: أن يصلوا إليّ بوساوسهم، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي وإنما جمع همزات لتنوع الوسواس أو لتعدد المضاف إليه. {وأعوذ بك رب} أي: أيها المربى لي {أن يحضرون} في حال من الأحوال خصوصاً حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل؛ لأنها أحرى الأحوال، وهم إنما يحضرون بالسوء، ولو لم تصل إليَّ وساوسهم، فإن بعدهم بركة، وعن جبير بن مطعم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال عمر: ولا أدري أي صلاة هي فقال: «الله أكبر كبيراً ثلاثاً، والحمد لله كثيراً ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه؛ قال: نفثه الشعر ونفخه الكبر، وهمزه الموتة» أخرجه أبو داود؛ لأن الشعر يخرج من القلب فيلفظ به اللسان، وينفثه كما ينفث الريق والمتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه ويحتاج إلى أن ينفخ، والموتة الجنون والمجنون يصير في الدنيا كالميتة، ثم إن الله تعالى أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 عند معاينة الموت بقوله تعالى: {حتى} وهي هنا كما قال الجلال المحلي ابتدائية أو متعلقة بيصفون أو بكاذبون كما قال الزمخشري، وقدّم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال: {إذا جاء أحدهم الموت} فكشف له الغطاء وظهر له الحق ولاحت له بوارق العذاب، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب {قال} متحسراً على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس من دأب البهائم {رب ارجعون} أي: ردوني إلى الدنيا دار العمل، ويجوز أن يكون الجمع له تعالى وللملائكة أو للتعظيم على عادة مخاطبات الأكابر سيما الملوك كقوله: *ألا فارحموني يا إله محمد وقوله: *فإن شئت حرمت النساء سواكم أو القصد تكرير الفعل للتأكيد؛ لأنه في معنى أرجعني كما قيل في قفا واطرقا فإنهما بمعنى قف قف واطرق اطرق، ولما كان في تلك الحالة مع وصوله إلى الغرغرة ليس على القطع من اليأس قال: {لعلي أعمل} أي: لأن كون على رجاء من أن اعمل {صالحاً فيما تركت} أي: ضيعت من الإيمان بالله وتوابعه فيدخل في الأعمال الأعمال البدنية والمالية وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بلى قدوماً على الله، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت» قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله ولا عشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب، وقال ابن كثير: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت واستقال ربه، فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى، ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع ولو رجع لم يعمل بطاعة الله عز وجل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، قال الله تعالى له ردعاً ورداً لكلامه: {كلا} أي: لا يكون شيء من ذلك وكأنه قيل: فما حكم ما قال؟ فقيل: {إنها كلمة} والمراد بالكلمة في اللغة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض رب ارجعون إلى آخره {هو قائلها} وقد عرف منه الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها، فلا يجاب إليها ولا تسمع منه وهو لا محالة لا يخليها، ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه، وتسلط الندم {ومن ورائهم} أي: أمامهم والضمير للجماعة {برزخ} أي: حاجز حائل بينهم وبين الرجعة، واختلف في معناه فقال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، وقال قتادة: بقية الدنيا، وقال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث، وقيل: هو الموت، وقيل: هو القبر هم فيه {إلى يوم يبعثون} وهو يوم القيامة، وفي هذا إقناط كليّ من الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة. {فإذا نفخ في الصور} أي: القرن، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها النفخة الأولى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي منادٍ هذا فلان بن فلان، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 حق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذه منهم، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيل أنت، ولم يرد أن الإنسان ينقطع نسبه، فإن قيل: قد قال تعالى هنا: ولا يتساءلون، وقال تعالى في موضع آخر: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الصافات، 27) أجيب: بأن ابن عباس قال: إن للقيامة أحوالاً ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون، وقيل: التساؤل بعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. {فمن ثقلت موازينه} أي: بالأعمال المقبولة، قال البقاعي: ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره، وذلك أدل دليل على القدرة {فأولئك} أي: خاصة قال أيضاً: ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد للدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد {هم المفلحون} أي: الفائزون بالنجاة والدرجات العلى. {ومن خفت موازينه} لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان {فأولئك} خاصة {الذين خسروا أنفسهم} لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال وقوله تعالى: {في جهنم خالدون} بدل من الصلة، أو خبر ثان لأولئك، وهي دار لا ينفك أسيرها ولا ينطفىء سعيرها، ثم استأنف قوله تعالى: {تلفح} أي: تغشى بشدّة حرّها وسمومها ووهجها {وجوههم النار} فتحرقها، فما ظنك بغيرها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً {وهم فيها كالحون} أي: عابسون قد شمرت شفاههم العليا والسفلى عن أسنانهم، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وقوله تعالى: {ألم تكن آياتي} أي: من القرآن على إضمار القول أي: يقال لهم: ألم تكن آياتي {تتلى عليكم} أي: تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً {فكنتم بها تكذبون} ثم استأنف جوابه بقوله تعالى: {قالوا ربنا} أي: المسبغ علينا نعمه {غلبت علينا شقوتنا} أي: ملكتنا بحيث صارت أحوالها مؤدّية إلى سوء العاقبة {وكنا} أي: بما جبلنا عليه {قوماً ضالين} في ذلك عن الحق أقوياء في موجبات الشقوة فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة. {ربنا} يا من عودنا بالإحسان {أخرجنا منها} أي: من النار تفضلاً منك على عادة فضلك وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك {فإن عدنا} إلى مثل ذلك الضلال {فإنا ظالمون} لأنفسنا، ثم استأنف جوابهم بأن: {قال} لهم بلسان ملك بعد قدر الدنيا مرتين كما يقال للكلب {اخسؤوا} أي: انزجروا زجر الكلاب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان {فيها} أي: النار {ولا تكلمون} أصلاً، فإنكم لستم بأهل لمخاطبتي لأنكم لن تزالوا متصفين بالظلم فييأس القوم بعد ذلك، ولا يتكلموا بكلمة إلا الزفير والشهيق والعواء كعواء الكلاب، وقال القرطبي: إذا قيل لهم ذلك انقطع رجاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض فانطبقت عليهم، وعن ابن عباس أنّ لهم ست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا، فيجابون: حق القول مني، فينادون ألفاً: ربنا أمتنا اثنتين، فيجابون: ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، فينادون ألفاً: يا مالك ليقض علينا ربك، فيجابون: إنكم ماكثون، فينادون ألفاً: ربنا أخرجنا منها، فيجابون: أولم تكونوا أقسمتم، فينادون ألفاً: أخرجنا نعمل صالحاً، فيجابون: أولم نعمركم، فينادون ألفاً: رب ارجعون، فيجابون: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، ثم لا يكون لهم إلا الزفير والشهيق والعواء، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنه كان} أي: كوناً ثابتاً {فريق} أي: ناس قد استضعفتموهم {من عبادي} وهم المؤمنون {يقولون} مع الاستمرار {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق {آمنا} أي: أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل {فاغفر لنا} أي: استر لنا زللنا {وارحمنا} أي: افعل بنا فعل الراحم {وأنت خير الراحمين} لأنك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان. {فاتخذتموهم} أي: فتسبب عن إيمانهم أن اتخذتموهم {سخرياً} أي: تسخرون منهم وتستهزؤن بهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين، والباقون بالكسر وهو مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل كما قيل: الخصوصية في الخصوص، وعن الكسائي والفرّاء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرية والعبودية، أي: تسخرونهم وتتعبدونهم؛ قال الزمخشري: والأول مذهب الخليل وسيبويه، انتهى. وأظهر الذال عند التاء ابن كثير وحفص، والباقون بالإدغام {حتى أنسوكم ذكري} أي: بأن تذكروني فتخافوني، وأضاف ذلك إليهم لأنهم كانوا السبب فيه لفرط اشتغالهم بالاستهزاء بهم {وكنتم منهم تضحكون} استهزاء بهم نزلت في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب، ولما تشوّقت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم قال الله تعالى: {إني جزيتهم اليوم} أي: بالنعيم المقيم {بما صبروا} أي: على عبادتي ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم، كما يشغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ففازوا دونكم وهو معنى قوله تعالى: {إنهم هم الفائزون} أي: بمطلوبهم الناجون من عذاب النار، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها على أنها مفعول ثان لجزيتهم، ثم إن الله تعالى: {قال} لهم على لسان الملك المأمور بسؤالهم تبكيتاً وتوبيخاً لأنهم كانوا يظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة، وأنهم فيها مخلدون سألهم {كم لبثتم في الأرض} على تلك الحال في الدنيا التي كنتم تعدونها فوزاً {عدد سنين} أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: قل كم، بضم القاف وسكون اللام على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما خبراً وتقدم توجيهه وأظهر الثاء المثلثة عند التاء المثناة فوق نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها فيها الباقون. {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} يشكون في ذلك. فإن قيل: كيف يصح في جوابهم أن يقولوا ذلك، ولا يقع من أهل النار الكذب؟ أجيب: بأنهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا: {فاسأل العادين} أي: الملائكة المحصين أعمال الخلق وأعمارهم؛ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين، وقيل: قالوا ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 تصغيراً للبثهم وتحقيراً له بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من دوام العذاب قال بعضهم: *لا أن أيام الشقاء طويلة ... كما أن أيام السرور قصار وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمز بعدها وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ثم: {قال} الله تعالى لهم على لسان الملك: {إن} أي: ما {لبثتم} أي: في الدنيا {إلا قليلاً} ، لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلاً في جنب ما يلبث في الآخرة {لو أنكم كنتم تعلمون} أي: في عداد من يعلم في ذلك الوقت لما آثرتم الفاني على الباقي ولأقبلتم على ما ينفعكم ولتركتم أفعالكم التي لا يرضاها عاقل، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وقرأ حمزة والكسائي: قل؛ أمراً، والباقون: قال؛ خبراً، ولبثتم تقدم مثله، وتوجيه قال وقل، ثم وبخهم الله تعالى على تغافلهم بقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم} على ما لنا من العظمة، وقوله تعالى: {عبثاً} حال أي: عابثين كقوله: لاعبين، أو مفعول له أي: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي {و} حسبتم {أنكم إلينا لا ترجعون} في الآخرة للجزاء، وروى البغوي بسنده عن أنس «أن رجلاً مصاباً مرَّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، ثم ختم السورة فبرىء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال» ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم، والباقون بضم الفوقية وفتح الجيم، ثم نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما يقوله ويصفه به المشركون بقوله تعالى: {فتعالى الله} أي: الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث، وغيره مما لا يليق به {الملك} أي: المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة وحفظاً ورعاية {الحق} أي: الذي لا يتطرق الباطل إليه في شيء في ذاته ولا في صفاته فلا زوال له ولا لملكه {لا إله إلا هو} فلا يوجد له نظير أصلاً في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو متعالٍ عن سمات النقص والعبث، ثم زاد في التعيين والتأكيد والتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره بقوله تعالى: {رب العرش} أي: السرير المحيط بجميع الكائنات التي تنزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذا وصفه بالكرم فقال: {الكريم} أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، ولما بيّن سبحانه وتعالى أنه الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادّعى إلهاً آخر، فقد ادعى باطلاً بقوله تعالى: {ومن يدع مع الله} أي: الملك الذي لا كفء له {إلهاً آخر} يعبده {لا برهان له به} أي: بسبب دعائه بذلك إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، ثم ذكر أنّ من قال ذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله تعالى: {فإنما حسابه} أي: جزاؤه الذي لا يمكن زيادته ولا نقصه {عند ربه} أي: الذي رباه ولم يربه أحد سواه الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته، فلا يخفى عليه شيء من أمره، ولما افتتح السورة بقوله: {قد أفلح المؤمنون} ختمها بقوله: {إنه لا يفلح الكافرون} أي: لا يسعدون، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ولما شرح الله تعالى أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله تعالى: {وقل رب} أي: أيها المحسن إليّ {اغفر وارحم} أي: أكثر من هذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 الوصفين {وأنت خير الراحمين} فمن رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين وكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن وخيبة كل كافر، فنسأل الله تعالى أن يكون لنا ولوالدينا ولأحبابنا أرحم راحم وخير غافر إنه المتولي للسرائر والمرجو لإصلاح الضمائر، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» حديث موضوع، وقوله أيضاً تبعاً للزمخشري: روي أن أول سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع آيات من آخرها فقد نجا وأفلح، قال شيخ شيخنا ابن حجر حافظ عصره: لم أجده. سورة النور مدنية وهي ثنتان أو أربع وستون آية {بسم الله} الذي تمت كلمته فبهرت قدرته {الرحمن} الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته {الرحيم} الذي شرف من اختاره بخدمته قوله تعالى: {سورة} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة أي: عظيمة أو سورة أنزلناها، مبتدأ موصوف والخبر محذوف أي: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقال الأخفش: لا يبعد الابتداء بالنكرة، فسورة مبتدأ، وأنزلناها خبره، ثم رغب في امتثال ما فيها مبيناً أن تنوينها للتعظيم بقوله تعالى: {أنزلناها} أي: بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة {وفرضناها} أي: قدرنا ما فيها من الحدود، وقيل: أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء لكثرة الفروض، والباقون بالتخفيف {وأنزلنا فيها آيات} من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها {بينات} أي: واضحات الدلالة {لعلكم تذكرون} أي: تتعظون، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد، ثم إنه تعالى ذكر في السورة أحكاماً كثيرة: الحكم الأول: قوله تعالى: {الزانية والزاني} أي: غير المحصنين لرجمهما بالسنة وأل فيما ذكر موصولة وهو مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} أي: ضربة يقال: جلده إذا ضرب جلده، ويزاد على ذلك بالسنة تغريب عام، والرقيق على النصف مما ذكر، ولا رجم عليه لأنه لا يتنصف. واعلم أن الزنا من الكبائر، ويدل عليه أمور: أحدها: أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: {ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} (الفرقان، 68) ، ثانيها: قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} (الإسراء، 32) ، ثالثها: أن الله تعالى أوجب المائة فيه بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر وشرّع فيه الرجم، وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللاتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار» ، وعن عبد الله قال: «قلت: يار رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تعالى تصديقاً لذلك: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} » (الفرقان، 86) والزنا إيلاج حشفة أو قدرها من مقطوعها من الذكر المتصل الأصلي من الآدمي الواضح ولو أشل وغير منتشر، وكان ملفوفاً في خرقة بقبل محرم في نفس الأمر لعينه خال عن الشبهة المسقطة للحدّ مشتهي طبعاً بأن كان فرج آدمي حيّ ولا يشترط إزالة البكارة حتى لو كانت غوراء وأدخل الحشفة فيها، ولم يزل بكارتها ترتب عليه حد الزنا بخلاف التحليل لا بدّ فيه من إزالة البكارة لقوله صلى الله عليه وسلم «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ، واختلف في اللواط هل يطلق عليه اسم الزنا أو لا؟ فقال بعضهم: يطلق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» ، والذي عليه أكثر أصحابنا أنه غير داخل تحت اسم الزنا لأنه لو حلف لا يزني فلاط لم يحنث، والحديث محمول على الإثم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ، وللشافعي في حده قولان؛ أصحهما أن الفاعل إن كان محصناً فإنه يرجم، وإلا فيجلد مائة ويغرب عاماً، وأما المفعول فلا يتصور فيه إحصان فيجلد ويغرب، والقول الثاني: يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصناً أم لا لما روي عن ابن عباس أنه قال: من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به. وأما إتيان البهائم فحرام بإجماع الأئمة، واختلف في عقوبته على أقوال: أحدها: حد الزنا فيرجم الفاعل المحصن ويجلد غيره ويغرب، والثاني: أنه يقتل محصناً كان أو غير محصن لما روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» ، والثالث: وهو الأصح أنه يعزر؛ لأن الحدّ شرع للزجر عما تميل النفس إليه، وضعفوا حديث ابن عباس لضعف إسناده، وهو وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله» . وأما السحاق من النساء وإتيان المرأة الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه شيء من ذلك إلا التعزير والمقيم للحد هو الإمام أو نائبه، وللسيد أن يقيم الحدّ على رقيقه ولا تجوز الشفاعة في إسقاط الحدّ ولا تركه ولا تخفيفه كما قال تعالى: {ولا تأخذكم} أي: على أي حال من الأحوال {بهما رأفة} أي: رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها، وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة والباقون بسكونها، والسوسي على أصله من البدل، وقيل: معنى الرأفة أن يخففوا الضرب {في دين الله} أي: الذي شرعه لكم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» ، روي أن عمر رضي الله عنه جلد جارية له زنت، فقال للجلاد: اضرب ظهرها ورجليها، فقال له ابنه: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، فقال: يا بني إن الله تعالى لم يأمرنا بقتلها وقد ضربت فأوجبت. ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الحض على ذلك بقوله تعالى: {إن كنتم تؤمنون با} أي: الذي هو أرحم الراحمين فإنه ما شرع ذلك الا رحمة للناس عموماً وللزانين خصوصاً فلا تزيدوا في الحد ولا تنقصوا منه شيئاً، وفي الحديث «يؤتى بوال نقص من الحدود سوطاً فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم مني، فيؤمر به إلى النار، ويؤتي بمن زاد سوطاً فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيؤمر إلى النار» وعن أبي هريرة: إقامة حد بأرض خير من مطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 أربعين ليلة ثم أتبع ذلك بما يرهبه بقوله تعالى: {واليوم الآخر} الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي {وليشهد} أي: وليحضر {عذابهما} أي: حدهما إذا أقيم عليهما {طائفة من المؤمنين} والطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله تعالى، وعن الحسن: عشرة، وعن قتادة: ثلاثة فصاعداً، وعن عكرمة: رجلان فصاعداً، وعن مجاهد: أقلها رجل فصاعداً، وقيل: رجلان وفضل قول ابن عباس؛ لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها الزنا ولا يجب على الإمام حضور رجم ولا على الشهود لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما، وإنما خص المؤمنين بالحضور؛ لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، ويشهد له قول ابن عباس: إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله. تنبيه: الضرب يكون بسوط لا حديد يجرح ولا خلق لا يؤلم، ويفرق بين السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد، واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج ويضرب على الرأس لقول أبي بكر رضي الله عنه: اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه، ولا يشد يده وينزع الثياب التي تمنع ألم الضرب كالفرو، ولو فرق سياط الحدّ تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين، فإن فرق وضرب والألم موجود كفى، وإن وجب الحدّ على حامل لا يقام عليها حتى تضع وترضعه حتى ينفطم ويندب أن يحفر للمرأة إلى صدرها إن ثبت زناها بالبينة لا بإقرارها ولا يندب للرجل مطلقاً، وإن وجب الحدّ على المريض نظر إن كان يرجى زواله كصداع انتظر أو لا يرجى كالزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط بل بعثكال عليه مائة شمراخ، فيقوم ذلك مقام جلده، وأما في حال الحر والبرد الشديدين فإن كان الحدّ رجماً لم يؤخر لأن النفس مستوفاة، وإن كان جلداً أخر إلى اعتدال الهواء، ويقبل رجوع الزاني عن إقراره، ولو في أثناء الحدّ، وإذا مات في الحدّ يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. الحكم الثاني قوله تعالى: {الزاني لا ينكح} أي: لا يتزوج {إلا زانية أو مشركة} أي: المعلوم اتصافه بالزنا مقصور نكاحه على زانية أو مشركة {والزانية لا ينكحها} أي: لا يتزوجها {إلا زانٍ أو مشرك} ، أي: والمعلوم اتصافها بالزنا مقصور نكاحها على زانٍ أو مشرك إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة الألفة والانضمام والمخالفة سبب النفرة والافتراق، وقال بعضهم: الجنسية علة الضم والمشاكلة سبب المواصلة، والمخالفة توجب المباعدة وتحرم المؤالفة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه خطب أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من مقدمه عليهم، فقال: يا أهل الكوفة قد علمنا شراركم من خياركم، فقالوا: كيف وما لك إلا ثلاثة أيام؟ فقال: كان معنا شرار وخيار فانضم خيارنا إلى خياركم وشرارنا إلى شراركم، وعن الشعبي أنه قال: إنّ لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض، وقال القائل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 *عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي فإن قيل: لما قدمت الزانية على الزاني أولاً، ثم قدم عليها ثانياً؟ أجيب: بأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن فلما كانت أصلاً وأوّلاً في ذلك بدىء بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الراغب فيه والخاطب، ومنه يبدو الطلب {وحرم ذلك} أي: نكاح الزاني والزانية تحريماً لا مشوبة فيه {على المؤمنين} واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم منهم مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي، ورواية عن ابن عباس قدم المهاجرون لمدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغاياهنّ يومئذٍ أخصب أهل المدينة، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهنّ لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فنزلت هذه الآية، وحرم ذلك على المؤمنين أن يتزوّجوا تلك البغايا لأنهن كنّ مشركات، وقال عكرمة: نزلت في نساء كن بمكة وبالمدينة لهن رايات يعرفن بهن منهن: أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة فاستأذن رجل منهم النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول فاشترطت أن تنفق عليه فنزلت هذه الآية، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي وكان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت بمكة بغيّ يقال لها عناق، وكانت صديقة له في الجاهلية، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها، فقال مرثد: إن الله حرم الزنا، فقالت: فانكحني، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليّ شيئاً، فنزل: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليّ وقال: لا تنكحها» أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داوود بألفاظ متقاربة المعنى. فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصاً في حق أولئك دون سائر الناس، وقال قوم منهم سعيد بن جبير والضحاك، ورواية عن ابن عباس: المراد من النكاح هو الجماع، ومعنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا تزني إلا بزانٍ أو مشرك، وقال يزيد بن هارون: إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زان، وعن عائشة رضي الله عنها: إن الرجل إذا زنا بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانياً. وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول: إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان أبداً. وقال الحسن: الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة، والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود. وقال سعيد بن المسيب وجماعة منهم الشافعي رحمه الله تعالى: إن حكم الآية منسوخ، وكان نكاح الزانية حراماً بهذه الآية فنسخها الله تعالى بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} (النور، 32) ، وهو جمع أيم وهي من لا زوج لها، فدخلت الزانية في أيامى المسلمين واحتج من جوّز نكاح الزانية بما روي عن جابر «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: طلقها، قال فإني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 أحبها وهي جميلة، قال: استمتع بها، وفي رواية غيره أمسكها إذاً» وقد أجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح» ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضرب رجلاً وامرأة زنيا، وحرض أن يجمع بينهما فأبى الغلام. ولما نفر سبحانه وتعالى عن نكاح من اتصف بالزنا من رجل أو امرأة نهى عن الرمي به فقال تعالى: {والذين يرمون} أي: بالزنا {المحصنات} جمع محصنة وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة وهذا هو الحكم الثالث والذي يدل على أن المراد الرمي بالزنا أمور: أحدها: تقدم ذكر الزنا، ثانيها: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميها بضد ذلك، ثالثها: انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا، رابعها: قوله تعالى: {ثم لم يأتوا} أي: إلى الحكام {بأربعة شهداء} أي: ذكور ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير شرط إلا في الزنا وشرط القاذف الذي يحد بسبب القذف التكليف والاختيار والتزام الأحكام والعلم بالتحريم وعدم إذن المقذوف، وأن يكون غير أصل، وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فمن الصريح قوله لرجل أو امرأة زنيت أو زنيت، أو يا زاني أو يا زانية، ولو كسر التاء في خطاب الرجل وفتحها في خطاب المرأة أو زنيت في الجبل، ومن الكناية زنأت وزنأت في الجبل بالهمز، فإن نوى بذلك القذف كان قذفاً وإلا فلا، ومن التعريض يا ابن الحلال، وأما أنا فلست بزانٍ، فهذا ليس بقذف وإن نواه. فإن قيل: إذا كان ذلك القذف يشمل الذكر والأنثى فلم كانت الآية الكريمة في الإناث فقط؟ أجيب: بأن الكلام في حقهن أشنع وتنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها، وحدّ القاذف الحر ثمانون كما قال تعالى: {فاجلدوهم} أي: أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم {ثمانين جلدة} لكل واحد منهم لكل محصنة وحدّ القاذف الرقيق ولو مبعضاً أو مكاتباً أربعون جلدة على النصف من الحر لآية النساء فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين حدّ الزنا وحدّ القذف، ويدل على أن المراد بالآية الأحرار قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم} أي: بعد قذفهم {شهادة} أي: شهادة كانت {أبداً} للحكم بافترائهم؛ لأن العبد لا تقبل شهادته، وإن لم يقذف. ولما كان التقدير أنهم قد افتروا عطف عليه تحذيراً من الإقدام عليه من غير تثبت {وأولئك} أي: الذين تقدم ذمهم بالقذف فنزلت رتبتهم جدّاً {هم الفاسقون} أي: المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف، وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر وفي ذلك دليل على أن القذف من الكبائر؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة، واختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة، وحكم هذا الاستثناء المذكور في قوله: {إلا الذين تابوا} أي: رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره، وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا {من بعد ذلك} أي: الأمر الذي أوجب إبعادهم، فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف، فإذا تاب وصلح حاله كما قال تعالى: {وأصلحوا} أي: بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 الطبائع {فإن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه {رحيم} أي: يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة، وقبلت شهادته سواء قبل الحدّ وبعده وزال عنه اسم الفسق، وقالوا: هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة، وإلى الفسق، ويروى ذلك عن ابن عمرو وابن عباس، وجمع من الصحابة وبه قال مالك والشافعي، وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب، وقالوا: الاستثناء رجع إلى قوله: {وأولئك هم الفاسقون} ، ويروى ذلك عن النخعي وشريح، وبه قال أصحاب الرأي قالوا: بنفس القذف لا تردّ شهادته ما لم يحد؛ قال الشافعي: هو قبل أن يحدّ شر منه حين يحدّ؛ لأن الحدود كفارات، فكيف يرد بها في أحسن حاليه، وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة. فإن قيل: إذا قلتم بالأول فما معنى قوله تعالى: {أبداً} ؟ أجيب: بأن معنى أبداً ما دام مصراً على القذف؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً؛ يراد بذلك ما دام على كفره، فإذا أسلم قبلت شهادته. تنبيهان: الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين أو أربع كالزنا؟ فيه قولان: أصحهما أنه يثبت برجلين بخلاف فعل الزنا؛ لأن الفعل يغمض الاطلاع عليه، وإذا شهد على فعل الزنا يجب أن يذكر الزاني ومن زنا بها؛ لأنه قد يراه على جارية لأبيه فيظنه زناً يوجب الحد، وأن يقول في شهادته: رأيت ذكره يدخل في فرجها، وإن لم يقل دخول الميل في المكحلة لكن قوله ذلك أولى، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يقبلوا لأنهم ربما يرون المفاخذة زناً، ويشترط أيضاً أن يفسر في إقراره كالشهود ويصح رجوعه عن الإقرار، ولو في أثناء الحدّ كما مرَّ، ولا فرق في قبول الشهادة بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين كما قاله الشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا شهدوا متفرقين لا يثبت وعليهم حدّ القذف، ولو شهد على الزنا أقل من أربعة أو أربعة وفيهم الزوج لم يثبت الزنا وعليهم الحدّ؛ لأن شهادة الزوج لا تقبل في حق زوجته؛ قال ابن الرفعة في الكفاية: لأمرين أحدهما: أن الزنا تعرض لمحل حق الزوج، فإنّ الزاني يستمتع بالمنافع المستحقة له فشهادته في حقها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له، فلم تسمع كما إذا شهد أنه جنى على عبده، والثاني: أنّ من شهد بزنا زوجته فنفس شهادته دال على إظهار العداوة؛ لأن زناها يوغر صدره بتلطيخ فراشه وإدخال الغير عليه وعلى ولده، وهو أبلغ من مؤلم الضرب وفاحش السب، ولو قذف رجل وجاء بأربعة فساق شهدوا على المقذوف بالزنا لم يحدّوا؛ لأن شرائط الشهادة بالزنا قد وجدت عند القاضي إلا أنه لم تقبل شهادتهم لأجل التهمة فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحدّ عن المشهود عليه، فكذلك أوجبنا اعتبارها في نفي الحدّ عنهم، ولما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات، وكان لهن حكم غير ما تقدم وهو الحكم الرابع أفردهن بقوله: {والذين يرمون} أي: بالزنا {أزواجهم} أي: من المؤمنات والكافرات الحرائر والإماء {ولم يكن لهم شهداء} يشهدون على صحة ما قالوه {إلا أنفسهم} أي: غير أنفسهم وهذا ربما يفهم أنه إذا كان الزوج أحد الأربعة كفى وهذا المفهوم معطل لكونه حكاية حال واقعة لا شهود فيها، وقوله تعالى في الآية قبلها: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} فإنه يقتضي كون الشهداء غير الرامي بالزنا، ولعله استثناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 من الشهداء؛ لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة، ومذهب الشافعي أنه لا يقبل في ذلك كما قدّمناه {فشهادة أحدهم} أي: فالواجب شهادة أحدهم على من رماها أو فعليهم شهادة أحدهم {أربع شهادات} من خمس في مقابلة أربعة شهداء {بالله} أي: مقرونة بهذا الاسم الكريم الأعظم الموجب لاستحضار جميع صفات الجلال والجمال {إنه لمن الصادقين} أي: فيما قذفها به، وقرأ حفص وحمزة والكسائي برفع العين على أنه خبر شهادة والباقون بنصبها على المصدر {والخامسة أن لعنت الله} أي: الملك الأعظم {عليه} أي: القاذف نفسه {إن كان من الكاذبين} فيما رماها به، وقرأ نافع بتخفيف أن ساكنة ورفع لعنة، والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب لعنة ورسمت لعنة بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ووقف الباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حدّ القذف عليه وحصول الفرقة بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد إن تعرض له فيه وثبوت حدّ الزنا على المرأة بقوله تعالى: {ويدرأ} أي: يدفع {عنها} أي: المقذوفة {العذاب} أي: المعهود وهو الحدّ الذي أوجبه عليها كما تقدّم {أن تشهد أربع شهادات} من خمس {بالله} الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا كما تقدم في الزوج {إنه لمن الكاذبين} فيما قاله عليها {والخامسة} من الشهادات {أن غضب الله} الذي له الأمر كله {عليها إن كان من الصادقين} أي: فيما رماها به. روى البخاري في تفسيره وغيره عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك، فقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم} حتى بلغ {إن كان من الصادقين} ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية، فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: والله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة أوقفوها وقالوا: إنها موجبة؛ قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين، فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» . وقد روى البخاري أيضاً عن سهل ابن سعد أنّ سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر رضي الله عنه وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدّة أسباب معاً أو متفرقة. تنبيه: خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 كلماته في الجانبين فيقول: قل أشهد بالله إلخ؛ لأنّ اللعان يمين واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلب فيه معنى الشهادة، فهي لا تؤدى عنده إلا بإذنه وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحدّ الذي وجب عليها بلعان الزوج كما علم مما مرّ، ويلاعن أخرس بإشارة مفهمة أو كتابة ويكرر كلمة الشهادة أربعاً أو يكتبها مرّة ويشير إليها أربعاً، ويصح اللعان بالعجمية، وإن عرف العربية ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس فيؤثر الفصل الطويل ولا يشترط الولاء بين لعاني الزوجين، ولو أبدل لفظ شهادة بحلف ونحوه أو لفظ غضب بلعن أو عكسه أو ذكره قبل تمام الشهادة لم يصح ذلك ويصح أن يتلاعنا قائمين وإن يغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر الجمعة فيؤخر إليه إن لم يكن طلب أكيد وإلا فبعد عصر أي يوم كان وبمكان عند أشرف بلد اللعان فبمكة بين الحجر الأسود والمقام، وهو المسمى بالحطيم، والمدينة على المنبر، وبيت المقدس عند الصخرة، وغيرها على منبر الجامع، وتلاعن حائض بباب المسجد وذمي في بيعة للنصارى، وكنيسة لليهود وبيت نار لمجوس؛ لأنهم يعظمونها لا بيت أصنام وثني؛ لأنه لا حرمة له. وقرأ حفص: والخامسة الأخيرة بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع بتخفيف النون ساكنة وكسر الضاد ورفع الهاء من الاسم الجليل والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب الضاد وخفض الهاء. ولما حرّم سبحانه وتعالى بهذه الجمل الأعراض والأنساب فصان بذلك الدين والأموال، علم أن التقدير فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين لما فعل بكم ذلك ولا فضح المذنبين وأظهر سرائر المستخفين، ففسد النظام فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله تعالى: {ولولا فضل الله} أي: بما له من الكرم والاتصاف بصفات الكمال {عليكم ورحمته} أي: بكم بالستر في ذلك {وإن الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {تواب} بقبوله التوبة في ذلك وغير ذلك {حكيم} يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور لفضح كل عاصٍ، ولم يوجب أربعة شهداء ستراً لكم، الحكم الخامس: قصة الإفك المذكورة في قوله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك} أي: أسوأ الكذب سمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم: أفك الشيء إذا صرفه عن جهته، وذلك أن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أفضائه. فإن قيل: لم ترك تسميتها؟ أجيب: بأنه تركه تنزيهاً لها عن هذا القال وإبعاداً لصون جانبها العلي عن هذا المراد، وقوله تعالى: {عصبة} خبر إنّ أي: جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون وكذا العصابة وقوله تعالى: {منكم} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن يعد عندكم في عداد المسلمين يريد عبد الله بن أبيّ وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم، وقوله تعالى: {لا تحسبوه شرّاً لكم} مستأنف أي: لا تنشأ عنه فتنة ولا يصدقه أحد {بل هو خير لكم} لاكتسابكم به الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنة ظاهرة، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثمان عشرة آية في براءتكم وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيراً كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وتبرئة لأم المؤمنين رضوان الله تعالى عليها وتطهير لأهل البيت وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به، فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمّلها، ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له علل ذلك بقوله تعالى: {لكل امرىء منهم} أي: الآفكين {ما اكتسب} أي: بخوضه فيه {من الإثم} الموجب لشقائه {والذي تولى كبره} أي: معظمه {منهم} أي: من الخائضين وهو ابن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو وحسان ومسطح فإنهما تابعاه بالتصريح به والذي بمعنى الذين على هذا {له عذاب عظيم} في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبيّ مطروداً مشهوراً بالنفاق وحسان أعمى أشل اليدين ومسطح مكفوف البصر. تنبيه: قصة الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرهما شهيرة جداً ولكن نذكر منها طرفاً تبركاً بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وبذكر السيدة عائشة وأبويها رضي الله تعالى عنهم، فنقول: «عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؛ قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين فأذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري وإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت: وأقبل الرهط الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهم اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما سار الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيب، فيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن معطل السهمي ثم الذكواني رضي الله تعالى عنه قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم، ثم ينصرف فذلك الذي يريبني فيه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأمّ مسطح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 قبل المناصع، وكان متبرزناً وكنا لا نخرج إلا ليلاً وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأولى في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فأقبلت أنا وأم مسطح حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهداً بدراً، فقالت: يا هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت: وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ، قالت: وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما؛ قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبويّ فقلت لأمي: يا أماه ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فوالله ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها؛ قالت: فقلت سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا، قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي؛ قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودِّ، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما عليّ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيراً وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، ولم يدخل على أهلي إلا معي؛ قالت: فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج؛ قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن حملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن تقتله، فقام أسيد بن حضير ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه كأنك منافق تجادل عن المنافقين قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت؛ قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى أني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت: فبينما نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس؛ قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء؛ قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه؛ قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى لا أحس منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال، فقال: إني والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً: والله لقد علمت ما سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقوني فوالله لا أجد لي ولا لكم مثلاً إلا ما قال العبد الصالح أبو يوسف ولم أذكر اسمه حين قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم حينئذٍ أني بريئة، والله مبرئي ببراءتي؛ ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحياً يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله تعالى على نبيه فأخذه ما كان يأخذه عند الوحي من البرحاء حتى أنه لا ينحدر منه العرق مثل الجمان في اليوم الشاتي من ثقل الذي أنزل عليه فسجي بثوب، فوالله ما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقاً من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس، فلما سرى عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة قد برأك الله فكنت أشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي؛ لقد سمعتموه فما أنكرتموه، ولا غيرتموه، وأنزل الله تعالى: {إن الذين جاؤوا} العشر آيات كلها، فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} إلى قوله: {غفور رحيم} ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح التي كان ينفقها عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً؛ قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت حجش عن أمري فقال لزينب: ما علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيراً؛ قالت عائشة: وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع؛ قالت عائشة: «والله إنّ الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله تعالى» ؛ قالت: ولما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن وضرب عبد الله بن أبيّ مسطحاً وحسان وحمنة الحدّ. قال عروة: وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال: * فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء وقال الحافظ بن عمر بن عبد البر في الاستيعاب وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وجلد فيه، وروي عن عائشة أنها برأته من ذلك، انتهى. وقال غيره: والله لا أظن به ذلك أصلاً وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطىء الثقة لأسباب لا تحصى كما يعرف ذلك من مارس نقل الأخبار وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي صلى الله عليه وسلم والمدافعة عنه والذم لأعدائه، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل معه وهو القائل يمدح عائشة ويكذب من نقل عنه ذلك: *حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثي من لحوم الغوافل *حليلة خير الناس ديناً ومنصباً ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل *عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل *مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل *وإن كانت ما بلغت عني قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي *فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل *له رتبة عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، فإن هذه القصة عبرة لمن اعتبر فإن أهل الإفك استمروا في هذا أكثر من شهر والله تعالى عالم بما يقولون، وإن قولهم يكاد يقطع الأكباد في أحب خلقه إليه وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه ولكنه سبحانه أراد لناس رفع الدرجات ولآخرين الهلكات ولا بأس ببيان غريب هذه الألفاظ التي وقعت في هذه القصة من كلام عائشة وغيرها قولها: إذن أي: أعلم بالرحيل، وقولها فقدت عقداً لي من جزع أظفار: هو نوع من الخرز وهو الحجر اليماني المعروف، وقولها: لم يهبلن أي: لم يكثر لحمهنّ من السمن فيثقلن، وقولها إنما يأكلن العلقة من الطعام وهو بضم العين أي: البلغة من الطعام وهي قدر ما يمسك الرمق وقولها: ليس بها منهم داعٍ ولا مجيب أي: ليس بها أحد لا من يدعو ولا من يرد جواباً، وقولها: فيممت أي: قصدت، وقولها: قد عرس من وراء الجيش، فأدلج التعريس نزول المسافر بالليل للراحة والإدلاج بالتشديد سيراً آخر الليل وبالتخفيف سير الليل كله، وقولها: باسترجاعه هو قول القائل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قولها: خمرت أي: غطيت وجهي بجلبابي أي: إزاري، وقولها: موغرين في نحو الظهيرة الوغر: شدّة الحر وكذلك نحر الظهيرة أي: أولها، وقولها: والناس يفيضون أي: يخوضون ويتحدثون، وقولها: وهو يريبني يقال: رابني الشيء يريبني أي: تشككت فيه، وقولها: ولا أرى من النبي اللطف أي: الرفق بها، واللطف في الأفعال الرفق، وفي الأقوال لين الكلام، وقولها: حين نقهت أي: أفقت من المرض والمناصع المواضع الخالية تقضى فيها الحاجة من غائط وبول، وأصله المكان الواسع الخالي والمرط كساء من صوف أو خز، قولها فقالت: تعس مسطح أي: خسر، وقولها: يا هنتاه أي: يا بلهاء كأنها نسبتها إلى البله وقلة المعرفة، وقولها: لا يرقأ أي: لا ينقطع، وقول بريرة: إن رأيت بمعنى النفي أي: ما رأيت منها أمراً أغمصه عليها بالصاد المهملة أي: أعيبه، والداجن الشاة التي تألف البيت وتقيم به، وقوله صلى الله عليه وسلم من يعذرني أي: إن أنا أكافئه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 على سوء صنيعه إن عاتبت أو عاقبت، فلا تلوموني على ذلك، وقولها: ولكن حملته الحمية أي: حمله الغضب والأنفة والتعصب على الجهل للقرابة، وقولها: فتثاور الحيان أي: ثاروا ونهضوا للقتال والمخاصمة، وقولها: فلم يزل يخفضهم أي: يهوّن عليهم ويسكت، وقوله صلى الله عليه وسلم إن كنت ألممت قيل: هو من اللمم وهو صغار الذنوب، قيل: معناه مقارفة الذنب من غير فعل، وقولها: قلص دمعي أي: انقطع جريانه، قوله: ما رام أي: ما برح من مكانه والبرحاء الشدّة، والجمانة الدرة وجمعه جمان، وقولها: فسرّي عنه أي: كشف عنه، وقول زينب: أحمي سمعي وبصري أي: أمنعهما عن أن أخبر بما لم أسمع ولم أبصر وقولها: وهي التي كانت تساميني من السموّ وهو العلوّ والغلبة، فعصمها الله تعالى أي: منعها الله من الوقوع في الشر بالورع، وقول الرجل: ما كشفت كنف أنثى أي: ستر أنثى، وقول حسان في عائشة: حصان بفتح الحاء امرأة حصان أي: متعففة رزان أي: ثابتة ما تزن أي: ترمي ولا تتهم بريبة أي: أمر يريب الناس وتصبح غرثى أي: خائفة الموت، والغرث: الجوع من لحوم الغوافل جمع غافلة والمعنى أنها لا تغتاب أحداً ممن هو غافل، وقرأ لا تحسبوه وتحسبونه ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها، ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقاب أهل الإفك، وكان في المؤمنين من سمعه وسكت، وفيهم من سمعه فتحدّث به متعجباً من قائله أو متثبتاً في أمره وفيهم من أكذبه أتبعه سبحانه وتعالى بعتابهم في أسلوب خطابهم مثنياً على من كذبه، فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً محرضاً: {لولا} أي: هلا ولم لا {إذ} أي: حين {سمعتموه} أيها المدعون للإيمان {ظن المؤمنون} أي: منكم {والمؤمنات} وكان الأصل ظننتم أي: أيها العصبة ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ، وصرح بالنساء ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة {بأنفسهم} حقيقة {خيراً} وهم دون من كذب عليها فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن في الناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم لأن المؤمنين كالجسد الواحد وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان كنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك {وقالوا هذا إفك مبين} أي: كذب بيّن. فإن قيل: هلا قيل لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ أجيب: بأن ذلك مبالغة في التوبيخ على طريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دالاً على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير هذا إفك مبين هكذا اللفظ المصرح ببراءة ساحته لا يقول كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه، ثم علل سبحانه وتعالى كذب الآفكين أن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملفتاً لمريديه إلى ظن الخير: {لولا} أي: هلا ولم لا {جاؤوا عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 بأربعة شهداء} كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها {فإذ} أي: حين {لم يأتوا بالشهداء} أي: الموصوفين {فأولئك} أي: البعداء من الصواب {عند الله هم الكاذبون} قد جعل الله التفضل بين الرمي الصادق والرمي الكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها، والذين رموا عائشة لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة، وكانوا عند الله أي: في حكمه وشريعته كاذبين، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة في التنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيبة حبيب رب العالمين. ولما بيّن الله سبحانه وتعالى الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام وأنهم استحقوا الملام قال عاطفاً على لولا الماضية التي للتحضيض: {ولولا} التي هي لامتناع الشيء لوجود غيره {فضل الله} أي: المحيط بصفات الكمال {عليكم ورحمته} أي: معاملته لكم بمزيد الإنعام والإكرام اللازم للرحمة {في الدنيا} بقبول التوبة والمعاملة بالحلم {والآخرة} بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم {لمسكم} أي: عاجلكم {في ما أفضتم} أي: أيها العصبة أي: خضتم {فيه} من حديث الإفك {عذاب عظيم} أي: يحتقر معه اللوم والجلد. فائدة: في مقطوعة في الرسم من ما كما ترى، ثم بين تعالى وقت حلول العذاب وزمان تعجيله بقوله تعالى: {إذ} أي: مسكم حين {تلقونه} أي: تجتهدون في تلقي أي: قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه {بألسنتكم} أي: يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقياً يلقيه بعضهم إلى بعض، وحذفت من الفعل إحدى التاءين {وتقولون بأفواهكم} أي: كلاماً مختصاً بالأفواه فهو كلام لا حقيقة له فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل وأكد هذا المعنى بقوله تعالى: {ما ليس لكم به علم} أي: بوجه من الوجوه وتنكيره للتحقير. فإن قيل: القول لا يكون إلا بالفم، فما معنى قوله تعالى: {بأفواهكم} ؟ أجيب: بأن معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه اللسان وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب كقوله تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} (آل عمران، 167) {وتحسبونه} بدليل سكوتكم عن إنكاره {هيناً} أي: لا إثم فيه {وهو} أي: والحال أنه {عند الله} أي: الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته {عظيم} في الوزر واستجرار العذاب فهذه ثلاثة آثام مرتبة علق بها مس العذاب العظيم تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك، وهو عند الله تعالى عظيم: {ولولا} أي: وهلا ولم لا {إذ} أي: حين {سمعتموه قلتم} من غير توقف ولا تلعثم {ما يكون} أي: ما ينبغي وما يصح {لنا أن نتكلم بهذا} أي: القول المخصوص ويجوز أن تكون الإشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس محرم، فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق. فإن قيل: كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم؟ أجيب: بأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها وأنها لا انفكاك لها عنه فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها. فإن قيل: أيّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 أجيب: بأن الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يذبوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قيل: ما معنى يكون والكلام بدونه ملتئم لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا؟ أجيب: بأن معناه ينبغي ويصح أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا وما يصح لنا كما تقدم تقريره، ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، وقوله تعالى: {سبحانك} تعجب من أن يخطر ذلك بالبال في حال من الأحوال. فإن قيل: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ أجيب: بأن الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى عند رؤية التعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب، وقيل: تنزيه، فهو منزه عن أن يرضى بظلم هؤلاء القذفة، وعن أن لا يعاقبهم وعن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم فاجرة، قال البيضاوي: فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فإنه لا ينفر أي: ولهذا كانت امرأة نوح ولوط كافرتين، وهذا يقتضي حل نكاح الكتابية مع أنها لا تحل له صلى الله عليه وسلم لأنها تكره صحبته؛ ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة بنكاح ولقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب، 6) ولا يجوز أن تكون الكافرة أم المؤمنين، ولخبر «سألت ربي أن لا أزوج إلا من كانت معي في الجنة فأعطاني» رواه الحاكم وصحح إسناده. أما التسري بالكافرة فلا يحرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تسرى بريحانة وكانت يهودية من بني قريظة ولا يشكل تعليلهم السابق من أنه أشرف أن يضع ماءه في رحم كافرة؛ لأن القصد بالنكاح أصالة التوالد فاحتيط له، وبأنه يلزم منه أن تكون الزوجة المشركة أم المؤمنين بخلاف الملك فيهما {هذا بهتان} أي: كذب يبهت من يواجه به ويحيره لشدّة ما يفعل في القوى الباطنة؛ لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه، ثم هونه بقوله {عظيم} لعظمة المبهوت عليه، فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها، ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً ترجمه بقوله: {يعظكم الله} أي: يرقق قلوبكم الذي له الكمال كله، فيمهل بحلمه ولا يهمل بحكمته {أن} أي: كراهة أن {تعودوا لمثله أبداً} أي: ما دمتم أحياء مكلفين، ثم عظم هذا الوعظ بقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} أي: متصفين بالإيمان راسخين فيه، فإنكم لا تعودون، فإن الإيمان يمنع عنه، وهذا تهييج وتقريع لا أنه يخرج عن الإيمان كما تقول المعتزلة. فإن قيل: هل يجوز أن يسمى الله واعظاً كقوله تعالى: {يعظكم الله} ؟ أجيب: بأنه لا يجوز كما قاله الرازي، قال: كما لا يجوز أن يسمى الله معلماً كقوله تعالى: {الرحمن علم القرآن} (الرحمن، 1) ؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية. {ويبين الله} أي: بما له من صفات الكمال والإكرام {لكم الآيات} أي: الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا {والله} أي: المحيط بجميع الكمال {عليم} أي: بما يأمر به وينهى عنه {حكيم} لا يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه وإن دق عليكم فهم ذلك فلا تتوقفوا في أمر من أوامره، ولماكان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب بينه بقوله تعالى: {إن الذين يحبون} أي: يريدون وعبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة {أن تشيع} أي: تنتشر بالقول أو الفعل {الفاحشة} الفعلة الكبيرة القبح {في الذين آمنوا} أي: بنسبتها إليهم وهم العصبة، وقيل: المنافقون {لهم عذاب أليم في الدنيا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 أي: بالحدّ للقذف {والآخرة} أي: بالنار لحق الله تعالى إن لم يتب {والله} أي: المستجمع لصفات الجلال والجمال {يعلم} أي: له العلم التام فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في إظهاره أو ستره أو غير ذلك من جميع الأمور {وأنتم لا تعلمون} أي: ليس لكم علم من أنفسكم فاعملوا بما علمكم فلا تتجاوزوه ولا تضلوا، وقيل: معناه يعلم ما في قلب من يحب أن تشيع الفاحشة فيجازيه عليها وأنتم لا تعلمون ذلك، وقيل: والله يعلم انتفاء الفاحشة عنهم وأنتم أيها العصبة لا تعلمون وجودها فيهم، وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} أي: بكم تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة، ولذا عطف عليه {وأن الله} أي: الذي له القدرة التامة، فسبقت رحمته غضبه {رؤوف رحيم} على حصول فضله ورحمته، وجواب لولا محذوف كأنه قال: لعذبكم واستأصلكم لكنه رؤوف رحيم؛ قال ابن عباس: الخطاب لحسان ومسطح وحمنة قال الرازي: ويجوز أن يكون الخطاب عاماً، وقيل: الجواب في قوله تعالى: {ما زكى منكم من أحد} ، وقرأ: رؤوف؛ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بمدّ الهمزة والباقون بقصرها. {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات} أي: طرق {الشيطان} بتزيينه أي: لا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ولا في غيرها {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه} أي: المتبع {يأمر بالفحشاء} أي: بالقبائح من الأفعال {والمنكر} أي: ما أنكره الشرع وهو كل ما يكرهه الله تعالى، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون {ولولا فضل الله} أي: الذي لا إله غيره {عليكم ورحمته} أي: بكم بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وتشريع الحدود المكفرة لها {ما زكى} أي: ما طهر من ذنبها {منكم من أحد أبداً} آخر الدهر، والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا: أخبر الله أنه لولا فضل الله ورحمته ما صلح منكم من أحد، وقال ابن عباس: الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل بالتوبة منه {ولكن الله} أي: العليم بأحوال خلقه {يزكي} أي: يطهر {من يشاء} من الذنوب بقبول التوبة منها {والله سميع} أي: لأقوالهم {عليم} أي: بما في قلوبهم. {ولا يأتل} أي: يحلف افتعال من الآلية وهو القسم {أولو الفضل} أي: أصحاب الغنى {منكم والسعة أن} أي: أن لا {يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا} عنهم في ذلك {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} أي: على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكان يتيماً في حجره، وكان ينفق عليه فلما فرط منه ما فرط قال لهم أبو بكر: قوموا لستم مني ولست منكم وكفى بذلك داعياً في المنع، فإن الإنسان إذا أحسن إلى قريبه وكافأه بالإساءة كان أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من أجنبي؛ قال الشاعر: *وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وضع الحسام المهند فقال له مسطح: نشدتك الله والإسلام والقرابة لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا أول الأمر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ذنب فقال: ألم تتكلم؟ فقال: قد كان بعض ذلك عجباً من قول حسان فلم يقبل عذره، وقال: انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذراً ولا فرجاً، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، وناس من الصحابة أقسموا أن لا يتصدّقوا على من تكلم بشيء من الإفك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقرأ عليه الآية، فلما وصل إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} {والله غفور رحيم} أي: مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه قال: بلى يا رب إني أحب أن تغفر لي، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال: قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم، وجعل له مثلي ما كان له، وقال: والله لا أنزعها أبداً، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أعظم من مقاتلة الكفار؛ لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكفار ومجاهدة النفس أشدّ من مجاهدة الكفار، ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» . {إن الذين يرمون المحصنات} أي: العفائف {الغافلات} أي: عن الفواحش وهنَّ السليمات الصدور النقيات القلوب بأن لا يقع في قلوبهن فعلها اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات؛ قال في ذلك القائل متغزلاً: *ولقد لهوت بطفلة ميالة ... بلهاءتطلعني على أسرارها وكذلك البله من الرجال في قوله صلى الله عليه وسلم «أكثر أهل الجنة البله» ، وقيل: البله هم الراضون بنعيم الجنة والفطناء لم يرضوا إلا بالنظر إلى وجهه الكريم {المؤمنات} بالله ورسوله {لعنوا في الدنيا والآخرة} أي: عذبوا في الدنيا بالحد، وفي الآخرة بالنار {ولهم عذاب عظيم} لعظم ذنوبهم؛ قال مقاتل: هذا خاص في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وروي أنه قيل لسعيد بن جبير: من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة، فقال: ذلك لعائشة رضي الله عنها خاصة. قال الزمخشري: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم ترَ أنَّ الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما أنزل فيه على طرق مختلفة أو أساليب مفتنة كل واحد منها كاف في بابه ولو لم تنزل إلا هذه الثلاث آيات لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم كما قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} أي: من قول وفعل، وهو يوم القيامة بما أفكوا وبهتوا فإنه تعالى يوفيهم جزاءهم الحق كما قال تعالى: {يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق} أي: جزاءهم الواجب الذين هم أهله {ويعلمون} عند ذلك {أن الله هو الحق المبين} حيث حقق لهم جزاء الذي كانوا يشكون فيه فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين وعبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة وما ذاك إلا لأمر عظيم، وعن ابن عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن حتى سئل عن هذه الآيات فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك ولقد برّأ الله تعالى أربعة بأربعة برّأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد فقال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} (يوسف، 26) الآية، وبرّأ موسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها عليه الصلاة والسلام حين نادى من تحتها {إني عبد الله} (مريم، 30) الآية، وبرّأ عائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كيف بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على أنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك وليتأمل كيف غضب الله تعالى له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه، وقال قوم: ليس لمن قذف عائشة وبقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة؛ لأن الله تعالى لم يذكر في قذفهن توبة، وما ذكر من أول السورة فذاك في قذف غيرهن. فإن قيل: إن كانت عائشة هي المرادة، فكيف قيل المحصنات؟ أجيب: بأنها لما كانت أم المؤمنين جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان ولذا قيل: إن هذا حكم كل قاذف ما لم يتب. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {هو الحق المبين} ؟ أجيب: بأن معناه ذو الحق المبين أي: العادل الظاهر العدل الذي لا ظلم في حكمه والمحق الذي لا يوصف بباطل ومن هذه صفته كان له أن يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه، وقرأ: يشهد؛ حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالفوقية، ويوم ناصبه الاستقرار الذي تعلق به لهم، وقرأ أبو عمرو: يوفيهم الله، بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا كله في الوصل، وأما الوقف فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم. {الخبيثات} أي: من النساء والكلمات {للخبيثين} من الناس {والخبيثون} أي: من الناس {للخبيثات} أي: مما ذكر {والطيبات} أي: مما ذكر {للطيبين} أي: من الناس {والطيبون} أي: منهم {للطيبات} أي: مما ذكر فاللائق بالخبيث مثله وبالطيب مثله {أولئك} أي: الطيبون والطيبات من النساء، ومنهم صفوان وعائشة {مبرؤون مما يقولون} أي: الخبيثون والخبيثات من النساء، وقيل: عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع كقوله تعالى: {فإن كان له أخوة} أي: إخوان {لهم} أي: الطيبين والطيبات من النساء على الأول، ولصفوان وعائشة على الثاني {مغفرة} أي: عفو عن الذنوب {ورزق كريم} هو الجنة، وروي أنَّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها منها أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سرقة من حرير وقال للنبي صلى الله عليه وسلم هذه زوجتك، وروي أنه أتى بصورتها في راحته، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، ومنها أنه قبض صلى الله عليه وسلم ورأسه الشريف في حجرها، ومنها أنه دفن في بيتها، ومنها أنه كان ينزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 عليه الوحي وهو معها في لحاف، ومنها أن براءتها نزلت من السماء، ومنها أنها ابنة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه، وخلقت طيبة، ووعدت بمغفرة ورزق كريم، وكان مسروق رحمه الله تعالى إذا روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرّأة من السماء. الحكم السادس: ما ذكره بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} أي: التي تسكنونها، فإن المؤجر والمعير لا يدخلان إلا بإذن، وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها، وفي قوله تعالى: {حتى تستأنسوا} وجهان: أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش؛ لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له فقد استأنس، والمعنى حتى يؤذن لكم كقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} (الأحزاب، 53) ، وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن، والثاني: أن يكون من الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحداً، واستأنست فلم أرَ أحداً أي: تعرفت واستعلمت، وقال الخليل بن أحمد: الاستئناس: الاستبصار، من قولهم: آنست ناراً؛ أي: أبصرت، وقيل: هو أن يتكلم بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح يؤذن أهل البيت، وعن أبي أيوب الأنصاري قال: يا رسول الله: ما الاستئناس؟ قال: «أن يتكلم الرجل» {وتسلموا على أهلها} كأن يقول الواحد: السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات، فإن أذن له دخل، وإلا رجع قال قتادة: المرة الأولى للتسميع، والثانية: ليتهيأ، والثالثة: إن شاء أذن، وإن شاء رد، وهذا من محاسن الآداب، فإن أول مرة ربما منعهم بعض الأشتغال من الإذن، وفي الثانية ربما كان هناك مانع يقتضي المنع، فإن لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع، ولهذا كان الأولى في الاستئذان ثلاثاً أن لا تكون متصلة، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما. ولا بد من إذن صريح إذا كان الداخل أجنبياً أو قريباً غير محرم سواء كان الباب مغلقاً أم لا، وإن كان محرماً فإن كان ساكناً مع صاحبه فيه لم يلزمه الاستئذان، ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطء أو نحو ذلك ليستتر العريان فإن لم يكن ساكناً فإن كان الباب مغلقاً لم يدخل إلا بإذن، وإن كان مفتوحاً فوجهان، والأوجه الاستئذان، وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثاً، ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الاستئذان ثلاثاً» ، و «استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السلام عليكم أدخل، فسمع الرجل فقال: أدخل» . وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب صاحب البيت مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عز وجل عن ذلك، وعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 ما هو الأحسن الأجمل، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به وباب الاستئذان من ذلك. قال الزمخشري: بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن يسمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أين الأذن الواعية. {ذلكم خير لكم} أي: من تحية الجاهلية، ومن أن تدخلوا من غير استئذان. «روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن» ، وقوله تعالى: {لعلكم تذكرون} متعلق بمحذوف أي: أنزل عليكم، وقيل: بين لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد. {فإن لم تجدوا فيها} أي: البيوت {أحداً} يأذن لكم في دخولها {فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم} أي: حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول فيها ليس الاطلاع على العورات فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي تطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب {وإن قيل لكم ارجعوا} أي: بعد الاستئذان {فارجعوا} أي: إذا كان في البيت أحد، وقال لكم: ارجعوا فارجعوا {هو} أي: الرجوع {أزكى} أي: أطهر وأصلح {لكم} من الوقوف على الأبواب منتظرين؛ لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة مرتاضين للآداب الحسنة وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد رحمه الله تعالى: ما قرعت باباً على عالم قط، وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} ، (الحجرات، 4) وعن قتادة رحمه الله تعالى: إذا لم يؤذن له لا يقعد وراء الباب فإن للناس حاجات، وإن حضر ولم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتي باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج، ولا يستأذن فيخرج الرجل فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخبرتني فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم، فإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً لما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم يفقؤوا عينه» وفي رواية للنسائي قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك جناح» ، ولو عرض أمر في دار من حريق أو هدم أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره جاز الدخول بغير إذن {والله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {بما تعملون} من الدخول بإذن وبغير إذن {عليم} فيجازيكم عليه. لما نزلت آية الاستئذان قالوا: يا رسول الله كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها إنسان فأنزل الله تعالى: {ليس عليكم جناح} أي: إثم {أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 بغير استئذان منكم، وذلك كبيوت الخانات والربط المسبلة {فيها متاع} أي: منفعة {لكم} والمنفعة فيها بالنزول وأنواع المتاع والاتقاء من الحر والبرد ونحو ذلك، وقال ابن زيد: هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو المنفعة، وقال إبراهيم النخعي: ليس على حوانيت الأسواق إذن، وكان ابن سيرين رحمه الله تعالى إذا جاء إلى حانوت السوقي يقول: السلام عليكم أدخل ثم يلج، وقال عطاء: هي البيوت الخربة والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها {والله يعلم ما تبدون} أي: تظهرون {وما تكتمون} أي: تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره، وفي ذلك وعيد من الله تعالى لمن دخل لفساد أو تطلع على عورات وسيأتي أنهم إذا دخلوا بيوتهم سلموا على أنفسهم. والحكم السابع حكم النظر المذكور في قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} أي: عما لا يحل لهم نظره {ويحفظوا فروجهم} أي: عما لا يحل لهم فعله بها. تنبيه: من للتبعيض، والمراد غض البصر عما لا يحل كما مرَّ والاقتصار به على ما يحل، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه. فإن قيل: لم دخلت من في غض البصر دون حفظ الفرج؟ أجيب: بأن في ذلك دلالة على أن المراد أن أمر النظر أوسع بدليل جواز النظر للمحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأما نظر الفروج فالأمر فيه ضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء، وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. فإن قيل: لم قدم غض البصر على حفظ الفرج؟ أجيب: بأن البلوى فيه أشد. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: «اصرف بصرك» . وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية» أخرجه أبو داود والترمذي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» {ذلك} أي: غض البصر وحفظ الفرج {أزكى} أي: خير {لهم} لما فيه من البعد عن الريبة، سئل الشيخ الشبلي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {يغضوا من أبصارهم} ، فقال: أبصار الرؤوس عن المحرمات وأبصار القلوب عن المحرمات، ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنه خبير بأحوالهم وأفعالهم بقوله تعالى: {إن الله} أي: الملك الذي لا يخفى عليه شيء {خبير بما يصنعون} بسائر حواسهم وجوارحهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون. {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} عما لا يحل لهن نظره {ويحفظن فروجهن} عما لا يحل لهن فعله بها، روي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحرث إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال صلى الله عليه وسلم احتجبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 منه فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه» ، وقوله تعالى: {ولا يبدين} أي: يظهرن {زينتهن} أي: لغير محرم، والزينة خفية وظاهرة، فالخفية مثل الخلخال والخضاب في الرجل، والسوار في المعصم، والقرط في الأذن والقلائد في العنق، فلا يجوز للمرأة إظهارها، ولايجوز للأجنبي النظر إليها، والمراد من الزينة مواضعها من البدن، وذكر الزينة للمبالغة في الأمر بالصون والستر؛ لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها {إلا ما ظهر منها} أي: من الزينة الظاهرة، واختلف أهل العلم في هذه الزينة التي استثناها الله تعالى فقال سعيد بن جبير وجماعة: هي الوجه والكفان، وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هي الثياب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي الكحل والخاتم والخضاب في الكف فما كان من الزينة الظاهرة، يجوز للأجنبي النظر إليها إن لم يخفِ فتنة في أحد وجهين وعليه الأكثر. وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة في الصلاة وسائر بدنها عورة فيها، ولأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وخاصة الفقيرات، والوجه الثاني يحرم؛ لأنه محل الفتنة ورجح حسماً للباب {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} أي: يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع، فإن جيوبهن كانت واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدّامهن حتى تغطيها، ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور تسمية لها باسم ما يليها ويلابسها، ومنه قولهم: ناصح الجيب بالنون والصاد أي: سليم الصدر، وقولك: ضربت بخمارها على جيبها كقولك: ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يرحم الله تعالى نساء المهاجرات لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها، والمرط كساء من صوف أو خز أو كتان، وقيل: هو الإزار، وقيل: هو الدرع. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وعاصم بضم الجيم، والباقون بكسرها، وكرر قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} لبيان من يحل له الإبداء، ومن لا يحل له أي: الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين {إلا لبعولتهن} أي: فإنهم المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ولو الدبر ولكنه يكره، وقال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار عنهن إلا لأزواجهن {أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن} فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الخفية ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة، وإنما سومح في الزينة الخفية لأولئك المذكورين في الآية للحاجة المضطرّة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة الفتنة من جهتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك {أو نسائهن} أي: المؤمنات، فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال، فلا يجوز للمسلمة أن تتجرّد من ثيابها عند النساء الكافرات؛ لأنهن أجنبيات عن الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 فكن كالرجال الأجانب، لكن يجوز أن ترى الكافرة منها ما يبدو عند المهنة، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمامات مع المسلمات، وقيل: النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف. تنبيه: العورة على أربعة أقسام؛ عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وعورة الرجل مع المرأة، أما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه ما عدا ما بين السرة والركبة، وكذلك المرأة مع المرأة، وأما المرأة مع الرجل أو الرجل مع المرأة، فلا ينظر أحدهما من الآخر شيئاً، وقيل: يجوز للأجنبي أن ينظر إلى وجهها وكفيها إذا أمن الفتنة ولم تكن شهوة، وقيل: يجوز لها أن تنظر منه ما عدا ما بين السرة والركبة، ويجوز لمن أراد أن يخطب حرة أن ينظر وجهها وكفيها، وهي تنظر منه إذا أرادت أن تتزوج به ما عدا ما بين السرة والركبة، وإن أراد أن يتزوج بأمة جاز أن ينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة، ويحرم أن ينظر بشهوة، ويحرم النظر بشهوة لكل منظور إليه إلا لمن أرد أن يتزوج بها وإلا حليلته ويباح النظر من الأجنبي لمعاملة وشهادة حتى يجوز النظر إلى الفرج للشهادة على الزنا والولادة، وإلى الثدي للشهادة على الرضاع وتعليم ومداواة بقدر الحاجة. وكل ما حرم نظره متصلاً حرم نظره منفصلاً كشعر عانة من رجل أو قلامة ظفر من أجنبية، ويحرم اضطجاع رجلين أو امرأتين في ثوب واحد إذا كانا عاريين، وإن كان كل منهما في جانب من الفراش للخبر المتقدم، ويجب التفريق بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته في المضجع إذا كانا عاريين، وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لخبر: «ما من مسلمين يلتقيان ويتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» . وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص، والمعانقة والتقبيل في الرأس للنهي عن ذلك إلا لقادم من سفر أو تباعد عهد، ويسن تقبيل الطفل ولو لغير أبويه شفقة، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، ويسن تقبيل يد الحي لصلاح أو علم أو زهد أو نحو ذلك، ويكره لغني أو وجاهة أو نحو ذلك، وقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهنّ} يعم الإماء والعبيد، فيحل نظر العبد العفيف غير المبعض والمشترك والمكاتب إلى سيدته العفيفة لما روى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم وما تلقى قال صلى الله عليه وسلم «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» . وعن عائشة أنها قالت لعبدها ذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر، وأما الفاسق والمبعض والمشترك والمكاتب فكالأجنبي بل قيل: إن المراد بالآية الإماء وعبداً وأمة كالأجنبي وبه قال ابن المسيب آخراً، وقال: لا تغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء {أو التابعين} أي: الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم {غير أولي الإربة} أي: أصحاب الحاجة إلى النساء {من الرجال} أي: ليس لهم همة إلى ذلك ولا حاجة لهم في النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن، وقيل: هم شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، وقيل: هم الممسوحون سواء كان حراً أم لا وهو ذاهب الذكر والأنثيين، أما ذاهب الذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 فقط أو الأنثيين فقط فكالفحل، وعن أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم. قال الزمخشري: فإن قلت: روي: «أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصي فقبله» قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف وإن صح فلعله قبله ليعتقه أو لسبب من الأسباب، انتهى. وعندنا يجوز جميع ذلك إذ لا مانع منه، وقيل: المراد بأولي الإربة هو المخنث، وقرأ ابن عامر وشعبة بنصب الراء على الاستثناء والحال، والباقون بكسرها على الوصفية، وقوله تعالى: {أو الطفل} بمعنى الأطفال وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبينه ما بعده، وهو قوله تعالى: {الذين لم يظهروا} أي: لم يطلعوا {على عورات النساء} للجماع فيجوز لهن أن يبدين لهم ما عدا ما بين السرة والركبة؛ قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: إذا لم يبلغ الطفل حداً يحكي ما يراه فكالعدم أو بلغه من غير شهوة فكالمحرم، أو بشهوة فكالبالغ {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} وذلك أن المرأة كانت تضرب برجلها الأرض ليقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال، وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها على الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين فنهين عن ذلك لأن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وإذا وقع النهي عن إظهار صوت الحلي فمواضع الحلي أبلغ في النهي وأوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها، وإن ضبط نفسه واجتهد ولا يخلو من تقصير يقع منه فلذلك قال تعالى: {وتوبوا إلى الله} أي: الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات {جميعاً أيها المؤمنون} أي: مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره. وشروط التوبة أن يقلع الشخص عن الذنب ويندم على ما مضى منه ويعزم على ألا يعود إليه ويرد الحقوق لأهلها، وقرأ ابن عامر في الوصل: أيها المؤمنون بضم الهاء لأنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها والباقون بفتحها، وأما الوقف فوقف أبو عمرو والكسائي بالألف بعد الهاء، ووقف الباقون على الهاء ساكنة {لعلكم تفلحون} أي: تنجون من ذلك بقبول التوبة منه، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث، وعن ابن عباس توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. فإن قيل: على هذا قد صحت التوبة بالإسلام لأنه يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة؟ أجيب: بأن بعض العلماء قال: إن من أذنب ذنباً ثم تاب لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه على عدم العودة إلى أن يلقى الله تعالى، والذي عليه الأكثر أنه لا يلزمه تجديدها. وعن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى ربي كل يوم مائة مرة» ، وعن ابن عمر قال: إنا كنا لنعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة» ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه» ، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يسقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة» . ولما نهى عما سيفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بالحكم الثامن وهو الأمر بالنكاح المذكور في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} جمع أيم والأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا، والأيم هي من ليس لها زوج بكراً كانت أو ثيباً، ومن ليس له امرأة فيشمل ذلك الذكر والأنثى قال الشاعر: *فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم أي: أقرب إلى الشباب منك وأتأيم بالرفع على قلة جواب إن تتأيمي، وما بينهما جملة معترضة، والمعنى أوافقك في حالتي التزوج والتأيم، وإن كنت أقرب إلى الشباب منك، وعنه صلى الله عليه وسلم «اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة، والأيمة والقزم والقرم العيمة: شهوة اللبن، والغيمة: العطش، والأيمة: شهوة النكاح مع الخلو من الزوجية، والقزم: البخل، والقرم: شهوة اللحم، وهذا في الأحرار والحرائر، وأما غيرهم فهو قوله تعالى: {والصالحين} أي: المؤمنين {من عبادكم} وهو من جموع عبد، {وإمائكم} والخطاب للأولياء والسادة، وهذا الأمر أمر ندب، فيستحب لمن تاقت نفسه للنكاح ووجد أهبته أن يتزوج ومن لم يجد أهبته استحب له أن يكسر شهوته بالصوم لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» أي: قاطع لشهوته لأن الوجاء بكسر الواو نوع من الخصاء وهو أن ترض عروق الأنثيين وتترك الخصيتان كما هما، فشبه الصوم في قطعه شهوة النكاح بالوجاء الذي يقطع النسل، والباءة بالمد مؤن النكاح، وهي المهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه. فإن لم تنكسر شهوته بالصوم فلا يكسرها بالكافور ونحوه بل يتزوج، ويكره لغير التائق إن فقد الأهبة أو وجدها وكان به علة كهرم فإن وجدها ولا علة به وهو غير تائق فالتخلي للعبادة أفضل من النكاح إن كان متعبداً فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل من تركه لقوله صلى الله عليه وسلم «من أحب فطرتي فليستن بسنتي» وهي النكاح، وعنه صلى الله عليه وسلم «من كان له مال يتزوج به فلم يتزوج فليس منا» ، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا تزوج أحدكم عج شيطانه يا ويلاه عصم ابن آدم مني ثلثي دينه» والأحاديث في ذلك كثيرة، وربما كان واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال» ، وفي رواية: «يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة» ، ويندب النكاح للمرأة التائقة وفي معناها المحتاجة إلى النفقة، والخائفة من اقتحام الفجرة، ويستحب أن تكون المنكوحة بكراً إلا لعذر لقوله صلى الله عليه وسلم «هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك» ، ولوداً لقوله صلى الله عليه وسلم «تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» ، وفي رواية: «يا عياض لا تتزوج عجوزاً ولا عاقراً، فإني مكاثر دينة» لما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» . وقيل: المراد بالصالحين الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه، وقوله تعالى: {إن يكونوا} أي: الأحرار {فقراء يغنهم الله} أي: بالتزويج {من فضله} ردّ لما عساه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 أن يمنع من النكاح والمعنى لا يمنعهن فقر الخاطب والمخطوبة من المناكحة، فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غادٍ ورائح، أو وعد من الله تعالى بالغنى لقوله صلى الله عليه وسلم «اطلبوا الغنى في هذه الآية» . لكن ينبغي أن تكون شريطة الله تعالى غير منسية في هذا الوعد ونظائره، وهي مشيئته ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة، ونحوه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق، 3) ، وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم} (التوبة، 28) ، ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضاً بعزب كان غنياً فأفقره النكاح. وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففني وأصبح مسكيناً، وورد: «التمسوا الرزق بالنكاح» ، وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل الحاجة فقال: «عليك بالباءة» أي: النكاح، وعن عمر رضي الله عنه: عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح، والله تعالى يقول: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} ، وحكي عنه أنه قال: عجبت لمن لم يطلب الغنى بالباءة، وقال طلحة بن مطرف: تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع في أخلاقكم ويزيد الله في ثروتكم؛ قال الزمخشري: ولقد كان عندنا رجل رازح الحال ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته فقال: كنت في أول أمري على ما علمت وذلك قبل أن أرزق ولداً، فلما رزقت بكر ولدي تراخيت عن الفقر فلما ولد لي الثاني ازددت خيراً فلما تتاموا ثلاثة صبَّ الله علي الخير، فأصبحت إلى ما ترى، انتهى. {والله} أي: الذي له الملك كله {واسع} أي: ذو سعة لخلقه لا تنفد نعمه إذ لا تنتهي قدرته {عليم} بهم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. ولما ذكر تعالى تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك بقوله: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} أي: وليجهد في طلب العفة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من مهر ونفقة يوم التمكين وكسوة فصله، وقيل: لا يجدون ما ينكحون {حتى يغنيهم الله} أي: يوسع عليهم {من فضله} فينكحون، ولما ذكر تعالى نكاح الصالحين من العبيد والإماء حث على كتابتهم بالحكم التاسع وهو الأمر بالكتابة المذكور في قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب} أي: يطلبون الكاتبة {مما ملكت أيمانكم} أي: من العبيد والإماء {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} أي: أمانة وقدرة على الكسب لأداء مال الكتابة. وسبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى يقال له: الصبيح، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فأنزل الله هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب وأركانها أربعة رقيق وصيغة وعوض وسيد وشرط في السيد كونه مختاراً أهل تبرع وولاء وكتابة المريض مرض الموت محسوبة من الثلث، فإن خلف مثلي قيمته صحت الكتابة في كله أو مثل قيمته صحت في ثلثيه أو لم يخلف غيره صحت في ثلثه، وشرط في الرقيق اختيار وعدم صبا وجنون وأن لا يتعلق به حق آدمي لازم، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالكتابة كأن يقول السيد لمملوكه: كاتبتك على ألفين في شهرين كل شهر ألف، فإذا أديتهما فأنت حر، فيقول العبد: قبلت ذلك، فلا يصح عقدها إلا مؤجلاً منجماً بنجمين فأكثر، كما جرى عليه الصحابة فمن بعدهم، فلا بدّ من بيان قدرالعوض وصفته وعدد النجوم وقسط كل نجم فلا تجوز عند الشافعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 رضي الله تعالى عنه بنجم واحد ولا بحال لأن العبد لا يملك شيئاً فعقدها بحال يمنع من حصول الغرض لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلاً، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه تجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم؛ لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياساً على سائر العقود وهي سنة لا واجبة، وإن طلبها الرقيق لئلا يتعطل أثر الملك وتتحكم المماليك على الملاك بطلب رقيق أمين قوي على الكسب وبهما فسر الشافعي الخير في الآية واعتبرت الأمانة لئلا يضيع ما يحصله فلا يعتق، والطلب والقدرة على الكسب ليوثق بتحصيل النجوم. / روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله» ، فإن فقدت هذه الشروط أو بعضها فهي مباحة إذ لا يقوى رجاء العتق بها ولا تكره بحال لأنها عند فقد ما ذكر فقد تفضي إلى العتق، نعم إن كان الرقيق فاسقاً بسرقة أو نحوها، وعلم سيده أنه لو كاتبه مع العجز عن الكسب اكتسب بطريق الفسق لم يبعد تحريمها حينئذٍ لتضمنها التمكين من الفساد، وتصح على عوض قليل وكثير، ويجب أن يحط عنه قبل عتقه شيئاً متمولاً من النجوم، أو يدفعه إليه من جنسها أو من غيرها، كما قال تعالى: {وآتوهم} أمر للسادة {من مال الله الذي آتاكم} ما يستعينون به في أداء ما التزموه لكم أيها السادة، وفي معنى الإيتاء حط شيء متمول مما التزموه بل الحط أولى من الدفع؛ لأن القصد بالحط الإعانة على العتق وهي محققة فيه موهومة في الدفع إذ قد يصرف المدفوع في جهة أخرى، وكون ذلك في النجم الأخير أولى منه فيما قبله لأنه أقرب إلى العتق. يروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمر وقال: استعن به على كتابتك، فقال: لو أخرته إلى آخر نجم، فقال: أخاف أن لا أدرك ذلك وكونه ربعاً من النجوم أولى، فإن لم تسمح به نفسه فكونه سبعاً أولى، روى حط الربع النسائي وغيره، وحط السبع مالك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وعند أبي حنيفة أمر للمسلمين على جهة الوجوب بإعانتهم للمكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال كقوله: {وفي الرقاب} ولما بين تعالى ما يصح من تزويج العبيد والإماء أتبع ذلك بالحكم العاشر وهو الإكراه على الزنا المذكور في قوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم} أي: إماءكم {على البغاء} أي: الزنا. كان لعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت مسيكة لمعاذة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله هذه الآية، وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد، وجاءت الأخرى بدينار فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالا: والله لا نفعل قد جاء الإسلام وحرم الزنا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيا إليه فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» {إن أردن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 تحصناً} أي: تعففاً عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها بغي الطبع طوعاً، وكلمة إن وإيثارها على إذا إيذان بأن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر ولأن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صورة صفة السبب وإن لم تكن شرطاً فيه، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} أي: تطلبوا من أموال الدنيا بكسبهن وأولادهن {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور} أي: لهن {رحيم} بهن، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن: والله لهن أي: لا للمكره إلا إذا تاب. فإن قيل: إن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة؟ أجيب: بأن الزنا لا يباح بالإكراه فهي آثمة لكن لا حد عليها للإكراه، ولما ذكر تعالى في هذه السورة هذه الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث: أحدها: قوله تعالى: {ولقدأنزلنا إليكم آيات مبينات} أي: الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء التحتية والباقون بفتحها؛ لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول السليمة من بين بمعنى تبين أو لأنها بينت الأحكام والحدود. ثانيها: قوله تعالى: {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} أي: من جنس أمثالهم، أي: وقصة عجيبة مثل قصصهم وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام. ثالثها قوله تعالى: {وموعظة للمتقين} أي: ما وعظ به في قوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} (النور، 2) ، وقوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} (النور، 12) إلخ، وفي قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه قلتم} (النور، 16) إلخ، وفي قوله تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا} (النور، 17) إلخ وتخصيصها بالمتقين لأنهم المنتفعون بها، واختلف في معنى قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض} فقال ابن عباس: الله هادي أهل السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهدايته من حيرة الضلال ينجون، وقال الضحاك: منور السموات والأرض، فقال: نور السماء بالملائكة، ونور الأرض بالأنبياء، وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض، وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات والأرض؛ زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، ويقال: بالنبات والأشجار، وقيل: معناه الأنوار كلها منه؛ كما يقال: فلان رحمة أي: منه الرحمة وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل: *إذ سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها وسبب هذا الاختلاف أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيران على الأجرام الكثيفة المحاذية لها وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا على ضرب من التجوز كالأمثلة المتقدمة أو على تقدير مضاف كقولك: زيد كرم وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى ذو نور السموات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 والأرض ونور السموات والأرض الحق شبه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله تعالى: {الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة، 257) أي: من الباطل إلى الحق، وأضاف النور إلى السموات والأرض لأحد معنيين إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، وإما أن يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به، واختلف أيضاً في معنى قوله تعالى: {مثل نوره} فقال ابن عباس: مثل نوره الذي أعطى المؤمن أي: مثل نور الله في قلب المؤمن وهو النور الذي يهتدي به كما قال تعالى: {فهو على نور من ربه} (الزمر، 22) ، وقال الحسن وزيد بن أسلم: أراد بالنور القرآن، وقال سعيد بن جبير والضحاك: هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: أراد بالنور: الطاعة سمى طاعة الله نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضلاً أي: صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة {كمشكاة} أي: كصفة مشكاة وهي الكوة في الجدار غير النافذة {فيها مصباح} أي: سراج ضخم ثاقب {المصباح في زجاجة} أي: قنديل من زجاج شامي أزهر وإنما ذكر الزجاجة؛ لأن النور وضوء النهار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج. ثم وصف الزجاجة بقوله تعالى: {الزجاجة كأنها} أي: النور فيها {كوكب دري} أي: مضيء شبهها في الضوء بإحدى الدراري من الكواكب الخمسة العظام وهي المشاهير المشتري والزهرة والمريخ وزحل وعطارد. فإن قيل: لم شبه بالكواكب ولم يشبه بالشمس والقمر؟ أجيب: بأنهما يلحقهما الخسوف والكسوف والكواكب لا يلحقها ذلك. وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام والباقون بضمها منسوب إلى الدر أي: اللؤلؤ في صفاته وحسنه، وإن كان الكوكب أكثر ضوء من الدر لكن يفضل الكواكب بصفائه كما يفضل الدر سائر الحب، وهمز مع المد أبو عمر وشعبة وحمزة والكسائي والباقون بغير همز وكل من أهل الهمز على مرتبته في المد {توقد من شجرة مباركة زيتونة} أي: ابتداء توقده من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت فتيلة المصباح بزيت الشجرة، وهي شجرة كثيرة البركة وفيها منافع كثيرة؛ لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو أدام وهو أصفى الأدهان وأضوؤها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على وزن تفعل على الماضي أي: المصباح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية وتخفيف القاف أي: المصباح {لاشرقية ولاغربية} أي: ليست بشرقية وحدها لاتصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس إذا طلعت بل هي مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ، وهذا كما يقال: فلان ليس أسود ولا أبيض أي: ليس أسود خالصاً ولا أبيض خالصاً بل اجتمع فيه كل واحد منهما، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض أي: اجتمع فيه الحلاوة والحموضة، هذا قول ابن عباس والأكثرين، وقال السدي وجماعة: معناه أنها ليست مقنأة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة لايصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل، والمقنأة بقاف فنون فهمزة وهي بفتح النون وضمها المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 وفي الحديث: «لا خير في شجرة مقنأة ولا في نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى» قال ابن حجر العسقلاني: لم أجده، وقيل: معناه أنها معتدلة ليست في شرق يصيبها الحر، ولا في غرب يضرها البرد، وقيل: معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض لا شرقي ولا غربي، وقيل: ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره {يكاد زيتها} أي: من صفائه {يضيء ولو لم تمسسه نار} أي: يكاد يتلألأ ويضيء بنفسه من غير نار {نور على نور} أي: نور المصباح على نور الزجاجة. تنبيه: اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل فقال بعضهم: وقع التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس لكعب الأحبار: أخبرني عن قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} قال كعب: هذا مثل ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة تتوقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد صلى الله عليه وسلم وأمره يتبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار. وروى سالم عن عمر في هذه الآية قال: المشكاة جوف النبي صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى فيه، لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني، توقد من شجرة مباركة إبراهيم، نور على نور نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلى الله عليهما وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم والزجاجة إسماعيل عليهما السلام، والمصباح محمد صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى مصباحاً كما سماه سراجاً، فقال تعالى: {وسراجاً منيراً} (الأحزاب، 46) توقد من شجرة مباركة، وهي إبراهيم عليه السلام سماه مباركاً؛ لأن أكثر الأنبياء من صلبه، لا شرقية ولا غربية يعني إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، نور على نور نبي من نسل نبي نور محمد على نور إبراهيم عليهما السلام، وقال بعضهم: وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن، روى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال: هذا مثل المؤمن فالمشكاة نفسه والزجاجة صدره، والمصباح ما جعل الله من الإيمان والقرآن في قلبه توقد من شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده، فمثله كمثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك المؤمن قد احترس من أن يصيبه شيء من الفتن، فهو بين أربع خلال؛ إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، يكاد زيتها يضيء؛ أي: يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له لموافقته إياه، نور على نور؛ قال أبيّ: أي: فهو يتقلب في خمسة أنوار قوله نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة؛ قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد هدى على هدى، ونوراً على نور، وقال الكلبي: قوله تعالى: نور على نور يعني إيمان المؤمن وعمله، وقال السدي: نور الإيمان ونور القرآن، وقال الحسن وابن زيد: هذا مثل للقرآن، فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح يهتدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 بالقرآن، والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي، يكاد زيتها يضيء يعني: تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ، نور على نور يعني القرآن نور من الله لخلقه مع ما قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نوراً على نور {يهدي الله لنوره} قال ابن عباس: دين الإسلام وقيل: القرآن {من يشاء} فإن الأسباب بدون مشيئته لاغية، وقيل: يوفق الله لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله والإنصاف من نفسه ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى، سواء عليه جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس {ويضرب} أي: يبين {الله الأمثال للناس} تقريباً للأفهام وتسهيلاً للأكدار {والله بكل شيء عليم} معقولاً كان أو محسوساً، ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعيد لمن تدبرها ولم يكترث بها، وقوله تعالى: {في بيوت} يتعلق بما قبله أي: كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل: مثل نوره، كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، أو بما بعده وهو يسبح أي: يسبح رجال في بيوت، وفي قوله: فيها تكرير لقوله: في بيوت كقوله: زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف كقوله {تعالى في تسع آيات} (النمل، 12) أي: سبحوا في بيوت، والبيوت هي المساجد؛ قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، وقيل: المراد بالبيوت المساجد الثلاثة، وقيل: المراد أربعة مساجد لم يبنها إلا نبيّ؛ الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، ومسجد المدينة، ومسجد قباء بناهما النبي صلى الله عليه وسلم وأتى فيها بجمع الكثرة دون جمع القلة للتعظيم {أذن الله أن ترفع} قال مجاهد: تبنى، نظيره قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} ، وقال الحسن: تعظم أي: فلا يذكر فيها الفحش من القول وتطهر من الأنجاس والأقذار، وقوله تعالى: {ويذكر فيها اسمه} عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله، والمباحثة في أحكامه، وقال ابن عباس: يتلى فيها كتابه {يسبح} أي: يصلى {له فيها بالغدو والآصال} أي: بالغداة والعشي، قال أهل التفسير: أراد به الصلوات المفروضة، فالتي تؤدى بالغداةصلاة الفجر، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين؛ لأن اسم الأصيل يقع على هذا الوقت، وقيل: أراد به الصبح والعصر؛ قال صلى الله عليه وسلم «من صلى البردين دخل الجنة» ؛ أراد صلاة الصبح وصلاة العصر، وقال ابن عباس: التسبيح بالغدو صلاة الضحى، وروى «من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن مشى إلى تسبيح الضحى، لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» ، وقرأ ابن عامر وشعبة بفتح الباء الموحدة والباقون بكسرها. {رجال لا تلهيهم تجارة} أي: معاملة رابحة، وقيل: المراد بالتجارة الشراء لقوله تعالى: {ولا بيع عن ذكر الله} إطلاقاً لاسم الجنس على النوع كما تقول: رزق فلان تجارة صالحة إذا اتجه له بيع صالح أو شراء، وعلى الأول ذكر مبالغة للتعظيم والتعميم بعد التخصيص، وقيل: التجارة لأهل الجلب تقول تجر فلان في كذا أي: جلب. تنبيه: قوله تعالى: {رجال} فاعل يسبح بكسر الباء وعلى فتحها نائب الفاعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 له ورجال فاعل فعل مقدر جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من يسبحه وحذف من قوله تعالى: {وإقام الصلاة} الهاء تخفيفاً أي: وإقامة الصلاة، وأراد أداءها في وقتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وإنما ذكر إقام الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه تعالى أراد بإقامة الصلاة حفظ المواقيت. روى سالم عن ابن عمر: أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فقام الناس وغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد؛ قال ابن عمر: فيهم نزلت هذه الآية: {وإيتاء الزكاة} قال ابن عباس: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها أي: فيخرجون ما يجب إخراجه من المال للمستحقين، وقيل: هي الأعمال الصالحة ومع ما هم عليه {يخافون يوماً} هو يوم القيامة {تتقلب} أي: تضطرب {فيه القلوب} بين النجاة والهلاك {والأبصار} بين ناحيتي اليمين والشمال، وقيل: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين وتنفتح الأبصار من الأغطية، وقوله تعالى: {ليجزيهم الله} متعلق بيسبح أو بلا تلهيهم، أو بيخافون {أحسن ما عملوا} في الطاعات فرضها ونقلها أي: ثوابه الموعود لهم، وأحسن بمعنى حسن {ويزيدهم من فضله} ما لم يستحقوه بأعمالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وقوله تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} تقرير للزيادة، وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإحسان وكمال جوده فكأنه سبحانه وتعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ومع ذلك يكونون في نهاية الخوف، فالله سبحانه وتعالى يعطيهم الثواب العظيم على طاعتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم، وقوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب} أي: فحالهم على ضد ذلك، فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله تعالى يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كسراب وهو ما يرى في الغلاة وقت الضحى الأكبر شبيهاً بالماء الجاري، وهو ليس بماء، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماءً جارياً، وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار في شدّة الحر في البراري الذي يخيل للناظر أنه الماء السارب أي: الجاري، فإذا قرب منه انغش فلم يرَ شيئاً، وأما الآل فإنما يكون أول النهار كأنه ماء بين السماء والأرض، وقال البغوي: والآل ما ارتفع عن الأرض وهو شعاع يجري بين السماء والأرض بالغدوات شبه بالمرآة ترفع فيها الشخوص يرى فيها الصغير كبيراً، والقصير طويلاً والرقراق يكون بالعشاء وهو ما ترقرق من السراب أي: جاء وذهب، وقوله تعالى: {بقيعة} جمع قاع وهي أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام قاله في القاموس، وقيل: القيعة بمعنى القاع، وهو الأرض المستوية المنبسطة، وفيها يكون السراب، وقال الفراء: جمع قاع كجار وجيرة، وقال الفارسي: جمعه قيعة وقيعان {يحسبه} أي: يظنه {الظمآن} أي: العطشان الشديد العطش من ضعف العقل {ماءً} فيقصده ولا يزال سائراً {حتى إذا جاءه} أي: ما قدر أنه ماء، وقيل: جاء إلى موضع السراب {لم يجده شيئاً} مما حسبه ووجه التشبيه أن الذي جاء به الكافر إن كان من أفعال البر، فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أن له ثواباً، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 فيشبه حاله حال الظمآن الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في البر تعلق به قلبه، فإذا جاء له لم يجده شيئاً، فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا احتاج إلى عمله لم يجده شيئاً ولا ينفعه، وقال مجاهد: السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا. فإن قيل: قوله تعالى: {حتى إذا جاءه} يدل على كونه شيئاً، وقوله تعالى: لم يجده شيئاً مناقض له؟ أجيب: بأن معناه {لم يجده شيئاً} نافعاً كما يقال: فلان ما عمل شيئاً وإن كان قد اجتهد، أو أنه إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء {ووجد الله عنده} أي: ووجد عقاب الله الذي توعد به الكفار أو وجد زبانية الله، أو وجده محاسباً إياه أو قدم على الله {فوفاه حسابه} أي: جزاء عمله قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة فإنه قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر بالإسلام؛ قال ابن الخازن: والأصح أن الآية عامة في حق جميع الكفار {والله سريع الحساب} لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلا يشغله محاسبة واحد عن واحد، وفي هذا رد على المشبهة قبحهم الله تعالى لأنه تعالى لو كان متكلماً بآلة كما يقولون لما صح ذلك، وقوله تعالى: Y {أو كظلمات} عطف على كسراب على حذف مضاف واحد تقديره: أو كذي ظلمات، ودل على هذا المضاف قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} (النور، 40) فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف، وهو قول أبي علي، وقال غيره على حذف مضافين تقديره أو كأعمال ذي ظلمات فقدر ذي ليصح عود الضمير إليه في قوله تعالى: {إذا أخرج يده} وقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة، وأو للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع، فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن كانت قبيحة فكالظلمات أو للتقسيم باعتبار وقتين، فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة، وقوله تعالى: {في بحر لجي} صفة لظلمات فيتعلق بمحذوف، واللجي منسوب إلى اللج، وهو معظم البحر، وقيل: منسوب إلى اللجة بالتاء، وهي أيضاً معظمه، فاللجي هو العميق الكثير الماء، وقوله تعالى: {يغشاه} أي: يغطي هذا البحر ويعلوه {موج} كائن {من فوقه موج} أي: أمواج مترادفة متراكمة {من فوقه} أي: الموج الثاني المركوم، وقوله تعالى: {سحاب} أي: غيم غطى النجوم وحجب أنوارها صفة أخرى لبحر، وقوله تعالى: {ظلمات} أي: من البحر والموجين والسحاب خبر مبتدأ مضمر تقديره هذه ظلمات أو تلك ظلمات، ويجوز أن يكون ظلمات مبتدأ والجملة من قوله تعالى: {بعضها فوق بعض} خبره، قاله الحوفي. فإن قيل: لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة؟ أجيب: بأنها موصوفة تقديراً؛ أي: ظلمات كثيرة متكاثفة، وقرأ البزي سحاب بلا تنوين وجر ظلمات وقنبل ينون سحاب ويجر ظلمات، والبزي جعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب، وأما قنبل: فإنه جعل ظلمات بدلاً من ظلمات الأولى والباقون بتنوين سحاب، وظلمات بالرفع فيهما {إذا أخرج} أي: الكافر في هذا البحر بدلالة المعنى، وإن لم يجرِ له ذكر {يده} وهي أقرب ما يرى إليه في هذه الظلمات {لم يكد} أي: الكائن فيه {يراها} أي: لم يقرب من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 رؤيتها فضلاً عن أن يراها كقول ذي الرمة: إذا غير النأي (أي: البعد وفي نسخة الهجر) المحبين لم يكد رسيس الهوى (أي: ثابته بمعنى الهوى الثابت) من حب مية يبرح أي: يزول، والمعنى لم يقرب من البراح فضلاً عن أن يبرح. تنبيه: في كيفية هذا التشبيه وجوه؛ أحدها: قال الحسن: إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمة؛ ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب؛ كذا الكافر له ظلمات ثلاثة: ظلمةالاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، ثانيها: قال ابن عباس: شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث، ثالثها: أن الكافر لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ويعتقد أنه يدري، فهذه المراتب الثلاثة شبه تلك الظلمات الثلاث، رابعها: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، خامسها: أن هذه الظلمات متراكمة، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره، قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه. {ومن لم يجعل الله} أي: الملك الأعظم {له نوراً فما له من نور} ، قال ابن عباس: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له، وقيل: من لم يهده الله فلا هادي له؛ لأنه تعالى قادر على ما يريد، ولما وصف تعالى أنوار القلوب قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد بقوله تعالى: {ألم ترَ} أي: تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي والاستدلال {أن الله} أي: الحائز لصفات الكمال {يسبح له} أي: ينزهه عن كل شائبة نقص {من في السموات والأرض} لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب، وهذا استفهام والمراد به التقرير والبيان، وهذا التسبيح إما أن يكون المراد منه دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الجلال، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه، وفي حق الباقين النطق باللسان؛ قال الرازي: والأول أقرب؛ لأن القسم الثاني متعذر؛ لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى، والمكلفون منهم من لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار، وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: إن من في السموات وهم الملائكةيسبحون باللسان، وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان، ومنهم من يسبح على لسان الدلالة، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً وهو غير جائز أي: عند أكثر العلماء فلم يبق إلا القسم الأول وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلهيته وتوحيده وعدله، فسمي ذلك تنزيهاً توسعاً. فإن قيل: فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات، فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء؟ أجيب: بأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه وتعالى؛ لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم، ولما كان أمر الطير دلالته أعجب، ولأنها قد تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم من فيهما خصها بالذكر من جملة الحيوان بقوله تعالى: {والطير صافات} أي: باسطات أجنحتها في جو السماء لا شبهة في أنه لا يمسكها إلا الله تعالى وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة وإقداره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته تعالى. واختلف في عود الضمائر في قوله تعالى: {كل} أي: من المخلوقات {قد علم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 صلاته وتسبيحه} على قولين أحدهما: أنها كلها عائدة على كل أي: كل قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها؛ قال ابن عادل: وهذا أولى لتوافق الضمائر، ثانيهما: أن الضمير في علم عائد إلى الله تعالى وفي صلاته وتسبيحه عائد على كل ويدل عليه قوله تعالى: {والله} أي: المحيط علماً وقدرة {عليم بما يفعلون} وقيل: إن ضرب أجنحة الطير صلاته وتسبيحه، وهذا يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه لا النطق باللسان روي أن أبا ثابت قال: كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ قال: لا، قال: فإنهن يقدسن الله ربهن ويسألنه قوت يومهن؛ قال بعض العلماء: إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها كثير من العقلاء، فإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه، وبيان أنه تعالى ألهمها الأعمال اللطيفة بوجوه. أحدها: أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاد يشمه ويتجسس نفسه، ويصعد الشجرة أخف صعود، ويهشم الجوز بين كفيه تفريقاً بالواحدة، وصدمة بالأخرى، ثم يفتح فاه فيذر قشره، ويتغذى به، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة. ثانيها: أمر النحل وما لها من الرياسة، والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين. ثالثها: انتقال الكركي من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طالباً لما يوافقه من الأهوية، ويقال: من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قاتله وقتاً ما، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال لها القطقاط، وينظف ما بين أسنانها، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطائر تأذى من تلك الشوكة فيفتح فاه، فيخرج ذلك الطائر، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية سعتراً جبلياً، ثم تعود وقد عوفيت من ذلك، وحكي عن بعض الثقات المجربين للصيد أنه شاهد الحباري تقاتل الأفعى وتنهزم عنها إلى بقلة تتناول منها ثم تعود، ولا تزال كذلك، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن، وكانت البقلة قريبة من مسكنه، فلما اشتغل الحباري بالأفعى قلع البقلة، فعاد الحباري إلى منبتها فلم يجدها فأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خرَّ ميتاً، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة، وتلك البقلة هي الجرجير البري، وابن عرس يستظهر في مقاتلة الحية بأكل السذاب فإن النكهة السذابية تنفر منها الأفعى، والكلاب إذا مرضت بطونها أكلت سنبل القمح، وإذا جرحت داوت الجراحة بالسعتر الجبلي. رابعها: القنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب، فتغير المدخل إلى جحرها، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها، وينفع الناس بإنذاره، وكان السبب فيه قنفذاً في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدل به، والخطاف صناع في اتخاذ العش من الطين، وقطع الخشب، فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب ليحمل جناحاه قدراً من الطين، وإذا فرخ بالغ في تعهد الفراخ وتأخذ رزقها بمنقارها، وترميها من العش، والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضها بعضاً، وإذا باتت على جبل فإنها تضع رأسها تحت أجنحتها إلا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 وإذا سمع جرساً صاح، وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضهاً بعضاً أمر عجيب، وإذا كشف عن بيوتها الساتر الذي كان يسترها، وكان تحته بيض لها، فإن كل نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت، والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب طبائع الحيوان، والمقصود في ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال تلك الحيل وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال: إنها تسبح الله تعالى وتثني عليه، وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي تعرفها الناس، ويؤيد هذا قوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} (الإسراء، 44) ، وقوله صلى الله عليه وسلم «إن نوحاً عليه السلام أوصى بنيه عند موته بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو كن في حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء، وقال الغزالي في الإحياء: روي «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تولت عني الدنيا، وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق، وبها يرزقون؛ قال: فقلت: وما هي يا رسول الله، قال: قل سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله عز وجل من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه» ، ثم نبه سبحانه وتعالى بقوله: {ولله ملك السموات والأرض} على أن الكل منه لأن كل ما سواه ممكن ومحدث، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب الوجود ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم، وفي قوله تعالى: {وإلى الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {المصير} دليل على المعاد وأنه لا بد من مصير الكل إليه بعد الفناء. والرؤية في قوله تعالى: {ألم ترَ} نظرية {أن الله} أي: ذا الجلال والجمال {يزجي سحاباً} أي: يسوقه برفق بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل وتارة من العلو ضعيفاً رقيقاً متفرقاً؛ قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده سحابة والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة، وهو معنى قوله تعالى: {ثم يؤلف بينه} أي: بين أجزائه بعد أن كان قطعاً في جهات مختلفة، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة، {ثم يجعله ركاماً} في غاية العظمة متراكماً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة {فترى} أي: في تلك الحالة المستمرة {الودق} أي: المطر {يخرج من خلاله} أي: من فتوقه التي حدثت بالتراكم وإرهاص بعضه في بعض. فإن قيل: بين إنما تدخل على مثنى فما فوقه فلم دخلت هنا على مفرد؟ أجيب: بأن المراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه أو على حذف مضاف أي: بين أجزائه كما مر وبين قطعه فإن كل قطعة سحابة، وقرأ السوسي فترى في الوصل بالإمالة بخلاف عنه والباقون بالفتح، وأما في الوقف فأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، {وينزل من السماء} أي: من الغمام وكل ما علا فهو سماء {من جبال فيها} أي: في السماء وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال وقوله تعالى: {من برد} بيان للجبال، والمفعول محذوف أي: ينزل مبتدئاً من السماء من جبال فيها من برد برداً، فمن الأولى: لابتداء الغاية باتفاق، والثانية: للتبعيض، والثالثة: للبيان، ويجوز أن تكون الثانية لابتداء الغاية أيضاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 ومجرورها بدل من الأولى بإعادة العامل والتقدير وينزل من جبال أي: من جبال فيها فهو بدل اشتمال، والأخيرة للتبعيض واقع موقع المفعول. فإن قيل: ما معنى من جبال فيها من برد؟ أجيب: بأن فيه معنيين؛ أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر وليس في العقل قاطع يمنعه، الثاني: أن يراد الكثرة بذكر الجبال كما يقال: فلان يملك جبالاً من ذهب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم بيّن تعالى أن ذلك باختياره وإرادته بقوله تعالى: {فيصيب به} أي: بكلٍ من البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة {من يشاء} أي من الناس وغيرهم {ويصرفه عن من يشاء} صرفه عنه: فائدة: عن مقطوعة من من في الرسم، ثم نبه تعالى على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النور الذي ربما نزل منه صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار بقوله تعالى. {يكاد} أي يقرب {سنا} أي ضوء {برقه} وهو اضطراب النور في خلاله {يذهب} أي هو ملتبساً {بالأبصار} أي الناظرة له أي يخطفها لشدّة لمعانه وتلألئه فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر ونذيراً بنزول الصواعق، واعلم أن البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره يقتضي ظهور الضدّ من الضدّ وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم، ثم ذكر تعالى ما هو أدل على الاختيار بقوله تعالى مترجماً لما يشمل ما مضى وزيادة: {يقلب الله} أي الذي له الأمر كله بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً والنقص تارة والزيادة أخرى مع المطر تارة والصحو أخرى {الليل والنهار} فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والتنويع واليبس ما يبهر العقول، ولهذا قال منبهاً على النتيجة {إن في ذلك} الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم {لعبرة} أي دلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزيهه عن الحاجة وما يفضي إليها {لأولي الأبصار} أي لأصحاب البصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده، ولما استدل تعالى أولاً بأحوال السماء والأرض وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {خلق كل دابة} أي: حيوان {من ماء} وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وكسر لام كل والباقون بفتح اللام والخاء ولا ألف بينهما ونصب لام كل. فإن قيل: كثير من الحيوانات لم يخلق من الماء كالملائكة خلقوا من النور وهم أعظم الحيوانات عدداً، وكذا الجن وهم مخلوقون من النار وخلق آدم من التراب كما قال تعالى: {خلقه من تراب} وخلق عيسى من الريح، كما قال تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا} ونرى كثيراً من الحيوانات يتوالد لا من نطفة؟ أجيب: بوجوه؛ أحسنها: ما قال القفال: إن من ماء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى، ثانيها: إن أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي «أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم قسم ذلك الماء فخلق منه النار والهواء والنور والتراب» ، والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 فلهذا ذكره الله تعالى، ثالثها: المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك، فتخرج الملائكة والجن، رابعها: لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلاً للغالب منزلة الكل. فإن قيل: لم نكر الماء في قوله تعالى {من ماء} وعرفه في قوله تعالى {من الماء كل شيء حي} (الأنبياء، 30) أجيب: بأنه جاء ههنا منكراً لأن المعنى خلق كل دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة، وعرفه في قوله تعالى: {من الماء كل شيء حيّ} ؛ لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وههنا بيان أن ذلك الجنس. ينقسم إلى أنواع كثيرة {فمنهم} أي: الدواب {من يمشي على بطنه} . كالحية والحيتان والديدان واستعير المشي للزحف على البطن كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر ويقال فلان ما مشى له أمر أو سمي بذلك للمشاكلة بذكر الزاحف مع الماشي {ومنهم من يمشي على رجلين} أي: فقط كالآدمي والطير {ومنهم من يمشي عل أربع} أي: من الأيدي والأرجل كالنعم والوحش فإن قيل: لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي، وقد نجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والحيوان الذي له أربع وأربعون رجلاً الذي يسمى دخال الأذن؟ أجيب: بأن هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر، فكان ملحقاً بالعدم، وقال النقاش: إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر من أربع؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوائم مشيه وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها وبأن قوله تعالى: {يخلق الله ما يشاء} كالتنبيه على سائر الأقسام فإن قيل: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟. أجيب: بأنه قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. تنبيه: إنما أطلق من على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصل بمن، وهو كل دابة وكان التعبير بمن أولى ليوافق اللفظ، ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر وكانوا منكرين له أكد ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأنه القادر على الكل والعالم بالكل، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها، وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها؛ بل هو الذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، ولا يمنعه منه مانع، ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص وقامت أدلة الوحدانية على ساق واتسقت براهين الألوهية أيّ اتساق؛ قال تعالى مترجماً لتلك الأدلة: {لقد أنزلنا} أي: في هذه السورة وما تقدمها بما لنا من العظمة {آيات} أي: مما لنا من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال {مبينات} للحقائق بأنواع الدلائل التي لا خفاء فيها {والله} أي: الملك الأعظم {يهدي من يشاء} من عباده {إلى صراط} طريق {مستقيم} هو دين الإسلام الموصل إلى دار الحق والفوز بالجنة، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم لم يفعلوه بقلوبهم، فقال تعالى: {ويقولون} أي: الذين ذمهم الله تعالى: {آمنا بالله} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 الذي أوضح لنا جلاله وعظمته وكماله {وبالرسول} أي: الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما قام عليها من الأدلة {وأطعنا} أي: وأوجدنا الطاعة لله ولرسوله، ثم عظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال تعالى: {ثم يتولى} أي: يرتد بإنكار القلب، ويعرض عن طاعة الله ورسوله ضلالاً منهم عن الحق {فريق منهم} أي: ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {من بعد ذلك} أي: القول السديد المؤكد مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق {وما أولئك} أي: البعداء البغضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد {بالمؤمنين} أي: المعهودين الموافقة قلوبهم ألسنتهم فإن قيل: إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون: آمنا، ثم حكى عن فريق منهم التولي، فكيف يصح أن يقول في جميعهم: وما أولئك بالمؤمنين مع أن المتولي فريق؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين} راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، ولو رجع إلى الجملة الأولى لصح، ويكون معنى قوله تعالى: {ثم يتولى فريق منهم} أي: يرجع عن هذا الفريق إلى الباقي، فيظهر بعضهم لبعض الرجوع كما أظهروه بينهم، ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم قبح عليهم ما أظهروه فقال تعالى معبراً بأداةالتحقيق: n {وإذا دعوا} أي: الفريق الذين ادعوا الإيمان من أيّ داعٍ كان {إلى الله} أي: إلى ما نصب الملك الأعظم من أحكامه {ورسوله} وأفرد الضمير في قوله تعالى: {ليحكم} وقد تقدمه اسمان وهما الله ورسوله، فهو كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة، 62) ؛ لأن حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري: كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد ومنه قوله: *ومنهل من الفلافي أوسطه ... غلسته قبل القطا وفرّطه أي: قبل فرط القطا {بينهم} أي: بما أراه الله {إذا فريق منهم} أي: ناس مجبولون على الأذى {معرضون} أي: فاجؤوا الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه. {وإن يكن لهم} أي: على سبيل الفرض {الحق} أي: بلا شبهة {يأتوا إليه} أي: الرسول {مذعنين} أي: منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم لأنهم يعلمون أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، فليس انقيادهم لطاعة الله ورسوله. تنبيه: قوله تعالى: {إليه} يجوز تعليقه بيأتوا لأن أتى وجاء قد يتعديان بإلى، ويجوز أن يتعلق بمذعنين؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة، وصححه الزمخشري قال: لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص ومذعنين حال، ثم قسم تعالى الأمر في عدولهم عن حكومته صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب بقوله تعالى: {أفي قلوبهم مرض} أي: نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، أو مرتابين في نبوته بقوله تعالى: {أم ارتابوا} أي: بأن رأوا منك تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم بك أو خائفين الحيف في قضائه بقوله تعالى: {أم يخافون أن يحيف} أي: يجور {الله} أي: الغني عن كل شيء لأن له كل شيء {عليهم ورسوله} أي: الذي لا ينطق عن الهوى، ثم أضرب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول بقوله تعالى: {بل أولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الظالمون} أي: الكاملون في الظلم، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني: إما أن يكون محققاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 عندهم أو متوقعاً، وكل منهما باطل لأن منصب نبوته وفرط أمانته تمنعه فتعين الأول فظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف وضمير الفصل لنفي ذلك عن غيرهم فإن قيل: إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدنيا، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض والكل واحد فأي فائدة في التعديد؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} أشار به إلى النفاق، وقوله تعالى: {أم ارتابوا} إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا حيث يتركون الدين بسببه فإن قيل: هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة أم؟ أجييب بأنه تعالى نبههم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق وكان فيها شك وارتياب وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال مقاتل: نزلت في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمداً يحيف علينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد مضت قصتها في سورة النساء. وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي رضي الله تعالى عنه أرض تقاسماها فوقع إلى علي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة: بعني أرضك فباعه إياها وتقابضا، فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي: اقبض أرضك فإنما أشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلا نأتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت الآية. وقال الحسن: نزلت في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر، ولما نفى تعالى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به كان كأنه سئل عن حال المؤمنين، فقال تعالى: {إنما كان} أي: دائماً {قول المؤمنين} أي: العريقين في ذلك الوصف {إذا دعوا} أي: من أي داع كان {إلى الله} أي: إلى ما أنزل الملك الذي لا كفء له من أحكامه {ورسوله} الذي لا ينطق عن الهوى {ليحكم} أي: الرسول {بينهم} بما أراه الله تعالى أي حكومة من الحكومات لهم أو عليهم {أن يقولوا سمعنا} أي: الدعاء {وأطعنا} أي: بالإجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس على طريق الخبر ولكنه تعليم أدب الشرع بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا {وأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم المفلحون} الذين وصفهم الله تعالى في أول المؤمنين، وهذا يدل على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ولما رتب تعالى الفلاح على هذا النوع الخاص أتبعه عموم الطاعة بقوله تعالى: {ومن يطع الله} أي: الذي له الأمر كله {ورسوله} أي: فيما ساءه وسره {ويخش الله} أي: فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي ليحمله ذلك على كل خير {ويتقه} أي: الله فيما بقي من عمره بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً {فأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم الفائزون} بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم، وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية ومن يطع الله في فرائضه ورسوله في سننه ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل، وعن بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت عليه هذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء بخلاف عن خلاد وقالون باختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف، وقصر كسرة الهاء، والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء، ولما ذكر تعالى ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن ذكر حال المنافقين بقوله تعالى: {وأقسموا بالله} أي: الذي له الكمال المطلق، وقوله تعالى: {جهد أيمانهم} مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها، وعن ابن عباس: من قال بالله فقد بالغ في اليمين، وبلغ غاية شدتها {لئن أمرتهم} أي: أمر من الأمور {ليخرجن} مما هم متلبسون به من خلافه كائناً ما كان، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ولئن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله تعالى: {قل} أي: لهم {لا تقسموا} أي: لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام، وههنا قد تم الكلام، ولو كان قسمهم صادقاً لما نهوا عنه؛ لأن من حلف على القيام بالبر لا ينهى عنه، فثبت أن قسمهم كان لنفاقهم، وكان باطنهم يخالف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح؛ قال المتنبي: *وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دل أنك في الميعاد متهم وفي رفع قوله تعالى: {طاعة معروفة} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره أمرنا طاعة أو المطلوب طاعة، ثانيها: أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي: أمثل أو أولى أو خير أي: طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم خير من قسمكم الذي لا تصدقون فيه، ثالثها: طاعة مبتدأ أي: هذه الحقيقة ومعروفة هو الخبر أي: معروفة منكم ومن غيركم وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها؛ لأن العموم الذي تصلح له قد تخصص بإرادة الحقيقة كما قالوه في أعرف المعارف. والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها عل شمائله، وكذا المعصية؛ لأنه «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها» رواه الطبراني عن عثمان، وعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدى هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، وعن سعيد: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائناً من كان {إن الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {خبير بما تعملون} أي: لا يخفى عليه شيء من سرائركم فإنه فاضحكم لا محالة، ومجازيكم على نفاقكم، ولما نبه الله تعالى على خداعهم، وأشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم أمر بترغيبهم وترهيبهم مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله تعالى: {قل} أي: لهم {أطيعوا الله} أي: الذي له الكمال المطلق {وأطيعوا الرسول} أي: الذي له الرسالة المطلقة ظاهراً وباطناً، وقوله تعالى: {فإن تولوا} أي: عن طاعته بحذف إحدى التاءين خطاب لهم أي: فإن تتولوا فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم {فإنما عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {ما حمل} أي: ما حمله الله تعالى من أداء الرسالة، وإذا أدّى فقد خرج من عهدة التكليف {وعليكم} أي: وأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 أنتم فعليكم {ما حملتم} أي: ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضر عائد إليكم {وإن تطيعوه} بالإقبال على كل ما يأمركم به {تهتدوا} أي: إلى كل خير {وما على الرسول} أي: من جهة غيره {إلا البلاغ} أي: وما الرسول إلا ناصح وهاد، وما عليه إلا أن يبلغ ما له نفع في قبولكم، ولا عليه ضرر في توليتكم، والبلاغ بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية، ومعنى {المبين} كونه مقروناً بالآيات والمعجزات. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» ، وقال أبو أمامة الباهلي: عليكم بالسواد الأعظم، فقال رجل: ما السواد الأعظم؟ فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور، فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وقوله تعالى: {وعد الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {الذين آمنوا منكم وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة أو له ولمن معه ومن للبيان، ثم أكد غاية التأكيد بلام القسم لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك بقوله تعالى: {ليستخلفنهم في الأرض} أي: أرض العرب والعجم بأن يمد زمانهم وينفذ أحكامهم، فيجعلهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم {كما استحلف الذين من قبلهم} أي: من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وكما قال موسى عليه السلام: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وقرأ أبو بكر بضم التاء الفوقية وكسر اللام، والباقون بفتح التاء واللام {وليمكنن لهم} أي: في الباطن والظاهر {دينهم الذي ارتضى لهم} وهو دين الإسلام، وتمكينه تثبيته وتوكيده، وأضافه إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه، وأنه الذي لا ينسخ، ولما بشرهم بالتمكين أشار لهم إلى مقداره بقوله تعالى: {وليبدلنهم من بعد خوفهم} أي: الذي كانوا عليه {أمنا} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح، فقال صلى الله عليه وسلم «لا تصبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديدة» وأنجز الله تعالى وعده وأظفرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعض بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا واستعبدوا أبناء القياصرة وتمكنوا اشرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» ، ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن نزع الله ذلك الأمر كما أشير إليه بمن، وتنكير أمنا، وجاءالخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم، وذلك تصديق لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يملك الله من يشاء، فتصير ملكاً ثم تصير بزيزي قطع سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وسفك دماء وأخذ أموال بغير حقها» ، والثلاثون: خلافة أبي بكر سنتان، وخلافة عمر عشرة، وخلافة عثمان اثنا عشر، وخلافة علي ستة، والبِزَّيزي بكسر الباء وتشديد الزاي الأولى، والقصر السلب والتغلب، وقوله: قطع سبيل إما عطف بيان لقوله: نصب بِزَّيزي، أو بدل منه، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بسكون الباء الموحدة وتخفيف الدال، والباقون بفتح الموحدة وتشديد الدال، ثم أتبع ذلك بنتيجته بقوله تعالى تعليلاً للتمكين وما معه {يعبدونني} أي: وحدي، وقوله تعالى: {لا يشركون بي شيئاً} حال من الواو أي: يعبدونني غير مشركين فإن قيل: فما محل يعبدونني؟ أجيب: بأنه مستأنف لا محل له كأن قائلاً قال ما لهم مستخلفين ويؤمنون؟ فقال: يعبدونني ويجوز أن يكون حالاً عن وعدهم أي: وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلافهم فمحله النصب، ولما كان التقدير فمن ثبت على دين الإسلام وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى عطف عليه قوله تعالى: {ومن كفر} أي: ارتد وكفر هذه النعمة {بعد ذلك} أي: بعد الوعد أو الخلافة {فأولئك} أي: البعداء من الخير {هم الفاسقون} أي: الخارجون عن الدين خروجاً كاملاً لا يقبل معه معذرة، ولا يقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى منهم ملام ولا تؤخذ بهم رأفة عند انتقام كما تقدم أول السورة فيمن لزمه الجلد، وقيل: المراد بالكفر كفران النعمة لا الكفر بالله، وقوله تعالى: {فأولئك هم الفاسقون} أي: العاصون لله، وقوله تعالى: { وأقيموا الصلاة} أي: فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم معطوف على أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؛ قال الزمخشري: وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال؛ لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه {وآتوا الزكاة} فإنها نظام ما بينكم وبين إخوانكم {وأطيعوا الرسول} أي: في كل حال يأمركم به، وكررت طاعة الرسول تأكيداً لوجوبها {لعلكم ترحمون} أي: لتكونوا على رجاء من الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره. والفاعل في قوله تعالى: {لا تحسبن} ضمير المخاطب أي: لا تحسبن أيها المخاطب {الذين كفروا} أي: وإن ازدادت كثرتهم على العدِّ وتجاوزت عظمتهم الحدّ {معجزين} أي: لأهل ودنا، وقيل: لنا {في الأرض} أي: فإنهم مأخوذون لا محالة، وقرأ ابن عامر وحمزة، بالياء على الغيبة قال النحاس: ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يلحن قراءة حمزة فمنهم من يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، وأجيب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن المفعول الأول محذوف تقديره: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين إلا أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين، ومنه قول عنترة: *ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم أي: فلا تظني غيره واقعاً. والثاني: أن المفعولين هما قوله: {معجزين في الأرض} قاله الكوفيون، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب، وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة، وكسرها الباقون، وقوله تعالى: {ومأواهم النار} أي: مسكنهم معطوف على لا تحسبن الذين كفروا معجزين، كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون أهل ودنا أو لا يفوتوننا ومأواهم النار المراد بهم المقسمون عليه بالله جهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 أيمانهم، ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد المصير إليه، قال تعالى: {ولبئس المصير} أي: المرجع مصيرها، فكيف إذا كان على وجه السكنى؟ واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} الآية، فقال ابن عباس: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فنزلت. وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت فكرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فنزلت، واللام في {ليستأذنكم} للأمر، وملك اليمين يشمل العبيد والإماء. قال بعض المفسرين: هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال، فالمراد به الرجال والنساء؛ لأن التذكير يغلب على التأنيث قال الرازي: والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي؛ لأن النساء في باب العورة أشد حالاً من الرجال، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف، وقال ابن عباس: هي في الرجال والنساء أي: البالغين أو من قاربوا البلوغ يستأذنون على كل حال في الليل والنهار للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم، واختلف العلماء في هذا الأمر فقيل: للندب، وقيل: للوجوب، واستظهر {والذين} أي: وليستأذنكم الذين ظهروا على عورات النساء، ولكنهم {لم يبلغوا الحلم} وقيده بقوله تعالى: {منكم} ليخرج الكفار والأرقاء، وعبر عن البلوغ بالاحتلام؛ لأنه أقوى دلائله {ثلاث مرات} في اليوم والليلة، وقيل: ثلاث استئذانات في كل مرة، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم المرّة الأولى من الأوقات الثلاث {من قبل صلاة الفجر} ؛ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم {و} المرّة الثانية {حين تضعون ثيابكم} أي: التي للخروج بين الناس {من الظهيرة} أي: شدة الحرّ، وهو انتصاف النهار {و} المرّة الثالثة {من بعد صلاة العشاء} ؛ لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة والاتصال بثياب النوم، وخص هذه الأوقات؛ لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه؛ لأنه غير منضبط، ثم علل بقوله تعالى: {ثلاث عورات} أي: اختلالات في التستر والتحفظ {لكم} ؛ لأنها من ساعات وضع الثياب والخلوة؛ قال البيضاوي: وأصل العورة الخلل، ومنها اعورَّ المكان، ورجل أعور إذا بدا فيه خلل انتهى. وسميت هذه الأوقات عورات؛ لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فربما تبدو عورته، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي في الوصل ثلاث بالنصب بتقدير أوقات منصوباً بدل من محل ما قبله قام المضاف إليه مقامه، والباقون بالرفع على أنها خبر مبتدأ مقدر بعده مضاف، وقام المضاف إليه مقامه أي: هي أوقات، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده، ثم بين سبحانه وتعالى حكم ما عدا ذلك بقوله تعالى مستأنفاً {ليس عليكم} أي: في ترك الأمر {ولا عليهم} أي: المماليك والصبيان في ترك الاستئذان {جناح} أي: إثم وأصله الميل في الدخول عليكم في جميع الساعات {بعدهن} أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 هجموا عليكم، ثم علل الإباحة في غيرها مخرجاً لغيرهم بقوله تعالى: {طوّافون عليكم} أي: لعمل ما تحتاجون في الخدمةكما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام {بعضكم} طوّاف {على بعض} لعمل يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج. فإن قيل: بما رفع {بعضكم على بعض} ؟ أجيب: بأنه رفع بالابتداء وخبره على بعض أي: طوّاف على بعض، وحذف؛ لأنّ طوافون يدل عليه، ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمراً لتلك الدلالة {كذلك} أي: كما بين ما ذكر {يبين الله} أي: بما له من إحاطة العلم والقدرة {لكم} أيتها الأمة {الآيات} في الأحكام وغيرها بعلمه وحكمته {والله} أي: الذي له الإحاطة العامةبكل شيء {عليم} بكل شيء {حكيم} فيما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ، واختلف في ذلك فقال الزمخشري: عن ابن عباس أنه قال: آية لا ىؤمن بها أكثر الناس آية الأذن، وإني لآمر جاريتي أي: زوجتي أن تستأذن علي، وسأله عطاء: أستأذن على أختي؟ قال: نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الآية، وعنه ثلاث آيات جحدهنّ الناس؛ الإذن كله، وقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فقال الناس: أعظمكم بيتاً، وقوله: {وإذا حضر القسمة} ، وعن ابن مسعود: عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم، وعن الشعبي: ليست منسوخة، فقيل له: إن الناس لا يعملون بها، فقال: الله المستعان، وعن سعيد بن جبير: إن الناس يقولون: هي منسوخة والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها، وقال قوم: هي منسوخة.l روى البغوي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن للقوم ستر، ولا حجاب فكان الخدم والولائد يدخلون، فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور، فلعل الرواية اختلفت عن ابن عباس، ولما بيّن تعالى حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خبر أتبعه حكم البالغين من الأحرار بقوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} أي: إذا بلغ أطفالكم الأحرار بلوغ السن الذي يكون فيه إنزال المني سواء رأى منياً أم لا، واختلف في ذلك السن، فقال عامة العلماء: هو خمس عشرة سنة، أي: قمرية تحديدية لا فرق في ذلك بين الذكر وغيره، وقال أبو حنيفة: هو ثماني عشرة سنة في الغلام، وسبع عشرة سنة في الجارية، وعن علي رضي الله عنه: أنه تعتبر القامة وتقدر بخمسة أشبار، وبه أخذ الفرزدق في قوله: *ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... وسما فأدرك خمسة الأشبار واعتبر غيره الإنبات أي: للعانة، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سأل عن غلام له فقال: هل اخضر إزاره، أي: نبت شعر عانته؟ فأسند الاخضرار إلى الإزار على المجاز، ولأنه مما اشتمل عليه الإزار، ونبات العانة الخشن عندنا علامة على بلوغ ولد الكافر فقط أما إذا رأى المني في وقت إمكانه وهو استكمال تسع سنين قمرية فإنا نحكم ببلوغه سواء كان ذكراً أم أنثى مسلماً أم كافراً، وأما الخنثى فلا بدّ أن يمني من فرجيه أو يحيض بالفرج، ويمني من الذكر {فليستأذنوا} أي: على غيرهم في جميع الأوقات {كما استأذن الذين من قبلهم} أي: من الأحرار الكبار الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 جعلوا قسيماً للمماليك، فلا يدخل في ذلك الأرقاء، فلا يستدل بذلك على أن العبد البالغ يستأذن على سيدته، وقيل: المراد الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام {كذلك} أي: كما بين لكم ما ذكر {يبين الله} أي: الذي له الإحاطة والقدرة {لكم} أيتها الأمة {آياته} أي: دلالاته {والله} أي: الذي يعلم السر وأخفى {عليم} أي: بأحوال خلقه {حكيم} أي: فيما دبر لهم، قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه، فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك، وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ فقال: نعم إن لم تفعل رأيت منها ما تكره، وعن أنس قال: لما كانت صبيحة يوم احتلمت دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني قد احتلمت، فقال: «لا تدخل على النساء فما أتى علي يوم كان أشد منه» . ولما ذكر تعالى إقبال الشباب في تعيين حكم الحجاب أتبعه الحكم عند إدبار الشباب في اتقاء الظاهر من الشباب بقوله تعالى: {والقواعد من النساء} أي: اللاتي قعدن عن الولد والحيض من الكبر، فلا يلدن ولا يحضن، واحدتهن قاعد بلا هاء، وقيل: قعدن عن الأزواج وهو معنى قوله: {اللاتي لا يرجون نكاحاً} أي: لا يردن الرجال لكبرهن، قال ابن منبه: سميت المرأة قاعداً إذا كبرت؛ لأنها تكثر القعود، وقال ربيعة: هن العجز اللواتي إذا رآهن الرجل استقذرهن، فأما من كان فيها بقية من جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في هذه الآية {فليس عليهن جناح} أي: حرج في {أن يضعن ثيابهن} أي: الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار، أما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة {غير متبرجات بزينة} أي: من غير أن يردن بوضع الجلباب والرداء إظهار زينتهن، ثم إن الزينة الخفية في قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} أو غير قاصدات بالوضع التبرج، والتبرج هو أن تظهر المرأة محاسن ما ينبغي لها أن تستره، ولما ذكر الله تعالى الجائز عقبه بالمستحب بعثاً منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها بقوله تعالى: {وأن يستعففن} أي: فلا يلقين الرداء أو الجلباب {خير لهن} من الإلقاء كقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ، {وأن تصدقوا} لأنه أبعد عن التهمة {والله} أي: الذي جلت عظمته {سميع} لقولكم {عليم} بما في قلوبكم، واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} أي: في مؤاكلة غيره {ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} كذلك، فقال ابن عباس لما أنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} : تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمني والعمى والعرج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي من الطعام حقه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعلى هذا تكون على بمعنى في؛ أي: ليس في الأعمى أي: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج. وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما: كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء؛ لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وعن عكرمة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا، وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 هؤلاء يقولون: الأعمى ربما أكل أكثر، وربما سبقت يده إلى ما سبقت عين آكليه إليه، وهو لا يشعر، والأعرج ربما أخذ في مجلسه مكان اثنين فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحة تؤذي أو جرح يبض أو نحو ذلك فنزلت، وقال مجاهد: نزلت الآية ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون محل الرجل لطلب الطعام، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيت أبيه وبيت أمه، وبعض من سمى الله تعالى في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من هذا الطعام ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره فنزلت الآية. وقال سعيد بن المسيب: كان المسلمون إذا غزوا غلقوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله تعالى هذه الآية رخصة لهم، وقال الحسن: نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، وقال: تم الكلام عند قوله تعالى: {ولا على المريض حرج} ، وقوله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا في بيوتكم} كلام مستأنف منقطع عما قبله فإن قيل: أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعاماً في بيته؟ أجيب: بأن المراد من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيه بيوت الأولاد؛ لأن بيت ولده كبيته؛ قال صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك» ، وقال صلى الله عليه وسلم «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» ، وقيل لما نزل قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} () قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم {أو بيوت آبائكم} أي: وإن بعدت أنسابهم قال البقاعي: ولعله جمع لذلك فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم {أو بيوت أمهاتكم} كذلك وقدم الأب؛ لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له {أو بيوت إخوانكم} أي: من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين؛ لأنهم منكم، وهم أولياء بيوتهم {أو بيوت أخواتكم} ، فإنهن بعدهم من أولي البيت، فإن كن مزوجات فلا بد من إذن الزوج {أو بيوت أعمامكم} فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أم لأم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط، فإنه أحق بالاسم {أو بيوت عماتكم} فإنهن بعد الأعمام لضعفهن؛ ولأنهن ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج {أو بيوت أخوالكم} لأنهم شقائق أمهاتكم {أو بيوت خالاتكم} أخرهن لما ذكر في العمات {أو ما ملكتم مفاتحه} قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر، وملك المفاتح كونها في يده وحفظه، وقال الضحاك: يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم؛ لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن بقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} () ويجوز أن تكون الذي يفتح به، وقال عكرمة: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير، وقال السدي: الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه، وقيل: أو ما ملكتم مفاتحه ما خزنتموه عندكم، وقال مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم مما ادخرتم وملكتم {أو صديقكم} أي: أو بيوت أصدقائكم، والصديق هو الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 صدق في المودة ويكون واحداً وجمعاً، وكذا الخليط والقطين والعدو قال ابن عباس: نزلت في الحرث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال: تحرجت أكل طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية. يحكى عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص ولطائف الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال: هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها، فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، وعن جعفر بن محمد: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى في الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ. وعن ابن عباس: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل قالوا: {فمالنا من شافعين ولا صديق حميم} (،) ، والمعنى يجوز الأكل من بيوت من ذكر وإن لم يحضروا إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ظاهرة الحال، فإن ذلك يقوم مقام الإذن الصريح، ولذلك خصص هؤلاء فإنهم يعتادون التبسط بينهم وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه، فإن قيل: إذا كان ذلك لا بد فيه من العلم بالرضا فحينئذٍ لا فرق بينهم وبين غيرهم؟ أجيب: بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة بل ينبغي أن يشترط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا بخلاف غيرهم لا بد فيه من صريح الإذن أو قرينة قوية، هذا ما ظهر لي ولم أرَ من تعرض لذلك، وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والأكل من طعامه بغير إذنه لهذه الآية، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع؛ لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم. فإن قيل: فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟ أجيب: بأن من سرق من ماله لا يكون صديقاً له، وقيل: إن هذا كان أول الإسلام ثم نسخ فلا دليل له فيه، وقرأ بيوتكم وبيوت وبيوتاً ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بالكسر، وقرأ حمزة والكسائي أمهاتكم في الوصول بكسر الهمزة، والباقون بالضم، وكسر الميم حمزة، وفتحها الباقون، ولما ذكر تعالى معدن الأكل ذكر حاله بقوله تعالى: {ليس عليكم جناح} أي: إثم {أن تأكلوا جميعاً} أي: مجتمعن {أو أشتاتاً} أي: متفرقين، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال الأكثرون: نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة، وقال عطاء عن ابن عباس: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، فيدعوه إلى طعامه، فيقول: والله إني لأجنح أي: أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير، فنزلت هذه الآية، وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاؤوا مجتمعين أو أشتاتاً متفرقين، وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً وحده، وكذلك الزمن والمريض، فبين الله تعالى لهم أن ذلك غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 واجب، وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض. تنبيه: {جميعاً} حال من فاعل تأكلوا، وأشتاتاً عطف عليه وهو جمع شتت، وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت، روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأكل ولا نشبع، قال: «فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه» ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا جميعاً ولا تفرقوا واذكروا اسم الله فإن البركة مع الجماعة» . ولما بين تعالى مواطن الأكل وكيفيته ذكر الحال التي عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها بقوله تعالى: {فإذا دخلتم} أي: بسبب ذلك أو غيره {بيوتاً} أي: من هذه البيوت {فسلموا على أنفسكم} أي: على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة، جعل أنفس المؤمنين كالنفس الواحدة كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء، 29) وقال ابن عباس: إذا لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، حدثنا أن الملائكة ترد عليه {تحية من عند الله} أي: ثابتة بأمره مشروعة من لدنه {مباركة} أي: لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب {طيبة} أي: تطيب بها نفس المستمع، والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله، ووصفها بالبركة والطيب؛ لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله تعالى زيادة الخير وطيب الرزق، وعن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وقيل: تسع سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء تركته: لم تركته؟ وكنت واقفاً على رأسه أصب الماء على يديه، فرفع رأسه فقال: «ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها» قلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: «متى لقيت من أمتي أحداً فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصلِّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» . تنبيه: تحية منصوب على المصدر من معنى فسلموا، فهو من باب قعدت جلوساً فكأنه قال: فحيوا تحية، وقال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة، فليقل: السلام على من اتبع الهدى، وكرر قوله تعالى: {كذلك يبين الله} أي: الذي أحاط علمه بكل شيء {لكم الآيات} ثالثاً لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به، وفصل الأولين بما هو المقتضي لذلك وهذا بما هو المقصود منه، فقال تعالى: {لعلكم تعقلون} أي: عن الله أمره ونهيه وأدبه، ولما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان قال تعالى: {إنما المؤمنون} أي: الكاملون في الإيمان {الذين آمنوا بالله} أي: الملك الأعلى {ورسوله} أي: ظاهراً وباطناً {وإذا كانوا معه} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم {على أمر جامع} أي: يجمعهم من حرب حضرت أو صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة أو من الإسناد المجازي؛ لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل إليه مجازاً {لم يذهبوا} أي: يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له لعذر لهم {حتى يستأذنوه} قال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض في خطبته بالمنافقين، ويعيبهم فينظر المنافقون يميناً وشمالاً فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفاً، فنزلت هذه الآية، فكان المؤمن بعد نزولها لا يخرج لحاجةحتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المنافقون يخرجون بغير إذن، قال مجاهد: إن إذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم: كذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام، فإن حدث سبب يمنعه عن المقام كأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة أو يجنب الرجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان، ولما كان اعتبار الإذن كالمصدق لصحة كمال الإيمان، والمميز للمخلص فيه أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ بقوله تعالى: {إن الذين يستأذنونك} أي: تعظيماً لك ورعاية للأدب {أولئك} أي: العالو الرتبة {الذين يؤمنون بالله} أي: الذي له الأمر كله {ورسوله} فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك، ولما نص على الاستئذان تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك بقوله تعالى: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم} وهو ما تشتد الحاجة إليه، {فأذن لمن شئت منهم} بالانصراف أي: إن شئت فأذن، وإن شئت فلا تأذن، ففي ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل به على أن بعض الأحكام مفوّض إلى رأيه. قال الضحاك ومقاتل: المراد عمر بن الخطاب وذلك «أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له وقال: انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقون ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل» ، قال ابن عباس: «إن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال: يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك» ، ولما كان في الاستئذان ولو لعذر قصور؛ لأن فيه تقديماً لأمر الدنيا على أمر الدين أمره الله تعالى بأن يستغفر لهم بقوله تعالى: {واستغفر لهم الله} أي: الذي له الأمر كله بعد الإذن ليكون ذلك شاملاً لمن صحت دعواه وغيره، ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار وتطييباً لقلوب أهل الأوزار بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {غفور} أي: لفرطات العباد {رحيم} أي: بالتستر عليهم، ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها من شرف الرسول ما أبهر العقول صرح بتفخيم شأنه وتعظيم مقامه بقوله تعالى: {لا تجعلوا} أي: يا أيها الذين آمنوا {دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} قال سعيد بن جبير وجماعة: معناه: لا تنادوه باسمه فتقولوا: يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير، فقولوا: يا رسول الله يا نبي الله، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله، وقال المبرد والقفال: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض، فتتباطؤون عنه كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر بل يجب عليكم المبادرة لأمره، ويؤيده قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (النور، 63) ، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل، وقال ابن عباس: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، وروي عنه أيضاً: لا ترفعوا أصواتكم في دعائه، وهو المراد من قوله: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله} (الحجرات، 3) ، وقول المبرد كما قال ابن عادل: أقرب إلى نظم الآية. ولما كان بعضهم يظهر الموافقة ويبطن المخالفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 حذر من ذلك بقوله تعالى: {قد يعلم الله} أي: الذي لا تخفى عليه خافية {الذين يتسللون منكم} أي: ينسلون قليلاً قليلاً ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء، ونظير تسلل تدرج وتدخل، وقوله تعالى: {لواذاً} حال أي: ملاوذين، واللواذ والملاوذة التستر يقال: لاذ فلان بكذا إذا استتر به، وقال ابن عباس: أي: يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة لا سيما في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار، وقد للتحقيق وتسبب عن علمه تعالى قوله تعالى: {فليحذر} أي: يوقع الحذر {الذين يخالفون عن أمره} أي: يعرضون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرفون عنه بغير إذنه، وقال أبو بكر الرازي: الضمير في أمره لله؛ لأنه يليه، وقال الجلال المحلي: أي: الله ورسوله وكلٌ صحيح، فإن مخالفة أمر أحدهما مخالفة أمر الآخر {أن} أي: لئلا {تصيبهم فتنة} قال مجاهد: بلاء في الدنيا، وعن ابن عباس: فتنة قتل، وعن عطاء: زلازل وأهوال، وعن جعفر بن محمد: يسلط الله عليهم سلطاناً جائراً {أو يصيبهم عذاب أليم} أي: وجيع في الآخرة. تنبيه: الآية تدل على أن الأمر للوجوب؛ لأن تارك الأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العذاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك، ولما أقام تعالى الأدلة على أنه نور السموات والأرض وختم بالتحذير لكل مخالف أنتج ذلك أن له كل شيء فقال تعالى: {ألا إن لله ما في السموات والأرض} خلقاً وملكاً وعبيداً، فإن قيل: ما فائدة ذكر عبيداً بعد ملكاً؟ أجيب: عنه إنما ذكر لئلا يتوهم أن ما لما لا يعقل فقط، ولما كانت أحوالهم من جملة ما هو له، وإنها بخلقه قال تعالى: {قد يعلم ما أنتم} أي: أيها المكلفون {عليه} أي: من الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق، وإنما أكد علمه بقد لتأكيد الوعيد، وذلك أنَّ قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قول بعضهم: *فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود ونحوه يقول زهير: *أخي ثقة لا تهلك الخمر ... ماله ولكنه قد يهلك المال نائله والمعنى: أن جميع ما في السموات والأرض مختص به تعالى فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟ وقوله تعالى: {ويوم} أي: ويعلم يوم {يرجعون إليه} فيه التفات عن الخطاب أي: متى تكون، أو ويوم يرجع المنافقون إليه للجزاء {فينبئهم} أي: فتسبب عن ذلك أنه يخبرهم {بما عملوا} أي: من الخير والشر فيجازيهم عليه {والله} أي: الذي لا تخفى عليه خافية {بكل شيء} أي: من أعمالهم وغيرها {عليم} عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور» أخرجه أبو عبد الله في البيع في صحيحه، وأما قول البيضاوي: تبعاً للكشاف: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي» فهو حديث موضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 سورة الفرقان مكية إلا قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} إلى {رحيماً} فمدني، وآياتها سبع وسبعون آية، وثمانمائة واثنان وسبعون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفاً {بسم الله} الذي له الحجة البالغة {الرحمن} الذي عم الخلق بنعمه {الرحيم} الذي وسعت رحمته كل شيء. {تبارك} قال الزجاج: تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته، ومنه تبارك الله، وفيه معنيان: تزايد خيره وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وعن ابن عباس كأن معناه جاءنا بكل بركةوخير، وقال الضحاك: تبارك تعاظم، ولا يستعمل إلا لله تعالى ولا يتصرف فيه، ثم وصف ذاته الشريفة بما يدل على ذلك بقوله تعالى: {الذي نزل الفرقان} أي: القرآن، والفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل ولأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقاً مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال؛ ألا ترى قوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} (الإسراء، 106) {على عبده} أي: محمد صلى الله عليه وسلم وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف، وفي عود ضمير {ليكون} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يعود على الذي نزل أي: ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً. الثاني: أنه يعود على الفرقان أي: ليكون الفرقان نذيراً، وأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء، 9) ؛ قال ابن عادل: وهو بعيد؛ لأن المنذر والنذير في صفات الفاعل المخوف ووصف القرآن به مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى. الثالث: أنه يعود على عبده أي: ليكون عبده محمد صلى الله عليه وسلم {للعالمين نذيراً} أي: وبشيراً، وهذا أحسن الوجوه معنىً وصناعة لقربه مما يعود عليه والضمير يعود على أقرب مذكور، وللعالمين متعلق بنذيراً، وإنما قدّم لأجل الفواصل، ونذيراً بمعنى منذر أي: مخوف ويجوز أن يكون مصدراً بمعى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر} (القمر، 16) تنبيه: المراد بالعالمين قال البقاعي: أي: المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة اه. ولكن في إرساله للملائكة خلاف بين العلماء، فقد نقل الجلال المحلي في شرحه على «جمع الجوامع» الإجماع على أنه لم يرسل إليهم، وغيره صرح بأنه أرسل إليهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فإن قيل: قوله تعالى: تبارك يدل على كثرة الخير والبركة، فالمذكور عقبه لا بد وأن يكون مبيناً لكثرة الخير والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ أجيب: بأن الإنذار يجري مجرى تأديب الوالد كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الوالد أكثر كان رجوع الخلق إلى الله تعالى أكثر، وكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر منافع الدنيا البتة، وقوله تعالى: {الذي له ملك السموات والأرض} إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه وتعالى حال حدوثها، وأنه تعالى هو المتصرف فيها كيف يشاء، فلا إنكار أن يرسل رسولاً إلى كل من فيها. تنبيه: يجوز في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 الذي الرفع نعتاً للذي الأول أو بياناً أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوف والنصب على المدح، وما بعده يدل على أنه من تمام الصلة، فليس أجنبياً فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعاً له {ولم يتخذ ولداً} أي: هو الفرد أبداً ولا يصح أن يكون غيره تعالى معبوداً ووارثاً للملك عنه، وهذا رد على النصارى، {ولم يكن له شريك في الملك} أي: هو المنفرد بالألوهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل من سواه تعالى ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه، وفيه ردّ على الوثنية القائلين بعبادةالنجوم والأوثان، ولما نفى تعالى الشريك، فكأن قائلاً يقول: هاهنا أقوام يعترفون بنفي الشريك والشركاء والأنداد ومع ذلك يقولون: يخلق أفعال أنفسهم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {وخلق كل شيء} أي: من شأنه أن يخلق ومنه أفعال العباد، والخلق هنا بمعنى الإحداث أي: أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية {فقدره تقديراً} أي: هيأه لما يصلح له، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة، وسمي إحداث الله خلقاً؛ لأنه لا يحدث شيئاً لحكمة إلا على وجه التقدير من غير تفاوت. فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره تقديراً في إيجاده، ولم يوجده متفاوتاً، ولو حمل خلق كل شيء على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام: وقدر كل شيء فقدره، فلم يصر له كبير فائدة، وقيل: فجعل له غاية ومنتهى ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: {واتخذوا من دونه} أي: الله تعالى أي: غيره {آلهة} على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يعود على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين. ثانيها: أنه يعود على من ادعى لله شريكاً وولداً لدلالة قوله تعالى: {ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} . ثالثها: أنه يعود على المنذرين لدلالة نذيراً عليهم، ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب من يعبد غيره من وجوه منها: أنها ليست خالقة للأشياء بقوله تعالى: {لا يخلقون شيئاً} والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد، ومنها: أنها مخلوقة بقوله تعالى: {وهم يخلقون} والمخلوق محتاج والإله يجب أن يكون غنياً، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة، وغيرهم كالكواكب والأصنام التي ينحتونها ويصورونها، ومنها: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً بقوله تعالى: {ولا يملكون} أي: لا يستطيعون {لأنفسهم ضراً} أي: دفعه {ولا نفعاً} أي: جلبه ومن كان كذلك، فليس بإله، ومنها: أنها لا تقدر على موت ولا حياة ولا نشور بقوله تعالى: {ولا يملكون موتاً ولا حياة} أي: إماتة لأحد وإحياء لأحد {ولا نشوراً} أي: بعثاً للأموات، فيجب أن يكون المعبود قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين، والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية. تنبيه: احتج أهل السنة بقوله تعالى: {لايخلقون شيئاً} على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأنه تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً، ولما تكلم تعالى أولاً على التوحيد، وثانياً في الرد على عبدة غيره تكلم، ثالثاً في مسألة النبوة، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الشبهة الأولى: قوله تعالى: {وقال الذين كفروا} أي: مظهرو الوصف الذي حملهم على هذا القول، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه {إن} أي: ما {هذا} أي: القرآن {إلا إفك} أي: كذب مصروف عن وجهه {افتراه} اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم {وأعانه عليه} أي: القرآن {قوم آخرون} أي: من غير قومه، وهم اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي كانوا بمكة من أهل الكتاب فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {فقد جاؤوا} أي: قائلوا هذه المقالة {ظلماً} وهو جعل الكلام المعجز إفكاً مختلقاً متلقفاً من اليهود، وجعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب {وزوراً} أي: بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال، والباقون بالإدغام. تنبيه: جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته، وظلماً مفعول به، وقيل: إنه على إسقاط الخافض أي: جاؤوا بظلم. الشبهة الثانية: قوله تعالى: {وقالوا أساطير الأولين} أي: ما سطره الأولون من أكاذيبهم جمع أسطورة بالضم كأحدوثة، أو أسطار {اكتتبها} أي: تطلب كتابتها له من ذلك القوم وأخذها، والمعنى أن هذا القرآن ليس من الله تعالى إنما هو مما سطره الأولون الأول كأحاديث رستم واسفنديار استنسخها محمد من أهل الكتاب {فهي} أي: فتسبب عن تكلفه ذلك أنها {تملى عليه} أي: تقرأ عليه ليحفظها {بكرة} قبل أن تنتشر الناس {وأصيلا} أي: عشياً حين يأوون إلى مساكنهم، أو دائماً ليتكلف حفظها بالانتساخ؛ لأنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب، أو ليكتب وهذا كما ترى لا يقوله من له مسكة في عقل، أو مروءة كيف وهو يدعوهم إلى المعارضة ولو بسورة من مثله وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء، وهم أكثر منه مالاً وأعظم أعواناً ولا يقدرون على شيء منه، فإن قيل: كيف؟ قيل: اكتتبها فهي تملى عليه، وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتبها؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أراد اكتتابها وطلبه، فهي تملى عليه، الثاني: أنها كتبت له وهو أمي فهي تملى أي: تلقى عليه من كتاب ليحفظها؛ لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب، وقرأ {فهي} قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها، ثم أمره الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى: {قل} أي: دالاً على بطلان ما قالوه ومهدداً لهم {أنزله الذي يعلم السر} أي: الغيب {في السموات والأرض} ؛ لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار، فكيف تجعلونه أساطير الأولين مع علمكم أن ما تقولونه باطل وزور؟ وكذلك باطن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما يبهتونه، وهو يجازيكم على ما علم منكم وعلم منه. فإن قيل: كيف يطابق هذا قوله تعالى: {إنه كان} أي: أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} ؟ أجيب: بأنه لما كان ما يقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 عليه؛ لأنه لا يوصف بالرحمة والمغفرة إلا القادر على العقوبة، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم؛ لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل. الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {وقالوا ما لهذا الرسول} أي: ما لهذا الذي يزعم الرسالة، وفيه استهانة وتهكم وتصغير لشأنه، وتسميته بالرسول سخرية منه كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول، ونحوه قول فرعون: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء، 27) ، أي: إن صح أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا {يأكل الطعام} أي: كما نأكله {ويمشي} أي: ويتردد {في الأسواق} لطلب المعاش كما نمشي، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة يعنون: أنه يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والشرب والتعيش، وكذلك كانوا يقولون له: لست أنت بملك؛ لأنك تأكل الطعام، والملك لا يأكل، ولأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق، وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ومشيه في الأسواق لتواضعه، وكان ذلك صفته في التوراة، ولم يكن صخاباً في الأسواق، وليس شيء من ذلك ينافي النبوة، ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك حتى يسانده في الإنذار والتخويف، فقالوا: {لولا} أي: هلا {أنزل إليه ملك} أي: يصدقه ويشهد له {فيكون معه نذيراً} أي: داعياً، ثم نزلوا أيضاً إلى أنه لم يكن مرفوداً بملك، فليكن مرفوداً بكنز، فقالوا: {أو يلقى إليه كنز} أي: ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلاً له بستان، فقالوا: {أو تكون له جنة} أي: بستان {يأكل منها} أي: إن لم يلق إليه كنز فلا أقل أن يكون له بستان كالمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون أن نأكل نحن منها فيكون له مزية علينا بها، والباقون بالياء وقوله تعالى: {وقال الظالمون} وضع فيه الظاهر موضع المضمر إذ الأصل وقالوا تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا {إن} أي: ما {تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أي: مخدوعاً مغلوباً على عقله، وقيل: مصروفاً عن الحق، ولما أنهى تعالى ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم التفت سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له بقوله تعالى: {انظر} أي: يا أفضل الخلق {كيف ضربوا لك الأمثال} أي: بالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه وإلى ملك يقوم معه بالأمر {فضلوا} أي: بذلك عن جميع طرق الهدى {فلا يستطيعون} أي: في الحال ولا في المآل بسبب الضلال {سبيلاً} أي: سلوك سبيل من السبل الموصلة إلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة وفيافي مهلكة، ولما أثبت أنهم لا علم لهم ولا قدرة ولا يمن ولا بركة أثبت لنفسه سبحانه وتعالى ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء بقوله تعالى: {تبارك} أي: ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة لا ثبات إلا هو {الذي إن شاء} فإنه لا مكره له {جعل لك} أي: في الدنيا {خيراً من ذلك} أي: من الذي قالوه على طريق التهكم من الكنز والبستان، وقوله تعالى: {جنات} بدل من خيراً، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني، ثم وصفها بقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي: تكون أرضها عيوناً نابعة أي: في أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجة في استمرارها إلى سقي {ويجعل لك قصوراً} أيضاً وهي جمع قصر، وهو المسكن الرفيع، قال المفسرون: القصور هي البيوت المشيدة، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً، ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر، فيكون مسكناً ومنتزهاً، ويجوز أن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة، وقال مجاهد: إن شاء جعل جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية وأخره إلى الآخرة الباقية، وقد عرض عليه سبحانه وتعالى ما شاء في ذلك في الدنيا فأباه. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، أو قال: ثلاثاً أو نحو هذا فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهباً جاءني ملك فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبياً عبداً، قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً، ويقول: آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» . وعن ابن عباس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبريل عليه السلام معه، فقال جبريل عليه السلام: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك، فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله يخيرك أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطه أحداً قبلك، ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم «بل يجمعها لي في الآخرة» فنزل {تبارك الذي إن شاء} الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة برفع اللام من يجعل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مستأنف، والثاني: أنه معطوف على جواب الشرط؛ لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله: *وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم والباقون بالجزم، ويجوز في {يجعل لك} إذا أدغمت أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع، ثم أضرب سبحانه وتعالى عن كلامهم في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {بل} أي: لا يظنوا أنهم كذبوا بما جئت به؛ لأنهم لا يعتقدون فيك كذباً بل {كذبوا بالساعة} أي: القيامة، فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوي، وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً، فلا يتكلفون النظر والفكر، ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل {وأعتدنا} أي: والحال أنا اعتدنا أي: هيأنا بما لنا من العظمة {لمن كذب} من هؤلاء وغيرهم {بالساعة سعيراً} أي: ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء وأتباعهم، وعن الحسن: أن السعير اسم من أسماء جهنم. تنبيه: احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى: {أعدت للمتقين} (آل عمران، 133) وعلى أن النار وهي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية: {إذا رأتهم من مكان بعيد} وهو أقصى ما تمكن رؤيتها منه، وقال الكلبي والسدي: من مسيرة عام، وقيل: من مسيرة مائة سنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً، قالوا: وهل لها من عينين؟ قال: نعم، ألم تسمع قوله تعالى: إذا رأتهم من مكان بعيد» . وقال البيضاوي: تبعاً للزمخشري: إذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه الصلاة والسلام: لا «تراءي ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز. انتهى، وهذا تأويل للمعتزلة بناء منهم على أن الرؤية مشروطة بالحياة بخلاف الأشاعرة فإنهم يجوزون رؤيتها حقيقة كتغيظها وزفيرها في قوله تعالى: {سمعوا لها تغيظاً} أي: غلياناً كالغضبان إذ غلى صدره من الغضب {وزفيراً} أي: صوتاً شديداً إذ لا امتناع من أنها تكون رائية مغتاظة زافرة، وأشار البيضاوي إلى ذلك بعد ما ذكر بقوله: هذا. وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبينة أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر، وقال الجلال المحلي: وسماع التغيظ رؤيته وعلمه انتهى. قال عبد الله بن عمر: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه، وقيل: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً عل الكفار للانتقام منهم، فنسب إليها على حذف مضاف. {وإذا ألقوا} أي: طرحوا طرح إهانة {منها} أي: النار {مكاناً} ثم وصفه تعالى بقوله تعالى: {ضيقاً} زيادة في فظاعتها، قال ابن عباس: يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح {مقرنين} أي: مصفدين زيادة قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم من الأغلال، وقد قيل: الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله تعالى الجنة بأن عرضها السموات والأرض، وجاء في الأحاديث أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله تعالى على أهل النار أنواع الضيق والإرهاق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصاً كما مر عن ابن عباس: أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهو منقول أيضاً عن ابن عمر، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم ويقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة في أرجلهم» .Y تنبيه: {مكاناً} منصوب على الظرف، ومنها في محل نصب على الحال من مكاناً؛ لأنه في الأصل صفة له، ومقرنين حال من مفعول {ألقوا} ، وقرأ ابن كثير ضيقاً بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشددة {دعوا هنالك} أي: في ذلك المكان البغيض البعيد عن الرفق {ثبوراً} قال ابن عباس: ويلاً، وقال الضحاك: هلاكاً، فيقولون: واثبوراه هذا حينك وزمانك؛ لأنه لا منادم لهم غيره، وليس يحضر أحدً منهم سواه، قال البغوي: وفي الحديث «إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول: يا ثبوراه وهم ينادون: يا ثبورهم حتى يقفوا على النار» فيقال لهم: {لا تدعوا اليوم} أي: أيها الكفار {ثبوراً واحداً} ؛ لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب العذاب والهلاك {وادعوا ثبوراً كثيراً} أي: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة، أو ادعوا أدعية كثيرة، وقال الكلبي: نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبه، ولما وصف تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 العقاب المعدّ للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة بقوله تعالى: { {قل} أي: لهؤلاء البعداء البغضاء {أذلك} أي: المذكور من الوعيد وصفة النار {خير أم جنة الخلد} أي: الإقامة الدائمة {التي وعد المتقون} أي: وعدها الله تعالى لهم، فالراجع إلى الموصوف وهو هاء وعدها محذوف. فإن قيل: كيف يقال: العذاب خير أم جنة الخلد، وهل يجوز أن يقول القائل: السكر أحلى أم الصبر؟ أجيب: بأنه يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر، فضربه ويقول له: هذا خير أم ذلك؟ قال أبو مسلم: جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور، قال تعالى: {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً} (الإنسان، 9) فإن قيل: الجنة اسم لدار الخلد، فأي فائدة في قوله تعالى: {جنة الخلد} ؟ أجيب: بأنّ الإضافة قد تكون للبيتين، وقد تكون لبيان صفة الكمال كقوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ} (الحشر، 24) وهذا من هذا البيان أو للتمييز عن جنات الدنيا، ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله: {كانت لهم جزاء} أي: ثواباً على أعمالهم بفضل الله تعالى وكرمه {ومصيراً} أي: مرجعاً. فإن قيل: إن الجنة ستصير للمتقين جزاءً ومصيراً لكنها بعدما صارت كذلك فلم قال تعالى: {كانت} ؟ أجيب: من وجهين: الأول: أن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كالواقع، الثاني: أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم، فإن قيل: لم جمع تعالى بين الجزاء والمصير؟ أجيب: بأن ذلك كقوله تعالى: {نعم الثواب وحسنت مرتفقاً} (الكهف، 31) ، فمدح الثواب ومكانه، كما قال تعالى: {بئس الشراب وساءت مرتفقاً} (الكهف، 29) فذم العذاب ومكانه؛ لأن النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وإلا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. تنبيه: المتقي يشمل من اتقى الكفر وإن لم يتق المعاصي وإن كان غيره أكمل، ثم ذكر تعالى تنعمهم فيها بعد أن ذكر نعيمهم بقوله تعالى: {لهم فيها} أي: الجنة {ما يشاؤون} من كل ما تشتهيه أنفسهم كما قال تعالى: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} (فصلت، 31) {وفيها ما تشتهي الأنفس} (الزخرف، 71) فإن قيل: أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لابد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم فإن أعطاها لهم لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها لهم قدح ذلك في قوله تعالى: {لهم فيها ما يشاؤون} ؟ أجيب: بأن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم، وقوله تعالى: {خالدين} منصوب على الحال إما من فاعل يشاؤون، وإما من فاعل لهم لوقوعه خبراً، والعائد على ما محذوف أي: لهم فيها الذي يشاؤونه حال كونهم خالدين وقوله تعالى: {كان على ربك} أي: وعدهم ما ذكر {وعداً} يدل على أن الجنة جعلت لهم بحكم الوعد والتفضل لا بحكم الاستحقاق، وقوله تعالى: {مسؤولاً} أي: مطلوباً، اختلف في السائل، فالأكثر على أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} (آل عمران، 194) روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر؟ قال: الله تعالى أكثر» ، وروي: «أنه يدعى بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه الله تعالى بين يديه فيقول: عبدي فيقول: نعم يارب فيقول: إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني؟ أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجبت لك أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغمٍ نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك؟ فيقول: نعم يا رب فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغمٍ نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً؟ قال: نعم يارب فيقول: إني ادّخرت لك بها في الجنة كذا وكذا، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها؟ فيقول: نعم يارب فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها؟ فيقول: نعم يارب، فيقول: إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له، إما أن يكون عجل له في الدنيا وإما أن يكون ادخر له في الآخرة فيقول المؤمن في هذا المقام: يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه» ، وروي: «لا تعجلوا في الدعاء فإنه لايهلك مع الدعاء أحد» ، وروي: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» وروي: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي» ، وروي: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله ما الإستعجال قال: يقول: قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر» أي: يمل عند ذلك ويدع الدعاء، فليدع الإنسان وهو موقن بالإجابة. وقال محمد بن كعب القرظي: الطلب من الملائكة للمؤمنين سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم} وقيل: إن المكلفين سألوها بلسان الحال؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال، قال المتنبي: *في النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي كلام عندها وخطاب ولما ذكر تعالى حالهم في نفسهم أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه بقوله تعالى: {ويوم} أي: واذكر لهم يوم {نحشرهم} أي: المشركين، وقرأ ابن كثير وحفص بالياء، والباقون بالنون، واختلف في المراد بقوله تعالى: {وما يعبدون من دون الله} أي: غيره فقال الأكثرون: من الملائكة والجن والمسيح وعزير وغيرهم، وقال عكرمة والضحاك والكلبي: من الأصنام، فقيل لهم: كيف يخاطب الله تعالى الجماد بقوله تعالى: {فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} أي: أوقعتموهم في الضلال بأمركم إياهم بعبادتكم {أم هم ضلوا السبيل} أي: طريق الحق بأنفسهم، فأجابوا بوجهين: أحدهما: أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها. ثانيهما: أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكره بعضهم في تسبيح الجماد وكلام الأيدي والأرجل، ويجوز أن يكون السؤال عاماً لهم جميعاً، فإن قيل: كيف صح استعمال ما في العقلاء؟ أجيب: على الأول: بأنه أريد به الوصف كأنه قيل: ومعبوديهم ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد تعني أطويل أم قصير، فقيه أم طبيب؟، وقال تعالى: {والسماء وما بناها} (الشمس، 5) {ولا أنتم عابدون ما أعبد} (الكافرون، 30) ، وأما على القول الثاني: فواضح، وأما على القول الثالث: فغلب غير العاقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 لغلبة عباده أو تحقيراً، فإن قيل: ما فائدة هذا السؤال مع أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه؟ أجيب: بأن هذا سؤال تقريع للمشركين كما قال لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة، 116) ، وقرأ ابن عامر فنقول بالنون، والباقون بالياء، وقرأ أأنتم نافع وابن كثير بتسهيل الثانية وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية ولا ألف بينهما وبين الأولى ولورش وجه آخر وهو إبدال الثانية ألفاً، وهشام بتسهيل الثانية وتحقيقها مع الإدخال، والباقون بتحقيقهما، وقرأ هؤلاء أم هم نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة من أم ياء خالصة، والباقون بتحقيقها. {قالوا سبحانك} أي: تنزيهاً لك عما لا يليق بك، أو تعجباً مما قيل لهم؛ لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون فما أبعدهم عن الضلال الذي هو مختص بإبليس وجنوده، أو جمادات وهي لا تقدر على شيء، أو إشعاراً بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ {ما كان ينبغي} أي: يستقيم {لنا أن نتخذ} أي: نتكلف أن نأخذ باختيارنا بغير إرادة منك {من دونك} أي: غيرك {من أولياء} للعصمة أو لعدم القدرة، فكيف يستقيم لنا أن نأمر بعبادتنا؟ فإن قيل: ما فائدة أنتم وهم، وهلا قيل: أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟ أجيب: بأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده؛ لأنه لولا وجوده؛ لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه. تنبيه: من أولياء مفعول أول، ومن زائدة لتأكيد النفي، وما قبله المفعول الثاني، ولما تضمن كلامهم أنا لم نضللهم ولم نحملهم على الضلال حسن الاستدراك بقولهم: {ولكن متعتهم وآباءهم} وهو أن ذكروا سببه أي: أنعمت عليهم وعلى آبائهم من قبلهم بأنواع النعم والصحة وطول العمر في الدنيا، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم عكس القضية {حتى نسوا الذكر} أي: تركوا الإيمان بالقرآن، وقيل: تركوا ذكرك وغفلوا عنه {وكانوا} أي: في علمك بما قضيت عليهم في الأزل {قوماً بوراً} أي: هلكى، وهو مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، أو جمع بائر كعائذ وعوذ، وقوله: {فقد كذبوكم} فيه التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإلزام على حذف القول، والمعنى: فقد كذب المعبودون العابدين {بما} أي: بسبب ما {تقولون} أي: أيها العابدون من أنهم يستحقون العبادة، وأنهم يشفعون لكم وأنهم أضلوكم، ولما تسبب عن تخليهم عن عبدتهم أنه لا نفع في أيديهم ولا ضر قال تعالى: {فما يستطيعون} أي: المعبودون {صرفاً} أي: لشيء من الأشياء عن أحد من الناس لا أنتم ولا غيركم من عذاب ولا غيره بوجه حيلة ولا شفاعة ولا معاداة {ولا نصراً} أي: منعاً لكم من الله تعالى إن أراد بكم سوءاً، وهذا نحو قوله تعالى: {لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} (الإسراء، 56) ، وقرأ حفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة {ومن يظلم} أي: بالشرك {منكم} أي: أيها المكلفون {نذقه} أي بما لنا من العظمة {عذاباً كبيراً} أي: شديداً في الدنيا بالقتل أو الأسر أو ضرب الجزية، وفي الآخرة بنار جهنم، روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: {ما لهذا الرسول} إلى آخرها أنزل الله تعالى: {وما أرسلنا قبلك} أي: يا أشرف الخلق أحداً {من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 المرسلين إلا} وحالهم {أنهم ليأكلون الطعام} كما تأكل ويأكل غيرك من الآدمين {ويمشون في الأسواق} كما تفعل فهذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله وهم يعلمون ذلك بالسماع من أخبارهم، وهذا تأكيد من الله تعالى؛ لأنهم لا يكذبونه صلى الله عليه وسلم وقيل: معنى الآية وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قد قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال تعالى في موضع آخر: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} (فصلت، 43) {وجعلنا} أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة {بعضكم} أي: أيها الناس {لبعض فتنة} أى: بلية والمعنى: أنه تعالى ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم والعدواة لهم وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وجعل الغني فتنة للفقير والصحيح فتنة للمريض والشريف فتنة للوضيع، يقول الثاني من كل: مالي لا أكون كالأول؟ وقال ابن عباس: جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم فتتبعوا الهدى أم لا، وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاصي بن وائل والنضر بن الحرث، وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة ومن دونهم قد أسلموا قبلهم، فقالوا: أنسلم ونكون مثل هؤلاء؟ وقيل: جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، فتكون ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي وقوله تعالى: {أتصبرون} أي: على ما تسمعون مما ابتليتم، به استفهام بمعنى الأمر أي: اصبروا {وكان ربك} أي: المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك لا سيما بجعلك نبياً عبداً {بصيراً} أي: بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان لم يفده ذلك علماً لم يكن عنده، ولكن يعلم ذلك شهادة كما يعلم علم الغيب، ولتقوم عليهم بذلك الحجة فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، فإن صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نظر أحدكم من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم» ، وروي: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم حذر أن تزدروا نعمة الله عليكم» . الشبهة الرابعة: لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافون البعث، قال الفراء: الرجاء بمعنى الخوف لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} (نوح، 13) أي: لا تخافون لله عظمة {لولا} أي: هلا ولم لا {أنزل} أي: على أي وجه كان من أي منزل كان {علينا الملائكة} كما نزلت عليه فيما يزعم وكانوا رسلاً إلينا، أو فتخبرنا بصدقه {أو نرى ربنا} بما له علينا من الإحسان، وبما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة؛ قال الله ردّاً عليهم: {لقد استكبروا} أي: تعظموا {في} شأن {أنفسهم} أي: أظهروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال تعالى: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر، 56) {وعتوا} أي: تجاوزوا الحد في الظلم {عتواً كبيراً} أي: بالغاً أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات الظاهرة، فأعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف، وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 أن المعنى ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوهم؟ ثم بين تعالى لهم حالهم عند بعض ما طلبوا بقوله تعالى: {يوم يرون الملائكة} أي: يوم القيامة، وقال ابن عباس: عند الموت {لا بشرى} أي: من البشر أصلاً {يومئذٍ} وقوله تعالى: {للمجرمين} أي: الكافرين إما ظاهر في موضع ضمير، وإما؛ لأنه عام فقد تناولهم بعمومه بخلاف المؤمنين فلهم البشرى بالجنة. تنبيه: في نصب يوم أوجه: أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله تعالى: {لا بشرى} أي: يمنعون البشرى يوم يرون، الثاني: باذكر فيكون مفعولاً به. الثالث: بيعذبون مقدراً ولا يجوز أن يعمل فيه نفس البشرى لوجهين: أحدهما: أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله، والثاني: أنها منفية بلا، وما بعد لا لا يعمل فيما قبلها. وقوله: {ويقولون} أي: في ذلك الوقت {حجراً محجوراً} عطف على المدلول ويقول الكفرة لهم حينئذٍ: هذه الكلمة استعاذة وطلباً من الله تعالى أن يمنع لقاء الملائكة عنهم مع أنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم؛ لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو والشدة النازلة أو نحو ذلك: حجراً محجوراً يضعونها موضع الاستعاذة، فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة. قال سيبويه: يقول الرجل للرجل: تفعل كذا وكذا فيقول: حجراً، وهي من حجره إذا منعه؛ لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه عنه فلا يلحقه، وكأن المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً، وقال ابن عباس: تقول الملائكة: حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وقيل: إذا خرج الكفار من قبورهم تقول الملائكة لهم: حرام محرم عليكم أن تكون لكم البشرى، ولما كان المريد لإبطال شيء لشدة كراهته له لا يقنع في إبطاله بغيره بل يأتيه بنفسه فيبطله، عبر تعالى بقوله: {وقدمنا} أي: وعمدنا بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة في ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة {إلى ما عملوا من عمل} أي: من مكارم الأخلاق من الجود وصلة الرحم وإغاثة الملهوف ونحو ذلك {فجعلناه} لكونه لم يؤسس على الإيمان، وإنما هو للهوى والشيطان {هباءً} وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من كوّة مما يشبه الغبار {منثوراً} أي: مفرقاً أي: مثله في عدم النفع إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا، فتكون النار مستقرهم ومقيلهم، ولهذا بين حال أضدادهم وهم المؤمنون بقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ} أي: يوم إذ يرون الملائكة {خير مستقراً} من الكفار {وأحسن مقيلاً} منهم، والمستقر المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين يتجالسون ويتحادثون، والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وملامستهن كما أن المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب، روي: أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار؛ قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب في ذلك اليوم في أوله، وقال: يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس. تنبيه: في أفعل قولان: أحدهما: أنها على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 بابها من التفضيل، والمعنى: أن المؤمنين خير في الآخرة مستقراً من مستقر الكفار، وأحسن مقيلاً من مقيلهم ولو فرض أن يكون لهم ذلك أو على أنهم خير في الآخرة منهم في الدنيا. والثاني: أن يكون لمجرد الوصف من غير مفاضلة ومن ذلك المعنى قوله تعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} (يس، 55) ذكروا في تفسير الشغل افتضاض الأبكار، وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم الحور مقيلاً مع أنه لا نوم في الجنة على طريق التشبيه. ثم عطف تعالى على قوله تعالى يوم يرون قوله تعالى: {ويوم تشقق السماء} أي: كل سماء {بالغمام} أي: كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها، وهو غيم أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. تنبيه: في هذه الباء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها سببية، أي: بسبب الغمام يعني سبب طلوعه منها، ونحوه {السماء منفطر به} (المزمل، 18) كأنه الذي تتشقق به السماء، الثاني: أنها للحال أي: ملتبسة بالغمام، الثالث: أنها بمعنى عن أي: عن الغمام كقوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً} (ق، 44) والباء وعن يتعاقبان تقول: رميت عن القوس، وبالقوس، وقرأ أبو عمرو والكوفيون بتخفيف الشين، والباقون بتشديدها، ثم أشار تعالى إلى جهل من طلب نزول الملائكة دفعة واحدة بقوله تعالى: {ونزل الملائكة} أي: بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه بأمر من الأمور وغيره من الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد {تنزيلاً} أي في أيديهم صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس: تتشقق السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل سماء الدنيا وأهل الأرض جناً وإنساً، ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يدورون على السماء التي قبلها، ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش. فإن قيل: ثبت أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف تسع الأرض هؤلاء؟ أجاب بعض المفسرين: بأن الملائكة تكون في الغمام والغمام يكون مقر الملائكة، ويجوز أن الله تعالى يوسع الأرض حتى تسع الجميع، وقرأ ابن كثير بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الزاي ورفع اللام، ونصب الملائكة، والباقون بنون واحدة والزاي مشددة ونصب اللام ورفع الملائكة، ثم بين تعالى أن ذلك اليوم لا يقضي فيه غيره بقوله تعالى: {الملك يومئذٍ} أي: إذ تشقق السماء بالغمام، ثم وصف الملك بقوله تعالى: {الحق} أي: الثابت ثباتاً لا يمكن زواله، ثم أخبر عنه بقوله تعالى: {للرحمن} أي: العام الرحمة في الدارين، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل وده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة، فإن قيل: مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن، فما الفائدة في قوله تعالى: {يومئذٍ} ؟ أجيب: بأن في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام {وكان} أي: ذلك اليوم الذي تظهر فيه الملائكة الذي طلب الكفار رؤيتهم له {يوماً على الكافرين عسيراً} أي: شديد العسر والاستعار. تنبيه: هذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا جاء في الحديث «أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» وقوله تعالى: {ويوم يعض الظالم} أي: المشرك لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال، معمول لمحذوف أو معطوف على يوم تشقق، وأل في الظالم تحتمل العهد والجنس لكن قال ابن عباس: أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً ودعا إليه جهراً جيرانه وأشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه حديثه، فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاماً ودعا الناس ودعا النبي صلى الله عليه وسلم فلما قرب الطعام قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» ، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه، وكان عقبة صديقاً لأبي بن خلف، فلما أتى أبيّ بن خلف قال له: يا عقبة صبأت؟ فقال: لا والله ما صبأت، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم، والشهادة ليست في نفسي، فقال: ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلا أن تأتيه وتبصق في وجهه وتطأ قفاه وتلطم وجهه وعينه، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك عقبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فقتل عقبة يوم بدر صبراً أمر علياً رضي الله عنه فقتله، وقيل: قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصاري، وأما أبي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد طعنه في المبارزة فرجع إلى مكة ومات. قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم عاد بصاقه في وجهه فاحترق خداه، فكان أثر ذلك فيه حتى مات، وقال الشعبي: كان عقبة خليل أمية، فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً، فكفر وارتد، فأنزل الله تعالى: {ويوم يعض الظالم} أي: عقبة {على يديه} قال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق، ثم تنبت ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت، وقال المحققون: هذه اللفظة للتحسر والغم يقال: عض أنامله وعض على يديه وهو لا يشعر حال كونه مع هذا الفعل {يقول} : أي: يجدد في كل لحظة قوله: {يا ليتني اتخذت} أي: أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا {مع الرسول} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {سبيلاً} أي: طريقاً إلى الهدى، ولما تأسف على مجانبة الرسول ندم على مصادقة غيره بقوله: {يا ويلتي} أي: يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره؛ لأنه ليس يحضرني سواه {ليتني لم أتخذ فلاناً} أي: أبياً {خليلاً} أي: صديقاً أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها، فكنى عن اسمه وإن أريد به الجنس، فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم عليه لا محالة فجعله كناية عنه، وقرأ أبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، وأظهر الدال عند التاء ابن كثير وحفص، وأدغمها الباقون ثم استأنف قوله: الذي يتوقع كل سامع أن يقوله: {لقد} أي: والله لقد {أضلني عن الذكر} أي: عمى علي طريق القرآن الذي لا ذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه، والجملة في موضع العلة لما قبلها {بعد إذ جاءني} ولم يكن لي منه مانع يردني عن الإيمان به، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال، والباقون بالإدغام وقوله تعالى: {وكان الشيطان} إشارة إلى خليله سماه شيطاناً؛ لأنه أضله كما يضل الشيطان، أو إلى كل من كان سبباً للضلال من عتاة الجن والإنس {للإنسان خذولاً} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكون لا ينصره ولو أراد ما استطاع بل هو في شر من ذلك؛ لأن عليه إثمه في نفسه، ومثل إثم من أضله. تنبيه: حكم هذه الآية عام في كل خليلين ومتحابين اجتمعا على معصية الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة» وقال صلى الله عليه وسلم «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» وقال صلى الله عليه وسلم «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي» ، ولما ذكر تعالى أقوال الكفار ذكر قول رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وقال الرسول يا رب} أي: أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه، ومبالغة في التضرع {إن قومي} أي: قريشاً الذين لهم قوة ومنعة {اتخذوا هذا القرآن} أي: المقتضي للإجماع عليه والمبادرة إليه {مهجوراً} أي: متروكاً بعيداً لم يؤمنوا به ولم يقبلوه، وأعرضوا عن استماعه. تنبيه: أشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجاً كثيراً لما يرون من حسن نظمه ويذوقون من لذيذ معانيه ورائق أساليبه، ولطيف عجائبه وبديع غرائبه، وأكثر المفسرين على أن هذا القول وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو مسلم: بل المراد أنه يقوله في الآخرة كقوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} (النساء، 41) الآية، والأول أولى؛ لأن قوله تعالى: {وكذلك} أي: كما جعلنا لك عدواً من مشركي قومك {جعلنا لكل نبي} من الأنبياء قبلك رفعة لدرجاتهم {عدواً من المجرمين} أي: من المشركين تسليةً له صلى الله عليه وسلم كأنه تعالى يقول له: فاصبر كما صبروا، ولا يكون ذلك إلا إذا وقع القول منه {وكفى بربك} أي: المحسن إليك {هادياً} أي: يهدي بك من قضى بسعادته {ونصيراً} أي: ينصرك على من حكم بشقاوته. تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر؛ لأن قوله تعالى: {لكل نبي عدواً} يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى وتلك العداوة كفر، فإن قيل: قوله تعالى: {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} كقول نوح عليه السلام: {رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً} (نوح: 5، 6) فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب، فكذلك ما هنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله تعالى بالرحمة في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء، 107) أجيب: بأن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا لم يدع عليهم، بل انتظر فلما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً} كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فافترقا. الشبهة الخامسة: لمنكري النبوة ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا} أي: الذين غطوا عداوة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام الله تعالى لإعجازه لهم مفرقاً فضلاً عن كونه مجتمعاً {لولا} أي: هلا {نزل عليه القرآن} أي: أنزل كخير بمعنى أخير؛ لئلا يناقض قولهم {جملة} وأكدوا بقولهم {واحدة} أي: من أوله إلى آخره كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود لتحقق أنه من عند الله تعالى، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه الذي يرتبه قليلاً قليلاً، وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 الاعتراض في غاية السقوط؛ لأن الإعجاز لا يتخلف بنزوله جملة أو متفرقاً مع أن للتفريق فوائد منها: ما أشار إليه بقوله تعالى: {كذلك} أي: أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه {لنثبت} أي: نقوي {به فؤادك} أي: قلبك فتعيه وتحفظه؛ لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً فشيئاً وجزءاً عقب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لتعيا بحفظه والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال داود وموسى عليهم السلام وعيسى حيث كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ، فأنزله الله عليه منجماً في عشرين سنة، وقيل: في ثلاث وعشرين سنة، وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين؛ ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقاً. فإن قيل: ذا في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه، والذي تقدم هو إنزاله جملة، فكيف فسر كذلك بأنزلناه مفرقاً؟ أجيب: بأن الإشارة إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة، والدليل على فساد هذ الاعتراض أيضاً أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدوا بسورة واحدة من أقصر السور فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المجاذبة، ثم قالوا: هلا نزل جملة واحدة؟ كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته، وقوله تعالى: {ورتلناه ترتيلاً} معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك كأنه قال تعالى: كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً، ومعنى ترتيله قال ابن عباس: بيناه بياناً، والترتيل التبيين في تؤدة وتثبت، وقال السدي: فصلناه تفصيلاً، وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض، وقال الحسن: تفريقاً آية بعد آية ووقعة عقب وقعة، ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} (المزمل، 4) أي: اقرأه بترتل وتثبت. ومنه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة قراءته: لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها، وقيل: هو أن ننزله مع كونه متفرقاً على تمكث وتمهل في مدة متباعدة، وهي عشرون سنة، ولم نفرقه في مدة متقاربة، ولما كان التقدير قد بطل ما أتوا به من هذا الاعتراض عطف عليه. {ولا يأتونك} أي: يا أشرف الخلق أي: المشركون {بمثل} أي: باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء يجتهدون في تنميقه وتحسينه وتدقيقه حتى يصير عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظاً ومعنى {إلا جئناك} في جوابه {بالحق} أي: الذي لا محيد عنه، فيزهق ما أتوا به لبطلانه، فسمى ما يوردون من الشبه مثلاً، وسمى ما يدفع به الشبه حقاً {وأحسن} أي: من مثلهم {تفسيراً} أي: بياناً وتفصيلاً، ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه، فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل: معناه كذا وكذا، أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون: هلا كانت هذه صفتك وحالك؟ نحو أن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقي إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة واحدة إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته، ثم بين تعالى: حال هؤلاء المعاندين في الآخرة بقوله تعالى: {الذين} أي: هم الذين {يحشرون} أي: يجمعون قهراً ماشين مقلوبين {على وجوههم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 مسحوبين {إلى جهنم} أي: كما أنهم لم ينظروا في الدنيا بعين الإنصاف فإن الآخرة مرآة الدنيا مهما عمل هنا رآه هناك كما أن الدنيا مزرعة الآخرة مهما عمل فيها جنى ثمره هناك. روى البخاري أن رجلاً قال: «يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» ، وروى البيهقي: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على الوجوه، وصنف على الأقدام» ، ولما وصف الله تعالى المتعنتين في أمر القرآن بهذا الوصف استأنف الإخبار عنهم بقوله تعالى: {أولئك} أي: البعداء البغضاء {شر} أي: شر الخلق {مكاناً} هو جهنم {وأضل سبيلاً} أي: أخطأ طريقاً من غيرهم وهو كفرهم، ولما قال تعالى {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً من المجرمين} ، وذكر ذلك في معرض التسلية له صلى الله عليه وسلم ذكر قصص جماعة من الأنبياء، وعرفه تكذيب أممهم زيادة في تسليته، القصة الأولى: قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد آتينا} أي: بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي: التوراة {وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً} أي: معيناً، فإن قيل: كونه وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً له في النبوّة والرسالة؟ أجيب: بأنه لا منافاة بين النبوّة والرسالة والوزارة قد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء متعددون، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضاً. تنبيه: هارون بدل أو بيان أو منصوب على القطع ووزيراً مفعول ثان، وقيل: حال والمفعول الثاني معه ويدل على رسالة هارون عليه السلام قوله تعالى: {فقلنا اذهبا إلى القوم} أي: الذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط فرعون وقومه {الذين كذبوا بآياتنا} فذهبا إليهم بالرسالة فكذبوهما {فدمرناهم تدميراً} أي: أهلكناهم إهلاكاً أي: فأنت يا محمد لست أوّل من كذب من الرسل فلك أسوة بمن قبلك، فإن قيل: الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقب بعثة موسى وهارون إليهم بل بعده بمدة مديدة؟ أجيب: بأن فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بإهلاكهم لا على الوقوع أو على أنه على إرادة اختصار القصة فاقتصر على حاشيتيها أي: أولها وآخرها لأنهما المقصودان من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. تنبيه: قوله تعالى: كذبوا بآياتنا إن حملنا تكذيب الآيات على الآيات الإلهية فهو ظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوّة فاللفظ، وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل، القصة الثانية: قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وقوم} أي: ودمرنا قوم {نوح لما كذبوا الرسل} كأنهم كذبوا نوحاً ومن قبله من الرسل صريحاً أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع بالقوة، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق لا يقدر على معارضتها فالتكذيب بشيء منها تكذيب للجميع أولم يروا بعثة الرسل أصلاً كالبراهمة وهم قوم يمنعون بعثة الرسل نسبوا إلى رجل يقال له برهام قد مهد لهم ذلك وقرره في عقولهم، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر، ثم بين تعالى تدميرهم بقوله تعالى: {أغرقناهم} قال الكلبي: أمطرنا عليهم السماء أربعين يوماً، وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين، فصارت الأرض بحراً واحداً {وجعلناهم} أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 قوم نوح في ذلك {للناس آية} أي: لمن بعدهم عبرة ليعتبر كل من سلك طريقهم {وأعتدنا} أي: هيأنا في الآخرة {للظالمين} أي: للكافرين، وكان الأصل لهم ولكنه تعالى أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {عذاباً أليماً} أي: مؤلماً سوى ما يحل بهم في الدنيا. القصة الثالثة: قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وعاداً} أي: ودمرنا عاداً قوم هود بالريح. القصة الرابعة: قصة صالح عليه السلام المذكورة في قوله: {وثموداً} أي: ودمرنا ثموداً قوم صالح بالصيحة. القصة الخامسة المذكورة في قوله تعالى: {وأصحاب الرس} أي: البئر التي هي غير مطوية أي: مبنية قال ابن جرير: والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر أي: ودمرناهم بالخسف. واختلف في نبيهم، فقيل: شعيب وقيل غيره، كانوا قعوداً حولها فانهارت بهم وبمنازلهم فهلكوا جميعاً، وقال الكلبي: الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى وفلج بفتح الفاء واللام والجيم قرية عظيمة بناحية اليمن من مساكن عاد وبسكون اللام وادٍ قريب من البصرة، وقيل: الرس الأخدود، وقيل: بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار، وقيل: أصحاب حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له: تخ، قيل: هو بتاء فوقية، فخاء معجمة أو مهملة، وبياء تحتية وجيم وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. {وقروناً} أي: ودمرنا قروناً {بين ذلك} أي: الأمر العظيم المذكور وهو بين كل أمتين من هذه الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة، ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود، ثم قال الله تعالى: {كثيراً} وناهيك بما يقول فيه سبحانه وتعالى أنه كثير وأسند البغوي في تفسير أمة وسطاً في البقرة عن أبي سعيد الخدري قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال: إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل» ، ثم إنه تعالى قال تسلية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتأسية وبياناً لشريعته بالعفو عن أمته: {وكلاً} أي: من هذه الأمم {ضربنا} أي: بما لنا من العظمة {له الأمثال} حتى وضح له السبيل وقام من غير شبهة الدليل {وكلاً تبرنا تتبيراً} أي: أهلكنا إهلاكاً، وقال الأخفش: كسرنا تكسيراً، وقال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. {ولقد أتوا} أي: هؤلاء المكذبون من قومك {على القرية التي أمطرت} أي: وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ولذا قال تعالى: {مطر السوء} مصدر ساء وهي قرى قوم لوط، قال البغوي: كانت خمس قرى، فأهلك الله تعالى أربعاً منها لعملهم الفاحشة، وبختنصر واحدة منهم وهي صغر وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث فإن قيل: لم عبر تعالى بالقرية وهي قرى؟ أجيب: بأنه تعالى قال ذلك تحقيراً لشأنها في جنب قدرته تعالى وإهانة لمن يريد عذابه. ولانهماكهم على الفاحشة جميعهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 وقوله تعالى: {أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون} أي: لا يخافون {نشوراً} أي: بعثاً بعد الموت؛ لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن منهم ذلك تمكيناً لا ينفع معه الاعتبار إلا من شاء الله. {وإذا رأوك} أي: مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك ولو لم تأتهم بمعجزة فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول {إن} أي: ما {يتخذونك إلا هزواً} أي: مهزوء بك وعبر تعالى بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك يقولون: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} أي: في دعواه محتقرين له أن تأتيه الرسالة، وقولهم. {إنْ} مخففة من الثقيلة أي: إنه {كاد ليضلنا} أي: يصرفنا {عن آلهتنا} أي: عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يورد مما سبق إلى الذهن أنها حجج ومعجزات {لولا أن صبرنا} أي: بما لنا من الاجتماع والتعاضد {عليها} أي: على التمسك بعبادتها قال الله تعالى: {وسوف يعلمون} أي: في حال لا ينفعهم فيه العمل ولا العلم وإن طالت مدة الإمهال في التمكين {حين يرون العذاب} عياناً في الآخرة {من أضل سبيلاً} أي: أخطأ طريقاً أهم أم المؤمنون، ولما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على رجوعهم ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم سلاه تعالى بقوله تعالى متعجباً من حالهم: {أرأيت} أي: أخبرني {من اتخذ إلهه هواه} أي: أطاعه وبنى عليه دينه، لا سمع حجة ولا نظر دليلاً فإن قيل: لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلهاً؟ أجيب: بأنه ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية كما تقول: علمت منطلقاً زايداً لفضل عنايتك بالمنطلق، ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله تعالى تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله تعالى: {أفأنت تكون عليه وكيلاً} أي: حافظاً تحفظه من اتباع هواه لا قدرة لك على ذلك. {أم تحسب أن أكثرهم} أي: هؤلاء المدعوّين {يسمعون} أي: سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم {أو يعقلون} أي: كالبهائم ما يرون، وإن لم يكن لهم سمع حتى تطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر فإن قيل: إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث إليهم الرسول، فإن من شرط التكليف العقل؟ أجيب: بأنه ليس المراد أنهم لا يعقلون شيئاً بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم: إنما أنت أعمى وأصم فإن قيل: لم خص الأكثر بذلك دون الكل؟ أجيب: بأنه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق فكابر استكباراً وخوفاً على الرياسة. ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي استأنف ما أفهمه بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هم إلا كالأنعام} أي: في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات {بل هم أضل} أي: منها {سبيلاً} لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 ولما بين تعالى جهل المعرضين عن دلائل التوحيد وبين فساد طريقهم ذكر أنواعاً من الدلائل على وجود الصانع أولها: الاستدلال بالنظر إلى حال الظل مخاطباً رأس المخلصين الناظرين هذا النظر حثاً لأهل وده على مثل ذلك بقوله تعالى: {ألم ترَ} أي: تنظر {إلى ربك} أي: إلى صنعه وقدرته {كيف مد الظل} وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بجعله ممدوداً؛ لأنه ظل لا شمس معه، كما قال تعالى في ظل الجنة: {وظل ممدود} (الواقعة، 30) إذ لم يكن معه شمس وإن كان بينهما فرق وهو الليل لأن ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نور الشمس عما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه وضرب فسطاطه كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم وغفلة طباعهم نفوذ أسماعهم {ولو شاء لجعله} أي: الظل {ساكناً} أي: دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر غير منبسط فلم ينتفع به أحد، سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً لكنه تعالى لم يشأ بل جعله متحركاً كما يسوق الشمس له، وقال أبو عبيدة: الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال سمي فيئاً؛ لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب {ثم جعلنا الشمس عليه} أي: الظل {دليلاً} أي: أن الناس يستدلون بالشمس وأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان أو زائلاً ومتسعاً أو متقلصاً فلو لم تكن الشمس لما عرف الظل ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها. {ثم قبضناه} أي: الظل {إلينا} أي: إلى الجهة التي أردنا لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها، والقبض جمع المنبسط من الشيء ومعناه أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس، فإذا طلعت قبض الله الظل {قبضاً يسيراً} أي: على مهل، وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لم يعد ولا يحصى، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً، وقيل: المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الظلال، وقوله تعالى: يسيراً كقوله تعالى: {حشر علينا يسير} (ق، 44) فإن قيل: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ أجيب: بأن موقعها بيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت، ولما تضمنت هذه الآية الليل والنهار وهو النوع الثاني قال تعالى مصرحاً بهما: {وهو} أي: ربك المحسن إليك وحده {الذي جعل} دليلاً على الحق وإظهاراً للنعمة على الخلق {لكم الليل} أي: الذي تكامل به مد الظل {لباساً} أي: ساتراً للأشياء، شبه ظلامه باللباس في ستره {والنوم سباتاً} أي: راحة للأبدان بقطع المشاغل، وهو عبارة عن كونه موتاً أصغر طاوياً لما كان من الإحساس قاطعاً لما كان من الشعور والتقلب فيه دلائل لأهل البصائر، قال البغوي وغيره: وأصل السبت القطع، وفي جعله تعالى لذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد ولا يحصى، وكذا في قوله تعالى: {وجعل} أي: وحده {النهار نشوراً} أي: منشوراً فيه لابتغاء الرزق وغيره، وفي ذلك إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذجان للموت والنشور. يحكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 أن لقمان قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر، ثم ذكر النوع الثالث بقوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي أرسل الرياح} وقرأه ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس وقرأه الباقون بالجمع لكونها تارة صبا وتارة دبوراً وتارة شمالاً وتارة جنوباً وغير ذلك، ويسن الدعاء عند هبوب الريح ويكره سبها لخبر «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها» رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، وقوله تعالى: {نشراً} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي: ناشرات للسحاب، وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين على التخفيف، وقرأه عاصم بالباءالموحدة مضمومة وسكون الشين جمع بشور بمعنى مبشر، وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به {بين يدي رحمته} أي: قدام المطر، ولما كان الماء مسبباً عما تحمله الريح من السحاب أتبعه به بقوله تعالى: {وأنزلنا} أي: بما لنا من العظمة {من السماء} أي: من السحاب أو الجرم المعهود {ماء} ثم أبدل منه بياناً للنعمة به، فقال تعالى: {طهوراً} أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره كما قال تعالى في آية أخرى: {ليطهركم به} ، فهو اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به، وكالسحور اسم لما يتسحر به والفطور اسم لما يفطر به. قال صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أراد به المطهر فالماء المطهر؛ لأنه يطهر الإنسان من الحدث والخبث. وذهب بعض الأئمة إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوّز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل، وردّ بأنه لو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها، وذهب بعض منهم إلى أن الطهور ما يتكرر به التطهير، كالصبور اسم لمن يتكرر منه الصبر، والشكور اسم لمن يتكرر منه الشكر، حتى جوّز الوضوء بالماء الذي يتوضأ به مرة بعد مرة وردَّ بأن فعولاً يأتي اسماً للآلة كسحور لما يتسحر به كما مر فيجوز أن يكون طهور كذلك، ولو سلم اقتضاؤه التكرر فالمراد جمعاً بين الأدلة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا الماء في أسفارهم القليلة الماء، بل عدلوا عنه إلى التيمم ثبوت ذلك لجنس الماء أو في المحل الذي كان يمر عليه فإنه يطهر كل جزء منه. {لنحيي به} أي: بالماء {بلدة ميتاً} أي: بالنبات وذكر ميتاً باعتبار المكان {ونسقيه} أي: بالماء وهو من أسقاه مزيد سقاه وهما لغتان قال ابن القطاع: سقيتك شراباً وأسقيتك، والله تعالى أسقى عباده وأرضه {مما خلقنا أنعاماً} أي: إبلاً وبقراً وغنماً {وأناسي كثيراً} جمع إنسان وأصله أناسين فأبدلت النون ياء وأدغمت فيها الياء أو جمع أنسي وقدم تعالى النبات؛ لأن به حياة الأنعام، والأنعام على الإنسان؛ لأن بها كمال حياته فإن قيل: لما خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان؟ أجيب: بأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ولأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قيل: لما نكر الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة؟ أجيب: بأن جل الناس منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء فبهم غنية عن سقي السماء وأعقابهم، وهم كثير منهم لا يعيشون إلا بما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله تعالى: {لنحيي به بلدة ميتاً} (الفرقان، 49) يريد به بعض بلاد هؤلاء المتبعدين عن مظان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 الماء، واختلف في عود الهاء في قوله تعالى: {ولقد صرفناه بينهم} على ثلاثة أوجه: أولها: قال الجمهور: إنها ترجع إلى المطر أي: صرفنا نزول الماء من وابل وطل وغير ذلك مرة ببلد ومرة ببلدة أخرى، قال ابن عباس: ما عام بأمطر من عام آخر، ولكن الله تعالى يصرفه في الأرض، وقرأ هذه الآية وهذا كما روي مرفوعاً «ما من ساعة من ليل أو نهار إلا والسماء تمطر فيها فيصرفه الله تعالى حيث يشاء» ، وروي عن ابن مسعود يرفعه قال: «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» ، وروي أن الملائكة يعرفون عدد المطر مقداره في كل عام لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد، ثانيها: قال أبو مسلم: الضمير راجع إلى المطر والسحاب والظلال، وسائر ما ذكره الله من الأدلة، ثالثها: صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر {ليذكروا} أي: ليتفكروا ويعملوا كمال القدرة وحق النعمة، ويقوموا بشكره. تنبيه: أصل يذكروا يتذكروا أدغمت التاء في الذال وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال ورفع الكاف مخففة، والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين {فأبى} أي: لم يرد {أكثر الناس} أي: بعبادتهم {إلا كفوراً} أي: جحوداً للنعمة وقلة الاكتراث بها وكفرانهم هو أنهم إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وهو بفتح النون وهمزة آخره وقت النجم الفلاني على عادة العرب في إضافة المطر إلى الأنواء فيكره أن يقول ذلك لإيهامه أن النوء فاعل المطر حقيقة، فإن اعتقد أنه الفاعل له حقيقة كفر، روى زيد بن خالد الجهني قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي من هو مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي وكافر بالكواكب» ، وأفاد تعليق الحكم بالباء أنه لو قال: مطرنا في نوء كذا لم يكره، ونقل الشافعي عن بعض الصحابة أنه كان يقول عند المطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يقرأ: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} (فاطر، 2) {ولو شئنا لبعثنا} أي: بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة {في كل قرية نذيراً} أي: رسولاً ينذرهم من البشر أو الملائكة أو غيرهم كما قسمنا المطر عليها وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل. {فلا تطع الكافرين} فيما قصدوا من التنفير عن الدعاء بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة أو من القلق من صادع الإنذار ويخيلون لك أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك وقابل ذلك بالتشدد والتصبر {وجاهدهم} أي: بالدعاء {به} أي: القرآن الذي تقدم التحدث عنه في قوله تعالى: ولقد صرفناه، أو بترك طاعتهم المدلول عليه بقوله تعالى: فلا تطع أو بالسيف والأقرب الأول؛ لأن السورة مكية، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان {جهاداً كبيراً} أي: جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة؛ لأن في ذلك إقبال كثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 من الناس إليك واجتماعهم عليك، فيقوى أمرك ويعظم خطبك وتضعف شوكتهم وتنكسر سورتهم، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، ثم ذكر النوع الرابع بقوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين} أي: الماءين الواسعين الكبيرين بأن خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته تعالى يفصل بينهما ويمنعهما التمازج {هذا عذب} أي: حلو سائغ {فرات} أي: شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض، وما كان في بطنها {وهذا ملح} أي: شديد الملوحة {أجاج} أي: مر محرق بملوحته ومرارته لا يصلح لسقي ولا شرب. تنبيه: أشار تعالى بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الوصفين مع شدة المقاربة لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب جداً منه خرج الماء عذباً {وجعل} أي: الله تعالى {بينهما برزخاً} أي: حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما، ثم إنه تعالى أتم تقرير النعمة في منعهما من الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ بقوله تعالى: {وحجراً محجوراً} فكأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له ذلك كما قال تعالى: {لا يبغيان} (الرحمن، 20) أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالملوحة أو العذوبة، فانتقاء البغي كالتعوذ ههنا، ثم جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهو من أحسن الإستعارات وأشهدها على البلاغة فإن قيل: لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ أجيب: بأن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون ومن البحر الأجاج البحار الكبار. ثم ذكر النوع الخامس بقوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي خلق من الماء} أي: المني من الرجل والمرأة {بشراً} أي: إنساناً {فجعله} أي: بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار التربية {نسباً} أي: ذكراً ينسب إليه {وصهراً} أي: أنثى يصاهر بها فيقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين عذباً وملحاً ونحو هذا قوله تعالى: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} (القيامة، 39) ، وقيل: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، فالنسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها، قال البغوي: وقيل وهو الصحيح: النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح، وقد ذكر الله تعالى أنه حرم للنسب سبعاً في قوله تعالى في النساء: {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء، 23) {وكان ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك {قديراً} حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفة وطبائع متباعدة، وجعله قسمين ذكراً وأنثى، وربما يخلق من نطفة واحدة نوعين ذكراً وأنثى فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق سهل الأخلاق، ويخذل من يشاء فيجعله مر الأخلاق كثير الشقاق غريقاً في النفاق، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم، فقال تعالى: {ويعبدون} أي: هؤلاء الكفرة {من دون الله} أي: مما يعلمون أنه في الرتبة دون الله المستجمع لصفات الكمال والعظمة بحيث أنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده {ما لا ينفعهم} بوجه من الوجوه إن عبدوه في إزالة كربة {ولا يضرهم} في أزلة نعمة من نعم الله تعالى عليهم إن تركوه {وكان الكافر} أي: مع علمه بضعفه وعجزه {على ربه} أي: المحسن إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 لا غيره {ظهيراً} أي: معيناً للشيطان من الإنس والجن على أولياء الله تعالى، روي أنها نزلت في أبي جهل ويجوز أن يراد بالظهير الجماعة كقوله تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم، 4) ، كما جاء الصديق والخليط وعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس، فإن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله قال تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي} (الأعراف، 202) وهذا أولى لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، ولأنه أوفق لظاهر قوله تعالى: {ويعبدون من دون الله} ، وقيل: معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هيناً مهيناً من قولهم ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه وهو نحو قوله تعالى: {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم} (آل عمران، 77) ، ولما كان التقدير تسلية له صلى الله عليه وسلم فالزم ما نأمرك به ولا يزد همك بردهم عما هم فيه، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً عطف عليه قوله تعالى: {وما أرسلناك} يا أشرف الخلق بما لنا من العظمة {إلا مبشراً} بالثواب على الإيمان والطاعة {ونذيراً} أي: مخوفاً بالعقاب على الكفر والمعصية، ثم كأنه قيل: فماذا أقول لهم إذا طعنوا في الرسالة؟ فقال تعالى: {قل} أي: لهم يا أكرم الخلق حقيقة وأعدلهم طريقة محتجاً عليهم بإزالة ما يكون موضعاً للتهمة {ما أسألكم عليه} أي: على تبليغ ما أرسلت به {من أجر} فتتهموني أني أدعوكم لأجله إذ لا غرض لي إلا نفعكم، ثم أكد هذا المعنى بقوله تعالى مستثنياً؛ لأن الاستثناء معيار العموم {إلا من} أي: إلا أجر من {شاء أن يتخذ} أي: يكلف نفسه ويخالف هواه، ويجعل له {إلى ربه سبيلاً} فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره لا نفع لي من جهتكم إلا هذا فإن سميتم هذا أجراً فهو مطلوبي، ولا مرية في أنه لاينقص أحداً شيئاً من دنياه فأفاد فائدتين؛ الأولى: أنه لا طمع له أصلاً في شيء ينقصهم، والثانية: إظهار الشفقة البالغة حيث لم يقصد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثواباً لنفسه، وقيل: الاستثناء منقطع أي: لكن من يشاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً فليفعل، وجرى على هذا الجلال المحلي، وقال ابن عادل: في الأول نظر؛ لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير؟ انتهى. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر وسهّل ورش وقنبل الثانية، ولهما أيضاً إبدالها ألفاً والباقون بتحقيق الهمزتين، ولما بين تعالى أن الكفار يتظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجراً أمره أن يتوكل عليه في دفع جميع المضار، وجلب جميع المنافع بقوله تعالى: {وتوكل} أي: أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله، ولا سيما في مواجهتهم بالإنذار، وفي ردهم من عنادهم {على الحي الذي لا يموت} فلا ضياع لمن توكل عليه، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون، فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم، وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق {وسبح} متلبساً {بحمده} أي: نزهه عن كل نقص مثبتاً له كل كمال، وقيل: صلِّ له شكراً على نعمه، وقيل: قل سبحان الله والحمد لله وحده وعلى هذا اقتصر الجلال المحلى {وكفى به بذنوب عباده} أي: ما ظهر منها وما بطن وكل ما سواه عبد {خبيراً} أي: عالماً مطلقاً فلا يخفى عليه خافية شيء منها، وإن دق فلا عليك إن آمنوا أو كفروا، وهذه الكلمة يراد بها المبالغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 يقال: كفى بالعلم كمالاً وكفى بالأدب مالاً وهو معنى حسبك أي: لا تحتاج معه إلى غيره، لأنه تعالى خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم، وهذا وعيد شديد، ولما أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه وصف تعالى نفسه بأمور منها أنه حي لا يموت، ومنها أنه عالم بجميع المعلومات، ومنها أنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله تعالى: {الذي خلق السموات والأرض} على عظمهما {وما بينهما} من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها ألا يعلم من خلق وقوله تعالى: {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا تعجيب للغبي الجاهل وتدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله تعالى في دعوتهم، فإن قيل: الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات، فقبل السموات لا أيام فكيف قال تعالى: في ستة أيام؟ أجيب: بأنه تعالى خلقها في مدة مقدارها هذه الأيام، فإن قيل: يلزم على هذا قدم الزمان وهو ممنوع؟ أجيب: بأن الله تعالى خلق هذه المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام فلا يلزم من ذلك قدم الزمان، وقيل: في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة وهو بعيد؛ لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول. فإن قيل: لما قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟ أجيب: بأنه يجب على المكلف أن يقطع الطمع عن مثل هذا فإنه بحر لا ساحل له من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر، وحملة العرش بثمانية والشهور بإثني عشر والسموات بالسبع وعدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات والحدود والكفارات، فالإقرار بأن كل ما قاله الله حق هو الدين والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء، وقد نص الله تعالى على ذلك في قوله عز وجل: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} ثم قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} (المدثر، 31) وهذا جواب أيضاً عن أنه لم لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك، وعن سعيد ابن جبير: إنما خلقها في ستة أيام وهو قادر أن يخلقها في لحظة واحدة، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت، وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين، وعن مجاهد أول الأيام يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، ولما كان تدبير هذا الملك أمراً باهراً أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} أي: شرع في التدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده، ولا يجوز أن يفسر بالاستقرار، لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب وكل ذلك على الله محال، فإن قيل: يلزم من ذلك أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات، وقال الله تعالى: {وكان عرشه على الماء} (هود، 7) أجيب: بأن كلمة ثم ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات وهو في اللغة سرير الملك وفي رفع قوله تعالى {الرحمن} أوجه؛ أحدها: أنه خبر الذي خلق أو خبر مبتدأ مضمر أي: هو الرحمن ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش، ثم يبتدىء الرحمن أي: هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، أو يكون بدلاً من الضمير في استوى، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي. واختلف في معنى الفاء في قوله تعالى: {فاسأل به} على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 قولين؛ أحدهما: أنها على بابها وهي متعلقة بالسؤال، والمراد بقوله: {خبيراً} أي: عالماً يخبرك بحقيقته هو الله تعالى، ويكون من التجريد كقوله: رأيت به أسداً والمعنى: فاسأل الله الخبير بالأشياء قال الزمخشري: أو فاسأل بسؤاله خبيراً كقولك: رأيت به أسداً أي: برؤيته انتهى. فقال الكلبي: فقوله به يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله تعالى، لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والثاني: أن تكون الباء بمعنى عن إما مطلقاً وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية، وكقول علقمة بن عبيدة: *فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب والضمير في به لله وخبيراً من صفات الملك وهو جبريل عليه السلام، فعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم، وقال ابن جرير: الباء في به صلة والمعنى: فاسأله خبيراً، وخبيراً نصب على الحال وقيل: به يجري مجرى القسم كقوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به} ، وقيل: فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى تعرف من ينكره ومن ثم كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، وكان يقال له: رحمن اليمامة، وقيل: فاسأل بسبب سؤالك إياه خبيراً عن هذه الأمور وكل أمر تريده فيخبرك بحقيقة أمره ابتداءً وحالاً ومآلاً، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إلا وهو عالم بهم فسيعلي كعبك عليهم ويحسن لك العاقبة، وقرأ ابن كثير والكسائي بالنقل، وكذا يقرأ حمزة في الوقف، والباقون بسكون السين وفتح الهمزة، ولما ذكر تعالى إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم بقوله: {وإذا قيل لهم} : أي: من أي قائل قال لهؤلاء الذين يتقلبون في نعمه: {اسجدوا} أي: اخضعوا بالصلاة وغيرها {للرحمن} أي: الذي لا نعمة لكم إلا منه {قالوا وما الرحمن} متجاهلين في معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن عربي: إنما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم بالصفة دون الموصوف، ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه بقولهم: {أنسجد لما تأمرنا} فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره، والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل {وزادهم} أي: هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعمة وطمعاً في الزيادة {نفوراً} أي: عن الإيمان والسجود. تنبيه: هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة يسن للقارئ والمستمع والسامع أن يسجد عند قراءتها أو سماعها، وقرأ وإذا قيل لهم هشام والكسائي بالإشمام وضم القاف مع سكون الياء والباقون بكسر القاف، وقرأ لما يأمرنا حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالتاء الفوقية، وأبدل ورش والسوسي الهمزة وقفاً ووصلاً وحمزة وقفاً لا وصلاً، ولما حكى تعالى عن الكفار مزيد النفرة عن السجود وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن قال عز من قائل: {تبارك} أي: ثبت ثباتاً لا نظير له {الذي جعل في السماء} التي تقدم أنه اخترعها، واختلف في معنى قوله: {بروجاً} فقال الزجاج ومجاهد وقتادة: هي النجوم الكبار سميت بروجاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 لظهورها، وقال عطية العوفي: هي القصور فيها الحرس كما قال تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء، 78) وقال عطاء عن ابن عباس: هي الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة وهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربعة فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. {وجعل فيها} أي: السماء وقيل: البروج {سراجاً} أي: شمساً وقرأ حمزة والكسائي بضم السين والراء على الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك من حيث أنه أعظم من ألوف من السرج فهو قائم مقام الوصف كما في الذي بعده كما سيأتي وقيل: المراد بالجمع الشمس والكواكب الكبار، والباقون بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على التوحيد {وقمراً منيراً} أي: مضيئاً بالليل، ولما ذكر تعالى هاتين الآيتين ذكر ماهما آيتاه بقوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل} أي: الذي آيته القمر {والنهار} أي: الذي آيته الشمس {خلفة} أي: ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك بضد ما له من الأوصاف، وقال ابن عباس والحسن: يعني خلفاً وعوضاً يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاة الليلة قال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة {لمن أراد أن يذكر} أي: يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أنه لا بد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد، وقرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف مخففة من ذكر بمعنى تذكر والباقون بفتح الكاف والذال مشددتين. {أو أراد شكوراً} أي: شكر نعمة ربه عليه من الإتيان بكل منهما بعد الآخر لاجتناء ثمراته ولو جعل أحدهما دائماً لفاتت مصالح الآخر ولحصلت السآمة والملل منه والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العلي الكبير، وعن الحسن من فاته عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب، ومن فاته بالليل كان له في النهار مستعتب، ولما ذكر الله تعالى عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزباً ولم يضفهم إلى اسم من أسمائه إيذاناً بإهانتهم لهوانهم عنده أشار إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه قوله تعالى: {وعباد الرحمن} فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان الخلق كلهم عباده وأضافهم إلى وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم، ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بصفات كثيرة؛ الصفة الأولى: قوله تعالى: {الذين يمشون} وقال تعالى: {على الأرض} تذكيراً بما يصيرون إليه وحثاً على السعي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 معالي الأخلاق {هوناً} أي: هينين أو مشياً هيناً مصدر وصف به مبالغة والهون الرفق واللين، ومنه الحديث: «أحبب حبيبك هوناً ما» ، وقوله: المؤمنون هينون، والمثل: إذا عز أخوك فهن، والمعنى إذا عاسر فياسر، والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار لا يضربون لوقارهم بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق لقوله تعالى: {ويمشون في الأسواق} (الفرقان، 30) تنبيه: عباد مرفوع بالإبتداء وفي خبره وجهان؛ أحدها: الجملة الأخيرة في آخر السورة أولئك يجزون وبه بدأ الزمخشري والذين يمشون وما بعده صفات للمبتدأ، والثاني: أن الخبر الذين يمشون. الصفة الثانية {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي: بما يكرهون {قالوا سلاماً} أي: تسلماً منكم لا نجاهلكم ومتاركة لا خير بيننا ولا شر أي: فنسلم منكم تسلماً فأقيم السلام مقام التسلم وقيل: قالوا: سداداً من القول أي: يسلمون فيه من الإثم والإيذاء وليس المراد التحية؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا بالسلام على المشركين، وعن أبي العالية: نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ادعاء النسخ بآية القتال ولا غيرها؛ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة أسلم للعرض والورع، وأطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر خصال الجاهل وهو الذي يخالف العلم والحكمة الجهل وهو السفه وقلة الأدب من قوله: *ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه وهي الصفة الثالثة بقوله تعالى: {والذين يبيتون} من البيتوتة قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل: بات وإن لم ينم كما يقال: بات فلان قلقاً والمعنى يبيتون {لربهم} أي: المحسن إليهم {سجداً} على وجوههم في الصلاة وقدّمه لأنه أنهى الخضوع، وأخر عنه قوله تعالى: {وقياماً} أي: على أقدامهم وإن كان تطويل القيام أفضل للروي، وتخصيص البيتوتة؛ لأن العبادة في الليل أشق وأبعد من الرياء، قال الزمخشري: والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره، وقيل: من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً، وقال ابن عباس: من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل: هما لركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى عشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة كان كقيام ليلة» ، ولما ذكر تعالى تهذيبهم للخلق والخالق وصفهم الله تعالى أنهم مع ذلك خائفون وجلون وهي الصفة الرابعة بقوله تعالى: {والذين يقولون ربنا} أي: المحسن إلينا {اصرف عنا عذاب جهنم} قال ابن عباس: يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول، ثم علل سؤالهم بقوله تعالى: {إن عذابها كان} أي: كوناً جبلت عليه {غراماً} أي: هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً لا ينفك عنه كما قال: *إن يعاقب يكن غراماً وإن يع ... ط جزيلاً فإنه لا يبالي ومنه الغريم لملازمته وإلحاحه فهم يبتهلون إلى الله تعالى في صرف العذاب عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم، ولما ثبت لهم هذا الوصف أنتج قوله تعالى. {إنها ساءت} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 أي: تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء وهي في معنى بئست في جميع المذام {مستقراً} أي: موضع استقرار {ومقاماً} أي: موضع إقامة. تنبيه: ساءت في حكم بئست كما مر ففيها ضمير مبهم يفسره مستقراً، والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً لها، ويجوز أن تكون ساءت بمعنى أحزنت ففيها ضمير اسم إن ومستقراً حال أو تمييز والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين أو مترادفين وأن يكونا من كلام الله تعالى وحكاية لقولهم، ولما ذكر تعالى أفعالهم وأقوالهم أتبع ذلك بذكر إنفاقهم وهو الصفة الخامسة بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا} أي: للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب أو مباح {لم يسرفوا} أي: لم يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير فيضيعوا الأموال في غير حقها {ولم يقتروا} أي: لم يضيقوا فيضيعوا الحقوق {وكان} أي: إنفاقهم بين ذلك أي: الإسراف والإقتار {قواماً} أي: وسطاً. تنبيه: اسم كان ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله تعالى: أنفقوا وخبرها قواماً، وبين ذلك معمول له، وقيل: غير ذلك وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً؛ أحدها: قال الرازي وهو الأقوى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقتير، وبمثله أمر صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء، 29) إذ يقال: ما عال من اقتصد، وسأل رجل بعض العلماء ما البناء الذي لا سرف فيه قال: ما سترك من الشمس وأكنك من المطر، قال: فما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد الجوعة، قال: فما اللباس الذي لا سرف فيه؟ قال: ما ستر عورتك وأدفأك من البرد، ثانيها: وهو قول ابن عباس: الإسراف النفقة في معصية الله تعالى، والإقتار منع حق الله تعالى، وقال مجاهد: لو أنفق أحد مثل جبل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً، ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً، وقال الحسن: لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وأنشدوا: *ذهاب المال في حمد وخير ... ذهاب لا يقال له ذهاب وسمع رجل رجلاً يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير، وعن عمر بن عبد العزيز أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوجه ابنته وأحسن إليه فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت وجاء بكلام كثير حسن فقال ابن لعبد الملك إنما هو كلام أعده لهذا المقام، فسكت عبد الملك، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر فسأله عن نفقته وأحواله، فقال: النفقة بين الشيئين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بني هذا أيضاً مما أعده، وثالثها السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال؛ لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، فكانت الصحابة لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويقيهم من الحر والبرد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر يقتروا بضم التحتية وكسر الفوقية من أقتر، وابن كثير وأبو عمر بفتح التحتية وكسر الفوقية والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية، ولما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 ذكر تعالى ما تحلوا به من أصول الطاعات أتبعه بذكر ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر وهو الصفة السادسة بقوله تعالى: {والذين لا يدعون} أي: رحمة لأنفسهم واستعمالاً للعدل {مع الله} أي: الذي اختص بصفات الكمال {إلهاً آخر} أي: دعاءً جلياً بالعبادة ولا خفياً بالرياء، ولما نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها أتبعه نفي قتل غيرهم بقوله سبحانه: {ولا يقتلون النفس} رحمة للخلق وطاعة للخالق ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له بين المراد بقوله تعالى: {التي حرم الله} أي: منع من قتلها {إلا بالحق} أي: بأن تعمل بما يبيح قتلها، ولما ذكر القتل الجلي أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد بقوله تعالى: {ولا يزنون} أي: رحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم مع رحمته لنفسه على أن الزنا أيضاً جار إلى القتل والفتن وفيه التسبب إلى إيجاد نفس بالباطل كما أن القتل سبب إلى إعدامها بذلك، وقد روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم وفي رواية أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله نداً وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك، {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الآية. وقد استشكل تصديق هذه الآية للخبر من حيث أن الذي فيه قتل خاص وزنا خاص، والتقييد بكونه أكبر والذي فيها مطلق القتل والزنا من غير تعرض لعظم؟ وأجيب: بدفع الإشكال بأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه؛ الأول: الاعتراض من بين المبتدأ الذي هو وعباد الرحمن وما عطف عليه والخبر الذي هو أولئك يجزون الغرفة على إحدى الروايتين بذكر هذه الثلاثة خاصة وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام، الثاني: الإشارة بأداة البعد في قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك} أي: هذا الفعل العظيم القبيح مع قرب المذكورات فدل على أن البعد من رتبتها فهو إشارة إلى جميع ما تقدم؛ لأنه بمعنى ما ذكر، فلذلك وحده وأدغم لام يفعل في الذال أبو الحارث والباقون بالإظهار، الثالث: التعبير باللقي مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله: {يلق أثاماً} دون يأثم ويلق إثماً أي: جزاء إثمه، الرابع: التقييد بالمضاعفة في قوله تعالى مستأنفاً: {يضاعف} بأسهل أمر {له العذاب} جزاء ما أتبع نفسه هواها، الخامس: التهويل بقوله تعالى: {يوم القيامة} الذي هو أهول من غيره بما لا يقاس، السادس: الإخبار بالخلود الذي أقل درجاته أن يكون مكثاً طويلاً بقوله تعالى: {ويخلد فيه} وقرأ يضاعف ويخلد ابن عامر وشعبة برفع الفاء والدال، والباقون بجزمهما وأسقط الألف من يضاعف مع تشديد العين ابن كثير وابن عامر فالجزم على أنهما بدلان من يلق بدل اشتمال، والرفع على الاستئناف، السابع: التصريح بقوله تعالى: {مهاناً} فلما أعظم الأمر من هذه الأوجه علم أن كلاً من هذه الذنوب كبير، وإذا كان الأعم كبيراً كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم؛ لأنه زاد عليه بما صار به خاصاً فثبت بهذا أنها كبائر وإن قتل الولد والزنا بحليلة الجار أكبر ما ذكر فوجد تصديق الآية للخبر. وقرأ حفص مع ابن كثير بصلة الهاء بالياء من فيه قبل مهاناً، فإن قيل: ذكر أن من صفات عباد الرحمن صفات حسنة فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 والزنا فلو كان الترتيب بالعكس كان أولى؟ أجيب: بأن الموصوف بتلك الصفات السابقة قد يكون متمسكاً بالشرك تديناً وبقتل الموؤدة تديناً وبالزنا تديناً فبين تعالى أن المراد لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يجتنب تلك الكبائر، وأجاب الحسن بأن المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال تعالى: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، وأنتم تدعون ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموؤدة ولا يزنون وأنتم تزنون، ولما أتم تعالى: تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه ترغيب الأبرار إلى العزيز الغفار بقوله تعالى: {إلا من تاب} أي: رجع عن كل شيء كان فيه من هذه النقائص {وآمن} أي: أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدونه وهو الإيمان وأكد رجوعه بقوله تعالى: {وعمل عملاً صالحاً} أي: مؤسساً على أساس الإيمان، فإن قيل: العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح يستغني عنه؟ أجيب: بأنهما أفردا بالذكر لعلو شأنهما. تنبيه: اختلف في هذا الاستثناء على وجهين؛ أحدهما: أنه استثناء متصل وهو ما دل عليه كلام الجمهور لأنه من الجنس، والثاني: أنه منقطع ورجحه أبو حيان معللاً بأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف بخلافه في المنقطع، فإن التقدير لكن من تاب إلى آخره، فلا يلقى عذاباً البتة، ووجه كلام الجمهور بأن ما ذكر ليس بلازم إذ المقصود الإخبار بأن من فعل كذا فإنه يحل به ما ذكر إلا أن يتوب وأما إصابة أصل العذاب وعدمه فلا تعرض في الآية له، ثم زاد تعالى في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطاً للجزاء بالشرط دليلاً على أنه سببه، فقال تعالى: {فأولئك} أي: العالو المنزلة {يبدل الله} أي: الذي له العظمة والكبرياء {سيئاتهم حسنات} قال ابن عباس ومجاهد: هذا التبديل في الدنيا فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا إحصاناً وعفة، فكأنه تعالى يبشرهم بتوفيقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب. وقال الزجاج: إن السيئة بعينها لا تصير حسنة فالتأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب مع التوبة حسنة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات، وقال سعيد بن المسيب ومكحول: إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية وهذا هو ظاهر الآية ويدل له ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال له اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فيعر ض عليه صغارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم فلا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا، قال أبو هريرة: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» {وكان الله} أي: الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق أزلاً وأبداً {غفوراً} أي: ستور الذنوب كل من تاب بهذا الشرط {رحيماً} به بأن يعامله بالإكرام كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة. روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ولما نزل صدرها قال أهل مكة: قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله إلا من تاب إلى رحيماً. روى البخاري في التفسير أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية ونزل {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر، 53) : {ومن تاب} أي: عن ذنوبه غير ما ذكر {وعمل} تصديقاً لادعائه التوبة {صالحاً} ولو كان كل من نيته وعمله ضعيفاً ورغب سبحانه في ذلك بقوله تعالى معلماً أنه يصل إلى الله {فإنه يتوب} أي: يرجع واصلاً {إلى الله} أي: الذي له صفات الكمال فهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات {متاباً} أي: رجوعاً مرضياً عند الله بأن يرغبه الله تعالى في الأعمال الصالحة فلا يزال كل يوم في زيادة بنيته وعمله فيخف عليه ما كان ثقيلاً ويتيسر عليه ما كان عسيراً، ويسهل عليه ما كان صعباً كما مرّ في أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ولا يزال كذلك حتى يحبه فيكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها بأن يوفقه للخير فلا يسمع إلا ما يرضيه وهكذا، ولما وصف سبحانه وتعالى عباده بأنهم تحلوا بأصول الفضائل وتخلوا عن أمهات الرذائل ورغب في التوبة؛ لأن الإنسان لعجزه لا ينفك عن النقص مدحهم بصفة أخرى وهي الصفة المذكورة في قوله تعالى: {والذين لا يشهدون} أي: لا يحضرون {الزور} أي: القول المنحرف عن الصدق كذباً كان أو مقارباً له فضلاً عن أن يتفوهوا به للخبر فلا يسمعوا أو يقروا عليه في مواعظ عيسى بن مريم عليه السلام إياكم ومجالسة الخطائين ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعن قتادة مجالس الباطل وعن ابن الحنفية اللهو والغناء، وعن مجاهد أعياد المشركين، ثم عطف عليه بما هو أعم منه بقوله تعالى: {وإذا مروا باللغو} أي: الذي ينبغي أن يطرح من الكلام القبيح وغيره {مروا كراماً} أي: آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر إن تعلق بهم أمر أو نهي إشارة أو عبارة على حسب ما يرون نافعاً، فإن لم يتعلق بهم ذلك كانوا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه لقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55) ، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما ما يستهجن التصريح به، وعن الحسن لم تشقهم المعاصي، وقيل: إذا سمعوا من الكفار الأذى أعرضوا عنه، ثم ذكر الصفة الثامنة بقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا} أي: ذكرهم غيرهم كائناً من كان لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله {بآيات ربهم} أي: الذي وفقهم ليذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة {لم يخرّوا} أي: لم يسقطوا {عليها صماً} أي: غير واعين لها {وعمياناً} أي: غير متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر كأبي جهل والأخنس بن شريق بل خروا سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالمراد من النفي نفي الحال وهي: صماً وعمياناً دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 الفعل وهو الخرور، فالمراد نفي القيد دون المقيد كما تقول: لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء، الصفة التاسعة المذكورة في قوله تعالى: {والذين يقولون} أي: علماً منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة {ربنا هب لنا من أزواجنا} اللاتي قرنتهن بنا كما فعلت بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فمدحت أزواجه في كلامك القديم، وجعلت مدحهن يتلى على تعاقب الأزمان والسنين {وذرياتنا قرة أعين} لنا بأن نراهم مطيعين لك ولا شيء أسر للمؤمن من أن يرى حبيبه يطيع الله تعالى، وعن محمد بن كعب ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله، وعن ابن عباس هو الولد إذا رآه يكتب الفقه وخصوا الأزواج والذرية بذلك؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف. تنبيه: من في قوله تعالى من أزواجنا يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بينت القرة وفسرت بقوله: من أزواجنا وذرياتنا، ومعناه أن اجعلهم لهم قرة أعين وهو من قولهم رأيت منك أسداً أي: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وإصلاح وأتوا بجمع القلة في أعين؛ لأن المتقين الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها قليلون في جنب العاصين، وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم ووحد القرّة لأنها مصدر، وأصلها من البرد لأن العرب تتأذى من الحر وتتروح إلى البرد وتذكر قرة العين عند السرور وسخنة العين عند الحزن ويقال: دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حار، وقال الأزهري: معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه فتقر عينه عن النظر إلى غيره، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بألف بعد الياء على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد {واجعلنا للمتقين إماماً} أي: أئمة يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كقوله تعالى: {ثم يخرجكم طفلاً} (غافر، 67) أو أرادوا واجعل كل واحد منا أو أرادوا جمع آم كصائم وصيام أو أرادوا اجعلنا إماماً واحداً لاتحادنا واتفاق كلمتنا، وعن بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يحسن أن تطلب ويرغب فيها، وقال الحسن: نقتدي بالمتقين ويقتدي المتقون بنا، وقيل: هذا من المقلوب، أي: واجعل المتقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم، وهو قول مجاهد، وقيل: نزلت هذه الآية في العشرة المبشرين بالجنة، ولما بين تعالى صفات المتقين المخلصين بين بعده إحسانه إليهم بقوله تعالى: {أولئك} أي: العالو الرتبة العظيمة العظيمو المنزلة {يجزون} أي: فضلاً من الله تعالى على ما وفقهم له من هذه الأعمال الزاكية والأحوال الصافية {الغرفة} أي: الغرفات وهي العلالي في الجنة فوحد اقتصاراً على الواحد الدال على الجنس والدليل على ذلك قوله تعالى: {وهم في الغرفات آمنون} (سبأ، 37) ، وقيل: هي من أسماء الجنة، ولما كانت القرب في غاية التعب لمنافاتها لشهوات النفس وهواها وطبع البدن رغب فيها بأن جعلها سبباً لهذا الجزاء بقوله تعالى: {بما صبروا} أي: أوقعوا الصبر على أمر ربهم ومرارة غربتهم بين الجاهلين في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وغير ذلك من معالي خلالهم، ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالكرامة والسلامة. قال تعالى {ويلقون فيها} أي: الغرفة {تحية} أي: دعاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 الحياة من بعضهم لبعض ومن الملائكة الذين لا يرد دعاؤهم ولا يمترى في إخبارهم، لأنهم عن الله تعالى ينطقون وذلك على وجه الإعظام والإكرام مكان ما أهانهم عباد الشيطان وقيل: ملكاً وقيل: بقاءً دائماً {وسلاماً} أي: من الله والملائكة وغيرهم وسلامة من كل آفة مكان ما أصابوهم بالمصائب: اللهم وفقنا لطاعتك واجعلنا من أهل رحمتك وارزقنا مما رزقتهم في دار رضوانك يا أرحم الراحمين، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من لقي كما قال تعالى: {فسوف يلقون غياً} (مريم، 59) ، والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف أي: يجعلهم الله تعالى لاقين بأيسر أمر كما قال تعالى {ولقاهم نضرة وسروراً} (الإنسان، 11) {خالدين فيها} أي: الغرفة لا يموتون ولا يخرجون مكان ما أزعجوهم من ديارهم حتى هاجروا ودلَّ على علو أمرها وعظيم قدرها بإبراز مدحها في مظهر التعجب بقوله تعالى: {حسنت} أي: ما أحسنها {مستقراً} أي: موضع استقرار {ومقاماً} أي: موضع إقامة وهذا مقابل ساءت ومثله في الإعراب، ولما شرح سبحانه وتعالى صفات المتقين وأثنى عليهم من أجلها وشرح ثوابهم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل} أي: لكفار مكة {ما يعبأ} أي: ما يصنع {بكم} أيها الكافرون من عبأت الجيش أو لا يعتد بكم {ربي} أي: المحسن إليّ وإليكم برحمانيته المخصص لي بالإحسان برحيميته وإنما خص بالإضافة لاعترافه دونهم {لولا دعاؤكم} أي: عبادتكم وما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر كأنه قيل: وأي عبء يعبأ بكم لولا عبادتكم وطاعتكم إياه كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات، 56) {فقد كذبتم} بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد، وقال قوم: ما يعبأ ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة وما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما قال تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} لولا دعاؤكم أي: نداؤكم في الشدائد كما قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت، 65) ، وقوله تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} (الأنعام، 42) ويجوز أن تكون ما نافية وجرى على ذلك الجلال المحلي {فسوف} أي: فتسبب عن تكذيبهم أن يجازيكم على ذلك ولكنه مع قدرته واختياره وقوته لا يعاجلكم بل {يكون} جزاء هذا التكذيب عند انقضاء ما ضربه لكم من الآجال {لزاماً} أي: لازماً يحيق بكم لا محالة، فاعتدوا وتهيؤوا لذلك اليوم فكل آت قريب وكل بعيد عنكم قريب عنده، وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر وإنه لوزم بين القتلى لزاماً قتل منهم تسعون وأسر منهم سبعون، وعن ابن مسعود: خمس قد مضين الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن «من قرأ سورة الفرقان لقي الله وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير حساب» حديث موضوع والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 سورة الشعراء مكية إلا قوله والشعراء إلى آخرها فمدنية وهي مائتان وست وعشرون آية وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وإثنان وأربعون حرفاً روى البغويّ عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى. عليه السلام {بسم الله} الذي دلّ علوّ كلامه على عظمة شأنه وعز مرامه {الرحمن} الذي لا يعجل على من عصاه {الرحيم} الذي يحي قلوب أهل ودّه بالتوفيق لما يرضاه. {طسم} قال ابن عباس: عجزت العلماء عن علم تفسيرها، وفي رواية عنه: أنه قسم وهو من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن وقال مجاهد اسم السورة، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم بطوله وسناه وملكه، ولهذا الاختلاف قال الجلال المحلي: الله أعلم بمراده بذلك، وقد قدمنا الكلام على أوائل السور في أول سورة البقرة وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بإمالة الطاء، والباقون بالفتح، وأظهر حمزة النون من سين عن الميم، وأدغمها الباقون وهي في مصحف عبد الله بن مسعود ط س م مقطوعة من بعضها. {تلك} أي: هذه الآيات العالية المرام الحائزة أعلى مراتب التمام المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات ألسنتكم {آيات الكتاب} أي: القرآن الجامع لكل فرقان {المبين} أي: الظاهر إعجازه المظهر الحق من الباطل ولما كان عنده صلى الله عليه وسلم من مزيد الشفقة وعظيم الرحمة على قومه قال تعالى تسلية له. {لعلك باخع} أي: هالك {نفسك} غماً وأسفاً من أجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 {ألا يكونوا} أي: قومك {مؤمنين} أي: راسخين في الإيمان أي: لا تبالغ في الحزن والأسف فإن هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ ولو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً. والبخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالخاء والباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذابح. ولعل: للإشفاق أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إيمان قومك فصبره وعزاه وعرفه أن حزنه وغمه لا ينفع كما أن وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع، ثم إنه تعالى أعلمه بأن كل ما هم فيه إنما هو بإرادته بقوله تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم} وعبر بالمضارع فيهما إعلاماً بدوام القدرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون الثانية وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم قال تعالى محققاً للمراد {من السماء} أي: التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها بقوله تعالى: {آية} أي: قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه. تنبيه: هنا همزتان مختلفتان، أبدل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية المفتوحة بعد المكسورة ياء خالصة، وحققها الباقون. ثم أشار تعالى إلى تحقق هذه الآية بالتعبير بالماضي في قوله تعالى عطفاً على ننزل لأنه في معنى أنزلنا {فظلت} أي: عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} أي: التي هي موضع الصلابة وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض {لها خاضعين} أي: منقادين. تنبيه: خاضعين: خبر عن أعناقهم، واستشكل جمعه جمع سلامة لأنه مختص بالعقلاء؟ وأجيب عنه بأوجه: أحدها: أن المراد بالأعناق رؤساءهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال لهم الرؤوس والنواصي والصدور، قال القائل: *في محفل من رؤوس الناس مشهود* ثانيها: أنه على حذف مضاف أي: فظل أصحاب الأعناق ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف المخبر عنه مراعاة للمحذوف. ثالثها: أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله: *كما شرقت صدر القناة من الدم* رابعها: قال الزمخشري: أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة كأن الأهل غير مذكور، ونوزع في التنظير لأنّ أهل ليس مقحماً البتة لأنه المقصود بالحكم. خامسها: أنها عوملت معاملة العقلاء، كقوله تعالى: {ساجدين} (يوسف، 4) {وطائعين} (فصلت، 11) في يوسف والسجدة، وقيل إنما قال تعالى: {خاضعين} لموافقة رؤوس الآي لتكون على نسق واحد. {وما يأتيهم} أي: الكفار {من ذكر} أي: موعظة أو طائفة من القرآن يذكروننا به فيكون سبب ذكرهم وشرفهم {من الرحمن} أي: الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم {محدث} أي: بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به وأشار تعالى إلى دوام كبرهم بقوله تعالى: {إلا كانوا عنه معرضين} أي: إعراضاً هو صفة لهم لازمة، ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال تعالى. {فقد} أي: فتسبب عن هذا الفعل منهم أنه قد {كذبوا} أي: بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمناً في قوله تعالى: {وسيأتيهم} أي: إذا مسهم عذاب الله تعالى يوم بدر ويوم القيامة {أنباء} أي: عظيم أخبار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وعواقب {ما} أي: العذاب الذي {كانوا به يستهزؤن} أي: يهزؤون من أنه كان حقاً أو باطلاً وكان حقيقاً بأن يصدق ويعظم أمره أو يكذب فيستخف أمره. ثم قال تعالى: معجباً منهم. {أو لم يروا إلى الأرض} أي: على سعتها واختلاف نواحيها، ونبه على كثرة ما صنع من جميع الأصناف بقوله تعالى: {كم أنبتنا} أي: بما لنا من العظمة {فيها} بعد أن كانت يابسة ميتة لا نبات فيها {من كل زوج} أي: صنف متشاكل بعضه لبعض فلم يبق صنف يليق بهم في العاجلة إلا أكثرنا من الإنبات منه {كريم} أي: كثير المنافع محمود العواقب وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى وهو ضدّ اللئيم، وههنا يحتمل معنيين أحدهما: النبات على نوعين: نافع وضار فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وخلى ذكر الضار، والثاني: أن يعم جميع النبات نافعه وضاره ويصفهما جميعاً بالكرم وينبه على أنه تعالى ما أنبت شيأً إلا فيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلاً إلا لحكمة بالغةٍ وإن غفل عنها الغافلون ولم يتصل إلى معرفتها العاقلون، ولما كان ذلك باهراً للعقل منبهاً له في كل حال على عظيم اقتدار صانعه وبديع اختياره، وصل به قوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم {لآية} أي: دلالة على كمال قدرته تعالى، فإن قيل: حين ذكر الأزواج دل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب، فكيف قال إنّ في ذلك لآية؟ وهلا قال لآيات؟ أجيب بوجهين: أحدهما: أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر أنبتنا فكأنه قال: إنّ في ذلك الإنبات لآية، ثانيهما: أن يراد أنّ في كل واحد من تلك الأزواج لآية {و} الحال أنه {ما كان أكثرهم} أي: البشر {مؤمنين} في علم الله تعالى وقضائه فلذلك لا ينفعهم مثل هذه الآيات العظام، وقال سيبويه: كان زائدة {وإن} أي: والحال أنّ {ربك} أي: الذي أحسن إليك بالإرسال وسخر لك قلوب الأصفياء وزوى عنك اللد والأشقياء {لهو العزيز} أي: ذو العزة ينتقم من الكافرين {الرحيم} يرحم المؤمنين، ولما كان مع ما ذكر في ذكر القصص تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما يقاسيه من الأذى والتكذيب وكان موسى عليه السلام قد اختص بالكتاب الذي ما بعد القرآن مثله والآيات التي ما أتى بمثلها أحد قبله، بدأ بذكره فقال تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {نادى ربك} أي: المحسن إليك بكل ما يمكن الإحسان به في هذه الدار، ثم ذكر المنادى بقوله تعالى: {موسى} أي: حين رأى الشجرة والنار، واختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام أهو الكلام القديم أو صوت من الأصوات؟. قال أبو الحسن الأشعري رضي الله تعالى عنه: هو الكلام القديم فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن الدليل دال على أنها معلومة ومرئية في الآخرة من غير كيف ولا جهة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع. وقال الماتريدي: هو من جنس الحروف والأصوات، وأما المعتزلة: فقد اتفقوا على أن ذلك النداء كان بحروف وأصوات علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزاً علم به موسى أن الله تعالى مخاطباً له فلم يحتج مع ذلك لواسطة، ثم ذكر تعالى ما له النداء بقوله تعالى: {أن} أي: بأن {أئت القوم} أي: الذين فيهم قوة وأيًّ قوة {الظالمين} رسولاً، ووصفهم بالظلم لكفرهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 واستبعادهم بني إسرائيل وذبح أولادهم وقوله تعالى: {قوم فرعون} أي: معه بدل أو عطف بيان للقوم الظالمين، وقوله تعالى: {ألا يتقون} استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار تعجباً من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه ولما كان من المعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهواءهم لم يقبل. {قال رب} أي: أيها الرفيق بي {إني أخاف أن يكذبون} أي: فلا يترتب على إتياني إليهم أثر فاجعل لي قبولاً ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون. {ويضيق صدري} من تكذيبهم لي {ولا ينطلق لساني} بأداء الرسالة للعقدة التي فيه بواسطة تلك الجمرة التي لذعته في الطفولية {فأرسل} أي: فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر طلب الإرسال {إلى هارون} أخي ليكون لي عضداً على ما أمضي له من الرسالة، فيحتمل أن تكون تلك العقدة باقية عند الرسالة، وأن تكون قد زالت عند الدعوة، ولكن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهارون كان بتلك الصفة فأراد أن يقرن به، ويدل عليه قوله تعالى: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} (القصص: 34) ومعنى فأرسل إلى هارون: أرسل إليه جبريل واجعله نبياً وأزرني به واشدد به عضدي، وهذا الكلام مختصر وقد بسطه في غير هذا الموضع وقد أحسن في الاختصار حيث قال: {فأرسل إلى هارون} فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى: {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميراً} (الفرقان، 36) حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أولها وآخرها وهما الإنذار والتدمير، ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله فأراد الله إلزام الحجة عليهم فبعث إليهم رسولين فكذبوهما فأهلكهم. فإن قيل: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره ربه بأمر فلا يقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله تعالى عليم بحاله؟ أجيب: بأنه قد امتثل وتقبل ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته فمهد قبل التماسه عذراً فيما التمسه ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التعلل، ثم زاد في الاعتذار في طلب العون خوفاً من أن يقتل قبل تبليغ الرسالة بقوله: {ولهم علي ذنب} أي: تبعه ذنب فحذف المضاف، أو سمى باسمه كما يسمى جزاء السيئة سيئة وهو قتله القبطي وسماه ذنباً على زعمهم، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. {فأخاف} بسبب ذلك {أن يقتلون} أي: يقتلونني به. {قال} الله تعالى {كلا} أي: ارتدع عن هذا الكلام فإنه لا يكون شيءُ، مما خفت لا قتل ولا غيره، وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام عليه من الصدق من البراهين المقوية لصاحبها الشارحة لصدره العلية لأمره عدّ عدماً، وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك. {فاذهبا} أي: أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتك به مؤيدين {بآياتنا} الدالة على صدقكما. تنبيه: {فاذهبا} عطف على ما دلّ عليه حرف الردع من الفعل كأنه قيل: ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك بآياتنا {إنا} أي: بما لنا من العظمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 {معكم مستمعون} أي: سامعون لأنه تعالى لا يوصف بالمستمع على الحقيقة لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية، ومنه قوله تعالى: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً} (الجن، 1) ويقال استمع إلى حديثه وسمع حديثه: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» وهو الكحل المذاب ويروى: البيرم وهو بزيادة الياء، فإن قيل: لم قال معكم بلفظ الجمع وهما اثنان؟ أجيب: بأنه تعالى أجراهما مجرى الجمع تعظيماً لهما، أو معكما ومع بني إسرائيل يسمع ما يجيبكم فروعون. {فأتيا} أي: فتسبب عن ذهاب ما ذكرت بالحراسة والحفظة أني أقول لكما ائتيا {فرعون} نفسه وإن عظمت مملكته وجلت جنوده {فقولا} أي: ساعة وصولكما له ولمن عنده {إنا رسول رب العالمين} أي: المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم مصالحهم، فإن قيل: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله تعالى: {إنا رسولا ربك} ؟ (طه، 47) أجيب: بأن الرسول يكون بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وأما ههنا فهو إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة والمصدر يوحد ومن مجيء رسول بمعنى الرسالة قوله: *لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول* أي: برسالة، والواشون الساعون بالكذب عند ظالم وما فهت بمعنى ما تكلمت، وإما لأنهما ذوا شريعة واحدة فنزلا منزلة رسول، وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما فصارا كالشيئين المتلازمين كالعينين واليدين، وقال أبو عبيدة: يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع تقول العرب هذا رسولي ووكيلي وهذان رسولي ووكيلي وهؤلاء رسولي ووكيلي، كما قال تعالى: {وهم لكم عدوّ} (الكهف: 50) ، ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبراً بأداة التفسير، لأنّ الرسول فيه بمعنى الرسالة التي تتضمن القول. {أن} أي: بأن {أرسل} أي: خل وأطلق، وأعاد الضمير على معنى رسول فقال {معنا بني إسرائيل} أي: قومنا الذين استعبدتهم ظلماً ولا سبيل لك عليهم نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله تعالى بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفاً، ويروى أن موسى رجع مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه ومكتل معلق في رأس العصا وفيه زاده فدخل داره نفسه وأخبر هارون بأن الله تعالى أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك حتى ندعو فرعون إلى الله تعالى، فخرجت أمهما وصاحت، وقالت إن فرعون يطلبك ليقتلك فلو ذهبتما إليه قتلكما فلم يمتنع بقولها: وذهبا إلى باب فرعون ليلاً ودقا الباب ففزع البوابون وقالوا من بالباب، وروي أن البواب اطلع عليهما وقال من بالباب ومن أنتما؟ فقال موسى أنا رسول رب العالمين فذهب البواب إلى فرعون وقال إن مجنوناً بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون ائذن له لعلنا نضحك منه، وقيل: لم يؤذن لهما إلى سنة فدخلا عليه وأديا رسالة الله عز وجل فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته فلما عرفه. {قال} له منكراً عليه {ألم نربك} حذف، فأتيا فرعون فقالا له ذلك لأنه معلوم لا يشتبه وهذا النوع من الاختصار كثير في القرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 {فينا} أي: في منازلنا {وليداً} أي: صغيراً قريباً من الولادة بعد فطامه {ولبثت فينا} أي: في عزنا باعتبار انقطاعك إلينا وتعززك بنا {من عمرك سنين} ثلاثين سنة فما لنا عليك من الحق ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدّة مقامه عنده بأنها كانت نكدة لأنه وقع فيما كان يخافه وفاته ما كان يحتاط به من ذبح الأطفال، وكان موسى يلبس من ملابس فرعون ويركب من مراكبه وكان يسمى ابنه، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء، والباقون بالإدغام، ولما ذكره ما يحمله على الحياء منه ذكره ذنباً يخاف من عاقبته فقال مهولاً له بالكناية. {وفعلت فعلتك} أي: من قتل القبطي، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيراً إلى أنه عامله بالحلم تخجيلاً له فقال {التي فعلت وأنت} أي: والحال أنك {من الكافرين} قال الحسن والسدي من الكافرين بإلهك ومعناه: على ديننا هذا الذي تعيبه، وقال أكثر المفسرين أي: الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد يقول ربيناك فكافأتنا أن قتلت منا نفساً وكفرت بنعمتنا وهذا رواية العوفي عن ابن عباس: وقال إنّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية. {قال} له موسى مجيباً على طريقة النشر المشوش واثقاً بوعد الله تعالى بالسلامة {فعلتها إذاً} أي: إذ قتلته {وأنا من الضالين} أي: من الجاهلين بأنّ ذلك يؤدّي إلى قتله، أو المخطئين كمن يقتل خطأً من غير تعمد للقتل. قال ابن جرير: والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال. وقيل: لا أعرف ذنباً فأنا واثق من كل جهة حتى يوجهني ربي إلى ما شاء. {ففررت} أي: فتسبب عن فعلها أني فررت {منكم} أي: منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ {لما خفتكم} على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطأً وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافراً مهدر الدم {فوهب لي ربي} الذي أحسن إليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة عليّ مما أحدثتم من الظلم {حكماً} أي: علماً وفهماً، وقيل نبوّة {وجعلني من المرسلين} أي: فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره، ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير، بدأه بجوابه عن التعيير ولأنه الأخير فكان أقرب ولأنه أهم، وهو معنى ما تقدم من أنه على طريقة النشر المشوش بأن يبدأ بالأخير قبل الأوّل، ولهذا كرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب وأبى أن تسمى نعمته إلا نقمة بقوله: {وتلك} أي: التربية الشنيعة العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها {نعمة تمنها عليّ أن عبدت} أي: تعبيدك وتذليلك قومي {بني إسرائيل} أي: جعلتهم عبيداً ظلماً وعدواناً وهم أبناء الأنبياء ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة بإحياء نفوسكم أولاً وعتق رقابكم ثانياً، ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد فأمرت بقتل أبناءهم فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك، ولو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليمّ فكيف تمن عليّ بذلك؟ وقيل: معناه إنك تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في تربيته. وقال الحسن: إنك استعبدت بني إسرائيل فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليّ فلا نعمة لك بالتربية. وقيل: إنّ الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا منة لك عليّ لأنّ التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم وهذا ما يعد إنعاماً. فإن قيل: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم مع إفراده في تمنها وعبدت؟ أجيب: بأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، كما مرّت الإشارة إليه بدليل قوله تعالى: {إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} (القصص: 20) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد، ولما قال له بوابه إنّ ههنا من يزعم أنه رسول رب العالمين وأدخله عليه. {قال} له {فرعون} عند دخوله حائداً عن جوابه منكراً لخالقه على سبيل التجاهل كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهم أعرف الناس بغالب أفعاله كما كان فرعون يعرف لقول موسى عليه الصلاة والسلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} (الإسراء: 102) {وما ربّ العالمين} أي: الذي زعمتما أنكما رسوله وإنما أتى بما دون من لأنها يسأل بها عن طلب الماهية كقولك ما العنقاء، ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته عدل موسى عليه السلام إلى جواب ممكن فأجاب بصفاته تعالى، كما قال تعالى إخباراً عنه: {قال رب} أي: خالق ومبدع ومدبر {السموات} كلها {والأرض} وإن تباعدت أجرامها بعضها من بعض {وما بينهما} أي: بين السموات والأرض فأعاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين وخصه بهذه الصفات لأنها أظهر خواصه وآثاره وفيه إبطال لدعواه أنه إله، ومعنى قوله {إن كنتم موقنين} أي: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدّي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع، أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله، ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق. {قال} فرعون {لمن حوله} من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة وكانت للملوك خاصة {ألا تستمعون} جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقته وهو يجيبني بالفاعلية، ولما كان يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذاتها فهي غنية عن الخالق. {قال} لهم موسى زيادة في البيان {ربكم ورب آبائكم الأولين} فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لهم ولآبائهم، إذ لا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لأنّ المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته واستحال وجوده إلا بالمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ولكن فرعون لم يكتف بذلك ولهذا. {قال إنّ رسولكم} على طريق التهكم إشارة إلى أنّ الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس ثم زاد الأمر بقوله: {الذي أرسل إليكم} أي: وأنتم أعقل الناس {لمجنون} لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فكيف يصلح للرسالة من الملوك؟ فلما قال ذلك عدل موسى ج إلى طريق ثالث أوضح من الثاني بأن. {قال رب المشرق والمغرب} أي: الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما {وما بينهما} من المخلوقات لأنّ التدبير المستمرّ على هذا الوجه العجيب لا يتمّ إلا بتدبير مدبر قادر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع نمروذ، فإنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكر موسى عليه الصلاة السلام بقوله: {ربكم ورب آبائكم الأولين} فأجابه نمروذ {أنا أحي وأميت} (البقرة: 228) فقال {إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} (البقرة: 258) وهو الذي ذكره موسى ج بقوله: {رب المشرق والمغرب} وأما قوله: {إن كنتم تعقلون} فكأنه ج قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لك، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته لك، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق وعدل إلى التخويف بأن. {قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} أي: واحداً ممن هم في سجني على ما تعلم من حالي في اقتداري ومن سجوني وفظاعتها، ومن حال من فيها من شدّة الحصر والغلظ في الحجر. قال الكلبي: كان سجنه أشدّ من القتل لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق وحده لا يسمع ولا يبصر فيها شيئاً، وقرأ ابن كثير وحفص وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام، ثم ذكر موسى ج كلاماً مجملاً ليعلق فرعون قلبه به فيعدل عن وعيده، بأن. {قال} مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان لإزادة البيان معنىً لا يبقى معه عذر ولا نسيان، لأنّ من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف والرجوع إلى الحق والاعتراف {أولو} أي: أتسجنني ولو {جئتك بشيءٍ مبين} أي: هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بشيء بدليلين يدلان على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك. {قال} طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس {فأت به} أي: تسبب عن قولك هذا أني أقول ائت بذلك الشيء {إن كنت من الصادقين} أي: فيما ادعيت من الرسالة. تنبيه: الواو في أولو جئتك واو الحال وليتها الهمزة بعد حذف الفعل كما علم من التقرير، فإن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأوّل وهو قوله أولو جئتك بشيء مبين أي: بآية بينة والمعجز لا يدل على ذلك كدلالة سائر ما تقدم؟ أجيب: بأنه يدل بما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه ما تقدم. {فألقى} أي: فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى موسى {عصاه} التي تقدم في غير سورة أنّ الله تعالى أراه إياها ولم يصرّح باسمه اكتفاء بضميره لأنه غير ملتبس {فإذا هي ثعبان} أي: حية في غاية الكبر {مبين} أي: ظاهر ثعبانيته، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت إلى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون أسألك بالذي أرسلك إلا ما أخذتها فأخذها فعادت عصا، فإن قيل: كيف قال هنا {ثعبان مبين} وفي آية أخرى {فإذا هي حية تسعى} (طه: 20) وفي آية ثالثة {كأنها جان} (النمل: 10) والجان مائل إلى الصغر والثعبان إلى الكبر؟ أجيب: بأن الحية اسم الجنس ثم لكبرها صارت ثعباناً، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى: {والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر: 27) ويحتمل أنها كانت صغيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 كالجان ثم عظمت فصارت ثعباناً، ثم إنّ موسى ج لما أراه آية العصا قال فرعون هل غيرها قال: نعم. {ونزع يده} أي: التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجزوا عن إبرائها نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه {فإذا هي} بعد النزع {بيضاء للناظرين} يضيء الوادي من شدّة بياضها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر ويسدّ الأفق، فعند هذا أراد فرعون لعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً أوّلها أن. {قال للملأ حوله} لما وضح له الأمر يمّوه على عقولهم: خوفاً من إيمانهم {إنّ هذا لساحر عليم} أي: شديد المعرفة بالسحر، حوله: حال من الملأ ومفعول القول، قوله: {إن هذا لساحر عليم} ولما أوقعهم بما جبلهم به أحماهم لأنفسهم فقال ملغياً لجلباب الإلهية لما قهره من سلطان المعجزة. {يريد أن يخرجكم من أرضكم} أي: هذه التي هي قوامكم {بسحره} أي: بسبب ما أتى به، فإنه يوجب استتباع الناس فيتمكن مما يريد، ثم قال لقومه الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم، ما دل على أنه حارت قواه فحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه لما استولى عليه من الدهش والحيرة حتى جعل نفسه مأموراً بعد أن كان يدعي كونه آمراً بل إلهاً قادراً {فماذا تأمرون} أي: في مدافعته عما يريد بنا. {قالوا} أي: الملأ الذين كانوا حوله {أرجه وأخاه} أي: أخر أمرهما ومناظرتهما إلى اجتماع السحرة، ولم يأمر بقتلهما ولا بما يقاربه، فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه. وقرأ قالون بغير همز واختلاس كسرة الهاء، وورش والكسائي بغير همز وإشباع حركة كسرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة وصلة الهاء مضمومة، وأبو عمرو بالهمزة وضم الهاء مقصورة، وابن ذكوان بالهمزة وكسر الهاء مقصورة، وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء {وابعث في المدائن حاشرين} أي: رجالاً يحشرون السحرة، وأصل الحشر: الجمع بكره، وقيل: إنّ فرعون أراد قتل موسى فقالوا له لا تفعل فإنك إن تقتله دخلت الناس شبهة في أمره، ولكن أخره واجمع له سحرة ليقاوموه ولا يثبت له عليك حجة، وعارضوا قوله {إنّ هذا الساحر عليم} (الأعراف: 109) بقولهم: {يأتوك بكل سحار} أي: بليغ في السحر، فجاؤوا بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليطمأنوا من نفسه ويسكنوا من بعض قلقه {عليم} أي: متناه في العلم به بعدما تناهى في السحرية، وعبر بالبناء للمفعول في قوله. {فجمع السحرة} إشارة إلى عظمة ملكه، أي: بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة {لميقات يوم معلوم} أي: في زمانه ومكانه وهو ضحى يوم الزينة كما مرّ في طه، وعن ابن عباس: وافق يوم السبت من أول يوم من سنتهم وهو يوم النيروز. {وقيل} أي: يقول من يقبل لكونه عن فرعون {للناس} أي: عامّة وقوله {هل أنتم مجتمعون} فيه استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم واستحثاثهم كما يقول الرجل لغلامه هل أنت منطلق إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أنّ الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شراً، اسم شاعر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 *هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق* أي: هل أنت حث على إرسال دينار أو عبد رب، اسمي رجلين، والثاني منصوب على محل الأوّل، وأخا عون منادى أو عطف بيان له، وعليه اقتصر الكشاف. {لعلنا نتبع السحرة} أي: في دينهم {إن كانوا هم الغالبين} أي: لموسى في دينه ولا نتبع موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض الكلي أن لا يتبعوا موسى فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى، وقيل: أرادوا بالسحرة موسى وهارون وقالوا ذلك على طريق الاستهزاء وعبر بالفاء في قوله: {فلما جاء السحرة} أي: الذين كانوا في جميع بلاد مصر إيذاناً بسرعة حشرهم لضخامة ملكه ووفور عظمته {قالوا لفرعون} مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد ومجاز القصد {آئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين} موسى، وأتوا بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفاً له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له. {قال} مجيباً إلى ما سألوا {نعم} لكم ذلك، وقرأ الكسائي بكسر العين، والباقون بالفتح وزادهم بما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكداً بقوله {وإنكم إذاً} أي: إذا غلبتم {لمن المقربين} أي: عندي، وزاد إذاً هنا زيادة في التأكيد، ولما قال لهم فرعون ذلك قالوا لموسى {إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين} (الأعراف، 115) . {قال لهم موسى} أي: مريداً لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقاءهم {ألقوا ما أنتم ملقون} فإن قيل: كيف أمرهم بفعل السحر؟ أجيب: بأنه لم يرد بذلك أمرهم بالسحر والتمويه بل الأذن بتقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلاً به إلى إظهار الحق. {فألقوا} أي: فتسبب عن قول موسى ج وتعقبه أن ألقوا {حبالهم وعصيهم} أي: التي أعدّوها للسحر {وقالوا} مقسمين {بعزة فرعون} وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته كقولك والله والرحمن ورب العرش وعزة الله وقدرة الله وجلال الله وعظمة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسبت لها الجاهلية الأولى، وذلك أن الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء لم يقبل منه ولم يعتد بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف، ثم إنهم أكدوا يمينهم بأنواع من التوكيد بقولهم: {إنا لنحن} أي: خاصة لا نستثني {الغالبون} وذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر. {فألقى} أي: فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى {موسى عصاه} التي جعلت آية له وتسبب عن إلقائه قوله تعالى: {فإذا هي تلقف} أي: تبتلع في الحال بسرعة وهمة {ما يأفكون} أي: ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى بالتمويه على الناظرين أو إفكهم، سمى تلك الأشياء إفكاً مبالغة، وقرأ حفص بسكون اللام وتخفيف القاف، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف، وشدّد البزي التاء في الوصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وخففها الباقون. {فألقى السحرة} أي: عقب فعلها من غير تلبث {ساجدين} أي: فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقياً ألقاهم من قوة إسراعهم علماً منهم بأنّ هذا من عند الله فأمسوا أتقياء بررة بعدما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة كفرة. روي أنهم قالوا إن يك ما جاء به موسى سحراً فلن نغلب وإن يك من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به علموا أنه من عند الله فآمنوا. وعن عكرمة أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاآت فسلك به طريقة المشاكلة، وفيه أيضاً: مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً، فإن قيل: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟. أجيب: بأنه الله تعالى بما خوّلهم من التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة، قال الزمخشري: ولك أن لا تقدر فاعلاً لأنّ ألقوا بمعنى خرّوا وسقطوا، ولما كان كأنه قيل: هذا فعلهم فما كان قولهم: قيل. {قالوا آمنا برب العالمين} أي: الذي دعا إليه موسى عليه السلام أول ما تكلم وقولهم: {رب موسى وهارون} عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون كان يدعي الربوبية وأرادوا أن يعذلوه، ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا إليه موسى وهارون عليهما السلام، ولما آمن السحرة بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه أنّ هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون طريقهم، فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه: أحدها: أن. {قال آمنتم له} أي: لموسى {قبل أن آذن} أي: أنا {لكم} فمسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه. تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان، قرأ الجميع بإبدال الثانية ألفاً، وحقق الثانية حمزة والكسائي وشعبة، وسهلها الباقون غير حفص فإنه أسقط الأولى والثانية عنده هي المبدوء بها. ثانيها: قوله {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهذا تصريح بما رمز به أولاً وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى وإلا ففي قوة السحر أن تفعلوا مثل ما يفعل. ثالثها: قوله {فلسوف تعلمون} وهو وعيد وتهديد شديد، رابعها: قوله: {لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف} أي: يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى {ولأصلبنكم أجمعين} وهذا الوعيد من أعظم الإهلاكات، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين: الأول: قولهم: {قالوا لا ضير} أي: لا ضرر علينا وخبر لا محذوف تقديره في ذلك {إنا} أي: بفعلك ذلك فينا إن قدّرك الله تعالى عليه {إلى ربنا} الذي أحسن إلينا بالهداية بعد موتنا بأي وجه كان {منقلبون} أي: راجعون في الآخرة، الثاني: قولهم: {إنا نطمع} أي: نرجو {أن يغفر} أي: يستر ستراً بليغاً {لنا ربنا خطايانا} أي: التي قدمناها على كثرتها ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم: {أن كنا} أي: كونا هو لنا كالجبلة {أول المؤمنين} أي: من أهل هذا المشهد أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم ولما ظهر من أمر فرعون ما شاهدوه وخيف أن يقع منه ببني إسرائيل وهم الذين آمنوا وكانوا في قوم موسى ج ما يؤدّى إلى الاستئصال أمره الله تعالى أن يسري بهم كما قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 تعالى: {وأوحينا} أي: بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود {إلى موسى أن أسر} ليلاً {بعبادي} وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوّاً وفساداً، وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون ووصل الهمزة بعدها من سرى، وقرأ الباقون بسكون النون وقطع الهمزة بعدها، ثم علل أمره له بالسير في الليل بقوله تعالى: {إنكم متبعون} أي: لا تظنّ أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر بحري، والمراد: يوافقهم عند البحر، ولم يكتم إتباعهم عن موسى لعدم تأثره به، والمعنى: أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم حتى يدخلوا مدخلكم ويسلكوا مسلككم من طريق البحر فأطبقه عليهم. روي: أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن أجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم اذبحوا الجداء واضربوا بدمائها أبوابكم فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم وآمرهم بقتل أبكار القبط واختبزوا خبزاً فطيراً فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري، وروي أنّ قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك جمع قومه وتبعهم كما قال تعالى: {فأرسل فرعون} أي: لما أصبح وعلم بهم {في المدائن حاشرين} أي: رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم. {إن هؤلاء} إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا لما بهم من العجز وبآل فرعون من القوّة فليسوا بحيث يخاف قوتهم {لشرذمة} أي: طائفة وقطعة من الناس {قليلون} أي: بالنسبة إلى مالنا من الجنود التي لا تحصى فذكرهم أولاً بالاسم الدال على القلة بالشرذمة وهي الطائفة القليلة، ومنها قولهم: ثوب شرذم للذي بلي وتقطع قطعاً، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً واختار جمع السلامة الذي هو للقلة مع أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً وسماهم بشرذمة قليلين وذلك بالنسبة لما أرسله خلفهم، فإنّ الذي أرسله فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم وكان مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث فلذلك استقل قوم موسى، قال الزمخشري ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والقماءة ولا يريد قلة العدد، والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع عليهم غلبتهم وعلوّهم ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، كما قال تعالى عنهم. {وإنهم لنا لغائظون} أي: بما فجعونا به من أنفسهم وبما استعاروه من الزينة من الأواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة فلا رحمة في قلوبهم بجمعهم. {وإنا لجميعٌ حذرون} أي: من عادتنا الحذر والتيقظ واستعمال الحزم في الأمور فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء، والباقون بغير ألف، قال أبو عبيدة والزجاج: هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحذور وحاذر بمعنى، وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف. قيل: الأول للتجدّد لأنه اسم فاعل، والثاني: للثبات لأنه صفة مشبهة وقيل: الحاذر المتبلج الذي له شوكة، السلاح وهو أيضاً من الحذر لأنّ ذلك إنما يفعل حذراً، يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر وأنه يجزئه أربعة أجزاء: أحدها: لوزرائه وكتابه وجنده والثاني: لحفر الأنهار وعمل الجسور والثالث: له ولولده والرابع: يفرّق في المدن، فإن لحقهم ظلم أو ظمأ أو اشتجار أو فساد غلة أو موت عوامل قوّاهم به، ويروى أنه قصده قوم فقالوا نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال فسأل عن مبلغ ما أنفقوه في خليجهم فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم فإنّ الملك إذا استغنى بمال الرعية يعني رعيته افتقر، وإن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا، ولما كان التقدير فأطاعوا أمره ونفروا على كل صعب وذلوا، عطف عليه قوله تعالى بما آل إليه أمرهم. {فأخرجناهم} أي: فرعون وجنوده بما لنا من القدرة من مصر ليلحقوا بموسى وقومه إخراجاً حثيثاً مما لا يسمع أحد بالخروج منه {من جنات} أي: بساتين كانت على جانبي النيل يحق لها أن تذكر {وعيون} أي: أنهار جارية في الدور من النيل، وقيل: عيون تخرج من الأرض لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر. {وكنوز} أي: أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوز لأنها لم يعط حق الله منها وما لم يعط حق الله تعالى منه فهو كنز وإن كان ظاهراً، قيل: كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب {ومقام} من المنازل {كريم} أي: مجلس حسن للأمراء والوزراء بحقه اتباعهم، وعن الضحاك: المنابر وقيل: السرر في الحجال، وذكر بعضهم أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مخوصة بالذهب. {كذلك} أي: أخرجنا كما وصفنا {وأورثناها} أي: تلك النعم السنية بمجرّد خروجهم بالقوّة وبعد إغراق فرعون وجنوده بالفعل {بني إسرائيل} أي: جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستعبدين بين أيدي أربابها، واستشكل إرثهم لها بالفعل لقوله تعالى في الدخان {قوماً آخرين} (الدخان، 28) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في ذلك المحل. بل قيل: إنّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد ذلك ولما وصف تعالى الإخراج وصف أثره بقوله تعالى: مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوّة. {فأتبعوهم} أي: جعلوا أنفسهم تابعة لهم {مشرقين} أي: داخلين في وقت شروق الشمس بطلوعها صبيحة الليلة التي سار فيها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن ذلك على حكم العادة في أقل من عشرة أيام فإنه تعجز الملوك عن مثله، واستمرّوا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم. {فلما تراءى الجمعان} أي: رأى كل منهما الآخر {قال أصحاب موسى} ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 أقل منهم بكثير بحيث يقال إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل وذلك محقق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم بأصحاب دون بني إسرائيل؛ لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم {إنا لمدركون} أي: يدركنا فرعون وقومه وقد صرنا بين سدّين العدّو وراءنا والبحر أمامنا ولا طاقة لنا بذلك. {قال} أي: موسى عليه السلام وثوقاً بوعد الله تعالى {كلا} أي: لا يدركونكم أصلاً، ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله {إن معي ربي} أي: بنصره فكأنهم قالوا وما عساه يفعل وقد وصلونا قال {سيهدين} أي: يدلني على طريق النجاة، روي: أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أين تذهب فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون قال: أمرت بالبحر ولعلي أؤمر بما أصنع. {فأوحينا} أي: فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا ونوّه باسم الكليم جزاء له على ثقته به سبحانه وتعالى، فقال تعالى: {إلى موسى} وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر} أي: الذي أمامكم وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرّفة وما والاها، وقيل: النيل، فضربه {فانفلق} بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر ربه وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم {فكان كل فرق} أي: جزء وقسم عظيم منه {كالطود} أي: الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان {العظيم} المتطاول في السماء الثابت في قعره لا يتزلزل لأنّ الماء كان منبسطاً في أرض البحر فلما انفلق وانكشف فيه الطريق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء بين تلك الأجزاء مسالك سلكوها لم يبتل منها سرج الراكب. قال الزجاج: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال، فقال يوشع: يا كليم الله يا ابن امرأة عمران قد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى: ههنا فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال ههنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق فإنّ الرجل على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده. روي: أنّ موسى قال عند ذلك يا من كان قبل كل شيء والمكوّن لكل شيء والكائن بعد كل شيء، وهذا معجز عظيم من وجوه: أحدهما: أن تفرّق ذلك الماء معجز وثانيها: أنّ اجتماع ذلك الماء فوق كل فرق منه حتى صار كالجبل معجز أيضاً، وثالثها: أنه ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي تكامل معه عدد بني إسرائيل وهذا معجز ثالث، ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض وهذا معجز رابع، وخامسها: أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخصلوا من البحر كما تخلص موسى عليه السلام وهذا معجز خامس. فائدة: لكل من جميع القراء في الراء من فرق الترقيق والتفخيم. ولما كان التقدير: وأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق عطف عليه. {وأزلفنا} أي: قربنا بعظمتنا {ثم} أي: هناك {الآخرين} أي: فرعون وقومه حتى سلكوا مسالكهم وقال أبو عبيدة: وأزلفنا أخلفنا، ومنه ليلة المزدلفة أي: ليلة الجمع، عن عطاء بن السائب: أنّ جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل ويقول ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط ويقول رويدكم ليلحق آخركم أولكم. {وأنجينا موسى ومن معه} وهم من تبعوه من قومه وغيرهم {أجمعين} أي: لم نقدّر على أحد منهم الهلاك بل أخرجناهم من البحر على هيئته المذكورة. {ثم أغرقنا الآخرين} أي: فرعون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وقومه أجمعين بانطباق البحر عليهم لما تم دخولهم البحر وخروج بني إسرائيل منه، ويقال هذا البحر بحر القلزم، وقيل: هو بحر من وراء مصر يقال له أساف. {إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات {لآية} أي: علامة عظيمة دالة على قدرة الله تعالى لأنّ أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا أو على صدق موسى لكونه معجزة له وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه قد بغتم بتكذيب قومه معه ظهور المعجزات عليه فنبه الله تعالى بهذا الذكر على أنّ له أسوة بموسى وغيره {وما كان أكثرهم} أي: أهل مصر الذين شاهدوها والذين وعظوا بسماعها {مؤمنين} أي: متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم متزلزلاً يتعنت كل قليل ويقول ويفعل ما هو كفر حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً كالأصنام التي مرّوا عليها، وأمّا غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف وأمرهم مشاهد مكشوف فقد سألوه بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وطلبوا رؤية الله جهرة. {وإن ربك} أي: المحسن إليك بإعلاء أمرك واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك {لهو العزيز} أي: القادر على الانتقام من كل فاجر {الرحيم} بعباده لأنه تعالى أفاض عليهم نعمه وكان قادراً على أن يهلكهم، فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله. ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من قصة موسى عليه السلام ليعرف محمداً صلى الله عليه وسلم أن تلك المحن التي أصابته كانت حاصلة لموسى، أتبعه دلالة على رحمته وزيادة في تسلية نبيه قصة إبراهيم عليه السلام وهي القصة الثانية بقوله تعالى: {واتل} أي: اقرأ قراءة متتابعة يا أشرف الخلق {عليهم} أي: كفار مكة وقوله تعالى: {نبأ} أي: خبر {إبراهيم} قراءة نافع وابن كثر وأبو عمرو في الوصل بتسهيل الهمزة الثانية، وحققها الباقون، وفي الابتداء بالثانية الجميع يحققون ويبدل منه. {إذ} أي: حين {قال لأبيه وقومه} منبهاً لهم على ضلالهم لا مستعلماً لأنه كان عالماً بحقيقة حالهم ولكنه سألهم بقوله: {ما} أي: أي شيء {تعبدون} أي: تواطئون على عبادته ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول للتاجر ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول الرقيق جمال وليس بمال. {قالوا} في جوابه {نعبد أصناماً} ، فإن قيل: قوله عليه السلام ما تبعدون سؤال عن المعبود فحسب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 فكان القياس أن يقولوا أصناماً كقوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة: 219) وكذا قوله تعالى: {ماذا قال ربكم قالوا الحق} (سبأ: 23) وكقوله تعالى: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً} ؟ (النحل: 30) أجيب: بأنّ هؤلاء قد أجابوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين فاشتملت على جواب إبراهيم عليه السلام وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار، ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم: نعبد {فنظل لها عاكفين} ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده، ومثاله أن تقول لبعض الشطار ما تلبس في بلادك فيقول: ألبس البرد إلا تحمى فأجر ذيله بين جواري الحيّ، وإنما قالوا نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، يقال ظلّ يفعل كذا إذا فعل بالنهار، والعكوف: الإقامة على الشيء، ثم إن إبراهيم عليه السلام. {قال} منبهاً على فساد مذهبهم {هل يسمعونكم} أي: يسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة {إذ} أي: حين {تدعون} عليه، فعلى الأول: هي متعدّية لواحد اتفاقاً، وعلى الثاني: هي متعدية لاثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني وهو قول الفارسيّ، وعند غيره الجملة المقدرة حال، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام. {أو ينفعونكم} إن عبدتموهم {أو يضرّون} أي: يضرونكم إن لم تعبدوهم، ولما أقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام عليهم هذه الحجة الباهرة وهو أنّ الذي يعبدونه لا يسمع دعاءهم حتى يعرف مقصودهم ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرّ فكيف يعبد ما هذه صفته ولم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد. {قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك} أي: مثل فعلنا هذا الفعل العالي الشأن ولو لم يكن عند من نعبدهم شيء من ذلك، ثم صوّر إحالة آبائهم في نفوسهم تعظيماً لأمرهم بقولهم: {يفعلون} أي: فنحن نفعل كما فعلوا فإنهم حقيقيون منا بأن لا نخالفهم مع سبقهم لنا إلى الوجود فهم أرصن منا عقولاً وأعظم تجربة فلولا أنهم رأوا ذلك حسناً ما واظبوا عليه، وهذا تقليد محض خال عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها، ثم إنّ إبراهيم عليه السلام. {قال} معرضاً عن جواب كلامهم لما رآه ساقطاً لا يرتضيه عاقل {أفرأيتم} أي: تسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم أرأيتم، أي: إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظراً شافياً {ما كنتم تعبدون} أي: مواظبين على عبادتهم. {أنتم وآباؤكم الأقدمون} أي: الذين هم أقدم ما يكون فإنّ التقدم والأولية لا يكون برهاناً على الصحة، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدم. {فإنهم عدوّ لي} أي: أعداء لي، وإنما وحده على إرادة الجنس ويجيء العدوّ والصديق في معنى الواحد والجماعة، قال القائل: *وقوم على ذوي مثرة ... أراهم عدوّاً وكانوا صديقاً* ومنه قوله تعالى: {وهم لكم عدوّ} (الكهف: 50) تشبهاً بالمصادر كالحنين والصهيل، وقيل: هو من المقلوب أراد أني عدوّ لهم فإنّ من عاديته فقد عاداك، وقرأ نافع أفرايتم بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة، ولورش أيضاً إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، وحققها الباقون. فإن قيل: لم قال فإنهم عدوّ لي ولم يقل فإنها عدوّ لكم؟ أجيب: بأنه عليه السلام صور المسألة في نفسه بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي ولها عبادة للعدوّة فاجتنبتها وأراهم أنها نصيحة نصح بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى إلى القبول وأبعث إلى الاستماع منه، ولو قال فإنهم عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة ولأنه دخل في باب من التعريض وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمّل إلى التقبل، ومنه ما يحكى عن الشافعيّ رضي الله عنه أن رجلاً واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناساً يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا ببيتكم، وقوله {إلا رب العالمين} أي: مدبر هذه الأكوان كلها يصح أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى أنهم عدوّ لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فإني أعبده، وأن يكون متصلاً على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله تعالى فكأنه قال إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوّي بل هو ولي ومعبودي، ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضدّ الأقصى من كل ما عليه أصنامهم بقوله: {الذي خلقني} أي: أوجدني على هيئة التقدير والتصوير {فهو} أي: فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين} أي: إلى الرشاد ولا يعلم باطن المخلوق ويقدر على التصرف فيه غير خالقه ولا يكون خالقه إلا سميعاً بصيراً ضاراً نافعاً له الكمال كله وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارعة لتجددها وتكرّرها، لأنه تعالى لما أتم خلقه ونفخ فيه الروح عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كل ما يصلحه ويعينه وإلا فمن هداه إلى أن يتغذى بالدم في البطن امتصاصاً؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع إلى غير ذلك ديناً ودنياً. {والذي} أي: {هو} لا غيره {يطعمني ويسقين} أي: يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب ولو أراد أعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما. تنبيه: يجوز في والذي يطعمني ويسقين أن يكون مبتدأ وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه وكذا الذي بعده، ويجوز أن تكون أوصافاً للذي خلقني ودخول الواو جائز كقوله: *إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم* وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم. {وإذا مرضت} أي: باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينهما من التنافر الطبيعي {فهو} أي: وحده {يشفين} أي: بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها عن الاجتماع لا بطبيب ولا غيره. فإن قيل: لم أضاف المرض إلى نفسه مع أنّ المرض والشفاء من الله تعالى؟ أجيب: بأنه قال ذلك استعمالاً لحسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام {فأردت أن أعيبها} (الكهف: 79) وقال {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} (الكهف، 82) ، وأجاب الرازي بأنّ أكثر أسباب المرض محدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم، وبأنّ الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 ولا ينتقض ذلك بإسناد الإماتة إليه كما سيأتي، فإنّ الموت ليس بضرّ لأنّ شرط كونه ضرّاً وقوع الإحساس به وحال الموت لا يحصل الإحساس به إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، ولأنّ الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصها عنها عين السعادة بخلاف المرض. {والذي يميتني} يقبض روحي في الدنيا ليخلصني من آفاتها {ثم يحيين} للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض، ولهذا التراخي بين الموت والإحياء أتى بثم هنا لأنّ الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة، ولما ذكر البعث ذكر ما يترتب عليه بقوله: {والذي أطمع} هضماً لنفسه وإطراحاً لأعماله {أن يغفر} أي: يمحو أو يستر {لي خطيئتي} أي: تقصيري عن أن أقدره حق قدره {يوم الدين} أي: الجزاء. روي أنّ عائشة قالت قلت يا رسول الله: إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال. فإن قيل: لم قال والذي أطمع والطمع عبارة عن الظنّ والرجاء وهو عليه السلام كان قاطعاً بذلك؟. أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أن الله تعالى لا يجب عليه لأحد شيء، فإنه يحسن منه تعالى كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله. فإن قيل: لم أسند لنفسه الخطيئة مع أنّ الأنبياء معصومون؟ أجيب: بأنّ مجاهداً قال هي قوله: إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم هذا وقوله: لسارة هي أختي، ورد بأن هذه معاريض كلام وتخيلات للكفرة وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار، والأولى في الجواب أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: أطمع ولم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم وليكون لطفاً لهم باجتنابهم المعاصي والحذر منها وطلب المغفرة مما يفرط منهم، فإن قيل: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنما المغفرة في الدنيا؟ أجيب: بأنّ أثرها يتبين يومئذ وهو الآن خفي لا يعلم، ولما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثناء عليه ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته بقوله. {رب} أي: أيها المحسن إليّ {هب لي حكماً} أي: عملاً متقناً بالعلم، وقال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه، وقال الكلبيّ: النبوّة لأنّ النبيّ ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله، ثم بين أنّ الاعتماد إنما هو على محض الكرم فإن من نوقش الحساب عذب بقوله {وألحقني بالصالحين} أي: الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة وهم الأنبياء والمرسلون، وقد أجابه الله تعالى حيث قال {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (البقرة: 130) وفي ذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات، فإن قيل: لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء ولا سيما يروى عنه أنه قال حسبي من سؤالي علمه بحالي؟. أجيب: بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق لأنه قال فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين ثم ذكر الثناء ثم ذكر الدعاء لما أنّ الشارع لا بد له من تعليم الشرع فأمّا حين خلا بنفسه ولم يكن غرضه تعليم الشرع اقتصر على قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي. تنبيه: الإلحاق بالصالحين أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم أو يجمع بينه وبينهم في المنزلة والدرجة في الجنة، ثم إنه عليه السلام طلب زيادة في الآخرة بقوله: {واجعل لي لسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 صدق} أي: ذكراً جميلاً وقبولاً عاماً وثناءً حسناً بما أظهرت من خصال الخير {في الآخرين} أي: من الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين لأكون للمتقين إماماً، فيكون لي مثل أجورهم، فإنّ من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، قال ابن عباس: أعطاه الله تعالى بقوله: {وتركنا عليه في الآخرين} (الصافات: 78) أنّ أهل الإيمان يتولونه ويثنون عليه وقد جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيا الله تعالى بهم ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم من قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلى آخره، ولما طلب عليه السلام سعادة الدنيا وكان لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة طلبها بقوله: d {واجعلني} أي: مع ذلك كله بفضلك ورحمتك {من ورثة جنة النعيم} لأنّ فيها النظر إلى وجه الله الكريم وهو السعادة الكبرى، شبهها بالأرض الذي يحصل بغير اكتساب إشارة إلى أنها لا تنال إلا بمنه وكرمه لا بشيء من ذلك، ولما دعا لنفسه ثنى بأحق الخلق ببره بقوله: {واغفر لأبي} بالهداية والتوفيق إلى الإيمان لأنّ المغفرة مشروطة بالإيمان وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله: {واغفر لأبي} كأنه دعاء له بالإيمان، وقيل: إنّ أباه وعده بالإسلام لقوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} (التوبة: 114) فدعا له قيل: أن يتبين له أنه عدوّ لله كما سبق في سورة التوبة، وقيل: إنّ أباه قال له أنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً وتقيةً وخوفاً فدعا له لاعتقاده أنّ الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه {إنه كان من الضالين} فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضالّ لما قال ذلك، وقيل: إن الاستغفار للكفار لم يكن ممنوعاً إذ ذاك. {ولا تخزني} أي: تفضحني {يوم يبعثون} أي: العباد، فإن قيل: كان قوله: {واجعلني من ورثة جنة النعيم} كافياً عن هذا وأيضاً قال تعالى: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} (النحل: 27) فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟ أجيب: بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكذا درجات الأبرار خزي المقرّبين وخزي كل واحد بما يليق به، ولما نبه عليه السلام على أنّ المقصود هو الآخرة صرح بالتنزيه في الدنيا بقوله: {يوم لا ينفع} أي: أحداً {مال} أي: يفتدى به أو يبذله لشافع أو ناصر وقاهر {ولا بنون} ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم، وفي استثناء قوله: {إلا من} أوجه: أحدها: أنه منقطع وجرى عليه الجلال المحلي أي: لكن من {أتى الله بقلب سليم} فإنه ينفعه ذلك، الثاني: أنه مفعول به لقوله تعالى: لا ينفع أي: لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البرّ وبنوه الصلحاء لأنه علمهم وأحسن إليهم، الثالث: أنه بدل من المفعول المحذوف ومستثنى منه إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته. واختلف في القلب السليم على أوجه: قال الرازي أصحها: أنّ المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة، الثاني: أنه الخالص من الشرك والنفاق وهو قلب المؤمن وجرى على هذا الجلال المحلي وأكثر المفسرين، فإنّ الذنوب قل أن يسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 منها أحد، وهذا معنى قول سعيد بن المسيب. السليم: هو الصحيح وهو قلب المؤمن فإن قلب الكافر والمنافق مريض، قال تعالى: {في قلوبهم مرض} (البقرة: 10) الثالث: أنه الذي سلم وسلّم وأسلم وسالم واستسلم، الرابع: أنه هو اللديغ أي: القلق المنزعج من خشية الله، لكن قال الزمخشريّ: أنّ القولين الأخيرين من بدع التفاسير، وقوله تعالى: {وأزلفت الجنة} حال من واو يبعثون، ومعنى أزلفت قربت أي: قربت الجنة {للمتقين} فتكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها زيادة إلى شرفهم. {وبرّزت الجحيم} أي: كشفت وظهرت النار الشديدة {للغاوين} أي: الكافرين فيرونها مكشوفة ويحشرون على أنهم المسوقون إليها زيادة في هوانهم. تنبيه: في اختلاف الفعلين بترجيح لجانب الوعد على الوعيد حيث قال في حق المتقين وأزلفت أي: قربت وفي حق الغاوين وبرّزت أي: أظهرت ولا يلزم من الظهور القرب. {وقيل لهم} تبكيتاً وتنديماً وتوبيخاً، وأبهم القائل ليصلح لكل أحد تحقيراً لهم، ولأنّ المراد نفس القول لا كونه من معين {أينما} أي: أين الذي {كنتم تعبدون} في الدنيا، ثم حقر معبوداتهم بقوله تعالى: {من دون} أي: من أدنى رتبة من رتب {الله} أي: الملك الذي لا كفء له، وكنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ويقونكم شرّ هذا اليوم {هل ينصرونكم} بدفع العذاب عنكم {أو ينتصرون} بدفعه عن أنفسهم. {فكبكبوا} أي: فتسبب عن عجزهم أن ألقوا {فيها} أي: في مهواة الجحيم {هم} أي: الأصنام وما شابهها من الشياطين ونحوهم {والغاوون} أي: الذين ضلوا بهم، والكبكبة: تكرار الكب لتكرير معناه كأنّ من ألقى في النار ينكب مرّة بعد أخرى حتى يستقرّ في قعرها، وقال الزجاج: طرح بعضهم فوق بعض، وقال القتيبي: ألقوا على رؤوسهم. {وجنود إبليس} وهم اتباعه ومن أطاعه من الإنس والجنّ، وقيل ذريته {أجمعون} ولما لم يتمكنوا من قول في جواب استفهامهم قبل إلقائهم. {قالوا} أي: العبدة {وهم فيها} أي: الجحيم {يختصمون} أي: مع المعبودات وقولهم: {تالله} أي: الذي له جميع الكمال {إن كنا لفي ضلال مبين} أي: ظاهر جدّاً لمن كان له قلب سليم معمول قولهم وما بينهما، وهو وهم فيها يختصمون جملةً حاليةً معترضةً بين القول ومعموله وقيل: إنّ الأصنام تنطق وتخاصم العبدة، ويؤيده الخطاب في قولهم: {إذ} أي: حين {نسويكم برب العالمين} في استحقاق العبادة. تنبيه: إذ منصوب إما بمبين أو بمحذوف أي: ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة. {وما أضلنا} أي: ذلك الضلال المبين عن الطريق البين {إلا المجرمون} أي: الأولون الذين اقتدينا بهم من رؤسائنا وكبرائنا كما في آية أخرى {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلاً} (الأحزاب: 67) وعن ابن جريح: إبليس وابن آدم الأوّل وهو قابيل وهو أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي. {فما} أي: فتسبب عن ذلك أنه ما {لنا} اليوم وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجار فقالوا {من شافعين} يكونون سبباً لإدخالنا الجنة كالمؤمنين تشفع لهم الملائكة والنبيون. {ولا صديق حميم} أي: قريب يشفع لنا يقول ذلك الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، والصديق: هو الصادق في ودادك الذي يهمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 ما أهمك مع موافقة الدين، وعن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم فيقول الله تعالى أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار فما لنا من شافعين ولا صديق حميم» قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإنّ لهم شفاعة يوم القيامة، فإن قيل: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ أجيب: بأنّ الشفعاء كثيرون في العادة رحمة له وحسبة وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك، قال الزمخشري: فأعز من بيض الأنوق انتهى. قال الجوهريّ: الأنوق على فعول طير وهو الرخمة وفي المثل أعز من بيض الأنوق لأنها محرزة فلا يكاد يظفر بها لأنّ أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة، وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال اسم لا معنى له: أي: لا يوجد ولما وقعوا في هذا الهلاك وانتفى عنهم الخلاص تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا. {فلو أن لنّا كرّة} أي: رجعة إلى الدنيا {فنكون من المؤمنين} أي: الذين صار الإيمان لهم وصفاً لازماً فأزلفت لهم الجنة. تنبيه: انظر ما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أوّلاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وعلى تقليدهم آباؤهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وجل فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله تعالى وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا. {إن في ذلك} أي: المذكور من قصة إبراهيم وقومه {لآية} أي: عظة على بطلان الباطل وحقوق الحق {وما} أي: والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي: الذين شهدوا منهم هذا الأمر العظيم الذي سمعوه عنه {مؤمنين} أي: بحيث صار الإيمان صفة لهم ثابتة وفي ذلك أعظم تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم {وإن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وهداية الأمة بك {لهو العزيز} أي: القادر على إيقاع النقمة بكل من خالفه حين يخالفه {الرحيم} أي: الفاعل فعل الراحم في إمهاله العصاة مع إدرار النعم ودفع النقم وإرسال الرسل ونصب الشرائع لكي يؤمنوا أو أحد من ذرّيتهم، ولما أتم سبحانه وتعالى قصة الأب الأعظم الأقرب إبراهيم عليه السلام أتبعها بقصة الأب الثاني وهو نوح عليه السلام وهي القصة الثالثة مقدمها لها على غيرها لما له من القدم في الزمان إعلاماً بأنّ البلاء قديم ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنعمة اللتين هما أثراً لغرة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم ثم تعميم النعمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال: {كذبت قوم نوح} وهم أهل الأرض كلها من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرّق اللغات {المرسلين} أي: بتكذيبهم نوحاً عليه السلام لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة ومن كذب بالمعجزة فقد كذب بجميع المعجزات لتساوي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 أقدامها في الدلائل على صدق الرسول، وقد سئل الحسن البصري عن ذلك فقال: من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الكل لأنّ الأخير جاء بما جاء به الأوّل. تنبيه: القوم يؤنث باعتبار معناه ولذا يصغر على قويمة، ويذكر باعتبار لفظه وتذكيره أشهر، واختير التأنيث ههنا للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال وإلى أنهم مع عتوّهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه وتعالى أهون شيء وأضعفه بحيث جعلهم هباءً منثوراً وكذا من بعدهم ولأجل التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة. {إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في النسب لا في الدين {نوح} وذكر الأخوة زيادة في تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم وأشار تعالى إلى حسن أدب نوح عليه السلام مع قومه واستجلابهم برفقه ولينه بقوله لهم {ألا تتقون} الله بأن تجعلوا بينكم وبينه وبين الحفظة وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله: {إني لكم} أي: مع كوني أخاكم يسرّني ما يسرّكم ويسوءني ما يسوءكم {رسول} أي: من عند خالقكم فلا مندوحة لي عما أمرت به {أمين} أي: مشهور بالأمانة بينكم لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم لي ثم تسبب عن ذلك الرفق الجزم بالأمر فقال: {فاتقوا الله} أي: أوجدوا الخوف والحذر والتحرز الذي اختص بالجلال والجمال لتحوزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة {وأطيعون} فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته ثم نفى عن نفسه التهمة بعد أن أثبت أمانته بقوله. {وما أسألكم عليه} أي: على هذا الحال الذي أتيتكم به وأشار إلى الإغراق في النفي بقوله {من أجر} لتظنوا أني جعلت الدعاء سبباً لذلك، ثم أكد النفي بقوله {إن} أي: ما {أجري} أي: ثوابي في دعائي لكم {إلا على رب العالمين} أي: الذي دبر جميع الخلائق ورباهم، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء في أجري في المواضع الخمسة في هذه السورة، والباقون بالسكون ولما انتفت التهمة تسبب عن انتفائها إعادة ما قدمه إعلاماً بالاهتمام به زيادة في الشفقة عليهم فقال: {فاتقوا الله} أي: الذي حاز جميع صفات العظمة {وأطيعون} ولما أقام الدليل على نصحه وأمانته. {قالوا} أي: قومه منكرين عليه ومنكرين لاتباعه استناداً إلى الكبر الذي ينشأ عنه بطر الحق وغمص الناس أي: احتقارهم {أنؤمن لك} أي: لأجل قولك هذا وما أوتيته من أوصافك {و} الحال أنه قد {اتبعك الأرذلون} أي: فيكون إيماننا بك سبباً لاستوائنا معهم، والرذالة: الخسة والذلة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، قيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة والصناعة لا تزري بالديانة وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زالت أتباع الأنبياء كذلك حتى كادت من سماتهم وأماراتهم، ألا ترى إلى هرقل حيث سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال ضعفاء الناس وأراذلهم قال: مازالت أتباع الأنبياء كذلك، وعن ابن عباس هم الفاتحة، وعن عكرمة الحاكة والإساكفة، وعن مقاتل السفلة ولما كانت هذه الشبهة في غاية الركاكة لأنّ نوحاً بعث إلى جميع قومه فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها أجابهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 بقوله: {قال وما} أي: أي شيء {علمي بما كانوا يعملون} قبل أن يتبعوني أي: مالي وللبحث عن سرائرهم، وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا هوى وبديهة كما حكى الله عنهم في قوله: {الذين هم أراذلنا بادي الرأي} (هود: 27) ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله: {إن} أي: ما {حسابهم} أي: في الماضي والآتي {إلا على ربي} أي: المحسن إليّ فهو محاسبهم ومجازيهم، وأمّا أنا فلست بمحاسب ولا مجاز {لو تشعرون} أي: لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم ما هو دائر على أمور الدنيا فقط ولا نظر له إلى يوم الحساب، فإنّ الغنى غنى الدين والنسب نسب التقوى، ولما أوهم قولهم: هذا استدعاء طرد هؤلاء الذين آمنوا معه وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا أتباعهم المانع عنه أجابهم بقوله عليه السلام. {وما} أي: ولست {أنا بطارد المؤمنين} أي: الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من أتباع شهواتكم، ثم علل ذلك بقوله: {إن أنا إلا نذير} أي: محذر لا وكيل فاتش على البواطن ولامتنعت عن الاتباع {مبين} أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً، وقرأ قالون بمدّ أنا في الوصل بخلاف عنه، والباقون بالقصر، ولما أجابهم بهذا الجواب وقد أيسوا مما راموه لم يكن منهم إلا التهديد بأن. {قالوا لئن لم تنته} ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب بقولهم: {يا نوح} عما تقوله {لتكونن من المرجومين} قال مقاتل والكلبي: من المقتولين بالحجارة، وقال الضحاك: من المشتومين فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم فلذلك. {قال} شاكياً إلى الله ما هو أعلم به منه توطئة للدّعاء عليهم ومعرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {رب} أي: أيها المحسن إليّ {إنّ قومي كذبون} أي: فيما جئت به فليس الغرض من هذا إخبار الله بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة ولكنه أراد لا أدعوك عليهم لما آذوني وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك. {فافتح} أي: احكم {بيني وبينهم فتحاً} أي: حكماً يكون لي فيه فرج وبه من المضيق مخرج فأهلك المبطلين {ونجني ومن معي} أي: في الدين {من المؤمنين} مما تعذب به الكافرين، ثم لما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف أظهره في مظهر العظمة بقوله تعالى: {فأنجيناه ومن معه} أي: الذين اتبعوه في الدين على ضعفهم وقلتهم {في الفلك} أي: السفينة وجمعه فُلك قال الله تعالى: {وترى الفلك فيه مواخر} (فاطر: 12) قالوا حد بوزن قفل والجمع بوزن أسد، وقال تعالى {المشحون} أي: الموقور المملوء من الناس والطير والحيوان لأنّ سلامة المملوء جداً أغرب، ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد فقال تعالى: {ثم أغرقنا بعد} أي: بعد إنجاء نوح ومن معه {الباقين} أي: من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوّتهم وكثرتهم. {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك {لأية} أي: عظة لمن شاهد ذلك أو سمع به {وما} أي: والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي: العالمين بذلك {مؤمنين} وقد كان ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان بمحض الدليل أن يبادروا بالإيمان حين رأوا أوائل العذاب. {وإن ربك} المحسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 إليك بإرسالك وتكثير أتباعك وتعظيم أشياعك {لهو العزيز} أي: القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة وإهلاكهم في أوّل أوقات المعصية {الرحيم} أي: الذي يخص من شاء من عباده بخالص وداده. ولما فرغ من ذكر قصة نوح عليه السلام شرع في قصة هود عليه السلام وهي القصة الرابعة فقال تعالى: {كذبت عاد} أي: تلك القبيلة التي مكن الله تعالى لها في الأرض بعد قوم نوح {المرسلين} بالأعراض عن معجزة هود عليه السلام، ثم سلى محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في النسب لا في الدين {هود} بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم {ألا تتقون} أي: يكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدونه ولا تشركون به ما لا يضرّكم ولا ينفعكم، ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم رسول} أي: فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك {أمين} أي: لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه. {فاتقوا} أي: فتسبب عن ذلك أن أقول لكم اتقوا {الله} أي: الذي هو أعظم من كل شيء {وأطيعون} أي: في كل ما آمركم به من طاعة الله وترك معاصيه ومخالفته ثم نفى عن نفسه التهمة في دعائه لهم بقوله: {وما} أي: والحال أني ما {أسألكم عليه} أي: دعائي لكم {من أجر} فتتهموني به وإنما أنا رسول داع {إن} أي: ما {أجري} أي: ثوابي {إلا على رب العالمين} فهو الذي يثيب العبد على عمله، ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه لأنّ حالهم حال الناسي لذلك الطوفان الذي أهلك الحيوان وأهدم البنيان بقوله لهم: {أتبنون بكل ريع} جمع ريعة وهو في اللغة المكان المرتفع، ومنه قولهم: كم ريع أرضك وهو ارتفاعها، وقال ابن عباس: الريع كل شرف، وقال مجاهد: هو الفج بين الجبلين، وقال الضحاك: هو كل طريق {آية} أي: علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض ذلك ولكنكم {تعبثون} بمن يمرّ في الطريق إلى هود عليه السلام وتسخرون منه، والجملة حال من ضمير تبنون، وقيل: كانوا يبنون الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم فنهوا عن ذلك ونسبوا إلى العبث، وقال سعيد بن جبير: هي بروج الحمام لأنهم كانوا يلعبون بالحمام، ثم ذكرهم بزوال الدنيا بقوله. {وتتخذون مصانع} قال مجاهد: قصوراً مشيدة، وقال الكلبي هي الحصون، وقال قتادة: هي مأخذ الماء يعني الحياض واحدها مصنعة، ولما كان هذا الفعل حال الراجي للخلود قال لهم {لعلكم} أي: كأنكم {تخلدون} فيها فلا تموتون، ثم بين لهم أفعالهم الخبيثة بقوله: {وإذا بطشتم} أي: أردتم البطش بأحد بضرب أو قتل {بطشتم جبارين} أي: من غير رأفة، قال البغويّ: والجبار: الذي يضرب ويقتل على الغضب. تنبيه: إنما قدّرنا الإرادة لئلا يتحد الشرط والجزاء، وجبارين حال، ولما خوّفهم هود عليه السلام بهذا الإنكار وهو أنّ اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب الدنيا واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء والجبارية تدل على حب التفرد بالعلوّ وهي ممتنعة الحصول للعبد وخوّفهم بهذا الإنكار عقاب الجبار تسبب عن ذلك قوله: {فاتقوا الله} أي: الذي له صفات الجلال والإكرام {وأطيعون} زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالشرف والتجبر، ثم وصل هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 الوعظ بما يؤكد القبول بأن نبههم على نعم الله تعالى عليهم بقوله: {واتقوا الذي أمدّكم} أي: جعل لكم مدداً وهو اتباع الشيء ما يقوّ به على الانتظام {بما تعلمون} أي: ليس فيه نوع خفاء حتى تغفلوا عن تقييد بالشكر، ثم فصل ذلك المجمل بقوله: {أمدّكم بأنعام} تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون {وبنين} . يعينونكم على ما تريدون عند العجز. {وجنات} أي: بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها {وعيون} أي: أنهار تشربون منها وتسقون أنعامكم وبساتينكم ثم خوّفهم بقوله: {إني أخاف عليكم} قال ابن عباس: إن عصيتموني أي: فإنكم قومي يسوءني ما يسوءكم {عذاب يوم عظيم} في الدنيا والآخرة فإنه كما قدر على الإنعام فهو قادر على الانتقام وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب، ولما بالغ عليه السلام في وعظهم وتنبيههم على نعم الله تعالى حيث أجملها ثم فصلها مستشهد بعلمهم وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال: {أمدّكم بما تعلمون} ثم عدّدها عليهم وعرّفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة قادر على الانتقام منكم ولم يقدّر الله تعالى هدايتهم. {قالوا} له راضين بما هم عليه {سواء علينا أوعظت} أي: خوفت وحذرت {أم لم تكمن من الواعظين} فإنا لا نرعوي عما نحن فيه، فإن قيل: لو قيل أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد؟ أجيب: بأنّ ذلك لتواخي القوافي، أو لأنّ المعنى ليس واحداً بل بينهما فرق لأنّ المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشريه فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ، وقرأ قوله تعالى: أي: ما {هذا} أي: الذي جئتنا به {إلا خلق الأولين} نافع وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الخاء واللام أي: ما هذا الذي نحن فيه إلاعادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين وعافية قوم وبلاء آخرين، وقرأ الباقون بضم الخاء وسكون اللام أي: ما هذا إلا كذب الأولين. {وما نحن بمعذبين} أي: على ما نحن عليه لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبلاغة وبراعة، لما تضمن هذا التكذيب تسبب عنه قوله تعالى: {فكذبوه} ثم تسبب عن تكذيبهم قوله تعالى: {فأهلكناهم} أي: في الدنيا بريح صرصر، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة الحاقة {إن في ذلك} أي: الإهلاك في كل قرن للمكذبين والإنجاء للمصدقين {لآية} أي: عظيمة لمن بعدهم على أنه تعالى فاعل ذلك وحده وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذلّ وأنه على أعدائه ومن كان عليه لا يعز {وما كان أكثرهم} أي: أكثر من كان بعدهم {مؤمنين} أي: فلا تحزن أنت يا أشرف الرسل على من أعرض عن الإيمان. {وإن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم {لهو العزيز} في انتقامه ممن عصاه {الرحيم} في إنعامه وإكرامه وإحسانه مع عصيانه وكفرانه وإرسال المرسلين وتأييدهم بالآيات المعجزة. ثم أتبع قصة هود عليه السلام قصة صالح عليه السلام وهي القصة الخامسة بقوله تعالى: {كذبت ثمود} وهم أهل الحجر {المرسلين} وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار المثناة عند المثلثة، والباقون بالإدغام وأشار تعالى إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 أي: في النسب لا في الدين {صالح} بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم كقول من تقدم قبله {ألا تتقون} الله، ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم رسول} من رب العالمين فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك {أمين} في جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم الذي لا أحد أرحم منه بكم، ثم تسبب عن قوله: {إني لكم رسول} قوله: {فاتقوا الله} أي: الذي له الغنى المطلق {وأطيعون} فيما أتيت به من عند الله، ثم نفى عنه ما فديتموهم ممن لا عقل له بقوله: {وما أسألكم عليه} أي: ما جئتكم به، وأغرق في النفي بقوله {من أجر} ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله: {إن} أي: ما {أجري} على أحد {إلا على رب العالمين} فهو المتفضل المنعم على خلقه، ثم شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره بقوله: {أتتركون} أي: من أيدى النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى {في ما ههنا} أي: في بلادكم هذه من النعم حالة كونكم {آمنين} لا تخافون وأنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم. فائدة: تكتب في ما ههنا في مقطوعة عن ما، ثم فسر ما أجمله بقوله: {في جنات} أي: بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها {وعيون} تسقيها من مالها من البهجة وغير ذلك من المنافع. {وزروع} أي: من سائر الأنواع {ونخل طلعها} أي: ما يطلع منها من الثمر {هضيم} قال ابن عباس: هو اللطيف، ومنه قوله: كشح هضيم، وقيل: هو الجواد الكريم من قولهم: يد هضوم إذا كانت تجود بما لديها، وقال أهل المعاني هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر، والطلع: عنقود الثمر قبل خروجه من الكمّ، وقال الزمخشري: الطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنوهر اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه. فإن قيل: لم قال ونخل بعد قوله: {في جنات} والجنة تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير: *تسقى جنة سحقاً* وسحقاً: جمع سحوق، ولا يوصف به إلا النخل؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على انفراده عنها بفضله عليها، الثاني: أن يريد بالجنات غيرها من الشجر لأنّ اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل، ولما ذكر ما أنعم الله تعالى به عليهم أتبعه أفعالهم الخبيثة بقوله: {وتنحتون} أي: والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة {من الجبال} وقرأ {بيوتاً} ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء، والباقون بكسرها، وقرأ {فرهين} ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء، أي: حاذقين، وقرأ الباقون بغير ألف، أي: بطرين لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك. {فاتقوا} أي: فتسبب عن ذلك. أني أقول لكم اتقوا {الله} الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره واجتناب زواجره {وأطيعون} أي: في كل ما أمرتكم به عنه فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم. {ولا تطيعوا أمر المسرفين} أي: المجاوزين للحدود، وقال ابن عباس: المشركين، وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة. تنبيه: استعير الطاعة التي هي انقياد للآمر لامتثال الأمر، أو جعل الأمر مطاعاً على المجاز الحكمي والمراد الآمر، ومنه قولهم: لك على أمرة مطاعة وقوله تعالى: {وأطيعوا أمري} (طه: 90) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 ثم وصف المسرفين بما بين سرفهم بقوله. {الذين يفسدون في الأرض} بالمعاصي {ولا يصلحون} أي: ولا يطيعون الله في أمرهم به، فإن قيل: فما فائدة ولا يصلحون بعد قوله: يفسدون؟ أجيب: بأنّ في ذلك دلالة على خلوص فسادهم فليس فيه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطاً ببعض الصلاح، ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن. {قالوا إنما أنت من المسحرين} قال مجاهد وقتادة: من المسحورين المخدوعين، أي: ممن سحر مرة بعد مرة، أي: حتى غلب على عقله، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أي: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ولست بملك وعلى هذا يكون قولهم: {ما أنت إلا بشر مثلنا} تأكيداً له، قيل المسحور: هو المخلوق بلغة بجيلة أي: فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة {فأت بآية} أي: علامة تدل على صدقك {إن كنت من الصادقين} أي: الراسخين في الصدق فقال لهم صالح: ما تريدون قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً فأخذ صالح يتفكر فقال له جبريل صلّ ركعتين وسل ربك الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقباً مثلها في العظم، وعن أبي موسى رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعاً فلما رآها. {قال} لهم صالح {هذه ناقة} أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم {لها شرب} أي: نصيب من الماء في يوم معلوم {ولكم شرب يوم} أي: نصيب من الماء في يوم {معلوم} لا زحام بينكم وبينها، وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم ولا تشرب في يومهم ماء. {ولا تمسوها بسوء} كضرب وعقر، ثم خوّفهم بما تسبب عن عصيانهم بقوله: {فيأخذكم} أي: يهلككم {عذاب يوم عظيم} بسبب ما حل فيه من العذاب فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظيم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله. {فعقروها} أي: فقتلوها بضرب ساقها بالسيف وأسند العقر إلى كلهم لأنّ عاقرها إنما عقر برضاهم فكأنهم فعلوا ذلك {فأصبحوا} أي: فتسبب عن عقرهم لها أنهم أصبحوا حين رأوا مخايل العذاب {نادمين} على عقرها من حيث إنه يفضي إلى العقاب والهلاك لا من حيث إنه معصية الله ورسوله وليس على وجه التوبة، أو كان ذاك عند رؤية البأس فلم ينفعهم. {فأخذهم العذاب} أي: العذاب الموعود على عقرها {إن في ذلك} أي: ما تقدم في هذه القصة من الغرائب {لآية} أي: دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله {وما} أي: والحال أنه مع ذلك ما {كان أكثرهم مؤمنين} بل استمرّوا على ما هم عليه. {وإنّ ربك} أي: المحسن إليك بأحسن الأخلاق {لهو العزيز} أي: فلا يخرج شيء عن قبضته وإرادته {الرحيم} أي: في كونه لم يهلك أحداً حتى يرسل إليهم رسولاً يبين لهم ما يرتضيه الله تعالى وما يسخطه. ثم أتبع قصة صالح عليه السلام قصة لوط عليه السلام وهي القصة السادسة فقال: أي: كتكذيب من تقدم كأنهم تواصوا به {قوم لوط المرسلين} لأنّ من كذب رسولاً كما مضى فقد كذب الكل ثم بين إسراعهم في الضلال بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في البلد لا في الدين ولا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام وهما من بلاد الشرق من أرض بابل، وكأنه عبر بالأخوة لاختياره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 لمجاورتهم ومناسبتهم بمصاهرتهم وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة وسنين عديدة وإتيانه بالأولاد من نساءهم مع موافقته لهم في أنه قروي ثم بينه بقوله تعالى: {لوط} بصيغة العرض كغيره ممن تقدم {ألا تتقون} الله فتجعلون بينكم وبين سخطه وقاية، ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم} أي: خاصة {رسول} فلا تسعني المخالفة {أمين} لا غش عندي ولا خيانة، ثم تسبب عن ذلك قوله: {فاتقوا الله} أي: الملك العظيم فإنه قادر على ما يريد فلا تعصوه {وأطيعون} أي: لأنّ طاعتي سبب نجاتكم لأني لا آمركم إلا بما يرضيه ولا أنهاكم إلا عما يغضبه ثم نفى عن نفسه ما يتوهم كما تقدم لغيره بقوله: {وما أسألكم عليه} أي: الدعاء إلى الله تعالى {من أجر} أي: فتتهموني بسببه {إن أجري إلى على رب العالمين} أي: المحسن إليّ بإيجادكم ثم بتربيتكم، ثم وبخهم ووعظهم بقوله: {أتأتون الذكران} وقوله {من العالمين} يحتمل عوده إلى الآتي، أي: أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة وهي إتيان الذكور ولم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق، ويحتمل عوده إلى المأتي: أي: أنتم اخترتم الذكران من العالمين كالإناث منهم وعلى هذا يحتمل أن يراد الذكران من الآدميين ومن غيرهم توغلاً في الشرّ وتجاهراً بالتهتك، قال البقاعي: وإن يراد الآدميون وجرى عليه البغوي وأكثر المفسرين أي: تريدون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث وغلبتهنّ. {وتذرون} أي: تتركون لهذا الغرض {ما خلق لكم} أي: للنكاح {ربكم} أي: المحسن إليكم وقوله {من أزواجكم} يصلح أن يكون تبييناً أي: وهن الإناث وأن يكون للتبعيض ويكون المخلوق لذلك هو القبل، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، ثم كأنهم قالوا نحن لم نترك نساءنا أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أنّ مراده تركهن حال الفعل في الذكور، فقال مضرباً عن مقالهم لما أرادوا به حيدة عن الحق وتمادياً في الفجور {بل أنتم قوم عادون} أي: متجاوزون عن حدّ الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل والحيوانات أي: مفرطون في المعاصي، وهذا من جملة ذلك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان بارتكابكم هذه الجريمة، ولما اتضح الحق عندهم وعرفوا أن لا وجه لهم في ذلك وانقطعت حجتهم. {قالوا} مقسمين {لئن لم تنته} وسموه باسمه جفاء وغلظة بقولهم: {يا لوط} أي: عن مثل إنكارك هذا علينا {لتكونن من المخرجين} أي: ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع من تعنيف واحتباس أملاك كما هو حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه وكما كان يفعل بعض أهل مكة بمن يريد المهاجرة، وفي هذا إشارة إلى أنه غريب عندهم وأنّ عادتهم المستمّرة نفي من اعترض عليهم. {قال} مجيباً لهم {إني} مؤكداً المضمون ما يأتي به {لعملكم من القالين} أي: المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد. تنبيه: قوله من القالين: أبلغ من أن يقول إني لعملكم قالٍ كما تقول فلان من العلماء فيكون أبلغ من قولك فلان عالم لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم، والقلي: البغض الشديد كأنّ البغض يقلي الفؤاد والكبد والقالي المبغض كما قال القائل: *ووالله ما فارقتكم قالياً لكم ... ولكن ما يقضى عليّ يكون* الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 ثم إنه عليه السلام دعا إلى الله تعالى بقوله: {رب نجني وأهلي} وقوله: {مما يعملون} يحتمل أن يريد من عقوبة عملهم، قال الزمخشري: وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد بالتنجية العصمة، ثم إنّ الله تعالى قبل دعاءه كما قال تعالى: {فنجيناه وأهله} مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين استخفافهم له ولم نؤخره عنهم إلى حين خروجهم إلا لأجله، وأكد بقوله تعالى: {أجمعين} إشارة إلى أنه نجى أهل بيته ومن تبعه على دينه، ثم استثنى تعالى من أهل بيته قوله تعالى: {إلا عجوزاً} وهي امرأته كائنة {في} حكم {الغابرين} أي: الماكثين الذين تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لم ننجها لقضائنا بذلك في الأزل لكونها لم تتابعه في الدين ولم تخرج معه وكانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم، وقيل: أنها خرجت فأصابها حجر في الطريق فأهلكها. فإن قيل: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة فكيف استثنيت الكافرة منهم؟ أجيب: بأنّ الاستثناء إنما وقع من أهل بيته كما مرّت الإشارة إليه وفي هذا الاسم لها معهم مشركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان، فإن قيل: في الغابرين صفة لها كأنه قيل إلا عجوزاً في الغابرين غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم؟ أجيب: بأنّ معناه إلا عجوزاً مقدّراً غبورها، أو في حكمهم كما مرت الإشارة إليه. {ثم دمرنا} أي: أهلكنا {الآخرين} أي: المؤخرين عن اتباع لوط وفي التعبير بلفظ الآخرين إشارة إلى تأخرهم من كل وجه، ثم لما كان المراد بقوله تعالى: دمرنا حكمنا بتدميرهم عطف عليه قوله: {وأمطرنا عليهم مطراً} قال وهب بن منبه: الكبريت والنار، وقال قتادة: أمطر الله تعالى على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكتهم {فساء مطر المنذرين} اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إلى المنذرين فاعل ساء وذلك لأنّ فاعل فعل الذمّ أو المدح يجب أن يكون معرفاً بلام الجنس، أو مضافاً إلى المعرف بلام الجنس ليحصل الإبهام المقصود ثم التفصيل ولا يأتي ذلك في لام العهد، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم. {إن في ذلك} أي: إنجاء لوط ومن معه وإهلاك هؤلاء الكفار الفجار {لآية} أي: دلالة عظيمة على ما يصدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم، ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن بعدهم قد علموا أخبارهم وضموا إلى تلك الأخبار نظر الديار والتوسم في الآثار، قال تعجباً من حالهم في ضلالهم {وما} أي: والحال أنه ما {كان أكثرهم مؤمنين} بما وقع لهؤلاء. {وإن ربك} وحده {لهو العزيز} أي: في بطشه لأعدائه {الرحيم} في لطفه بأوليائه. ثم أتبع قصة لوط عليه السلام بقصة شعيب عليه السلام وهي القصة السابعة قال تعالى: {كذب أصحاب الأيكة} أي: الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف {المرسلين} لتكذيبهم شعيباً عليه السلام فيما أتى به من المعجزة المساوية في خرق العادة وعجز المتحدين بها عن مقاومتها لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر لَيكة بلام مفتوحة من غير ألف وصل وياء ساكنة ولا همزة قبلها وفتح تاء التأنيث، والباقون بإسكان اللام وقبلها وصل وبعد اللام همزة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وخفض تاء التأنيث، قال أبو عبيدة: وجدنا في بعض التفاسير الفرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 بين ليكة والأيكة فقيل: ليكة هو اسم للقرية التي كانوا فيها، والأيكة: البلاد كلها فصار الفرق بينهما شبيهاً لما بين مكة وبكة، ثم بين تعالى وقت تكذيبهم بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم شعيب} برفق ولطف {ألا تتقون} الله الذي تفضل عليكم بنعمه ولم يقل أخوهم شعيب لأنه لم يكن من أهل الأيكة في النسب لأنهم كانوا أهل بدو وكان عليه السلام قروياً، لأنّ الله تعالى لم يرسل نبياً إلا من أهل القرى تشريفاً لهم، لأنّ البركة والحكمة في الاجتماع، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرب بعد الهجرة وقال: «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة ولما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً لأنه كان منهم وكان الله تعالى بعثه إلى قومه أهل مدين وأصحاب الأيكة، ثم أكد ما قاله بقوله: {إني} وأشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله {لكم رسول} أي: من عند الله فهو أمرني أن أقول لكم ذلك {أمين} أي: لا خيانة عندي ولا غش فلذلك أبلغ جميع ما أرسلت به ولذلك تسبب عنه قوله: {فاتقوا الله} أي: المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها {وأطيعون} لما ثبت من نصحي لكم، ثم ذكر ما ذكر من تقدّمه من الأنبياء من نفي ما يتوهم أنّ لهم رغبة في أجرة على دعائهم فقال: {وما أسألكم عليه} أي: دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى {من أجر} ثم زاد في البراءة من الطمع في أحد من الخلق بقوله {إن} أي: ما {أجري إلا على رب العالمين} أي: المحسن إلى الخلائق كلهم فأنا لا أرجو أحداً سواه، ثم نصحهم بقوله: {أوفوا الكيل} أي: أتموه إتماماً لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم {ولا تكونوا من المخسرين} أي: الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن كما قال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} (المطففين: 1، 2) أي: الكيل {وإذا كالوهم} (المطففين: 2) أي: كالوا لهم {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم {يخسرون} (المطففين: 3) ينقصون الكيل أو الوزن. {وزنوا} أي: لأنفسكم ولغيركم {بالقسطاس} أي: الميزان الأقوم وأكد معناه بقوله {المستقيم} وقيل: هو بالرومية العدل، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف، والباقون بالضمّ. تنبيه: الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد، فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله تعالى: {أوفوا الكيل} ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله تعالى: {ولا تكونوا من المخسرين} ولم يذكر الزائد لأنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه، والوزن في ذلك كالكيل، ولهذا عمم في النهي عن النقص بقوله: {ولا تبخسوا} أي: تنقصوا {الناس أشياءهم} أي: في كيل أو وزن أو غير ذلك، ثم أتبع ذلك بما هو أعم بقوله {ولا تعثوا} أي: لا تنصرفوا {في الأرض} من غير تأمل حال كونكم {مفسدين} أي: في المال أو غير ذلك كقطع الطريق والقتل، ثم خوفهم بعد أن وعظهم ونهاهم عن الفساد من سطوة الجبار ما حل بمن هو أعظم منهم بقوله: {واتقوا الذي خلقكم} أي: من نطفة فإعدامكم أهون شيء عليه وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله {والجبلة} أي: الجماعة والأمم {الأولين} الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا سيما قوم هود الذين بلغت بهم الشدة حتى قالوا من أشدّ منا قوّة، وقد أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ثم إنهم أجابوه بالقدح في الرسالة أولاً: باستصغار الوعيد ثانياً: بأن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 {قالوا إنما أنت من المسحرين} أي: الذين كرّر سحرهم مرّة بعد أخرى حتى اختلفوا فصار كلامهم على غير نظام، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام أي: فأنت بعيد عن الصلاحية للرسالة، ثم أشاروا إلى عدم صلاحية البشر لها مطلقاً ولو كان أعقل الناس بقولهم: {وما أنت إلا بشر مثلنا} أي: فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك وأتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين مناقضين منافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه، ولهذا قالوا {وإن نظنك لمن الكاذبين} أي: في دعواك. تنبيه: مذهب البصريين أنّ {إن} هذه هي المخففة من الثقيلة، أي: وإنا نظنك، والذي يقتضيه السياق ترجيح مذهب الكوفيين هنا في أنّ {إن} نافية، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في وما أنت المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظنّ يتوجه إلى غير الكذب، وهو أبلغ من إثبات الظنّ به، ثم إنّ شعيباً عليه السلام كان توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا. {فأسقط علينا كسفا} أي: قطعاً {من السماء} أي: السحاب أو الحقيقة {إن كنت من الصادقين} أي: العريقين في الصدق المشهورين فيما بين أهله لنصدّقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب. تنبيه: انظر إلى حسن نظر شعيب عليه السلام كيف هدّدهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشدّ منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسلهم، وقرأ حفص بفتح السين، والباقون بالسكون وهنا همزتان مكسور، فقالون والبزي يسهل الهمزة الأولى من المدّ والقصر، وأسقطها أبو عمرو مع المدّ، والباقون بتحقيق الأولى. {قال} لهم شعيب في جوابهم {ربي أعلم بما تعلمون} فيجازيكم به فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وأمّا أنا فليس عليّ إلا البلاغ، وأنا مأمور به فلم أخوّفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم فطلبكم ذلك مني مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب. {فكذبوه} أي: استمرّوا على تكذيبه {فأخذهم} أي: فتسبب عن تكذيبهم أن أخذهم {عذاب يوم الظلة} وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء، روي أنّ الله تعالى حبس عنهم الريح سبعاً وتسلط عليهم الرمض: وهو شدّة الحرّ مع سكون الريح فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا، وروي أن شعيباً بعث إلى أمّتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة {إنه كان عذاب يوم عظيم} وقدمنا أن تعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب. {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من الإنجاء المطرد لكلّ رسول ومن أطاعه والأخذ المطرد لمن عصاه في كل عصر بكل قطر بحيث لا يشذ من الفريقين إنسان قاصٍ ولا دان {لآية} أي: دلالة واضحة عظيمة على صدق الرسل وأن يكونوا جديرين بتصديق العباد لهم في جميع ما قالوه من البشائر والنذائر، بأن الله تعالى يهلك من عصاه وينجي من والاه لأنه الفاعل المختار لما يريد {وما كان أكثرهم} أي: أكثر قومك كما كان من قبلهم {مؤمنين} مع أنك قد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم بك معرفة قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 أصدقهم لهجة وأعظمهم أمانة وأغزرهم عقلاً وأعلاهم همة وأبعدهم عن كل ذي دنس. {وإنّ ربك} أي: المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك ويوضح برهانك {لهو العزيز} فلا يعجزه أحد {الرحيم} بالإمهال لكي يؤمنوا أو أحد من ذرّيتهم: وهذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهديداً للمكذبين له. فإن قيل: كيف كرّر في هذا السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرّر؟. أجيب: بأنّ كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق على أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وأن تختم بما ختمت به، ولأنّ في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس وتثبيتاً لها في الصدور، ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا بترديد ما يراد حفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقرعن الإنصات للحق وقلوب غلف عن تدبره فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذناً أو يشق ذهناً أو يصقل عقلاً طال عهده بالصقل، أو يجلو فهماً قد غطى عليه تراكم الصدا وفي ذلك دلالة على أنّ البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرّب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه، وأنّ الأنبياء متفقون على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع، مبرؤون عن المطامع الدينية والأغراض الدنيوية، ولما ذكر الله تعالى قصص الأنبياء عليهم السلام أتبعه بما يدلّ على نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى. {وإنه} أي: الذكر الذي أتاهم بهذه الأخبار وهم عنه معرضون وله تاركون {لتنزيل رب العالمين} أي: الذي ربّاهم بشمول علمه وعظيم قدرته بما يعجز عن أقل شيء منه غيره. {نزل به} أي: نجوماً على سبيل التدريج من الأفق الأعلى الذي هو محل البركات، وعبر عن جبريل عليه السلام بقوله {الروح} دلالة على أنه مادّة خير، وأنّ الأرواح تحيا بما ينزله من الهدى وقال تعالى {الأمين} إشارة إلى كونه عليه السلام معصوماً من كل دنس فلا يمكن منه خيانة. {على قلبك} يا أشرف الرسل ففي هذا تقرير لحقية تلك القصص. وتنبيه: على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنّ الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بتخفيف الزاي، والروح الأمين برفعهما والباقون بتشديد الزاي والروح الأمين بنصبهما. فإن قيل: قال على قلبك وهو إنما نزل عليه؟ أجيب: بأنه ذكر ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ والمرسول متمكن من قلبه لا يجوز عليه التغير ولأنّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأمّا سائر الأعضاء فمسخرة له، ويدلّ على ذلك الكتاب والسنة والمعقول فمن الكتاب قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك} واستحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب قال الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} (البقرة: 225) ومن السنة قوله: صلى الله عليه وسلم «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» ومن المعقول أنّ القلب إذا غشي عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات وإذا فرح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 القلب أو حزن تغير حال الأعضاء عند ذلك، ولأنّ المعاني الروحانية إنما تنزل أوّلاً على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش منه لوح المخيلة. ولما كان السياق في هذه السورة للتحذير قال تعالى معللاً للجملة التي قبله {لتكون من المنذرين} أي: المخوفين المحذرين لمن أعرض عن الإيمان وفعل ما نهى عنه من المعاصي وقوله تعالى: {بلسان عربي} يجوز أن يتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجميّ لتجافوا عنه أصلاً ولقالوا ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به، قال ابن عباس: بلسان قرشيّ ليفهموا ما فيه، ولما كان في العربيّ ما قد يشكل على بعض العرب قال تعالى: {مبين} أي: بين في نفسه كاشف لما يراد منه غير تارك لبساً عند من تدبره على ما يتعارفه العرب في مخاطباتها من سائر لغاتها بحقائقها ومجازاتها على اتساع إرادتها وتباعد مراميها في محاوراتها وحسن مقاصدها في كناياتها واستعاراتها ومن يحيط بذلك حق الإحاطة غير العليم الحكيم الخبير البصير، ولما كان الاستكثار من الأدلة مما يسكن النفوس وتطمئن به القلوب قال تعالى. {وإنه} أي: هذا القرآن أصوله وكثيراً من قصصه وأمّهات فروعه {لفي زبر} أي: كتب {الأولين} كالتوراة والإنجيل وقيل: وإنه أي: محمداً ونعته لفي كتب الأوّلين. {أو لم يكن لهم} أي: لكفار مكة ذلك {آية} أي: على صحة القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية ورفع آية على أنها الاسم والخبر لهم، والباقون بالياء التحتية ونصب آية على أنها الاسم والخبر لهم، والباقون بالياء التحتية ونصب آية على أنها خبر وقوله تعالى {أن يعلمه} أي: هذا الذي يأتي به نبينا من عندنا هو اسمها {علماء بني إسرائيل} أي: يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم، والمعنى أو لم يكن لهؤلاء المنكرين، علم بني إسرائيل علامة ودلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم كعبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد، قال الله تعالى: {وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} (القصص: 53) قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّ هذا لزمانه وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه. فائدة: خط في المصحف علماء بواو قبل الألف على لغة من يميل الألف إلى الواو، وعلى هذه اللغة كتبت الصلاة والزكاة والربا، قال الله تعالى: {ولو نزلناه} أي: القرآن على ما هو عليه من الحكمة والإعجاز {على بعض الأعجمين} أي: على رجل ليس بعربيّ اللسان أو بلغة العجم. {فقرأه عليهم} أي: كفار مكة {ما كانوا به مؤمنين} لفرط عنادهم واستكبارهم أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم، وقالوا ما نفقه قولك وجعلوه عذراً بجحودهم، ونظيره {ولو جعلنا قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته} (فصلت، 44) . تنبيه: الأعجمين جمع أعجميّ بياء النسب على التخفيف بحذفها من الجمع ولكونه جمع أعجميّ جمع جمع سلامة لأنه حينئذ ليس من باب أفعل فعلاء بخلاف ما لو كان جمع أعجم فإنّ مؤنثه عجماء بوزن أفعل فعلاء وهو عند البصريين لا يجمع هذا الجمع إلا لضرورة كقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 *حلائل أسودين وأحمرين* وقال ابن عطية: جمع أعجم، يقال الأعجمون جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان غربيّ النسب يقال له أعجم وذلك يقال للحيوانات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار» وأسند الطبريّ عن عبد الله بن مطيع أنه كان واقفاً بعرفة وتحته جمل فقال جملي هذا أعجم ولو أنه أنزل عليهم ما كانوا يؤمنون، ولما كان ذلك محل تعجب وكأنه ربما ظنّ له أنّ الأمر على خلاف حقيقته قرّر مضمونه وحققه بقوله تعالى: {كذلك} أي: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجم {سلكناه} قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أدخلنا الشرك والتكذيب {في قلوب المجرمين} أي: كفار مكة بقراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنّ الكل بقضاء الله تعالى وقدره، وقيل: الضمير في سلكناه عائد إلى القرآن، قال ابن عادل: وهو الظاهر أي: سلكناه في قلوب المجرمين كما سلكناه في قلوب المؤمنين ومع ذلك لم ينجع فيهم، وفي جملة. {لا يؤمنون به} وجهان: أحدهما: الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله، والثاني: أنها حال من الضمير في سلكناه أي: سلكناه غير مؤمن به أي: من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام وجعل على قلوبهم من الطبع والختام {حتى يروا العذاب الأليم} أي: الملجئ للإيمان فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان، ولما كان إتيان الشرّ فجأة أشدّ، قال تعالى: {فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون} بإتيانه. {فيقولوا} أي: تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه {هل نحن منظرون} أي: مفسوح لنا في آجالنا فنسمع ونطيع. فإن قيل: ما معنى التعقيب في فيأتيهم بغتة فيقولوا؟ أجيب: بأنه ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى يكون رؤيتهم للعذاب عما هو أشدّ منها وهو لحوقه بهم مفاجأة عما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة، مثال ذلك: أن تقول لمن تعظه: إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنه لا يقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقب مقت الصالحين وإنما قصدك إلى ترتيب شدّة الأمر على المسيء، فإنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين عما هو أشدّ من مقتهم وهو مقت الله، ونرى ثم تقع في هذا الأسلوب فيجمل موقعها، ولما أوعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب قال الله تعالى: {أفبعذابنا} أي: وقد تبين لهم كيف أخذه للأمم الماضية والقرون الخالية والأقوام العاتية {يستعجلون} أي: بقولهم: أمطر علينا حجارة أسقط علينا كسفاً من السماء ونحو ذلك. {أفرأيت} أي: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم فأخبرني {إن متعناهم} أي: في الدنيا برغد العيش وصافي الحياة {سنين} . {ثم جاءهم} أي بعد تلك السنين المتطاولة والدهور المتواصلة {ما كانوا يودعون} من العذاب. {ما} أي: أيّ شيء {أغنى عنهم} أي: فيما أخذهم من العذاب {ما كانوا يمتعون} برفع العذاب أو تخفيفه، أي: لم يغن عنهم طول التمتع شيئاً ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط، وعن ميمون بن مهران: أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له عظني فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال له ميمون لقد وعظت فأبلغت. {وما أهلكنا من قرية} أي: من القرى السالفة بعذاب الاستئصال {إلا لها منذرون} أي: رسولهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 ومن تبعه من أمّته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبلهم، ثم علل الإنذار بقوله تعالى: {ذكرى} أي: تنبيهاً عظيماً على ما فيه النجاة، أو جعل المنذرين نفس الذكرى، كما قال تعالى {قد أنزلنا إليكم ذكراً رسولاً} (الطلاق: 10 ـ 11) وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه {وما كنا ظالمين} أي: في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا وعبدوا غيرنا بعد الإعذار إليهم ومتابعة الحجج ومواصلة الوعيد. تنبيه: الواو في قوله: {وما كنا} واو الحال من نون أهلكنا فإن قيل: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} ؟ (الحجر: 4) أجيب: بأنّ الأصل عزل الواو لأنّ الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله تعالى: {سبعة وثامنهم كلبهم} (الكهف: 22) ولما كان الكفرة يقولون إنّ محمداً كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما تتنزل به الشياطين، أكذبهم الله سبحانه وتعالى بقوله. {وما تنزلت به الشياطين} أي: ليكون سحراً أو كهانةً أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون. {وما ينبغي} أي: وما يصح {لهم} أن يتنزلوا به {وما يستطيعون} أي: التنزل به وإن اشتدّت معاجلتهم على تقدير: أن يكون لهم قابلية لذلك، ثم علل هذا بقوله تعالى: {إنهم عن السمع} أي: لكلام الملائكة {لمعزولون} أي: محجوبون بالشهب، ولما كان القرآن داعياً إلى الله تعالى ناهياً عن عبادة غيره تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فلا تدع مع الله} أي: الحائز لكمال الصفات {إلهاً آخر فتكون} أي: فيتسبب عن ذلك أن تكون {من المعذبين} من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله، وهذا خطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد غيره لأنه معصوم من ذلك، قال ابن عباس: يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق لديّ وأعزهم عليّ ولئن اتخذت إلهاً غيري لعذبتك فيكون الوعيد أزجر له ويكون هو أقبل، روى محمد بن إسحاق بسنده عن عليّ رضى الله عنه أنه قال لما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عليّ إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به فلما وضعته تناول صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال كلوا بسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم، ثم قدّمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال سحركم محمد صاحبكم فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عليّ إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكملهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ثم دعاني بالطعام فقدمته ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري ويكون أخي ووصي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت وأنا أحدثهم سناً: أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه قال فأخذ برقبتي ثم قال: إنّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعليّ وتطيع. وعن ابن عباس: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عديّ لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي قالوا: نعم ما جرّبنا عليك إلا الصدق قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام فنزلت {تبت} أي: خسرت {يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} (المسد: 1 ـ 2) وفي رواية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدّقي» إلى آخر ما مرّ. وعن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله هذه الآية فقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد سلي ما شئت من مال لا أغني عنك من الله شيئاً» . وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام: «أنّ قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار ويجعل الصخرة ذهباً فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده فلما سري عنه أخبرهم أن أعطي ما سألوه ولكنه إن أراهم فكفروا عوجلوا، فاختار صلى الله عليه وسلم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة فلما كانت النذارة إنما هي للمشركين، أمر بضدّها لأضدادهم» بقوله تعالى: {واخفض جناحك} أي: لمن غاية اللين وذلك لأنّ الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه، وإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما فجعل ذلك مثلاً في التواضع، ومنه قول بعضهم: *وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلأنك في رفعه أجدلا* ينهاه عن التكبر بعد التواضع {لمن اتبعك من المؤمنين} أي: سواء كانوا من الأقربين أم من الأبعدين، فإن قيل: المتبعون للرسول هم المؤمنون؟. أجيب: بوجهين: أحدهما: أن تسميتهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، الثاني: أن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم وهم صنفان صنف: صدّق واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصنف: ما وجد منه إلا التصديق فقط، أما أن يكونوا منافقين أو فاسقين والفاسق والمنافق لا يخفض لهما الجناح فمن على هذا للتبعيض، وإن أريد عموم الإتباع فهي للتبيين واختلف في الواو في قوله تعالى: {فإن عصوك} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 على أوجه: أحدها: أنها ضمير الكفار، أي: فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد، الثاني: أنها ضمير العشيرة، وهذا أقرب كما جرى عليه السلف والجلال المحلي، الثالث: أنها ضمير المؤمنين أي: فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك، وهذا كما قال ابن عادل: في غاية البعد {فقل} أي: تاركاً لما كنت تعاملهم من اللين {إني بريء} أي: منفصل غاية الانفصال {مما تعملون} أي: من العصيان الذي أنذر منه القرآن. {وتوكل} أي: فوّض في عصمتك ونجاتك وجميع أمورك {على العزيز} أي: القادر على الدفع عنك والانتقام منهم {الرحيم} أي: الذي نصرك عليهم برحمته، وقرأ نافع وابن عامر فتوكل بالفاء على الإبدال من جواب الشرط، والباقون بالواو، ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف المقتضى لجميع أوصاف الكمال بقوله تعالى: {الذي يراك} أي: بصراً وعلماً {حين تقوم} من نومك إلى التهجد، وقال مجاهد: أي: يراك أينما كنت، وقال أكثر المفسرين كما قال البغويّ حين تقوم إلى الصلاة أي: من نوم أو غيره. {و} يرى {تقلبك} في الصلاة قائماً وراكعاً وساجداً {في الساجدين} قال عكرمة عن ابن عباس أي: في المصلين، وقال مقاتل: مع المصلين في الجماعة يقول يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة، وقال مجاهد: يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر أمامه. وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون قبلتي ههنا فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري» ، وقال عطاء عن ابن عباس: أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة، وقيل: تردّدك في تصفح الأحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون، وتستبطن سرائرهم وكيف يعبدون الله وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات فوجدها كبيوت الزنابير. {إنه هو} أي: وحده {السميع} أي: لجميع أقوالكم {العليم} أي: بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم وشمول العلم يستلزم تمام القدرة فصار كأنه قال: إنه السميع البصير العليم القدير تثبيتاً للتوكل عليه، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ القرأن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين، أكد ذلك بأن بين أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لا يصح أن ينزلوا عليه من وجهين ذكرهما بقوله تعالى: {هل أنبئكم} أي: أخبركم خبراً جلياً نافعاً في الدين عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان {على من تنزل} وتتردّد {الشياطين} حين تسترق السمع ولما كان كأنه قيل: نعم أشار إلى أحد الوجهين بقوله تعالى: {تنزل} على سبيل التدريج والتردّد {على كل أفاك} أي: كذاب {أثيم} أي: فاجر مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة أشار إلى ثاني الوجهين بقوله تعالى: {يلقون السمع} أي: الآفكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها، كما جاء في الحديث الكلمة يخطفها الجنيّ فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة، ولا كذلك محمد صلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 الله عليه وسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها، ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين، ومعنى إلقائهم السمع إنصاتهم إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيخطفون منهم بعض المغيبات ويوحونه إلى أوليائهم أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة {وأكثرهم} أي: الفريقين {كاذبون} أما الشياطين فإنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، وأمّا الآفكون: فإنهم يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. فإن قيل: كيف قال وأكثرهم كاذبون بعدما حكم عليهم أنّ كل واحد منهم أفاك؟ أجيب: بأنّ الأفاكين هم الذين يكثرون الكذب لأنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أنّ هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنيّ وأكثرهم مفتر عليه، ولما قال الكفار لم لا يجوز أن يقال الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء، ثم إنه تعالى فرق بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين الكهنة، وذكر ما يدلّ على الفرق بينه وبين الشعراء بقوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} أي: الضالون المائلون عن سنن الأقوم إلى كل فساد يجرّ إلى الهلاك وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك بل هم الساجدون الباكون الزاهدون رضي الله تعالى عنهم، وقرأ نافع بسكون التاء الفوقية وفتح الباء الموحدة، والباقون بتشديد الفوقية وكسر الموحدة، ولما قرّر حال أتباعهم، علم منه أنهم هم أغوى منهم لتهّتكهم في شهوة اللقلقة باللسان حتى حسن لهم الزور والبهتان، دلّ على ذلك بقوله تعالى: {ألم تر} أي: تعلم {أنهم} أي: الشعراء ومثل حالهم بقوله تعالى: {في كل واد} من أودية القول من المدح والهجو والتشبب والرثاء والمجون وغير ذلك {يهيمون} أي: يسيرون سير البهائم حائرين وعن طريق الحق حائدين كيفما جرّهم القول أنجرّوا من القدح في الأنساب والتشبب بالحرم والهجو ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك، ولذلك قال تعالى: {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} أي: لأنهم لا يقصدونه وإنما ألجأهم إليه الفنّ الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها، وقيل: إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه ولا يفعلونه ويذمّون البخل ويصرّون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم. تنبيه: قال المفسرون: أراد شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر مقاتل أسماءهم فقال: منهم عبد الله بن الزبعري السهميّ وهبيرة بن أبي وهب المخزوميّ وشافع بن عبد مناف وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحيّ وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل وقالوا: نحن نقول كما قال محمد وقالوا الشعر واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين هجوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويروون عنهم قولهم: فذلك قوله تعالى: {يتبعهم الغاوون} وهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين، وقال قتادة: هم الشياطين، ثم. إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف، استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعر الجاهلية ويهجون الكفار وينافحون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، منهم: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك، فقال تعالى: {إلا الذين آمنوا} أي: بالله ورسوله {وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: التي شرعها الله تعالى ورسوله {وذكروا الله} مستحضرين ما له من الكمال {كثيراً} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 لم يشغلهم الشعر عن الذكر، روي أنّ كعب بن مالك قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل» وعن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: *خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضر بكم على تنزيله* *ضرباً يزيل الهمام عن مقيله ... ويذهب الخليل عن خليله* فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول شعراً فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل» وعن البراء أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم قريظة لحسان: «أهج المشركين فإنّ جبريل معك» وعن عائشة رضي الله عنها قالت أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشاً فإنه أشدّ عليهم من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فقال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد ثم أدلع لسانه فجعل يحرّكه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تعجل فإنّ أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإنّ لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله لقد أخلص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما يسلّ الشعر من العجين، قالت عائشة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إنّ روح القدس لا يزال يؤدّيك ما نافحت عن الله ورسوله قالت وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسان فشفى وأشفى» قال حسان: الكتاب: السراج المنير للخطيب الشربينى *هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء* *هجوت محمداً برّاً حنيفاً ... رسول الله شيمته الوفاء* *فإنّ أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وفاء* *فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء* *وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء* وورد في مدح الشعر عن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ من الشعر حكمة» وعن ابن عباس قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية ابن أبي الصلت شيء؟ قال: نعم قال هيه، فأنشده بيتاً فقال هيه حتى أنشده مائة بيت» وعن جابر بن سمرة قال: «جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون شيئاً من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم» وعن عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح، وعن: الشعبيّ كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عليّ أشعر الثلاثة، وعن ابن عباس: أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ واستنشده القصيدة التي أوّلها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 *أمن آل نُعْمٍ أنت غاد مبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر* فأنشد ابن ربيعة القصيدة إلى آخرها وهي قريبة من سبعين بيتاً، ثم إنّ ابن عباس أعاد القصيدة جميعاً وكان حفظها بمرّة واحدة. ثم بين سبحانه وتعالى ما حمل المؤمنين على الشعر وهو انتصارهم من المشركين بقوله تعالى: {وانتصروا} أي: بهجوهم الكفار {من بعدما ظلموا} بهجو الكفار لهم لأنهم بدؤا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين وغيرهم من الكفار بقوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا} بالشرك وهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم {أي: منقلب} أي: مرجع {ينقلبون} أي: يرجعون بعد الموت، قال ابن عباس: إلى جهنم والسعير، وفي هذا تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ، {وفي الذين ظلموا} من الإطلاق والتعميم وفي {أيّ منقلب ينقلبون} من الإبهام والتهويل، وقد تلا أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه هذه الآية. اللهمّ اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وروى الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي تذكر فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة» وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهنّ نبيّ قبلي» ، وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ من أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم حديث موضوع. سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية، وألف ومائةوتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفاً {بسم الله} أي: الذي كمل علمه فبهرت حكمته {الرحمن} الذي عمّ بالهداية بأوضح البيان {الرحيم} أي: الذي منّ بجنات النعيم على من اتبع الصراط المستقيم. {طس} قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عز وجلّ، وقد سبق الكلام في حروف الهجاء عليه، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة، بإمالة الطاء، والباقون بالفتح. {تلك} أي: هذه الآيات العالية المقام البعيدة المرام البديعة النظام {آيات القرآن} أي: الكامل في قرآنيته الجامع للأصول الناشر للفروع الذي لا خلل فيه ولا فصم ولا صدع ولا وصم {وكتاب مبين} أي: مظهر الحق من الباطل، فإن قيل: كيف صح أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث والآخر مذكر باسم الإشارة المؤنث ولو قلت تلك هند وزيد لم يجز؟. أجيب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ المراد بالكتاب هو الآيات لأنّ الكتاب عبارة عن الآيات المجموعة فلما كانا شيئاً واحد صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث، الثاني: أنه على حذف مضاف أي: وآيات كتاب مبين، الثالث: أنه لما ولي المؤنث ما تصح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 الإشارة به إليه اكتفى به وحسن، ولو ولي المذكر لم يحسن، ألا ترى أنك تقول جاءتني هند وزيد ولو أخرت هند لم يجز تأنيث الفعل، وقرأ ابن كثير بالنقل وصلاً وابتداءً وحمزة في الوقف لا غير، والباقون بغير نقل وقوله تعالى: {هدى وبشرى} يجوز أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدّر من لفظهما، أي: يهدي هدىً ويبشر بشرى، وأن يكونا في موضع الحال من آيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة، وأن يكونا خبراً بعد خبر، وأن يكونا خبري مبتدأ مضمر، أي: هو هدى من الضلالة وبشرى {للمؤمنين} أي: المصدّقين به بالجنة كقوله تعالى: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} (النساء: 175) ولهذا خص به المؤمنين، وقيل المراد بالهدى الدلالة، وإنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى، والبشرى إنما تكون للمؤمنين، أو لأنهم تمسكوا به كقوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: 45) أو لأنه يزيد في هداهم كقوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} (مريم: 76) ، ولما كان وصف الإيمان خفياً وصفهم بما يصدّقه من الأمور الظاهرة بقوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة} أي: بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق {ويؤتون الزكاة} أي: إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق {وهم بالآخرة هم يوقنون} أي: يوجدون الإيقان حق الإيجاد بالاستدلال ويجدّدونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية، وأعيد هم لما فصل بينه وبين الخبر، ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها ذكره بقوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون} أي: لا يوجدون الإيمان ولا يجددونه {بالآخرة زينا} أي: بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها {لهم أعمالهم} أي: القبيحة بتركيب الشهوة حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه حقيقيّ عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقيّ، وإلى الشيطان مجاز سببيّ، وعند المعتزلة بالعكس، قال الزمخشريّ في تفسيره: إنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عز وجل مجاز {فهم} أي: فتسبب عن ذلك أنهم {يعمهون} أي: يتحيرون ويتردّدون في أودية الضلال ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد بعمل غير سديد. {أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين لهم} أي: خاصة {سوء العذاب} أي: أشدّه في الدنيا بالخوف والقتل {وهم في الآخرة هم الأخسرون} أي: أشدّ الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم، ولما وصف تعالى القرآن بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، ذكر حال المنزل عليه وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم مخاطباً له بقوله تعالى: {وإنك} أي: وأنت يا أشرف الخلق وأعلمهم وأعظمهم وأحكمهم {لتلقى القرآن} أي: لتؤتاه وتلقنه أي: يلقى عليك بشدّة {من لدن} أي: من عند {حكيم} أي: بالغ الحكمة فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان {عليم} أي: عظيم العلم واسعه تامّه شامله، والجمع بينهما مع أنّ العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها: ما هو كالعقائد والشرائع، ومنها: ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات، ثم شرع في بيان تلك العلوم بقوله تعالى: {إذ قال موسى} أي: اذكر قصته حين قال {لأهله} أي: زوجته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 بنت شعيب عليه السلام عند مسيره من مدين إلى مصر وهي القصة الأولى من قصص هذه السورة، قال الزمخشريّ: روي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله: امكثوا، وكانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال يقوى الناس بمشاهدة نار من بعد، لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بالنار للإصطلاء، فلذلك بشرها فقال: {إني آنست} أي: أبصرت إبصار حصل لي به الأنس وأزال عني الوحشة {ناراً سآتيكم منها بخبر} أي: عن حال الطريق وكان قد أضلها، وعبر بلفظ الجمع كما في قوله: {امكثوا} فإن قيل: كيف جاء بسين التسويف؟ أجيب: بأنّ ذلك عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ الإتيان أو كانت المسافة بعيدة، فإن قيل: قال هنا {سآتيكم منها بخبر} وفي السورة الآتية: {لعلي آتيكم منها بخبر} (القصص: 29) وهما كالمتدافعين لأنّ أحدهما ترج والآخر تيقن؟ أجيب: بأنّ الراجي قد يقول إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الحقيقة. {أو آتيكم بشهاب قبس} أي: شعلة نار في رأس فتيلة أو عود، قال البغويّ: وليس في الطرف الآخر نار، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمى كل شيء أبيض ذي نور شهاباً، والقبس: القطعة من النار، وقرأ الكوفيون بشهابٍ بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبساً وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ. فإن قيل: لم جاء بأو دون الواو؟ أجيب: بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة، ثم إنه عليه السلام علل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليلة باردة بقوله: {لعلكم تصطلون} أي: لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد، والطاء بدل من تاء الافتعال، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها. {فلما جاءها} أي: تلك التي ظنها ناراً {نودي} من قبل الله تعالى {أن بورك} أن هي المفسرة لأنّ النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له: بورك، أو المصدرية أي: بأن بورك، وقوله تعالى: {من في النار} أي: موسى {ومن حولها} أي: الملائكة هو نائب الفاعل لبورك، والأصل بارك الله من في النار ومن حولها، وهذا تحية من الله عز وجلّ لموسى بالبركة. ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه ناراً، أو من في النار هم الملائكة، وذلك أنّ النور الذي رآه موسى عليه السلام كان فيه الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها، وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه» الحديث تنبيه: بارك يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ يقال باركك الله وبارك عليك وبارك فيك وبارك لك، وقال الشاعر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 *فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب* قال الزمخشريّ: والظاهر أنه عامّ في كل من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشأم، ولقد جعل الله تعالى أرض الشأم الموسومة بالبركات لكثرتها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتاً، ومهبط الوحي عليهم، وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وقوله تعالى {وسبحان الله رب العالمين} من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً، وللعجب من عظمة الله في ذلك الأمر فإنه أتاه النداء، كما ورد من جميع الجهات فسمعه بجميع الحواس، أو تعجب من موسى لما دعاه من عظمته ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال تعالى تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يد موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات. {يا موسى إنه} أي: الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه، وجملة {أنا الله} أي: البالغ في العظمة ما تقصر عنه الأوهام، مفسرة له، أو المتكلم، وأنا خبر، والله بيان له، ثم وصف تعالى نفسه بوصفين يدلان على ما يفعله مع موسى عليه السلام: أحدهما: {العزيز} أي: الذي يصل إلى سائر ما يريد ولا يرده عن مراده راد، والثاني: {الحكيم} أي: الذي يفعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير. فإن قيل: هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى؟ أجيب: بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى، ثم أرى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام آية تدلّ على قدرته ليعلم علم شهود وهي قوله تعالى: {وألق عصاك} فألقاها كما مرّ فصارت في الحال، كما آذنت به الفاء حية عظيمة جدّاً، ومع كونها في غاية العظم في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما تريد {فلما رآها تهتز} أي: تضطرب في تحرّكها مع كونها في غاية الكبر {كأنها جان} أي: حية صغيرة في خفتها وسرعتها فلا ينافي ذلك كبر جثتها {ولى} أي: موسى عليه السلام ثم إنّ التولية مشتركة بين معان، فلذا بين المراد منها بقوله تعالى: {مدبراً} أي: التفت هارباً منها مسرعاً جدّاً لقوله تعالى: {ولم يعقب} أي: لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليه. تنبيه: قال الزمخشري: وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي، والمعنى قيل: له: بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة، والصحيح كما قاله أبو حيان: أنه لا يشترط ذلك، ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب: بأنه قيل له {يا موسى لا تخف} أي: منها ولا من غيرها ثقة بي، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى: مبشراً بالأمن والرسالة {إني لا يخاف لديّ} أي: عندي {المرسلون} أي: من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، وقوله تعالى. {إلا من ظلم} فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء منقطع، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى: {ثم بدّل} أي: بتوبته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 {حسناً بعد سوء} وهو الظلم الذي كان عمله أي: جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه السلام {فإني} أرحمه بسبب أني {غفور} أي: من شأني أن أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها {رحيم} أي: أعامله معاملة الراحم البليغ الرحمة، والثاني: أنه استثناء متصل. وللمفسرين فيه عبارات: قال الحسن: إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، وقال غيره: إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، وقال بعض النحويين: إلا ههنا بمعنى ولا، أي: لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} (البقرة: 150) أي: ولا الذين ظلموا ثم أراه الله تعالى بعد هذه الآية آية أخرى ذكرها بقوله تعالى: {وأدخل يدك في جيبك} أي: فتحة ثوبك وهو ما قطع منه ليحيط بعنقك، وكان عليه مدرعة صوف لا كم لها وقيل: الجيب القميص لأنه يجاب أي: يقطع {تخرج بيضاء} أي: بياضاً عظيماً نيراً جداً له شعاع كشعاع الشمس، وكانت الآية الأولى مما في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، وهذه في يده نفسها بقلب عرضها التي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، ثم نفى عنها أن يكون ذلك بسبب آفة بقوله تعالى: {من غير سوء} أي: برص ولا غيره من الآفات، وقوله تعالى {في تسع آيات} كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه متعلق بمحذوف، والمعنى: اذهب في تسع آيات {إلى فرعون وقومه} كقول القائل: *فقلت إلى الطعام فقال منهم ... فريق يحسد الأنس الطعاما* ويجوز أن يكون بمعنى وألق عصاك وأدخل يدك في تسع آيات وعدادهنّ. ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية: ثنتان منها العصا واليد، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وقيل: في بمعنى من أي: من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع، ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله تعالى: {إنهم كانوا قوماً فاسقين} أي: خارجين عن طاعتنا. {فلما جاءتهم آياتنا} أي: على يد موسى عليه السلام {مبصرة} أي: بينة واضحة هادية إلى الطريق الأقوم {قالوا هذا سحر} أي: خيال لا حقيقة له {مبين} أي: واضح في أنه خيال. أي: أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأنّ الجحود الإنكار مع العلم {واستيقنتها أنفسهم} أي: علموا أنها من عند الله تعالى وتخلل علمها صميم قلوبهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس، ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها بقوله تعالى: {ظلماً وعلواً} أي: شركاء وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى {فانظر} يا أشرف الخلق {كيف كان عاقبة المفسدين} وهو الإغراق في الدنيا بأيسر سعي وأيسر أمر، فلم يبق منهم عين تطرف ولم يرجع منهم مخبر على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، والإحراق في الآخرة بالنار المؤبدة. القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى. {ولقد آتينا} أي: بما لنا من العظمة {داود وسليمان} ابنه وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة {علماً} أي: جزأ من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وغير ذلك لم نؤته لأحد من قبلهما ولما كان التقدير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: {وقالا} شكراً عليه ودلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع {الحمد} أي: الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي: الذي لا كفء له {الذي فضلنا} أي: بما آتانا من النبوّة والكتاب وتسخير الشياطين والجنّ والإنس وغير ذلك {على كثير من عباده المؤمنين} أي: ممن لم يؤت علماً أو مثل علمهما، وفي ذلك تحريض للعالم أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير، فلا يتكبر ولا يفتخر ويشكر الله تعالى، وينفع به المسلمين كما نفعه الله تعالى به، ثم إنه تعالى أشار إلى فضل سليمان بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه بقوله تعالى: {وورث سليمان داود} أباه عليهما السلام دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابناً فأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليمان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى {وقال} تحدّثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرّفه الله تعالى به ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير {يا أيها الناس علمنا} أي: أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله {منطق الطير} أي: فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، فسمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس. روي عن كعب الأحبار أنه قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول قالوا: لا قال: فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم، وصاح صرد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: كل حيّ ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال فإنه يقول: قدّموا خيراً تجدوه، وهدرت حمامة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا، قال: فإنه يقول سبحان ربي الأعلى، قال والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان رب القدّوس، ويقول أيضاً سبحان ربي المذكور بكلّ لسان، والباز يقول سبحان ربي وبحمده، وعن مكحول قال: صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: الرحمن على العرش استوى. وروي عن فرقد السنحيّ قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء: وهو بالفتح والمدّ التراب، وقال أبو عبيد: هو الدروس، وفي حديث صفوان: «إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفاً وشربت عليه فعلى الدنيا العفاء» ، وروي أنّ جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمناً وصدّقنا، قال: اسألوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً، قالوا: أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والديك في صعيقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 والضفدع في نعيقه والحمار في نهيقه والفرس في صهيله وما يقول الزرزور والدرّاج، قال نعم أمّا القنبر فيقول: اللهمّ العن مبغضي محمد وآل محمد، وأمّا الديك فيقول: اذكروا الله يا غافلين، وأمّا الضفدع فيقول: سبحان المعبود في لجج البحار، وأمّا الحمار فيقول: اللهمّ العن العشار، وأمّا الفرس فيقول: إذا التقى الصفان سبوح قدّوس رب الملائكة والروح، وأما الزرزور فيقول: اللهمّ إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، وأمّا الدراج فيقول: الرحمن على العرش استوى قال: فأسلم اليهود وحسن إسلامهم. ويروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسين بن عليّ قال: إذا صاح النسر قال: ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال: إلهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطاف قرأ: الحمد لله رب العالمين ويمدّ ولا الضالين كما يمدّ القارئ. وقول سليمان عليه السلام {وأوتينا من كل شيء} أي: تؤتاه الأنبياء والملوك، قال ابن عباس من أمر الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: يعني النبوّة والملك وتسخير الجنّ والإنس والرياح {إن هذا} أي: الذي أوتيناه {لهو الفضل المبين} أي: البين في نفسه لكلّ من ينظره الموضح لعلوّ قدر صاحبه، روي أنّ سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك أربعين سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا من الجنّ والأنس والدواب والطير والسباع وأعطى مع ذلك منطق الطير، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة، فقوله: {إنّ هذا لهو الفضل المبين} تقرير لقوله {الحمد لله الذي فضلنا} والمقصود منه الشكر والحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ، فإن قيل: كيف قال علمنا وأوتينا وهو كلام المتكبر؟ أجيب بوجهين: الأوّل: أنه يريد نفسه وأباه كما مرّ، الثاني: أنّ هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً، ولما كان هذا مجرّد خبر أتبعه ما يصدّقه بقوله تعالى: {وحشر} أي: جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر أمر {لسليمان جنوده} ثم بين ذلك بقوله تعالى: {من الجنّ} وبدأ بهم لعسر جمعهم ثم ثنى بقوله تعالى: {والإنس} لشرفهم ثم أتبع من يعقل بما لا يعقل بقوله {والطير} فقدّم القسم الأول لشرفه وذلك كان في مسير له في بعض الغزوات {فهم} أي: فتسبب عن مسيره بذلك أنهم {يوزعون} أي: يكفون بحبس أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا فيكون ذلك أجدر بالهيبة وأعون على النصرة وأقرب إلى السلامة، قال قتادة: كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أوّلها على آخرها لئلا يتقدّموا في المسير، قال والوازع: الحابس وهو النقيب، وقال مقاتل: يوزعون أي: يساقون، وقال السدّيّ: يوقفون، وقيل: يجمعون، وأصل الوزع الكف والمنع. قال محمد بن كعب القرظيّ: كان معسكر سليمان عليه السلام مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير، وقيل: نسجت له الجنّ بساطاً من ذهب وحرير فرسخاً في فرسخ وكان يوضع كرسيه وسطه فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة والناس حولهم والجنّ والشياطين حول الناس والوحش حولهم وتظلهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وكان له ألف بيت من قوارير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني: حرّة وسبعمائة سرّية، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به مسيرة شهر، وأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في في ملكك أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إني مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود واستمرّ سائراً بمن معه. {حتى إذا أتوا} أي: أشرفوا {على وادي النمل} روي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع كل قدر عشرة من الإبل يطبخ الطباخون ويخبز الخبازون واتخذ ميادين للدّواب فتجري بين يديه وهو بين السماء والأرض والريح تهوي بهم فسار من اصطخر يريد اليمن، فمرّ بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال سليمان هذه دار هجرة نبيّ يخرج في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله تعالى إلى البيت ما يبكيك؟ فقال: يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف. قال البقاعي: وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم، وقال قتادة ومقاتل: هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي، وقيل: واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم، وقال نوف الحميري: كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب، وقيل: كان كالبخاتي، وقال البغويّ والمشهور: أنه النمل الصغير. فائدة: وقف الكسائي على وادي بالياء، والباقون بغير ياء، فإن قيل: لم عدى أتوا بعلى؟ أجيب: بأنه يتوجه على معنيين: أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء، والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم. ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي {قالت نملة} قال الشعبيّ: كانت تلك النملة ذات جناحين، وقيل: كانت نملة عرجاء فنادت {يا أيها النمل ادخلوا} أي: قبل وصول ما أرى من الجيش {مساكنكم} ثم عللت أمرها فقالت: {لا يحطمنكم} أي: يكسرنكم ويهشمنكم، أي: لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميراً عن شيء كان لغيره أشدّ نهياً {سليمان وجنوده} أي: لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خالياً {وهم} أي: سليمان وجنوده {لا يشعرون} أي: بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولاً له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم، والنمل: اسم جنس معروف واحده نملة، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم، ونملة ونمل بضمهما. وعن قتادة: أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى حاضراً وهو غلام حديث، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله، وهو قوله: قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال قال نملة، قال الزمخشريّ: وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي انتهى. وردّ هذا أبو حيان فقال: ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكراً وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس، قال وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا. هـ. وقال الطيبي: العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك. فإن قيل: كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ أجيب: بأنّ من جنوده ركباناً ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال، وقيل: كان اسمها طاخية. فائدة: قال أهل المعاني في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت، ووجهه: نادت يا، نبهت: ها، سمت: النمل، أمرت: ادخلوا، نصت: مساكنكم، حذرت: لا يحطمنكم، خصت: سليمان، عمت: وجنوده، أشارت: وهم، أعذرت: لا يشعرون، ولما كان هذا أمر معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني تسبب عنه قوله. {فتبسم ضاحكاً من قولها} أي: لما أوتيته من الفصاحة والبيان وسروراً بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذي أحداً وهم يعلمون، وبما آتاه الله من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه تنبيه: ضاحكاً: حال مؤكدة لأنها مفهومة من تبسم، وقيل: هي حال مقدّرة فإنّ التبسم ابتداء الضحك، وقيل: التبسم قد يكون للغضب، ومنه تبسم تبسم الغضبان، فضاحكاً: مبيناً له، قال عنترة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 d *لما رآني قد قصدت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسم* وقال الزجاج: أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله: ضاحكاً أي: متبسماً، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم» ، وعن عبد الله بن الحارث بن جبير قال: «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان أوّله التبسم، وآخره الضحك، ثم حمد الله تعالى على هذه النعمة وسأل ربه توفيق شكره لما تذكر ما أولاه ربه سبحانه وتعالى بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك {وقال رب} أي: أيها المحسن إليّ {أوزعني} أي: ألهمني {أن أشكر نعمتك} وقيل معناه لغة: اجعلني أزع شكر نعمتك أي: أكفه وأمنعه حتى لا يفلت مني فلا أزال شاكراً، وأزع بفتح الزاي أصله: أوزع فحذفت واوه كما في أدع، ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به حققه بقوله {التي أنعمت عليّ} وأفهم قوله: {وعلى والديّ} أن أمّه كانت أيضاً تعرف منطق الطير وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصاً النعمة الراجعة إلى الدين فإنه إذا كان تقياً نفعهما بدعائه وشفاعته ودعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له وقالوا رضي الله عنك وعن والديك. تنبيه: الشكر لغة: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً أو محبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان، كما قال القائل: *أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا* وعرفاً: صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، وهذا لمن حفته العناية الربانية نسأل الله الكريم الفتاح أن يحفنا ومن يلوذ بنا بعنايته. روي عن داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء: الأول: معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر، الثاني: قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة، الثالث: الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى. ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك قال عليه السلام: مشيراً إلى هذا المعنى {وأن أعمل صالحاً} أي: في نفس الأمر، وقيده بقوله {ترضاه} لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل: *إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب* وقوله {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} يدل على أنّ دخول الجنة برحمته وفضله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 لا باستحقاق العبد، والمعنى: أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين، فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين والأولياء فما السبب في أنّ الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين وقد تمنى يوسف عليه السلام بقوله {فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (الشعراء: 83) وقال إبراهيم: {هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} (الشعراء، 83) . أجيب: بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية، ثم إنّ سليمان عليه السلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك. {وتفقد الطير} أي: طلبها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير {فقال ما لي لا أرى الهدهد} أي: أهو حاضر {أم كان من الغائبين} أم منقطعة، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره، فقال مالي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لا ح له، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته. وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء: أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه أنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا فبأي: دين يدين يا نبيّ الله؟ قال بدين الحنيفية: فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله؟ قال: مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحاً وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يميناً وشمالاً فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال أنا من هذه البلاد، قال ومن ملكها؟ قال امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 بلقيس وملكها وغاب إلى وقت العصر، وكان نزول سليمان على غير ماء، قال ابن عباس: وكان الهدهد دليل سليمان على الماء، وكان يعرف الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف بعده وقربه فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: انظر ما تقول: إن الصبيّ منا يصنع الفخ ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال بين البصر، وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، قال القائل: *هي المقادير فدعني والقدر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر* *إذا أراد الله أمراً بامرئ ... وكان ذا عقل وسمع وبصر* *يعبر الجهل فيعمى قلبه ... وسمعه وعقله ثم البصر* *حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... ردّ عليه عقله ليعتبر* *لا تقل لما جرى كيف جرى ... كل شيء بقضاء وقدر* فلما دخل على سليمان وقت الصلاة سأل الإنس والجنّ والشياطين عن الماء فلم يعلموه، فتفقد الهدهد فلم يجده فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته مكاناً، فغضب سليمان عند ذلك وقال. {لأعذبنه} أي: بسبب غيبته فيما لم آذن فيه {عذاباً شديداً} أي: مع بقاء روحه ردعاً لأمثاله {أو لأذبحنه} أي: بقطع حلقومه أي: تأديباً لغيره {أو ليأتيني بسلطان مبين} أي: بحجة واضحة. واختلفوا في تعذيبه الذي أوعده به على أقوال: قال البغوي: أظهرها أنّ عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً لا يمتنع من النمل والذباب ولا من هوام الأرض انتهى، وقيل: تعذيبه أن يؤذيه بما لا يحتمله ليعتبر به أبناء جنسه، وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل: أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل: أن يلقى للنمل تأكله، وقيل: إيداعه القفص، وقيل: التفريق بينه وبين ألفه، وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد. قال الزمخشريّ: وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه، ثم دعا العقاب سيد الطير فقال له: عليّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فالتفت يميناً وشمالاً فإذا بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أنّ العقاب يقصده بسوء، فناشده فقال بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ إلا ما رحمتني ولم تتعرّض لي بسوء، فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمّك إنّ نبيّ الله قد حلف أن يعذبك أو ليذبحنك، قال فما استثنى، قال: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال، فقال الهدهد وما استثنى نبي الله عليه السلام؟ قالوا: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، قال فنجوت إذاً، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان، وكان قاعداً على كرسيه، فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله. {فمكث} أي: الهدهد، وقوله تعالى: {غير بعيد} صفة للمصدر، أي: مكثاً غير بعيد، فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، وقال له أين كنت؟ لأعذبنك عذاباً شديداً فقال له الهدهد: يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني {فقال أحطت} أي: علماً {بما لم تحط به} أي: أنت مع اتساع علمك وامتداد ملكك، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً له على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفاً في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم، قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الروافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه، وقيل: الضمير في مكث لسليمان، وقيل: غير بعيد صفة للزمان أي: زماناً غير بعيد، وقرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان إلا أنّ الفتح أشهر، {وجئتك} أي: الآن {من سبأ بنبأ} أي: خبر عظيم {يقين} أي: محقق، وقرأ أبو عمرو والبزيّ سبأ بفتح الهمزة من غير تنوين، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، والباقون بالجر والتنوين جعلوه اسماً للحيّ أو المكان، قال البغوي: وجاء في الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: «رجلاً كان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» فقال سليمان وما ذاك قال: {إني وجدت امرأة تملكهم} وهي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه بامرأة من الجنّ يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس ولم يكن له ولد غيرها. قال البغوي: وجاء في الحديث «أنّ أحد أبوي بلقيس كان جنياً فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلاً وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إنّ الرجل الذي ملكوه أساء السير في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهنّ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها، وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا إياسي منك، فقالت لا أرغب عنك أنت كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني منهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا لا نراها تفعل ذلك، فقال لهم إنها قد ابتدأتني وأنا أحبّ أن تسمعوا قولها، فجاؤها فذكروا لها قالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته أسقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت حيلة مكر وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا أنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 بهذا الملك أحق من غيرك فملكوها» . وعن الحسن عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم امرأة قال: «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة» وقوله {وأوتيت} يجوز أن يكون معطوفاً على تملكهم، وجاز عطف الماضي على المضارع لأنّ المضارع بمعناه، أي: ملكتهم، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من مرفوع تملكهم، وقد معها مضمرة عند من يرى ذلك، وقوله {من كل شيء} عام مخصوص بالعقل لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان، فالمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة {ولها عرش} أي: سرير {عظيم} أي: ضخم لم أجد لأحد مثله طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد، وقوائمه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد عليه سبعة أبواب على كل باب بيت مغلق. فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضاً كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمن في الوصف بالعظم؟ أجيب عن الأوّل: بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك، ووصف عرش الرحمن بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. فإن قيل: كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟ أجيب: بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كماأخفى مكان يوسف على يعقوب، ولما كان الهدهد في خدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله تعالى فحصل له من النورانية ما هاله، قال مستأنفاً. {وجدتها وقومها} أي: كلهم على ضلال كبير وذلك أنهم {يسجدون للشمس} مبتدئين ذلك {من دون الله} أي: من أدنى رتبة للملك الأعظم الذي لا مثل له {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي: هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة، ثم تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق فلهذا قال {فصدّهم عن السبيل} أي: الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم تسبب عن ذلك ضلالهم فلهذا قال {فهم} أي: بحيث {لا يهتدون} أي: لا يوجد لهم هدى بل هم في ضلال صرف وعمى محض. {ألا يسجدوا لله} أي: أن يسجدوا له، فزيدت لا وأدغم فيها نون أن، كما في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29) والجملة في موضع مفعول يهتدون بإسقاط إلى، هذا إذا قرئ بالتشديد وهي قراءة غير الكسائي، وأمّا الكسائي: فقرأ بتخفيف ألا فألا فيها تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال: *ألايا اسلمى يا دار ميّ عليّ البلى ... ولا زال منهلاً بجرعاتك القطر* ويقف الكسائي على ألا، وعلى يا، وعلى اسجدوا، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثاً على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 السجود له وردّاً على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله: {الذي يخرج الخبء} وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله: {في السموات والأرض} لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى {ويعلم ما تخفون} في قلوبهم {وما تعلنون} بألسنتهم، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما، والباقون بالتحتية، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله {أعمالهم} {فصدهم} و {فهم} وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ، ويجوز أن تكون إلتفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتاً إليه وقوله: {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} أي: الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكاً لما وصف عرش بلقيس بالعظم، وأن يكون من كلام الله تعالى ردّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم، فإن قيل: من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟. أجيب: بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، خصوصاً في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له، وهذه آية سجدة واختلف في محلها، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون؟ الجمهور على الأوّل، ولما فرغ الهدهد من كلامه. {قال} له سليمان {سننظر} أي: نختبر ما قلته {أصدقت} فيه فنعذرك {أم كنت من الكاذبين} أي: معروفاً بالانخراط في سلكهم فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان غريقاً في الكذب فهو أبلغ من أم كذبت، وأيضاً لمحافظة الفواصل، ثم شرع فيما يختبره به فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له. {اذهب بكتابي هذا} فكأنه كان مهيأ عنده فدفعه إليه وأمره بالإسراع، فطار كأنه البرق ولهذا أشار بالفاء في قوله: {فألقه إليهم} أي: الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس وذلك للاهتمام بأمر الدين، وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد بخلاف عنه فألقه بسكون الهاء، واختلس الكسرة قالون وهشام بخلاف عنه، والباقون بإشباع الكسرة. {ثم} قال له إذا ألقيته إليهم {تولّ} أي: تنحّ {عنهم} إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك {فانظر ماذا يرجعون} أي: يردّون من الجواب، وقال ابن زيد في الآية تقديم وتأخير، مجازها اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم توّل عنهم أي: انصرف إليّ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى إلى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام. قال قتادة: فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، وقيل نقرها فانتبهت فزعة، وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة، والناس ينظرون إليه حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها، وقال وهب بن منبه وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد إلى الكوّة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم بها، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر إليها، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أنّ الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها، وقرأت الكتاب وتأخر الهدهد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد ألف مقاتل، وعن ابن عباس قال: كان مع بلقيس مائة ألف، قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل: الملك دون الملك الأعظم، وقال قتادة ومقاتل: كان أهل مشورتها ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف، فلما جاؤوا أخذوا مجالسهم. {قالت} لهم بلقيس {يا أيها الملأ} وهم أشراف الناس وكبراؤهم {إني ألقي إليّ} أي: بإلقاء ملق على وجه غريب {كتاب} أي: صحيفة مكتوب فيها كلام وخبر جامع، قال الزمخشريّ: وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطنبون ولا يكثرون، ولما حوى هذا الكتاب من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله وصفته بقولها {كريم} وقال عطاء والضحاك: سمته كريماً لأنه كان مختوماً روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كرامة الكتاب ختمه» ، «وكان عليه السلام يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاصطنع له خاتماً» ، وعن ابن المقنع: من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به، وقال مقاتل: كريم أي: حسن، وعن ابن عباس: أي: شريف لشرف صاحبه، وقيل: سمته كريماً لأنه كان مصدراً ب {بسم الله الرحمن الرحيم} ، ثم بينت ممن الكتاب فقالت. {إنه من سليمان} ثم بينت المكتوب فيه فقالت {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} . {ألا تعلو عليّ} قال ابن عباس: لا تتكبروا عليّ، وقيل لا تتعظموا ولا تترفعوا عليّ، أي: لا تمتنعوا عن الإجابة فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر {وائتوني مسلمين} أي: منقادين خاضعين فهو من الاستسلام، أو مؤمنين فهو من الإسلام، فإن قيل: لم قدم سليمان اسمه على البسملة؟ أجيب: بأنه لم يقع منه ذلك بل ابتدأ الكتاب بالبسملة وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه لأنّ بلقيس إنماعرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود، ولذلك قالت: {إنه بسم الله الرحمن الرحيم} أي: إنّ الكتاب، فالتقديم واقع في حكاية الحال، واعلم أن قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} مشتمل على إثبات الصانع وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً قال الطيبي: وقال القاضي: هذا كلام في غاية الوجازة مع إثبات كمال الصانع وإثبات كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الإله وصفاته صريحاً أو التزاماً، والنهي عن الترفع الذي هو أمّ الرذائل، والأمر بالإسلام الذي هو جامع لأمّهات الفضائل، ولما سكتوا عن الجواب. {قالت} لهم {يا أيها الملأ} ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 {أفتوني} أي: تكرّموا عليّ بالإنابة عما أفعله {في أمري} هذا الذي أجيب به هذا الكتاب جعلت الشورى فتوى توسعاً، لأنّ الفتوى الجواب في الحادثة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة واواً، والباقون بتحقيقها وفي الابتداء الجميع بالتحقيق. ثم عللت أمرها لهم بقولها {ما كنت قاطعة أمراً} أي: فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه {حتى تشهدون} أفادت بذلك أن شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها، ثم إنهم أجابوها عن ذلك بأن. {قالوا} مائلين إلى الحرب {نحن أولو قوّة} أي: بالمال والرجال {وأولو} أي: أصحاب {بأس} عزم في الحرب {شديد والأمر} أي: في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول {إليك فانظري} أي: بسبب أنه لا نزاع معك {ماذا تأمرين} فإنا نطيعك ونتبع أمرك، ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. {قالت} جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها {إن الملوك} أي: مطلقاً فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر {إذا دخلوا} عنوة بالقهر {قرية أفسدوها} أي: بالنهب والتخريب {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي: أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ثم أكدت هذا المعنى بقولها {وكذلك} أي: ومثل هذا الفعل العظيم الشأن {يفعلون} أي: هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما. تنبيه: هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقاً لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها. ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها. {وإني مرسلة إليهم} أي: إلى سليمان وقومه {بهدية} وهي العطية على طريق الملاطفة، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بها عن ملكي فاختبره بها أملك هو أم نبي؟ فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف، وإن يكن نبياً لم يقبل الهدية ولم يرضها منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قولها {فناظرة بم} أي: أيّ شيء {يرجع المرسلون} فأهدت إليه وصفاً ووصائف، قال ابن عباس: ألبستهم لباساً واحداً كي لا يعرف ذكراً من أنثى، وقال مجاهد ألبست الجواري لباس الغلمان وألبست الغلمان لباس الجواري، واختلف في عددهم: فقال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل: مائة غلام ومائتا جارية، وقال قتادة: أرسلت إليه بلبنات من ذهب في حرير وديباج، وقال ثابت البناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب، وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 من فضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت المسك والعنبر وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجذعة لعلها مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معهم كتاباً بنسخة الهدية. وقالت: إن كنت نبياً فميز بين الوصف والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقباً مستوياً، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ، وأمرت بلقيس الغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرجل انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبيّ مرسل، فتفهم قوله ورد الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه السلام الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميادين حائطاً شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال أيّ الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر قالوا يا نبيّ الله إنا رأينا دوابّ في مجر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال عليّ بها الساعة، فأتوابها فقال شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفتها فيها، ثم قال للجنّ عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره. فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك الموضع الخالي فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا، فقالت لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة؟ فأتى بها فحركها وجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما في الحقة فقال: إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوّجة الثقب، فقال الرسول صدقت فاثقب الدرّة وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجنّ فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك، وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر، ثم قال من لهذه الخرزة بسلكها بالخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت: تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صباً، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدراً، فميز بينهم بذلك، ثم ردّ سليمان الهدية كما قال تعالى: {فلما جاء} أي: الرسول الذي بعثته، والمراد به الجنس، قال أبو حيان وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث {سليمان} ورفع إليه ذلك {قال} أي: سليمان عليه السلام للرّسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه {أتمدّونني} أي: أنت ومن معك ومن أرسلك {بمال} وإنما قصدي لكم لأجل الدين تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات له نحوها بوجه ولا يرضيه شيء دون طاعة الله تعالى، وقرأ نافع وأبو عمرو: بإثبات الياء وصلاً لا وقفاً، وابن كثير: بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وحمزة بإدغام النون الأولى في الثانية وإثبات الياء وصلاً ووقفاً، ثم تسبب عن ذلك قوله استصغاراً لما معهم {فما آتاني الله} أي: الملك الأعظم من الحكمة والنبوّة والملك، وهو الذي يغني مطيعه عن كل شيء سواه فمهما سأله أعطاه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: بفتح الياء في الوصل، ولقالون وأبي عمرو وحفص أيضاً إثباتها وقفاً، والباقون بحذف الياء وقفاً ووصلاً، وأمالها حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين {خير} أي: أفضل {مما آتاكم} أي: من الملك الذي لا دين ولا نبوّة فيه {بل أنتم} أي: بجهلكم بالدين {بهديتكم} أي: بإهداء بعضكم إلى بعض {تفرحون} وأمّا أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأنّ الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوّة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد. {ارجع} أي: بهديتهم وجمع في قوله {إليهم} إكراماً لنفسه وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها وتعظيماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي: لا طاقة {لهم بها} أي: بمقابلتها {ولنخرجنهم منها} أي: من أرضهم وبلادهم وهي سبأ {أذلة وهم صاغرون} أي: ذليلون لا يملكون شيئاً من المنعة. فإن قيل: فلنأتينهم ولنخرجنهم قسم فلا بدّ أن يقع؟ أجيب: بأنه معلق على شرط محذوف لفهم المعنى، أي: إن لم يأتونى مسلمين، قال وهب وغيره من أهل الكتب، لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت لهم قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته داخل سبعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 أبواب داخل قصرها وقصرها داخل سبعة قصور وأغلقت الأبواب وجعلت عليها حرّاساً يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما وكلتك وبسرير ملكي لا يخلص إليه أحد حتى آتيك، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل وتجهزت للمسير فارتحلت في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يد كل قيل ألوف كثيرة. قال ابن عباس: كان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس وقد نزلت منا على مسيرة فرسخ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده بأن. {قال} لهم {يا أيها الملأ} أي: الأشراف {أيكم} وفي الهمزتين ما تقدم {يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} أي: مؤمنين، وقال ابن عباس: واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها فقال أكثرهم: لأنّ سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها، وقيل: ليريها قدرة الله تعالى ببعض ما خصه به من العجائب الدالة على عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوّة في معجزة يأتي بها في عرشها، وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد بالعظم فأحبّ أن يراه، وقال ابن زيد: يريد أن يأمر بتنكيره وتغييره فيختبر بذلك عقلها. {قال عفريت من الجن} وهو المارد القوي، قال وهب: اسمه كودي، وقيل: ذكوان، وقال ابن عباس العفريت الداهي، وقال الضحاك: هو الخبيث، وقال الربيع: الغليظ، وقال الفراء: القويّ الشديد، قيل: إنّ الشياطين أقوى من الجنّ وأنّ المردة أقوى من الشياطين وأنّ العفريت أقوى منهما، قال بعض المفسرين العفريت من الرجال الخبيث المتكبر، وقيل: هو صخر الجني وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه، وقوله تعالى {أنا آتيك به} قرأه في الموضعين نافع بإثبات الألف من أنا وصلاً ووقفاً، والباقون وصلاً لا وقفاً، ثم بيّن سرعة إسراعه بقوله {قبل أن تقوم من مقامك} أي: الذي تجلس فيه للقضاء، قال ابن عباس: كان له غداة كل يوم مجلس يقضي فيه إلى نصف النهار، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله {وإني عليه} أي: على الإتيان به سالماً {لقويّ} أي: على حمله لا يحصل عجزي عنه {أمين} أي: على ما فيه من الجواهر وغيرها، قال سليمان عليه السلام أريد أسرع من ذلك. {قال الذي عنده علم من الكتاب} المنزل وهو علم الوحي والشرائع، وقيل: كتاب سليمان، وقيل: اللوح المحفوظ، والذي عنده علم من الكتاب جبريل، قال البقاعي ولعله التوراة والزبور انتهى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ من خدم كتاب الله حق الخدمة كان الله تعالى معه، كما ورد في شرعنا «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويديه التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها» ، أي: أنه يفعل له ما يشاء. واختلفوا في تعيينه: فقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان، وقيل اسمه أسطوم وكان صديقاً عالماً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، وقيل ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وعن ابن لهيعة بلغني أنه الخضر عليه السلام {أنا آتيك به} ثم بين فضله على العفريت بقوله {قبل أن يرتدّ} أي: يرجع {إليك طرفك} أي: بصرك إذا طرفت أجفانك فأرسلته إلى منتهاه، ثم رددته فالطرف: تحريكك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله: *وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر* وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد، روي أن آصف قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه فنظر نحو اليمين ودعا آصف فبعث الله تعالى الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يجدّون جداً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان، وقال الكلبي: خرّ آصف ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع تحت كرسي سليمان بقدرة الله تعالى، وقيل: كانت المسافة شهرين، وقال سعيد بن جبير: يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك، وقال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر، وقال مجاهد: يعني: إدامة النظر حتى يرد البصر خاسئاً، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون هذا مثلاً لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردّ طرف والتفت ترني وما أشبه ذلك تريد السرعة انتهى. واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف: فقال مجاهد ومقاتل: بياذا الجلال والإكرام، وقال الكلبي: يا حيّ يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها، وعن الحسن يا الله يا رحمن، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علماً وفهماً أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت. قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها: أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى، ومنها: أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق، ومنها: أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان. {فلما رآه} أي: رأى سليمان العرش {مستقرّاً عنده} أي: حاصلاً بين يديه {قال} شاكراً لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق {هذا} أي: الإتيان المحقق {من فضل ربي} أي: المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئاً فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر، ولذلك قال {ليبلوني} أي: ليختبرني {أأشكر} فاعترف بكونه فضلاً {أم أكفر} بظني أني أوتيته باستحقاق. تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل ورش وابن كثير، ولورش أيضاً إبدالها ألفا، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله {ومن شكر} أي: أوقع الشكر لربه {فإنما يشكر لنفسه} فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة {ومن كفر} أي: بالنعمة {فإنّ ربي} أي: المحسن إليّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر {غني} عن شكره لا يضرّه تركه شيئاً {كريم} أي: بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره، ولما حصل العرش عنده. {قال} عليه السلام {نكروا} أي: غيروا {لها عرشها} أي: سريرها إلى حالة تنكره إذا رأته، قال قتادة ومقاتل: هو أن يزاد فيه وينقص، وروي أنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر اختباراً لعقلها، كما اختبرتنا بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك. وإليه أشار بقوله {ننظر أتهتدي} أي: إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين} شأنهم أنهم {لا يهتدون} بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء، وقال وهب ومحمد بن كعب: إنما حمل سليمان على ذلك، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولداً لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، فقالوا: إنّ في عقلها شيئاً وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح، ثم أشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله. {فلما جاءت} وكانت قد وضعت عرشها في بيت خلف سبعة أبواب ووكلت به حراساً أشدّاء {قيل} لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره {أهكذا عرشك} أي: مثل هذا عرشك {قالت كأنه هو} قال مقاتل: عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل نعم خوفاً من أن تكذب ولم تقل لا خوفاً من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر، وقيل: اشتبه عليها أمر العرش لأنها خلفته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب. وقوله تعالى: {وأوتينا العلم من قبلها} فيه وجهان: أحدهما: أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق، والمعنى: وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش {وكنا مسلمين} أي: منقادين طائعين لأمر سليمان، والثاني: أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه قالوا: إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم {وأوتينا العلم} يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكراً لله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد، وقيل: معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى، واختلف في فاعل قوله عز وجل. {وصدّها ما كانت تعبد من دون الله} على ثلاثة أوجه: أحدها: ضمير البارئ تعالى، الثاني ضمير سليمان عليه السلام، أي: منعها ما كانت تعبد من دون الله وهو الشمس، وعلى هذا فما كانت تعبد منصوب على إسقاط الخافض، أي: وصدّها الله تعالى أو سليمان عما كانت تعبد من دون الله قاله الزمخشريّ مجوزاً له، قال أبو حيان وفيه نظر من حيث إنّ حذف الجار ضرورة كقوله: *تمرّون الديار فلم تعوجوا* وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع، والثالث: أنّ الفاعل هو ما كانت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 أي: صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي: صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى: {إنها كانت من قوم كافرين} استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس، ولما تم ذلك فكأنه قيل: هل كان بعد ذلك اختبار فقيل نعم. {قيل لها} أي: قائل من جنود سليمان عليه السلام فلم يمكنها المخالفة {ادخلي الصرح} وهو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء جار فيه سمك اصطنعه سليمان، ولما قالت له الشياطين إنّ رجليها كحافر الحمار وهي شعراء الساقين، فأراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفهما، وقيل الصرح صحن الدار أجرى تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكف عليه الطير والجنّ والأنس، وقيل: اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء {فلما رأته حسبته لجة} وهي معظم الماء {وكشفت عن ساقيها} لتخوضه فنظر إليها سليمان فرآها أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما رأى سليمان ذلك صرف نظره عنها، وناداها بأن. {قال} لها {إنه} أي: هذا الذي ظننته ماء {صرح ممرد} أي: مملس ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر {من} أي: كائن من {قوارير} أي: زجاج وليس بماء، ثم إنّ سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت بأن {قالت رب} أي: أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي: بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك {وأسلمت مع سليمان لله} أي: مقرّة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية، ثم رجعت إشارة للعجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت {رب العالمين} فعممت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، وقيل: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إنّ سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا، فقولها ظلمت نفسي أي: بذلك الظنّ. واختلفوا في أمرها بعد إسلامها هل تزّوجها سليمان عليه السلام؟ فالذي عليه أكثر المفسرين فيما رأيت أنه تزوّج بها وكره ما رأى من شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذا فقالوا الموس فقالت المرأة لا تمسني حديدة قط، فسأل الجنّ فقالوا لا ندري، فسأل الشياطين فقالوا إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما تزوّجها سليمان أحبها حباً شديداً وأقرّها على ملكها وأمر الجنّ فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها وارتفاعاً وحسناً، قال الطيبي سلحين ومؤمنة باليمن وغمدان قال في النهاية هم بضم الغين وسكون الميم البناء العظيم، وكان يزورها في الشهر مرّة ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له وقيل: إنها لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلاً من قومك أن أزوجك له قالت ومثلي يا نبيّ الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان، قال نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرّمي ما أحل الله، فقالت إن كان ولا بدّ فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوّجه بها ثم ردّها إلى اليمن وسلطن زوجها ذا تبع على اليمن وأمر زوبعة أمير جنّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميراً حتى مات سليمان عليه السلام، فلما أن حال الحول وتبينت الجنّ موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجنّ إنّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان، وقيل: إنّ الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه. ولما أتم سبحانه وتعالى قصة سليمان وداود عليهما السلام ذكر قصة صالح عليه السلام وهي القصة الثالثة بقوله تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بمالنا من العظمة {إلى ثمود أخاهم} أي: من القبيلة {صالحاً} ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن بقوله: {أن اعبدوا الله} أي: الملك الأعظم وحده ولا تشركوا به شيئاً، ثم تعجب منهم بما أشارت إليه الفاء وإذا المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع بقوله: {فإذا هم} أي: ثمود {فريقان} وبين بقوله تعالى: {يختصمون} أنهم فرقة افتراق بكفر وإيمان لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، ففريق صدق صالحاً واتبعه وفريق استمرّ على شركه وكذبه وكل فريق يقول أنا على الحق وخصمي على الباطل، ثم استعطف صالح عليه السلام على المكذبين بأن. {قال} لهم {يا قوم لم تستعجلون} أي: تطلبون العجلة بالإتيان {بالسيئة} أي: التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر {قبل} الحالة {الحسنة} من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب، واستعجالهم لذلك بالإصرار على سببه وقولهم استهزاءً {ائتنا بما تعدنا} وكانوا يقولون إنّ العقوبة التي بعدها صالح إن وقعت على زعمه تبنا حينئذ واستغفرنا، فحينئذ يقبل الله تعالى توبتنا ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب عقولهم واعتقادهم فقال. {لولا} أي: هلا ولم لا {تستغفرون الله} أي: تطلبون غفرانه قبل نزول العذاب، فإنّ استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ {لعلكم ترحمون} تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه فإنّ العذاب إذا نزل بهم لا تقبل توبتهم. تنبيه: وصف العذاب بأنه سيئة مجازاً إمّا لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأمّا وصف الرحمة بأنها حسنة فقيل حقيقة وقيل مجاز، ثم إنّ صالحاً عليه السلام لما قرّر لهم هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد بأن. {قالوا} فظاظة وغلظة {اطيرنا} أي: تشاءمنا {بك وبمن معك} أي: وبمن آمن بك، وذلك أن الله تعالى قد أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا، فقالوا حل بنا هذا الضرر والشدّة من شؤمك وشؤم أصحابك، قال الزمخشري: كان الرجل يخرج مسافراً فيمرّ بطائر فيزجره فإن مرّ سانحاً تيمن وإن مرّ بارحاً تشائم، قال الجوهريّ: السنيح والسانح ما ولاك ميامنه من ظبي أو طائر وغيرهما وبرح الظبي بروحاً إذا ولاك مياسره يمرّ من ميامنك إلى مياسرك والعرب تتطير بالبارح وتتفائل بالسانح، فلما نسبوا الخير والشرّ إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله تعالى وقسمته تنبيه: أصل اطيرنا تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 همزة وصل. ثم أجابهم صالح عليه السلام بأن {قال} لهم {طائركم} أي: ما يصيبكم من خير وشرّ {عند الله} أي: الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة وهو قضاؤه وقدره وليس شيء منه بيد غيره، وسمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم، وقال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله تعالى بكفركم، وقيل: طائركم عملكم عند الله سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، ومنه قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء: 13) {بل أنتم قوم تفتنون} قال ابن عباس: تختبرون بالخير والشرّ كقوله تعالى: {ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة} (الأنبياء: 35) وقال محمد بن كعب: تعذبون، وقيل: يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم بالتطير، لما أخبر الله تعالى عن عامة هذا الفريق بالشرّ نبه على بعض شرّهم بقوله تعالى: {وكان في المدينة} أي: مدينة ثمود وهي الحجر {تسعة رهط} أي: رجال وإنما جاز تمييزاً لتسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة فكأنه قيل تسعة أنفس أو رجال كما قدّرته، والفرق بين الرهط والنفر أنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة أو من السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة. وأسماؤهم عن وهب: الهذيل بن عبد رب غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قدار بن سالف وهم الذي سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح وكانوا من أبناء أشرافهم ورأسهم قدار بن سالف وهو الذي تولى عقر الناقة، وقوله: {يفسدون في الأرض} إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه وقوله: {ولا يصلحون} يحتمل أن يكون مؤكداً للأوّل ويحتمل أن لا يكون وهو الأولى، لأنّ بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح فنفى عنهم ذلك فليس شأنهم إلا الفساد المحض الذي لا يخالطه شيء من الصلاح، ولما اقتضى السياق السؤال عن بعض حالهم أجاب بقوله: {قالوا تقاسموا} أي: قال بعضهم لبعض احلفوا {بالله} أي: الملك العظيم {لنبيتنه} أي: صالحاً {وأهله} أي: من آمن به لنهلكنّ الجميع ليلاً، فإنّ البيات مباغتة العدوّ ليلاً تنبيه: محل تقاسموا جزم على الأمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً لقالوا كأنه قيل: ما قالوا: فقيل تقاسموا، ويجوز أن يكون حالاً على إضمار قدر أي: قالوا ذلك متقاسمين وإليه ذهب الزمخشريّ. {ثم لنقولنّ} أي: بعد إهلاك صالح ومن معه {لوليه} أي: المطالب بدمه إن بقي منهم أحد {ما شهدنا} أي: ما حضرنا {مهلك} أي: إهلاك {أهله} أي: أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلكه أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكه، وقرأ حمزة والكسائي بعد اللام من لنبيتنه بتاء فوقية مضمومة وبعد الياء التحتية بتاء فوقية مضمومة وبعد اللام من ليقولنّ بتاء فوقية مفتوحة وضمّ اللام بعد الواو، والباقون بعد اللام من لنقولنّ بنون مفتوحة ونصب اللام من لنقولنّ، وقرأ عاصم مهلك بفتح الميم، والباقون بضمها، وكسر اللام حفص، وفتحها الباقون. ولما صمموا على هذا الأمر وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف بقولهم {وإنا لصادقون} أي: في قولنا ما شهدنا مهلك أهله ذلك، فإن قيل: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ أجيب: على التفسير الثاني بأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 البياتين، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما، كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما، وفي هذا دليل قاطع على أنّ الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم إلا أنهم قصدوا قتل نبيّ الله ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون فيها عن الكذب ولما كان منهم عمل من لم يظنّ أنّ الله عالم به قال تعالى محذراً أمثالهم عن أمثال ذلك. {ومكروا مكراً} وهو ما أخفوه من تدبيرهم الفتك بصالح وأهله {ومكرنا مكراً} أي: جازيناهم على مكرهم بتعجيل العقوبة {وهم لا يشعرون} أي: لا يتجدّد لهم شعور بما قدّرناه عليهم، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة، وقيل: إنّ الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرّز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم. {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} في ذلك {أنا دمرناهم} أي: أهلكناهم {وقومهم أجمعين} روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاثة فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من أهضب جبالهم فبادروا إلى الشعب فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل الله تعالى بهم وبقومهم، وعذب الله تعالى كلاً منهم في مكانه بصيحة جبريل عليه السلام ورمتهم الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم. وقال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم، وقال مقاتل: نزلوا في سفح الجبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح فحمى عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله تعالى قومهم بالصيحة. {فتلك بيوتهم} أي: ثمود كلهم {خاوية} أي: خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط تنبيه: خاوية منصوب على الحال، والعامل فيها معنى اسم الإشارة، وقرأ الكوفيون أنا دمرناهم بفتح الهمزة إما على حذف حرف الجرّ، أي: لأنا دمرناهم وإمّا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هي أنا دمرناهم أي: العاقبة تدميرنا إياهم، وقيل غير ذلك، والباقون بكسر الهمزة على الاستئناف وهو تفسير للعاقبة، وقرأ ورش وأبو عمر ووحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، وكسرها الباقون، ولما ذكر تعالى هلاكهم اتبعه بقوله تعالى: {بما ظلموا} أي: بسبب ظلمهم وهو عبادتهم من لا يستحق العبادة وتركهم من يستحقها، ثم زاد في التهويل بقوله تعالى: {إن في ذلك} أي: هذا الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود {لآية} أي: عبرة عظيمة ولكنها {لقوم يعلمون} قدرتنا فيتعظون أما من لا علم عنده فقد نادى على نفسه في عداد البهائم، ولما ذكر تعالى الذين أهلكهم أتبعه بذكر الذين نجاهم فقال. {وأنجينا} أي: بعظمتنا وقدرتنا {الذين آمنوا} وهم الفريق الذين كانوا مع صالح كلهم {وكانوا يتقون} أي: متصفين بالتقوى أيضاً فكأنهم مجبولون عليه فيجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية من الأعمال الصالحة. ولما ذكر تعالى قصة صالح عليه السلام أتبعها قصة لوط عليه السلام وهي القصة الرابعة بقوله تعالى: {ولوطاً} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وهو إما منصوب عطفاً على صالح، أي: وأرسلنا لوطاً، وإما عطفاً على الذين آمنوا أي: وأنجينا لوطاً، وإما باذكر مضمرة ويبدل منه على هذا. {إذ} أي: حين {قال لقومه} أي: الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما السلام وصاهرهم وكانوا يأتون الأحداث منكراً موبخاً {أتأتون الفاحشة} أي: الفعلة المتناهية في الفحش {وأنتم تبصرون} من بصر القلب، أي: تعلمون فحشها واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين لا يستتر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكاً في المعصية، قال الزمخشري وكان أبا نواس بنى على مذهبهم قوله: *وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر* أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم، فإن قيل: إذا فسر تبصرون بالعلم وبعده بل أنتم قوم تجهلون فكيف يكونون علماء جهلاء؟. أجيب: بأنهم يفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمهم بذلك أو يجهلون العاقبة، أو أنّ المراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها، ثم عين ما أبهمه بقوله. {أئنكم لتأتون} وقال {الرجال} إشارة إلى أنّ فعلتهم هذه مما يعني الوصف ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدّق ذو عقل أنّ أحداً يفعلها، ثم علل ذلك بقوله {شهوة} إنزالاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد ولا إعفاف، وقال {من دون النساء} إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك، وقوله: {بل أنتم قوم تجهلون} تقدّم في جواب تبصرون تفسيره، فإن قيل: تجهلون صفة لقوم والموصوف لفظه لفظ الغائب فهلا طابقت الصفة الموصوف؟ أجيب: بأنه قد اجتمعت الغيبة والمخاطبة فغلبت المخاطبة لأنها أقوى وأرسخ أصلاً من الغيبة، وقرأ أئنكم نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة كالياء، وحققها الباقون، وأدخل بينهما قالون وأبو عمرو ألفاً، وهشام بخلاف عنه، لما بين تعالى بجهلهم بين أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً بقوله تعالى: {فما كان جواب قومه} أي: لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة ولا شبهة في دفعه {إلا أن قالوا} عدولاً إلى المغلابة وتمادياً في الخبث {أخرجوا آل لوط} أي: أهله وقولوا {من قريتكم} مناً عليه بإسكانه عندهم، وعللوا ذلك بقولهم {إنهم أناس يتطهرون} أي: يتنزهون عن القاذورات كلها فينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم، وعن ابن عباس: هو استهزاء أي: قالوه تهكماً بهم، ولما وصولوا في الخبث إلى هذا الحدّ سبب سبحانه وتعالى عن قولهم وفعلهم قوله تعالى: {فأنجيناه وأهله} أي: كلهم من أن يصلوا إليهم بأذى ويلحقهم من عذابنا {إلا امرأته قدرناها} أي: قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا {من الغابرين} أي: الباقين في العذاب، وقرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد. {وأمطرنا عليهم مطراً} هو حجارة السجيل، أي: أهلكتهم ولذلك تسبب عنه قوله {فساء} أي: فبئس {مطر المنذرين} بالعذاب مطرهم. ولما أتم سبحانه وتعالى هذه القصص الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه وما خص به رسله من الآيات والانتصار من البعداء أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحمده على هلاك الأمم الخالية بقوله. {قل} يا أفضل الخلق. {الحمد} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 أي: الوصف بالإحاطة بصفات الكمال {لله} على إهلاك هؤلاء البعداء البغضاء، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك بقوله تعالى: {وسلام على عباده الذين اصطفى} أي: اصطفاهم، واختلف فيهم فقال مقاتل: هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى: {وسلام على المرسلين} (الصافات، 181) وقال ابن عباس: في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين تنبيه: سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه دعاء. ولما بين أنه تعالى أهلكهم ولم تغن عنهم آلهتهم من الله شيئاً قال تعالى: {آلله} أي: الذي له الجلال والإكرام {خير} أي: لعباده الذين اصطفاهم وأنجاهم {أم ما يشركون} أي: الكفار من الآلهة خير لعبادها فإنهم لا يغنون عنهم شيئاً تنبيه: لكل من القراء السبعة في هاتين الهمزتين وجهان: الأوّل: تحقيق همزة الاستفهام وإبدال همزة الوصل ألفاً مع المدّ، والثاني: تحقيق همزة الاستفهام أيضاً وتسهيل همزة الوصل مع القصر، وقرأ أبو عمرو وعاصم يشركون بالياء التحتية بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله تعالى: {وأمطرنا عليهم مطراً} وما بعده من قوله تعالى: {بل أكثرهم} والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا تبكيت للمشركين بحالهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم وتهكماً بهم وتسفيهاً لرأيهم إذ من المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازنون بينه وبين من هو مبتدأ كل خير. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» ، ثم عدد سبحانه وتعالى أنواعاً من الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، الأوّل منها قوله تعالى: {أم من خلق السموات والأرض} أي: التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع، فإن قيل: ما الفرق بين أم وأم في {أم ما يشركون} و {أم من خلق السموات} ؟ أجيب: بأنّ تلك متصلة لأنّ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله خير أم الآلهة قال بل أم من خلق السموات والأرض خير تقريراً لهم بأنّ من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء {وأنزل لكم} أي: لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره {من السماء ماء} هو للأرض كالماء الدافق للأرحام {فأنبتنا به حدائق} جمع حديقة وهي البستان، وقيل: القطعة من الأرض ذات الماء. قال الراغب: سميت بذلك تشبهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، وقال غيره: سميت بذلك لأحداق الجدران بها قاله ابن عادل، وليس بشيء لأنه يطلق عليها ذلك مع عدم الجدران {ذات بهجة} أي: بهاء وحسن ورونق وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها وتباين طعومها وأشكالها ومقاديرها وألوانها، ولما أثبت الإنبات له نفاه عن غيره بقوله تعالى: {ما كان} أي: ما صح وما تصوّر بوجه من الوجوه {لكم} وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات {أن تنبتوا شجرها} أي: شجر تلك الحدائق {أإله مع الله} أعانه على ذلك، أي: ليس معه إله {بل هم} أي: في ادعائهم معه سبحانه شريكاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 {قوم يعدلون} أي: عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، وقيل: يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أوّل سورة الأنعام، الثاني: منها قوله تعالى: {أم من جعل الأرض قراراً} وهو بدل من {أم من خلق السموات} وحكمه حكمه، ومعنى قراراً ألا تميد بأهلها، وكان القياس يقتضي أن تكون هادئة أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء، ولكن الله تعالى أبدى بعضها من الماء بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها {وجعل خلالها} أي: وسطها {أنهاراً} أي: جارية على حالة واحدة فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب لتغيرت مجاري المياه. ثم ذكر تعالى سبب القرار بقوله تعالى: {وجعل لها رواسي} أي: جبالاً أثبت بها الأرض على ميزان دَبَّرهُ سبحانه وتعالى في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب، ولما كان بعض مياه الأرض عذباً وبعضها ملحاً مع القرب جدّاً، بيّن الله تعالى أن أحدهما لم يختلط بالآخر بقوله تعالى: {وجعل بين البحرين} أي: العذب والملح {حاجزاً} من قدرته يمنع أحدهما أن يختلط بالآخر {أإله مع الله} أي: المحيط علماً وقدرة معين له على ذلك {بل أكثرهم} أي: الذين ينتفعون بهذه المنافع {لا يعلمون} توحيد ربهم بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح تنبيه: في قراءة أإله مثل أئنكم، الثالث: منها قوله تعالى: {أم من يجيب المضطرّ} أي: المكروب وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرّع إلى الله تعالى {إذا دعاه} وقت اضطراره، وعن ابن عباس: هو المجهود، وعن السدي هو الذي لا حول له ولا قوة. فإن قيل: هذا يعم كل مضطرّ وكم مضطرّ يدعو فلا يجاب؟ أجيب: بأنّ اللام فيه للجنس لا للاستغراق ولا يلزم منه إجابة كل مضطرّ، وقوله تعالى: {ويكشف السوء} كالتفسير للاستجابة وأنه لا يقدر أحد على كشف ما وقع له من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة إلا القادر الذي لا يعجزه شيء والقاهر الذي لا ينازع، والإضافة في قوله تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} بمعنى في أي يخلف بعضكم بعضاً لا يزال يجدّد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة {أإله مع الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له ومواجهاً به بقوله تعالى: {قليلاً ما تذكرون} أي: تتعظون وقرأ أبو عمرو وهشام بالياء، التحتية على الغيبة، والباقون بالخطاب وفيه ادغام التاء في الذال وما زائدة القليل، الرابع منها: قوله تعالى: {أم من يهديكم} أي: يرشدكم إلى مقاصدكم {في ظلمات البر} أي: بالنجوم والجبال والرياح {والبحر} بالنجوم والرياح {ومن يرسل الرياح} أي: التي هي دلائل السير {بُشراً} أي: تنشر السحاب وتجمعها {بين يدي رحمته} أي: التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع: التي من تجاه الكعبة الصبا، ومن ورائها الدبور، ومن جهة يمينها الجنوب، ومن شمالها الشمال ولكل منها طبع فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب على أهلها جعلنا الله ووالدينا ومشايخنا وأصحابنا ومن انتفع بشيء من هذا التفسير ودعا لنا بالمغفرة منهم، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير الريح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 بالإفراد، والباقون بالجمع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ونشراً بضم النون والشين وابن عامر بضم النون وسكون الشين، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين وعاصم بالباء الموحدة مضمومة وسكون الشين، ولما انكشف بما مضى من الآيات ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات واتضحت الأدلة، ولم يبق لأحد في شيء من ذلك علة، كرّر سبحانه وتعالى الإنكار في قوله تعالى {أإله مع الله} أي: الذي كمل علمه {تعالى الله} أي: الفاعل القادر المختار {عما يشركون} به غيره، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة، الخامس: منها قوله تعالى: {أم من يبدأ الخلق} أي: كلهم في الأرحام من نطفة ما علمتم منهم وما لم تعلموا {ثم يعيده} أي: بعد الموت لأنّ الإعادة أهون، فإن قيل: كيف قيل: لهم ثم يعيده؟ أجيب: بأنهم كانوا مقرين بالابتداء ودلالته على الإعادة ظاهرة قوية لأنّ الإعادة أهون عليه من الابتداء، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لا عذر لهم في إنكار الإعادة لقيام البراهين عليها، ولما كان الإمطار والإنبات من أدلّ ما يكون على الإعادة قال مشيراً إليهما على وجه عمّ جميع ما مضى. {ومن يرزقكم من السماء} أي: بالمطر والحرّ والبرد وغيرها مما له سبب في التكوين أو التلوين {والأرض} أي: بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى: وعبر عنها بالرزق لأنّ به تمام النعمة {أإله مع الله} أي: الذي له صفات الجلال والإكرام، ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ودلائل قاطعة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إعراضاً عنهم بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المدّعين للعقول {هاتوا برهانكم} أي: حجتكم على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى أو على إثبات شيء منه لغيره {إن كنتم صادقين} أي: في أنكم على حق في أنّ مع الله تعالى غيره، وأضاف تعالى البرهان إليهم تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال وأغرقوا في المحال، ثم إنهم سألوه عن وقت قيام الساعة فنزل. {قل} أي: لهم {لا يعلم من في السموات والأرض} من الملائكة والناس {الغيب} أي: ما غاب عنهم وقوله تعالى: {إلا الله} استثناء منقطع أي: لكن الله يعلمه، ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعاً، فإن قيل: من حق المنقطع النصب؟. أجيب: بأنه رفع بدلاً على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحداً لم يذكر، ومنه قولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه، فإن قيل: ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي؟ أجيب: بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت أن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، إنباء عن خلوها عن الأنيس. ويصح أن يكون متصلاً والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وإن منعه بعضهم، ومن ذلك قول المتكلمين: الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فكأن ذاته فيها، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول. {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقوله تعالى: {وما يشعرون} صفة لأهل السموات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب، وإن اجتمعوا وتعاونوا {أيان} أي: أيّ وقت {يبعثون} أي: ينشرون، وقوله تعالى: {بل} بمعنى هل {أدارك} أي: بلغ وتناهى {علمهم في الآخرة} أي: بها حتى سألوا عن وقت مجيئها، ليس الأمر كذلك {بل هم في شك} أي: ريب {منها} كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً {بل هم منها عمون} لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين بمن في السموات والأرض، نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل. فإن قيل: هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها؟ أجيب: بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلاً بأنّهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون، ووصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بقطع الهمزة مفتوحة وسكون اللام قبلها وسكون الدال بعدها، والباقون بكسر اللام وإسقاط الهمزة بعدها وتشديد الدال وبعدها ألف بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا أئذا كناتراباً وآباؤنا أئنا} أي: نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم {لمخرجون} كالنبات، والعامل في إذا محذوف يدل عليه لمخرجون تقديره نبعث ونخرج، لأنّ بين يدي عمل اسم المفعول فيه عقبات وهي همزة الاستفهام وإنا ولام الابتداء وواحدة منها كافية فكيف إذا اجتمعت، والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على إذا وأنا جميعاً إنكار على إنكار وجحود عقب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه، والضمير في إنا لهم ولآبائهم لأنّ كونهم تراباً قد تناولهم وآباؤهم. تنبيه: آباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد. وقرأ نافع بالخبر في إذا وبالاستفهام في أئنا، وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وزادا فيه نوناً ثانية، وباقي القراء بالاستفهام في الأوّل والثاني وهم على مذاهبهم من التسهيل والتحقيق والمدّ والقصر، فمذهب قالون وأبي عمرو التسهيل في الهمزة الثانية، وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، ومذهب ورش وابن كثير التسهيل وعدم الإدخال ومذهب هشام الإدخال وعدمه مع التحقيق، ومذهب الباقين التحقيق وعدم الإدخال، ثم أقام الكفار الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم. {لقد وعدنا هذا} أي: الإخراج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 من القبور كما كنا أوّل مرّة {نحن وآباؤنا من قبل} أي: قبل محمد فقد مرّت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء فذلك دليل على أنه لا حقيقة له، فكأنه قيل: فما فائدة المراد به فقالوا {إن} أي: ما {هذا إلا أساطير الأوّلين} أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ولا حقيقة لها. تنبيه: أساطير الأوّلين: جمع أسطورة بالضم أي: ما سطر من الكذب، فإن قيل: لم قدم في هذه الآية هذا، على نحن وآباؤنا، وفي آية أخرى قدم نحن وآباؤنا، على هذا؟ أجيب: بأنّ التقديم دليل على أنّ المقدّم هو الغرض المقصود بالذكر وأنّ الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أنّ إيجاد البعث هو الذي تعمد بالكلام وفي الأخرى على أنّ إيجاد المبعوث بذلك الصدد، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم بما في صورة التهديد بقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض} أي: أيها العمي الجاهلون {فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} بإنكارهم وهي هلاكهم بالعذاب فإنكم إن نظرتم وتأمّلتم أخبارهم حق التأمّل أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم كما هلكوا، وأراد بالمجرمين الكافرين، فإن قيل: فلم لم يقل عاقبة الكافرين؟ أجيب: بأنّ هذا يحصل به التخويف لكل العصاة، ثم إنّ الله تعالى صبر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما يناله من جلافتهم وعماهم عن السبيل الذي هدى إليه الدليل بقوله تعالى: {ولا تحزن عليهم} أي: في عدم إيمانهم فإنما عليك البلاغ {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} أي: لا تهتم بمكرهم عليك فأنا ناصرك عليهم وجاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح، تنبيه: الضيق الحرج يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر، ولهذا قرأ ابن كثير بكسر الضاد، والباقون بالفتح، ولما أشار تعالى إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجهاً أشار تعالى إلى أنهم في التكذيب بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشدّ مبالغة بقوله تعالى: {ويقولون} بالمضارع المؤذن بالتجدّد كل حين والاستمرار {متى هذا الوعد} أي: العذاب والبعث والمجازاة الموعود بها وسموه وعداً إظهاراً لمجيئه تهكماً به {إن كنتم} أي: أنت ومن تبعك {صادقين} فيه، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله تعالى: {قل} لهم {عسى أن يكون ردف لكم} أي: تبعكم وردفكم ولحقكم، فاللام مزيدة على هذا للتأكيد كالباء في قوله {ولا تلقوا بأيديكم} (البقرة، 195) ويصح أن يكون تضمن ردف معنى فعل فتعدى باللام نحو دنا وقرب وأردف وبهذا فسره ابن عباس، وقد عدّي بمن في قول القائل: *فلما ردفنا من عمير وصحبه ... تولوا سراعاً والمنية تعنق* يعني دنونا من عمير {بعض الذي تستعجلون} أي: فحصل لهم القتل ببدر وباقي العذاب يأتي بعد الموت، تنبيه: عسى ولعلّ وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها، وإنما يطلقون إظهاراً لوقارهم وإشعاراً بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيد، ولما كان التقدير فإنّ ربك لا يعجل على هذا العاصي بالانتقام مع تمام قدرته عطف عليه. {وإن ربك} أي: المحسن إليك بالحلم على أمّتك {لذو فضل} أي: تفضل وإنعام {على الناس} أي: كافة {ولكن أكثرهم لا يشكرون} أي: لا يعرفون حق النعمة له ولا يشكرونه بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 يستعجلون بجهلهم العذاب، قال ابن عادل: وهذه الآية تبطل قول من قال لا نعمة لله على كافر. {وإن ربك} أي: والحال أنه {ليعلم ما تكنّ} أي: تضمر وتسرّ وتخفي {صدورهم} أي: الناس كلهم فضلاً عن قومك {وما يعلنون} أي: يظهرون من عداوتك وغيرها فيجازيهم على ذلك. {وما من غائبة في السماء والأرض} أي: في أيّ موضع كان منهما، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد تنبيه: في هذه التاء قولان: أحدهما: أنها للمبالغة كراوية وعلاّمة في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى، والثاني: أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو العاقبة والعافية، قال الزمخشريّ: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات {إلا في كتاب} هو اللوح المحفوظ كتب فيه ذلك قبل إيجاده لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره {مبين} أي: ظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة، ولما تمم تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد ذكر بعده ما يتعلق بالنبوّة بقوله تعالى: {إنّ هذا القرآن} أي: الآتي به هذا النبيّ الأميّ الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً {يقص على بني إسرائيل} أي: الموجودين في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم {أكثر الذي هم فيه يختلفون} أي: من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أنّ حدّه الرجم، وقصة عزيز والمسيح، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مما في توراتهم فصح بحقيقته على لسان من لم يلمّ بعلم قط نبوّته صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك لا يكون إلا من عند الله، ثم وصف تعالى فضل هذا القرآن بقوله تعالى: {وإنه لهدى} أي: من الضلالة لما فيه من الدلائل على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله تعالى {ورحمة} أي: نعمة وإكرام {للمؤمنين} أي: الذين طبعهم على الإيمان فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في آذانهم وعمى في قلوبهم، ولما ذكر تعالى دليل فضله أتبعه دليل عدله بقوله تعالى: {إن ربك} أي: المحسن إليك بما لم يصل إليه أحد {يقضي بينهم} أي: بين جميع المختلفين {بحكمه} أي: الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه، فإن قيل: القضاء والحكم شيء واحد فقوله تعالى: {يقضي بينهم بحكمه} أي: بما يحكم به كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه؟ أجيب: بأنّ معنى قوله تعالى: {بحكمه} أي: بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً أو أراد بحكمته {وهو} أي: والحال أنه هو {العزيز} أي: فلا يردّ له أمر {العليم} فلا يخفى عليه سرّ ولا جهر، فلما ثبت له تعالى العلم والحكمة والعظمة والقدرة تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فتوكل على الله} أي: ثق به لتدع الأمور كلها إليه وتستريح من تحمل المشاق وثوقاً بنصره، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنك على الحق المبين} أي: البين في نفسه الموضح لغيره فصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله تعالى ونصره وقوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طمعه من معاضدتهم، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} أي: معرضين، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {ولوا مدبرين} أجيب: بأنه تأكيد الحال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 الأصم لأنه إذا تباعد عن محل الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته، وقرأ ابن كثير ولا يسمع بالياء التحتية المفتوحة وفتح الميم الصم برفع الميم، والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم الصم بالنصب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية من الدعاء إذاً كالياء مع تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ، ثم قطع طمعه في إيمانهم بقوله تعالى: {وما أنت بهادي العمي} أي: في أبصارهم وبصائرهم مزيلاً لهم وناقلاً ومبعداً {عن ضلالتهم} أي: عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزلوا عنها أصلاً فإنّ هذا لا يقدر عليه إلا الحيّ القيوم، وقرأ حمزة تهدي بتاء فوقيه وسكون الهاء والعمي بنصب الياء، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء بعدها ألف والعمي بكسر الياء، ولما كان هذا ربما أوقف عن دعائهم رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله تعالى: {إن} أي: ما {تسمع} أي: سماع انتفاع على وجه الكمال في كل حال {إلا من يؤمن} أي: من علمنا أنه يصدّق {بآياتنا} بأن جعلنا فيه قابلية السمع، ثم تسبب عنه قوله دليلاً على إيمانه {فهم مسلمون} أي: مخلصون في غاية الطواعية لك كما في قوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} (البقرة: 112) أي: جعله سالماً خالصاً، ثم ذكر تعالى ما يوعدون مما تقدّم استعجالهم له استهزاء بقوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم} أي: مضمون القول وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه حصوله، أو أطلق المصدر على المفعول أي: المقول {أخرجنا} أي: بما لنا من العظمة {لهم} حين مشارفة العذاب والساعة وظهور أشراطها حين لا تنفع التوبة {دابة من الأرض} وهي الجساسة جاء في الحديث: «إن طولها ستون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب» وروي: «أنّ لها أربع قوائم وزغباً وهو شعر أصفر على ريش الفرخ وريشاً وجناحين» . وعن ابن جريج في وصفها فقال: رأسها رأس الثور، وعينها عين الخنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وخفها خف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام، وروي أنها لا تخرج إلا رأسها ورأسها يبلغ عنان السماء أي: يبلغ السحاب، وعن أبي هريرة فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للرّاكب، وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها، وروي أنه صلى الله عليه وسلم «سئل من أين تخرج الدابة فقال: من أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن» حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم: يقفون نظاراً، وقيل تخرج من الصفا، ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال {تكلمهم} أي: بالعربية كما قاله مقاتل بكلام يفهمونه بلسان طلق ذلق فتقول {أنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} أي: أنّ الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأنّ خروجها من الآيات، وتقول ألا لعنة الله على الظالمين، وعن السدي: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 المشرق ثم الشأم ثم اليمن فتفعل مثل ذلك، وروي أنها تخرج من أجياد، روي بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو تترك وجهه كأنه كوكب دريّ وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر، وروي فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتخطم أنف الكافر بالخاتم ثم تقول لهم يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار. وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستاً طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة وخاصة أحدكم وأمر العامة» وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ أوّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها» . وقال صلى الله عليه وسلم «للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها في البادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تكمن زماناً طويلاً ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عز وجلّ يعني المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو، قال الراوي ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى إنّ الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر» . وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية يشير إلى أنها رجل، والأكثرون على أنها دابة، وعن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال إنّ الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بئس الشعب شعب أجياد مرّتين أو ثلاثاً قيل ولم ذاك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» وقال وهب: وجهها وجه الرجل وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من يراها أنّ أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون، وقرأ الكوفيون بفتح الهمزة من أنّ على تقدير الباء أي: بأنّ الناس الخ، والباقون بكسرها على الاستئناف. {ويوم نحشر} أي: الناس على وجه الإكراه، قال أبو حيان الحشر الجمع على عنف {من كل أمّة} أي: قرن {فوجاً} أي: جماعة {ممن يكذب بآياتنا} أي: وهم رؤساؤهم المتبوعون {فهم يوزعون} أي: يجمعون يرد آخرهم إلى أوّلهم وأطرافهم على أوساطهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 ليتلاحقوا ولا يشذ منهم أحد ولا يزالون كذلك. {حتى إذا جاؤوا} إلى مكان الحساب {قال} أي: الله تعالى لهم {أكذبتم} أي: أنبيائي {بآياتي} التي جاؤوا بها {و} الحال أنكم {لم تحيطوا بها} أي: من جهة تكذيبكم {علماً} أي: من غير فكر ولا نظر يؤدّي إلى الإحاطة بما في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه وما يليق بها بدليل الأمر به فيه، وأم في قوله تعالى: {أم ماذا} منقطعة وتقدّم حكمها، وماذا يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً بتعلمون الواقع خبراً عن كنتم، وأن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا موصول خبره والصلة {كنتم تعلمون} . وعائده محذوف أي: أي شيء الذي كنتم تعملونه. {ووقع القول} أي: وجب العذاب الموعود {عليهم بما ظلموا} أي: بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما ينشأ عنه من الضلال في الأقوال والأفعال {فهم لا ينطقون} قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجة لهم نظير قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 35، 36) وقيل: لا ينطقون لأن أفواههم مختومة، ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد والحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال. {ألم يروا} مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به {أنا جعلنا} أي: بعظمتنا الدالة على نفوذ مرادنا وفعلنا بالاختيار {الليل} أي: مظلماً {ليسكنوا فيه} عن الانتشار {والنهار مبصراً} أي: يبصر فيه ليتصرفوا فيه ويبتغوا من فضل الله فحذف من الأوّل ما ثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما ثبت نظيره في الأول إذ التقدير جعلنا الليل مظلماً كما مرّ ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ليتصرفوا فيه كما مرّ فحذف مظلماً لدلالة مبصراً وليتصرفوا لدلالة لتسكنوا فيه وقوله تعالى: {مبصراً} كقوله تعالى: {آية النهار مبصرة} (الإسراء: 12) وتقدم الكلام على ذلك في الإسراء. قال الزمخشري فإن قلت ما للتقابل لم يراع في قوله تعالى ليسكنوا ومبصراً حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأنّ معنى مبصراً ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب، وأجاب غيره بأنّ السكون في الليل هو المقصود ولأن وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية {إن في ذلك} أي: هذا المذكور {لأيات} أي: دلالات بينة على التوحيد والبعث والنبوّة وغير ذلك وخص المؤمنين بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون} لأنهم المنتفعون به وإن كانت الأدلة للكل كقوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: 2) ولما ذكر تعالى هذا الحشر الخاص والدليل على مطلق الحشر ذكر الحشر العام بقوله تعالى: {ويوم ينفخ} أي: بأيسر أمر {في الصور} أي: القرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام {ففزع} أي: فصعق كما قال تعالى في آية أخرى: {فصعق} (الزمر، 68) {من في السموات ومن في الأرض} أي: كلهم فماتوا والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، وقيل: ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين، فإن قيل: لم قال الله تعالى ففزع ولم يقل فيفزع؟ أجيب: بأنّ في ذلك نكتة وهي الإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة واقع على أهل السموات والأرض لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به، والمراد فزعهم عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 النفخة الأولى حين يصعقون {إلاّ من شاء الله} أي: المحيط علماً وقدرة وعزة وعظمة أن لا يفزع. روي أنه صلى الله عليه وسلم «سأل جبريل عنهم فقال هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش» وعن ابن عباس هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم، وعن مقاتل: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ويروى أنّ الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله تعالى خذ نفس ميكائيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني قال يا جبريل لا بدّ من موتك فيقع ساجداً يخفق بجناحيه، فيروى أنّ فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم، ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح إسرافيل ثم روح ملك الموت، وعن الضحاك هم رضوان والحور ومالك والزبانية عليهم السلام وقيل: عقارب النار وحياتها {وكل} أي: من فزع ومن لم يفزع {أتوه} أي: بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها وفي ذلك دليل على تمام قدرته تعالى في كونه أقامهم بما به أماتهم {داخرين} أي: صاغرين. وقرأ حفص وحمزة بقصر الهمزة وفتح التاء على أنه فعل ماض ومفعوله الهاء فالتعبير به لتحقق وقوعه، والباقون بمد الهمزة وضم التاء على أنه اسم فاعل مضاف للهاء وهذا حمل على معنى كل وهي مضافة تقديراً أي: وكلهم، ولما ذكر تعالى دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم بقوله تعالى: {وترى الجبال} أي: تبصرها وقت النفخة والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لكونه أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة أو لكل أحد {تحسبها} أي: تظنها {جامدة} أي: قائمة ثابتة في مكانها لا تتحرّك لأنّ الأجرام الكبار إذا تحرّكت في سمت واحد لا تكاد تتبين حركتها {وهي تمرّ} أي: تسير حتى تقع على الأرض فتسوى بها مبثوثة ثم تصير كالعهن ثم تصير هباءً منثوراً، وأشار تعالى إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله تعالى: {مرّ السحاب} أي: مرّاً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا أطبق الجوّ لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإلالم تنكشف الشمس بلا لبس وكذلك كبير الجرم أو كثير العدد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه ولكثرته البصر والناظر الحاذق يظنه واقفاً. وقرأ تحسبها بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفتحها الباقون وقوله تعالى {صنع الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، أي: صنع الله ذلك صنعاً، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع {الذي أتقن} أي: أحكم {كل شيء} صنعه ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن والنظام الأمكن أنتج قطعاً قوله تعالى: {إنه} أي: الذي أتقن هذه الأمور {خبير بما يفعلون} أي: عالم بظواهر الأحوال وبواطنها ليجازيهم عليها كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة} أي: الكاملة وهي الإيمان، وعن ابن عباس الحسنة كلمة الشهادة {فله خير} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 أفضل {منها} مضاعفاً أقلّ ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل له خير: حاصل من جهتها وهو الجنة وفسر الجلال المحلي الحسنة بلا إله إلا الله، وقال في {فله} خير منها، أي: بسببها فليس للتفضيل إذ لا فعل خير منها وهذا يناسب القول الثاني {وهم} أي: الجاؤون بها {من فزع يومئذ} أي: يومئذ إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة {آمنون} أي: حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر. وقرأ يفعلون ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الخطاب، وقرأ وهم من فزع يومئذ آمنون الكوفيون بتنوين العين، والباقون بغير تنوين وهم أعمّ فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وأمّا قراءة التنوين فتحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العذاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من الرعب ومشاهدته فلا ينفك منه أحد، ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار، وقرأ نافع والكوفيون: بفتح الميم من يومئذ والباقون بكسرها فإن قيل: أليس قال تعالى في أوّل الآية {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} (النمل، 87) فكيف نفى الفزع ههنا؟ أجيب: بأنّ الفزع الأوّل لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع أو هول يفجأ إلا ما استثنى وإن كان المحسن آمناً من لحاق الضرر، وأما الثاني فهو الخوف من العذاب. {ومن جاء بالسيئة} أي: التي لا سيئة مثلها وهي الشرك لقوله تعالى {فكبت} أي: بأيسر أمر {وجوههم في النار} بأن وليتها مع أنه ورد في الصحيح أنّ مواضع السجود التي أشرفهاالوجه لا سبيل للنار عليها والوجه أشرف ما في الإنسان فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان، والمكبوب عليه منكوس ويقال له تبكيتاً {هل} أي: ما {تجزون إلا} جزاء {ما كنتم تعملون} أي: من الشرك والمعاصي. تنبيه: جعل مقابلة الحسنة بالثواب والسيآت بالعقاب من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة إنه عليم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك فانظر إلى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق والادعاء، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه. {إنما أمرت} أي: بأمر من لا يردّ له أمر {أن أعبد} أي: بجميع ما آمركم به {رب} أي: موجد ومدبر {هذه البلدة} أي: مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من رآها ثم تؤمن أهل السعادة أخصه بذلك لا أعبد شيئاً مما تعبدونه {الذي حرّمها} أي: جعلها الله تعالى حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلي خلاها ولما خصص مكة بهذه الإضافة تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها قال احترازاً عما قد يتوهم {وله كل شيء} أي: من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً وملكاً: ولما كانوا ربما قالوا نحن نعبده بعبادة من نرجوه يقرّبنا إليه زلفى، عين له الدين الذي تكون به العبادة بقوله: {وأمرت} أي: مع الأمر بالعبادة له وحده {أن أكون} أي: كوناً هو في غاية الرسوخ {من المسلمين} أي: المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتمّ انقياد ثابتاً على ذلك غاية الثبات. {وأن} أي: وأمرت أن {أتلو القرآن} عليكم تلاوة الدعوة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الإيمان، أو أن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً {فمن اهتدى} أي: باتباع هذا القرآن الداعي إلى الجنان {فإنما يهتدي لنفسه} أي: لأجلها لأنّ ثواب هدايته له {ومن ضلّ} أي: عن الإيمان الذي هو الطريق المستقيم {فقل} أي: له كما تقول لغيره {إنما أنا من المنذرين} أي: المخوّفين له عواقب صنعه فلا عليّ من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت. {وقل} أي: إنذاراً لهم وترغيباً وترجئة وترهيباً {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي: الذي له العظمة كلها على نعمة النبوّة وعلى ما علمني ووفقني للعمل به {سيريكم آياته} القاهرة في الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض وفي الآخرة بالعذاب الأليم {فتعرفونها} أي: فتعرفون أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. {وما ربك} أي: المحسن إليك بجميع ما أقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجسيمة. {بغافل عما تعملون} أي: فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، وقرأ نافع وابن عامر وحفص: بالتاء على الخطاب لأنّ المعنى عما تعمل أنت وأتباعك من الطاعة وهم من المعصية، والباقون بالياء على الغيبة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري: «من أنّ من قرأ طس كان له من الأجر عشرة حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله» حديث موضوع. سورة القصص مكية إلا قوله تعالى: {أنّ الذي فرض} الآية نزلت بالجحفة {وإلا الذين آتيناهم الكتاب} إلى {لا نبتغي الجاهلين} وهي سبع أو ثمان وثمانون آية، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف وثمانمائة حرف، وتسمى سورة موسى عليه السلام لاشتمالها على قصّته فقط من حين ولد إلى أن أهلك الله تعالى فرعون وخُسف بقارون، كما سميت سورة نوح وسورة يوسف لاشتمالهما على قصتهما، ولا يقال سميت بذلك لذكر القصص فيها في قوله تعالى: {فلما جاءه وقص عليه القصص} لأنّ سورة يوسف فيها ذكر القصص مرّتين الأولى: {نقص عليك أحسن القصص} والثانية: قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم} فكانت سورة يوسف أولى بهذا الاسم، وأيضاً فكانت سورة هود أولى بهذا الاسم، لأنه ذكر فيها قصص سبعة أنبياء وهذه ليس فيها إلا قصة واحدة فكان ينبغي العكس وأن تسمى سورة هود القصص وهذه سورة موسى. {بسم الله} الذي اختص بالكبرياء والعظمة {الرحمن} الذي عمّ بنعمه أهل الإيمان والكفران {الرحيم} الذي خص بنعمه بعد البعث أهل الإيمان {طسم} تقدّم الكلام على أوائل السور أوّل البقرة. {تلك} أي: هذه الآيات العالية الشأن {آيات الكتاب} أي: المنزل على قلبك الجامع لجميع المصالح الدنيوية والأخروية والإضافة بمعنى من {المبين} أي: المظهر الحق من الباطل. {نتلو} أي: نقص قصاً متتابعاً متوالياً بعضه في إثر بعض {عليك} بواسطة جبريل عليه السلام {من نبأ} أي: خبر {موسى وفرعون بالحق} أي: بالصدق الذي يطابقه الواقع. تنبيه: يجوز أن يكون مفعول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 نتلو محذوفاً دلت عليه صفته وهي من نبأ موسى، تقديره نتلو عليك شيئاً من نبأ موسى، ويجوز أن تكون من مزيدة على رأي الأخفش أي: نتلو عليك نبأ موسى، وبالحق يجوز أن يكون حالاً من فاعل نتلو ومن مفعوله أي: نتلو عليك بعض خبرهما ملتبسين أو ملتبساً بالحق، ثم نبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولي الإذعان بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون} فغيرهم لا ينتفع بذلك ولما كان كأنه قيل ما المقصود من هذا قال. {إنّ فرعون} ملك مصر الذي ادّعى الإلهية {علا} أي: بادعاء الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم {في الأرض} أي: أرض مصر وإطلاقها يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض لاشتمالها على ما قل أن يشتمل عليه غيرها {وجعل} أي: بما جعلنا له من نفوذ الكلمة {أهلها} أي: أهل الأرض المرادة {شيعاً} أي: فرقاً تتبع كل فرقة شيئاً يتبعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يكون عتيقه، أو أصنافاً في استخدامه يسخر صنفاً في بناء، وصنفاً في حفر، وصنفاً في حرث، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية، أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء وهم بنو إسرائيل والقبط. وقوله تعالى {يستضعف طائفة منهم} يجوز فيه ثلاثة أوجه أن يكون حالاً من فاعل جعل أي: جعلهم كذلك حالة كونه مستضعفاً طائفة منهم، وأن يكون صفة لشيعاً وأن يكون استئنافاً بياناً لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم وهو يوسف عليه السلام وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده ومع ذلك كافؤوه في أولاده وأولاد أخوته بأن استعبدوهم ثم ما كفاهم ذلك حتى ساؤهم على يدي العنيد سوء العذاب، قال البقاعي: وهذا حال الغرباء بينهم قديماً وحديثاً ثم بين الاستضعاف بقوله تعالى {يذبح أبناءهم} أي: عند الولادة وكَّل بذلك أناساً ينظرون كلما ولدت امرأة ذكراً ذبحوه وسبب ذلك أن كاهناً قال له سيولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم، وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة وكان ذلك من غاية حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل {ويستحيي نساءهم} أي: يريد حياة الإناث فلا يذبحهنّ، وقال السدي: إنّ فرعون رأى في منامه ناراً أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقيل له: يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يديه فأمر بقتل الذكور، وقيل: إنّ الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه فسمع فرعون ذلك فأمر بذبح بني إسرائيل. {إنه} أي: فرعون {كان من المفسدين} فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد، قال وهب: ذبح فرعون في طلب موسى سبعين ألفاً من بني إسرائيل وقوله تعالى: {ونريد أن نمن} عطف على قوله: {إنّ فرعون علا في الأرض} لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون وقصصاً له، ونريد حكاية حال ماضية أي: نعطي بقدرتنا وعلمنا ما يكون جديراً أن نمن به {على الذين استضعفوا} أي: حصل استضعافهم وأهانهم بهذا الفعل الشنيع ولم يراقب فيهم مولاهم {في الأرض} أي: أرض مصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 فذلوا وأهينوا، ونريهم في أنفسهم وأعدائهم فوق ما يحبون وفوق ما يأملون {ونجعلهم أئمة} أي: مقدّمين في الدين والدنيا علماء يدعون إلى الجنة عكس ما يأتي من عاقبة آل فرعون، وقال مجاهد: دعاة إلى الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكاً، لقوله تعالى: {وجعلكم ملوكاً} (المائدة: 20) وقيل: يقتدى بهم في الخير {ونجعلهم} أي: بعظمتنا وقدرتنا {الوارثين} أي: لملك مصر لا ينازعهم فيه أحد من القبط يخلفونهم في مساكنهم. {ونمكن} أي: نوقع التمكين {لهم في الأرض} أي: كلها لا سيما أرض مصر والشام بإهلاك أعدائهم وتأبيد ملكهم وتأييدهم بكلمة الله، ثم بالأنبياء من بعده صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بحيث يسلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة ويظهر لهم من الخوارق {ونري} أي: بما لنا من العظمة {فرعون} أي: الذي كان هذا الاستضعاف منه {وهامان} وزيره {وجنودهما} أي: الذين كانا يتوصلان بهم إلى ما يريد أنه من الفساد فيقوى كل منهم بالآخر في الأرض فعلوا وطغوا، وقوله تعالى {منهم} أي: المستضعفين متعلق بنري أو بنريد لا بيحذرون، لأنّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله {ما كانوا يحذرون} أي: من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. وقرأ حمزة والكسائي: ويري بالياء مفتوحة وفتح الراء مع الإمالة وسكون الياء بعد الراء ورفع فرعون وهامان وجنودهما مضارع رأى مسند إلى فرعون وما عطف عليه فلذلك رفعوا، وقرأ الباقون: بالنون مضمومة وكسر الراء وفتح الياء بعدها ونصب الأسماء الثلاثة مضارع أرى فلذلك نصب فرعون وما عطف عليه مفعولاً أوّل وما كانوا هو الثاني، ثم ذكر تعالى أوّل نعمة منّ بها على الذين استضعفوا بقوله تعالى: {وأوحينا} أي: وحي إلهام أو منام {إلى أمّ موسى} لا وحي نبوّة، قال قتادة: قذفنا في قلبها واسمها يوحا وهي بنت لاوي بن يعقوب، وهذا هو الذي أمضينا في قضائنا أن يُسمى بهذا الاسم وأن يكون هلاك فرعون وزوال ملكه على يده بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذابحون {أن أرضعيه} ما كنت آمنة عليه ولم يشعر بولادته غير أخته، قيل أرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة أشهر، وقيل: ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها وهو لا يبكي ولا يتحرّك، وقد روي أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من برديّ مطليّ من داخله بالقار {فإذا خفت عليه} أي: منهم أن يصيح فيسمع فيذبح {فألقيه} أي: بعد أن تضعيه في شيء يقيه من الماء {في اليمّ} وهو البحر ولكن أراد هنا النيل {ولا تخافي} أي: لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع {ولا تحزني} أي: ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه، فإن قيل ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ أجيب: بأنّ الخوف الأوّل هو الخوف عليه من القتل لأنه كان إذا صاح خافت عليه أن يسمع الجيران صوته فينمُّوا عليه، وأما الثاني، فالخوف من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في بعض العيون المبعوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان وغير ذلك من المخاوف، فإن قيل ما الفرق بين الخوف والحزن؟. أجيب: بأنّ الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن غم يلحقه لواقع، وهو فراقه والأخطار به فنيهت عنهما جميعاً وأومنت بالوحي لها ووعدت ما يسليها ويطمئن قلبها ويملؤها غبطة وسروراً وهو ردّه إليها كما قال تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 {إنا رادّوه إليك} فأزال مقتضى الخوف والحزن ثم زادها بشرى وأيّ بشرى بقوله تعالى: {وجاعلوه من المرسلين} أي: الذين هم خلاصة المخلوقين، وروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: «إنّ بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر فسلط الله عليهم القبط فاضعفوهم إلى أن أنجاهم الله تعالى على يد نبيه وكليمه» . قال ابن عباس: إنّ أم موسى لما تقاربت ولادتها وكانت قابلة من القوابل التي وكلهنّ فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى فلما ضربها الطلق أرسلت إليها فقالت قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي اليوم قال فعالجت قبالها فلما أن وقع موسى عليه السلام بالأرض هالها نور بين عيني موسى فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى قلبها، ثم قالت لها يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن ورائي قتل مولودك ولكن وجدت لابنك هذا حباً شديداً ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدوّنا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا على أمّ موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب فلفت موسى في خرقة ووضعته في التنور وهو مسجور وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع قال فدخلوا فإذا التنور مسجور وأمّ موسى لم يتغير لها لون فقالوا ما أدخل عليك القابلة فقالت هي مصافية لي دخلت عليّ زائرة فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى فأين الصبي قالت لا أدري فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته. قال: ثم إنّ أمّ موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف الله تعالى في نفسها أن تتخذ له تابوتاً صغيراً فقال: لها النجار ما تصنعين بهذا التابوت قالت: ابن لي أخبؤه في هذا التابوت وكرهت الكذب قال ولم قالت أخشى عليه كيد فرعون فلما اشترت التابوت وحملته انطلقت، انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر موسى عليه السلام فلما همّ بالكلام أمسك الله تعالى لسانه فلم يطق الكلام وجعل يشير بيديه فلم يدر ما يقول فلما أعياهم أمره قال كبيرهم اضربوه فضربوه وأخرجوه فلما أتى النجار إلى موضعه ردّ الله تعالى لسانه فتكلم فانطلق أيضاً يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله تعالى لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً فضربوه وأخرجوه فوقع في واد يهوي فيه فجعل لله عليه أن ردّ لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيثما كان فعرف الله تعالى منه الصدق فردّ عليه لسانه وبصره فخرّ لله ساجداً فقال يا رب دلني على هذا العبد الصالح فدل عليه فخرج من الوادي وآمن به وصدّقه وعلم أنّ ذلك من الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمنّ به على بني إسرائيل فلما كانت السنة التي يذبح فيها بعث فرعون القوابل وتقدّم إليهنّ وفتشن تفتيشاً لم يفتش قبل ذلك وحملت أمّ موسى فلم تكبر بطنها ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها وكانت القوابل لا يتعرّضن لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم فلما خافت عليه عملت له تابوتاً مطبقاً ثم ألقته في البحر ليلاً. {فالتقطه} بالتابوت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 صبيحة الليل {آل} أي: أعوان {فرعون} فوضعوه بين يديه، قال ابن عباس وغيره: كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا له أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهنّ وتنضح الماء على وجوههنّ إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون إنّ هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجر فائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله تعالى رزقه في إبهامه يمصه لبناً فألقى الله تعالى لموسى المحبة في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت فقبلته وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظنّ أنّ ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقاً منك فاقتله فهمّ فرعون بقتله فقالت آسية قرّة عين لي ولك واستوهبت موسى من فرعون وكانت لا تلد فوهبه لها، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه. وفي حديث قال رسول صلى الله عليه وسلم «لو قال يومئذ هو قرّة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها» قال الزمخشري: وهذا على سبيل الفرض والتقدير أي: لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها ولأسلم كما أسلمت هذا إن صح الحديث تأويله والله أعلم بصحته انتهى، ثم قال لآسية ما تسميه قالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء وسى هو الشجر فذلك قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً} أي: يطول خوفهم منه بمخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق وقتل رجالهم {وحزنا} أي: بزوال ملكهم لأنه يظهر فيهم الآيات التي يهلك الله تعالى بها من يشاء منهم ويستعبد نساءهم ثم يظفر بهم حتى يهلكهم الله تعالى بالغرق على يده إهلاك نفس واحدة فيعم الحزن والنواح أهل ذلك الإقليم كله تنبيه: في هذه اللام الوجهان المشهوران أحدهما: أنها للعلة المجازية دون الحقيقية لأنهم لم يكن داعيهم إلا الالتقاط أن يكون لهم عدوّاً وحزناً ولكن المحبة والتبني غير أنّ ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء والتأدّب الذي هو ثمرة الضرب ليتأدّب، وتحريره أنّ هذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد، والثاني: أنها للعاقبة والصيرورة لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوّاً وحزنا ولكن صار عاقبة أمره إلى ذلك. وقرأ حمزة والكسائي: بضمّ الحاء وسكون الزاي، والباقون بفتحهما وهما لغتان بمعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 واحد كالعدم والعدم، ثم بين تعالى أنّ هذا الفعل لا يفعله إلا أحمق مقهور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب بقوله تعالى: {إنّ فرعون وهامان} وزيره {وجنودهما} أي: كلهم على طبع واحد {كانوا خاطئين} أي: في كل شيء فلا بدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بما ربى عدوّهم على أيديهم. وقال وهب: لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء عليهم السلام وكانت أماً للمساكين ترحمهم وتتصدّق عليهم وهي المذكورة في قوله تعالى: {وقالت امرأت فرعون} أي: له وهي قاعدة لجنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن تذبح الولدان لهذه السنة فدعه {قرّة عين لي} أي: به {ولك} أي: يا فرعون لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه، وروي أنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل، ولما أثبتت له أنه ممن تقرّ به العيون قالت {لا تقتلوه} أي: لا أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك، ثم عللت ذلك واستأنفت بقولها {عسى أن ينفعنا} ولو كان له أبوان معروفان فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما رأت من النور بين عينيه وارتضاعه من إبهامه لبناً وبرئه البرصاء بريقه {أو نتخذه ولداً} أي: إذا كان لم يعرف له أبوان فيكون نفعه أكثر فإنه أهل لأن تتشرّف به الملوك. تنبيه: التاء في قرّة عين مجرورة، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء وهي خبر مبتدأ مضمر أي: هو قرّة عين، والعامّة من القراء والمفسرين وأهل العلم على ذلك. ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس أنه وقف على لا، أي: هو قرّة عين لي فقط ولك لا أي: ليس هو لك قرّة عين ثم يبتدئ بقوله تقتلوه، وقال ابن عادل: وهذا لا ينبغي أن يصح عنه وكيف يبقى تقتلوه من غير نون رفع ولا مقتض لحذفها فلذلك قال الفراء: هو لحن. وقوله تعالى {وهم لا يشعرون} جملة حالية من كلام الله تعالى أي: لا شعور لهم أصلاً لأنّ من لا يكون له علم إلا باكتساب فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدّية إلى هلاك المفسدين، وقيل: إنّ ذلك من كلام امرأة فرعون كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله قالت له افعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه، قال الكلبي ولما أخبر الله تعالى عن حال من لقيه أخبر عن حال من فارقه بقوله تعالى: {وأصبح} أي: عقب الليلة التي حصل فيها فراقه {فؤاد أمّ موسى} أي: قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً وهذا يدل على أنها ألقته ليلاً، واختلف في معنى قوله {فارغاً} فقال أكثر المفسرين: خالياً من كل همّ إلا من همّ موسى عليه السلام، وقال الحسن: أي: ناسياً للوحي الذي أوحاه الله تعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين فجاءها الشيطان وقال: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيتيه في البحر وأغرقتيه. وقال الزمخشري: أي: صفراً من العقل والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 دهمها من فرط الجزع والدهش ونحوه قوله تعالى: {وأفئدتهم هواء} (إبراهيم: 43) أي: جوف لا عقول فيها وذلك أنّ القلوب مراكز العقول ألا ترى إلى قوله تعالى: {فتكون لهم قلوب يعقلون بها} (الحج: 46) وقوله تعالى: {إن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: إنها {كادت} أي: قاربت {لتبدي} أي: يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره مصرّحة {به} أي: بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها، وقال عكرمة: عن ابن عباس كادت تقول وا إبناه، وقال مقاتل لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها، وقال الكلبي: كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شب موسى بن فرعون فشق عليها فكادت تقول هو ابني، وقيل إنّ الهاء عائدة إلى الوحي أي: كادت لتبدي بالوحي الذي أوحى الله تعالى إليها أن يردّه عليها وجواب. {لولا أن ربطنا} محذوف أي: لا بدت به كقوله تعالى: {وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه} (يوسف: 24) والمعنى لولا أن ربطنا {على قلبها} بالعصمة والصبر والتثبت وقوله تعالى {لتكون من المؤمنين} متعلق بربطنا أي: من المصدقين بوعد الله تعالى وهو قوله تعالى: {إنا رادوه إليك} ثم أخبر تعالى عن فعلها في تعرّف خبره بعد أن أخبر عن كتمها بقوله تعالى: {وقالت} أي: أمّه {لأخته} أي: بعد أن أصبحت على تلك الحالة قد خفي عليها أمره {قصيه} أي: اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً ففعلت {فبصرت} أي: أبصرت {به عن جنب} أي: مكان بعيد اختلاساً {وهم لا يشعرون} جملة حالية ومتعلق الشعور محذوف أي: أنها أخته وأنها ترقبه بل هم في غاية الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية أو أنها تقصه، أو أنه سيكون لهم عدوّاً وحزناً، ثم ذكر تعالى أخذ الأسباب في ردّه بقوله تعالى: {وحرّمنا} أي: منعنا بعظمتنا {عليه المراضع} جمع مرضعة وهي من تكتري للإرضاع من الأجانب أي: حكمنا بمنعه من الارتضاع منهنّ فاستعير التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة، قال الرازي في اللوامع: تحريم منع لا تحريم شرع {من قبل} أي: من قبل أن تأمر أمّه أخته بما أمرتها به، أو قبل قصها أثره أو قبل ولادته في حكمنا وقضائنا وهو أنه تعالى غير طبعه عن لبن سائر النساء فلذلك لم يرتضع أو أحدث في لبنهنّ طعماً ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمّه لذة تعوّد بها فكان يكره لبن غيرها، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه أنه لا يقبل ثدي امرأة وفي القصة أنّ موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثدياً ويصيح فقالوا لها هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها، قال ابن عباس: أنّ امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة فكلما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها، فدنت أخته منه بعد نظرها له {فقالت} لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه {هل} لكم حاجة في أني {أدلكم على أهل بيت} ولم تقل على امرأة لتوسع دائرة النظر {يكفلونه لكم} أي: يأخذونه ويتولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم ثم أبعدت التهمة عن نفسها فقالت هي امرأة قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيراً ترضعه ثم زادتهم رغبة بقولها {وهم له ناصحون} أي: ثابت نصحهم له لا يغشونه نوعاً من الغش، قال البغوي: والنصح ضدّ الغش وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، قال السدي: لما قالت ذلك أخذوها وقالوا قد عرفت هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه وقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فتخلصت منهم بذلك. قال ابن عادل: وهذا يسمى عند أهل البيان الكلام الموجه، ومثله لما سئل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحبّ علياً دون غيره وبعضهم يحبّ أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان رضي الله تعالى عنهم، فقيل له أيهم أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من كانت ابنته تحته، وقيل: لما تفرسوا أنها عرفته قالت إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به وقيل إنها: لما قالت ذلك قالوا لها من؟ فقالت أمي قالوا ولأمك ابن قالت نعم هارون وكان ولد في سنة لا يقتل فيها قالوا صدقت فائتينا بها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه رياً فقالوا أقيمي عندنا فقالت لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت الزهد فيه نفياً للتهمة فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها فذلك قوله تعالى: {فرددناه إلى أمّه} ثم علله بقوله تعالى: {كي تقرّ عينها} أي: تبرد وتستقرّ، وأصل قرّة العين من القرّ وهو البرد أي: بردت ونامت بخلاف سخنت عينه يقال أقرّ الله تعالى عينك من الفرح وأسخنها من الحزن فلهذا قالوا دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارّة هذا قول الأصمعي، قال أبو تمام: *فأما عيون العاشقين فأسخنت ... وأما عيون الشامتين فقرت* وقال أبو العباس: ليس كما قال الأصمعيّ بل كل دمع حارّ فمعنى أقرّ الله تعالى عينك صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها وصادفت ما يرضيك أي: بلغك الله أقصى أملك حتى تقرّ عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما في يديك {ولا} أي: وكي لا {تحزن} أي: بفراقه {ولتعلم} أي: علماً هو عين اليقين كما كانت عالمة به علم اليقين وعلم شهادة كما كانت عالمة به علم غيب {أن وعد الله} أي: الأمر الذي وعدها به الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله {حق} أي: هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع {ولكن أكثرهم} أي: أكثر آل فرعون وغيرهم {لا يعلمون} أنّ وعد الله حق فيرتابون فيه أولا يعلمون أنّ الله وعدها ردّه إليها، قال الضحاك: لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه قالت لا قال فما له قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن فما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجوهر وأجرى عليها أجرها. قال السدي: وكانوا يدفعون إليها كل يوم ديناراً، فإن قيل: كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها منه؟ أجيب: بأنها ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ولكنه مال حربي كانت تأخذه على الاستباحة فمكث عندها إلى أن فطمته واستمرّ عند فرعون يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل كما قال تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء {ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين} (الشعراء: 18) {ولما بلغ أشدّه} وهو ثلاثون سنة أو وثلاث كما قال مجاهد: وغيره {واستوى} أي: بلغ أربعين سنة كما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقيل: اعتدل في السنّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وتم استحكامه بانتهاء شبابه وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين {آتيناه} أي: ابتداء من غير اكتساب أصلاً، خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء {حكماً} أي: عملاً محكماً بالعلم {وعلماً} أي: فقهاً في الدين تهيئة لنبوّته وإرصاداً لرسالته، وقيل: المراد بالعلم علم التوراة والحكم السنة، قال الزمخشري: وحكمة الأنبياء سنتهم قال الله تعالى {واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة} (الأحزاب، 34) ، وقيل: معناه آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه. قال البقاعي: واختار الله تعالى هذا السن للإرسال ليكون من جملة الخوارق لأنّ به يكون ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه: {ومن نعمره} (يس: 68) أي: إلى إكمال سنّ الشباب {ننكسه في الخلق} (يس: 68) أي: نوقفه فلا يزداد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء أولا يوجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلاً عشر سنين ثم يأخذ في النقصان هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في حدّ الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب بل غريزة يغرزها الله تعالى فيهم حينئذ ويؤتون من قوّة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك ففي انتكاس غيرهم يكون نموهم وكذا من ألحقه الله تعالى بهم من صالحي أتباعهم كما قال تعالى. {وكذلك} أي: مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي: كلهم على إحسانهم، ولما أخبر تعالى بتهيئته للنبوّة أخبر بما هو سبب لهجرته وكأنها سنة بعد إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {ودخل} أي: موسى عليه السلام {المدينة} قال السدي: هي مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: كانت قرية تدعى جابين على رأس فرسخين من مصر، وقيل: مدينة عين شمس، وقيل: غير ذلك {على حين غفلة من أهلها} وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة، وقال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقيل: يوم عيد لهم وهم مشتغلون فيه بلهوهم، وقيل: لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل واختلف في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت. قال السدي: وذلك أن موسى كان يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد. وقال ابن إسحاق: كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون برأيه فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينهم فأخافوه فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً، وقال ابن زيد: ولما علا موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله فقالت امرأته هو صغير فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشدّه {فوجد فيها} أي: المدينة {رجلين يقتتلان} أي: يفعلان مقدّمات القتل مع الملازمة من الضرب والخنق وهما إسرائيلي وقبطيّ، ولهذا قال تعالى مجيباً لمن كان يسأل عنهما وهو ينظر إليهما {هذا من شيعته} أي: من بني إسرائيل {وهذا من عدوه} أي: من القبط، قال مقاتل: كانا كافرين إلا أن أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل لقول موسى عليه السلام {إنك لغويّ مبين} والمشهور أن الإسرائيلي كان مسلماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 قيل إنه السامريّ والقبطي طباخ فرعون فكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ، وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس لما بلغ موسى أشدّه لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل غزُّواً لمكان موسى لكونه ربيب الملك مع أن مرضعته منهم لا يظنون أن سبب ذلك إلا الإرضاع {فاستغاثه} أي: طلب منه {الذي من شيعته} أن يغيثه {على الذي من عدوّه} فغضب موسى عليه السلام واشتدّ غضبه وقال للفرعوني خل سبيله فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى عليه السلام قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في القوّة والبطش {فوكزه موسى} أي: دفعه بجمع كفه، والفرق بين الوكز واللكز: أنّ الأوّل: بجمع الكف والثاني: بأطراف الأصابع، وقيل: بالعكس، وقيل اللكز في الصدر والوكز في الظهر {فقضى} أي: فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة وهو الموت الذي لا ينجو منه مخلوق {عليه} فقتله وفرغ منه، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة فلم يشعر به أحد فندم موسى عليه السلام عليه ولم يكن قصده القتل فدفنه في الرمل. {قال هذا} أي: قتله {من عمل الشيطان} أي: لأني لم أومر به على الخصوص ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً حربياً، ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه بقوله {إنه عدوّ} فينبغي الحذر منه {مضلّ} لا يقود إلى خير أصلاً {مبين} أي: عداوته وإضلاله في غاية البيان ما في شيء منهما خفاء ولما لم يكن في قتله إلا الندم لعدم إذن خاص. {قال رب} أي: أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي: بالإقدام على ما لم تأمرني به بالخصوص وإن كان مباحاً {فاغفر لي} أي: امحُ هذه الهفوة عينها وأثرها {لي} أي: لأجلي لا تؤاخذني {فغفر} أي: أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً {له إنه هو} أي: وحده {الغفور} أي: البالغ في صفة الستر لكل من يريد {الرحيم} أي: العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية ولأجل أن هذه صفته ردّه إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجا منهم قبل إرساله على غير قياس، ثم شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه بأن. {قال رب} أي: أيها المحسن إليّ {بما أنعمت عليّ} أي: بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة {فلن أكون} أي: إن عصمتني {ظهيراً} أي: عوناً وعشيراً وخليطاً {للمجرمين} قال ابن عباس: للكافرين وهو إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكسيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤل مظاهرته إلى الجرم والإثم كما في مظاهرة الإسرائيلي المؤدّية إلى القتل الذي لم يؤمر به وهذا نحو قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} (هود: 113) وعن عطاء أن رجلاً قال له إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه قال فمن الرأس يعني من يكتب له قال خالد بن عبد الله القسري قال فأين قول موسى وتلا هذه الآية. وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلماً فيجمعون في تابوت من حديد فيرمي بهم في جهنم» وقول ابن عباس يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى عليه السلام كان كافراً وهو قول مقاتل: وقال قتادة: أني لا أعين بعدها على خطيئة، وقيل: بما أنعمت عليّ من القوة فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك، قال ابن عباس: لم يستئن أي: لم يقل فلن أكون إن شاء الله تعالى فابتلي به في اليوم الثاني كما قال تعالى: {فأصبح في المدينة} أي: التي قتل القتيل فيها {خائفاً} أي: بسبب قتله له {يترقب} أي: ينتظر ما يناله من جهة القتيل، قال البغويّ: والترقب انتظار المكروه، وقال الكلبيّ: ينتظر متى يؤخذ به {فإذا} أي: ففجأه {الذي استنصره} أي: طلب نصرته من شيعته {بالأمس} أي: اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ {يستصرخه} أي: يطلب أن يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطيّ آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره فقيل {قال له} أي: لهذا المستصرخ {موسى إنك لغويّ} أي: صاحب ضلال بالغ {مبين} أي: واضح الضلال غير خفيه لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً ثم دنا منهما لينصره. {فلما أن أراد} أي: شاء فإن مزيدة {أن يبطش} أي: موسى عليه السلام {بالذي هو عدوّ لهما} أي: لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل بأن يأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه {قال} أي: الإسرائيلي الغويّ لأجل ما رأى من غضبه وتكليمه له ظاناً أنه يريد البطش به {يا موسى} ناصاً عليه باسمه {أتريد أن تقتلني} أي: اليوم وأنا من شيعتك {كما قتلت نفساً بالأمس} أي: من شيعة أعدائنا والذي يدل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق، وعليه الأكثرون، لأنه لم يعلم بقتل القبطي غير الإسرائيلي، وقيل: إنما قال موسى للفرعوني {إنك لغويّ مبين} بظلمك ويناسبه قوله {إن} أي: ما {تريد إلا أن تكون جباراً} أي: قاهراً عالياً فلا يليق ذلك إلا بقول الكافر، أو أن الإسرائيلي لما ظن قتله فإن ذلك، وقد قيل في الإسرائيلي أنه كان كافراً، قال أبو حيان وشأن الجبار أن يقتل بغير حق {في الأرض} أي: التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد {وما تريد} أي: تتخذ ذلك إرادة {أن تكون} أي: كوناً هو لك كالجبلة {من المصلحين} أي: الغريقين في الصلاح فإنّ الصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة فلما سمع القبطيّ هذا ترك الإسرائيلي وكان القبط لما قتل ذلك القبطي ظنوا في بني إسرائيل فأغروا فرعون بهم وقالوا إنّ بني إسرائيل قتلوا منا رجلاً فخذ لنا بحقنا فقال ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقضي بغير بينة ولا تثبت فلما قال هذا الغوي هذه المقالة علم القبطي أن موسى عليه السلام هو الذي قتل الفرعوني فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك فأمر فرعون بقتل موسى. قال ابن عباس: فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم. {وجاء رجل} أي: ممن يحب موسى عليه السلام واختلف في اسمه فقيل حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل شمعون وقيل شمعان، وكان ابن عمّ فرعون {من أقصى المدينة} أي: أبعدها مكاناً {يسعى} أي: يسرع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 في مشيه فأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقاً آخر، فكأنه قيل فما قال الرجل له فقيل: {قال} منادياً لموسى تعطفاً وإزالة للبس {يا موسى إنّ الملأ} أي: أشراف القبط الذين في أيديهم الحلّ والعقد لأنّ لهم القدرة على الأمر والنهي {يأتمرون بك} أي: يتشاورون في شأنك {ليقتلوك} حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاً منهم يأمر الآخر ويأنمر بأمره لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم {فاخرج} أي: من هذه المدينة ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك {إني لك من الناصحين} أي: الغريقين في نصحك. {فخرج} أي: موسى عليه السلام مبادراً {منها} أي: المدينة لما علم صدق قوله مما تحققه من القرائن حال كونه {خائفاً} على نفسه من آل فرعون {يترقب} أي: يكثر الإلتفات بإدارة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد ثم دعا الله تعالى بأن {قال رب} أي: أيها المحسن إليّ بالنجاة وغير ذلك من وجوه البر {نجني} أي: خلصني {من القوم الظالمين} أي: الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم فاستجاب الله تعالى دعاءه فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أنّ الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر جرياً على عادة الخائفين الهاربين، وفي القصة أن فرعون لما بعث في طلبه قال اركبوا ثنيات الطريق فانبثوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم. {ولما توجه} أي: أقبل بوجهه قاصداً {تلقاء} أي: الطريق الذي يلاقي سالكه أرض {مدين} قال ابن عباس: خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى ومشى من غير معرفة فهداه الله تعالى إلى مدين، وقيل: وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى، وقيل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق، قال ابن اسحق: خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر {قال عسى} أي: جدير وحقيق {ربي} أي: المحسن إليّ {أن يهديني سواء} أي: أعدل ووسط {السبيل} أي: الطريق الذي يطلعني الله تعالى عليها من غير اعوجاج وقال ذلك قبل أن يعرف الطريق إليها، قيل: فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين، قال المفسرون: خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل حتى ترى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه، قال ابن عباس: وهو أوّل ابتلاء من الله تعالى لموسى عليه السلام {ولما ورد} أي: وصل {ماء مدين} وهو بئر كان يسقي منها الرعاة مواشيهم {وجد عليه} أي: الماء {أمّة} أي: جماعة كثيرة {من الناس} مختلفين {يسقون} أي: مواشيهم {ووجد من دونهم} أي: في مكان سواهم أسفل من مكانهم {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنهما {تذودان} أي: تحبسان وتمنعان أغنامهما إذا فزعت من العطش إلى الماء حتى يفرغ الناس ويخلو لهما البئر، وقال الحسن: تكفان الغنم لئلا تختلط بغنم الناس، وقال قتادة: تكفان الناس عن أغنامهما، وقيل: لئلا يختلطن بالرجال، وقيل كانتا تذودان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما، وقيل غير ذلك فكأنه قيل فما قال موسى لهما قيل {قال} لهما رحمة لهما {ما خطبكما} أي: ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس {قالتا لا نسقي} أي: مواشينا وحذف للعلم به {حتى يصدر} أي: ينصرف ويرجع {الرعاء} أي: عن الماء خوف الزحام فنسقي، وقرأ أبو عمرو وابن عامر: بفتح الياء وضم الدال، والباقون: بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر يعدى بالهمزة تنبيه: المفعول محذوف أي: يصدرون مواشيهم والرعاء جمع راع مثل تاجر وتجار، أي: نحن امرأتان لا يليق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض {وأبونا شيخ كبير} أي: لا يستطيع لكبره أن يسقى فاضطررنا إلى ما ترى. تنبيه: اختلف في أبيهما، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن: أبوهما هو شعيب النبيّ عليه السلام وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوّج بابنته، وقال وهب وسعيد بن جبير: هو يثرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم، وقيل: رجل ممن آمن بشعيب قالوا فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، وقال ابن إسحاق: أنّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين، ويروى أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر، وقيل: أربعون، وقيل: مائة فجاء موسى ورفع الحجر وحده وسقى غنم المرأتين ويقال: إنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا اسق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم، فإن قيل كيف ساغ لنبيّ الله تعالى شعيب أن يرضى لابنتيه الرعي بالماشية؟. أجيب: بأن الناس اختلفوا فيه هل هو شعيب أو غيره، وإذا قلنا أنه هو كما عليه الأكثر فليس ذلك بمحظور فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة وعادتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة. {فسقى} أي: موسى عليه السلام {لهما} والمفعول محذوف أي: غنمهما لما علم ضرورتهما انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف مع ما به من النصب والجوع وسقوط خف القدم ولكنه رحمهما وأغاثهما وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده وما آتاه الله تعالى من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلِّة {ثم تولى} أي: انصرف جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه {إلى الظل} أي: ظل سمرة فجلس في ظلها ليقيل ويستريح مقبلاً على الخالق بعدما قضى من نصيحة الخلائق وهو جائع، قال الضحاك: لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض {فقال رب إني} وأكد الافتقار بالالصاق باللام دون إلى بقوله {لما أنزلت إليّ من خير} قليل أو كثير غث أو سمين {فقير} أي: محتاج سائل. تنبيه: {لما أنزلت} متعلق بفقير قال الزمخشري عدَّى فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين وليس في الشكوى إلى الغني المطلق نقص، قال ابن عباس سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه، وقال الباقر: لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 سعيد بن جبير عن ابن عباس لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلقه عليه وإنه كان قد بلغ به من الضر أن اخضرّ بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه الشريف بظهره وإنما قال ذلك في نفسه مع ربه وهو اللائق به، وقيل رفع به صوته لاستماع المرأتين وطلب الطعام وهذا لا يليق بموسى عليه السلام فانظر إلى هذا النبيّ عليه السلام وهو خلاصة ذلك الزمان ليكون لك في ذلك أسوة وتجعله إماماً وقدوة وتقول ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الحياة الدنيا صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها رفعة لدرجاتهم واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك وفي القصة ترغيب في الخير وحث على المعاونة على البرّ وبعث على بذل المعروف مع الجهد فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي. {فجاءته إحداهما} ممتثلة أمر أبيها وقوله {تمشي} حال، وقوله {على استحياء} حال أخرى، أي: مستحيية إما من جاءته وإما من تمشي قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءته مستترة وضعت كمّ درعها على وجهها استحياء ثم استأنف الإخبار بما تشوّف إليه السامع بقوله تعالى: {قالت} وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه {إن أبي} وصورت حاله بالمضارع بقولها {يدعوك ليجزيك} أي: يعطيك مكافأة لك لأن المكافأة من شيم الكرام {أجر ما سقيت لنا} أي: مواشينا، قال ابن إسحاق: اسم الكبرى صفوراً والصغرى لبنى، وقيل ليا، وقال غيره: صفرا وصفيرا، وقال الضحاك: صافورا، وقال الأكثرون: التي جاءت لموسى الكبرى، وقال الكلبيّ هي الصغرى، قال الرازي وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل. فإن قيل: في الآية إشكالات إحداها: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال صلى الله عليه وسلم «اتقوا مواضع التهم» ، وثانيها: أنه سقى أغنامهما تقرّبا إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه وذلك غير جائز في الشريعة، وثالثها: أنه عرف فقرهما وفقر أبيهما وأنه عليه السلام كان في نهاية القوّة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفاني الفقير والمرأة الفقيرة، ورابعها: كيف يليق بالنبيّ شعيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟. أجيب عن الأوّل: بأن الخبر يعمل فيه بقول المرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حرّاً كان أو عبداً ذكرا كان أو أنثى وهي ما كانت مخبرة إلا عن أبيها وأما المشي مع المرأة بعد الاحتياط والتورّع فلا بأس به، وعن الثاني: بأن المرأة لما قالت ذلك لموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرّك بذلك الشيخ الكبير، لما روي أنه لما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيئاً فقال اجلس يا شاب فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك ألست بجائع قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، وفي رواية لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ بالمعروف ثمناً، فقال له شعيب لا والله يا شاب ولكنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 عادتي وعادت آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل، وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق يحمله ففعل ذلك اضطراراً وهو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات، وعن الرابع: بأن شعيباً عليه السلام كان يعلم طهارة ابنته وبرائتها إما بوحي أو بغيره فكان يأمن عليها قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فوصفت ردفها فكره موسى عليه السلام أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي أو قال موسى أني من عنصر إبراهيم فكوني خلفي حتى لا يرفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحلّ، وفي رواية كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحصا لأن صوت المرأة عورة. فإن قيل: لِمْ خشى موسى عليه السلام أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره مع الخضر عليه السلام ذلك حين قال لو شئت لتخذت عليه أجراً؟ أجيب: بأن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء فغير مكروه {فلما جاءه} أي: موسى شعيباً {وقص} أي: موسى عليه السلام {عليه} أي: شعيب عليه السلام {القصص} أي: حدّثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله تعالى (تنبيه) القصص مصدر كالعلل سمى به المقصوص، قال الضحاك: قال: له من أنت يا عبد الله، قال: أنا موسى بن عمران بن بصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه ثم إن شعيباً عليه السلام أمنه بأن: {قال} له {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} أي: فإن فرعون لا سلطان له بأرضنا، فإن قيل: أن المفسرين قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى ركب في ألف ألف وستمائة ألف والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام؟ أجيب: بأن هذا ليس بمحال وإن كان نادراً ولما أمنه واطمأن. {قالت إحداهما} أي: المرأتين وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها {يا أبت استأجره} أي: اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا {إن خير مَنْ استأجرت القويّ الأمين} أي: خير من استعملت من قوي على العمل لشيء من الأشياء وأداء الأمانة، قال أبو حيان: وقولها قول حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته، وإنما جعل خير من استأجرت اسماً والقويّ الأمين خبراً مع أن العكس أولى لأنّ العناية هي سبب التقديم، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبراً اسماً، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وعن ابن عباس: أن شعيباً اختطفته الغيرة فقال وما علمك بقوّته وأمانته فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وإنه صوّب أي: خفض رأسه حين بلغته رسالة أبيها إليه وأمرها بالمشي خلفه، وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله {عسى أن ينفعنا} وأبو بكر في عمر ولما أعلمته ابنته بذلك. {قال} لموسى عليه السلام عند ذلك {إني أريد} يا موسى والتأكيد لأن الغريب قلما يرغب فيه أوّل ما يقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 لا سيما من الرؤساء أتم الرغبة {أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} أي: الحاضرتين اللتين سقيت لهما ليتأمّلهما فينظر من يقع اختياره عليه منهما ليعقد له عليها، قال أكثر المفسرين إنه زوجه الصغرى منهما وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورا على خلاف تقدّم في اسمها، وقوله {هاتين} فيه دليل على أنه كان له غيرهما وقوله {على أن تأجرني ثماني حجج} إما من أجرته إذا كنت له أجيراً كقولك أبوته إذا كنت له أباً، وثماني حجج ظرفه، أي: ترعى غنمي ثماني حجج، وإما من أجرته كذا إذا أثبته إياه قاله الفراء أي: تجعل ثوابي من تزويجها أي: تجعل أجري على ذلك وثوابي ثماني حجج، تقول العرب أجرك الله يأجرك أي: أثابك، ومنه تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجركم الله ورحمكم» وثماني حجج مفعول به، ومعناه رعية ثماني حجج، فإن قيل: كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز؟ أجيب: بأن ذلك لم يكن عقداً ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه، ولو كان عقداً لقال أنكحتك ولم يقل: إني أريد أن أنكحك، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك، والحجج، السنون وإحدها حجة {فإن أتممت عشراً} أي: عشر سنين وقوله {فمن عندك} يجوز أن يكون في محل رفع خبر المبتدأ محذوف تقديره فهي من عندك، أو نصب أي: فقد زدتها من عندك أو تفضلت بها من عندك، وليس ذلك بواجب عليك. تنبيه: هذا اللفظ يدل على أن العقد وقع على أقلّ الأجلين والزيادة كالتبرّع فالعقد وقع على معين، ودلت الآية على أن العمل قد يكون مهراً كالمال وعلى أن عقد النكاح لا يفسد بالشروط التي لا يوجبها العقد إن كان وقع شرط هذه الزيادة في العقد، ولما ذكر له ذلك أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال {وما أريد أن أشق عليك} أي: أدخل عليك مشقة بمناقشة ومراعاة أوقات ولا في إتمام عشر ولا غير ذلك، ثم أكد معنى المساهلة بقوله {ستجدني} وفتح الياء نافع عند الوصل، والباقون بسكونها، ثم استثنى على قاعدة: أنبياء الله وأوليائه في المراقبة على سبيل التبرك بقوله {إن شاء الله} أي: الذي له جميع الأمر {من الصالحين} قال عمر: أي: في حسن الصحبة والوفاء بما قلت، أي: وكل ما تريد من كل خير، وقيل: أراد الصلاح على العموم، فإن قيل: كيف ينعقد العقد بهذا الشرط ولو قلت أنت طالق إن شاء الله لم تطلق؟ أجيب: بأن هذا إنما يختلف بالشرائع أو أن ذلك ذكر للتبرك. {قال} أي: موسى عليه السلام {ذلك} أي: الذي ذكرته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه {بيني وبينك} أي: قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك. تنبيه: ذلك مبتدأ، والظرف خبره، وأضيفت بين لمفرد لتكرّرها، وعطفت بالواو، ولو قلت: المال لزيد فعمرو لم يجز، والأصل ذلك بيننا كما مرّ ففرق بالعطف، ثم فسر ذلك بقوله {أيما} أي: أيّ {الأجلين} فما: زائدة {قضيت} أي: فرغت أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان {فلا عدوان} أي: اعتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد {عليّ} في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب الزيادة على العشر لا تجب الزيادة على الثمان. فإن قيل: تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر وهو المطالبة بتتمة العشر فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً؟ أجيب: بأنّ معناه كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 كان عدواناً لا شك فيه فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان أراد بذلك تقرير أمر الخيار وأنه ثابت مستقرّ وأنّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء، وأمّا التتمة فموكلة إلى رأيي إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدوان {والله} أي: الملك الأعظم {على ما نقول} أي: كله في هذا الوقت وغيره {وكيل} قال ابن عباس ومقاتل: شهيد فيما بيني وبينك، وقيل: حفيظ، وعن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضى أكثرهما. وروي عن أبي ذرّ مرفوعاً إذا سئلت أي: الأجلين قضى موسى فقل: خيرهما، وإذا سئلت فأي: المرأتين تزوّج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوّج صغراهما وقضى أوفاهما، وقال وهب: أنكحه الكبرى، وروي عن شدّاد بن أوس مرفوعاً بكى شعيب عليه السلام حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره ثم بكى حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره ثم بكى حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره وقال له: ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار؟ قال لا يا ربّ ولكن شوقاً إلى لقائك فأوحى الله تعالى إليه إن يكن ذلك فهنيأ لك يا شعيب لذلك أخدمتك موسى كليمي، ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه. واختلفوا في تلك العصا؟ فقال عكرمة: خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً فدفعها إليه، وقال آخرون كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبيّ إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب وكانت عصيّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عنده فأعطاها موسى، وقال السدي: كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتت بها فلما رآها شعيب قال لها ردّي هذه العصا وأتيه بغيرها فدخلت فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي حتى فعلت ذلك ثلاث مرّات فأعطاها موسى فأخذها موسى معه، ثم إنّ الشيخ ندم فقال: كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يردّ العصا فأبى موسى أن يعطيه وقال: هي عصاي فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ فلم يطقها فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ. وروي أنّ شعيباً عليه السلام كان عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فضنّ أي: بخل بها فقال غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرّات فعلم أنّ له شأناً. وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً، وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي موسى شجرة العوسج ومنها كانت عصاه، ولما أصبح قال له شعيب إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها كثيراً إلا أنّ فيها تنيناً أخشاه عليك فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً ارتاح لذلك، ولما رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأناً. {فلما قضى موسى الأجل} أي: أتمه وفرغ منه وزوّجه ابنته، قال مجاهد مكث بعد ذلك عند صهره عشراً أخرى فأقام عنده عشرين سنة، ثم إنّ شعيباً عليه السلام أراد أن يجازي موسى على رعيته إكراماً له وصلة لابنته فقال له إني وهبت لك من الجداء التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه الله عز وجلّ إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وسلم الأغنام إليه، ثم إنّ موسى استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فخرج {وسار بأهله} أي: امرأته راجعاً إلى أقاربه بمصر {آنس} أي: أبصر من بعيد {من جانب الطور} اسم جبل {ناراً} آنسته رؤيتها وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق حينئذ {قال لأهله امكثوا} أي: ههنا، وقرأ حمزة في الوصل بضم الهاء قبل همزة الوصل، وعبر موسى عليه السلام بضمير الذكور فلعل كان معه بنون فغلبهم على امرأته، وقد ذكرت غير ذلك في السورة التي قبل هذه، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك الوقت الشديد البرد ناراً {إني آنست ناراً} فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو، وسكنها الباقون، كأنه قيل فماذا تعلم بها فقال معبراً بالترجي لأنه أليق بالتواضع {لعلى آتيكم منها} أي: من عندها {بخبر} أي: عن الطريق لأنه كان قد أخطأها {أوجذوة} أي: قطعة وشعلة {من النار} وقال قتادة ومقاتل: هو العود الذي احترق بعضه تنبيه: من النار صفة لجذوة ولا يجوز تعلقها بآتيكم كما تعلق به منها لأنّ هذه النار هي النار المذكورة، والعرب إذا قدمت نكرة وأرادت إعادتها أعادتها مضمرة أو معرفة بأل العهدية وقد جمع الأمرين هنا، وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها، والباقون بالكسر وكلها لغات وجمعها جذى، ثم استأنف قوله {لعلكم تصطلون} أي: لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتعطفوا عليها للتدفؤ، وهذا دليل على أنّ الوقت كان شتاء. {فلما أتاها} أي: النار، وبنى {نودي} للمفعول لأنّ آخر الكلام يدلّ دلالة واضحة على أنّ المنادي هو الله تعالى ولما كان نداؤه تعالى لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب ومع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد شرف بوصف من الأوصاف إمّا بأن يكون أوّل السماع منه أو غيره ذلك أو يكون باعتبار موسى عليه السلام قال {من شاطئ الواد} فمِنْ: لابتداء الغاية، وقوله تعالى {الأيمن} صفة للشاطئ أو للوادي، والأيمن من اليمن وهو البركة أو من اليمين المعادل لليسار من العضوين ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى أي: الذي يلي يمينك دون يسارك، والشاطئ ضفة الوادي والنهر أي: حافته وطرفه وكذا الشط والسيف والساحل كلها بمعنى، وجمع الشاطئ أشطأ قاله الراغب وشاطأ فلاناً ماشيته سار بها على الشاطئ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وقوله تعالى {في البقعة المباركة} متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ ومعنى المباركة جعلها الله تعالى مباركة لأنّ الله تعالى كلم موسى عليه السلام هناك وبعثه نبياً، وقال عطاء: يريد المقدسة وقوله تعالى: {من الشجرة} بدل من شاطئ الوادي بإعادة الجار بدل اشتمال لأنّ الشجرة كانت ثابتة على الشاطئ، قال البقاعي: ولعلّ الشجرة كانت كبيرة فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع وهو فيها الكلام من الله تعالى حقيقة وهو المتكلم سبحانه وتعالى لا الشجرة. قال القشيري: وحصل الإجماع على أنه عليه السلام سمع تلك الليلة كلام الله تعالى ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة وقال التفتازانيّ: في شرح المقاصد إنّ اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزليّ بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة بلاكمّ ولا كيف. واختلف في الشجرة ما هي؟ فقال ابن مسعود: كانت سمرة خضراء، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت عوسجة، وقال وهب: من العليق، وعن ابن عباس أنها العناب، ثم ذكر المنادى به بقوله تعالى: {أن يا موسى} فأَنْ هي مفسرة لا مخففة {إنّي أنا الله} أي: المستجمع للأسماء الحسنى والصفات العليا، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون ثم وصف نفسه سبحانه تعالى بقوله {رب العالمين} أي: خالق الخلائق أجمعين ومربيهم، قال البيضاوي: هذا وإن خالف ما في طه والنمل في اللفظ فهو طبقه في المقصود انتهى، وقال ابن عادل: واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل {نودي أن بورك من في النار ومن حولها} (النمل: 8) وقال ههنا {إني أنا الله رب العالمين} وقال في سورة طه {إني أنا ربك} ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه تعالى حكى في كل سورة ما اشتمل عليه ذلك النداء، ثم إنّ الله تعالى أمره أن يلقي عصاه ليريه آية بقوله تعالى: {وأن ألق عصاك} أي: لأريك فيها آية فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة وهي مع عظمها في غاية الخفة {فلما رآها} أي: العصا {تهتز} أي: تتحرّك كأنها في سرعتها وخفتها {جانّ} أي: حية صغيرة {ولى مدبراً} خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها وهو معنى قوله تعالى {ولم يعقب} أي: موسى عليه السلام وذلك كناية عن شدّة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له {يا موسى أقبل} أي: التفت وتقدّم إليها {ولا تخف} ثم أكد له الأمر لما الآدميُّ مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله تعالى: {إنك من الآمنين} أي: العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين فإنه لا يخاف لديّ المرسلون ثم زاد طمأنينة بقوله تعالى: {اسلك} أي: ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة {يدك في جيبك} أي: القطع الذي في ثوبك وهو الذي يخرج منه الرأس أو هو الكم كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرّ {تخرج بيضاء} بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات {من غير سوء} أي: عيب من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته أو غيره فخرجت ولها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر تنبيه: قد ذكر هذا المعنى بثلاث عبارات إحداها هذه وثانيتها: {واضمم يدك إلى جناحك} (طه: 22) وثالثتها: {وأدخل يدك في جيبك} (النمل، 12) . {واضمم إليك جناحك} أي: يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرضٍ آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو أظهر جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، ومنه ما يحكي عن عمر بن عبد العزيز: أن كاتباً له كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر: خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. ومعنى قوله تعالى {من الرهب} من أجل الرهب أي: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك تجلداً وضبطاً لنفسك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه، قال الفراء: أراد بالجناح العصا ومعناه اضمم إليك عصاك، قال البغويّ: وقيل الرهب الكمّ بلغة حمير، قال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي: في كمك ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ لأنه تناول العصا ويده في كمه انتهى، قال الزمخشريّ معترضاً هذا القول: ومن بدع التفاسير أن الرهب الكمّ بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف وقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها انتهى. ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذٍ لا تعارض، وفي البغوي عن ابن عباس: أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال: وما من خائف بعد موسى عليه السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه، وقال مجاهد: وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء، والكل لغات، ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى: {فذانك} أي: العصا واليد البيضاء، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون، وخففها الباقون {برهانان} أي: سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان {من ربك} أي: المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره {إلى فرعون وملإيه} أي: وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط، فإن قيل لم سميت الحجة برهاناً؟ أجيب: بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معاً والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت لإنارتها، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله: l {إنهم كانوا} أي: جبلة وطبعاً {قوماً} أي: أقوياء {فاسقين} أي: خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم، ولما قال تعالى: {فذانك برهانان} إلى آخره تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 فرعون وقومه فعند ذلك طلب من يعينه بأن {قال رب} أي: أيها المحسن إليّ {إني قتلت منهم نفّساً} هو القبطي السابق وأنت تعلم أني ما خرجت إلا هارباً منهم لأجلها {فأخاف} إن بدأتهم بمثل ذلك {أن يقتلون} به لوحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج فأخاف أن يفوت المقصود بقتلي ولا يحمي من ذلك إلا أنت وإنّ لساني فيه عقدة. {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} أي: من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون، وقيل كانت من أصل الخلقة والفصاحةُ لغةً الخلوص ومنه فصح اللبن خلص من رغوته وفصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية {فأرسله} أي: بسبب ذلك {معي رِدْءَاً} أي: معيناً من ردأت فلاناً بكذا أي: جعلته له قوّة وعاضداً وردأت الحائط إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط، وقرأ نافع بنقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة، والباقون بسكون الدال وتنوين الهمزة بعدها، ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله {يصدّقني} أي: بأن يخلص بفصاحته ما قلته ويبينه ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً فيكون مع تصديقه لي بنفسه سبباً في تصديق غيره لي. وقرأ عاصم وحمزة بضم القاف على الاستئناف أو الصفة لردءاً والباقون بالسكون جواباً للأمر، قال الرازي: ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوب الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد، وفائدة الفصاحة إنما تظهر في ذلك لا في مجرّد قوله صدقت، قال السدي: نبيان وآيتان أقوى من نبي واحد وآية واحدة وهذا ظاهر من جهة العادة وأما من جهة الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين، ثم علل سؤاله هذا بقوله {إني أخاف أن يكذبون} أي: فرعون وقومه ولساني لا يطاوعني عند المحاجة. {قال} الله تعالى له مجيباً لسؤاله {سنشدّ عضدك} أي: أمرك {بأخيك} أي: سنقويك ونعينك به {ونجعل لكما سلطاناً} أي: ظهوراً عظيماً وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف {فلا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا {يصلون إليكما} بنوع من أنواع الغلبة {بآياتنا} أي: نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات العظيمة بنسبتها إلينا ولذلك كانت النتيجة {أنتما ومن اتبعكما} من قومكما وغيرهم {الغالبون} أي: لا غيركم وهذا يدل على أنّ فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في الله تعالى وليس في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ما أوعدهم به. قال البقاعي: وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرّر من ذكرهم وقد كشفت العاقبة عن أنّ السحرة ليسوا من جنوده بل من حزب الله تعالى وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها. اه ولما كان التقدير فأتاهم كما أمره الله تعالى وعاضده أخوه كما أخبر الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى وأظهرا ما أمرا به من الآيات بنى عليه مبيناً بالفاء سرعة امتثاله. {فلما جاءهم} أي: فرعون وقومه ولما كانت رسالة هارون عليه السلام إنما هي تأييد لموسى عليه السلام أشار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي بقوله تعالى: {موسى بآياتنا} أي: التي أمرناه بها الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها {بينات} أي: في غاية الوضوح {قالوا} أي: فرعون وقومه {ما هذا} أي: الذي أظهرته من الآيات {إلا سحر مفترى} أي: مختلق لا أنه معجزة من عند الله ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم {وما سمعنا} أي: ما حدّثنا {بهذا} أي: الذي تدعونا إليه وتقوله من الرسالة عن الله تعالى {في آبائنا} وأشاروا إلى البدعة التي أضلت كثيراً من الخلق وهي تحكيم عوائد التقليد لا سيما عند تقادمها على القواطع في قولهم {الأولين} وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام. *وما بالعهد من قدم* {فقد قال لهم الذي آمن} يا قوم أني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب إلى قوله {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} . {و} لما كذبوه وهم الكاذبون {قال} لهم {موسى ربي} أي: المحسن إليّ {أعلم} أي: عالم {بمن جاء بالهدى} أي: الذي أذن الله تعالى فيه وهو حق في نفسه {من عنده} فيعلم أني محق وأنتم مبطلون، وقرأ ابن كثير بغير واوٍ قبل القاف لأنه قاله جواباً لمقالهم، والباقون بالواو لأنّ المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما ليميز صحيحهما من فاسدهما {ومن تكون له} أي: لكونه منصوراً مؤيداً {عاقبة الدار} أي: الراحة والسكن والاستقرار، فإن قيل: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسميا عاقبة الدار لأنّ الدنيا إما أن تكون خاتمتها بخير أو بشر فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمها بالشرّ؟. أجيب: بأنّ الله تعالى قد وضع الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليبلغوا خاتمة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تخويف الفجار، وقرأ حمزة والكسائيّ بالياء على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، ثم علل ذلك بما أجرى الله تعالى به عادته فقال معلماً بأنّ المخذول هو الكاذب إشارة إلى أنه الغالب لكون الله تعالى معه مؤكداً لما استقرّ في الأنفس من أنّ القويّ لا يغلبه الضعيف {إنه لا يفلح} أي: لا يظفر ولا يفوز {الظالمون} أي: الكافرون الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل. {وقال فرعون} جواباً لهذا الترغيب والترهيب {يا أيها الملأ} أي: الأشراف معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم {ما علمت لكم من إله غيري} فتضمن كلامه نفي إلهية غيره وإثبات إلهية نفسه فكأنه قال: ما لكم من إله إلا أنا كما قال الله تعالى {قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} (يونس: 18) أي: بما ليس فيهنّ وذلك أنّ العلم تابع للموجود لا يتعلق به إلا على ما هو عليه فإذا كان الشيء معدوماً لم يتعلق به موجود فمن ثم كان انتفاء العلم بوجوده انتفاء لوجوده، فعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده، ويجوز أن يكون على ظاهره وأنّ إلهاً غير معلوم عنده ولكنه مظنون بدليل قوله {وأني لأظنه من الكاذبين} وإذا ظنه كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً فقد ظنّ أنّ في الوجود إلهاً غيره ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين بل عالماً بصحة قول موسى لقول موسى له. {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 ثم تسبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أوّل من عمله، قال عمر رضي الله تعالى عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر ما علمت أنّ أحداً بنى بالآجر غير فرعون {فأوقد لي} وأضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بدّ منه {يا هامان} وهو وزيره {على الطين} أي: المتخذ لبناً ليصير آجراً، ثم تسبب عن الإيقاد قوله {فاجعل لي} أي: منه {صرحاً} أي: قصراً عالياً، وقيل: منارة، وقال الزجاج: هو كل بناء متسع مرتفع {لعلي أطلع} أي: أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} أي: الذي يدعو إليه فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه وهو قاطع بخلاف ذلك ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت. قال أهل السير: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله تعالى أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه فأمر بنشابه فضرب بها نحو السماء فردّت إليه وهي ملطخة دماً فقال: قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقع منها قطعة على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ثم زادهم شكاً بقوله مؤكداً لأجل رفع ما استقرّ في الأنفس من صدق موسى عليه السلام {وإني لأظنه} أي: موسى عليه السلام {من الكاذبين} أي: دأبه ذلك وفرعون هو الذي قد لبس وكذب ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة نفسه الغريقة في العدوان. {واستكبر} أي: أوجد الكبر بغاية الرغبة فيه {هو} بقوله هذا الذي صدّهم به عن السبيل {وجنوده} بإعراضهم لشدّة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل {في الأرض} أي: أرض مصر قال البقاعي: ولعله عرّفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل {بغير الحق} أي: بغير استحقاق قال البقاعي: والتعبير بالتعريف يدل على أنّ التعظيم بنوع من الحق ليس بكبر وإن كانت صورته كذلك وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله قال صلى الله عليه وسلم فيما حكاه عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار» {وظنوا} أي: فرعون وجنوده ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع {أنهم إلينا} أي: إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عند انقطاع الأسباب {لا يرجعون} بالنشور، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم والباقون بضمّ الياء وفتح الجيم، ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال تعالى: {فأخذناه وجنوده} كلهم أخذ قهر ونقمة وذلك علينا هيِّن وأشار تعالى إلى احتقارهم بقوله تعالى: {فنبذناهم} أي: طرحناهم {في اليم} أي: البحر المالح فغرقوا فكانوا على كثرتهم وقوّتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الدرء من يده في البحر ونحو ذلك قوله تعالى: {وجعلنا فيها رواسي شامخات} (المرسلات، 27) وقوله تعالى {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} (الحاقة: 14) ولما تسبب عن هذه الآيات من العلوم ما لا تحيط به الفهوم قال تعالى: {فانظر} أي: أيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 المعتبر بالآيات الناظر فيها نظر اعتبار {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الظالمين} حيث صاروا إلى الهلاك فحذِّر قومك عن مثلها وفي هذا إشارة إلى أنّ كل ظالم تكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق ورابطه {حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} ولما كان: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» قال الله تعالى: {وجعلناهم} أي: في الدنيا {أئمة} أي: قدوة للضلال بالحمل على الإضلال، وقيل بالتسمية كقوله تعالى {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} (الزخرف: 19) أو بمنع الألطاف الصارفة عنه {يدعون} أي: يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم فضل بضلالهم {إلى النار} أي: إلى موجباتها من الكفر والمعاصي، وأمّا أئمة الحق فإنما يدعون إلى موجبات الجنة من فعل الطاعات والنهي عن المنكرات: جعلنا الله تعالى وأحبابنا معهم بمحمد وآله، ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة وقد أخبر عن خذلانهم في الدنيا قال تعالى: {ويوم القيامة} أي: الذي هو يوم التغابن {لا ينصرون} أي: لا يكون لهم نوع نصرة تدفع العذاب عنهم. {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة} أي: طرداً عن الرحمة ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن وافقهم، وإنما قال الله تعالى: {الدنيا} ولم يقل الحياة، قال البقاعي: لأنّ السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم. {ويوم القيامة هم} أي: خاصة ومن شاكلهم {من المقبوحين} أي: المبعدين أيضاً المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال من القبح الذي هو ضد الحسن من قولهم: قبح الله العدو أبعده عن كل خير، وقال أبو عبيدة: من المهلكين، قال البقاعي: فيا ليت شعري أي: صراحة بعد هذا في أنّ فرعون عدوّ الله في الآخرة كما كان عدوّ الله في الدنيا فلعنة الله على من يقول إنه مات مؤمناً وأنه لا صراحة في القرآن بأنه من أهل النار وعلى من يشك في كفره بعدما ارتكبه من جلي أمره انتهى، وقد قدّمت الكلام في سورة يونس على قول فرعون وأنا من المسلمين. ثم إنه تعالى أخبر عن أساس إمامة بني إسرائيل مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع بقوله. {ولقد آتينا} أي: بما لنا من الجلال والكمال {موسى الكتاب} أي: التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين، قال أبو حيان: وهو أوّل كتاب نزلت فيه الفرائض والأحكام. {من بعدما أهلكنا القرون الأولى} أي: من قوم نوح إلى قوم فرعون وقوله تعالى {بصائر للناس} حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي: أنوار القلوب فيبصر بها الحقائق ويميز بين الحق والباطل كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به {وهدى} أي: للعامل بها إلى كل خير {ورحمة} أي: نعمة هنيئة شريفة لأنها قائدة إليهما، ولما ذكر حالها ذكر حالهم بعد إنزالها بقوله تعالى: {لعلهم يتذكرون} أي: ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، ثم إنّ الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وما كنت} أي: يا أفضل الخلق {بجانب الغربي} قال قتادة: بجانب الجبل الغربي، وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي أي: الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار وهو ما يلي البحر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرّفة من ناحية مصر فناداه فيه العزيز الجبار وهو ذو طوى {إذ} أي: حين {قضينا} أي: أوحينا {إلى موسى الأمر} أي: أمر الرسالة إلى فرعون وقومه وما يريد أن يفعل من ذلك في أوّله وأثنائه وآخره مجملاً فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله {وما كنت} أي: بوجه من الوجوه {من الشاهدين} لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى عليه السلام حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي آتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الأخبار عن المغيَّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى: {ولكنا} أي: بما لنا من العظمة {أنشأنا} بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم {قروناً} أي: أمما كثيرة بعد موسى عليه السلام {فتطاول} أي: بمروره وعلوه {عليهم العمر} أي: ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى عليه السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده، فإن قيل: ما الفائدة في إعادة قوله تعالى: {وما كنت من الشاهدين} بعد قوله: {وما كنت بجانب الغربي} لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهداً لأنّ الشاهد لا بدّ أن يكون حاضراً؟ أجيب: بأنّ ابن عباس قال: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم، ولما نفى العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى: {وما كنت ثاوياً} أي: مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين {في أهل مدين} أي: قوم شعيب عليه السلام كمقام موسى وشعيب فيهم {تتلوا} أي: تقرأ {عليهم} تعلماً منهم {آياتنا} العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه السلام معك {ولكنا كنا مرسلين} إياك رسولاً وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها. {وما كنت بجانب الطور} أي: بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام {إذ} أي: حين {نادينا} أي: أوقعنا النداء لموسى عليه السلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو من قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه السلام ولا أحداً حملها ممن حملها عنه ولكن كان ذلك إليك منا، وهو معنى قوله تعالى {ولكن} أي: أنزلنا ما أردنا وأرسلناك به {رحمة من ربك} لك خصوصاً وللخلق عموماً. وقيل: إذ نادينا موسى خذ الكتاب بقوّة، وقال وهب: قال موسى يا رب أرني محمداً قال إنك لن تصل إلى ذلك وإن شئت ناديت أمّته وأسمعتك صوتهم قال: بلى يا رب فقال الله تعالى: يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم، وقال أبو زرعة: نادى يا أمّة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وروي عن ابن عباس ورفعه بعضهم: قال الله تعالى يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك لك، قال الله تعالى يا أمّة محمد إنّ رحمتي سبقت غضبي وعفوي عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم من قبل أن تستغفروني من جاء يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. تنبيه: قال البيضاوي: لعل المراد به أي: بقوله تعالى: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} (القصص: 46) وقت ما أعطاه التوراة وبالأول أي: قوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا} حيث استنبأناه لأنهما المذكوران في القصة وقوله تعالى {لتنذر} أي: لتحذر تحذيراً كثيراً {قوماً} أي: أهل قوّة ونجدة ليس بهم عائق عن أعمال الخير العظيمة إلا الإعراض عنك، وهم العرب ومن في ذلك الزمان من الخلق يتعلق بالفعل المحذوف {ما أتاهم} وعمم النفي بزيادة الجار في قوله تعالى: {من نذير} وزيادة الجار في قوله تعالى {من قبلك} يدل على الزمن القريب وهو زمن الفترة بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام وهو خمسمائة وخمسون سنة ونحو هذا قوله تعالى: {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم} (يس: 6) وقيل: ليس المراد زمن الفترة بل ما بينه وبين إسماعيل عليهما السلام على أنّ دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حولهم {لعلهم يتذكرون} أي: يتعظون. {ولولا أن تصيبهم} أي: في وقت من الأوقات {مصيبة} أي: عظيمة {بما قدّمت أيديهم} أي: من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنها {فيقولوا ربنا} أي: أيها المحسن إلينا {لولا} أي: هلا ولم لا {أرسلت إلينا} أي: على وجه التشريف لنا لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به {رسولاً} وأجاب التحضيض الذي شبهوه بالأمر ليكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله تعالى: {فنتبع} أي: فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع {آياتك ونكون} أي: كوناً هو في غاية الرسوخ {من المؤمنين} أي: المصدقين لك في كل ما أتى به عنك رسولك تنبيه (لولا) الأولى: امتناعية وجوابها محذوف تقديره كما قال الزجاج ما أرسلنا إليهم رسولاً يعني أنّ الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول فهو كقوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء: 165) والثانية: تحضيضية ونتبع جوابها كما مرّ فلذلك أضمر أن، فإن قيل: كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟.d أجيب: بأنّ القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال ولكنّ العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها (لولا) وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويؤول معناه إلى قولك ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم وقد عاينوا ما ألجؤا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم عز وجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وفي هذا من الشهادة القوية على استحاكم كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفي وهو كقوله تعالى: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام: 28) ولما كان التقدير ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه بنى عليه. {فلما جاءهم} أي: أهل مكة {الحق} أي: الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات فكيف وهو {من عندنا} على مالنا من العظمة وهو على لسانك وأنت أعظم الخلق {قالوا} أي: أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتا وكفراً به {لولا} أي: هلا ولم لا {أوتي} أي: هذا الآتي بما يزعم أنه الحق من الآيات {مثل ما أوتي موسى} من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما من كون الكتاب أنزل عليه جملة واحدة قال الله تعالى: {أو لم يكفروا} أي: العرب ومن بلغته الدعوة من بني إسرائيل ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى {بما أوتي موسى} عليه السلام من قبل أي: من قبل مجئ الحق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولما كان كأنه قد قيل ما كان كفرهم به قيل {قالوا} أي: فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل {ساحران} أي: موسى وأخوه عليهما السلام {تظاهرا} أي: أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين على قراءة الكوفيين بكسر السين وسكون الحاء، وقرأ الباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما. تنبيه: يجوز أن يكون الضمير لمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، قال البقاعي: وهو أقرب وذلك لأنه روي أن قريشاً جاءت إلى اليهود فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنّ نعته في كتابهم فقالوا هذه المقالة فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال: ما كان كفرهم بهما؟ فقيل قالوا أي: العرب: الرجلان ساحران أو الكتابان ساحران ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أنّ هذا القول زيف لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر لكان سحر فرعون أعجز إعجازاً لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارضة ما أظهر موسى عليه السلام من آياته كالعصا، وأمّا محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا أهل الأرض من الجنّ والأنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا عن آخرهم، ولما تضمن قولهم ذلك الكفر صرّحوا به {وقالوا} أي: كفار قريش {إنا بكل} أي: من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما وهما ما أتيا به من عند الله {كافرون} جراءة على الله تعالى وتكبراً على الحق ثم قال الله تعالى: {قل} أي: لهم إلزاماً إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه السلام {فأتوا بكتاب من عند الله} أي: الملك العلي الأعلى {هو} أي: الذي تأتون به {أهدى منهما} أي: من الكتابين وقوله {أتبعه} أي: وأتركهما جواب الأمر وهو فأتوا {إن كنتم} أي: أيها الكفار {صادقين} أي: في أنا ساحران فأتوا بما ألزمتكم به، قال البيضاوي: وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم. {فإن لم يستجيبوا لك} أي: دعاءك إلى الكتاب الأهدى فحذف المفعول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 للعلم به ولأن فعل الاستجابة يتعدّى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالباً كقول القائل: *وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب* وداعٍ (أي: ورب داع) . الشاهد في يستجبه حيث عدّاه إلى الداعي وحذف الدعاء والتقدير فلم يستجب دعاءه {فاعلم} أنت {أنما يتبعون} أي: بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفر والتكذيب {أهواءَهم} أي: دائماً وأكثر الهوى مخالف للهدى فهم ضالون غير مهتدين بل هم أضلّ الناس وذلك معنى قوله تعالى: {ومن أضلّ ممن اتبع} أي: بغاية جهده {هواه} أي: لا أحد أضل منه فهو استفهام بمعنى النفي وقوله تعالى: {بغير هدى من الله} في موضع الحال للتوكيد والتقييد فإن هوى النفس قد يوافق الهدى {إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين} أي: وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهواءهم. {ولقد وصلنا} قال ابن عباس: بيّنا، وقال الفراء: أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً {لهم} أي: خاصة فكان تخصيصهم بذلك منّة عظيمة يجب عليهم شكرها {القول} أي: القرآن، قال مقاتل: بيَّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا {لعلهم يتذكرون} أي: ليكون حالهم حال من يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق، ثم كأنه قيل هل تذكر منهم أحد؟ قيل نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا وذلك معنى قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله} أي: قبل القرآن أو قبل محمد صلى الله عليه وسلم {هم به} أي: بما تقدّم {يؤمنون} أيضاً: نزل في جماعة أسلموا من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال مقاتل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال سعيد بن جبير هم أربعون رجلاً قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له يا نبيّ الله إنّ لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ذلك إلى قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} وعن ابن عباس: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام، ثم وصفهم الله تعالى بقوله تعالى: {وإذا يتلى} أي: تتجدّد تلاوة القرآن {عليهم قالوا} أي: مبادرين لذلك {آمنا به} ثم عللوا ذلك بقولهم {إنه الحق} أي: الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل مع كونه {من ربنا} أي: المحسن إلينا ثم عللوا مبادرتهم بقولهم {إنا كنا من قبله} أي: القرآن {مسلمين} أي: منقادين غاية الانقياد مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيّ حق. {أولئك} أي: العالو الرتبة {يؤتون أجرهم مرّتين} أي: لإيمانهم به غيباً وشهادة أي: بالكتاب الأوّل ثم بالكتاب الثاني {بما صبروا} أي: بسبب صبرهم على دينهم، وقال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأؤذوا، وعن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله صلى الله عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده» ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفاً على يؤمنون مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين {ويدرؤن} أي: يدفعون {بالحسنة} من الأقوال والأفعال {السيئة} أي: فيمحونها بها، وقال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، وقال مقاتل: يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي: بالصفح والعفو. {ومما رزقناهم} أي: بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوّة قليلاً كان أو كثيراً {ينفقون} أي: يتصدّقون معتمدين في الخلف على الذي رزقه، ولما ذكر الله أنّ السماح بما تضنّ النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان أتبعه أنّ خزن ما تبذله الأنفس من فضول الأقوال من علامات العرفان بقوله تعالى: {وإذاسمعوا اللغو} أي: ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعيير ونحوه {أعرضوا عنه} تكرّماً عن الخنا، وقيل اللغو: القبيح من القول؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون لهم تباً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم {وقالوا} وعظاً وتسميعاً لقائله {لنا} خاصة {أعمالنا} لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون {ولكم} أي: خاصة {أعمالكم} لا نطالب بشيء منها فنحن لا نشتغل بالرد عليكم {سلام عليكم} متاركة لهم وتوديعاً ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه، لا سلام تحية وإكرام، ونظير ذلك {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان، 63) ثم أكد ذلك تعالى بقوله تعالى: حاكياً عنهم {لا نبتغي} أي: لا نكلف أنفسنا أن نطلب {الجاهلين} أي: لا نريد شيئاً من أموالهم وأقوالهم أو غير ذلك من خلالهم، وقيل لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه قيل نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأنّ ترك المسافهة مندوب إليه وإن كان القتال واجباً، ونزل في حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت} أي: نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه، روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال: أي: عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} (التوبة: 113) وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم {إنك لا تهدي من أحببت} الآية، وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «أمره بالتوحيد فقال له لولا أن تعيرني قريش تقول إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى الآية» وروي أنّ أبا طالب قال عند موته يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يا عمّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية {أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى في آية أخرى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52) أجيب: بأنه لا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدور وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} (الأنعام: 122) {وهو أعلم} أي: عالم {بالمهتدين} أي: الذين قد هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أم من العرب أقارب كانوا أم أباعد، ثم حكى الله تعالى عن كفار قريش شبهة تتعلق بأحوال الدنيا بقوله تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى} أي: الإسلام فنوحد الله تعالى من غير إشراك {معك} وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس {نتخطف} أي: من أيّ خاطف أرادنا لأنا نصير قليلاً في كثير من غير نصير {من أرضنا} كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوّتهم فيسرعوا إلينا فيتخطفونا، أي: يتقصدون خطفنا واحداً واحداً فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض. قال المبرد: والخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكنا إن اتبعناك على دينك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة، ثم ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة وألقمهم الحجر بقوله تعالى: {أو لم نمكن} أي: غاية التمكين {لهم} أي: في أوطانهم ومحلّ سكناهم بما لنا من القدرة {حرماً آمنا} أي: ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها حتى إن سيل الحلّ لا يدخل الحرم بل إذا وصل إليه عدل عنه، وروي أنّ مكة كانت في الجاهلية لا يعرضها ظلم ولا بغي ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يتعرّض له بسوء، وروى الأزرقي في تاريخ مكة عن حويطب بن عبد العزى قال: كان في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشلّ. وعن ابن عباس قال: أخذ رجل ذود ابن عمّ له فأصابه في الحرم فقال: ذودي فقال اللص: كذبت قال فاحلف فحلف عند المقام فقام ربّ الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة مالي ولفلان رب الذود فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود ودفعه إلى المظلوم فخرج به وبقي الآخر حتى وقع من جبل فتردّى فأكلته السباع. وعن ابن جريج: أنّ غير قريش من العرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثياباً فجاءت امرأة لها جمال فطافت عريانة فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها فأدنى عضده من عضدها فالتزقت عضده بعضدها فخرجا من المسجد هاربين فزعين على وجوههما لما أصابهما من العقوبة فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا فعادا ودعوا وأخلصا النية فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية. وعن عبد العزيز بن رواد أنّ قوماً انتهوا إلى ذي طوى فإذا ظبي قد دنا منهم فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه: ويحك أرسله فجعل يضحك وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال ثم أرسله فناموا في القائلة ثم انتبهوا فإذا بحية متطوّقة على بطن الرجل الذي أخذ الظبي فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحدث مثل ما كان من الظبي. وعن مجاهد قال: دخل قوم مكة تجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها ليأتدموا بها فبينما قدرهم على النار يغلي لحمه إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم. وعن أيوب بن موسى أنّ امرأة في الجاهلية كان معها ابن عمّ لها صغير فقالت له: يا بني إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد فإن جاءك ظالم بعدي فإنّ لله بمكة بيتاً سيمنعك فجاءه رجل فاسترقه فلما رأى الغلام البيت عرفه بالصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت فجاءه سيده فمدّ يده إليه ليأخذه فيبست يده فمدّ الأخرى فيبست فاستفتى فأفتي أن ينحر عن كل واحدة من يديه بدنة ففعل فأطلقت يداه وترك الغلام وخلى سبيله. وعن أبي ربيع بن سالم الكلاعي أنّ رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عمّ له فخوّفه بالدعاء في الحرم فقال هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء في الحرم فجاء في الحرم في الشهر الحرام فقال اللهمّ إني أدعوك جاهداً مضطرّاً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق. وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره فقال يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عمّ فكنا نظلمه فكان يذكرنا الله والرحم فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه ويقول: *لا همّ أدعوك دعاء جاهداً ... اقتل بني ضبعاء إلا واحداً* *ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً ... أعمى إذا قيد يعيي القائداً* قال فمات أخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي فليس يلائمني قائد فقال عمر رضى الله تعالى عنه جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ليرجع الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما جاء الدين صار التوعد للساعة ويستجيب الله تعالى لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وإنما أكثرت من هذه الحكايات ليكون الداخل للحرم على حذر فإنّ الله تعالى حماه ومكَّن أهله في الحرم الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 أمنَّه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناجدون وهم آمنون في حرمهم لا يخافون وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذي زرع والثمرات والأرزاق تجبى إليهم كما قال تعالى: {يجبى} أي: يجمع ويحمل {إليه} أي: خاصة دون غيره من جزيرة العرب {ثمرات كل شيء} من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والنبق، والباردة كالعنب والتفاح والرمّان والخوخ، فإذا خولهم الله تعالى ما خوّلهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرّضهم للخوف والتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز. تنبيه: معنى الكلية هنا الكثرة كقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} (النمل: 23) ولكن في تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ما لم يخطر لأحد منهم في بال، وقرأ نافع بالتاء الفوقية، والباقون بالياء التحتية، وأمال حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، ثم إنه تعالى بين أنّ الرزق من عنده بقوله تعالى: {رزقاً من لدنا} أي: فلا صنع لأحد فيه بل هو محض تفضل. تنبيه: انتصاب رزقاً على المصدر من معنى يجبى أو الحال من ثمرات لتخصيصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المخصصة وإن جعلته اسماً للمرزوق انتصب على الحال من ثمرات {ولكن أكثرهم} أي: أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له {لا يعلمون} أي: ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بل هم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا، وقيل: إنه متعلق بقوله تعالى: {من لدنا} أي: قليل منهم يتدبرون فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره، ثم بين تعالى أنّ الأمر بالعكس فإنهم أحقِّاء بأن يخافوا من بأس الله تعالى على ما هم عليه بقوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية} أي: من أهل قرية وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله تعالى: {بطرت معيشتها} أي: وقع منها البطر في زمن عيشها الرخيّ الواسع فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم، ومعنى بطرهم لها قال عطاء: أنهم أكلوا رزق الله وعبدوا غيره، وقيل: البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه. تنبيه: انتصاب معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كما في قوله تعالى: {واختار موسى قومه} (الأعراف: 155) أو بتقدير حذف ظرف الزمان وأصله بطرت أيام معيشتها، وإما بتضمين بطرت معنى كفرت أو خسرت، أو على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريب من سفه نفسه {فتلك مساكنهم} خاوية {لم تسكن من بعدهم} بعد أن طال ما تعالوا فيها ونمَّقوها وزخرفوها وزفوا فيها الأبكار وفرحوا بالأعمال الكبار {إلا} سكوناً {قليلاً} قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون ومارّوا الطريق يوماً أو ساعة من ليل أو نهار ثم تصير يباباً موحشة كالقفار بعد أن كانت متمنعة الفناء ببيض الصفاح وسمر القنا، قال الزمخشري: ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي في أثره ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً {وكنا} أي: أزلاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وأبداً {نحن} لا غيرنا {الوارثين} منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرّف تصرّفهم في ديارهم وسائر متصرّفاتهم قال القائل: *تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع* {وما كان ربك} أي: المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس {مهلك القرى} أي: هذا الجنس كله بجرم وإن عظم {حتى يبعث في أمّها} أي: أعظمها وأشرفها {رسولاً} لأنّ غيرها تبع لها ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه السلام من الناصرة وبعث إلى بيت المقدس {يتلوا عليهم} أي: أهل القرى كلهم {آياتنا} الدالة على ما ينبغي لنا من الحكمة وبما لها من الإعجاز على نفوذ الكلمة وباهر العظمة إلزاماً للحجة وقطعاً للمعذرة لئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء من أم القرى كلها وهي مكة البلد الحرام {وما كنا مهلكي القرى} أي: كلها بعد الإرسال {إلا وأهلها ظالمون} أي: غريقون في الظلم بالعصيان بترك ثمرات الإيمان وتكذيب الرسل. {وما أوتيتم من شيء} أي: من أسباب الدنيا {فمتاع} أي: فهو متاع {الحياة الدنيا} تتمتعون بها أيام حياتكم وليس يعود نفعه إلى غيرها فهو آيل إلى فساد وإن طال زمن التمتع به {وزينتها} أي: فهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها فضلاً عن زينتها إلى فناء فليست هي ولا شيء بأزلي ولا أبدي {وما عند الله} أي: الملك الأعلى وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت {خير} على تقدير مشاركة ما في الدنيا له فالخيرية في ظنكم لأنّ الذي عنده أطيب وأكثر وأشهى وأزهى {و} هو مع ذلك كله {أبقى} لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزلياً فهو أبدي وهذا جواب عن شبههم فإنهم قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أنّ ذلك خطأ عظيم لأنّ ما عند الله خير وأبقى من وجهين: الأوّل: أنّ المنافع هناك أعظم، والثاني: أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل المضار فيها أكثر، وأما أنها أبقى فلإنها دائمة غير منقطعة ومن قابل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فظهر بهذا أنّ منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة فلا جرم نبه على ذلك بقوله تعالى: {أفلا يعقلون} أنّ الباقي خير من الفاني فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير فمن لم يرجِّح منافع الآخرة على منافع الدنيا فإنه يكون خارجاً عن حدّ العقل، قال ابن عادل ورحم الله الشافعيّ حيث قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأنّ أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة، فكأنه رحمه الله تعالى إنما أخذه من هذه الآية انتهى، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة لاشتماله على الالتفات للإعراض به عن خطابهم، والباقون بالتاء على الخطاب جرياً على ما تقدّم. {أفمن وعدناه} على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق {وعداً حسناً} لا شيء أحسن منه في موافقته للأمنية وبقائه وهو الجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود ولذلك سمى الله تعالى الجنة بالحسنى {فهو لاقيه} أي: مدركه لامتناع الخلف في وعده ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية {كمن متعناه متاع الحياة الدنيا} أي: الذي هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب للتحسر على الانقطاع، وعن ابن عباس أن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن والمنافق والكافر فالمؤمن يتزوّد والمنافق يتزين والكافر يتمتع {ثم هو} مع ذلك كله {يوم القيامة} الذي هو يوم التغابن من خسر فيه لم يربح أصلاً {من المحضرين} أي: المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بملء الأرض ذهباً لم يقبل منه، قال قتادة يحضره المؤمن والكافر، قال مجاهد: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، وقال محمد بن كعب نزلت في حمزة وعلي وفي أبي جهل، وقال السدّي: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة. تنبيه: ثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع في الزمان أو الرتبة، وقرأ ثم هو قالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم. {ويوم} أي: واذكر يوم {يناديهم} أي: ينادي الله هؤلاء الذين يضلون الناس ويصدّون عن سبيل الله {فيقول} أي: الله تعالى {أين شركائي} من الأوثان وغيرهم ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله تعالى: {الذين كنتم} أي: كوناً غريقين فيه {تزعمون} أنها تشفع ليدفعوا عنكم وعن أنفسهم فيخلصكم من هذا الذي نزل بكم، تنبيه: تزعمون مفعولاه محذوفان أي: تزعمونهم شركائي {قال الذي حق} أي: ثبت ووجب {عليهم القول} أي: بدخول النار وهم رؤوس الضلالة وهو قوله تعالى: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود، 119) وغيره من آيات الوعيد وقولهم {ربنا هؤلاء} إشارة للإتباع {الذين أغوينا} أي: أوقعنا الأغواء وهو الإضلال بهم صفته والعائد حذف وقولهم {أغويناهم} أي: فغووا باختيارهم {كما غوينا} أي: نحن فهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصول محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا لا أنّ فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء، أو دعونا إلى الغي وسوّلوه لنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأنّ أغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً لا قسراً وإلجاء فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم وإن كان تسويلنا لهم داعياً إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وبما بعث إليهم من الرسل وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان، وهذا معنى ما حكاه الله تعالى عن الشيطان: {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} (إبراهيم، 22) . تنبيه: اعترض أبو علي على الزمخشريّ في هذا الإعراب بأن الخبر ليس فيه زيادة فائدة على ما في صفته، فإن قلت قد وصل الخبر بقوله كما غوينا وفيه زيادة قلت الزيادة بالظرف لا تصيِّره أصلاً في الجملة لأنّ الظروف فضلات، ثم إنه أعرب هو هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا خبره وأغويناهم مستأنف، وأجاب أبو البقاء وغيره بأن الظروف قد تلزم كقولك زيد عمرو قائم في داره ثم أشاروا بقولهم {تبرأنا إليك} أي: من أمورهم إلى أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم فهو تقرير للجملة الأولى ولهذا خلت عن العاطف وعلى تقدير إغوائنا لهم {ما كانوا إيانا} أي: خاصة {يعبدون} بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء إليه وحث عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على من كان سبباً في ذلك، وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا أي: تبرأنا من عبادتهم إيانا، ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عدّ عدماً لأنه لا طائل تحته أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جواباً كما قيل رب قول جوابه السكوت، بقوله تعالى: {وقيل} أي: ثانياً للأتباع تهكماً بهم وإظهاراً لعجزهم الملزوم لتحيرهم وعظم تأسفهم وذكر ذلك بصيغة المجهول للأستهانة بهم وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل آمر كائناً من كان {ادعوا} أي: كلكم {شركاءكم} أي: الذين ادعيتم جهلاً شركتهم ليدفعوا عنكم العذاب {فدعوهم} تعللاً بما لا يغني وتمسكاً بما يتحقق أنه لا يجدي لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة {فلم يستجيبوا لهم} أي: لم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة، قال ابن عادل: والأقرب أنّ هذا على سبيل التقريع لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم {ورأوا} أي: هم {العذاب} عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم فكان الحال حينئذ مقتضياً لأن يقال من كل من يهواهم {لو أنهم كانوا يهتدون} أي: تحصل منهم هداية ساعة من الدهر تأسفاً على أمرهم وتمنياً لخلاصهم ولو أن ذلك كان في طاقتهم وجواب لو محذوف أي: لنجوا من العذاب ولما رأوه أصلاً، قال الضحاك ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة. {ويوم يناديهم} أي: الله تعالى وهم بحيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر قد برزوا لله جميعاً من كان منهم عاصياً ومن كان منهم مطيعاً في صعيد واحد قد أخذنا بأنفاسهم الزحام وتراكب الأقدام على الأقدام وألجمهم العرق وعمهم الغرق {فيقول ماذا} أي: أوضحوا وعينوا جوابكم الذي {أجبتم المرسلين} إليكم، تنبيه: ويوم معطوف على الأوّل فإنه تعالى يسأل عن إشراكهم به ثم تكذيبهم الأنبياء ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج لم يكن لهم جواب إلا السكوت وهو المراد بقوله تعالى: {فعميت} أي: خفيت وأظلمت {عليهم الأنباء} أي: الأخبار المنجية {يومئذ} التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر، تنبيه: الأصل فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج وإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام في ذلك اليوم يفوِّضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال فلهذا قال تعالى: {فهم لا يتساءلون} أي: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة أو للعلم بأنه مثله هذا حال من أصر على كفره. {فأما من تاب} عنه وقوله تعالى: {وآمن} تصريح بما علم التزاماً فإن الكفر والإيمان ضدّان لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر وقوله تعالى: {وعمل صالحاً} لأجل أن يكون مصدقاً لدعواه باللسان {فعسى} إذا فعل ذلك {أن يكون من المفلحين} عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترجّ من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح، ولما كان كأنه قيل ما لأهل القسم الأوّل لا يتوخون النجاة من ضيق ذلك البلاء إلى رحب هذا الرجاء وكان الجواب ربك منعهم من ذلك، وما له لم يقطع لهذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأوّل بالشقاء كان الجواب. {وربك يخلق ما يشاء ويختار} لا موجب عليه ولا مانع له {ما كان لهم الخيرة} أي: أن يفعلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 يفعل لهم كل ما يختارونه، تنبيه: الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأساً، قال البيضاوي والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العبيد مخلوق منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقال الرازي في اللوامع: وفيه دليل على أنّ العبد في اختياره غير مختار فلهذا أهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا وإن أصابهم سهام المصائب العظام صابروا وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا وإن أذلهم رضوا وسلموا فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه، قال القائل: *وقف الهوى لي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدّم *أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوّم *وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن يكرم* وقيل ما موصولة مفعول ليختار والراجع محذوف، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي: الخير والصلاح {سبحان الله} تنزيهاً له أن يزاحمه أحد أو ينازع اختياره وتعالى: أي: علا علواً لا تبلغ العقول توجيه كنه مداه {عما يشركون} أي: عن إشراكهم أو مشاركة ما يشاركونه به، ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم قال تعالى: {وربك} أي: المحسن إليك المتولي أمر تربيتك {يعلم ما تكنّ} أي: تخفي وتستر {صدورهم} من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى عليه السلام، أو لا يؤمنون ومن كون ما أظهر من أظهر الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً، ومن كونهم يخفون عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم {وما يعلنون} أي: يظهرون من ذلك كل ذلك لديه سواء فلا يكون لهم مراد إلا يخلقه، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى: {ما تكنّ صدورهم} عن قوله: {وما يعلنون} أجيب: بأنّ علم الخفي لا يستلزم علم الجليّ إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك، ولما كان علمه تعالى بذلك إنما هو لكونه إلهاً واحداً فرداً صمداً وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه قال تعالى: {وهو الله} أي: المستأثر بالإلهية الذي لا سميّ له الذي لا يحيط الواصفون بكنه عظمته، ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله تعالى: {لا إله إلا هو} وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {له} أي: وحده {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال {في الأولى والآخرة} لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا، فإن قيل الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ أجيب: بأنهم يحمدونه بقولهم {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} {} (فاطر: 34) {الحمد لله الذي صدقنا وعده} (الزمر: 74) {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} (يونس: 10) والتوحيد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي الحديث يلهمون التسبيح والتقديس {وله الحكم} أي: القضاء النافذ في كل شيء وقال ابن عباس: حكم لأهل الطاعة بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء {وإليه} لا إلى غيره {ترجعون} أي: بأيسر أمر يوم النفخ في الصور لبعثرة ما في القبور، بالبعث والنشور مع أنكم الآن راجعون في جميع أحكامكم إليه، ومقصورون عليه إن شاء أمضاها وإن أراد ردّها ولواها ففي الآية غاية التقوية لقلوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 المطيعين ونهاية الزجر والردع للمتمردين، ثم بين سبحانه وتعالى بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه بقوله تعالى: {قل} أي: يا أفضل الخلق لأهل مكة {أرأيتم} أي: أخبروني {إن جعل الله} أي: الملك الأعلى {عليكم الليل} أي: الذي به اعتدال حرّ النهار {سرمداً} أي: دائماً {إلى يوم القيامة} لا نهار معه {من إله غير الله} أي: العظيم الشأن الذي لا كفء له {يأتيكم بضياء} أي: بنهار تطلبون فيه المعيشة {أفلا تسمعون} أي: ما يقال لكم سماع إصغاء وتدبر. {قل أرأيتم إن جعل الله} أي: الذي له الأمر كله {عليكم النهار} أي: الذي توازن حرارته برطوبة الليل فيتمّ بها صلاح النبات وغير ذلك من جميع المقدّرات {سرمداً} أي: دائماً {إلى يوم القيامة} لا ليل فيه {من إله غير الله} أي: الجليل الذي ليس له مثل {يأتيكم بليل} أي: ينشأ منه ظلام {تسكنون فيه} استراحة عن متاعب الأشغال، فإن قيل هلا قيل بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه؟ أجيب: بأنه تعالى ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأنّ المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعايش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء {أفلا تسمعون} لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر من ذلك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل {أفلا تبصرون} لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون، قال البقاعي: فالآية من الاحتباك ذكر الضياء أولاً دليلاً على حذف الظلام ثانياً والليل والسكون ثانياً دليلاً على حذف النهار والانتشار أوّلاً ولما كان التقدير ومن رحمته جعل لكم السمع والأبصار لتتدبروا آياته وتبصروا في مصنوعاته عطف عليه. {ومن رحمته} أي: التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض {جعل لكم الليل والنهار} آيتين عظيمتين دبر فيها وبهما جميع مصالحكم فجعل آية الليل {لتسكنوا فيه} فلا تسعوا فيه لمعاشكم {و} جعل آية النهار مبصرة {لتبتغوا من فضله} بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم، قال البقاعي: فالآية من الاحتباك ذكر أوّلاً السكون دليلاً على حذف السعي في المعاش ثانياً وذكر الابتغاء من فضله ثانياً دليلاً على حذف عدم السعي في المعاش أوّلاً {ولعلكم تشكرون} أي: وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر لما يتجدد لكم من تقلبهما من النعم المتوالية التي لا يحصرها إلا خالقها، وأما الآخرة فلما كانت غير مبنية على الأسباب وكانت الجنة لا تعب فيها بوجه كان لا حاجة فيها لليل. {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به كما أنه لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده، اللهمّ فكما أدخلتنا في أهل توحيدك فأدخلنا في الناجين من وعيدك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا أرحم الراحمين، ويحتمل أن يكون الأوّل لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تَشَهِّ: وهوى، أو أنه ذكر الثاني كما قال الجلال المحلي ليبنى عليه. {ونزعنا} أي: أخرجنا وأفردنا بقوّة وسطوة {من كل أمة شهيداً} أي: وهو رسولهم يشهد عليهم بما قالوه {فقلنا} أي: فتسبب عن ذلك أن قلنا للأمم {هاتوا برهانكم} أي: دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه وعوّلتم في شرككم عليه كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئاً على غير أساس {فعلموا} أي: بسبب هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 السؤال لمَّا اضطروا ولم يجدوا لهم سنداً {أن الحق} في الإلهية {لله} أي: الملك الذي له الأمر كله لا يشاركه فيه أحد {وضل عنهم} أي: غاب غيبة الضائع {ما كانوا يفترون} أي: يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة للغلط فيه. {إن قارون} ويسمى في التوراة تورح {كان من قوم موسى} قال أكثر المفسرين كان ابن عمه لأنّ قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى عليه السلام ابن عمران بن قاهث بن لاوي وقال ابن إسحاق كان قارون عم موسى فكان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل؟ اقرأ للتوراة من قارون ولكنه نافق كما نافق السامريّ وكان يسمى النور لحسن صورته. وعن ابن عباس: كان ابن خالته {فبغى عليهم} أي: تجاوز الحدّ في احتقارهم بما خوّلناه فيه، قيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم، وقال قتادة: بغى عليهم بكثرة المال ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء. وقال الضحاك: بغى عليهم بالشرك، وقال شهر بن حوشب زاد في طول ثيابه شبراً، روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء» ، وقال القفال: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده، وقال ابن عباس تكبر عليهم وتجبر، وقال الكلبيّ حسد هارون عليه السلام على الحبورة. روي أهل الأخبار: أن قارون كان أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أوّل طغيانه وعصيانه أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أخضر كلون السماء يذكرون إذا نظروا إليها السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي فقال موسى: عليه السلام يا رب افلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإنّ بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط، فقال الله تعالى: يا موسى أنّ الصغير من أمري ليس بصغير فإن لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى عليه السلام وقال: إنّ الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به واستكبر قارون ولم يفعل وقال إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم وكان هذا بدء عصيانه وبغيه، ولما قطع الله تعالى لبني إسرائيل البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون عليه الصلاة والسلام فحصلت له النبوّة والحبورة وكان له القربان والذبح وكان لموسى عليه السلام الرسالة فوجد قارون لذلك في نفسه وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر أنا على هذا فقال موسى: عليه السلام والله ما صنعت ذلك لهارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون: والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل وأمرهم أن يجيء كل رجل منهم بعصا فجاؤوا بها فحزمها وألقاها موسى عليه السلام في قبة له كان يعبد الله تعالى فيها وكان ذلك بأمر الله تعالى ودعا موسى عليه السلام أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون عليه السلام وقد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى: عليه السلام لقارون ألا ترى ما صنع لهارون؟ عليه السلام فقال: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فاعتزل قارون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 ومعه ناس كثير، وولي هارون عليه السلام الحبورة وهي رياسة الذبح والقربان وكانت بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هارون عليه السلام فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فكان لا يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن قارون كان من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى» ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر سببه الحقيقي بقوله تعالى: {وأتيناه من الكنوز} أي: الأموال المدفونة المذخورة فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منها لما عساه يعرض من المهمات {ما} أي: الذي أوتي شيء كثير لا يدخل تحت حصر حتى {إنّ مفاتحه} أي: مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيها وراء أبوابها {لتنوء} أي: تميل بجهد ومشقة بثقلها {بالعصبة} أي: الجماعة الكثيرة التي تعصب أي: يقوي بعضهم بعضاً {أولى} أي: أصحاب {القوّة} أي: تميلهم من أثقالها إياهم، تنبيه: في المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده وكل ذلك مما تستبعده العقول فلذلك وقع التأكيد. واختلفوا في عدد العصبة: فقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقال قتادة ما بين العشرة إلى الأربعين، وقيل أربعون رجلاً، وقيل سبعون وروي عن ابن عباس قال: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً، أقوى ما يكون من الرجال. وقال جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد فيها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز، ويقال كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما أثقلت عليه جعلت من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً، وفي الباء في بالعصبة: وجهان أنها للتعدية كالهمزة ولا قلب في الكلام والمعنى لتنئ المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول أجأته وجئت به وأذهبته وذهبت به، والثاني: قال أبو عبيدة: إن في الكلام قلباً والأصل لتنوء العصبة بالمفاتح أي: لتنهض بها كقولهم عرضت الناقة على الحوض. ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر وقته بقوله تعالى: {إذا قال له قومه} أي: من بني إسرائيل {لا تفرح} أي: بكثرة المال فرح بطر فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه وذلك يدل على نسيان الآخرة وعلى غاية الجهل وقلة التأمل بالعواقب، قال ابن عباس: كان فرحه ذلك شركاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله عز وجل {إنّ الله} أي: الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي: لا يعامل معاملة المحب {الفرحين} أي: البطرين الأشرين الراسخين في الفرح بما يفني الذين لا يشكرون الله تعالى بما أعطاهم فإن فرحهم يدل على سقوط الهمم كما قال تعالى: {ولا تفرحوا بما آتاكم} (الحديد، 23) وقال القائل في ذلك. *ولست بمفراح إذا الدهر سرني وقال آخر: *أشدّ الغم عندي في سرور* تيقن عنه صاحبه انتقالاً فلا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح. {وابتغ} أي: اطلب طلباً تحمد نفسك فيه {فيما آتاك الله} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 الملك الذي الأمر كله بيده من الغنى والثروة {الدار الآخرة} بأن تقوم بشكر الله فيما أنعم الله عليك وتنفقه في رضا الله تعالى فيجازيك بالجنة {ولا تنس} أي: ولا تترك {نصيبك من الدنيا} قال مجاهد: لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة، وقال السدّيّ: بالصدقة وصلة الرحم. وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لا تنسى صحتك وقوّتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار، وعن ميمون الأزدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه «اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» ، وقال الحسن: أمر أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه، وقال منصور بن زادان قوتك وقوت أهلك {وأحسن} أي: أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج والإنفاق في جميع الطاعات ويدخل في ذلك الإعانة بالجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر {كما أحسن الله} الجامع لصفات الكمال {إليك} بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع الله عليك {ولا تبغ} أي: ولا ترد إرادة ما، {الفساد في الأرض} بتقتير ولا تبذير ولا تكبر على عباد الله تعالى ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأنّ أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب فقيل {إن الله} أي: العالم بكل شيء القدير على كل شيء {لا يحب المفسدين} أي: لا يعاملهم معاملة من يحبه، وقيل أن القائل له هذا موسى عليه السلام، وقيل مؤمنو قومه، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما فيه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه كفر النعمة بأن. {قال} أي: قارون في الجواب {إنما أوتيته} أي: هذا المال {على علم} حاصل {عندي} فإنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة أي: فرآني له أهلاً ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقيل هو علم الكيمياء، وقال سعيد ابن المسيب كان موسى يعلم الكيمياء فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلَّم كالب ابن يوفنا ثلثه وعلَّم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان ذلك سبب أمواله، وقيل على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب، ثم أجاب الله تعالى: عن كلامه بقوله تعالى: {أو لم يعلم أنّ الله} أي: بما له من صفات الجلال والعظمة والكمال {قد أهلك} وقوله تعالى: {من قبله من القرون} فيه تنبيه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان وبعده وقوله تعالى: {ومن هو أشدّ منه قوة} أي: في البدن والمعاني من العلم وغيره والأنصار والخدم {وأكثر جمعاً} في المال والرجال آخرهم فرعون الذي شاهده في ملكه وحقق أمره يوم هلكه فيه تعجيب وتوبيخ على اغتراره بقوّته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأ في التوراة وكان أعلمهم بها وسمعه من حفاظ التواريخ واختلف في معنى قوله عز وجل: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} فقال قتادة يدخلون النار بغير سؤال ولا حساب، وقال مجاهد لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن: لا يسئلون سؤال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 استعلام وإنما يسئلون سؤال توبيخ وتقريع، وقيل المراد أنّ الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال، فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} (الحجر: 92 ـ 93) أجيب: بحمل ذلك على وقتين، وقال أبو مسلم: السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتوبيخ والتقريع وقد يكون للاستعتاب، قال ابن عادل: وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون} (النحل، 84) هذا يوم لا ينطقون ولايؤذن لهم فيعتذرون (المرسلات: 35، 36) . {فخرج} أي: فتسبب عن تجبره واغتراره بماله أن خرج {على قومه} أي: الذين نصحوه في الاقتصاد في شأنه والإكثار في الجود على إخوانه وقوله تعالى: {في زينته} فيه دليل على أنه خرج بأظهر زينته وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر. والناس ذكروا وجوهاً مختلفة: فقال إبراهيم النخعي أنه خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر، وقال ابن زيد: في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات وقال مقاتل: خرج على بلغة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهنّ الحلي والثياب الحمر على البغال ولما كان كأنه قبل ماذا قال قومه له قيل {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} منهم لسفول هممهم وقصور نظرهم على الفاني لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من باب الحسد الذي هو تمنى زوال نعمة المحسود {يا ليت لنا} أي: نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤتى من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وصف كان {مثل ما أوتي قارون} أي: من هذه الزينة وما تسبب عنه من العلم حتى لا نزال أصحاب أموال، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن ثم من يريدان ينكر عليهم {إنه لذو حظ} أي: نصيب وبخت من الدنيا {عظيم} بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جمع هذا المال وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إلى اتباعه قوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم} وهم أهل الدين قال ابن عباس: رضي الله تعالى عنهما يعني الأحبار من بني إسرائيل، وقال مقاتل: أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة فقالوا للذين تمنوا {ويلكم} ويل: أصله الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما يضر، وهو منصوب بمحذوف أي: ألزمكم الله ويلكم {ثواب الله} أي: الجليل العظيم {خير} أي: من هذا الحطام الذي أوتيه قارون في الدنيا بل من الدنيا وما فيها ومن فاته الخير حل به الويل، ثم بينوا مستحقه تعظيماً له وترغيباً للسامع في حاله بقولهم {لمن آمن وعمل} تصديقاً لإيمانه {صالحاً} ثم بين تعالى عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله تعالى: {ولا يلقاها} أي: هذه النصيحة التي قالها أهل العلم وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله أو الجنة المثاب بها {إلا الصابرون} أي: على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرّمات وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار الذين صار الصبر لهم خلقاً، ولما تسبب عن نظره هذا الذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب أشار إلى ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {فخسفنا} أي: بمالنا من العظمة {به وبداره الأرض} روي أنه كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 يؤذي موسى عليه الصلاة والسلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويضاحكونه. قال ابن عباس: نزلت الزكاة على موسى عليه السلام فأتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار بدينار، وعن كل ألف درهم بدرهم، وعن كل ألف شاة بشاة، فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال: لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت قال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم، وقيل ألف دينار، قيل طشتاً من ذهب، وقيل قال لها إني أمونك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد وكان يوم عيد لهم قام موسى عليه السلام خطيباً فقال: من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه فقال له قارون ولو كنت أنت قال ولو كنت أنا قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: ادعها فإن قالت فهو كما قالت فلما أن جاءت قال: لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء فعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت في نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي فخرّ موسى ساجداً يبكي ويقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى: عليه السلام يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلبث مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى: يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم، وفي رواية كان على فراشه وسريره فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وصاحباه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون بالله والرحم، حتى روي أنه ناشده سبعين مرّة وموسى في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه ثم قال: يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض فأوحى الله تعالى إليه ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم ترحمه وعزتي وجلالي لو دعاني مرة واحدة لأجبته، وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد، قال قتادة: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة قال: وأصبح بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم إن موسى إنما دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وبأمواله، فإياكم يا أمة هذا النبيّ أن تردوا ما أتاكم به من الرحمة فتهلكوا، وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن قارون كان من أقارب موسى عليه السلام فإن الأنبياء عليهم السلام كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدا فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى {فما} فتسبب عنه أنه ما {كان له} أي: لقارون، وأكد النفي لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون بزيادة الجار في قوله تعالى: {من فئة} أي: أعوان وأصل الفئة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 الجماعة من الطير كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعتها إلى المكان الذي ذهبت منه {ينصرونه من دون الله} أي: غيره بأن يمنعوا عنه الهلاك {وما كان من المنتصرين} أي: الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع ولما خسف به واستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات ذكر حالهم بقوله: { وأصبح} أي: وصار ولكنه ذكره لمقابلة المساء {الذين تمنوا} أي: أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشفقة أن يكونوا {مكانه} أي: تكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم {بالأمس} أي: الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه فالأمس قد يذكر ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة {يقولون ويكأنّ الله يبسط} أي: يوسع {الرزق لمن يشاء من عباده} بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه {ويقدر} أي: يضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء منه وفتنة و «وي» اسم فعل بمعنى أعجب أي: أتى والكاف بمعنى اللام، وهذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف. واختلف القراء في الوقف فالكسائي وقف على الياء قبل الكاف، ووقف أبو عمرو على الكاف، ووقف الباقون على النون وعلى الهاء، وحمزة يسهل الهمزة في الوقف على أصله، وأما الوصل فلا خلاف فيه بينهم ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله اتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم {لولا أن منّ الله} أي: تفضل الملك الأعظم {علينا} بجوده ولم يعطنا ما تمنيناه من الكنوز على مثل حاله {لخسف بنا} مثل ما خسف به {ويكأنه لا يفلح الكافرون} لنعمة الله تعالى كقارون والمكذبين لرسله وبما وعد لهم من ثواب الآخرة وقوله تعالى: {تلك الدار الآخرة} إشارة تعظيم وتفخيم لشأنها أي: تلك الدار التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها، وتلك مبتدأ والدار صفته والخبر {نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض} بالبغي {ولا فساداً} بعمل المعاصي فلم يعلق تعالى الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك، إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} (هود، 113) فعلق الوعيد بالركون، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها، وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال ذهبت الأماني ههنا، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يرددها حتى قبض، قال الزمخشري: ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقاً بقوله تعالى: {أن فرعون علا في الأرض} وبقوله تعالى: {ولا تبغ الفساد في الأرض} فيقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله تعالى {والعاقبة} أي: المحمودة {للمتقين} أي: عقاب الله تعالى بعمل طاعته كما تدبره علي والفضيل وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم، ولما بيَّن تعالى أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل فقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها} من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى {ومن جاء بالسيئة} وهي ما نهى الله تعالى عنه ومنه إخافه المؤمنين {فلا يجزى} أي: من أيّ جاز وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 من بقوله تعالى: {الذين عملوا السيئآت} تصويراً لحالهم وتقبيحاً لهم وتنفيراً من عملها {إلا} جزاء {ما كانوا يعملون} أي: مثله وهذا من فضل الله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بأكثر منها كما مرّ، فإن قيل قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء: 7) كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة فما السبب في ذلك؟. أجيب: بأن هذا المقام مقام ترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة، وأما الآية الأخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى، فإن قيل كيف أنه تعالى لا يجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآبار؟ أجيب: بأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه. {إن الذي فرض} أي: أنزل {عليك القرآن} قاله أكثر المفسرين، وقال عطاء: أوجب عليك العمل بالقرآن، وقال أبو عليّ: فرض عليك أحكامه وفرائضه {لرادّك إلى معاد} أي: معاد ليس لغيرك من البشر وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه وتنكير المعاد لذلك، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني إلى الموت، وقال الزهري وعكرمة: إلى يوم القيامة، وقيل إلى الجنة. وروى العوفي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعني إلى مكة وهو قول مجاهد، وقال القتيبي: معاد الرجل بلده ينصرف ثم يعود إلى بلده وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن ورجع إلى الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: اشتقت إلى بلدك ومولدك قال: نعم قال: فإنّ الله تعالى يقول: {أن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد} قال الرازي: وهذا أقرب لأنّ ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل له العود إليه وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب، قال أهل التحقيق: وهذا آخر مما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ونزل جواباً لقول كفار مكة إنك لفي ضلال مبين {قل} أي: للمشركين {ربي أعلم من جاء بالهدى} وما يستحقه من الثواب في المعاد يعني نفسه {ومن هو في ضلال مبين} يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم فهو الجائي بالهدى وهم في الضلال، تنبيه: من جاء منصوب بمضمر أي: يعلم أو بأعلم أن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله. {وما كنت ترجو} أي: في سالف الدهر بحال من الأحوال {أن يلقى} أي: ينزل على وجه لم تقدر على رده {إليك الكتاب} أي: يوحى إليك القرآن، قال البيضاوي أي: سيردك إلى معاد كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه وهو ظاهر على أن المراد بالمعاد مكة وقوله تعالى: {إلا رحمة} استثناء منقطع أي: لكن ألقى إليك الكتاب رحمة {من ربك} أي: فأعطاك القرآن، وقيل: متصل قال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة فيكون استثناء من الأحوال أو من المفعول له {فلا تكونن ظهيراً} أي: معيناً {للكافرين} على دينهم الذي دعوك إليه، قال مقاتل: وذلك حين دعي إلى دين آبائه، فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه. {ولا يصدنك عن آيات الله} أي: قراءتها والعمل بها {بعد إذ نزلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 إليك} أي: لا ترجع إليهم في ذلك {وادع} أي: أوجد الدعاء {إلى ربك} أي: إلى عبادته وتوحيده {ولا تكونن من المشكرين} أي: بإعانتهم، ولم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه بخلافه في يصدنك فإنه حذف منه نون الرفع إذ أصله يصدوننك حذفت نون الرفع للجازم ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. {ولا تدع} أي: تعبد {مع الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال {إلهاً آخر} فإن قيل: هذا وما قبله لا يقع منه صلى الله عليه وسلم فما فائدة ذلك النهي؟ أجيب: بأنه ذكر للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم أو أن الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره كما في قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: 65) ثم علل ذلك بقوله تعالى: {لا إله إلا هو} أي: لا نافع ولا ضار ولا معطى ولا مانع إلا هو كقوله تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} (المزمل: 9) فلا يجوز اتخاذ إله سواه، ثم علل وحدانيته بقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} أي: ذاته فإنّ الوجه يعبر به عن الذات، قال أبو العالية: إلا ما أريد به وجهه، وقيل: إلا ملكه، واختلفوا في قوله تعالى: {هالك} فمن الناس من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به، ومنهم من قال: معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه تعالى ممكن الوجود قابل للعدم فكان قابلاً للهلاك فأطلق عليه اسم الهالك نظراً إلى هذا الوجه وعلى هذا يحمل قول النسفي في بحر الكلام سبعة لا تفنى: العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار بأهلهما من ملائكة العذاب والحور العين والأرواح {له الحكم} أي: القضاء النافذ في الخلق {وإليه} وحده {ترجعون} أي: في جميع أحوالكم في الدنيا وبالنشور من القبور للجزاء في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشريّ من قوله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدّق بموسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقاً» ، حديث موضوع. سورة العنكبوت مكية إلا عشر آيات من أوّلها إلى قوله تعالى {وليعلمنّ المنافقين} قال الحسن: فإنها مدنية وهي سبع وستون آية، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً. {بسم الله} الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده {الرحمن} الذي شمل جميع العباد بنعمه {الرحيم} بجميع خلقه وقوله تعالى: {ألم} سبق القول فيه في أوّل البقرة، ووقوع الاستفهام بعده دليل على استقلاله بنفسه فيكون اسماً للسورة، أو للقرآن، أو لله، أو أنه سرّ استأثر بعلمه الله تعالى، أو استقلالِه بما يضمر معه بتقديره مبتدأ أو خبراً وغيره مما مرّ أوّل سورة البقرة، وقيل في ألم أشار بالألف الدال على القائم إلا على المحيط، ولام الوصلة وميم التمام بطريق الرمز إلى أنه تعالى أرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، ولما قال تعالى في آخر السورة المتقدّمة {وادع إلى ربك} (القصص: 87) وكان في الدعاء إليه الحراب والضراب والطعان لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد فشق على البعض ذلك فقال تعالى: {أحسب الناس} أي: كافةً {أن يتركوا} أي: أظنوا أنهم يتركون بغير اختبار وابتلاء في وقت ما بوجه من الوجوه تنبيه: أن يتركوا سدّ مسدّ مفعولي حسب عند الجمهور {أن} أي: بأن {يقولوا} أي: بقولهم {آمنا وهم} أي: والحال أنهم {لا يفتنون} أي: يختبرون بما تتميز به حقية إيمانهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات فإنّ مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب. واختلفوا في سبب نزول هذه الآية: فقال الشعبي: نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ثم هاجروا فتبعهم الكفار فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام كانوا يعذبون بمكة. وقال ابن جريج: نزلت في عمار بن ياسر كان يعذب في الله عز وجل. وقال مقاتل: نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر كان أوّل قتيل قتل من المسلمين يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء مهجع وهو أوّل من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة فجزع عليه أبواه وامرأته فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي وذلك أنّ الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم عزاهم فقال: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} أي: من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب فذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه {فليعلمنّ الله} أي: الذي له الكمال كله {الذين صدقوا} في إيمانهم علم مشاهدة للخلق وإلا فالله تعالى لا يخفى عليه خافية {وليعلمن الكاذبين} فيه أي: فيظهر الله الصادقين من الكاذبين في الإيمان. (فائدة) لبعض المحبين: *للهوى آية (أي علامة) بها يعرف الصا ... دق في عشقه من الكذاب * *سهر الليل دائماً ونحول ال ... جسم والموت في رضا الأحباب ... {أم حسب} أي: ظن {الذين يعلمون السيئات} أي: الشرك والمعاصي، فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح {أن يسبقونا} أي: يفوتونا فلا ننتقم منهم، وهذا ساد مسدّ مفعولي حسب. وأم منقطعة والإضراب فيها لأنّ هذا الحساب أبطل من الأوّل لأنّ صاحب ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه وصاحب هذا يظن أن لا يجازى بمساويه، ولهذا عقبه بقوله تعالى: {ساء ما يحكمون} أي: بئس الذي يحكمونه، أو حكماً يحكمونه، حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم، ولما بين بقوله: {أحسب الناس أن يتركوا} أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وبين في قوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات} أن من ترك ما كلف به يعذب عذاباً بين أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله بقوله تعالى: {من كان يرجو لقاء الله} أي: الملك الأعلى، قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث والحساب والرجاء بمعنى الخوف، وقال سعيد بن جبير: من كان يطمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 في ثواب الله {فإن أجل الله} أي: الوقت المضروب للقائه {لآت} أي: لجاءٍ لا محالة فإنه لا يجوز عليه إخلاف الوعد، فإن قيل: كيف وقع فإن أجل الله لآت جواباً للشرط؟ أجيب: بأنه إذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء آتياً لا محالة كما تقول من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة، وقال مقاتل يعني: يوم القيامة لكائن ومعنى الآية أن من يخشى الله تعالى ويأمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم كما قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً} (الكهف: 110) {وهو السميع} أي: لما قالوه {العليم} يعلم من صدق فيما قال ومن كذب فيثيب ويعاقب على حسب علمه، قال الرازي: وههنا لطيفة وهي أنّ للعبد أموراً هي أصناف حسناته عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم، وعمل لسانه وهو يسمع، وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله تعالى لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر كما وصف في الخبر في وصف الجنة اه. (تنبيه) لم يذكر الله تعالى من الصفات غير هذين الصفتين كالعزيز والحكيم وذلك لأنه سبق القول في قوله {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناً} وسبق الفعل بقوله تعالى: {وهم لا يفتنون} وبقوله تعالى: {فليعلمن الله الذين صدقوا} وبقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات} ولا شك أن القول يدرك بالسمع، والعمل منه ما يدرك بالبصر ومنه ما لا يدرك به كما علم مما مرّ والعلم يشملها، ولما بين تعالى أنّ التكليف حسن واقع وإن عليه وعداً وإيعاد ليس لهما دافع بين أن طلب الله تعالى ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه بقوله تعالى: {ومن جاهد} أي: بذل جهده في جهاد حرب أو نفس حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة {فإنما يجاهد لنفسه} لأنّ منفعة جهاده له لا لله تعالى فإنه غني مطلق كما قال تعالى: {إن الله} أي: المتصرّف في عباده بما شاء {لغنيّ عن العالمين} أي: الأنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} (فصلت: 6) وقوله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} (الإسراء: 7) فينبغي للعبد أن يكثر من العمل الصالح ويخلصه لأنّ من عمل فعلاً يطلب به ملكاً ويعلم أنّ الملك يراه يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن عمله لنفسه لا لأحد يكثر منه، نسأل الله الكريم الفتاح أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يفعل ذلك بأهلينا وذريتنا ومحبينا بمحمد وآله، ولما بين تعالى حال المسيء مجملاً بقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} إشارة إلى التعذيب مجملاً، وذكر حال المحسن بقوله تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} وكان التقدير فالذين جاهدوا والذين عملوا السيئات لنجزينهم أجمعين ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء عطف عليه قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم وفي ذلك إشارة إلى أن رحمته تعالى أتم من غضبه وفضله أتم من عدله وأشار بقوله تعالى: {لنكفرنّ عنهم سيئاتهم} إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد من أن يزل عن الطاعة لأنه مجبول على النقص: «فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم تؤت الكبائر، والجمعة، إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان» ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المختار، فالصغائر تكفر بعمل الصالحات، وأما الكبائر فتكفر بالتوبة، ولما بشرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 بالعفو عن العقاب أتم البشرى بالامتنان بالثواب فقال عاطفاً على ما تقديره ولنثبتنّ لهم حسناتهم {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} أي: أحسن جزاء ما عملوه وهو الصالحات، وأحسن نصب بنزع الخافض وهو الباء، ولما كان من جملة العمل الصالح الإحسان إلى الوالدين ذكر ذلك بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه} أي: وإن عليا {حسناً} أي: برّاً بهما وعطفاً عليهما أي: وصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً لأنهما سبب وجود الولد وسبب بقائه بالتربية المعتادة والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه، فيطيعهما ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى كما قال: تعالى: {وإن جاهداك لتشرك بي} وقوله تعالى {ما ليس لك به علم} أي: لا علم لك بإلهيته موافق للواقع فلا مفهوم له أو أنه إذا كان لا يجوز أن يتبع فيما لا يعلم صحته فبالأولى أن لا يتبع فيما يعلم بطلانه {فلا تطعهما} في ذلك كما جاء في الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى» ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إليّ مرجعكم} أي: من آمن منكم ومن كفر ومن برّ والديه ومن عق، ثم تسبب عنه قوله تعالى: {فأنبئكم بما كنتم تعلمون} أي: أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس: «روي أنها لما سمعت بإسلامه قالت له: يا سعد بلغني أنك قد صبأت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضِّح ـ وهو بكسر الضاد المعجمة وبحاء مهملة الشمس ـ والريح، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحب أولادها إليها فأبى سعد ولبثت ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ولا تأكل ولا تشرب فلم يطعها سعد بل قال: والله لو كانت مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية وهي التي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره صلى الله عليه وسلم «أنْ يداريها ويترضاها بالإحسان» . وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمّه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له: إنّ من دين محمد صلة الأرحام وبرّ الوالدين وقد تركت أمك لا تأكل ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك وهي أشد حباً لك منا فاستشار عمر فقال: هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر فقال عمر: أمّا إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال: نعم فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدّاه وأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به إلى أمه فقالت: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت رضي تعالى الله عنه وأرضاه ونفعنا به في الدنيا والآخرة، ولما كان التقدير فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدين ولكنه طواه لدلالة السياق عليه عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا} تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات لندخلهم في الصالحين} أي: الأنبياء والأولياء بأن نحشرهم معهم، أو ندخلهم وهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 الجنة، والصلاح منتهى درجات المؤمنين ومنتهى أنبياء الله والمرسلين، ولما بين سبحانه وتعالى المؤمن بقوله تعالى: {فليعلمنّ الله الذين صدقوا} وبين الكافر بقوله تعالى: {وليعلمنّ الكاذبين} بين أنه بقي قسم ثالث مذبذب بقوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله} بأن عذبهم الكفرة على الإيمان {جعل فتنة الناس} أي: له بما يصيبه من أذيتهم في منعه عن الإيمان إلى الكفر {كعذاب الله} أي: في الصرف عن الكفر إلى الإيمان {ولئن} لام قسم {جاء نصر} أي: للمؤمنين {من ربك} أي: بفتح وغنيمة {ليقولنّ} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين {إنا كنا معكم} في الإيمان فأشركونا في الغنيمة وأما عند الشدّة فيجبنون كما قال الشاعر: *وما أكثر الأصحاب حين تعدهم ... ولكنهم في النائبات قليل * قال الله تعالى: {أو ليس الله بأعلم} أي: بعالم {بما في صدور} أي: قلوب {العالمين} من الإيمان والنفاق. {وليعلمنّ الله الذين آمنوا} أي: بقلوبهم {وليعلمنّ المنافقين} فيجازي الفريقين، واللام في الفعلين لام قسم، ولما بين الفرق الثلاثة وأحوالهم ذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا} أي: ظاهراً وباطناً {للذين آمنوا} أي: ظاهراً وباطناً لم تتحملون الأذى والذل؟ {اتبعوا سبيلنا} أي: الذي نسلكه في ديننا تدفعوا عن أنفسكم ذلك، فقالوا: نخاف من عذاب الله تعالى على خطيئة اتباعكم فقالوا لهم اتبعونا {ولنحمل خطاياكم} إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة، قال الجلال المحلي: والأمر بمعنى الخبر وهو أولى من قول البيضاوي: وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزارعنهم إن كان تشجيعاً للمؤمنين على الاتباع وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله {وما هم} أي: الكفار {بحاملين من خطاياهم} أي: المؤمنين {من شيء أنهم لكاذبون} في ذلك، قال الزمخشري: وترى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم افعل هذا وإثمه في عنقي وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم؟. ومنه ما يحكي أن أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه فلما قضاها قال: يا أمير المؤمنين بقيت الحاجة العظمى قال: وما هي قال شفاعتك يوم القيامة فقال: له عمرو بن عبيد رحمه الله إياك وهؤلاء فإنهم قطاع الطريق في المأمن، فإن قيل كيف سماهم الله تعالى كاذبين وإنما ضمنوا شيئاً علم الله تعالى أنهم لا يقدرون على الوفاء به وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذباً لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ أجيب: بأنّ الله تعالى شبه حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنهم، ويجوز أن يراد أنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف، تنبيه: من الأولى: للتبيين، والثانية: مزيدة، والتقدير: وما هم بحاملين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 شيئاً من خطاياهم. فإن قيل قال الله تعالى: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} ثم قال الله تعالى: {وليحملنّ} أي: الكفرة {أثقالهم} أي: أثقال ما اقترفته أنفسهم {وأثقالاً مع أثقالهم} أي: أثقالاً بقولهم للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا وبإضلالهم مقلديهم فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: بأن قول القائل حمل فلان عن فلان يريد أن حمل فلان خف فإن لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً فقوله تعالى: {وما هم بحاملين من خطاياهم} يعني: لا يرفعون عنهم خطيئة بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزاراً بسبب إضلالهم كقوله صلى الله عليه وسلم «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» وقال تعالى في آية أخرى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} (النحل، 25) من غير أن ينقص من أوزار من تبعهم شيء {وليسئلن يوم القيامة} أي: سؤال توبيخ وتقريع {عما كانوا يفترون} أي: يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، واللام في الفعلين لام قسم وحذف فاعلهما الواو ونون الرفع، ولما كان السياق للبلاء والامتحان والصبر على الهوان ذكر من الرسل الكرام عليهم السلام من طال صبره على البلاء ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد بقوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً} أي: أوّل رسل الله إلى المخالفين من العباد وهو معنى {إلى قومه} وعمره أربعون سنة فإنّ الكفر كان قد عمّ أهل الأرض وكان عليه السلام أطول الأنبياء ابتلاء بهم، ولذلك قال الله تعالى مسبباً عن ذلك ومتعقباً: {فلبث فيهم} أي: بعد الرسالة {ألف سنة إلا خمسين عاماً} يدعوهم إلى توحيد الله تعالى فكذبوه {فأخذهم الطوفان} أي: الماء الكثير فغرقوا {وهم ظالمون} قال ابن عباس مشركون، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيت لهم وتهديد لقريش، قال ابن عباس: كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسون سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة، وأما قبره عليه السلام فروى ابن جرير والأزرقي حديثاً مرسلاً «أنّ قبره بالمسجد الحرام» ، وقيل ببلدة البقاع يعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك. وعن وهب أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة، والآية تدلّ على خلاف قول الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة ويسمونه العمر الطبيعي، قال الرازي: ونحن نقول ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي وأمّا العمر الطبيعي فلا يدوم عنده ولا نجده فضلاً عن مائة أو أكثر، فإن قيل: هلا قال تسعمائة سنة وخمسين ولم جاء التمييز أولاً بالسنة وثانياً بالعام؟ أجيب: عن الأوّل بأن ما أورده الله تعالى أحكم لأنه لو قيل كما ذكر لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك وكأنه قال تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وتثبيتاً له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره، وعن الثاني: بأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض نتيجة المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك، والطوفان لغة: ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام أو نحو ذلك قال العجاج: *وعمّ طوفان الظلام الأثأبا {فأنجيناه} أي: نوحاً عليه السلام {وأصحاب السفينة} أي: الذين كانوا فيها من الغرق، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمسة نسوة، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم» {وجعلناها} أي: السفينة أو الحادثة والقصة {آية} أي: عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي {للعالمين} أي: لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسولهم فإنه لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا أشهر في تطبيق الماء جميع الأرض بطولها والعرض وإغراق جميع ما عليها من حيوانٍ إنسانٍ وغيره، ولما ذكر تعالى قصة نوح وكان بلاء إبراهيم عليه السلام عظيماً في قذفه في النار وإخراجه من بلاده اتبعه به بقوله تعالى: {وإبراهيم} وهو منصوب إما باذكر ويكون {إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه} أي: خافوا عقابه بدل اشتمال لأنّ الأحيان تشمل ما فيها، وإمّا معطوفاً على نوحاً، وإذ ظرف لأرسلنا أي: أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغاً صلح فيه لأنْ يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى {ذلكم} أي: الأمر العظيم الذي هو إخلاصكم في عبادتكم له وتقواكم {خير لكم} أي: من كل شيء {إن كنتم تعلمون} أي: في عداد من يتجدّد له علم فينظر في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل، ولما أمرهم بما تقدّم ونفى العلم عمن جهل خيريته دل عليه بقوله.b {إنما تعبدون من دون الله} أي: غيره {أوثاناً} أي: أصناماً لا تستحق العبادة لأنها حجارة منحوتة لا شرف لها {وتخلقون} أي: تصوّرون بأيديكم {إفكاً} أي: شيئاً مصروفاً عن وجهه فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع، ومربوب وأنتم تسمونه رباً، أو تقولون كذباً في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله، ثم إنّ الله تعالى نفى عنها النفع بقوله تعالى: {إن الذين تعبدون} ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح {من دون} أي: غير {الله} الذي له الملك كله {لا يملكون لكم رزقاً} أي: شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم فتسبب عن ذلك قوله تعالى: {فابتغوا} أي: اطلبوا {عند الله} أي: الذي له صفات الكمال {الرزق} أي: كله فإنه لا شيء منه إلا وهو بيده، فإن قيل: لم نكر الرزق في قوله تعالى: {لا يملكون لكم رزقاً} ؟ وعرفه في قوله تعالى: {فابتغوا عند الله الرزق} أجيب: بأنه نكره في معرض النفي أي: لا رزق عندهم أصلاً وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي: كل رزق عنده فاطلبوه منه، وأيضاً الرزق من الله معروف لقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود، 6) والرزق من الأوثان غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 معلوم فنكره لعدم حصول العلم به {واعبدوه} أي: عبادة يقبلها وهي ما كانت خالصة من الشرك {واشكروا} أي: أوقعوا الشكر {له} خاصة على ما أفاض عليكم من النعم، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إليه} وحده {ترجعون} أي: معنى في الدنيا والآخرة فإنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه، وحساً بالنشر والحشر بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي، ولما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال: {وإن تكذبوا} أي: وإن تكذبوني {فقد} أي: فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه قد {كذب أمم} أي: في الأزمان الكائنة {من قبلكم} أي: من قبلي من الرسل فجرى الأمر فيهم على سنن واحد لم يختلف قط في نجاة المطيع للرّسول، وهلاك العاصي له، ولم يضرّ ذلك الرسول شيئاً وما أضروا به إلا أنفسهم {وما على الرسول} أن يقهركم على التصديق بل ما عليه {إلا البلاغ المبين} الموضح مع ظهوره في نفسه بلا مرية بحيث لا يبقى فيه شك بإظهار المعجزة وإقامة الأدلة على الوحدانية. تنبيه: في المخاطب بهذه الآية والآيات بعدها إلى قوله تعالى: {فما كان جواب قومه} وجهان الأوّل: أنه قوم إبراهيم عليه السلام لأنّ القصة له فكأنّ إبراهيم عليه السلام قال لقومه: إن تكذبوني فقد كذب أمم من قبلكم، وإنما أتيت بما عليّ من التبليغ فإنّ الرسول ليس عليه إلا التبليغ والبيان، فإن قيل: إنّ إبراهيم عليه السلام لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمّة واحدة؟ أجيب: بأن قبل قوم نوح أيضاً كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم، وأيضاً فإنّ نوحاً عليه السلام عاش أكثر من ألف سنة وكان القرن يموت وتجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع من الاتباع فكفى بقوم نوح أمما ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه وأعقابهم على التكذيب. الثاني: أنّ الآية مع قوم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه القصص أكثرها المقصود منه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب فقال في أثناء حكاياتهم يا قوم: إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي والبقاعي. وهذه الآية تدل كما قال ابن عادل: على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنّ الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين. {أو لم يروا} أي: ينظروا {كيف يبدئ الله} أي: الذي له كل كمال {الخلق} أي: يخلقهم الله تعالى ابتداء نطفة ثم مضغة ثم علقة {ثم} هو لا غيره {يعيده} أي: الخلق كما كان {إنّ ذلك} أي: المذكور من الخلق الأوّل والثاني {على الله} أي: الجامع لكل كمال، المنزه عن كل شائبة نقص {يسير} فكيف ينكرون الثاني؟، فإن قيل: متى رأى الإنسان بدء الخلق حتى يقال أو لم يروا كيف يبدأ الله الخلق؟. أجيب: بأنّ المراد بالرؤية العلم الواضح الذي هو كالرؤية فالعاقل يعلم أنّ البدء من الله تعالى لأنّ الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أوّل فهو من الله تعالى، فإن قيل علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق ولم يقل أو لم يروا أنّ الله خلق أو بدأ الخلق والكيفية غير معلومة؟ أجيب: بأنّ هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يكُ شيئاً مذكوراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن قيل: لمَ أبرز اسمه تعالى في أن ذلك على الله يسير ولم يقل إن ذلك عليه كما قال: ثم يعيده من غير إبراز؟. أجيب: بأنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكون ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحيّ القادر بقدرة كاملة لا يعجزه شيء، محيط بذرات كل نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة، وقرأ حمزة والكسائي وخلف تروا بالتاء على الخطاب على تقدير القول، والباقون بالياء على الغيْبة، ولما ساق تعالى هذا الدليل الذي حاجَّ به الخليل قومه قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء الذين تعبدوا بما تقلدوا بمذاهب آبائهم {سيروا} إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتتأمّلوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع {في الأرض} إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم {فانظروا} أي: نظر اعتبار {كيف بدأ} ربكم الذي خلقكم ورزقكم {الخلق} من الحيوان والنبات والزروع والأشجار وغير ذلك مما تضمنته الجبال والسهول {ثم الله} أي: الحائز لجميع صفات الكمال {ينشئ النشأة الآخرة} بعد النشأة الأولى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وألف بعد الشين ممدودة قبل الهمزة، والباقون بسكون الشين والهمزة بعد الشين، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير} لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة، فإن قيل: أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء فقال كيف يبدأ الله. وأضمره عند الإعادة وههنا أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة فقال ثم الله ينشئ؟ أجيب: بأنه في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله تعالى بفعل حتى يسند إليه البدء فقال: كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده اكتفاء بالأولى، وفي الثانية: كان ذكر البدء مسنداً إلى الله تعالى فاكتفى به ولم يبرزه، وأمّا إظهاره عند الإنشاء ثانياً فقال ثم الله ينشئ مع أنه كان يكفي أن يقول ثم ينشئ النشأة الآخرة فلحكمة بالغة وهي أنه مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه حتى يفهم به صفات كماله ونعوت جلاله فيقطع بجواز الإعادة فقال: ثم الله مظهراً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته فيعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته. فإن قيل: قال في الأولى {أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق} بلفظ المستقبل وههنا قال: {فانظروا كيف بدأ الخلق} بلفظ الماضي فما الحكمة؟ أجيب: بأن الدليل الأوّل هو الدليل النفسي الموجب للعلم وهو موجب للعلم ببدء الخلق، وأمّا الدليل الثاني: فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق فانظروا إلى الأشياء المخلوقة فيحصل لكم العلم بأنّ الله بدأ خلقاً، ويحصل من هذا القدر العلم بأنه ينشئ كما بدأ ذلك. فإن قيل قال في هذه الآية: {إنّ الله على كل شيء قدير} وقال في الأولى: {إن ذلك على الله يسير} فما فائدته؟ أجيب بأنّ فيه فائدتين الأولى أن الدليل الأوّل هو الدليل: النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التامّ ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التامّ لأنه بالنظر إلى نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده منه فيتم علمه بأنّ كل شيء من الله تعالى فقال عند تمام الدليل: {إنّ الله على كل شيء قدير} وقال عند الدليل الواحد إنّ ذلك وهو الإعادة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 الله يسير، الثانية: أنّ العلم الأوّل أتم وإن كان الثاني أعمّ وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل قولك لمن يحمل مائة رطل إنه قادر عليه، فإذا سألت عن حمله عشرة أرطال تقول ذلك سهل يسير عليه فتقول: كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التامّ بأنّ هذه الأمور عند الله سهلة يسيرة فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ونفس كونه مقدوراً كافٍ في إمكان الإعادة ولما تم الدليل على الإعادة أنتج لا محالة أنه: {يعذب} أي: بعدله {من يشاء} تعذيبه أي: منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة {ويرحم} أي: بفضله ورحمته {من يشاء} رحمته فلا يمسه سوء، فإن قيل: لم قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أنّ رحمته سابقة كما قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: «سبقت رحمتي غضبي» ؟ أجيب: بأنّ السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا تحقيق قوله: «رحمتي سبقت غضبي» {وإليه} وحده {تقلبون} أي: تردون بعد موتكم بأيسر سعي. {وما أنتم بمعجزين} ربكم عن إدراككم {في الأرض} كيف انقلبتم في ظاهرها وباطنها واختلف في معنى قوله تعالى: {ولا في السماء} لأنّ الخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء فقال الفراء معناه: ولا مَنْ في السماء بمعجز إن عصى كقول حسان بن ثابت رضى الله تعالى عنه: *فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء* أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر (من) يريد أنه لا يعجز أهل الأرض من في الأرض ولا أهل السماء من في السماء فالمعنى أنّ من في السماء عطف بتقدير إن يعصى وقال الفراء: وهذا من غوامض العربية، وقال قُطْرب: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها كقول القائل: ما يفوتني فلان هنا ولا في البصرة أي: ولا في البصرة لو كان بها وكقوله تعالى: {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض} (الرحمن: 33) أي: على تقدير إن تكونوا فيها. وقال ابن عادل: وأبعد من ذلك من قدر موصولين محذوفين، أي: وما أنتم بمعجزين مَنْ في الأرض من الجنّ والأنس ولا مَنْ في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقهما، وعلى قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي: وما أنتم بمعجزين أي: فائتين ما يريد الله تعالى، وقال البقاعي: ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمروذ وبنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لا سيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه السلام من قبلها ومن بعدها، ولما أخبرهم بأنهم مقدور عليهم وكان ربما يتوهم أن غيرهم ينصرهم صرح بنفيه في قوله تعالى {ومالكم} أي: أجمعين وأشار إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله تعالى: {من دون الله} أي: غيره وأكد النفي بإثبات الجار بقوله {من ولي} أي: قريب يحميكم لأجل القرابة {ولا نصير} ينصركم من عذابه، ولما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان هدد كل من خالفه على سبيل التفصيل بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما أظهرت لهم أنوار العقول {بآيات الله} أي: بسبب دلائل الملك الأعظم المرئية والمسموعة التي لا أوضح منها {ولقائه} بالبعث بعد الموت الذي أخبر به وأقام الدليل عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 {أولئك} أي: البعداء البغضاء {يئسوا} أي: متحققين يأسهم من الآن بل من الأزل لأنهم لم يرجوا لقاء الله يوماً ولا قال قائل منهم: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين {من رحمتي} أي: من أن أفعل بهم من الإكرام بدخول الجنة وغيرها فعل الراحم {وأولئك لهم عذاب أليم} أي: مؤلم بالغ ألمه، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى: {أولئك} مرة واحدة؟ أجيب: بأن ذلك كرّر تفخيماً للأمر فاليأس وصف لهم لأنّ المؤمن دائماً يكون راجياً خائفاً، وأمّا الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف. وعن قتادة: أن الله تعالى ذمّ قوماً هانوا عليه فقال: {أولئك يئسوا من رحمتي} وقال {ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف: 87) فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته وأن لا يأمن عذابه وعقابه، فصفة المؤمن أن يكون راجياً لله خائفاً ثم إنّ الله تعالى أخبر عن فظاظة قوم إبراهيم وتكبرهم بقوله تعالى: {فما كان جواب قومه} لما أمرهم بالتوحيد وتقوى الله تعالى {إلا أن قالوا} أي: قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين {اقتلوه أو حرّقوه} بالنار، فإن قيل كيف سمى قولهم اقتلوه أو حرّقوه جواباً مع أنه ليس بجواب؟ أجيب عنه من وجهين: أحدهما: أنه خرج مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف مع أن السيف ليس بجواب وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف، وثانيهما: أن الله تعالى أراد بيان صلابتهم وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلاً، وذلك أن من لا يجيب غيره وسكت لا يعلم أنه يقدر على الجواب أم لا لجواز أن يكون سكوته عن الجواب لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه، ثم إنهم استقرّ رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملؤوا ما بين الجبال وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال وقذفوه فيها بالمنجنيق {فأنجاه الله} بما له من كمال العظمة {من النار} أي: من إحراقها وأذاها ونفعته بأن أحرقت وثاقه {إن في ذلك} أي: ما ذكر من أمره وما اشتملت عليه قصته من الحكم {لآيات} أي: براهين قاطعة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مرّ عليها من طائر وإخمادها مع عظمتها في زمان يسير وإنشاء روض مكانها، وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم الذي ألقي فيه إبراهيم عليه السلام بالنار وذلك لذهاب حرقها {لقوم يؤمنون} أي: يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمّل فيها. {وقال} أي: إبراهيم عليه السلام غير هائب لتهديدهم بقتل أو غيره {إنما اتخذتم} أي: أخذتم باصطناع وتكلف وأشار إلى عظمة الله وعلوّ شأنه {من دون الله} الذي كل شيء تحت قهره {أوثاناً} أي: أصناماً تبعدونها وما مصدرية {مودّة بينكم} أي: تواددتم على محبتها {في الحياة الدنيا} بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرّة، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جدّاً لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس على ما فيها من الإلباس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وعظيم البأس، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة مودّة بالنصب والتنوين وبينكم بنصب النون فنصب مودّة على أنه مفعول له أي: لأجل مودّة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع مودّة من غير تنوين وكسر النون على أنّ مودّة خبر مبتدأ محذوف أي: هي مودّة، والباقون بنصب مودّة من غير تنوين وكسر النون وهذا أيضاً كإعراب المنوّنة، ولما أشار إلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضراً تبع ذلك ما يعقبه من الضرّ البالغ معبراً بأداة البعد بقوله: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} فينكر كل منكم محاسن أخيه ويتبرأ منه وتلعن الأتباع القادة وتلعن القادة الأتباع كما قال تعالى: {ويلعن بعضكم بعضاً} (العنكبوت، 25) وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها ضرر لا نفع لها وتقرّون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم {ومأواكم} أي: جميعاً أنتم والأوثان {النار وما لكم من ناصرين} يحمونكم منها، ثم بين تعالى أوّل من آمن بإبراهيم بقوله تعالى: {فآمن له} أي: لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات {لوط} وكان ابن أخيه هاران وهو أوّل من صدّقه من الرجال {وقال} أي: إبراهيم عليه السلام لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها {إني مهاجر} أي: خارج من أرضي وعشيرتي على وجه يهمّ فمنتقل ومنحاز {إلى ربي} أي: إلى أرض ليس فيها أنيس ولا عشير ولا من ترجى نصرته ولا من تنفع مودّته فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدّسة فكانت هجرتان، ومن ثم قالوا لكل نبيّ هجرة ولإبراهيم عليه السلام هجرتان، وهو أوّل من هاجر في الله وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة، قال مقاتل وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة. فإن قيل: لمَ لَمْ يقل: إني مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أنّ المهاجرة توهم الجهة؟ أجيب: بأنّ هذا القول ليس في الإخلاص كقوله إلى ربي لأنّ الملك إذا صدر منه أمر برواح الأخيار ثم إن واحداً منهم سار إلى ذلك الموضع لغرض نفسه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن ليس مخلصاً لوجهه فلذا قال مهاجر إلى ربي يعني يوجهني إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة وإنما هو طلب لله، ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل ودّه من ذوي رحمه وأنسابه بقوله: {إنه هو} أي: وحده {العزيز} أي: فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه {الحكيم} فهو إذا أعز أحداً منعته حكمته من التعرّض له بالإذلال بفعل أو مقال، ولما كان التقدير فأعززناه بما ظنّ بنا عطف عليه قوله: {ووهبنا له} أي: بعظيم قدرتنا شكراً على هجرته {إسحاق} من زوجته سارة رضي الله تعالى عنها التي جمعت إلى العقم في شبابها اليأس في كبرها {ويعقوب} من ولده إسحاق عليهما السلام فإن قيل لِمَ لَمْ يذكر إسماعيل عليه السلام وذكر إسحاق وعقبه؟ أجيب: بأن هذه السورة لما كان السياق فيها للامتحان وكان إبراهيم عليه السلام قد ابتلي في إسماعيل بفراقه مع أمّه ووضعهما في مضيعة من الأرض لا أنيس فيها لم يذكره تصريحاً في سياق الامتنان وأفرد إسحاق لأنه لم يبتل فيه بشيء من ذلك ولأن الامتنان به لكون أمّه عجوزاً عقيماً أكبر وأعظم لأنها أعجب، وذكر إسماعيل تلويحاً في قوله تعالى {وجعلنا} أي: بعزتنا وحكمتنا {في ذرّيته} من ولد إسحاق وإسماعيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 عليهما السلام {النبوّة} فلم يكن بعده نبيّ أجنبي عنه بل جميع الأنبياء من ذرّية إسحاق إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرّية إسماعيل قاله بعض العلماء، فإن قيل إن الله تعالى جعل في ذرّيته النبوة أجابة لدعائه والوالد يسوّي بين أولاده فكيف صارت النبوّة في ولد إسحاق عليه السلام أكثر؟. أجيب: بأنّ الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى يوم القيامة قسمين والناس أجمعين فالقسم الأوّل من الزمان: بعث الله تعالى فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤوا تترى واحداً بعد واحد مجتمعين في عصر واحد كلهم من ذرّية إسحاق عليه السلام، ثم في القسم الثاني: من الزمان: أخرج من ذرّية ولده إسماعيل عليه السلام واحداً اجتمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم النبيين وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة ولا يبعد أن تبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل ذلك المقدار {والكتاب} فلم ينزل كتاب إلا على أولاده، فإن قيل: لم أفرد الكتاب مع أنها أربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان؟ أجيب: بأنه أفرده ليدلّ مع تناوله جنسية الكتب الأربعة أنه لا شيء يستحق أن يكتب إلا ما أنزل فيها أو كان راجعاً إليها ولو جمع لم يفد هذا المعنى {وآتيناه أجره} على هجرته {في الدنيا} بما خصصناه به مما لا يقدر عليه غيرنا من سعة الرزق ورغد العيش وكثرة الولد والحزم في الشيخوخة وكثرة النسل، والثناء الحسن والمحبة من جميع الخلق وغير ذلك. قال الرازي: وفي الآية لطيفة وهي أنّ الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذييه بالنار كان وحيداً فريداً فبدل الله تعالى وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كان أوّلاً بعث إلى قومه وأقاربه الأقربين ضالين مضلين من جملتهم آزر بدل الله تعالى أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذرّيته الذين جعلت فيهم النبوّة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له ولا مال وهما غاية المذلة الدنيوية آتاه الله تعالى من المال والجاه حتى كان له من المواشي ما علم الله تعالى عدده حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق الذهب وأما الجاه فصار بحيث تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وهذا الكلام لا يقال إلا للمجهول عند الناس. {وإنه في الآخرة} أي: التي هي الدار ومحلّ الاستقرار {لمن الصالحين} أي: الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة، قال ابن عباس: مثل آدم ونوح، وفي إعراب قوله تعالى: {ولوطاً} ما تقدّم في إعراب نصب إبراهيم {إذ} أي: حين {قال لقومه} أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه حين فارق عمه الخليل إبراهيم عليهما السلام منكراً ما رأى من حالهم وقبيح فعالهم مؤكداً له {أئنكم لتأتون الفاحشة} وهي أدبار الرجال المجاوزة للحدّ في القبح فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها ثم علل كونها فاحشة استئنافاً بقوله: {ما سبقكم بها} وهي حالة مبينة لعظيم جراءتهم على المنكر أي: غير مسبوقين به وأغرق في النفي بقوله: {من أحد} وزاد بقوله: {من العالمين} أي: كلهم من الأنس والجنّ أي: فضلاً عن خصوص الناس ثم كرّر الإنكار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 تأكيداً التجاوز قبحها الذي ينكرونه بقوله: {أئنكم لتأتون الرجال} إتيان الشهوة وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر بقوله {وتقطعون السبيل} أي: طريق المارّة بالقتل وأخذ المال بفعلكم الفاحشة بمن يمرّ بكم فترك الناس الممرّ بكم أو تقطعون سبيل النساء بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث {وتأتون في ناديكم المنكر} أي: تفعلون في متحدّثكم فعل الفاحشة بعضكم ببعض وهو مما تنكره الشرائع والمروءآت والعقول وأنتم لا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى من غير أن يستحي بعضكم من بعض، قال ابن عباس: المنكر هو الحذف بالحصا والرمي بالبنادق والفرقعة ومضع العلك والسواك بين الناس وحلّ الأزار والسباب والتضارط في مجالسهم والفحش والمزاح، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها كانوا يتحابقون، وقيل: السخرية بمن يمرّ بهم، وقيل المجاهرة في ناديهم بذلك العمل وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء «من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له» ولا يقال للمجلس نادياً إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسمّ نادياً، وعن مكحول في أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحلّ الإزار والصفير والحذف واللوطية، ودلّ على عنادهم بقوله تعالى مسبباً عن هذه الفضائح بالنهي عن تلك القبائح {فما كان جواب قومه} أي: الذين فيهم قوّة ونجدة بحيث يخشى شرّهم ويتقى أذاهم لما أنكر عليهم ما أنكر {إلا أن قالوا} عناداً وجهلاً واستهزاءً {ائتنا بعذاب الله} وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجراءة {إن كنت من الصادقين} أي: في استقباح ذلك وأنّ العذاب نازل بفاعليه، فإن قيل: قال قوم إبراهيم عليه السلام اقتلوه أو حرّقوه وقال قوم لوط: {ائتنا بعذاب الله إنّ كنت من الصادقين} وما هدّدوه مع أنّ إبراهيم كان أعظم من لوط فإنّ لوطاً كان من قومه؟ أجيب: بأنّ إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدّد صفات نقصهم بقوله لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يغني والسب في الدين صعب فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرّم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم فقالوا له: إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه فإن كنت صادقاً فائتنا بالعذاب، فإن قيل: إنّ الله تعالى قال في موضع آخر. {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم} (النمل، 56) وقال هنا: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله} فكيف الجمع؟ أجيب: بأنّ لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرّراً على النهي والوعيد فقالوا أولاً: ائتنا، ثم لما كثر ذلك منه ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوا ولما أيس منهم طلب النصرة من الله بأن. {قال} أي: لوط عليه السلام معرضاً عنهم مقبلاً بكليته على المحسن إليه {رب} أي: أيها المحسن إليّ {انصرني على القوم} أي: الذين فيهم من القوّة ما لا طاقة لي بهم معه {المفسدين} أي: العاصين بإتيان الرجال ووصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعاراً بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب ولما دعا لوط على قومه بقوله رب إلى آخره استجاب الله تعالى دعاءه وأمر ملائكته بإهلاكهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وأرسلهم مبشرين ومنذرين كما قال تعالى: {ولما جاءت} وأسقط أن لأنه لم يتصل القول بأوّل المجيء بل كان قبله السلام والضيافة وعظم الرسل بقوله تعالى: {رسلنا} أي: من الملائكة تعظيماً لهم في أنفسهم {إبراهيم بالبشرى} أي: بإسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لإسحاق عليهما السلام. {قالوا} أي: الرسل عليهم السلام لإبراهيم عليه السلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} أي: قرية سدوم، والإضافة لفظية لأنّ المعنى على الاستقبال، ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنّ أهلها كانوا ظالمين} أي: غريقين في هذا الوصف فلا حيلة في رجوعهم عنه، فإن قيل قال تعالى في قوم نوح: {فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} (العنكبوت، 14) ففي ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولم يقل فأخذهم وكانوا ظالمين وهنا قال: {إنّ أهلها كانوا ظالمين} ولم يقل وهم ظالمون؟ أجيب: بأنه لا فرق في الموضعين في كونهما مهلكين وهم مصرون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله تعالى عن الماضي حيث قال فأخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون وههنا الإخبار من الملائكة عن المستقبل حيث قالوا: {إنا مهلكوا} فذكروا ما أمروا به فإنّ الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، وهم كانوا ظالمين في وقت الأمر وكونهم يبقون كذلك لا علم لهم به، ولما قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذلك {قال} لهم مؤكداً تنبيهاً على حالة ابن أخيه {إنّ فيها لوطاً} ولم يقل عليه السلام إن منهم لوطاً لأنه نزيل عندهم فلذا جاء بالتصريح بالسؤال عنه {قالوا} أي: الرسل عليهم السلام له: {نحن أعلم} منك {بمن فيها} أي: من لوط وغيره {لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} أي: الباقين في العذاب وهم الفجرة لتعم وجهها معهم الغبرة، وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم بعدها، والباقون بفتح النون وتشديد الجيم بعدها. {ولما أن جاءت رسلنا لوطاً} أي: المعظمون بنا {سيء} أي: حصلت له المساءة والغم {بهم} أي: بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء لما رأى من حسن أشكالهم وهو يظنّ أنهم من الناس لأنهم جاؤوا من عند إبراهيم عليه السلام إليه على صورة البشر، روي أنهم كانوا يجلسون مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصاً فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به، قيل: إنه كان يأخذه معه وينكحه ويغرّمه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك، ولهذا يقال: أجور من قاضي سدوم. {وضاق} أي: بأعمال الحيلة في الدفع عنهم {بهم ذرعاً} أي: ذرعه أي: طاقته والأصل في ذلك أنّ من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها يضرب مثلاً في العجز والقدرة، ولما رأوه على هذه الحالة خفضوا عليه {قالوا} له {لا تخف} إنا رسل ربك لإهلاكهم {ولا تحزن} أي: على تمكنهم منا أو على أحد ممن يهلك فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليه بسببه فإنهم وصلوا في الخبث إلى حدّ لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر، ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد: {إنا منجوك} أي: مبالغون في إنجائك وقولهم: {وأهلك} منصوب على محل الكاف {إلا امرأتك كانت من الغابرين} فإن قيل: القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 أجيب: بأنّ الدال على الشرّ كفاعله كما أنّ الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم، فإن قيل ما مناسبة قولهم إنا منجوك لقولهم لا تخف ولا تحزن فإنّ خوفه ما كان على نفسه؟ أجيب: بأنّ لوطاً لما ضاق عليهم وحزن لأجلهم قالوا له: لا تخف أي: علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له: يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا إنا منجوك وأهلك، وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية قالوا له: {إنا منزلون} أي: لا محالة {على أهل هذه القرية رجزاً} أي: عذاباً {من السماء} فهو عظيم وقعه، شديد صدعه، واختلف في ذلك الرجز فقيل: حجارة وقيل: نار، وقيل: خسف، وعلى هذا يكون المراد أنّ الأمر بالخسف والقضاء به من السماء، وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي، تنبيه: كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم عليه السلام فقدموا البشارة على إنزال العذاب ثم قالوا إنا منجوك ثم قالوا إنا منزلون ولم يعللوا التنجية فلم يقولوا إنا منجوك لأنك نبيّ أو عابد وعللوا الإهلاك فقالوا: {بما كانوا يفسقون} أي: يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء كقولهم هناك إنّ أهلها كانوا ظالمين، ولما كان التقدير ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم فتركناها كأن لم يسكنها أحد عطف عليه قوله تعالى: {ولقد تركنا} أي: بما لنا من العظمة {منها} أي: من تلك القرى {آية} أي: علامة على قدرتنا على كل ما نريد {بينة} أي: ظاهرة، قال ابن عباس: منازلهم الخربة، وقال قتادة هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة، وقال مجاهد هو ظهور الماء الأسود على وجه الأرض، فائدة: اتفق القراء على إدغام الدال في التاء، تنبيه: في هذه الآية إشارة إلى غفلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الانخلاع من الهوى وإنما يكون ذلك {لقوم يعقلون} أي: يتدبرون فعد من لم يستبصر بذلك غير عاقل، تنبيه: ههنا أسئلة: (الأوّل) كيف جعل الآية في نوح وإبراهيم عليهما السلام بالنجاة فقال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية} (العنكبوت، 15) وقال: {فأنجاه الله من النار إنّ في ذلك لآيات} (العنكبوت، 24) وجعل ههنا الهلاك آية، (الثاني) : ما الحكمة في قوله تعالى في السفينة {جعلناها آية} ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة، (الثالث) : ما الحكمة في قوله تعالى هناك {للعالمين} وقال ههنا: {لقوم يعقلون} ؟ أجيب عن الأوّل: بأنّ الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنّ في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً والغرق لم يبق له بعده أثر محسوس في البلاد فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة لوط لم تكن بأمر يبقى في أثره للحس، والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي ههنا البلاد وهناك السفينة. وههنا لطيفة: وهي أنّ الله تعالى آية قدرته موجودة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وآخر آيات الهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة، وعن الثاني بأنّ الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأمّا الآية ههنا الخسف وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وبزمان دون زمان فهي بينة لا يمكن الجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك فيقال له فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كانت تحصل لهم النجاة ولو سلط الله تعالى عليهم الريح العاصفة كيف تكون أحوالهم، وعن الثالث بأنّ السفينة موجودة معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حالة نوح وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة منه ولا يثق أحد بمجرّد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرّعاً إلى الله تعالى طالباً للنجاة، وأمّا أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من مر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أنّ ذلك من الله تعالى وإراداته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان، ولما كان شعيب عليه السلام أيضاً قد ابتلي بتكذيب قومه اتبع قصته بقصة لوط بقوله تعالى: {وإلى مدين} أي: ولقد أرسلنا أو بعثنا إلى مدين {أخاهم} أي: من النسب والبلد {شعيباً} ومدين قيل: اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقيل: اسم ماء نسب القوم إليه فاشتهر في القوم، قال الرازي: والأوّل كأنه أصح لأنّ الله تعالى أضاف الماء إلى مدين بقوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين} (القصص: 23) ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية والأصل في الإضافة التغاير والحقيقة، فإن قيل: قال تعالى في نوح: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} (القصص: 23) فقدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه، وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً، فما الحكمة في ذلك؟. أجيب: بأنّ الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأنّ الرسل لا تبعث إلى غير معينين وإنما تبعث الرسل إلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل الله تعالى إليهم من يختاره، غير أنّ قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاصة ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بنبيهم عليه السلام فقيل قوم نوح وقوم لوط فأمّا قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله قال تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً} {وإلى مدين أخاهم شعيباً} {فقال} أي: فتسبب عن إرساله وبعثه أن قال: {يا قوم اعبدوا الله} أي: الملك الأعلى وحده ولا تشركوا به شيئاً فإنّ العبادة التي فيها شرك ظاهر أو خفي عدم لأنّ الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً. فإن قيل: لم يذكر عن لوط عليه السلام أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك؟ أجيب: بأنّ لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وكان إبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يحتج لوط إلى ذكره وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها وإن كان هو أبداً يأمر بالتوحيد إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأمّا شعيب فكان بعد انقراض ذلك الزمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وذلك القوم فكان هو أصلاً في التوحيد فبدأ به، ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال: {وأرجوا اليوم الآخر} أي: وافعلوا ما ترجون به العاقبة فأقيم المسبب مقام السبب، أو أمروا بالرجاء والمراد اشتراط ما يسوّغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط، وقيل: هو من الرجاء بمعنى الخوف {ولا تعثوا في الأرض} حال كونكم {مفسدين} أي: متعمدين الفساد، ولما تسبب عن هذا النصح وتعقبه تكذيبهم تسبب عنه وتعقبه إهلاكهم تحقيقاً لأنّ أهل السيئآت لا يسبقوننا قال تعالى: {فكذبوه} في ذلك، فإن قيل ما حكاه الله تعالى عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يكذب ولا يصدق فإنّ من قال لغيره: اعبد الله لا يقال له كذبت؟ أجيب: بأنّ شعيباً كان يقول الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرّم فلا تقربوه، وهذه فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبر به {فأخذتهم الرجفة} أي: الزلزلة الشديدة، وعن الضحاك صيحة جبريل لأنّ القلوب رجفت بها {فأصبحوا في دارهم} أي: في بلدهم أو دورهم فاكتفى بالواحد ولم يجمع لأمن اللبس {جاثمين} أي: باركين على الركب ميتين فإن قيل: قال تعالى في الأعراف وههنا: فأخذتهم الرجفة وقال في هود: فأخذتهم الصيحة والحكاية واحدة؟ أجيب: بأنه لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة لأنّ جبريل لما صاح تزلزلت الأرض من صيحته فرجفت قلوبهم، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب. فإن قيل ما الحكمة في أنه تعالى إذا قال فأخذتهم الصيحة قال في ديارهم وحيث قال فأخذتهم الرجفة قال في دارهم؟ أجيب: بأنّ المراد من الدار هو الديار والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن اللبس كما مرّ، وإنما اختلف اللفظ للطيفة وهي أنّ الرجفة هائلة في نفسها فلم تحتج إلى تهويلها، وأمّا الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أخذت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى تعلم هيئتها، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كلامه فلم تحتج إلى معظم لأمرها، ولما كان معنى ختام قصة مدين فأهلكناهم عطف على ذلك المعنى قوله تعالى: {وعاداً} أي: وأهلكنا أيضاً عاداً {وثموداً} مع ما كانوا فيه من العتو والتكبر والعلوّ لأنّ من المقاصد العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضاً في الخير والشرّ على نسق والجري بهم في إهلاك المكذبين وإنجاء المصدقين طبقاً عن طبق، وقرأ حمزة وحفص في الوصل وثمود بغير تنوين على تأويل القبيلة وفي الوقف بسكون الدال، والباقون بالتنوين وفي الوقف بالألف {وقد تبين لكم} أي: ما حل بهم من مساكنهم أي: ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدّة الأجسام وسفه الأحلام وعلوّ الاهتمام وتقرب الأذهان وعظم الشأن عند مروركم بتلك المساكن ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام فصرفوا في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا فأملوا بعيداً وبنوا مشيداً ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً من أمر الله {وزين لهم الشيطان} البعيد من الرحمة، المحترق باللعنة بقوّة احتياله ومحبوب ضلاله ومحاله {أعمالهم} أي: الفاسدة من الكفر والمعاصي فأقبلوا بكليتهم عليها {فصدّهم} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 فتسبب عن ذلك صدّهم {عن السبيل} أي: منعهم عن سلوك الطريق الذي لا طريق إلا هو لكونه يوصل إلى النجاة، وغيره يوصل إلى الهلاك، ولما كان ذلك ربما ظنّ لفرط غباوتهم قال: {وكانوا مستبصرين} أي: معدودين بين الناس من البصراء العقلاء، ولما كان فرعون ومن ذكر معه من العتوّ بمكان لا يخفى لما أوتوا من القوّة بالأموال والرجال قال: {وقارون} أي: وأهلكنا قارون وقومه لأنّ وقوعه في أسباب الهلاك أعجب لكونه من بني إسرائيل ولأنه ابتلي بالمال والعلم فكان ذلك سبب إعجابه فتكبر على موسى وهارون عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه {وفرعون وهامان} وزيره الذي أوقد له على الطين فباع سعادته ليكونه ذنباً لغيره {ولقد جاءهم} من قبل {موسى بالبينات} أي: بالحجج الظاهرات التي لم تدع لبساً {فاستكبروا} أي: طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم أفعال من يطلب ذلك {في الأرض} بعد مجيء موسى عليه السلام إليهم أكثر مما كانوا قبله {وما كانوا سابقين} أي: فائتين بل أدركهم أمر الله، مِنْ سبق طالبه إذا فاته. {فكلاً} أي: فتسبب عن تكذيبهم أنّ كلاً {أخذنا} أي: بما لنا من العظمة {بذنبه} أي: أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} أي: ريحاً عاصفاً فيها حصباء كقوم لوط وعاد {ومنهم من أخذته الصيحة} أي: التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود {ومنهم من خسفنا به الأرض} أي: غيبناه فيها كقارون وجماعته {ومنهم من أغرقنا} بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وقومه وعذاب قوم صالح المعدّ في الإغراق والمعدّ في الخسف فتارة يهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط أو من الأرض كعاد {وما كان الله} أي: الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا له {ليظلمهم} أي: فيعذبهم بغير ذنب {ولكن كانوا أنفسهم} لا غيرها {يظلمون} بارتكاب المعاصي ولم يقبلوا النصح مع هجرهم، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم، ولما بين تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلاً وعذب من كذب آجلاً ولم ينفعه معبوده مثل تعالى اتخاذه ذلك معبوداً باتخاذ العنكبوت بيتاً فقال: l {مثل الذين اتخذوا} أي: تكلفوا أن اتخذوا {من دون الله} أي: الذي لا كفء له فرضوا بالدون الذي لا ينفع ولا يضرّ عوضاً عمن لا تكيفه الأوهام والظنون {أولياء} ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها في الضعف والوهن. {كمثل العنكبوت} أي: الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال {اتخذت بيتاً} أي: تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى ويحميها البلاء كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم ليقوهم ويحفظوهم بزعمهم فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره وتعبها الشديد في شأنه في غاية الوهن {وإن} أي: والحال إن {أوهن البيوت} أي: أضعفها {لبيت العنكبوت} لا يدفع عنها حرّاً ولا بردا كذلك الأصنام لا تنفع عابديها {لو كانوا يعلمون} أي: لو كانوا يعلمون أنّ هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن، وأيضاً أنه إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت فقد تبين أنّ دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون أي: لو كان لهم نوع مّا من العلم لانتفعوا به ولعلموا أنّ هذا مثلهم فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثلهم، ولقائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 أن يقول مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر وكان أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت كذلك الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان، فإن قيل: لم مثل تعالى باتخاذ العنكبوت ولم يمثل بنسجها؟ أجيب: بأنّ نسجها فيه فائدة لولاه لما حصلت وهو اصطياد الذباب به من غير أن يفوتها ما هو أعظم منه واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت، تنبيه: نون العنكبوت أصلية والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعة على عناكب وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث فمن التأنيث قوله تعالى {اتخذت} ومن التذكير قول القائل: *على هطالهم منهم بيوت ... كأن العنكبوت هو ابتناها* وهذا مطرد في أسماء الأجناس تذكر وتؤنث، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيوت بضم الباء، والباقون بكسرها، ولما كان ضرب المثل بالشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء قال الله تعالى: {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {يعلم ما} أي: الذي {يدعون} أي: يعبدون {من دونه} أي: غيره {من شيء} أي: سواء كان صنماً أم إنسياً أم جنياً {وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه، وقرأ أبو عمرو وعاصم يدعون بالياء التحتية، والباقون بالفوقية، ولما ذكر مثلهم وما تتوقف صحته عليه كان كأنه قيل: على وجه التعظيم: هذا المثل مثلهم فعطف عليه قوله تعالى إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعلوّ شأنها. {وتلك الأمثال} أي: العالية عن أن تنال بنوع احتيال، ثم استأنف قوله تعالى {نضربها} أي: بمالنا من العظمة بياناً {للناس} أي: تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها، وهكذا حال التشبيهات كلها هي طرق إلى إفهام المعاني المحتجبة في الأستار تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها، روي أنّ الكفار قالوا كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالذباب والبعوض والعنكبوت؟ فقال الله تعالى مجهلاً لهم: {وما يعقلها} أي: حق تعقلها فينتفع بها {إلا العالمون} أي: الذين هيؤا للعلم وجعل طبعاً لهم بما بث في قلوبهم من أنواره وأشرق في صدورهم من أسراره، فهم يضعون الأشياء مواضعها، روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العالم: الذي عقل عن الله وعمل بطاعته واجتنب سخطه» قال البغويّ: والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأوّل يريد أمثال القرآن التي يشبه بها أحوال كفار هذه الأمّة بأحوال كفار الأمم المتقدّمة، ولما قدّم تعالى أنه لا معجز له سبحانه ولا ناصر لمن خذله استدل على ذلك بقوله تعالى: {خلق الله} أي: الذي لا يدانى في عظمته {السموات والأرض بالحق} أي: الأمر الذي يطابقه الواقع، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل، أو بسبب أنه محق غير قاصد به باطلاً فإنّ المقصود بالذات من خلقهما إفاضة الجود والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 إليه بقوله تعالى: {إنّ في ذلك لآية} أي: دلالة ظاهرة على قدرته تعالى {للمؤمنين} وأُختص المؤمنون بذلك لأنهم المنتفعون به، ثم خاطب تعالى رأس أهل الإيمان بقوله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} أي: القرآن الجامع لكل خير لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولما أرشد تعالى إلى مفتاح العلم دلّ على قانون العمل بقوله تعالى: {وأقم الصلاة} أي: التي هي أحق العبادات، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنّ الصلاة تنهى} أي: توجد النهي وتجدّده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها {عن الفحشاء} أي: عن الخصال التي بلغ قبحها {والمنكر} وهو ما لا يعرف في الشرع، فإن قيل: كم من مصلّ يرتكب الفحشاء؟ أجيب: بأنّ المراد الصلاة التي هي الصلاة عند الله تعالى المستحق بها الثواب بأن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح متقياً لقوله تعالى: {إنما يتقبل الله من المتقين} (المائدة، 37) ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح، فقد روي عن حاتم كأنّ رجليّ على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت من فوقي وأصلي بين الخوف والرجاء، ثم يحوطها بعد أن يصليها ولا يحبطها فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال ابن مسعود وابن عباس: إن الصلاة تنهى وتزجر عن معاصي الله عز وجل فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله تعالى إلا بعداً، وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه، وقيل من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما، فقد روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال: «إن صلاته لتردعه» . وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال: إنّ صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب، وقال ابن عوف: معنى الآية إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها، وعلى كل حال فإنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها، وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها كما تقول: إن زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكر وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم، وقيل: المراد بالصلاة القرآن كما قال تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} (الإسراء: 110) أي: بقراءتك وأراد به من يقرأ القرآن في الصلاة فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر، روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله ويصبح سارقاً قال ستنهاه قراءته، ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله أتبع ذلك بقوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} أي: لأنّ ذكر المستحق لكل صفات كمال أكبر من كل شيء فذكر الله تعالى أفضل الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا: وما ذاك يا رسول الله قال: ذكر الله» وسئل صلى الله عليه وسلم أي: العبادة أفضل عند الله درجة يوم القيامة قال: «الذاكرون الله كثيراً، قالوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 يا رسول الله ومن الغازين في سبيل الله فقال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكر الله كثيراً أفضل منه درجة» . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على جبل في طريق مكة يقال له جمدان فقال: «سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» أو والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات وسماها بذكر الله كما قال تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة: 9) وإنما قال ولذكر الله أكبر ليستقلّ بالتعليل كأنه قال والصلاة أكبر لأنها ذكر الله، وعن ابن عباس: ولذكر الله تعالى إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته، وقال عطاء: ولذكر الله أكبر من أن يتقى معه معصية. {والله} أي: المحيط علماً وقدرة {يعلم} أي: في كل وقت {ما تصنعون} من الخير والشرّ فيجازيكم على ذلك، ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب} أي: اليهود والنصارى ظناً منكم أنّ الجدال ينفع أو يزيد في اليقين أو يردّ واحداً عن ضلال مبين {إلا بالتي} أي: بالمجادلة التي {هي أحسن} كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم والدعاء إلى الله تعالى بآياته والتنبيه على حججه كما قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} (المؤمنون، 96) {إلا الذين ظلموا منهم} بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد الله مغلولة، وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (التوبة: 29) ولا مجادلة أشدّ من السيف، ولما بين تعالى عن موجب الخلاف أمر بالاستعطاف بقوله تعالى: {وقولوا} أي: لمن قبل الإقرار بالجزية إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم {آمنا بالذي أنزل إلينا} أي: من هذا الكتاب المعجز {وأنزل إليكم} من كتبكم أي: لأنه في أصله حق وإن كان قد نسخ، منه ما نسخ وإن حدثوكم بشيء منه وليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، لما روى أبو داوود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم» أي: فإن هذا أدعى إلى الإنصاف وأنفى للخلاف، ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين أتبعه بما يجمعه بقوله تعالى: {وإلهنا وإلهكم واحد} أي: لا إله لنا غيره، وإن ادّعى بعضكم عزيراً والمسيح {ونحن له} خاصة {مسلمون} أي: خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ولا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم {وكذلك} أي: ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه إلى أنبيائهم من التوراة وغيرها {أنزلنا إليك الكتاب} أي: القرآن مصدّقاً لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله تعالى {فالذين آتيناهم الكتاب} أي: التوراة كعبد الله بن سلام وغيره {يؤمنون به} أي: بالقرآن {ومن هؤلاء} أي: أهل مكة أو ممن في عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين {من يؤمن به} وهم مؤمنو أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 مكة وأهل الكتابين {وما يجحد} أي: ينكر، قال قتادة: والجحود: إنما يكون بعد المعرفة {بآياتنا} أي: التي جاوزت أقصى غايات العظمة حتى إنها استحقت الإضافة إلينا {إلا الكافرون} أي: اليهود ظهر لهم أنّ القرآن حق والجائي به محق وجحدوا ذلك وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني أنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة وبإنكارها تلحقون بهم وتعطلون مزاياكم فإنّ الجاحد بآية يصير كافراً. {وما} أي: وأنزلنا إليك الكتاب والحال أنك ما {كنت تتلو} أي: تقرأ أصلاً {من قبله} أي: هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، وأكد استغراق الكتب بقوله تعالى: {من كتاب} أصلاً {ولا تخطه} أي: تجدّد وتلازم خطه وصور الخط، وأكده بقوله: {بيمينك} فإن قيل ما فائدة قوله بيمينك؟ أجيب: بأنه ذكر اليمين التي هي أقوى الجارحتين وهي التي يزاول بها الخط زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً، ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه كان أشّذ لإثباتك أنه تولى كتبه فكذلك النفي، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة القوية التي ينشأ عنها ملكه فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ولذلك قال تعالى: {إذاً} أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ {لارتاب} أي: شك {المبطلون} أي: اليهود فيك وقالوا: الذي في التوراة أنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأوّلين وكتبه بيده. فإن قيل: لم سماهم مبطلين ولو لم يكن أمياً وقالوا ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه بيده فإنه رجل كاتب قارئ؟ أجيب: بأنه سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمياً لارتابوا أشدّ الريب فحينئذٍ ليس بقارئ ولا كاتب فلا وجه لارتيابهم، وأيضاً سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم وما جاؤوا به لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى على أنّ المنزل إليهم معجز وهذا المنزل معجز فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا وهو أمي ومبطلون حيث لم يؤمنوا وهو غير أمي، ولما كان التقدير ولكنه لا ريب لهم أصلاً ولا شبهة لقولهم أنه باطل قال تعالى: {بل هو} أي: القرآن الذي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير {آيات} أي: دلالات {بينات} أي: واضحات جدّاً في الدلالة على صدقك {في صدور الذين أوتوا العلم} أي: المؤمنين يحفظونه فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم، وقال ابن عباس وقتادة: بل هو يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته ووصفه في كتبهم {وما يجحد} وكان الأصل به ولكنه أشار إلى عظمته بقوله تعالى: {بآياتنا} أي: ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجهله أحد {إلا الظالمون} أي: المتوغلون في الظلم المكابرون. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 ههنا {إلا الظالمون} ومن قبل قال {إلا الكافرون} ؟ أجيب: بأن ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ثم إنّ العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً ولكن الحكمة هنا أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد صلى الله عليه وسلم فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك أبلغ فمنعهم عن ذلك استنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم: إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أوّل الأمر بالمشركين حكماً وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي: مشركين كما قال تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13) فهذا اللفظ ههنا أبلغ، ولما كان التقدير جحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم ولم يعدوها آيات فضلاً عن كونها بينات عطف عليه قوله تعالى: {وقالوا} موهمين مكراً إظهاراً للصفة بأدنى ما يدل على الصدق {لولا} أي: هلا {أنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم على أيّ وجه كان من وجوه الإنزال {آية} تكون بحيث تدل قطعاً على صدق الآتي بها {من ربه} أي: الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهم السلام ليستدل بها على صدق مقاله وصحة ما يدعيه من حاله، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص آيات بالجمع لأنّ بعده {قل إنما الآيات} بالجمع إجماعاً، والباقون آية بالإفراد لأنّ غالب ما جاء في القرآن كذلك، ولما كان هذا إنكاراً للشمس بعد شروقها ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها أشار إليه بقوله تعالى: {قل} أي: لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء {إنما الآيات عند الله} أي: الذي له الأمر كله ينزل أيتها شاء فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره فإنما الإله هو لا سواه ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل {وإنما أنا ندير مبين} أي: فليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيته من الآيات وليس لي أن أقترح عليه الآيات فأقول أنزل علي آية كذا دون آية كذا على أنّ المقصود من الآيات الدلالة على الصدق وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ولم يذكر البشارة لأنه ليس من أسلوبها وقوله تعالى: {أو لم يكفهم} جواب لقولهم لولا أنزل عليه آيات من ربه أي: إن كانوا طائعين للحق غير متيقنين آية مغنية عن كل آية {إنا أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة {عليك الكتاب} أي: القرآن الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاً لك {يتلى عليهم} أي: تتجدّد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وفي كل زمان من كل مقال مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك فأعظم به آية باقية لا تزول ولا تضمحل إذ كل آية سواه منقضية ماضية وتكون في مكان دون مكان، فالقرآن أتم من كل معجزة لوجوه: الأوّل: أنّ تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبان وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب، وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال أئت بآية من مثله. الثاني: أنّ قلب، العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، وههنا لطيفة: وهي أنّ آيات نبينا صلى الله عليه وسلم كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأنّ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأنّ الخسوف إذا وقع عمّ وذلك لأنّ نبوّته كانت عامّة لا تختص بقطر دون قطر، وغاض بحر ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر، وانهدمت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عامّا، الثالث: أنّ غير هذه المعجزة يقول الكافر المعاند هذا سحر وعمل يد والقرآن لا يمكن هذا القول فيه، وقال أبو العباس المرسي: خشع بعض الصحابة من سماع بعض اليهود يقرأ التوراة فعوتبوا إذ تخشعوا من غير القرآن وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله تعالى فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء، ولما كان هذا القرآن أعظم من كل آية يقترحونها قال تعالى: {إن في ذلك} أي: إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال {لرحمة} أي: نعمة عظيمة في كل لحظة وتطهيراً لخبث النفوس في كل لمحة {وذكرى} أي: عظيمة مستمرّاً تذكرها، ولما عمّ بالقول خص من حيث النفع فقال {لقوم يؤمنون} لأنهم المنتفعون بذلك، ولما كان من المعلوم أنهم يقولون: نحن لا نصدق أنّ هذا الكتاب من عند الله فضلاً عن أن نكتفي به قال تعالى: {قل} أي: جواباً لما قد يقولونه من نحو هذا {كفى بالله} أي: الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات {بيني وبينكم شهيداً} أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ونصحتكم وأنذرتكم وأنهم قابلوني بالجحد والتكذيب وقد صدقني بالمعجزات، وروي أنّ كعب بن الأشرف وغيره قالوا يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله فنزلت، ثم وصف الشهيد وعلل كفايته بقوله: {يعلم ما في السموات} أي: كلها {والأرض} أي: كذلك لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما تنسبونه إليه من التقوّل عليه وبما أنسبه أنا إليه من هذا القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عنه فهو شاهدي، والله في الحقيقة هو الشاهد لي فيه بالثناء عليّ والشهادة لي بالصدق لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه. ولما بين تعالى الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكامل الشامل لهما والإنكار العامّ فقال: {والذين آمنوا بالباطل} أي: وهو ما يعبد من دون الله {وكفروا بالله} أي: الذي يجب الإيمان به والشكر له لأنّ له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم {أولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الخاسرون} أي: العريقون في الخسارة فإنهم خسروا أنفسهم أبد الآبدين، فإن قيل: قوله {أولئك هم الخاسرون} يقتضي الحصر في من آمن بالباطل وكفر بالله فمن يأتي بأحدهما دون الآخر لا يكون كذلك؟ أجيب: بأنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر لأنّ المؤمن بما سوى الله تعالى مشرك لأنه جعل غير الله مثله وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله تعالى كذلك ومن كفر بالله تعالى وأنكره فيكون قائلاً بأنّ العالم واجب الوجود إله فيكون قائلاً بأنّ غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به. فإن قيل: إذا كان الإيمان بما سواه كفراً به فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي في قول القائل قم ولا تقعد وأقرب مني ولا تبعد؟ أجيب: بأنّ فيه فائدة غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأوّل كقول القائل: أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أنّ القول بالباطل قبيح، ولما أنذرهم صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وأوعد بالعذاب إن لم يؤمنوا أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب} نزلت في النضر بن الحارث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين ويجعلون تأخيره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب {ولولا أجل مسمى} قد ضرب لوقت عذابهم فلا تقدّم فيه ولا تأخر {لجاءهم العذاب} وقت استعجالهم لأنّ القدرة تامّة والعلم محيط {وليأتينهم بغتة} أي: فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم {وهم لا يشعرون} بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه، ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله تعالى مبدلاً: {يستعجلونك بالعذاب} أي: يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزاً ولو كان في غير وقته الأليق به ولو علموا ما هم صائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلاً عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه {وإنّ جهنم} التي هي من عذاب الآخرة {لمحيطة بالكافرين} أي: ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب أو هي كالمحيطة بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم، وأتى بالظاهر موضع المضمر تنبيهاً على ما استحقوا به عذابها وتعميماً لكل من اتصف به، ثم ذكر تعالى كيفية إحاطة جهنم بقوله عز وجل. {يوم يغشاهم العذاب} أي: يلحقهم ويلصق بهم {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} فعلم بذلك إحاطته من جميع الجوانب، فإن قيل: لم خص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدّام؟ أجيب: بأنّ المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإنّ من يدخلها تكون الشعلة قدّامه وخلفه ويمينه ويساره، وأمّا النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة بل تنطفئ الشعلة التي تحت القدم ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} ولم يقل من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم ومن تحتهم بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق؟ أجيب: بأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرأس أم من موضع آخر عجب لأنّ طبع النار الصعود إلى فوق فلهذا لم يخصه بالرؤوس، وأمّا بقاء النار تحت القدم فهو عجب وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطفئ بالدوس، وأمّا فوق فعلى الإطلاق وقوله تعالى {ونقول} قرأ نافع والكوفيون بالياء أي: الموكل بالعذاب من ملائكته بأمره، والباقون بالنون أي: نأمر بالعذاب، ولما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة {ذوقوا ما كنتم تعملون} جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق اسم المسبب على السبب فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال، ولما ذكر تعالى حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتدّ عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من العبادة قال تعالى:. {يا عبادي الذين آمنوا} فشرفهم بالإضافة إليه {إن أرضي واسعة} أي: في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق إن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم، قال مقاتل والكلبي: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة يقول الله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها فإنّ أرض المدينة واسعة آمنة وقال مجاهد: إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا وفيها، وقال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة، وكذا يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تتهيأ له العبادة ولكن صارت البلدان في زماننا كلها متساوية فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. وقرأ بفتح الياء ابن عامر، والباقون بتسكينها، وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج، وقال مطرف بن عبد الله: أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا، روى الثعلبي عن الحسن البصري مرسلاً: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبراً استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما» . تنبيه: قوله تعالى: {يا عبادي} لا يدخل فيه الكافر لوجوه: الأوّل: قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر: 42) والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يدخل في قوله تعالى يا عبادي. الثاني: قوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر: 53) الثالث: أنّ العباد مأخوذ من العبادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله تعالى {يا عبادي} وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه، الرابع: الإضافة بين الله تعالى والعبد يقول العبد إلهي ويقول الله عبدي، فإن قيل: إذا كان عباده لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله {الذين آمنوا} مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال: يا أيها المكلفون المؤمنون، يا أيها الرجال العقلاء تمييزاً بين الكافر والجاهل؟ أجيب: بأنّ الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرّد بيان أنّ فيه الوصف كما يقال: الأنبياء المكرمون، والملائكة المطهرون، مع أن كل نبيّ مكرم، وكل ملك مطهر، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة، ومثله قولنا، الله العظيم فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون ولما كانت الإقامة بمكة قبل الفتح موِدّية إلى الفتنة قال تعالى: {فإياي} أي: خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها {فاعبدون} أي: وحدون وإن كان بالهجرة وكانت هجرة الأهل والأوطان شديدة، فإن قيل: قوله تعالى: {يا عبادي} يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة؟ أجيب: بأنّ فيه فائدتين أحداهما: المداومة أي: يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل، الثانية: الإخلاص أي: يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري، فإن قيل ما معنى الفاء في فاعبدون؟ أجيب: بأن الفاء جواب شرط محذوف لأنّ المعنى إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرضي فأخلصوها في غيرها، ولما أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن بعدت وشق عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان خوّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة بقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} أي: كل نفس مفارقة ما ألفته حتى بدناً طالما لبسته وأنسها وأنسته فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة من الأجل شيئاً وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً فإذا قدّر الإنسان أنه ميت سهلت عليه الهجرة فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وقد ورد «أكثروا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 من ذكر هادم اللذات أي: الموت فإنه ما ذكر في قليل أي: من العمل إلا كثره ولا ذكر في كثير أي: من أمل الدنيا إلا قلله، ولما هوّن أمر الهجرة حذر من رضي في دينه بنقص شيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزّود للمعاد بقوله تعالى: {ثم إلينا ترجعون} على أيسر وجه فنجازي كلاً منكم بما عمل، وقرأ أبو بكر بالياء التحتية، والباقون بالتاء الفوقية. {والذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات لنبؤنهم} أي: لننزلنهم {من الجنة غرفاً} أي: بيوتاً عالية، قال البقاعي: تحتها قاعات واسعة، وقرأ حمزة والكسائي بعد النون بثاء مثلثة ساكنة وبعدها واو مكسورة وبعد الواو ياء مفتوحة أي: لنثوينهم أي: لنقيمنهم من الثواء وهو الإقامة يقال ثوى الرجل إذا أقام فيكون انتصاب غرفاً لإجرائه مجرى لننزلنهم، أو بنزع الخافض اتساعاً أي: في غرف أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم كقوله: {لأقعدنّ لهم صراطك} (الأعراف: 16) ، والباقون بعد النون بباء موحدة وبعدها واو مشدّدة وبعد الواو همزة مفتوحة وعلى هذه القراءة فانتصابها على أنها مفعول ثان لأنّ بّوأ يتعدّى لاثنين، قال الله تعالى: {تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال} (آل عمران: 121) ويتعدّى باللام قال تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم} (الحج: 26) ، ولما كانت العلالي لا تروق إلا بالرياض قال تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار إلا أن يكون فيه بساتين كبار وزروع ورياض وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي، ولما كانت بحالة لا نكر فيها يوجب هجرة في لحظة ما كنى عنه بقوله تعالى: {خالدين فيها} أي: لا يبغون عنها حولاً، ثم عظم أمرها وشرف قدرها بقوله تعالى: {نعم أجر العاملين} أي: هذا الأجر وهذا في مقابلة قوله تعالى للكافر: {ذوقوا ما كنتم تعملون} (العنكبوت: 55) ، ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة بقوله تعالى: {الذين صبروا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرّت عندهم فكانت سجية لهم فأوقفوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها فإنّ الإنسان قل أن ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه، ثم رغب في الاستراحة بالتفويض إليه بقوله تعالى: {وعلى ربهم} أي: المحسن إليهم وحده لا على أهل ولا وطن {يتوكلون} أي: يوجدون التوكل إيجاداً مستمرّاً لتجديد كل مهم يعرض لهم، ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة لا مال ولا أهل قال عاطفاً على ما تقديره فكأين من متوكل عليه كفاه ولم يحوجه إلى أحد سواه فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طلباً لرضاه. {وكأين من دابة} أي: كثير من الدواب العاقلة وغيرها {لا تحمل} أي: لا تطيق أن تحمل {رزقها} أي: لا تدخر شيئاً لساعة أخرى لأنها قد لا تدرك نفع ذلك وقد تدركه وتتوكل، وعن الحسن: لا تدخر إنما تصبح فيرزقها الله تعالى، وعن ابن عيينة: ليس شيئاً يخبأ إلا الإنسان والنملة والفارة، وعن بعضهم قال رأيت البلبل يدخر في حنية، ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها أو لا تجده أو لا تطيق حمله لضعفها، ثم كأنه قيل فمن يرزقها فقيل {الله} أي: المحيط علماً وقدرة المتصف بكل كمال {يرزقها} على ضعفها وهي لا تدخر {وإياكم} مع قوتكم وادخاركم واجتهادكم لا فرق بين ترزيقه لها على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 ضعفها وعدم ادخارها، وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم فإنه هو المسبب وحده فإنّ الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون فصار الإدخار وعدمه غير معتدّ به ولا منظوراً إليه، وقرأ ابن كثير بعد الكاف بألف وبعد الألف همزة مكسورة، والباقون بعد الكاف همزة مفتوحة وبعدها ياء مشدّدة، ووقف أبو عمرو على الياء، ووقف الباقون على النون، وحمزة في الوقف يسهل الهمزة على أصله. تنبيه: كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي: التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم ثم لم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأنّ كأي تستعمل غير مركبة كما يقول القائل: رأيت رجلاً كأيّ رجل يكون وحينئذٍ لا يكون كأي: مركباً فإذا كان كأيّ ههنا مركباً كتب بالنون للتمييز {وهو السميع} لأقوالكم نخشى الفقر والضيعة {العليم} بما في ضمائركم. واختلف في سبب نزول هذه الآية فعن ابن عمر أنه قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار: «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقط الرطب بيده ويأكل فقال كل يا ابن عمر قلت: لا أشتهيه يا رسول الله قال لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده فقلت: يا رسول الله إن الله المستعان فقال: يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافاً مضاعفة ولكني أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت {وكأين من دابة} (العنكبوت: 60) وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون «هاجروا إلى المدينة فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت» وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «كان لا يدخر شيئاً» وقال صلى الله عليه وسلم «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» وقال صلى الله عليه وسلم «أيها الناس ليس شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، وإنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» . {ولئن} اللام لام قسم {سألتهم} أي: كفار مكة وغيرهم {من خلق السموات والأرض} وسوّاهما على هذا النظام العظيم {وسخر الشمس والقمر} لإصلاح الأقوات ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع {ليقولنّ الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال لما تقرّر في نظرهم من ذلك وتلقوه من آبائهم موافقة للحق في نفس الأمر {فأنى} أي: فكيف ومن أيّ وجه {يؤفكون} أي: يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك، فإن قيل: ذكر في السموات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير؟ أجيب: بأنّ مجرد خلق السموات والأرض آية ظاهرة بخلاف خلق الشمس والقمر فإنهما لو كانا في موضع واحد لا يتحرّكان ما حصل الليل والنهار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 ولا الصيف ولا الشتاء فإذاً الحكمة الظاهرة في تحريكهما وتسخيرهما، ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند من لم يتأمّل حق التأمّل فيقول: ما بال الخلق متفاوتين في الرزق قال تعالى: {الله} أي: بما له من الإحاطة بصفات الكمال {يبسط الرزق} بقدرته التامّة امتحاناً {لِمنْ يشاء من عباده} على حسب ما يعلم من بواطنهم {ويقدر} أي: يضيق {له} بعد البسط أو لمن يشاء ابتلاء فظهر من ذلك قدرته وحكمته وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم علماً لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك كما قال تعالى: {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {بكل شيء} أي: من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف يمنع أو يساق وغير ذلك {عليم} يعلم مقادير الحاجات والأرزاق فهو على ذلك كله قدير يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وإفقار غني فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال، ولما قال الله تعالى: {الله يبسط الرزق} ذكر اعترافهم بذلك بقوله تعالى: {ولئن} اللام لام قسم {سألتهم من نزل من السماء ماءً} بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو {فأحيا به الأرض} الغبراء وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات فقال: {من بعد موتها} فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن لها شيء من ذلك {ليقولنّ الله} معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك فلما ثبت أنه الخالق بدءً وإعادة كما يشاهد في كل زمان قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم {قل} يا أفضل الخلق متعجباً منهم في جمودهم كيف يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون؟ {الحمد لله} الذي لا سميّ له وليس لغيره إحاطة من الأشياء فلزمتهم الحجة بما أقروا به من إحاطته وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم {بل أكثرهم لا يعقلون} فيناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يلزمه سائر الفروع، ومنهم من كان دون ذلك فكان نفي العقل عنه مقيداً بالكمال، ولما تبين بهذه الآيات أنّ الدنيا مبنية على الفناء والزوال والتقلع والارتحال وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون: {وما هذه الحياة الدنيا} فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى هذا الاعتراف فهذا الاسم كاف في الإلزام بالاعتراف بالأخرى {إلا لهو} وهو الاستمتاع بلذات الدنيا {ولعب} وهو العبث وسميت بهما لأنها فانية، وقيل: اللهو الإعراض عن الحق، واللعب: الإقبال على الباطل، فإن قيل: قد قال تعالى في الأنعام: {وما الحياة الدنيا} (آل عمران، 185) ولم يقل {وما هذه الحياة} وقال ههنا: {وما هذه الحياة} فما فائدته أجيب بأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا فأحيا به الأرض من بعد موتها فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال {يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 31) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال تعالى: {وما الحياة الدنيا} ، فإن قيل ما الحكمة في تقديمه هناك اللعب على اللهو وههنا أخر اللعب عن اللهو؟ أجيب: بأنه لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوعد يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهمّ إلا لمانع يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً وكان الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو، ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها بقوله تعالى: {وإن الدار الآخرة لهي} أي: خاصة {الحيوان} أي: الحياة التامّة الباقية، فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى هناك {ولدار الآخرة خير} وقال ههنا: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} ؟ أجيب: بأنه لما كان الحاصل هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازع قوي فقال: الآخرة خير، ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة، والحيوان مصدر حيي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً وبه سمي ما فيه حياة حيواناً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ههنا، ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كليهما فنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذه الحالة وعدوا الآخرة عدماً لا وجود لها بوجه قال تعالى: {لو كانوا يعلمون} أي: لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في الأنعام: {أفلا يعقلون} وقال ههنا: {لو كانوا يعلمون} ؟ أجيب: بأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع. {فإذا} أي: فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم إنهم إذا {ركبوا} البحر {في الفلك} أي: السفن {دعوا الله} أي: الملك الأعلى {مخلصين} بالتوحيد {له الدين} معرضين عن الشركاء بالقلب واللسان حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو {فلما نجاهم} أي: الله سبحانه وتعالى موصلاً لهم {إلى البرّ إذا هم} أي: حين الوصول إلى البرّ {يشركون} كما كانوا فهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد مقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده فإذا زالت عادوا إلى كفرهم. قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدّ عليهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب، وقال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء انتهى، فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة ولهذا تجد الفقراء أقرب إلى كل خير، وفي اللام في قوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} وجهان: أظهرهما أن اللام فيه لام كي أي: يشركون ليكونوا كافرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 بشركهم نعمة النجاة فيكون ذلك فعل من لا عقل له أصلاً وهم يتحاشون عن مثل ذلك، والثاني: كونها للأمر {وليتمتعوا} باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالكسر وهي محتملة للوجهين المتقدّمين، والباقون بالسكون وهي ظاهرة في الأمر فإن كانت اللام الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله، فإن قيل كونها للأمر مشكل إذ كيف يأمر الله تعالى بالكفر وهو متوعد عليه؟ أجيب: بأن ذلك على سبيل التهديد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت: 40) وإن كانت للعلة فقد عطف كلاماً على كلام فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة {فسوف يعلمون} يومئذٍ ما يحلّ بهم من العقاب، ولما كان الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذكرهم حالهم عند الأمر العظيم بقوله تعالى: {أولم يروا} أي: أهل مكة بعيون بصائرهم {أنا جعلنا} بعظمتنا لهم {حرماً} وقال {آمناً} لأنه لا خوف على من دخله، فلما أمن كل من دخله كان كأنه هو نفسه الآمن وهو حرم مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصينة بحصن الله وآمنة موجبة للتوحيد والإخلاص لأنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص فما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلتم وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها؟ والأصنام التي قلتم في حال الخوف أنها لا أمن لها كيف آمنتم بها في حال الأمن {و} الحال أنه {يتخطف الناس من حولهم} أي: من حول من فيه من كل جهة قتلا وسبياً مع قلة من بمكة وكثرة من حولهم فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفاً ومن حوله آمناً أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد {أفبالباطل} من الشياطين والأديان وغيرهما {يؤمنون} والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه {وبنعمة الله} التي أحدثها لهم من الإنجاء وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم {يكفرون} حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاة وغيرها شركهم بعبادة غيره. {ومن أظلم} أي: أشدّ وضعاً للأشياء في غير مواضعها {ممن افترى} أي: تعمد {على الله كذباً} أي: أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون {إذا فعلوا فاحشة وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} {أو كذب بالحق} أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن المعجز المبين على لسان هذا الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع {لما} أي: حين {جاءه} من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل بل سارع إلى التكذيب أوّل ما سمعه وقوله تعالى: {أليس في جهنم مثوىً للكافرين} استفهام تقرير لمثواهم كقوله: *ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح* قال بعضهم: ولو كان استفهاماً ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل، وحقيقته أن الهمزة همزة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 الإنكار دخلت على النفي فرجع إلى معنى التقرير، والمعنى أما لهذا الكافر المكذب مثوى في جهنم حتى اجترأ مثل هذه الجراءة؟. {والذين جاهدوا} أي: أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دلّ عليه بالمفاعلة {فينا} أي: بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدّة والرخاء ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن وشدائد المحن مستحضرين لعظمتنا {لنهدينهم} مما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه هداية تليق بعظمتنا {سبلنا} أي: طريق السير إلينا وهي الطريق المستقيمة والطريق المستقيمة هي التي توصل إلى رضا الله عز وجل، قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإنّ الله تعالى قال {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال الحسن: الجهاد مخالفة الهوى، وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به، وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا، وقال أبو سليمان الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا، وعن بعضهم: من عمل بما يعلم وفق لما لم يعلم، وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لم نعلم إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم، وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعة، وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة، والباقون بضمها {وإن الله} أي: بعظمته وجلاله وكبريائه {لمع المحسنين} أي: المؤمنين بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة والثواب في عقباهم، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشريّ من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين» فهو حديث موضوع، ورواه ابن عادل عن أبي أمامة عن أبي بن كعب. سورة الروم مكية وهي ستون آية، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفاً {بسم الله} الذي يملك الأمر كله {الرحمن} الذي رحم الخلق كلهم بنصب الدلائل {الرحيم} الذي لطف بأوليائه وقوله تعالى: {الم} تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة، وقال البقاعي: لما ختم سبحانه وتعالى التي قبلها بأنه مع المحسنين قال: {ألم} مشيراً بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم السلام إلى أشرف خلقه محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد والغائب فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته وكمال علم مرسله وشمول قدرته ووجوب وحدانيته. {غلبت الروم} وهم أهل كتاب، غلبتهم فارس وليسوا أهل كتاب بل يعبدون الأوثان. {في أدنى الأرض} أي: أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة، التقى فيها الجيشان والبادي بالغزو الفرس {وهم} أي: الروم {من بعد غلبهم} أضيف المصدر إلى المفعول أي: غلبة فارس إياهم {سيغلبون} فارس. {في بضع سنين} وهو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر، فالتقى الجيشان في السنة السابعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 من الالتقاء الأوّل وغلبت الروم فارس، وسبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودّون أن تغلب فارس لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين، والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليه رجلاً يقال له شهريار، وبعث قيصر جيشاً واستعمل عليه رجلاً يدعى بخنس، فالتقى مع شهريار بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم، وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكره أن تظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح كفار مكة وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ولنظهرن عليكم فنزلت هذه الآية. فخرج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله لتظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له أبيّ بن خلف الجمحي: كذبت يا أبا فضيل فقال أبو بكر: أنت أكذب يا عدوّ الله فقال: اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه ـ والمناحبة المراهنة ـ فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما فإن ظهرت الروم على فارس غرمتَ وإن ظهرت فارس غرمتُ وجعلا الأجل ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبياً فقال: لعلك ندمت قال: لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. وقيل: إلى سبع سنين قال: قد فعلت، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أُحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال: والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبيّ بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بارزه، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم، وقيل كان يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تصدّق به، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة وأنّ القرآن من عند الله لأنه أنبأ عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. فإن قيل: كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ أجيب: بأن قتادة رحمه الله تعالى قال: كان ذلك قبل تحريم القمار، وقال الزمخشري: ومذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر رضي الله عنه بينه وبين أبي بن خلف. ولما كان تغلب ملك على ملك من الأمور الهائلة وكان الإخبار به قبل كونه أهول ذكر علة ذلك بقوله تعالى: {لله} أي: وحده {الأمر من قبل} أي: قبل جولة فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس {ومن بعد} أي: بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم، ولما أخبر تعالى بهذه المعجزة أخبر بمعجزة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 أخرى بقوله تعالى: {ويومئذ} أي: تغلب الروم على فارس {يفرح المؤمنون} أي: العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم {بنصر الله} أي: الذي لا رادّ لأمره للروم على فارس، وقد فرحوا بذلك وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبريل عليه السلام بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه، قال السدي: فرح النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك، وعن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر وفي هذا اليوم نصر المؤمنون. {ينصرُ من يشاء} من ضعيف وقوي لأنه لا مانع له ولا يسأل عما يفعل، فالغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يزيد ثواب المؤمن فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم المعاد {وهو العزيز} فلا يعز من عادى ولا يذل من والى، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بالضم، ولما كان السياق لبشارة المؤمنين قال {الرحيم} فيخصهم بالأعمال الزكية والأخلاق المرضية. {وعد الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال، مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي: وعدهم الله ذلك وعداً بظهور الروم على فارس {لا يخلف الله} أي: الذي له الأمر كله {وعده} به، وهذا مقرّر لمعنى هذا المصدر، ويجوز أن يكون قوله تعالى: {لا يخلف الله وعده} حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع كأنه قيل: وعد الله وعداً غير مخلف {ولكن أكثر الناس} لجهلهم وعدم تفكرهم {لا يعلمون} ذلك. وقوله تعالى: {يعلمون} بدل من قوله تعالى {لا يعلمون} وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ليعلمه أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يجاوز الدنيا {ظاهراً من الحياة الدنيا} يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً: فظاهرها: ما يعرفه الجهال من أمر معايشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وكيف يبنون ويعرشون، قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه وهو لا يخطئ، وهو لا يحسن يصلي. وأمثال هذا الهم كثير وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع، وأما علم باطنها: وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزوّد منها بالطاعة فهو ممدوح، وفي تنكير الظاهر إشارة إلى أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها {وهم} أي: هؤلاء الموصوفون خاصة {عن الآخرة} أي: التي هي المقصودة بالذات، وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام {هم غافلون} أي: في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا تخطر في خواطرهم. تنبيه: هم الثانية يجوز أن تكون مبتدأً، وغافلون خبره، والجملة خبر هم الأولى، وأن تكون تكريراً للأولى، {وغافلون} خبراً للأولى، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع. {أولم يتفكروا} أي: يجتهدوا في إعمال الفكر، وقوله تعالى {في أنفسهم} يحتمل أن يكون ظرفاً كأنه قيل: أَوَلَمْ يحدثوا الفكر في أنفسهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 أي: في قلوبهم الفارغة من التفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وأن يكون صلة أي: أو لم يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص فكيف بالإله الحق. ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور، وفاوت بينهم في القوى والقدر، وبين أحوالهم في الطول والقصر، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر، ومات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر، لا بدّ في حكمته البالغة من جمعه العدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر، أو شكر أو كفر. ففي ذلك دلالة على وحدانية الله تعالى وعلى الحشر، ثم ذكر تعالى نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم. وعلى التقدير الأوّل يكون المتفكر فيه {ما خلق الله} أي: بعز جلاله وعلوه في كماله {السموات والأرض} على ما هما عليه من النظام المحكم والقانون المتقن، قال البقاعي: وإفراد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعدّدها بخلاف السماء ا. هـ وقد يردّ هذا بقوله تعالى: {خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ} (الطلاق: 120) {وما بينهما} من المعاني التي بها كمال منافعهما {إلا} خلقاً متلبساً {بالحق} أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً لأمر البعث، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقاً لكل ما يخطر بالبال، ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى {وأجل} لا بد أن ينتهي إليه {مسمى} أي: في العلم من الأزل، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث، ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى {وإن كثيراً من الناس} مع ذلك على وضوحه {بلقاء ربهم} أي: الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب {لكافرون} أي: لا يؤمنون بالبعث بعد الموت. فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى ههنا {وإن كثيراً من الناس} وقال من قبل {ولكن أكثر الناس} ؟ أجيب: بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لا بد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل: و {إن كثيراً} وقال قبله: {ولكن أكثر الناس} لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال: {أو لم يسيروا في الأرض} أي: سير اعتبار، وقوله تعالى {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} من الأمم وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم تقريراً لسيرهم في أقطار الأرض، ونظرهم إلى آثار المدمرين كعاد وثمود {كانوا أشدّ منهم} أي: العرب {قوّة} أي: في أبدانهم وعقولهم {وأثاروا الأرض} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 حرثوها وقلبوها للزرع والغرس والمعادن والمياه وغير ذلك {وعمروها} أي: أولئك السالفون {أكثر مما عمروها} أي: هؤلاء الذين أرسلت إليهم بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر، فإن بلاد العرب إنما هي في جبال سود، وفياف غبر، فما هو إلا تهكم بهم وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها {وجاءتهم رسلهم بالبينات} أي: بالحجج الظاهرات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة وأمورنا الخارقة كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار: «بأن العير تقدِم في يوم كذا يقدُمها جمل صفته كذا وغرائره كذا فظهر كذلك» وما آمنتم به كما لم يؤمن من كان أشدّ منكم قوّة {فما} أي: تسبب أنه ما {كان الله} أي: على مالهم من أوصاف الكمال مريداً {ليظلمهم} بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات {ولكن كانوا} بغاية جهدهم {أنفسهم} أي: خاصة {يظلمون} أي: يجدّدون الظلم لها بإيقاع الضر موقع مجلب النفع. {ثم كان عاقبة} أي: آخر أمر {الذين أساؤا} وقوله تعالى {السوأى} تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم إن عاقبتهم السوأى، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أي: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنها اسم كان والسوأى خبرها، والباقون بالنصب على أنها خبر كان. وقيل: السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، وإساءتهم {أن} أي: بأن {كذبوا بآيات الله} أي: القرآن. وقيل: تفسير السوأى ما بعده وهو قوله تعالى {أن كذبوا} أي: ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب، حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله {وكانوا بها} مع كونها أبعد شيء عن الهزء {يستهزئون} أي: يستمرون على ذلك بتحديده في كل حين. ولما كان حاصل ما مضى أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء صرح بذلك في قوله تعالى: {الله} أي: المحيط علماً وقدرة {يبدأ الخلق} أي: بدأ منه ما رأيتم وهو يجدد في كل وقت ما يريد من ذلك كما تشاهدون {ثم يعيده} أي: خلقهم بعد موتهم أحياء، ولم يقل يعيدهم لرده إلى الخلق {ثم إليه ترجعون} للجزاء فيجزيهم بأعمالهم، وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة على النسق الماضي والباقون بالتاء على الخطاب أي: إليه ترجعون معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها للأسباب، وحساً بعد قيام الساعة، وهي أبلغ من القراءة الأولى؛ لأنها أنص على المقصود، ولما ذكر الرجوع أتبعه ببعض أحواله بقوله تعالى: {يوم تقوم الساعة} سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما هم فيه من العظماء والكبراء والرؤساء {يبلس المجرمون} أي: يسكت المشركون لانقطاع حجتهم، فالإبلاس أن يبقى يائساً ساكتاً متحيراً. يقال: ناظرته فأبلس. ومنه الناقة المبلاس أي: التي لا ترغو، وقال مجاهد: مفتضحون، وقال قتادة: المعنى: ييأس المشركون من كل خير، ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره نفي ذلك بقوله تعالى محققاً له بجعله ماضياً. {ولم يكن} ومعناه لا يكون {لهم من شركائهم} أي: ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام {شفعواء} ينقذونهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 مما هم فيه ليتبين لهم غلطهم وجهلهم المفرط في قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ولما ذكر تعالى حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله تعالى: {وكانوا بشركائهم} أي: خاصة {كافرين} أي: متبرئين منهم بأنهم ليسوا بآلهة، وقيل: كانوا في الدنيا كافرين بسببهم، وكتب شفعاء في المصحف بواو قبل الألف كما كتب علماء بني إسرائيل، وكذلك كتب السوأى بألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها. {ويوم تقوم الساعة} أي: ويا له من يوم، وزاد في تهويله بقوله تعالى: {يومئذٍ يتفرّقون} أي: المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها، هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين كما قال عز من قائل. {فأمّا الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان بأنفسهم {وعملوا} تصديقاً لإقرارهم {الصالحات فهم} أي: خاصة {في روضة} وهي أرض عظيمة جداً منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهيج. هذا أصلها في اللغة، قال الطبري: ولا نجد أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض اه والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب: كل أرض ذات نبات وماء. ومن أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون بيضة النعامة {يحبرون} قال أبو بكر بن عياش: التيجان على رؤوسهم، وقال أبو عبيدة: يسرون أي: على سبيل التجدد كل وقت سروراً تشرق له الوجوه وتبسم الأفواه وتزهر العيون فيظهر حسنها وبهجتها، فتظهر النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها، وقال ابن عباس: يكرمون، وقال قتادة: ينعمون، وقال الأوزاعي عن يحيى بن كثير: يحبرون هو السماع في الجنة، وقال الأوزاعي: إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت، وقال: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم أعرابيّ قال يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال: «نعم يا أعرابي إنّ في الجنة نهراً حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» قال الدارمي: فسألت أبا الدرداء بم يتغنين قال: بالتسبيح وروي أن في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً» . {وأما الذين كفروا} أي: غطوا ما كشفته أنوار العقول {وكذبوا} عناداً {بآياتنا} التي لا أصدق منها ولا أضوأ من أنوارها بما لها من عظمتنا وهو القرآن {ولقاء الآخرة} أي: بالبعث وغيره {فأولئك} أي: البغضاء البعداء {في العذاب} الكامل لا غيره {محضرون} أي: مدخلون لا يغيبون عنه. {فسبحان الله} أي: سبحوا الله تعالى بمعنى صلوا {حين تمسون} أي: حين تدخلون في المساء وفيه صلاتان: المغرب والعشاء {وحين تصبحون} أي: تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح. وقوله تعالى. {وله الحمد في السموات والأرض} اعتراض ومعناه: يحمده أهلهما. وقوله تعالى {وعشياً} عطف على حين وفيه صلاة العصر {وحين تظهرون} أي: تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر، قال نافع بن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في مواقيتها في القرآن؟ فقرأ هاتين الآيتين وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 جمعت الآيتان الصلوات الخمس ومواقيتها، وإنما خص هذه الأوقات مع أن أفضل الأعمال أدومها؛ لأنّ الإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك، فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أوّل النهار ووسطه وآخره وفي أوّل الليل ووسطه فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين، وكذلك باقي الركعات وهن سبع عشرة مع ركعتي الفجر، فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار، بقي عليه سبع ساعات من جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم، والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته بالتسبيح في العبادة، أو بمعنى: نزهوه من السوء بالثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعم الله تعالى الظاهرة. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر،» وعنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال وزاد عليه» وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» وعن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أنه خرج ذات غداة من عندها وكان اسمها برّة فحوّله رسول الله صلى الله عليه وسلم فسماها جويرية فكره أن يقال خرج من عند برّة، فخرج وهي في مسجدها أي: مصلاها، فرجع بعد ما تعالى النهار فقال: «مازلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزن بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» . وعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيعجز أحدكم أن يكتسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكتسب كل يوم ألف حسنة قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة» وفي غير رواية مسلم ويحط بغير ألف، ولما كان الإنسان عند الإصباح يخرج من سنة النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم أتبعه الأحياء والإماتة حقيقة بقوله تعالى: {يخرج الحيّ} كالإنسان والطائر {من الميت} كالنطفة والبيضة {ويخرج الميت} كالبيضة والنطفة {من الحيّ} على عكس ذلك، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس، وقيل: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن {ويحيي الأرض} أي: بالمطر وإخراج النبات {بعد موتها} أي: يبسها {وكذلك} أي: ومثل هذا الإخراج {تخرجون} بأيسر أمر من الأرض بعد تفرّق أجسامكم فيها أحياء للبعث والحساب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي الميت بكسر الياء المشددة، والباقون بالسكون، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بفتح التاء قبل الخاء وضم الراء على البناء للفاعل، والباقون بضمّ التاء وفتح الراء على البناء للمفعول. {ومن آياته} أي: ومن جملة علامات توحيده وكمال قدرته {أن خلقكم} أي: أصلكم وهو آدم عليه السلام {من تراب} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 لم يكن له أصلاً اتصاف ما بحياة، أو أنه خلقكم من نطفة، والنطفة من الغذاء، والغداء إنما يتولد من الماء والتراب {ثم} أي: بعد إخراجكم منه {إذا أنتم بشر تنتشرون} في الأرض كقوله تعالى {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} (النساء: 1) تنبيه: الترتيب والمهلة ههنا ظاهران، فإنهم يصيرون بشراً بعد أطوار كثيرة، وتنتشرون حال. وإذا هي الفجائية إلا أنّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء؛ لأنها تقتضي التعقيب. ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي: بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في موضع آخر من كونها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مجرداً ثم عظماً مكسواً لحماً فاجأ البشرية والانتشار. {ومن آياته} أي: على ذلك {أن خلق لكم} أي: لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد وفي تقديم الجار وهو قوله تعالى {من أنفسكم} أي: جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام {أزواجا} إناثاً هن شفع لكم دلالة ظاهرة على حرمة التزّوج من غير الجنس كالجن، قال البقاعي: والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل أي: فخلق حواء من ضلع آدم {لتسكنوا} مائلين {إليها} بالشهوة والألفة من قولهم: سكن إليه إذا مال وانقطع واطمأن إليه، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها، قال ابن عادل: والصحيح أنّ المراد من جنسكم كما قال تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: 128) ويدل عليه قوله تعالى {لتسكنوا إليها} يعني أنّ الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي: لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه. ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الإلفة قال تعالى {وجعل} أي: صير بسبب الخلق على هذه الصفة {بينكم مودة} أي: معنى من المعاني يوجب أن لا يحب أحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه {ورحمة} أي: معنى يحمل كُلاّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ودفع الضر، وقيل: المودّة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد تمسكاً بقوله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} (مريم، 2) وقوله تعالى: {ورحمة منا} (مريم، 1،) {إن في ذلك} أي: الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع {لآيات} أي: دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته {لقوم يتفكرون} أي: يستعملون أفكارهم على القوانين المحرّرة ويجتهدون في ذلك فيعلمون ما في ذلك من الحكم، ولما بين تعالى دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق بقوله تعالى: {ومن آياته} أي: الدالة على ذلك {خلق السموات} على علوها وإحكامها {والأرض} على اتساعها وإتقانها، وقدّم السماء على الأرض لأنّ السماء كالذكر لها، ولما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بقوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم} أي: لغاتكم من العربية والعجمية وغيرهما، ونغماتكم وهيآتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ولا شدّة ولا رخاوة ولا لكنة ولا فصاحة ولا غير ذلك من صفات النطق وأشكاله وأنتم من نفس واحدة {و} اختلاف {ألوانكم} من أبيض وأسود وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد وهو آدم عليه السلام، والحكمة في ذلك: أنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور، وقد يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 بالسمع فخلق اختلاف الأصوات، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز بين كل واحد بشكله وحليته وصورته، ولو اتفقت الصور والأصوات وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية فيروك الخطأ في التمييز بينهما، فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وتفرعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله تعالى مختلفون متفاوتون، ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه {لآيات} أي: دلالات واضحات جداً على وحدانيته تعالى {للعالمين} أي: ذوي العقول والعلم لا يختص به صنف منهم دون صنف من جنّ ولا أنس ولا غيرهم، فهذا هو حكمة قوله تعالى هنا للعالمين وفيما تقدّم بقوله تعالى: {لقوم يتفكرون} ، (يونس: 24) وقرأ حفص وحده بكسر اللام، ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلباً للرزق كما قال تعالى: {ومن آياته} الدالة على القدرة والعلم {منامكم} أي: نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً {بالليل والنهار} قيلولة {وابتغاؤكم من فضله} أي: منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيراً ما يكسب الإنسان بالليل، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعاراً بأنّ كلاًّ من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى {وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً} (النبأ: 10 ـ 11) وقوله تعالى: {وجعلنا آية النهار مبصرة} (الإسراء: 12) ويكون التقدير هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله. وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه. ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى {فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة: 10) وقوله تعالى {ولتبتغوا من فضله} تنبيه: قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل {لآيات} عديدة على القدرة والعلم لا سيما البعث {لقوم يسمعون} أي: من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة. تنبيه: قال هنا {آيات لقوم يسمعون} وقال تعالى من قبل {لقوم يتفكرون} وقال تعالى {للعالمين} لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى، فلم يقل آيات للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة، فالنظر إليهما لا يدوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه، وأما قوله تعالى {لقوم يتفكرون} فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال {لقوم يسمعون} ويجعلون بالهم من كلام المرشد، ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظيم قدرته {يريكم البرق} أي: إراءتكم له على هيئآت وكيفيات طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى {خوفاً} أي: للإخافة من الصواعق المحرقة {وطمعاً} أي: وللإطماع في المياه العذبة {وينزل من السماء ماء} أي: الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {فيحيي به} أي: بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره {الأرض} أي: بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان {بعد موتها} أي: يبسها {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم العالي القدر {لآيات} لا سيما على القدرة على البعث {لقوم يعقلون} أي: يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع. تنبيه: كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب. واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا {آيات لقوم يعقلون} وفيما تقدم {لقوم يتفكرون} ؟ أجيب: بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة، وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قوياً وتارة يكون ضعيفاً، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً، ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى: {ومن آياته} أي: على تمام القدرة وكمال الحكمة {أن تقوم السماء والأرض بأمره} قال ابن مسعود، قامتا على غير عمد بأمره أي: بإرادته، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم، فإنّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس. تنبيه: ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى {خلقكم} {وخلق لكم} واستدل بخلق الزوجين، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى {خلق السموات والأرض} (الروم: 22) ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام {بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة: 260) فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى هنا {ومن آياته أن تقوم} (الروم: 25) وقال تعالى قبله {ومن آياته يريكم البرق} (الروم: 24) ولم يقل أن يريكم ليصير كالمصدر بأن؟ أجيب: بأنّ القيام لما كان غير معتبر أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية، فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر ست دلائل وذكر في أربع منها {إنّ في ذلك لآيات} (يونس: 67) ولم يذكر في الأوّل وهو قوله تعالى {ومن آياته أن خلقكم من تراب} ولا في الآخر وهو قوله {من آياته أن تقوم السماء والأرض} (الروم: 25) أجيب: عن ذلك: أما عن الأوّل فلأنّ قوله بعده {ومن آياته أن خلق لكم} (الروم: 21) أيضاً دليل الأنفس فخلق الأنفس، وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدّم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد، فلما قال في الثانية إنّ في ذلك لآيات كان عائداً إليهما، وأمّا في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهورها، فلما كان في أوّل الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الأدلة يكون أظهر فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر، ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة بقوله تعالى: {ثم إذا دعاكم} وأشار إلى هوان ذلك القول عنده بقوله عز وجل {دعوة} أي: واحدة {من الأرض} بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور فيها فيقول: أيها الموتى اخرجوا {إذا أنتم تخرجون} أي: منها أحياء بعد اضمحلالكم بالموت والبلا فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال تعالى {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر: 68) فإن قيل: بم يتعلق من الأرض بالفعل أم بالمصدر؟ أجيب: بهيهات إذا جاء نهر الله وهو الفعل بطل نهر معقل وهو المصدر، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه. فإن قيل: ما الفرق بين إذا وإذا؟ أجيب: بأنّ الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط، ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى. تنبيه: قال ههنا: إذا أنتم تخرجون وقال تعالى في خلق الإنسان أوّلاً ثم إذا أنتم بشر، تنتشرون لأنّ هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأمّا في الإعادة فلا يكون تدريج وتراخ بل يكون بدء خروج فلم يقل ههنا ثم، ولما ذكر تعالى الآيات التي تدلّ على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأوّل أشار إليهما بقوله تعالى: u {وله من في السموات والأرض} ملكاً وخلقاً {كل له قانتون} قال ابن عباس: كل له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة، وقال الكلبي: هذا خاص بمن كان منهم مطيعاً، ونفس السموات والأرضين له وملكه فكل له منقادون، فلا شريك له أصلاً ثم ذكر المدلول الآخر بقوله تعالى: {وهو الذي يبدؤ الخلق} أي: على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال {ثم يعيده} أي: بعد الموت للبعث. وفي قوله تعالى {وهو أهون عليه} قولان أحدهما: أنها للتفضيل على بابها، وعلى هذا يقال: كيف يتصوّر التفضيل والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حدّ سواء؟ وفي ذلك أجوبة أحدها: إنّ ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أنّ إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانه وتعالى، فخوطبوا بحسب ما ألفوه. ثانيها: أنّ الضمير في عليه ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي: والعود أهون على الخلق أي: أسرع؛ لأنّ البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنساناً، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل: وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالاً، والمعنى: يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم يعني: أن يقوموا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساء، وهي رواية الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس. ثالثها: أنّ الضمير في عليه يعود على المخلوق بمعنى: والإعادة أهون على المخلوق أي: إعادته شيئاً بعدما أنشأه، هذا في عرف المخلوقين فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى والثاني: أنّ أهون ليس للتفضيل بل هي صيغة بمعنى هين كقولهم: الله أكبر أي: كبير، وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس، وقد يجئ أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق: *إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول* أي: عزيزة طويلة وعود الضمير على الباري تعالى أولى ليوافق الضمير في قوله تعالى {وله المثل} أي: الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامّة والحكمة الشاملة. قال ابن عباس: هو أنه ليس كمثله شيء، وقال قتادة: هو أنه لا إله إلا هو، قال البيضاوي: ومن فسره بلا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية {الأعلى} أي: الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه، ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال {في السموات والأرض} أي: اللتين خلقهما ولم يستعصيا عليه فكيف يستعصي عليه شيء فيهما {وهو} أي: وحده {العزيز} أي: الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان {الحكيم} أي: الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره إلى التوصل إلى بعض شيء منه، ولا تتمّ حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث بل هي الحكمة العظمى ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير. ولما أبان من هذا أنه تعالى المنفرد بالملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله تعالى: {ضرب} أي: جعل {لكم} بحكمته أيها المشركون في أمر الأصنام وبيان الإبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير {مثلاً} مبتدأ {من أنفسكم} التي هي أقرب الأشياء إليكم، ثم بين المثل بقوله تعالى: {هل لكم} أي: يا من عبدوا مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 الله غيره {مما} أي: من بعض ما {ملكت أيمانكم} أي: من العبيد والإماء الذين هم بشر مثلكم وعمم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله تعالى: {من شركاء} أي: في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء {في ما رزقناكم} من الأموال وغيرها مع ضعف ملككم فيه فائدة {في} مقطوعة عن {ما} {فأنتم} أي: يا معاشر الأحرار والعبيد {فيه} أي: الشيء الذي وقعت فيه الشركة {سواء} فيكون أنتم وهم شركاء يتصرّفون فيه كتصرّفكم مع أنهم بشر مثلكم. فإن قيل: أيُّ: فرق بين مِنْ الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى من أنفسكم؟ أجيب: بأن الأولى: للابتداء كأنه قال: أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي من أنفسكم ولم يبعد، والثانية: للتبعيض، والثالثة: مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي، ثم بين المساواة بقوله تعالى: {تخافونهم} أي: معاشر السادة في التصرّف في ذلك الشيء المشترك {كخيفتكم أنفسكم} أي: كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم في الحرية والعظمة أن تتصرّفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه، وظهر أنّ حالكم في عبيدكم مثل له فيما أشركتموهم به موضح لبطلانه، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن تستوي عبيدكم معكم في الملك فكيف ترضونه لخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوّونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون {كذلك} أي: مثل هذا التفصيل العالي {نفصل الآيات} أي: نبينها، فإنّ التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها {لقوم يعقلون} أي: يتدبرون هذه الدلائل بعقولهم، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا عقل له. {بل اتبع الذين ظلموا} أي: أشركوا فإنهم وضعوا الشيء في غير موضعه. فعل الماشي في الظلام {أهواءهم} وهي ما تميل إليه نفوسهم {بغير علم} أي: جاهلين لا يكفهم، شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه، ثم بين تعالى أنّ ذلك بإرادته بقوله تعالى: {فمن يهدي من أضل الله} أي: الذي له الأمر كله أي: لا يقدر أحد على هدايته {وما لهم من ناصرين} أي: مانعين يمنعونهم من عذاب الله لا من الأصنام ولا من غيرها، ولما تحرّرت الأدلة وانتصبت الأعلام أقبل تعالى على خلاصة خلقه إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره بقوله سبحانه. {فأقم وجهك} أي: قصدك كله {للدين} أي: أخلص دينك لله قاله سعيد بن جبير، وقال غيره: سدّد عملك، والوجه ما يتوجه إليه، وقيل: أقبل بكلك على الدين، عبر بالوجه عن الذات كقوله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص: 88) أي: ذاته بصفاته. وقوله تعالى {حنيفاً} حال من فاعل أقم أو مفعوله أو من الدين، ومعنى حنيفاً أي: مائلاً إليه مستقيماً عليه ومل عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر، وهذا قريب من معنى قوله تعالى {ولا تكوننّ من المشركين} وقوله تعالى {فطرت الله} أي: خلقته منصوب على الإغراء أو المصدر بما دلّ عليه ما بعدها وهي بتاء مجرورة، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {التي فطر الناس} قال ابن عباس: خلق الناس {عليها} وهو دينه وهو التوحيد. قال صلى الله عليه وسلم «ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» فقوله على الفطرة على العهد الذي أخذه عليهم بقوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: 172) وكل مولود في العالم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها، وإن عبد غيره قال الله تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (لقمان: 25) وقال {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعيّ المأمور به، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين، وقيل: الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله تعالى على الإسلام، روي عن عبد الله بن المبارك قال: معنى الحديث: أن كل مولود يولد على فطرته أي: على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاء، وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها، فمن علامات الشقاوة أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما، وقيل: معنى الحديث: أنّ كل مولود يولد في مبدأ الفطرة على الخلقة أي: الجبلة السليمة والطبع المتهيء لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرّ على لزومها؛ لأنّ هذا الدين موجود حُسنه في العقول وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النشوء والتقليد، فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطابي في كتابه، ولما كانت سلامة الفطرة أمراً مستمرّاً قال تعالى: {لا تبديل لخلق الله} أي: الملك الأعلى الذي لا كفء له فلا يقدر أحد أن يغيره، فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه: لا تبديل لدين الله، فهو خبر بمعنى النهي أي: لا تبدّلوا دين الله. قاله مجاهد وإبراهيم. والمعنى: إلزموا فطرة الله أي: دين الله واتبعوه ولا تبدّلوا التوحيد بالشرك، ومن حملها على الخلقة قال: معناه لا تبديل لخلق الله أي: ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً، وقال عكرمة: معناه تحريم إخصاء البهائم أي: في غير المأكول وفي المأكول الكبير، أمّا المأكول الصغير فإنه يجوز، ويلحق بالخصي المحرّم كل تغيير محرّم كالوشم {ذلك} أي: الشأن العظيم {الدين القيم} أي: المستقيم الذي لا عوج فيه توحيد الله تعالى {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن ذلك هو الدين المستقيم لعدم تدبرهم. وقوله تعالى: {منيبين} أي: راجعين {إليه} تعالى فيما أمر به ونهى عنه حال من فاعل أقم، قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم وحدّ الخطاب أوّلاً ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّلاً، وخطاب الرسول خطاب لأمّته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص {واتقوه} أي: خافوه فإنكم وإن عبدتموه فلا تأمنوا أن تزيغوا عن سبيله {وأقيموا الصلاة} أي: داوموا عليها وعلى أدائها في أوقاتها {ولا تكونوا من المشركين} أي: لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددةٍ أو معاشرةٍ أو عملٍ تشابهونهم فيه، فإنه من تشبه بقوم فهو منهم، وهو عامّ في كل مشرك سواء كان بعبادة صنمٍ أونارٍ أو غير ذلك. وقوله تعالى. {من الذين} بدل من المشركين بإعادة الجار {فرّقوا دينهم} أي: الذي هو الفطرة الأولى، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين مَن سواهم وهو معنى {وكانوا شيعاً} أي: فرقاً متخالفين كل واحدة منهم تتشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفّر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق، وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الفاء وتخفيف الراء، والباقون بغير ألف وتشديد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 الراء، فعلى القراءة الأولى فارقوا أي: تركوا دينهم الذي أمروا به. ولما كان هذا أمر يتعجب من وقوعه زاده عجباً بقوله تعالى: استئنافاً {كل حزب} أي: منهم {بما لديهم} أي: عندهم {فرحون} أي: مسرورون ظناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم، ولما بين تعالى التوحيد بالدليل وبالمثل بين أنّ لهم حالة يعترفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدّة بقوله تعالى: أي: قحط وشدّة {دعوا ربهم} أي: الذي لم يشركه في الإحسان إليهم أحد {منيبين} أي: راجعين من جميع ضلالاتهم {إليه} أي: دون غيره علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره، قال الرازي: في اللوامع في أواخر العنكبوت: وهذا دليل على أنّ معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السرّاء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضرّاء {ثم إذا أذاقهم منه رحمة} أي: خلاصاً من ذلك الضرّ {إذا فريق منهم بربهم} أي: المحسن إليهم دائماً المجدّد لهم هذا الإحسان من هذا الضر {يشركون} أي: فاجأ فريق منهم الإشراك بربهم الذي عافاهم، فإذا الفجائية وقعت جواب الشرط؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب، ولا تقع أوّل كلام، وقد تجامعها الفاء زائدة، فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا إذا فريق منهم وقال في العنكبوت {فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} (العنكبوت: 65) ولم يقل فريق؟ أجيب: بأنّ المذكور هناك غير معين وهو ما يكون من هول البحر، والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة مَنْ خرج من الشرك، وأمّا المذكور ههنا الضرّ مطلقاً فيتناول ضرَ البحر والأمراض والأهوال، والمتخلص من أنواع الضرّ خلق كثير بل جميع الناس قد يكونون قد وقعوا في ضرّ ما فتخلصوا منه، والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهم خلق عظيم وهو جميع المسلمين، فإنهم تخلصوا من ضرّ ولم يبقوا مشركين، وأمّا المسلمون فلم يتخلصوا من ضرّ البحر بأجمعهم، فلما كان الناجي من الضرّ المؤمن جمعاً كثيراً سُمّي الباقي فريقاً. وقوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} يجوز أن تكون اللام فيه لام كي وأن تكون لام الأمر، ومعناه التهديد كقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد بقوله تعالى: {فتمتعوا فسوف تعلمون} عاقبة تمتعكم في الآخرة وفي هذا التفات من الغيبة. {أم أنزلنا عليهم سلطاناً} أي: دليلاً واضحاً قاهراً أو ذا سلطان أي: ملك معه برهان، فقوله تعالى {فهو يتكلم} على الأوّل كلاماً مجازياً وعلى الثاني كلاماً حقيقياً، وعلى كلا الحالين هو جواب للاستفهام الذي تضمنته أم المنقطعة {بما} أي: بصحة ما {كانوا به يشركون} أي: فيأمرهم بالإشراك بحيث لا يجدوا بداً من متابعته لتزول عنهم الملامة، وهذا الاستفهام بمعنى الإنكار أي: ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً، قال ابن عباس: حجة وعذراً، وقال قتادة: كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون أي: ينطق بشركهم، ولما بين تعالى حال المشرك الظاهر شركه بيّن تعالى حال المشرك الذي دونه وهو مَنْ تكون عبادته للدنيا بقوله تعالى: {وإذا} معبراً بأداء التحقيق إشارة إلى أنّ الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال {أذقنا الناس رحمة} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 أي: نعمة من خصب وكثرة مطر وغنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا {فرحوا بها} أي: فرح بطر مطمئنين من زوالها ناسين شكر من أنعم بها، ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك. فإن قيل: الفرح بالرحمة مأمور به قال تعالى: {بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} (يونس، 58) وههنا ذمّهم على الفرح بالرحمة؟ أجيب: بأنه هناك فرحوا برحمة الله من حيث أنها مضافة إلى الله وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم إذا كان من الله تعالى {وإن تصبهم سيئة} أي: شدّة من جدب وقلة مطر وفقر ونحوه {بما قدّمت أيديهم} من السيئات {إذا هم يقنطون} أي: ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشكرونه عند النعمة ويرجونه عند الشدّة، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون بعد القاف، والباقون بالفتح. {أو لم يروا} أي: يعلموا {أن الله يبسط الرزق} أي: يوسعه {لمن يشاء} امتحاناً {ويقدر} أي: يضيق لمن يشاء ابتلاء، وهذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا بل كان حالهم الصبر في البلاء، والشكر في الرخاء، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء، ولما لم تغن عن أحد منهم في استجلاب الرزق قوّته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله، ولا ضرّه ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدّة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً قال بعضهم: *كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا* أشار سبحانه إلى عظمته بقوله مؤكداً لأنّ عملهم في شدّة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل مَنْ يظنّ أنّ تحصيله إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرّر المشاهد للزوال في النفس والغير واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار آلائه {لآيات} أي: دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى وتمام العلم وكمال القدرة وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن {لقوم} أي: ذوي همم وكفاية القيام بما يحق لهم أن يقوموا به {يؤمنون} أي: يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة بإدامة التأمّل والإمعان والتفكر والاعتماد في الرزق على من قال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر: 17) أي: من طالب علم فيعان عليه، فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر ذلك، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق؛ لأنّ أفضل العبادة انتظار الفرج بل همهم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها، ومعرضون عما سوى ذلك قد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه وهو القدير العليم، ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأنّ الاكتراث بها لا يزيدها، والتهاون بها لا ينقصها قال تعالى مخاطباً لأعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره: {فآت} يا خير الخلق {ذا القربى} أي: القرابة {حقه} أي: من البرّ والصلة؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 لأنه أحق الناس بالبر وصلة الرحم جوداً وكرماً {والمسكين} سواء كان ذا قرابة أم لا {وابن السبيل} وهو المسافر كذلك من الصدقة، وأمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم تبع له في ذلك. تنبيه: عدم ذكر بقية الأصناف يدلّ على أنّ ذلك في صدقة التطوّع، ودخل الفقير من باب أولى لأنه أسوأ حالاً من المسكين، فإن قيل: كيف تعلق قوله تعالى {فآت ذا القربى حقه} بما قبله حتى جيء بالفاء؟ أجيب: بأنه لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك، وقد احتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب، وعند الشافعي رضي الله عنه لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين. قاس سائر القرابة على ابن العمّ؛ لأنه لا ولادة بينهم، ولما أمر بالإيثار رغب فيه بقوله تعالى: {ذلك} أي: الإيثار العالي الرتبة {خير للذين يريدون وجه الله} أي: ذاته أو جهته وجانبه أي: يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً لوجهه كقوله تعالى {إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى} أي: يقصدون جهة التقرّب إلى الله تعالى لا جهة أخرى، والمعنيان متقاربان ولكن الطريقة مختلفة {وأولئك} أي: العالو الرتبة لغناهم عن كل فان {هم المفلحون} أي: الفائزون الذين لا يشوب فلاحهم شيء، وأمّا غيرهم فخائب: أمّا من لم ينفق فواضح، وأما من أنفق على وجه الرياء فقد خسر ماله وأبقى عليه وباله كما قال تعالى: {وما آتيتم من ربوا} أي: مال على وجه الربا المحرّم بزيادة في المعاملة أو المكروه بعطية يتوقع بها مزيد مكافأة، وكان هذا مما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {ولا تمنن تستكثر} (المدير: 6) أي: لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيته تشريفاً له، وكره لعامّة الناس فسمي باسم المطلوب من الزيادة في المعاملة فالربا ربوان: فالحرام: كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه أو يجرّ منفعة، والذي ليس بحرام أن يستدعي بهديته أو بهبته أكثر منها، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا، والباقون بمدّها {ليربو} أي: يزيد ويكثر ذلك {في أموال الناس} أي: يحصل فيه زيادة تكون أموال الناس ظرفاً لها فهو كناية عن أنّ الزيادة التي يأخذها المرابي من أموالهم لا يملكها أصلاً، وقرأ نافع بتاء الخطاب بعد اللام مضمومة وسكون الواو، والباقون بالياء التحتية مفتوحة وفتح الواو {فلا يربو} أي: يزكو وينمو فلا ثواب فيه {عند الله} أي: الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وصفات الكمال، وكل ما لا يربو عند الله فهو ممحوق لا وجود له فمآله إلى فناء وإن كثر {يمحق الله الربوا ويربى الصدقات} (البقرة: 276) ولما ذكر ما زيادته نقص أتبعه ما نقصه زيادة بقوله {وما آتيتم} أي: أعطيتم {من زكاة} أي: صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة أي: تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من موادّ الخبث، وأخلاقكم من الغلّ والدنس، ولما كان الإخلاص عزيزاً أشار إلى عظمته بتكريره بقوله عز وجل {تريدون} أي: بها {وجه الله} أي: عظمة الملك الأعلى، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم كل ما سواه فيخلصون له {فأولئك هم المضعفون} أي: ذوو الإضعاف الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك بالحفظ والبركة، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشر أمثال إلى ما لا حصر له. ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوّة واليسار، ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فيما يزيده الله ولا تخير إلا فيما يختاره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الله بين تعالى ذلك بطريق لا أوضح منه بقوله تعالى: {الله} أي: بعظيم جلاله لا غيره {الذي خلقكم} أي: أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً {ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم} أي: ممن أشركتم بالله {من يفعل من ذلكم} مشيراً إلى علوّ رتبته بأداة البعد وخطاب الكل، ولما كان الاستفهام الإنكاريّ التوبيخي في معنى النفي قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قلّ جدّاً: {من شيء} أي: يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه، ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا: لا وعزتك ما لهم ولا لأحد منهم فعل شيء من ذلك، قال تعالى معرضاً عنهم منزهاً لنفسه الشريفة: {سبحانه} أي: تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك {وتعالى} أي: علوّاً لا تصل إليه العقول {عما يشركون} في أن يفعلوا شيئاً من ذلك. تنبيه: يجوز في خبر الجلالة الكريمة وجهان: أظهرهما: أنه الموصول بعدها، والثاني: أنه الجملة من قوله تعالى {هل من شركائكم} والموصول صفة والراجع من ذلكم لأنه بمعنى من أفعاله، ومن الأولى والثانية يفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال، والثالثة مزيدة لتعميم النفي، فكل منهما مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب، والباقون بالياء التحتية، ولما بين لهم تعالى من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا فلم يفعلوا أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا استعظاماً للتوبة بقوله تعالى: {ظهر الفساد} أي: النقص في جميع ما ينفع الخلق {في البر} بالقحط والخوف وقلة المطر ونحو ذلك {والبحر} بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه. وقلة المطر كما تؤثر في البرّ تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف من اللؤلؤ، وذلك لأنّ الصدف إذا جاء المطر يرتفع على وجه الماء وينفتح فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤاً وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دوابّ البحر، وقيل: المراد بالبرّ البوادي والمفاوز، وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية، قال عكرمة: العرب تسمي المطر بحراً تقول: أجدب البرّ وانقطعت مادّة البحر، ثم بين سببه بقوله تعالى: {بما كسبت أيدي الناس} أي: بسبب شؤم ذنوبهم ومعاصيهم كقوله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى: 30) قال ابن عباس: الفساد في البرّ قتل أحد بني آدم أخاه، وفي البحر غصب الملك الجبار السفينة، قال الضحاك: كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة، وكان ماء البحر عذباً، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرّت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعاقاً، وقصد الحيوانات بعضها بعضا، وقال قتادة: هذا قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم امتلأت الأرض ظلماً، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رجع راجعون من الناس، وقيل: أراد بالناس كفار. مكة ولما ذكر تعالى علية البدائية ثنى بعلية الجزائية بقوله تعالى: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} كرماً وحلماً ويعفو عن كثير إمّا أصلاً ورأساً، وإمّا عن المعاجلة به، ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا أو الآخرة، وقرأ قنبل بالنون بعد اللام، والباقون بالياء التحتية، ثم ثلث بالعلة الغائية بقوله تعالى: {لعلهم يرجعون} أي: عما هم عليه، ولما بين تعالى حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم بقوله تعالى: لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء الذين لا همّ لهم سوى الدنيا {سيروا في الأرض} فإنّ سيركم الماضي لكونه لم تصحبه عبرة عدمٌ {فانظروا} نظرَ اعتبار {كيف كان عاقبة الذين من قبل} أي: من قبل أيامكم لتروا منازلهم ومساكنهم خالية فتعلموا أنّ الله تعالى أذاقهم وبال أمرهم وأوقعهم في حفائر مكرهم {كان أكثرهم مشركين} أي: فلذلك أهلكناهم ولم تغن عنهم كثرتهم وأنجينا المؤمنين وما ضرّتهم قلتهم، ولما نهى الله تعالى الكفار عما هم عليه أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء بقوله تعالى: {فأقم وجهك للدين القيم} أي: المستقيم وهو دين الإسلام {من قبل أن يأتي يوم} أي: عظيم {لا مردّ له} أي: لا يقدر أن يرده أحد. وقوله تعالى {من الله} يجوز أن يتعلق بيأتي أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي: لا يردّه من الله أحد. والمراد به يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله، وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه {يومئذ} أي: إذ يأتي {يصدّعون} أي: يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم أشار إلى التفرّق بقوله تعالى: {من كفر} أي: منهم {فعليه كفره} أي: وبال كفره {ومن عمل صالحاً} أي: بالإيمان وما يترتب عليه {فلأنفسهم يمهدون} أي: يوطئون منازلهم في القبور وفي الجنة بل وفي الدنيا فإن الله تعالى يعزهم بعز طاعته. تنبيه: أظهر قوله تعالى صالحاً ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على من كفر وبشارة بأنّ أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً؛ لأنّ الله تعالى هو مولاهم فهو مزكيهم. وأفرد الشرط وجمع الجزاء في قوله تعالى {فلأنفسهم يمهدون} (الروم: 44) إشارة إلى أنّ الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، وفيه ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد، وبأنه ينفع نفسه وغيره لأنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وأقل ما ينفع والديه وشيخه في ذلك العمل. وقوله تعالى: {ليجزي} أي: الله سبحانه وتعالى الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانه لأنه مع المحسنين، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم بقوله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي: تصديقاً لإيمانهم {من فضله} علة ليمهدون أو ليصدعون، والاقتصار على جزاء الموصوفين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء عن فحوى قوله تعالى {إنه لا يحب الكافرين} فإن فيه إثبات البغض لهم فيعذبهم، والمحبة للمؤمنين فيثيبهم، وتأكيدُ اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل لهم، وقوله تعالى {من فضله} دال على أنّ الإثابة بمحض الفضل. ولما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ويذكر لأضداده سبباً لئلا يتوهم به الظلم قال تعالى: {ومن آياته} أي: دلالاته الواضحة {أن يرسل الرياح مبشرات} أي: بالمطر كما قال تعالى {بشراً بين يدي رحمته} أي: قبل المطر، وقيل: مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح بالإفراد على إرادة الجنس، والباقون بالجمع وهي الجنوب والشمال والصبا؛ لأنها رياح الرحمة، وأمّا الدبور فريح العذاب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقوله تعالى {وليذيقكم} أي: بها {من رحمته} أي: من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم، أو على علة محذوفة دل عليها مبشرات، أو على يرسل بإضمار فعل معلل دل عليه أي: وليذيقكم أرسلها {ولتجري الفلك} أي: السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها، وإنما زاد {بأمره} لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت وأغرقتها {ولتبتغوا} أي: تطلبوا {من فضله} من رزقه بالتجارة في البحر {ولعلكم} أي: ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم {تشكرون} على ما أنعم عليكم من نعمه ودفع عنكم من نقمه. تنبيه: قال تعالى في ظهر الفساد {ليذيقهم بعض الذي عملوا} (الروم: 41) وقال ههنا {وليذيقكم من رحمته} فخاطبهم ههنا تشريفاً ولأنّ رحمته قريب من المحسنين وحينئذ فالمحسن قريب فيخاطب، والمسيء بعيد فلم يخاطب، وقال هناك {بعض الذي عملوا} فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال تعالى: {من رحمته} لأنّ الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول: أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول: هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي. وأيضاً فلو قال: أرسلت لسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال: من رحمته كان غاية البشارة، وأيضاً فلو قال: بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال: بما فعلتم أنبأ عن نقصان عقابهم وهو كذلك وقال هناك {لعلهم يرجعون} وقال هنا: {ولعلكم تشكرون} فالواو إشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم، وعطف على النعم قوله تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من القوة. وقال تعالى {من قبلك رسلاً} تنبيهاً على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه وقال {إلى قومهم} إعلاماً بأنّ أمر الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد {فجاؤهم بالبينات} فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين {فانتقمنا} أي: فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً؛ لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة {من الذين أجرموا} أي: أهلكنا الذين كذبوهم لإجرامهم وهو قطع ما أمرناهم بوصله، ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال تعالى {وكان} أي: على سبيل الثبات والدوام {حقاً علينا} أي: مما أوجبناه بوعدنا الذي لا خلف فيه {نصر المؤمنين} أي: العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، ولم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر فليعتدّ هؤلاء لمثل هذا وليأخذوا لمثل ذلك أهبة لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء، روى الترمذي وحسنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا قوله تعالى {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} قال البقاعي: فالآية من الاحتباك أي: وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء يكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كلٍ على ما حذف من الآخر، فحذف أوّلاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه، ثم نبه تعالى على كمال قدرته فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 الناصر للمؤمنين بقوله تعالى: {الله} أي: وحده {الذي يرسل} مرة بعد أخرى {الرياح} مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة {فتثير سحاباً} أي: تزعجه وتنشره {فيبسطه} بعد اجتماعه {في السماء} أي: جهة العلو {كيف يشاء} في أيّ ناحية شاء قليلاً تارة كمسير ساعة وكثيراً أخرى كمسير أيام على حسب إرادته واختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها {ويجعله} إذا أراد {كسفاً} أي: قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء، وقرأ ابن عامر بسكون السين بخلاف عن هشام، والباقون بفتحها {فترى} بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامّ وفروج يا من هو من أهل الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه {الودق} أي: المطر {يخرج من خلاله} أي: السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال {فإذا أصاب} أي: الله {به} أي: بالودق {من} أي: أرض من {يشاء} ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد شيء أصلاً بقوله تعالى: {من عباده} أي: الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم جديرون بملازمة شكره والخضوع لأمره {إذا هم يستبشرون} أي: يظهر عليهم البشر وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين، ثم بين تعالى عجزهم بقوله تعالى: {وإن} أي: والحال أنهم {كانوا} في الزمن الماضي {من قبل أن ينزل عليهم} أي: المطر، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. وقوله تعالى {من قبله} من باب التكرير والتأكيد كقوله تعالى {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} (الحشر: 17) ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول بعدما استحكم بأسهم. وقوله تعالى {لمبلسين} إشارة إلى أنه تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك، وقبل الأولى ترجع إلى المطر والثانية إلى إنشاء السحاب فلا تأكيد. {فانظر إلى آثار رحمت الله} والرحمة: هي الغيث وأثرها هو النبات، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بألف بعد الثاء المثلثة، والباقون بغير ألف ورسمت رحمت هذه مجرورة، فوقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء {كيف يحيى} أي: الله {الأرض} بإخراج النبات {بعد موتها} أي: يبسها {إن ذلك} أي: القادر العظيم الشأن الذي قدر على إحياء الأرض {لمحيي الموتى} كلها من الحيوانات والنباتات أي: ما زال قادراً على ذلك كما قال تعالى {وهو على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأنّ نسبة القدرة منه سبحانه وتعالى إلى كل ممكن على حد سواء، ولما بين أنهم عند توقف الخير يكونون آيسين وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بقوله تعالى: {ولئن أرسلنا} أي: بعد وجود هذا الأثر الحسن {ريحاً} عقيماً {فرأوه} أي: الأثر لأنّ الرحمة هي الغيث وأثرها هو النبات أو الزرع لدلالة السياق عليه {مصفراً} قد بدل وأخذ في التلف من شدّة يبس الريح إمّا بالحرّ أو البرد، وقيل: رأوا السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب. تنبيه: اللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط. وقوله تعالى {لظلوا} أي: لصاروا {من بعده} أي: اصفراره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 {يكفرون} أي: بيأسهم من روح الله، جواب سدّ مسدّ الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال. تنبيه: سمى النافعة رياحاً والضارّة ريحاً لوجوه: أحدها: أنّ النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها لأن في كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة ولا تهب الريح الضارّة في أعوام بل الضارّة لا تهب في الدهور. ثانيها: أنّ النافعة لا تكون إلا رياحاً وأما الضارة فنفخة واحدة تقبل كريح السموم. ثالثها: جاء في الحديث أنّ ريحاً هبت فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» إشارة إلى قوله تعالى {فأرسلنا عليهم الريح العقيم} (الذاريات: 41) وقوله تعالى {ريحاً صرصراً} إلى قوله {تنزع الناس} (القمر: 19 ـ 20) ولما علم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وجوه الأدلة ووعد وأوعد لم يزدهم دعاؤه إلا فرارا وكفراً وإرصاداً قال تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى} أي: ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم فلا نظر ولا سمع، أو موتى القلوب إسماعاً ينفعهم لأنه مما اختص به الله تعالى، وهؤلاء مثل الأموات؛ لأنّ الله تعالى قد ختم على مشاعرهم {ولا تسمع الصم} أي: الذين لا سماع لهم {الدعاء} إذا دعوتهم. ولما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال تعالى {إذا ولوا} وذكر الفعل ولم يقل ولت إشارة إلى قوّة التولي لئلا يظنّ أنه أطلق على المجانبة مثلاً ولهذا قال تعالى {مدبرين} وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية في الوصل، والباقون بالتحقيق وإذا. وقف حمزة وهشام على الدعاء وأبدلا الهمزة ألفاً مع المدّة والتوسط والقصر. {وما أنت بهادي العمي} أي: بموجد لهم هداية {عن ضلالتهم} إذا ضلوا عن الطريق، وقرأ حمزة بتاء الخطاب مفتوحة وسكون الهاء والعمي بنصب الياء، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء والعمي بالخفض. تنبيه: قد جعل الله تعالى الكافر بهذه الصفات وهو أنه شبهه أولاً بالميت، وإرشاد الميت محال والمحال أبعد من الممكن، ثم بالأصم وإرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والإفهام بالإشارة صعب، ثم بالأعمى وإرشاد الأعمى أيضاً صعب فإنك إذا قلت له مثلاً: الطريق عن يمينك فإنه يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يتحير عن قريب، فإرشاد الأصم أصعب. ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأنّ غايته الإفهام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة فإنّ المعدوم والغائب لا إشارة إليه، فبدأ أولاً بالميت لأنه أعلى ثم بالأدون منه وهو الأصم، وقيده بقوله تعالى: {إذا ولوا مدبرين} ليكون أدخل في الامتناع لأنّ الأصم، وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة فإذا ولى لا يكون نظره إلى المشير، فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً ثم بأدنى منه وهو الأعمى لما مرّ. ثم قال تعالى. {إن} أي: ما {تسمع} أي: سماع إفهام وقبول {إلا من يؤمن بآياتنا} أي: القرآن فأثبت للمؤمن استماع الآيات فلزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً بصيراً لأن المؤمن ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه {فهم مسلمون} أي: مطيعون كما قال تعالى عنهم {وقالوا سمعنا وأطعنا} (البقرة: 285) ولما أعاد تعالى دليل الآفاق بقوله تعالى: {الله الذي يرسل الرياح} أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 أحواله بقوله تعالى: {الله} أي: الجامع لصفات الكمال {الذي خلقكم من ضعف} أي: ماء ذي ضعف لقوله تعالى {ألم نخلقكم من ماء مهين} {ثم جعل من بعد ضعف} آخر وهو ضعف الطفولية {قوة} أي: قوّة الشباب {ثم جعل من بعد قوّة ضعفاً} أي: ضعف الكبر {وشيبة} أي: شيب الهرم وهي بياض في الشعر يحصل أوّله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين وهو أوّل سنّ الاكتهال، والأخذُ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين وهو أوّل سنّ الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى، وقرأ عاصم وحمزة بخلاف عن حفص بفتح الضاد في الثلاثة وهو لغة تميم، والباقون بالضم وهو لغة قريش، ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها وكان من الناس من يطعن في السن وهو قويّ وأنتج ذلك كله لابدّ أن يكون التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة قال تعالى {يخلق ما يشاء} أي: من هذا وغيره {وهو العليم} بتدبير خلقه {القدير} على ما يشاء. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا {وهو العليم القدير} وقوله تعالى من قبل {وهو العزيز الحكيم} والعزة إشارة إلى كمال القدرة والحكمة إشارة إلى كمال العلم فقدم القدرة هناك على العلم؟ أجيب: بأنّ المذكور هناك الإعادة بقوله تعالى: {وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (الروم: 27) لأنّ الإعادة بقوله تعالى: كن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر. ثم إنّ قوله تعالى {وهو العليم القدير} فيه تبشير وإنذار؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن عملوا خيراً علمه، وإن عملوا شرّاً علمه، ثم إذا كان قادراً وعلم الخير أثاب وإذا علم الشرّ عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللذين هما بالقدرة والعلم قدم العلم، وأمّا الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال: {وهو العزيز الحكيم} ، ولما ثبتت قدرته تعالى على البعث وغيره عطف على قوله أول السورة {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} . {ويوم تقوم الساعة} أي: القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة، أو إعلاماً بتيسيرها على الله تعالى، وصارت علماً عليها بالغلبة كالكوكب للزهرة {يقسم} أي: يحلف {المجرمون} أي: الكافرون.l وقوله تعالى {ما لبثوا} جواب قوله تعالى يقسم وهو على المعنى إذ لو حكي قولهم بعينه لقيل ما لبثنا أي: في الدنيا {غير ساعة} استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا في الآخرة، وقال مقاتل والكلبي: ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال تعالى {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} (النازعات: 46) وكما قال تعالى {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأحقاف: 35) وقيل: فيما بين فناء الدنيا والبعث. وفي حديث رواه الشيخان: «ما بين النفختين أربعون» وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام {كذلك} أي: مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها {كانوا} في الدنيا كوناً هو كالجبلة لهم {يؤفكون} أي: يصرفون عن الحق في الدنيا، وقال مقاتل والكلبي: كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث، والمعنى: أنّ الله تعالى أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه، ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم بقوله تعالى: {وقال الذين أوّتوا العلم والإيمان} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنين {لقد لبثتم في كتاب الله} أي: فيما كتب الله لكم في سابق علمه وقضائه، أو في اللوح المحفوظ، أو فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون في كتاب الله متعلق بلبثتم، وقال مقاتل وقتادة: فيه تقديم وتأخيره معناه: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم {إلى يوم البعث} و (في) ترد بمعنى (الباء) فردّوا ما قال هؤلاء الكفار وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم {فهذا يوم البعث} الذي أنكرتموه، وقراء نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة، والباقون بالإدغام. تنبيه: سبب اختلاف الفريقين أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل إن علم أنّ مصيره إلى النار وهو الكافر يستقل مدّة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، وإن علم أنّ مصيره إلى الجنة وهو المؤمن فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان، وفي هذه الفاء قولان: أظهرهما: أنها عاطفة هذه الجملة على لبثتم، وقال الزمخشريّ: هي جواب شرط مقدّر أي: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أي: فقد تبين بطلان ما قلتم، ولما كان التقدير قد أتى فقد تبين أنه كما كنا به عالمين فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله تعالى {ولكنكم كنتم} أي: كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له {لا تعلمون} أي: ليس لكم علم أصلاً لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه والتوصل إليه بأسبابه فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك التكذيب اليوم، ولما كانت الآيات دالة على أنّ هذه الدار دار عمل وأنّ الآخرة دار جزاء وأنّ البرزخ حائل بينهما فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فيومئذ} أي: إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة {لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم} في إنكارهم له {ولا هم يستعتبون} أي: لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا، من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته أي: استرضاني فأرضيته، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما، والباقون بالتاء الفوقية، ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تقصير بقوله تعالى: {ولقد ضربنا} أي: جعلنا {للناس في هذا القرآن} أي: في هذه السورة وغيرها {من كل مثل} أي: معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال، فإن طلبوا شيئاً آخر غير ذلك فهو عناد محض؛ لأنّ من كذب دليلاً حقاً لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعاً من الدلائل؟ أجيب: بأنهم سردوها سرداً ثم قرروا فرداً فرداً كمن يقول: الدليل عليه من وجوه الأوّل: كذا، والثاني: كذا، والثالث: كذا، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {ولئن} اللام لام قسم {جئتهم} يا أفضل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 الخلق {بآية} مثل العصا واليد لموسى عليه السلام {ليقولنّ الذين كفروا} منهم {إن} أي: ما {أنتم إلا مبطلون} أي: أصحاب أباطيل، فإن قيل: لم وحد في قوله تعالى {جئتهم} وجمع في قوله تعالى {إن أنتم} ؟ أجيب: بأنّ ذلك لنكتة وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال: {ولئن جئتهم بكل آية} أي: جاءت بها الرسل فقال الكفار: ما أنتم أيها المدّعون الرسالة كلكم إلا كذا. وقال الجلال المحلي: إن أنتم أي: محمد وأصحابه، وأمّا الذين آمنوا فيقولون نحن بهذه الآية مؤمنون. {كذلك} أي: مثل هذا الطبع العظيم {يطبع الله} أي: الذي له العظمة والكمال {على قلوب الذين لا يعلمون} توحيد الله، فإن قيل: من لا يعلم شيئاً أي: فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟ أجيب: بأنّ معناه أنّ من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل. ثم إنه تعالى سلّى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فاصبر} أي: على إنذارهم مع هذا الجفاء والردّ بالباطل والأذى فإنّ الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا {إنّ وعد الله} أي: الذي له الكمال كله بنصرك وإظهار دينك على الدين كله وفي كل ما وعد به {حق} أي: ثابت جدّاً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان وتأتي به مطايا الحدثان. ولما كان التقدير فلا تعجل عطف عليه قوله تعالى {ولا يستخفنك} أي: يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره وتنفيرك عن التبليغ {الذين لا يوقنون} أي: أذى الذين لا يصدقون بوعدنا من البعث والحشر وغير ذلك تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون وأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون فهم بالغون في العداوة والتكذيب حتى إنهم لا يصدّقون في وعد الله بنصر الروم على فارس كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أنّ ذلك لا يكون. فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهاره عن قرب علموا كذبهم عياناً، وعلموا إن كان لهم علم أنّ الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهم صاغرون ويحشرون وهم داخرون. {وسيعلم الذين ظلموا أي: منقلب ينقلبون} فقد انعطف آخر السورة على أوّلها واتصل به اتصال القريب بالقريب. وها أنا أسأل الله تعالى القريب المجيب أن يغفر ذنوب من كتب هذا وهو محمد الشربيني الخطيب ويفعل ذلك بوالديه وأولاده ومشايخه وكل محب له وحبيب، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما صنع في يومه وليلته» حديث موضوع رواه الثعلبيّ في تفسيره والله تعالى أعلم بالصواب. سورة لقمان مكية أو إلا {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} الآيتينوهي أربع أو ثلاث وثلاثون آية، وخمسمائة وثمانوأربعون كلمة، وألفان ومائة وعشرة أحرف {بسم الله} أي: الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً {الرحمن} الذي شملت نعمته سائر بريته {الرحيم} بأوليائه فخصهم بمعرفته قوله تعالى: {ألم} تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة، وقيل: إنه أشار بذلك إلى أن الله الملك الأعلى أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ولا يلحقه في ذلك نبي مدى الأيام فهو المبدأ وهو الختام، وإلى ذلك أومأ بتعبيره بأداة البعد في قوله تعالى: {تلك} أي: الآيات التي هي من العلوّ والعظمة بمكان {آيات الكتاب} أي: الجامع لجميع أنواع الخير {الحكيم} بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقص شيء من إبرامه، ولا معارضة شيء من كلامه الدال ذلك على تمام علم منزله وشمول عظمته وقدرته، والإضافة بمعنى من، وقوله تعالى: {هدى ورحمة} بالرفع وهي قراءة حمزة خبر مبتدأ مضمر هي أو هو، وقرأ الباقون بالنصب على الحال من آيات والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقال تعالى {للمحسنين} إشارة إلى أنّ رحمة الله قريب من المحسنين فإنه تعالى قال في البقرة: {ذلك الكتاب} ولم يقل الحكيم وههنا قال: الحكيم؛ لأنه لما زاد ذكر وصف في الكتاب زاد ذكراً من أحواله فقال {هدى ورحمة} وقال هناك {هدى للمتقين} فقوله تعالى هدى في مقابلة قوله تعالى الكتاب، وقوله تعالى: ورحمة في مقابلة قوله تعالى: الحكيم، ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكمة كقوله تعالى في عيشة راضية أي: ذات رضا. وقوله تعالى هناك: للمتقين وقوله تعالى هنا للمحسنين لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال للمتقين أي: يهدي به من يتقي الشرك والعناد، وههنا زاد قوله تعالى ورحمة فقال للمحسنين كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: 26) فناسب زيادة قوله تعالى ورحمة ولأنّ المحسن يتقي وزيادة ثم وصف المحسنين بقوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة} أي: يجعلونها كأنها قائمة بسبب إتقان جميع ما أمر به فيها وندب إليه، ودخل فيها الحج لأنه لا يعظم البيت في كل يوم خمس مرّات إلا معظم له بالحج فعلاً أو قوّة {ويؤتون الزكاة} أي: كلها فدخل فيها الصوم؛ لأنه لا يؤّدي زكاة الفطر إلا من صامه فعلاً أو قوّة. ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع أنواعه وحاملاً على سائر وجوه الإحسان قال تعالى {وهم بالآخرة} أي: التي تقدّم أنّ المجرمين عنها غافلون {هم يوقنون} أي: يؤمنون بها إيمان موقن فهو لا يفعل شيئاً ينافي الإيمان، ولا يغفل عنه طرفة عين، فهو في الذورة العليا من ذلك فهو يعبد الله تعالى كأنه يراه، فآية البقرة بداية وهذه نهاية، ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال الموجبة للكمال وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها بعد أن زمها بزمامها فقال. {أولئك} أي: العالو الرتبة الحائزون من منازل القرب أعظم رتبة {على هدى} أي: متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء، وقال {من ربهم} تذكيراً لهم بأنه لولا إحسانه لما وصلوا إلى شيء ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب خوفاً من الإعجاب {وأولئك هم المفلحون} أي: الظافرون بكل مراد، لما بين سبحانه وتعالى حال من تحلى بهذا الحال فترقى إلى حلية أهل الكمال بين حال أضدادهم بقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} أي: ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار فيها والمضاحك وفضول الكلام، فإن قيل: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ أجيب: بأنّ معناها التبيين وهي الإضافة بمعنى من وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه كقوله: جبة خزَ وباب ساجٍ، والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره فبين بالحديث، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 والمراد بالحديث الحديث المنكر كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى مِنْ التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدّث بها قريشاً ويقول: إنّ محمداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مجاهد: يعني شراء المغنيات والمغنين. ووجه الكلام على هذا التأويل: من يشتري ذات أو ذا لهو الحديث. وقيل: كان النضر يشتري المغنيات ولا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينة فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه ويقول: هذا خير لك مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه، وعن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهنّ وأثمانهنّ حرام» وفي مثل هذا نزلت الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار» وقال مكحول: من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيماً عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى ليقول {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية، وعن الحسن وغيره قالوا: لهو الحديث هو الغناء، والآية نزلت فيه ومعنى يشتري لهو الحديث يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال: هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يردّدها ثلاث مرّات. وقال إبراهيم النخعيّ: الغناء ينبت النفاق في القلب، قال وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يخرقون الدفوف، وقال ابن جريج: لهو الحديث هو الطبل، وقال الضحاك: هو الشرك، وقال قتادة: هو كل لهو ولعب، وقيل: الغناء منفدة للمال مسخطة للرّب مفسدة للقلب {ليضلّ عن سبيل الله} أي: الطريق الواضح الموصل للملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال ضدّ ما كان عليه المحسنون من الهدى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء قبل الضاد من الضلالة بمعنى ليثبت على ضلاله، والباقون بضمها، ونكر قوله تعالى {بغير علم} ليفيد السلب العامّ لكل نوع من أنواع العلم أي: لأنه لا علم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها علماً يستحق إطلاق العلم عليه، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى بغير علم؟ أجيب: بأنه تعالى لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال يشتري بغير علم بالتجارة بغير بصيرة بها حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق. ونحوه قوله تعالى {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} (البقرة: 16) أي: وما كانوا مهتدين بالتجارة وبصراء بها {ويتخذها} أي: السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل المطلق {هزواً} أي: مهزوّا بها، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بنصب الذال عطفاً على يضلّ، والباقون بالرفع على يشتري، وسكن حمزة زاي هزواً وضمها الباقون، ولما انفتح هذا الشقاء الدائم بينه بقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 {أولئك} أي: هؤلاء البعداء البغضاء {لهم عذاب مهين} لإهانتهم الحق باستثناء الباطل عليه، ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً فإذا نبه انتبه نبه سبحانه وتعالى على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على ممرّ الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بقوله تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا} أي: تتجدّد عليه تلاوتها أي: تلاوة القرآن من كل تال كان {ولى} أي: بعد السماع مطلق التولية سواء كان على المجانبة أو مدبراً {مستكبراً} أي: طالباً للكبر موجداً له بالإعراض عن الطاعة {كأن} أي: كأنه لم {يسمعها} فهو لم يزل على حالة الكبر {كأن في أذنيه وقراً} أي: صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته (تنبيه) : جملتا التشبيه حالان من ضمير ولى، أو الثانية بيان للأولى. وقرأ نافع بسكون الذال، والباقون بضمنها، ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل كبره وعظمته قال تعالى {فبشره} أي: أعلمه {بعذاب أليم} أي: مؤلم، وذكر البشارة تهكم به وهو النضر بن الحارث كما مرّت الإشارة إليه، ولما بين تعالى حال المعرض عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا} أي: أوجدوا الإيمان {وعملوا} أي: تصديقاً له {الصالحات لهم جنات} أي: بساتين {النعيم} أي: نعيم جنات فعكس للمبالغة كما أنّ لهؤلاء العذاب المهين، ووحد العذاب وجمع الرحمة إشارة إلى أنّ الرحمة واسعة أكثر من الغضب، ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً وكان السرور بشيء قد ينقطع قال تعالى: {خالدين فيها} أي: دائماً، وقوله تعالى {وعد الله} أي: الذي لا شيء أجل منه مصدر مؤكد لنفسه؛ لأنّ قوله تعالى جنات في معنى وعدهم الله تعالى ذلك وقوله تعالى {حقاً} مصدر مؤكد لغيره أي: لمضمون تلك الجملة الأولى وعاملهما مختلف، فتقدير الأولى: وعد. الله ذلك وعداً. وتقدير الثانية: أحق ذلك حقاً فأكد نعيم الجنات ولم يؤكد العذاب المهين {وهو العزيز} أي: فلا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي لا يضع شيئاً إلا في محله، ولما ختم بصفتي العزة وهي غاية القدرة والحكمة وهي ثمرة العلم دل عليهما بإتقان أفعاله بقوله تعالى: {خلق السموات} على علوّها وكبرها وضخامتها {بغير عمد} وقوله تعالى {ترونها} فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى السموات إذ ليست بعمد أصلاً وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، الثاني: أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية، وعلى كلا الوجهين هي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار، تنبيه: أكثر المفسرين أنّ السموات مبسوطة كصحف مستوية لقوله تعالى {يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب} (الأنبياء: 104) وقال بعضهم: إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين والغزالي رحمه الله تعالى حيث قال: ونحن نوافقهم في ذلك فإنّ لهم عليّ دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز، وإن كان في الباب خبر يؤّول بما يحتمله فضلاً عن أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً بل فيه ما يدل على الاستدارة كقوله تعالى {كل في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33) والفلك اسم لشيء مستدير بل الواجب أنّ السموات سواء كانت مستديرة أو صفيحة مستقيمة هي مخلوقة لله تعالى باختيار لا بإيجاب وطبع، ولما ذكر تعالى العمد المقلة ذكر الأوتاد المقرّة بقوله تعالى: {وألقى في الأرض} أي: التي أنتم عليها جبالاً {رواسي} والعجب أنها من فوقها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت تثبتها عن {أن تميد} أي: تتحرك {بكم} كما هو شأن ما على ظهر الماء {وبث} أي: فرّق {فيها من كل دابة} وقوله تعالى: {وأنزلنا} أي: بما لنا من القوّة {من السما ماء} فيه التفات عن الغيبة، ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات وكان من آثار الحكمة التابعة للعلم دل عليه بقوله تعالى: {فأنبتنا} أي: بما لنا من العلوّ في الحكمة {فيها} أي: الأرض بخلط الماء بترابها {من كل زوج} أي: صنف من النبات متشابه {كريم} بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور، وفي هذا دليل على عزته التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هل كمال العلم مهدبه قاعدة التوحيد وقرّرها بقوله تعالى: {هذا} أي: الذي تشاهدونه كله {خلق الله} أي: الذي له جميع الكمال فلا كفء له، فإن ادعيتم ذلك {فأروني ماذا خلق الذين من دونه} أي: غيره، بكتهم بأنّ هذه الأشياء العظيمة مما خلقه تعالى وأنشأه، فأروني ما خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة. تنبيه: ما استفهام إنكار مبتدأ و (ذا) بمعنى الذي بصلته خبره، وأروني معلق عن العمل، وما بعده سدّ مسدّ المفعولين، ثم أضرب عن تبكيتهم بقوله تعالى: {بل} منبهاً على أنّ الجواب ليس لهم خلق هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى {الظالمون} أي: العريقون في الظلم تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم {في ضلال} عظيم جدّاً محيط بهم {مبين} أي: في غاية الوضوح وهو كونهم يضعون الأشياء في غير مواضعها لأنهم في مثل الظلام لا نور لهم لانحجاب شمس الأنوار عنهم بجبل الهوى فلا حكمة لهم، ثم إنه تعالى لما نفاها عنهم أثبتها لبعض أوليائه بقوله تعالى: {ولقد آتينا} بما لنا من العظمة والحكمة {لقمان} وهو عبد من عبيدنا المطيعين لنا {الحكمة} وهو العلم المؤيد بالعمل أو العمل المحكم بالعلم، قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيم حتى يجتمع له الحكمة في القول والفعل. قال: ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي العقل والفهم والفطنة، واختلف في نسبه وفي سبب حكمته فقيل: هو لقمان بن باعورا ابن أخت أيوب عليه السلام أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام فلما بعث قطع الفتوى فقيل: له فقال ألا أكتفي إذا كفيت، وقيل كان قاضياً في بني إسرائيل وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً. أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه سئل أكان لقمان نبياً قال: لا لم يوح إليه وكان رجلاً حكيماً، وعن ابن عباس: لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود ورزقه الله تعالى العتق ورضي قوله ووصيته فقص أمره في القرآن لتتمسكوا بوصيته، وقال ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطاً، وقال مجاهد: كان عبداً أسود غليظ الشفتين مشقق القدمين، وقيل كان نجاراً، وقيل كان راعياً، وقيل كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة حطب، وقال عكرمة والشعبي: كان نبياً، وقيل خير بين النبوّة والحكمة، فاختار الحكمة، وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه إن كنت تراني أسود فقلبي أبيض، وعن عكرمة قال: كان لقمان أهون مملوك على سيده وأوّل ما رؤي من حكمته أنه بينما هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 مع مولاه إذ دخل المخرج وأطال فيه الجلوس فنادى لقمان أنّ طول الجلوس على الحاجة يسيح منه الكبد ويكون منه الباسور ويصعد الحرّ إلى الرأس فخرج وكتب حكمته على الحش. قال: وسكر مولاه فخاطر قوماً على أن يشرب ماء بحيرة فلما أفاق عرف ما وقع منه فدعا لقمان فقال لمثل هذا كنت أخبؤك قال اجمعهم فلما اجتمعوا قال على أي. شيء خاطرتموه. قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة. قال: فإن لها موادّاً فاحبسوا موادها عنه، قال: وكيف نستطيع أن نحبس موادها. قال: فكيف يستطيع أن يشربها ولها مواد. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لقمان كان عبداً كثير التفكر، حسن الظنّ، كثير الصمت، أحب الله فأحبه الله فمنّ عليه بالحكمة نودي بالخلافة قبل داوود فقيل له يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس. قال لقمان: إن أجبرني ربي قبلت فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني وعلمني وعصمني، وإن خيرني اخترت العافية ولم أسأل البلاء فقالت الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان فيخذل أو يعان، فإن أصاب فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً فهو خير من أن يكون شريفاً ضائعاً، ومن تخير الدنيا على الآخرة. نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها، ثم نودي داود بعده بالخلافة فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فوقع في الذي حكاه الله عنه فصفح الله تعالى عنه وتجاوز، وكان لقمان يؤازره أي: يساعده بعلمه وحكمته فقال داود طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية وأوتي داود الخلافة فابتلى بالذنب والفتنة» . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: «خير الله تعالى لقمان بين الحكمة والنبوّة فاختار الحكمة فأتاه جبريل وهو نائم فذرّ عليه الحكمة فأصبح ينطق بها فقيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوّة وقد خيرك ربك؛ فقال إنه لو أرسل إلي بالنبوّة عزمة لرجوت فيها الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة فكانت الحكمة أحب إليّ» . وروي أنه دخل على داود وهو يصنع الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود لحق ما سميت حكيماً، وروي أنّ مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا، وروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلان الراعي فيم بلغت ما بلغت قال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني، وعن ابن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان كان أسود نوبياً ذا مشافر، وروي سادات السودان أربعة لقمان الحبشي والنجاشي وبلال ومهجع. وعن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت» وقال لقمان لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس، وقال ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع، ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال الله تعالى {أن اشكر لله} أي: وقلنا له أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة {ومن يشكر} أي: يجدّد الشكر ويتعاهده بنفسه كائناً من كان {فإنما يشكر لنفسه} أي: لأنّ ثواب شكره له {ومن كفر} أي: النعمة {فإن الله غني} عن الشكر وغيره {حميد} أي: له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلق. {و} اذكر {إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني} تصغير إشفاق، وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير، وكسرها الباقون {لا تشرك بالله} أي: الملك الأعظم {إن الشرك} أي: بالله {لظلم عظيم} فرجع إليه وأسلم ثم قال له أيضاً: يا بني اتخذ تقوى الله تعالى تجارة يأتيك الفرج من غير بضاعة، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإنّ الجنائز تذكر الآخرة والعرس يشهيك الدنيا، يا بني لا تأكل شبعاً من شبع فاتك أن تلقيه للكلب خير من أن تأكله، يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوّت بالأسحار وأنت النائم على فراشك، يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة، يا بنيّ لا ترغب في ودّ الجاهل فترى أنك ترضى عمله، يا بنيّ اتق الله ولا تُري الناس أنك تخشى ليكرموك بذلك وقلبك فاجر، يا بني ما ندمت على الصمت قط فإنّ الكلام إذا كان من فضة كان السكوت من ذهب، يا بني اعتزل الشر كيما يعتزلك فإنّ الشرّ للشرّ خلف، يا بني إياك وشدّة الغضب فإنّ شدّة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم، يا بني عليك بمجالس العلماء واستمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحي القلب الميت بنور الحكمة كما يحي الأرض بوابل المطر فإن من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، يا بني لا ترسل رسولاً جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسول نفسك، يا بني لا تنكح أمة غيرك فتورث بنيك حزناً طويلاً، يا بني يأتي على الناس زمان لا تقرّ فيه عين حليم، يا بني اختر المجالس على عينك فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجلّ فاجلس معهم فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك غبياً يعلموك، وإن يطلع الله عز وجلّ عليهم برحمة تصبك معهم، يا بنيّ لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه الله تعالى فإنك إن تكن عالماً لا ينفعك علمك، وإن تكن غبياً يزيدوك غباوة وإن يطلع الله تعالى عليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم، يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء، يا بني إنّ الدنيا أمر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان بالله، وشراعها التوكل على الله لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً، يا بني إني حملت الجندل والحديد فلم أحمل شيئاً أثقل من جار السوء، وذقت المرارة كلها فلم أذق أشد من الفقر، يا بني كن ممن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب مذمتهم فنفسه عنهم في غنى والناس منه في راحة، يا بُنَّي إنّ الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك، يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله ليحي القلوب بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل السماء، يا بني لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم، يا بني إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره، يا بني إنك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 منذ نزلت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب من دار أنت عنها تباعد، يا بني عود لسانك أن يقول: اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا ترد، يا بني إياك والدين فإنه ذل النهار وهم الليل، يا بني ارج الله رجاء لا يجرئك على معصيته وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته ا. هـ. وإنما أكثرت من ذلك لعل الله ينفعنى ومن طالعه بذلك، وسيأتي في كلام الله تعالى زيادة على ذلك واقتصرت على هذا القدر وإلا فمواعظه لابنه لو أراد شخص الإكثار منها لجعل منها مجلدات. فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن حفص بن عمر الكندي قال: وضع لقمان عليه السلام جراباً من خردل إلى جنبه وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال: يا بني وعظتك موعظة لو وعظتها جبلاً لتفطر فتفطر ابنه. فسبحان من يعز ويذل، ويغني ويفقر، ويشفي ويمرض، ويرفع من يشاء وإن كان عبداً فلا بدع أن يخص محمداً صلى الله عليه وسلم ذا النسب العالي والمنصب المنيف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها، ولما ذكر سبحانه ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأوّل الذي لم يشركه في إيجاده أحد وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة أتبعه وصيته سبحانه للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني بالسببية في وجوده بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه} أي: أمرناه أن يبرهما ويطيعهما ويقوم بهما، ثم بين تعالى السبب في ذلك بقوله تعالى: {حملته أمه وهناً} أي: حال كونها ذات وهن بحمله وبالغ في جعلها نفس الفعل دلالة على شدّة ذلك الضعف {على وهن} أي: ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف الولادة، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بعد ذلك بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله تعالى: {وفصاله} أي: فطامه من الرضاعة بعد وضعه {في عامين} تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، فإن قيل وصى الله تعالى بالوالدين وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه أكثر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ؟ أجيب: بأن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأب حمله خفيفاً لكونه من جملة جسده والأم حملته ثقيلاً آدمياً مودعاً فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك ثم أباك» وقوله تعالى {أن اشكر لي} لأني المنعم في الحقيقة {ولوالديك} أي: لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك تفسير لوصينا أو عدة له، ثم علل الأمر بالشكر محذراً بقوله تعالى: {إليّ} لا إلى غيري {المصير} فأحاسبك على شركك ومعاصيك، وعن القيام بحقوقهما، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر لله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين، ولما ذكر تعالى وصيته بهما وأكد حقهما أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان من قباحة الشرك بقوله تعالى: {وإن جاهداك} أي: مع ما أمرتك به من طاعتهما {على أن تشرك بي} وقوله تعالى {وما ليس لك به علم} موافق للواقع لأنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بل العلوم كلها دالة على الوحدانية، ولما قرر ذلك على هذا المنوال البديع قال مسبباً عنه {فلا تطعهما} أي: في ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك، وربما أفهم ذلك الإعراض عنهما بالكلية فلهذا قال تعالى {وصاحبهما في الدنيا} أي: في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دمت حياً بها {معروفاً} ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والإحتمال وما تقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، ولما كان ذلك قد يجرّ إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة نفي ذلك بقوله تعالى: {واتبع} أي: بالغ في أن تتبع {سبيل} أي: دين وطريق {من أناب} أي: أقبل خاضعاً {إليّ} لم يلتفت إلى عبادة غيري وهم المخلصون، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله تعالى ولا عن الإخلاص له. تنبيه: في هذا حث على معرفة الرجال بالحق وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقاً لهما اتبع، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب. وإذا كان مرجع أمورهم كلها إليه في الدنيا ففي الآخرة كذلك كما قال تعالى {ثم إليّ} أي: في الآخرة {مرجعكم فأنبئكم} أي: أفعل فعل من يبالغ في التعقيب والاختبار عقب ذلك وتبيينه لأنّ ذلك أنسب شيء للحكمة وتعقب كل شيء بحسب ما يليق به {بما كنتم تعملون} أي: تجيددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال تعالى: وصينا بمثل ما وصى به وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يتبعا في الإشراك فما ظنكم بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثاً لم تطعم فيها شيئاً، ولذلك قيل من أناب إليّ هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإن سعداً أسلم بدعوة أبي بكر له، ثم إن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبتِ إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله تعالى فقال. {يا بني} مجيباً له مستعطفاً مصغراً له بالنسبة إلى حلم شيء من غضب الله تعالى {إنها} أي: الخطيئة {إن تك} وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء {مثقال} أي: وزن، ثم حقرها بقوله {حبة} وزاد في ذلك بقوله {من خردل} أي: إن تكن في الصغر كحبة الخردل، وقرأ نافع مثقال بالرفع على أنّ الهاء ضمير الخطيئة كما مر أو القصة وكان تامة، وتأنيثها الإضافة المثقال إلى الحبة كقول الأعشى: *وتشرق بالقول الذي قد ذكرته ... كما شرقت صدر القناة من الدم* والشرق الغصة، يقال شرق بريقه أي: غص، والشاهد في شرقت حيث أنه لإضافة الصدر إلى القناة، وصدرها ما فوق نصفها، ثم أثبت النون في قوله مبيناً عن صغرها {فتكن} إشارة إلى ثباتها في مكانها وليزداد شوق النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الأحوال {في صخرة} أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأخفاها، ولما أخفى وضيق أظهر ووسع ورفع وخفض ليكون أعظم لضياعها لحقارتها بقوله {أو في السموات} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 أي: في أيّ مكان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها، وأعاد أونصاً على إرادة كل منهما على حدته بقوله {أو في الأرض} أي: كذلك وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في غيرهما أو في أحدهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن رياح أنه لما وعظ لقمان ابنه وقال إنها إن تك الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك فألقاها في عرضه، ثم مكث ما شاء الله تعالى، ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته، وقال بعض المفسرين: المراد بالصخرة: صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء، وقال الزمخشري: فيه إضمار تقديره إن تكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض، وقيل: هذا من تقديم الخاص وتأخير العامّ وهو جائز في مثل هذا التقسيم، وقيل: خفاء الشيء يكون بطرق: منها: أن يكون في غاية الصغر، ومنها: أن يكون بعيداً، ومنها أن يكون في ظلمة، ومنها: أن يكون وراء حجاب فإذا امتنعت هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت لله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط بقوله إن تك مثقال حبة من خردل إشارة إلى الصغر، وقوله فتكن في صخرة إشارة إلى الحجاب وقوله أو في السموات إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد، وقوله أو في الأرض إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله {يأت بها الله} أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأنّ من يظهر له شيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره، فقوله يأت بها الله أي: يظهرها للإشهاد يوم القيامة فيحاسب بها عاملها. {إنّ الله} أي: الملك العظيم {لطيف} أي: نافذ القدرة يتوصل علمه إلى كل خفي عالم بكنهه، وعن قتادة لطيف باستخراجها {خبير} أي: عالم ببواطن الأمور فيعلم مستقرها، روي في بعض الكتب أنّ هذه آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات. قال الحسن: معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها، ولما نبه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب أمره بما يدخره لذلك توسلاً إليه وتخشعاً لديه وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه بقوله: {يا بني} مكرر للمناداة تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة {أقم الصلاة} أي: بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها تسبباً في نجاة نفسك وتصفية سرك فإن إقامتها وهو الإتيان بها على النحو المرضي مانعة من الخلل في العمل، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها الإقبال على من وحدته، فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثابتة للتوحيد وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيآتها اختلفت وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أنه من حكمته، والحكمة تخليه وتخلى ولده من الدنيا حتى ما يكفيهم لقوتهم ولما، أمره بتكميله في نفسه توفية لحق الحق عطف على ذلك تكميله لغيره بقوله {وأمر بالمعروف} أي: كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك وشفقة على نفسك لتخليص أبناء جنسك {وإنه} أي: كل من قدرت على نهيه {عن المنكر} حباً لأخيك ما تحب لنفسك تحقيقاً لنصيحتك وتكميلاً لعبادتك، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى: *ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم* الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 لأنه أمره أولاً بالمعروف وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، فإذا أمر نفسه ونهاها ناسب أن يأمر غيره وينهاه، وهذا وإن كان من قول لقمان إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به، فإن قيل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر أنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال: لا تشرك بالله ثم قال أقم الصلاة؟ أجيب: بأنه كان يعلم أنّ ابنه معترف بوجود الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي ترتب على هذا المعروف، وأمّا ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر، ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر قال له {واصبر} صبراً عظيماً بحيث تكون مستعلياً {على ما} أي: الذي {أصابك} أي: في عبادتك وغيرها من الأمر بالمعروف وغيره سواء أكان بواسطة العباد أم لا كالمرض، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنهما ملاك الاستعانة قال تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة: 45) وأخرج أحمد عن هشام ابن عروة عن أبيه قال: مكتوب في الحكمة يعني حكمة لقمان عليه السلام لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسيطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطايا. وقال: مكتوب في الحكمة أو في التوراة الرفق رأس الحكمة، وقال: مكتوب في التوراة كما تَرحمون تُرحمون، وقال: مكتوب في الحكمة كما تزرعون تحصدون، وقال: مكتوب في الحكمة أحبب خليلك وخليل أبيك، وقيل للقمان: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، ومن حكمته أنه قال: أقصر عن اللجاجة ولا أنطق فيما لا يعنيني ولا أكون مضحاكاً من غير عجب ولا مشاء لغير أرب، ومنها من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله بذلك عزاً، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز بالمعصية، ومنها أنه كان يقول ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الحرب، وأخوك عند حاجتك إليه. ولما كان ما أحكمه لولده عظيم الجدوى وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال نبه بذلك بقوله على سبيل الاستئناف أو التعليل {إن ذلك} أي: الأمر العظيم الذي أوصيك به لا سيما الصبر على المصائب {من عزم الأمور} أي: معزوماتها تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر أي: الأمور المقطوع بها المفروضة، أو القاطعة الجازمة وبجزم فاعلها، ثم حذره عن الكبر معبراً عنه بلازمه لأن نفي الأعم نفي للأخص بقوله.» {ولا تصعر خدّك} أي: لا تمله متعمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة، قال أبو عبيدة: وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوى منه عنقه، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم بغير ألف بعد الصاد وتشديد العين، والباقون بألف بعد الصاد وتخفيف العين، والرسم يحتملها فإنه رسم بغير ألف وهما لغتان لغة الحجاز التخفيف، وتميم التثقيل، ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تدوم أشار إلى المقصود بقوله {للناس} بلام العلة أي: لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا عتو، وعن ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك، وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه الشحنة فيلقاك فتعرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 عنه، وقيل هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبراً، وقيل معناه: لا تحقر الفقير، ليكن الفقير والغني عندك سواء، ثم أتبع ذلك ما يلزمه بقوله {ولا تمش} وأشار بقوله {في الأرض} إلى أنّ أصله تراب وهو لا يقدر أن يعدوه وسيصير إليه وأوقع المصدر موقع الحال والعلة في قوله {مرحاً} أي: اختيالاً وتبختراً أي: لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر بطر متكبر فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي بل أمش هوناً فإن ذلك يفضي بك إلى التواضع فتصل إلى كل خير فترفق بك الأرض إذا صرت في بطنها {إنّ الله} أي: الذي له الكبرياء والعظمة {لا يحب} أي: يعذب {كل مختال} أي: مراء للناس في مشيه متبختر يرى له فضلاً على الناس {فخور} على الناس بنفسه يظن أن إسباغ النعم الدنيوية من محبة الله تعالى له وذلك من جهله، فإن الله يسبغ نعمه على الكافر الجاحد فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده فإن الكبر هو الذي تردى به سبحانه فمن نازعه فيه قصمه، ولما كان النهي عن ذلك أمراً بضدّه قال: {واقصد} أي: اقتصد واسلك الطريق الوسطى {في مشيك} بين ذلك قواماً أي: ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً أي: بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار، قال صلى الله عليه وسلم «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» وأمّا قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان إذا مشى أسرع، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت، وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة لقوله تعالى يمشون: على الأرض هوناً وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن وثب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان، قاله الرازي: في اللوامع وهو المشي الهون الذي ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع، ولا بتكبر {واغضض} أي: انقص {من صوتك} لئلا يكون صوتك منكراً وتكون برفع الصوت فوق الحاجة كالأذان فهو مأمور به، وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت قال القائل: *جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الروى جهير النغم* وقال مقاتل: اخفض من صوتك، فإن قيل: لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ أجيب: بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن، وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه، والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ولأنّ المشي يؤذي آلة المشي، والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإنّ الكلام ينتقل من السمع إلى القلب، ولا كذلك المشي. وأيضاً فلأن قبح القول أقبح من قبح الفعل وحسنه أحسن، لأنّ اللسان ترجمان القلب، ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكر كما أن خفضه دونها تماوت وتكبر وكان قد أشار إلى النهي عن هذا بمن فأفهم أنّ الطرفين مذمومان علل النهي عن الأوّل بقوله {إن أنكر} أي: أفظع وأبشع وأوحش {الأصوات} كلها المشتركة في المكاره برفعها فوق الحاجة، وأخلى الكلام من لفظ التشبيه، وأخرجه مخرج الاستعارة تصوير الصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً مبالغة في التهجين وتنبيهاً على أنه من الكراهة بمكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 فقال {لصوت الحمير} أي: هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإنّ كل حيوان قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوّله زفير وآخره شهيق وهما فعل أهل النار، وأفرد الصوت ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أنّ الاجتماع شرط في ذلك، ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الشتم والذم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه بل يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة وقد عد في مساوئ الأداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من ذوي المروءة من العرب من لا يركب الحمار استنكافاً، وإن بلغت منه الرحلة، وإنما ركبه صلى الله عليه وسلم لمخالفته عادتهم وإظهاره التواضع من نفسه، وأمّا الرفع مع الحاجة فغير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع. فإن قيل كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حز المنشار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً؟ أجيب: من وجهين: الأوّل: المراد أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد السؤال، والثاني: أن الصوت الشديد لحاجة ومصلحة لا يستبشع ولا ينكر صوته كما مرت الإشارة إليه، بخلاف صوت الحمير، قال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} قال: صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار، وقال جعفر الصادق في ذلك: هي العطسة القبيحة المنكرة، وقال وهب: تكلم لقمان باثني عشر ألف كلمة من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم. قال خالد الربعي: كان لقمان عبداً ومن حكمته أنه دفع إليه مولاه شاة فقال له: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه شاة أخرى فقال اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقد مرت الإشارة إلى ذلك. ومن حكمته أنه قال لابنه: يا بني لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك إن ذلك خير لك، ثم قال لابنه: يا بني إن الله قد بعث نبياً هلم حتى نأتيه فنصدقه فخرج على حمار وابنه على حمار وتزودا، ثم سارا أياماً وليالي حتى لقيتهما مفازة فأخذا أهبتها لها فدخلا فسارا ما شاء الله تعالى حتى ظهرا وقد تعالى النهار، واشتد الحر، ونفد الماء والزاد، واستبطأ حماريهما فنزلا وجعلا يشتدان على سوقهما فبينما هما كذلك إذ نظر لقمان أمامه فإذا هو بسواد ودخان فقال في نفسه: السواد الشجر والدخان العمران والناس، فبينما هما يشتدان إذ وطئ ابن لقمان على عظم ناتئ على الطريق فخر مغشياً عليه فوثب إليه لقمان وضمه إلى صدره واستخرج العظم بأسنانه ثم نظر إليه لقمان فذرفت عيناه فقال: يا أبت أنت تبكي وأنت تقول هذا خير لي وقد نفد الطعام والماء وبقيت أنا وأنت في هذا المكان فإن ذهبت وتركتني على حالي ذهبت بهم وغم ما بقيت، وإن أقمت معي متنا جميعاً، فقال: يا بني أمّا بكائي فرقة الوالدين، وأمّا ما قلت كيف يكون هذا خيراً فلعل ما صرف عنك، أعظم مما ابتليت به ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك، ثم نظر لقمان أمامه فلم ير ذلك الدخان والسواد وإذا بشخص أقبل على فرس أبلق عليه ثياب بياض وعمامة بيضاء يمسح الهواء مسحاً فلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 يزل يرمقه بعينه حتى كان منه قريباً فتوارى عنه؛ ثم صاح به أنت لقمان قال نعم، قال أنت الحكيم، قال كذلك يقال: قال ما قال لك ابنك. قال: يا عبد الله من أنت؟ أسمع كلامك ولا أرى وجهك، قال: أنا جبريل أمرني ربي بخسف هذه القرية ومن فيها فأخبرت أنكما تريدانها فدعوت ربي أن يحبسكما عني بما شاء فحبسكما بما ابتلى به ابنك ولولا ذلك لخسفت بكما مع من خسفت، ثم مسح جبريل عليه السلام بيده على قدم ابنه فاستوى قائماً ومسح بيده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً وعلى الذي كان فيه الماء فامتلأ ماء ثم حملهما وحماريهما فرحل بهما كما يرحل الطير فإذا هما في الدار التي خرجا بعد أيام وليال منها. وعن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ فقال: مات. قال: الحمد لله ملكت أمري، قال: ما فعلت أمي؟ قال: ماتت، قال: ذهب همي. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت، قال: جدد فراشي. قال: ما فعلت أختي؟ قال: ماتت. قال: سترت عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري. وعن أبي قلابة قال: قيل للقمان أي الناس أصبر؟ قال: صبر لا معه أذى، قيل: فأيّ الناس أعلم؟ قال: من ازداد من علم الناس إلى علمه، قيل: فأي الناس خير؟ قال: الغني، قيل الغني من المال؟ قال: لا، ولكن الغني من التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس. وعن سفيان: قيل للقمان: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، وعن عبد الله بن زيد قال قال لقمان ألا إن يد الله على أفواه الحكماء لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله تعالى له، ولما استدل سبحانه بقوله تعالى: {خلق السموات بغير عمد} على الوحدانية وبين بحكمة لقمان أنّ معرفة ذلك غير مختصة بالنبوّة استدل ثانياً على الوحدانية بالنعم بقوله تعالى: {ألم تروا} أي: تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة {أن الله} أي: الحائز لكل كمال {سخر لكم} أي: لأجلكم {ما في السموات} من الإنارة والإظلام والشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر والبرد وغير ذلك من الإنعامات مما لا يحصى، كما قال {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} {و} سخر لكم {ما في الأرض} من البحار والثمار والآبار والأنهار والدواب والمعادن وغير ذلك مما لا يحصى {وأسبغ} أي: أوسع وأتم {عليكم} وقوله تعالى {نعمه} قرأه نافع وأبو عمرو وحفص بفتح العين وبعد الميم هاء مضمومة، والباقون بسكون العين وبعد الميم تاء مفتوحة منونة، ومعناها الجمع أيضاً كقوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم: 34) واختلف في قوله عز وجل {ظاهرة وباطنة} على أقوال: فقال عكرمة عن ابن عباس: النعمة الظاهرة: القرآن والإسلام، والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة، وقال الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة، وقال مقاتل: الظاهرة تسوية الخلق والرزق والإسلام، والباطنة ما ستر من الذنوب، وقال الربيع: الظاهرة الجوارح والباطنة القلب، وقال عطاء الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة، وقال مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة، وقال سهل بن عبد الله: الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته، وقيل الظاهرة تمام الرزق والباطنة تمام الخلق، وقيل الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الكفار، وقيل الظاهرة الإقرار باللسان والباطنة الاعتقاد بالقلب، وقيل الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك، ويروى في دعاء موسى: عليه السلام إلهي دلني على إخفاء نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس، ويروى أن أيسر ما يعذب به أهل النار الأخذ بالأنفاس، ونزل في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في الله تعالى وفي صفاته. {ومن الناس} أي: أهل مكة {من يجادل} أي: يحاجج فلا لهو أعظم من جداله ولا كبر مثل كبره ولا ضلال مثل ضلاله وأظهر زيادة التشنيع على هذا المجادل بقوله تعالى: {في الله} أي: المحيط علماً وقدرة ثم بين تعالى مجادلته أنها {بغير علم} أي: مستفاد من دليل بل بألفاظ في ركاكة معانيها لعدم إسنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العجم فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى {ولا هدى} أي: من رسول عُهِد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات فوجب أخذ أقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها {ولا كتاب} أي: من الله تعالى، ثم وصفه بما هو لازم له بقوله تعالى: {منير} أي: بين غاية السبيان؛ بل إنما يجادل بالتقليد كما قال تعالى: {وإذا قيل} أي: من أي: قائل كان {لهم} أي: المجادلين هذا الجدال {اتبعوا ما أنزل الله} أي: الذي خلقكم وخلق آباءكم الأوّلين {قالوا} جحوداً لا نفعل {بل نتبع} وإن أتيتنا بكل دليل {ما وجدنا عليه آباءنا} لأنهم أثبت منا عقولاً وأقوم قيلاً وأهدى سبيلا، فهذه المجادلة في غاية القبح فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم، وبين كلام الله تعالى وبين كلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله تعالى وكلام الجهال {أولو} أي: أيتبعونهم ولو {كان الشيطان} أي: البعيد من الرحمه، المحترق باللعنة {يدعوهم} إلى الضلال فيوبقهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم لك {إلى عذاب السعير} وجواب لو محذوف مثل لا تتبعوه، والاستفهام للإنكار والتعجب، والمعنى أن الله تعالى يدعوهم إلى الثواب والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون الشيطان، ولما بين تعالى حال المشرك والمجادل في الله بين تعالى حال المسلم المستسلم لأمر الله تعالى بقوله تعالى: {ومن يسلم} أي: في الحال والاستقبال {وجهه} أي: قصده وتوجهه وذاته كلها {إلى الله} أي: الذي له صفات الكمال بأن فوض أمره إليه فلم يبق لنفسه أمر أصلاً فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه {وهو} أي: والحال أنه {محسن} أي: مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره فهو دائماً في حال الشهود {فقد استمسك} أي: أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوّة في تأدية الأمور {بالعروة الوثقى} أي: اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه؛ لأنّ أوثق العرى جانب الله تعالى فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له، وهذا من باب التمثيل مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق جبل فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه، فإن قيل كيف قال ههنا {ومن يسلم وجهه إلى الله} فعداه بإلى، وقال في البقرة {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} (البقرة: 112) فعداه باللام؟ أجيب: بأن أسلم يتعدّى تارة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 باللام، وتارة بإلى، كما يتعدّى أرسل تارة باللام وتارة بإلى قال تعالى {وأرسلناك للناس رسولاً} وقال تعالى {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً} {وإلى الله} أي: الملك الأعلى {عاقبة الأمور} أي: مصير جميع الأشياء إليه، كما أنّ منه باديتها، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادية، ولما بين تعالى حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال تعالى: {ومن كفر} أي: ستر ما أداه إليه عقله من أن الله تعالى لا شريك له وأن لا قدرة أصلاً لأحدٍ سواه ولم يسلم وجهه إليه {فلا يحزنك} أي: يهمك ويوجعك {كفره} كائناً من كان، فإنه لم يفتك شيء فيه ولا معجز لنا ليحزنك ولا تبعة عليك بسببه في الدنيا وفي الآخرة، وأفرد الضمير في كفره اعتباراً بلفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأوّل بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجاً عنه فالآية من الاحتباك، ذكر الحزن ثانياً دليلاً على حذف ضدّه أوّلاً، وذكر الاستمساك أوّلاً دليلاً على حذف ضدّه ثانياً {إلينا} أي: في الدارين {مرجعهم فننبئهم} أي: بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم {بما عملوا} أي: ونجازيهم عليه إن أردنا {إن الله} أي: الذي لا كفء له {عليم} أي: محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال {بذات الصدور} أي: لا يخفى عليه سرّهم وعلانيتهم فينبئهم بما أسرّت صدورهم. {نمتعهم} أي: نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا {قليلاً} أي: إلى انقضاء آجالهم فإن كل آت قريب، وإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل {ثم نضطرّهم} أي: نلجئهم ونردّهم في الآخرة {إلى عذاب غليظ} أي: شديد ثقيل لا ينقطع عنهم أصلاً ولا يجدون لهم منه محيصاً من جهة من جهاته فكأنه في شدّته وثقله جرم عظيم غليظ جدّاً إذا ترك على شيء لا يقدر على الخلاص منه، ثم إنه تعالى لما سلى قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فلا يحزنك كفره} أي: لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا على أنه لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة كما قال تعالى: {ولئن} اللام لام قسم {سألتهم من خلق السموات} أي: بأسرها ومن فيها {والأرض} كذلك وقوله تعالى {ليقولنّ الله} أي: المسمى بهذا الاسم حذف منه نون الرفع لتوالي والأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين، فقد أقرّوا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته، ولما تبين بذلك صدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم قال الله تعالى مستأنفاً {قل الحمد} أي: الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره على ظهور الحجة عليهم بالتوحيد {بل أكثرهم لا يعلمون} أي: ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك، ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال استدلّ على ذلك بقوله تعالى: {لله} أي: الملك الأعظم {ما فيّ السموات} كلها {والأرض} كذلك ملكاً وخلقاً فلا يستحق العبادة فيهما غيره، ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله تعالى {إن الله} أي: الذي لا كفء له {هو} أي: وحده {الغني} مطلقاً لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه وليس محتاجاً إلى شيء أصلاً {الحميد} أي: المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم على الإطلاق المحمود بكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 لسان من ألسنة الأحوال والأقوال لأنه هو الذي أنطقها ومن قيد الخرس أطلقها، ولما قال تعالى {لله ما في السموات والأرض} أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما، بين تعالى أنه لأحد ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده بقوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض} أي: كلها، ودل على الاستغراق وتقضي كل فرد فرد من أفراد الجنس بقوله تعالى: {من شجرة} حيث وحدها {أقلام} أي: والشجرة يمدّها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات وأنّ ما في الأرض من البحر مداد لتلك الأقلام {والبحر} أي: والحال أنّ البحر {يمده} أي: يكون مداداً له وزيادة فيه {من بعده} أي: من ورائه {سبعة أبحر} تكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة {ما نفدت كلمات الله} وفنيت الأقلام والمداد، قال المفسرون: نزل بمكة قوله تعالى. {ويسئلونك عن الروح} (الإسراء، 85) الآية فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك فقال صلى الله عليه وسلم «كلاً قد عنيت، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنّا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال: صلى الله عليه وسلم هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم، قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية» ، وقال قتادة إنّ المشركين قالوا: إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فنزلت، فإن قيل كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلام والبحر مداد؟ أجيب: بأنه أغنى عن ذكر المداد قوله تعالى يمدّه لأنه من مدّ الدواة وأمدّها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوأة مداداً فهي تصب فيه مدادها أبداً صباً لا ينقطع، والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد كقوله تعالى {قل لو كان البحر مداد الكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (الكهف: 109) لأنّ المحصور لا يفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى، ومن كبرياء لا يجارى ولا يضاهى. فإن قيل لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس؟ أجيب: بأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاماً، فإن قيل الكلمات جمع قلة والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل كلم الله؟ أجيب: بأنّ معناه أنّ كلماته لا تفي بها البحار فكيف بكلمه، وقرأ أبو عمرو: والبحر بنصب الراء وذلك من وجهين: أحدهما: العطف على اسم أن، أي: ولو أنّ البحر، ويمدّه الخبر، والثاني: النصب بفعل مضمر يفسره يمدّه والواو حينئذ للحال والجملة حالية، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو، والتقدير: ولو أنّ الذي في الأرض حال كون البحر ممدوداً بكذا، وقرأ الباقون برفع الراء وذلك من وجهين: أيضاً أحدهما: العطف على أن وما في حيزها، والثاني: أنه مبتدأ، ويمدّه الخبر، والجملة حالية والرابط الواو تنبيه: قوله تعالى سبعة، ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر، وإنما خصصت السبعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة، ويدل على ذلك وجهان: الأوّل: أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام والمكان منحصر في سبعة أقاليم، ولأنّ الكواكب السيارة سبعة والمنجمون ينسبون إليها أموراً فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» الثاني: أن في السبعة معنى يخصها ولذلك كانت السموات سبعاً والأرضون سبعاً وأبواب جهنم سبعاً وأبواب الجنة ثمانية، لأنها الحسنى وزيادة، فالزيادة هي الثامن؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واو تقول القراء لها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف لأنّ العدد تم بالسبعة، ثم بين نتيجة ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عزيز} أي: كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته {حكيم} أي: كامل العلم لا نهاية لمعلوماته. تنبيه: قد علم مما تقرّر أنّ الآية من الاحتباك ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار، ولما ختم تعالى بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء ذكر بعض آثارها في البعث بقوله تعالى: {ما خلقكم} أي: كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة، وأعاد النافي نصاً على كل واحد من الخلق والبعث على حدته بقوله تعالى: {ولا بعثكم} أي: كلكم {إلا كنفس} أي: كبعث نفس، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد تأكيداً للسهولة بقوله تعالى: {واحدة} فإن كلماته مع كونها غير نافذة نافذة وقدرته مع كونها باقية بالغة فنسبة القليل والكثير إلى قدرته على حدّ سواء؛ لأنه لا يشغله شأن، عن شأن، ثم دل على ذلك بقوله تعالى: مؤكداً {إن الله} أي: الملك الأعلى {سميع} أي: بالغ السمع يسمع كل مسموع {بصير} أي: بليغ البصر يبصر كل مبصر لا يشغله شيء عن شيء، ولما قرّر تعالى هذه الآية الخارقة دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرّتين بقوله تعالى: {ألم تر} وهو محتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأكثر وكأنه تعالى ترك الخطاب مع غيره؛ لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة في الخطاب معهم ومن هو غيره من المؤمنين فهم تبع له، والوجه الثاني: المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولايعين أحداً فيقول لجمع عظيم: يا مسكين إلى الله مصيرك فمن نصيرك ولماذا تقصيرك {أنّ الله} أي: بجلاله وعز كماله {يولج} أي: يدخل إدخالاً لا مرية فيه {الليل في النهار} فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه فإذا النهار قد عمّ الأرض كلها أسرع من اللمح {ويولج النهار} أي: يدخله كذلك {في الليل} فيخفى حتى لا يبقى له أثر فإذا الليل قد طبق الآفاق مشارقها ومغاربها في مثل الطرف فيميز سبحانه كلاً منهما من الآخر بعد اضمحلاله فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره {وسخر الشمس} آية للنهار يدخل الليل فيه {والقمر} أي: آية لليل كذلك ثم استأنف ما سخرا فيه بقوله تعالى: {كل} أي: منهما {يجري} أي: في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً {إلى أجل مسمى} لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 لا يزيد ولا ينقص هذا في الشهر مرّة وتلك في السنة مرّة، لا يقدر واحد منهما أن يتعدّى طوره ولا أن ينقض دوره ولا أن يغير سيره. تنبيه: قال تعالى يولج بصيغة المستقبل، وقال في الشمس والقمر وسخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدّد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمرّ كما قال تعالى {حتى عاد كالعرجون القديم} (يس: 39) وقال ههنا إلى أجل، وفي الزمر لأجل؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقع. قال الأكثرون: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقيل: عامّ، ولما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أنّ ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى عليه بقوله تعالى: {وإنّ الله} أي: بما له من صفات الكمال {بما تعملون} أي: في كل وقت على سبيل التجدّد {خبير} أي: لا يخفى عليه شيء منه؛ لأنه الخالق له كله دقه وجله ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العليا أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله تعالى: قال تعالى {ذلك} أي: المذكور {بأنّ} أي: بسبب أن {الله} أي: الذي لا عظيم سواه {هو} وحده {الحق} أي: بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته المستحق للعبادة {وأنّ ما يدعون} أي: هؤلاء المختوم على مداركهم وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله تعالى: {من دونه} أي: غيره {الباطل} أي: العدم في حدّ ذاته لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يدعون بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب وإن مقطوعة من ما في الرسم {وأنّ الله} أي: الملك الأعظم وحده {هو العليّ} على خلقه بالقهر فله الصفات العليا والأسماء الحسنى {الكبير} أي: العظيم في ذاته وصفاته. ولما قال تعالى {ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر} ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبب ذكر بعده آية أرضية تدلّ على باهر قدرته وكمال نعمته وشمول إنعامه وأشار إلى السبب والمسبب بقوله تعالى: {ألم تر} وفي المخاطب بذلك ما تقدّم {أنّ الفلك} أي: السفن كباراً وصغاراً {تجري} أي: بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البرّ {في البحر} أي: على وجه الماء {بنعمة الله} أي: بإنعام الملك الأعلى المحيط علماً وقدرة المحسن إليكم بتعليم صفتها حتى تهيأت لذلك على يد أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام، وقيل: نعمة الله هنا هي الريح التي تتحرك بأمر الله {ليريكم من آياته} أي: عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها {إن في ذلك} أي: الأمر الهائل البديع الرفيع {لآيات} أي: دلالات واضحات على ماله من صفات الكمال {لكل صبار} على المشاق فيبعث نفسه في التفكير في عدم غرقه وفي مسيره إلى البلاد الشاسعة والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين، وتارة بريح واحدة. وفي إنجاء أبيه نوح عليه السلام ومن أراد الله تعالى من خلقه بها وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه وأموره {شكور} أي: مبالغ في كل من الصبر والشكر لأنهما الإيمان، كما ورد: الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 عظمة الله ما كان يعرفه في الشدّة إلا من طبعهم الله تعالى على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه، ولهذا قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) وها أنا أسأل الله الحنان المنان من فضله أن يجعلني منهم ويفعل ذلك بأهلي وأحبابي فإنه كريم جواد، ولما ذكر تعالى أن في ذلك لآيات ذكر أنّ الكل معترفون غير أنّ البصير يدركه أوّلاً ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلاً كما قال تعالى: {وإذا غشيهم} أي: علاهم وهم في الفلك حتى صار كالمغطي لهم {موج} أي: هذا الجنس وأفرده لشدّة اضطرابه وإتيانه شيئاً في أثر شيء متابعاً يركب بعضه بعضاً كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام واختلف في قوله تعالى {كالظلل} فقال مقاتل: كالجبال، وقال الكلبي: كالسحاب. والظلل جمع ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها، فإن قيل: كيف جعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع؟ أجيب: بأنّ الموج يأتي منه شيء بعد شيء فلما صاروا إلى هذه الحالة {دعوا الله} أي: مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله عالمين بجميع مضمون الآية السابقة من حقيته وعلوّه وكبريائه وبطلان ما يدعونه من دونه {مخلصين له الدّين} أي: الدعاء بأن ينجيهم لا يدعون شيئاً سواه بأنفسهم ولا قلوبهم لما اضطرّهم إلى ذلك {فلما نجاهم} أي: خلصهم من تلك الأهوال {إلى البر} نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين وانقسموا قسمين {فمنهم} أي: تسبب عن نعمة الإنجاء أنه كان منهم {مقتصد} أي: عدل موف في البرّ بما قد عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له، بمعنى أنه ثبت على ذلك وهم قليل كما دل عليه التصريح بالتبعيض، قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح إلى البحر فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن نجاني الله من هذه لأرجعنّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولأضعنّ يدي في يده فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، قال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، قال الكلبي: مقتصد في القول أي: من الكفار لأنّ بعضهم كان أشدّ قولاً وأعلى في الافتراء من بعض ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلبات الحياء في التصريح بذلك وهو الأكثر كما دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في العنكبوت {فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} (العنكبوت: 65) وقال هنا {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} ؟ أجيب: بأنه لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر، فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر وقوله تعالى {وما يجحدنا بآياتنا إلا كل ختار} أي: غدّار فإنه نقض للعهد الفطري أي: لما كان في البحر والختر أشدّ الغدر {كفور} أي: للنعم في مقابله قوله تعالى إن في ذلك لآيات أي: يعترف بها الصبار الشكور، ويجحدها الختار الكفور، فالصبار في موازنة الختار لفظاً ومعنى، والكفور في موازنة الشكور كذلك أما لفظا فيهما فظاهر، وأمّا كون الختار في موازنة الصبار معنى فلأن الختار هو الغدّار الكثير الغدر أو شديد الغدر مثال مبالغة من الختر وهو أشدّ الغدر، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر؛ لأنّ الصبور لا يعهده منه الإضرار فإنه يصبر ويفوّض الأمر إلى الله تعالى، وأما الغدّار ليعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه. وأما أن الكفور في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 مقابلة الشكور معنى فظاهر، ولما ذكر تعالى الدلائل من أول السورة إلى هنا وعظ بالتقوى بقوله تعالى: {يا أيها الناس} أي: عامّة. وقيل: أهل مكة {اتقوا ربكم} أي: الذي لا محسن إليكم غيره {واخشوا} أي: خافوا {يوماً} لا يشبه الأيام ولا يعدّ هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه {لا يجزي} أي: لا يقضي ولا يغني {والد عن ولده} والراجع إلى الموصوف محذوف أي: لا يجزي فيه. وفي التعبير بالمضارع إشارة إلى أنّ الوالد لا تزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ويتجدّد عنده العطف والرقة. والمفعول إما محذوف لأنه أشدّ في النفي وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده. وقوله تعالى {ولا مولود} عطف على والد أو مبتدأ وخبره {هو جاز عن والده} أي: فيه {شيئاً} من الجزاء وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة {إنّ وعد الله} أي: الذي له معاقد العز والجلال {حق} أي: أنّ هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن؛ لأنّ الله تعالى وعد به ووعده حق، وقيل: إنّ وعد الله حق بأن لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً لأنه وعد بأن لا تزر وازرة وزر أخرى ووعد الله حق {فلا تغرّنكم الحياة الدنيا} بزخرفها ورونقها فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق {ولا يغرّنكم بالله} أي: الذي لا أعظم منه ولا مكافئ مع ولايته معكم {الغرور} أي: الكثير الغرور المبالغ فيه وهو الشيطان الذي لا أحقر منه لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ويلهيكم به من تعظيم قدرها وينسيكم كيدها وغدرها وتعبها وأذاها فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم فلا تعدّونه معاداً فلا تتخذون له زاد لما اقترن بغروره من حلم الله تعالى وإمهاله، قال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة، وروي أنّ الحارث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال متى قيام الساعة وإني قد ألقيت حباً في الأرض فمتى السماء تمطر، وحمل امرأتي أذكر أم أنثى وما أعمل غداً وأين أموت؟ فنزل قوله تعالى: {إن الله} أي: بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال {عنده} أي: خاصة {علم الساعة} أي: وقت قيامها لا علم لغيره بذلك أصلاً {وينزل الغيث} أي: في أوانه المقدّر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {ويعلم ما في الأرحام} أي: من ذكر أو أنثى أحيّ أو ميت تامّ أو ناقص {وما تدري نفس} أي: من الأنفس البشرية وغيرها {ماذا تكسب غداً} أي: من خير أو شرّ وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. {وما تدري نفس بأي: أرض تموت} أي: كما لا تدري في أي: وقت تموت ويعلمه الله تعالى، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إنّ امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد، وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن عكرمة أنّ رجلاً يقال له الوارث من بني حازن جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب، وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد، وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً، وقد علمت بأيّ أرض ولدت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية، وعن قتادة قال: خمس من الغيب استأثر الله بهنّ فلم يطلع عليهنّ ملكاً مقرّباً ولا نبياً مرسلاً: إنّ الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي: سنة ولا في أي: شهر أليلاً أم نهاراً، وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل أليلاً أم نهاراً، ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى أحمر أم أسود، ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً أخيراً أم شراً، وما تدري نفس بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في برّ أم سهل أم جبل. وعن أحمد وابن أبي شيبة موقوفاً على شهر بن حوشب أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: فكأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند، فأمر سليمان الريح فحلمته إلى بلاد الهند فوق سحابة فلما استقرّ فيها قبض روحه ملك الموت، عليه السلام ثم جاء إلى سليمان عليه السلام فسأله عن نظره إلى الرجل، فقال ملك الموت: كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذا أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا متى تقوم الساعة إلا الله، ولا ما في الأرحام إلا الله، ولا متى ينزل الغيث إلا الله، وما تدري نفس بأي: أرض تموت إلا الله» . وعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثكم بأشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة الرعاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها. وخمس من الغيب لا يعلمهنّ إلا الله، ثم تلا إنّ الله عنده علم الساعة إلى آخر الآية، وعن أبي أمامة أنّ إعرابياً وقف على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر على ناقة له عشراء فقال: يا محمد ما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له رجل من الأنصار: دع عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلم إلي حتى أخبرك، وقعت أنت عليها وفي بطنها ولد منك، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إنّ الله يحب كل حيي كريم ويبغض كل قاس لئيم متفحش ثم أقبل على الأعرابي فقال خمس لا يعلمهنّ إلا الله إنّ الله عنده علم الساعة الآية» وعن سلمة بن الأكوع قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء إذ جاءه رجل على فرس فقال له من أنت: «قال أنا رسول الله قال متى الساعة قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال ما في بطن فرسي قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال فمتى نمطر قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله» وعن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إنّ الله عنده علم الساعة الآية» . وعن ابن مسعود قال أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس: إنّ الله عنده علم الساعة الآية، وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لم يعم على نبيكم إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان: إنّ الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة، وعن ربعي قال حدّثني رجل من بني عامر أنه قال: يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ فقال: «لقد علمني الله خيراً وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية» . وعن بنت معوّذ قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 عليه وسلم صبيحة عرسي وعندي جاريتان تغنيان وتقولان: وفينا نبيّ يعلم ما في غد فقال: «أما هذا فلا تقولاه ما يعلم ما في غد إلا الله» وعن ابن عزة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تدري نفس بأي: أرض تموت» ، وعن أبي مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «بينما هو جالس في مجلس فيه أصحابه جاءه جبريل في غير صورته يحسبه رجلاً من المسلمين فسلم فردّ، عليه السلام ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: أن تسلم وجهك لله وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت قال نعم ثم قال ما الإيمان قال أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والموت والحياة بعد الموت والجنة والنار والحساب والميزان والقدر خيره وشرّه، قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال نعم ثم قال ما الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك قال فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت قال نعم ثم قال فمتى الساعة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله: إنّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت» . {إن الله} أي: المختص بأوصاف الكمال {عليم} أي: شامل علمه للأمور كلها كلياتها وجزئياتها، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه عن الغير في هذه الخمس {خبير} أي: يعلم خبايا الأمور وخفايا الصدور، كما يعلم ظواهرها وجلاياها كل عنده على حدّ سواء فهو الحكيم في ذاته وصفاته، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده؛ لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم باختلال هذا النظام على ما فيه من الأحكام فقد انطبق آخر السورة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة على أوّلها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه، لا سيما الإيقان بالآخرة كان حيكماً. فسبحان من هذا كلامه وتعالى كبرياؤه وعز مرامه. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشراً بعدد من عمل المعروف ونهى عن المنكر» حديث موضوع. سورة السجدة مكية وهي ثلاثون آية، وستمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفاً {بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} بعموم البشارة والنذارة {الرحيم} الذي أسكن في قلوب أحبابه الشوق إليه والخضوع بين يديه وتقدّم في البقرة وغيرها الكلام على. {ألم} ومما لم يسبق أنها إشارة إلى أنّ الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم بكتاب معجز دال بإعجازه على صحة رسالته ووحدانية من أرسله، وسرد سبحانه هذه الأحرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 في أوائل أربع من هذه السور فزادت على الطواسين بواحدة إشارة إلى أنّ هذه المعاني في غاية الثبات لا انقطاع لها، ولما كان المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء أخبر سبحانه وتعالى عن هذا بأنه من عنده بقوله تعالى: {تنزيل الكتاب} أي: الجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء {لا ريب} أي: لا شك {فيه} لأنّ نافي الشك هو الإعجاز معه لا ينفك عنه فكل ما تقولونه مما يخالف ذلك تعنت أو جهل من غير ريب حال كونه {من ربّ العالمين} أي: الخالق لهم المدبر لمصالحهم فلا يجوز في عقل ولا يخطر في بال ولا يقع في وهم ولا يتصوّر في خيال أنه يصل شيء من كتابه تعالى إلى هذا النبي الكريم بغير أمره، ولا يتخيل أنّ شيئاً منه ليس بقول الله تعالى ثم لا يتخيل أنه من كلامه ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب؛ لأنّ هذا لا يفعل مع بعض الملوك فكيف بملك الملوك فكيف بمن هو عالم بالسرّ والجهر، محيطٌ علمه بالخفي والجلي، تنبيه: في تنزيل الكتاب إعرابات مختلفة، وأظهرها ما جرى عليه الجلال المحلي من أنّ تنزيل الكتاب مبتدأ، ولا ريب فيه خبر أوّل ومن رب العالمين خبر ثان. وقوله تعالى: {أم يقولون} أي: مع ذلك الذي لا يمتري فيه عاقل {افتراه} أي: تعمد كذبه، أم فيه هي المنقطعة والإضراب للانتقال لا للإبطال، وقيل الميم صلة، أي: أتقولون افتراه. وقوله تعالى {بل هو الحق} أي: الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله إضراب ثان، ولو قيل بأنه إضراب إبطاليّ لنفس افتراه وحده لكان صواباً، وعلى هذا يقال: كل ما في القرآن إضراب فهو إضراب انتقالي، إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالياً لأنه إبطال لقولهم أي: ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحق. وفي كلام الزمخشري ما يرشد إلى هذا فإنه قال: والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريب في ذلك أي: في كونه من رب العالمين. قال ابن عادل: ويشهد لوجاهته أم يقولون افتراه لأنّ قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله بل هو الحق من ربك وما فيه من تقرير أنه من عند الله، وهذا أسلوب صحيح محكم انتهى. وقوله تعالى {من ربك} أي: المحسن إليك بإنزاله وإحكامه حال من الحق، والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل أيضاً في {لتنذر} ويجوز أن يكون العامل في لتنذر غيره، أي: أنزله لتنذر {قوماً} أي: ذوي قوّة وجلد ومنعة {ما أتاهم من نذير} أي: رسول في هذه الأزمان القريبة لقول ابن عباس أنّ المراد الفترة، ويؤيده إثبات الجار في قوله تعالى {من قبلك} ولما ذكر تعالى علة الإنزال أتبعه علة الإنذار بقوله تعالى: {لعلهم يهتدون} أي: ليكون حالهم في مجاري العادات حال من تُرجى هدايته إلى كمال الشريعة، وأمّا التوحيد فلا عذر لأحد فيه مع إقامة الله تعالى من حجة العقل ومع ما أتقنه الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من أوضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه: «أبي وأبوك في النار» وغير ذلك من الأدلة الدالة على أنّ من مات قبل دعوته على الشرك فهو في النار، لكن ذكر بعض العلماء أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أحيا له أبويه وأسلما على يديه ولا بدع في ذلك، فإنّ الله تعالى أكرمه بأشياء لا تحصر، ولما ذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 تعالى: الرسالة وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل قال: {الله} أي: الحاوي لجميع صفات الكمال وحده {الذي خلق السموات} كلها {والأرض} بأسرها {وما بينهما} من المنافع العينية والمعنوية {في ستة أيام} كما يأتي تفصيله في فصلت إن شاء الله تعالى {ثم استوى على العرش} وهو في اللغة سرير الملك استواء يليق به تعالى لم تعهد، وأمثله وهو أنه تعالى أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه لا شريك له ولا نائب فيه ولا وزير كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا امتنعت ممالكهم وتباعدت أطرافها وتناءت أقطارها {ما لكم من دونه} لأن كل ما سواه دونه وتحت قهره، ودل على عموم النفي بقوله تعالى: {من ولي} أي: يلي أموركم ويقوم بمصالحكم وينصركم إذا حل بكم شيء مما تنذرون به {ولا شفيع} يشفع عنده في تدبيركم أو في أحد منكم بغير إذن. {أفلا تتذكرون} هذا فتؤمنون. ولما نفى أن يكون له وزيرٌ أو شريكٌ في الخلق ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء: {يدبر الأمر} أي: كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه، كما نظر في إقباله لأحكام فواتحه وعوازمه، لا يكل شيئاً منه إلى أحد من خلقه. قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهاره القدرة، والعرش مظهر التدبير لا مقر لمدبر. ولما كان المقصود للقرب إنما هو تدبير ما يمكن مشاهدتهم له من العالم قال تعالى مفرداً: {من السماء} أي: فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في إدبار ما يعمله {إلى الأرض} أي: غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم العلوي، والأرض تشمل كل ما سفل فيشمل ذلك العالم السفلي. تنبيه: ههنا همزتان مكسورتان، فقالون وابن كثير يسهل الأولى كالياء مع المد والقصر، وورش وقنبل يسهل الثانية، ولهما إبدالهما من غير مدَ، وأسقط أبو عمرو الأولى مع المد والقصر والباقون بتحقيقهما. ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد فكان بذلك مستبعداً؛ أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {ثم يعرج} أي: يصعد {إليه} أي: بصعود الملك إلى الله تعالى أي: إلى الموضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى {إني ذاهب إلى ربي} (الصافات: 99) {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله} (النساء: 100) ونحو ذلك، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير إلى السماء كأنه صاعد في معارج، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم في أسرع من لمح البصر {في يوم} أي: من أيام الدنيا {كان مقداره} لو كان الصاعد واحداً منكم على ما تعهدون {ألف سنة مما تعدون} من سنيكم التي تعهدون، قال البقاعي: والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ، أما اللفظ فالتعبير بكان مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً، فإذا فرغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه الأجر، أو لا يبعد هذا وهو خلق محتاج، فما ظنّك بمن خلق الخلق في ستة أيام ولو شاء لخلقهم في لمحة، وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء انتهى. فنزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو ما بين السماء والأرض فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 مسافته خمسمائة سنة، فينزل في مسيرة خمسمائة سنة، ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة كأنه تعالى يقول: لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة، والملائكة يقطعونه في يوم واحد، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء، وأما قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} فأراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل، عليه السلام فسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد والضحاك، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بين السماء والأرض خمسمائة عام ثم قال: أتدرون ما الذي فوقها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: سماء أخرى أتدرون كم بينها وبينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: خمسمائة عام حتى عد سبع سموات ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: العرش ثم قال: أتدرون ما بينه وبين السماء السابعة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: ما هذه تحتكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: أرض، أتدرون ما تحتها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: أرض أخرى أتدرون كم بينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: مسيرة سبعمائة عام، حتى عد سبع أرضين ثم قال: أيمُ الله لو دليتم بحبل لهبط على علم الله وقدرته» وروي: «مَثَلُ السموات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، وإن فضل الكرسي على السموات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة» . وقوله تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض} (البقرة: 255) يدل على أن الكرسي محيط بالكل. وقيل: مقدار ألف سنة وخمسين ألف سنة كلها في القيامة، ومعناه حينئذ: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي: يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا في يوم كان مقداره ذلك، وذلك اليوم يتفاوت، فهو على الكافر كخمسين ألف سنة، وعلى المؤمن دون ذلك. بل جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كمثل صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا. وقيل: إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر؛ وذلك لأن من نفد أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله: {في يوم كان مقداره ألف سنة} يعني: يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه؟ وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله: {مقداره خمسين ألف سنة} لأن ذلك إذا كان إشارة إلى دوام نفاذ الأمر فسواء يعبر بألف سنة أو بخمسين ألف سنة لا يتفاوت، إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى. ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق، ثم عالم الأرواح والأمر بيّن أنه تعالى عالم بما كان وما يكون بقوله تعالى: {ذلك} أي: الإله الواحد القهار، {عالم الغيب والشهادة} أي: ما غاب عن الخلق، ومنه الذي تقدمت مفاتيحه وما حضر وظهر فيدبر أمرهما {العزيز} أي: الغالب على أمره {الرحيم} على العباد في تدبيره، وفيه إيماء بأنه تعالى يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً. ولما ذكر تعالى الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله تعالى: {خلق السموات والأرض وما بينهما} ذكر الدليل عليها من الأنفس بقوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} قال ابن عباس: أتقنه وأحكمه، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 في أحسن تقويم} (التين: 4) وقال مقاتل: علم كيف يخلق كل شيء من قول القائل: فلان يحسن كذا إذا كان يتقنه، وقيل: خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض، وقيل: معناه أحسن إلى كل خلقه. وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام فعلاً ماضياً، والجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه، والباقون بسكونها على أنه بدل من كل شيء بدل اشتمال والضمير عائد على كل شيء. ولما كان الحيوان أشرف الأجناس وكان الإنسان أشرفه خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام بالآفاق. فقال دالاً على البعث: {وبدأ خلق الإنسان} أي: آدم عليه السلام {من طين} قال الرازي: ويمكن أن يقال الطين ماء وتراب مجتمعان، فالآدمي أصله مني، والمني أصله غذاء، والأغذية إما حيوانية أو نباتية، والحيوانية ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين. {ثم جعل نسله} أي: ذريته {من سلالة} أي: نطفة سميت سلالة لأنها تسل من الإنسان أي: تنفصل منه وتخرج من صلبه، ونحوه قولهم للولد: سليل، هذا على التفسير الأول؛ لأن آدم كان من الطين ونسله من سلالة {من ماء مهين} أي: ضعيف، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من طين، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي ماء مهين وهو نطفة الرجل، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله تعالى: {ثم سواه} قومه بتصوير أعضائه وإبداع المعاني على ما ينبغي {ونفخ فيه} أي: آدم {من روحه} أي: جعله حياً حساساً بعد أن كان جماداً، وإضافة الروح إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله، وناقة الله، فيا له من شرف ما أعلاه، ففيه إشعار بأنه خلق عجيب وإن له شأناً له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية، قال البيضاوي: ولأجله أي: ولأجل كون أن له شأناً إلى آخره. روي: من عرف نفسه فقد عرف ربه. هذا الحديث لا أصل له، وبتقدير أن له أصلاً ليس معناه ما ذكر بل معناه: من عرف نفسه وتأمل في حقيقتها عرف أن له صانعاً موجداً له، وإليه أشار بقوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 21) ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد مخاطباً للذرية بقوله تعالى: {وجعل لكم} بعد أن كنتم نطفاً أمواتاً {السمع} أي: لتدركوا به ما يقال لكم {والأبصار} أي: لتدركوا بها الأشياء على ما هي عليه {والأفئدة} أي: القلوب المودعة غرائز العقول. فإن قيل: ما الحكمة في تقديم السمع على البصر والبصر على الأفئدة؟ أجيب بأن الإنسان يسمع أولاً كلاماً فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه، فإن قيل: ما الحكمة في ذكره المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع؛ لأن المصدر لا يجمع؟ أجيب: بأن السمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأُذن ولا اختيار لها فيه، وإن الصوت من أي جانب كان واصل إليه ولا قدرة للأُذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دون البعض، وأما البصر فمحله العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره، وكذلك الفؤاد محله الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريدون غيره. فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له، والعين كالأصل، وقوة الإبصار آلتها، والفؤاد كذلك، وقوة الفهم آلته، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة، ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد، ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويثبتهما. فإن قيل: لم قدم السمع هنا وقدم القول في قوله تعالى في البقرة {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} (البقرة: 7) أجيب: بأنه تعالى عند الإعطاء ذكر الأدنى ثم ارتقى إلى الأعلى فكأنه قال: أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب، وعند السلب قال: ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها. ولما لم يبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال تعالى: {قليلاً ما تشكرون} أي: تشكرون شكراً قليلاً، فما مزيدة مؤكدة للقلة. وقوله تعالى: {وقالوا} معطوف على ما سبق منهم فإنهم قالوا: محمد ليس برسول، والإله ليس بواحد، والبعث ليس بممكن فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم، وختم بالتعجب من كفرهم وكان استبعادهم للبعث الذي هو الثابت الأصل من أعظم كفرهم وهو قولهم {أئذا} أي: انبعث إذا {ضللنا} أي: غبنا {في الأرض} أي: صرنا تراباً مخلوطاً بتراب الأرض لا نتميز منه، وأصله من ضل الماء في اللبن إذا أذهب فيه، وقولهم {أئنا لفي خلق جديد} أي: يجدد خلقنا استفهام إنكاري زيادة في الاستبعاد. فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه، وذكر الوحدانية، وذكر دليلها وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من طين. ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل؟ أجيب: بأنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلقة الإنسان ابتداء دليل على قدرته على الإعادة، ولهذا استدل تعالى على إنكار الحشر بالخلق الأول ثم يعيده وهو أهون عليه وقوله تعالى: {الذي أنشأها أول مرة} (يس: 79) وأيضاً {خلق السموات والأرض} كما قال: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أنه يخلق مثلهم بلى} (يس: 8) وقرأ نافع والكسائي {أئذا ضللنا في الأرض} أنا الأول: بالاستفهام والثاني: بالخبر، وقرأ ابن عامر الأول بالخبر الثاني بالاستفهام، والباقون بالاستفهام فيهما، ومذهب قالون وأبي عمرو في الاستفهام تسهيل الثانية وإدخال الألف بينها وبين همزة الاستفهام، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وهشام يسهل الثانية ويحققها مع الإدخال، والباقون بتحقيقهما من غير إدخال. وقوله تعالى {بل هم بلقاء ربهم كافرون} أي: جاحدون إضراب عن الأول أي: ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً، بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة، حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب، أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله، فإنهم كرهوه فأنكروا المفضي إليه، ثم بين لهم ما يكون من الموت إلى العذاب بقوله تعالى: {قل} أي: يا أفضل الخلق لهم {يتوفاكم} أي: يقبض أرواحكم {ملك الموت الذي وكل بكم} أي: بقبض أرواحكم وهو عزرائيل عليه السلام والتوفي: استيفاء العدد، معناه: أن يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليه الموت، روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحةٍ لليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة، فهو يقبض أنفس الخلق من مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد: جعلت الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء. وفي بعض الأخبار: أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت، وعن معاذ بن جبل أن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال: الآن يزار بك عسكر الموت، فيصير ملقىً لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعى الخلل بسببه. فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده تعالى صرّفه في ذلك فقام به كما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب؛ لأنه ربما يستدل بعض الحذق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين ومدبر الخلائق أجمعين. نسأل الله تعالى أن يقبضنا على التوحيد، وأن يستعملنا في طاعته ما أحيانا ويفعل ذلك بأهلنا وإحبائنا. ولما قام هذا البرهان القطعي على قدرته التامة علم أن التقدير: ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره، وعطف عليه قوله تعالى {ثم إلى ربكم} أي: الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان {ترجعون} أي: تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم. ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس شرع في بعض أحواله بقوله تعالى: {ولو ترى} أي: تبصر {إذ المجرمون} أي: الكافرون {ناكسوا رؤوسهم} أي: مطأطؤها خوفاً وخجلاً وحزناً وذلاً {عند ربهم} المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم قائلين بغاية الذل والرقة {ربنا} أي: المحسن إلينا {أبصرنا} أي: ما كنا نكذب به {وسمعنا} منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه {فارجعنا} بمالك من هذه الصفة المقتضية للإحسان إلى الدنيا دار العمل {نعمل صالحاً} فيها {إنا موقنون} أي: ثابت لنا الآن الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك.w فلا ينفعهم ذلك ولا يرجعون، وجواب لو محذوف تقديره: لرأيت أمراً فظيعاً، والمخاطب يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شفاء لصدره، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاماً. وإذ على بابها من المضي لأن لو تصرف المضارع للمضي، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقيق وقوعه نحو {أتى أمر الله} (النحل: 1) وجعله أبو البقاء مما وقع فيه إذ موقع إذا ولا حاجة إليه. وقوله تعالى: {ولو شئنا} أي: بما لنا من العظمة {لآتينا كل نفس} أي: مكلفة لأن الكلام فيها {هداها} فتهتدي بالإيمان والطاعة باختيار منها جواب عن قولهم {ربنا أبصرنا وسمعنا} وذلك أن الله تعالى قال: إني لو أردت منكم الإيمان لهديتكم في الدنيا، ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت ولا شئت إيمانكم فلا أردكم، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا: إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر {ولكن} لم أشأ ذلك لأنه {حق القول مني} وأنا من لا يخلف الميعاد؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 لأن الإخلاف إما العجزٍ أو نسيانٍ أو حاجةٍ ولا شيء من ذلك يليق بجنابي ولا يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً: {لأملأن جهنم} أي: التي هي محل إهانتي {من الجنة} أي: الجن طائفة إبليس، وكأنه تعالى أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم {والناس أجمعين} حيث قلت لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} (ص: 85) فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً والخلق في الحقيقة والمشيئة لي. ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص بهم عن عذابهم قال لهم الخزنة إذا دخلوا جهنم: {فذوقوا} العذاب {بما} أي: بسبب ما {نسيتم لقاء يومكم} وحققه وبين ذلك بقوله تعالى: {هذا} أي: بترككم الإيمان به {إنا نسيناكم} أي: عاملناكم بمالنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي لكم فتركناكم في العذاب {وذوقوا عذاب الخلد} أي: المختص بأنه لا آخر له {بما} أي: بسبب ما {كنتم تعملون} أي: من الكفر والتكذيب وإنكار البعث. ولما ذكر تعالى علامة أهل الكفر أن ذكر علامة أهل الإيمان بقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا} أي: الدالة على عظمتنا {الذين إذا ذكروا بها} أي: من أي: مذكر كان في أي: وقت كان {خروا سجداً} أي: بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم خضوعاً ثابتاً دائماً {وسبحوا} أي: أوقعوا التسبيح به عن كل شائبة نقص متلبسين {بحمد ربهم} أي: قالوا سبحان الله وبحمده. وقيل: صلوا بأمر ربهم. ولما تضمن هذا تواضعهم صرح به في قوله تعالى {وهم لا يستكبرون} أي: عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصير مستكبراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته في غير وقت الصلاة» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل إبليس يبكي يقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ والمستمع والسامع. ولما كان المتواضع ربما ينسب إلى الكسل نفى ذلك عنهم مبيناً لما تضمنته الآية السالفة من خوفهم بقوله تعالى: {تتجافى} أي: ترتفع وتنبو {جنوبهم عن المضاجع} عبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة: *نبيٌّ تجافى جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع* والمضاجع: جمع المضجع وهو الموضع الذي يضجع عليه يعني الفراش وهم المتهجدون الذين يقيمون الصلاة. قال أنس: «نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وعن أنس أيضاً قال: «نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون صلاة المغرب إلى صلاة العشاء» قال عطاء: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة والفجر في جماعة. وعنه صلى الله عليه وسلم «من صلى العشاء في جماعة كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 كقيام نصف ليلة، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» وعن أنس كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء، وعنه أيضاً قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم راقداً قط قبل العشاء ولا متحدثاً بعدها» فإن هذه الآية نزلت في ذلك، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم» فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقه قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير. وعن مالك بن دينار قال: سألت أنساً عن هذه الآية فقال: كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى العشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وعن ابن أبي حازم قال: هي ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قال: قيام العبد من الليل، وعن معاذ بن جبل أيضاً قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم قرأ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه فقال: كف عنك هذا فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» . وعن كعب قال: إذا حشر الناس نادى مناد: هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع أين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ثم يخرج عنق من نار فيقول: أمرت بثلاثٍ: بمن جَعَلَ مع الله إلهاً آخر، وبكل جبار عنيد، وبكل معتدٍ، لأَنَا أعرف بالرجل من الوالد بولده والمولود بوالده، ويؤمر بفقراء المسلمين إلى الجنة فيحبسون فيقولون: تحبسونا ما كان لنا أموال وما كنا أمراء، وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير للسيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة للداء» . وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه من الانهزام وما عليه في الرجوع فرجع حتى هريق دمه» وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يقوم الليل حتى تنفطر قدماه فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبداً شكوراً» وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام» . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ربيعة الخرشي قال: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فيكونون ما شاء الله أن يكونوا، ثم ينادي منادٍ: سيعلم أهل الجمع لمن يكون العز اليوم والكرم، ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً فيقومون وفيهم قلة، ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم يعود فينادي المنادي: سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم أكثر من الأولين ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث ثم يعود فينادي المنادي: سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم، ليقم الحامدون على كل حال فيقومون وهم أكثر من الأولين، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {تتجافى في جنوبهم عن المضاجع} يقول: تتجافى لذكر الله إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله. ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة بين أنه لها بقوله تعالى: مبيناً لحالهم {يدعون} أي: داعين {ربهم} الذي عوّدهم بإحسانه ثم علله بقوله تعالى: {خوفاً} أي: من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء أعرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا لأنهم لا يأمنون مكر الله لأنه يفعل ما يشاء {وطمعاً} في رضاه الموجب لثوابه، وقال ابن عباس: خوفاً من النار وطمعاً في الجنة وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب وإن كانوا مجتهدين في طاعته. ولما كانت العبادة تقطع غالباً عن التوسع في الدنيا بما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عند الحاجة، وصفهم الله تعالى بقوله تعالى: {ومما رزقناهم} أي: بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوة {ينفقون} من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم فلا يبخلون بما عندهم اعتماداً على الخلاق الرزَّاق الذي ضمن الخلق فهم بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم. ولما ذكر تعالى جزاء المستكبرين ذكر جزاء المتواضعين بقوله عز من قائل: {فلا تعلم نفس} أي: من جميع النفوس مقربة ولا غيرها {ما أُخفي} أي: خبئ {لهم} أي: لهؤلاء المذكورين من مفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم في الصلاة في جوف الليل وبالصدقة وبغير ذلك، وقرأ حمزة بسكون الياء والباقون بالفتح. ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال تعالى {من قرة أعين} أي: من شيء نفيس تقرّ به أعينهم لأجل ما أقلقوها عن قرارها بالنوم، ثم صرح بما أفهمته فاء السبب بقوله تعالى: {جزاء} أي: أخفاها لهم لجزائهم {بما} أي: بسبب ما {كانوا يعملون} أي: من الطاعات في دار الدنيا. روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتهم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم} الآية وعن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب في التوراة لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنه لفي القرآن {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} . وعن ابن عمر قال: إن الرجل من أهل الجنة ليجيء فيشرف عليه النساء فيقلن: يا فلان بن فلان ما أنت بمن خرجت من عندها بأولى بك منا فيقول: ومن أنتن؟ فيقلن: نحن من اللاتي قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 جزاء بما كانوا يعملون} وعن عامر بن عبد الواحد قال: بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكان سبعين سنة، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه فتقول له: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول: من أنت فتقول: أنا مزيد، فيمكث معها سبعين سنة ويلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه، فتقول: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول: من أنت فتقول: أنا التي قال الله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} . وعن سعيد بن جبير قال: يدخلون عليهم على مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم، وذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} وعن كعب قال: سأصف لكم منزل رجل من أهل الجنة كان يطلب حلالاً ويأكل حلالاً حتى لقي الله تعالى على ذلك، فإنه يعطى يوم القيامة قصراً من لؤلؤة واحدة ليس فيها صدع ولا وصل، فيها سبعون ألف غرفة، وأسفل الغرف سبعون ألف بيت كل بيت سقفه صفائح الذهب والفضة ليس بموصول، ولولا أن الله تعالى سخر النظر لذهب بصره من نوره غلظ الحائط خمس عشر ميلاً وطوله في السماء سبعون ميلاً، في كل بيت سبعون ألف باب يدخل عليه في كل بيت من كل باب سبعون ألف خادم لا يراهم من في هذا البيت ولا يراهم من في هذا البيت، فإذا خرج من قصره سار في ملكه مثل عمر الدنيا يسير في ملكه عن يمينه وعن يساره ومن ورائه، وأزواجه معه وليس معه ذكر غيره ومن بين يديه ملائكة قد سخروا له وبين أزواجه ستر، وبين يديه ستر ووصاف ووصائف قد أفهموا ما يشتهي وما تشتهي أزواجه، ولا يموت هو ولا أزواجه ولا خدّامه أبداً، نعيمهم يزداد كل يوم من غير أن يبلي الأول، وقرة عين لا تنقطع أبداً، لا يدخل عليه فيه روعة أبداً. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لو أن أحد أهل الجنة رجل أضاف آدم فمن دونه فوضع لهم طعاماً وشراباً حتى خرجوا من عنده لا ينقصه ذلك شيئاً مما أعطاه الله» وعن سهل بن سعد قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف الجنة حتى انتهى ثم قال: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآيتين قال القرطبي: إنهم أخفوا عملاً وأخفى لهم ثواباً فقدموا على الله فقرت تلك الأعين، وعن أبي اليمان قال: الجنة مائة درجة أولها درجة فضة وأرضها فضة ومساكنها فضة وآنيتها فضة وترابها المسك، والثانية ذهب وأرضها ذهب ومساكنها ذهب وآنيتها ذهب وترابها المسك، والثالثة لؤلؤ وأرضها لؤلؤ ومساكنها لؤلؤ وآنيتها لؤلؤ وترابها المسك وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وتلا هذه الآية {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الآية. وعن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: أي: رب، أي: أهل الجنة أدنى منزلة؟ فقال: رجل يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل فيقول كيف أدخل وقد نزلوا منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا فيقول: نعم أي: رب قد رضيت فيقال له: فإن لك هذا وعشرة أمثاله معه فيقول: قد رضيت أي رب فيقال له: فإن لك هذا وما اشتهت نفسك ولذت عينك فقال موسى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 أي: رب فأي أهل الجنة أرفع منزلة؟ قال: إياها أردت وسأحدثك عنهم، إني غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال: ومصداق ذلك في كتاب الله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} . ونزل في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه حين تنازعا فقال الوليد بن عقبة لعلي: اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وأنا والله أبسط منك لساناً وأحد منك سناناً وأشجع جناناً وأملأ منك حشواً في الكتيبة، فقال له علي اسكت فإنك فاسق. {أفمن كان مؤمناً} أي: راسخاً في التصديق بجميع ما أخبرت به الرسل {كمن كان فاسقاً} أي: راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان وقال تعالى {لا يستوون} ولم يقل تعالى لا يستويان؛ لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين فلا يستوي جمع من هؤلاء بجميع من أولئك ولا فرد بفرد. قال قتادة: لا يستوون لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة. ولما نفى استواءهم أتبعه حال كلَ على سبيل التفصيل وبدأ بحال المؤمن بقوله تعالى: {أما الذي آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: الطاعات {فلهم جنات المأوى} أي: التي يأوي إليها المؤمنون فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة، وهي نوع من الجنات قال الله تعالى: {ولقد رآه نزله أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى} (النجم: 13، 15) سميت بذلك لما روى عن ابن عباس قال: تأوي إليها أرواح الشهداء وقيل هي عن يمين العرش {نزلاً} أي: عداداً لهم أول قدومهم قال البقاعي: كما يهيأ للضيف على ما لاح أي: عند قدومه {بما} أي: بسبب ما {كانوا يعملون} من الطاعات فإن أعمالهم من رحمة ربهم، وإذا كانت هذه الجناب نزلاً فماظنك بما بعد ذلك هو لعمري ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها، فإياك أن تخادع أو يغرنك ملحد، ثم ثنى بحال الكافر بقوله تعالى: {وأما الذين فسقوا} أي: خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة {فمأواهم النار} أي: التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه ملجؤهم ومنزلهم أي: فالنار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين {كلما أرادوا} أي: وهم مجتمعون، فكيف إذا أراد بعضهم {أن يخرجوا منها} بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون نفوسهم من محيط الأدلة ومن دائرة الطاعات إلى ميدان المعاصي والزلات فيعالجون الخروج، فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها {أعيدوا فيها} فهو عبارة عن خلودهم فيها {وقيل لهم} أي: من أي: قائل وكل بهم {ذوقوا عذاب النار} إهانة لهم وزيادة في تغيظهم وقوله تعالى {الذي كنتم به تكذبون} صفة لعذاب، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال: وذكر على معنى الجحيم والحريق. ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان قال تعالى: {ولنذيقهم من العذاب الأدنى} أي: عذاب الدنيا، قال الحسن: هو مصائب الدنيا وأسقامها وقال عكرمة: الجوع بمكة تسع سنين أكلوا فيها الجيف والعظام والكلاب، وقال ابن مسعود: هو القتل بالسيف يوم بدر {دون العذاب الأكبر} وهو عذاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة، فإن قيل: ما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر، والأدنى إنما هو في مقابلة الأقصى والأكبر إنما هو في مقابلة الأصغر. أجيب: بأنه حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما: أنه قريب، والآخر: أنه قليل صغير، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران: أحدهما: أنه بعيد، والآخر: أنه عظيم كبير، لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح للتخويف، فإن العذاب الآجل وإن كان قليلاً فلا يحترز عنه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلاً، وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل. وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد؛ لما ذكر. فقال في عذاب الدنيا: العذاب الأدنى ليحترز العاقل ولو قال تعالى: ولنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان ليحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً، وقال في عذاب الآخرة: الأكبر لذلك المعنى، ولو قال: من العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه من الكبر {لعلهم يرجعون} إلى الإيمان أي: من بقي منهم بعد بدر، فإن قيل: ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال، أجيب بوجهين: أحدهما: معناه لنذيقنهم إذاقة الراجي كقوله تعالى {إنا نسيناكم} يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً كذلك هنا، والثاني: نذيقنهم العذاب، إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه. {ومن} أي: لا أحد {أظلم ممن ذكر بآيات ربه} أي: القرآن {ثم أعرض عنها} فلم يتفكر فيها، وثم لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكر بها عقلاً كما في بيت الحماسة: *وما يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها* أي: لا يكشف الأمر العظيم إلا رجل كريم موصوف بما ذكر، والغماء بتشديد الميم والمد أي: في مدة اقتحام الحرب، والشاهد في قوله: ثم يزورها، إذ المعنى أنه استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها {إنا من المجرمين} أي: الكافرين {منتقمون} وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على مجرد العداد في الظالمين فكيف إذا كانوا أظلم الظالمين، والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا أما باطناً بالاستدراج بالنعم، وأما ظاهراً بإحلال النقم وفي الآخرة بدوام العذاب على ممر الآباد. ولما قرر الأصول الثلاثة وعاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله تعالى {لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير} (القصص: 46) بين أنه ليس بدعا من الرسل بقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} أي: الجامع للأحكام وهو التوراة فكان قبلك رسل مثلك، وذكر موسى عليه السلام لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من أنزل عليه كتاب من أنبياء بني إسرائيل بعد فترة كثيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام، ولم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوءة موسى عليه السلام فذكر المجمع عليه {فلا تكن في مريه} واختلف في الهاء في قوله تعالى {من لقائه} على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 أقوال: أحدها: أنها عائدة على موسى عليه السلام والمصدر مضاف لمفعوله أي: من لقائك موسى ليلة الإسراء. وامتحن المبرد الزجاج في هذه المسألة فأجاب بما ذكر قال ابن عباس وغيره: المعنى فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوعاً إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن النار والدجال في آيات آراهن الله إياه» وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو يصلي في قبره» ، فإن قيل: قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة ومراجعته في أمر الصلاة، فكيف الجمع بين هذين الحديثين. أجيب: بأنه يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، فلما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريده الله تعالى وهو على كل شيء قدير. فإن قيل: كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في الدار الآخرة وهي ليست دار عمل، وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنبياء وهم يحجون؟ أجيب عن ذلك بأجوبة: الأول: أن الأنبياء أفضل من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما صح في الحديث، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا لكنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل إلى أن تفنى ويفضوا إلى دار الجزاء التي هي الجنة. الجواب الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم رأى حالهم التي كانوا عليها في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث: أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع قال الله تعالى {دعواهم فيها سبحانك اللهم} (يونس: 10) وقال صلى الله عليه وسلم «يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس» فالعبد يعبد ربه تعالى في الجنة أكثر ما كان يعبده في دار الدنيا، وكيف لا يكون ذلك وقد صار مثل حال الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} (الأنبياء: 20) غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي مقتضى الطبع. ثانيها: أن الضمير يعود إلى الكتاب وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي: من لقاء الكتاب لموسى أو المعول أي: من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاء تصح نسبته إلى كل منهما؛ لأن من لقيك فقد لقيته. قال السدي: المعنى فلا تكن في مرية من لقائه أي: تلقى موسى كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. ثالثها: أنه يعود على الكتاب على حذف مضاف أي: من لقاء مثل كتاب موسى. رابعها: أنه عائد على ملك الموت عليه السلام لتقدم ذكره. خامسها: عوده على الرجوع المفهوم من قوله {إلى ربكم ترجعون} أي: لا تكن في مرية من لقاء الرجوع. سادسها: أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مما ابتلي به موسى من الابتلاء والامتحان قاله الحسن أي: لا بد أن تلقى ما لقي موسى من قومه، واختار موسى عليه السلام الحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه من قومه إلا الذين لم يؤمنوا، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لم يؤمن به آذاه كفرعون، ومن آمن به من بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 إسرائيل آذاه أيضاً بالمخالفة، فطلبوا أشياء مثل رؤية الله جهرة، وكقولهم {فاذهب أنت وربك فقاتلا} (المائدة: 24) وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب، واختلف في الضمير أيضاً في قوله تعالى {وجعلناه} على قولين: أحدهما: يرجع إلى موسى أي: وجعلنا موسى {هدى} أي: هادياً {لبني إسرائيل} كما جعلناك هادياً لأمتك. والثاني: أنه يرجع إلى الكتاب أي: وجعلنا كتاب موسى هادياً كما جعلنا كتابك كذلك. {وجعلنا منهم} أي: من أنبيائهم وأحبارهم {أئمة يهدون} أي: يرفعون البيان ويعملون على حسبه {بأمرنا} أي: بما نزلنا فيه من الأوامر، كذلك جعلنا من أمتك صحابة يهدون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة قبل الميم، ولهم أيضاً إبدالها ياء، وحققها الباقون ومد هشام بين الهمزتين بخلاف عنه، وقوله تعالى {لما صبروا} قرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم أي: بسبب صبرهم على دينهم وعلى البلاء من عدوهم ولأجله، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي: حين صبرهم على ذلك، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله تعالى {وكانوا بآياتنا} الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لما لها من العظمة {يوقنون} أي: لا يرتابون في شيء منها ولا يعملون فعل الشاك فيها بالإعراض. ولما أفهم قوله تعالى منهم أنه كان منهم من يضل عن أمر الله قال الله تعالى: {إن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك {هو} أي: وحده {يفصل بينهم} أي: بين الهادين والمهديين والضالين والمضلين {يوم القيامة} بالقضاء الحق {فيما كانوا فيه يختلفون} أي: من أمر الدين لا يخفي عليه شيء منه وأما غير ما اختلفوا فيه، فالحكم فيه لهم أو عليهم، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو. ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد بقوله تعالى: {أولم يهد} أي: يبين كما رواه البخاري عن ابن عباس {لهم كم أهلكنا} أي: كثرة من أهلكنا {من قبلهم من القرون} الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها. وقوله تعالى {يمشون} حال من ضمير لهم {في مساكنهم} أي: في أسفارهم إلى الشام وغيرها كمساكن عاد وثمود وقوم لوط فيعتبروا {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم {لآيات} أي: دلالات على قدرتنا {أفلا يسمعون} سماع تدبر واتعاظ فيتعظوا بها. {أولم} أي: أيقولون في إنكار البعث أئذا ضللنا في الأرض ولم {يروا أنا} بما لنا من العظمة {نسوق الماء} أي: من السماء أو الأرض {إلى الأرض الجرز} أي: التي جرز نباتها أي: قطع باليبس والتهشم أو بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبات فيها، وفي البخاري عن ابن عباس أنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز ويدل عليه قوله تعالى {فنخرج به} من أعمال الأرض بذلك الماء {زرعاً} أي: نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب، وقيل الجرز: اسم موضع باليمن {تأكل منه أنعامهم} أي: من حبه وورقه وتبنه وحشيشه {وأنفسهم} أي: من الحبوب والأقوات، وقدّم الأنعام لوقوع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم ولأن الزرع غذاء للدواب لابد منه، وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع، ثم الإنسان يأكل من الحيوان. فإن قيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 في سورة عيسى قدم ما للإنسان أولاً فما الحكمة؟ أجيب: بأن السياق فيها لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} (عبس: 24) ثم قال: {فأنبتنا فيها حباً} (عبس: 27) وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح للأنعام فقدمه، وهذا السياق لمطلق إخراج الزرع، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام ولا يصلح للإنسان. ولما كانت هذه الآية مبصرة قال {أفلا يبصرون} هذا فيعلموا أنا نقدر على إعادتهم بخلاف الآية الماضية فإنها كانت مسموعة فقال: {أفلا يسمعون} . ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى: {ويقولون} أي: مع هذا البيان الذي ليس معه خفاء {متى هذا الفتح} أي: يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويوم نصرهم عليهم وقيل: هو يوم بدر، وعن مجاهد والحسن يوم فتح مكة {إن كنتم صادقين} أي: عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لابد من وقوعه حتى نؤمن إذا رأيناه، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء الجهلة {يوم الفتح} أي: الذي تستهزئون به وهو يوم القيامة {لا ينفع الذين كفروا} أي: غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها، سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف {إيمانهم} لأنه ليس إيماناً بالغيب {ولا هم ينظرون} أي: يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منتظر ما، فإن قيل: قد سألوا عن وقت الفتح فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً عن سؤالهم؟ أجيب: بأنه كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم على وجه التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما علم من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم: لا تستعجلوا بعد ولا تستهزؤا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في إدارك العذاب فلم تنظروا. فإن قيل: فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر، أجيب: بأن المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه حال إدراك الغرق وقوله تعالى: {فأعرض عنهم} أي: لا تبال بتكذيبهم {وانتظر} أي: إنزال العذاب بهم {إنهم منتظرون} أي: بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك، كان ذلك قبل الأمر بقتالهم وقيل: انتظر عذابهم بيقينك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا {فأتنا بما تعدنا} (الأعراف: 70) وعن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل في الركعة الأولى، وهل أتى على الإنسان أي: في الركعة الثانية» وعن جابر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ تبارك، وألم تنزيل، ويقول: هما يفضلان على كل سورة في القرآن بسبعين حسنة ومن قرأهما كتب له سبعون حسنة ورفع له سبعون درجة» . وعن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة ألم تنزيل أعطي من الأجر كمن أحيا ليلة القدر» وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عنه صلى الله عليه وسلم «من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» قال شيخ شيخنا ابن حجر: لم أجده. والله تعالى أعلم بالصواب. سورة الأحزاب مدنية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وهي ثلاث وسبعون آية، وألف ومائتانوثمانون كلمة، وخمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفاً وعن أبي ذر قال: قال أبيّ بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب قال: ثلاثاً وسبعين آية قال: والذي يحلف به أبيّ بن كعب أن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن وأما ما حكي أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض. {بسم الله} الذي مهما أراد كان {الرحمن} الذي شملت رحمته كل موجود بالكرم والجود {الرحيم} لمن توكل عليه بالعطف عليه. ونزل في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي لما قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزة ومناة وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم فقال إني قد أعطيتهم الأمان فقال عمر: أخرجوا في لعنة الله وغضبه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة. {يا أيها النبي اتق الله} وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة دعوا صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون من اليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} أي: دم على التقوى كما يقول الرجل لغيره وهو قائم: قم قائماً أي: اثبت قائماً فسقط بذلك ما يقال الأمر بالشيء لا يكون إلا عند اشتغال المأمور بغير المأمور به إذ لا يصح أن يقال للجالس: اجلس، وللساكت: اسكت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متقياً لأن الأمر بالمداومة يصح في ذلك فيقال للجالس: اجلس هنا حتى آتيك، ويقال للساكت: قد أحسنت فاسكت تسلم أي: دم على ما أنت عليه. وأيضاً من جهة العقل: أن الملك يتقي منه عادة على ثلاثة أوجه: بعضهم يخاف من عقابه، وبعضهم يخاف من قطع ثوابه، وثالث يخاف من احتجابه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني، وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا، فكيف والأمور البدنية شاغلة، فالآدمي في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على مالا بد منه وإن كان معه الله، ولهذا أشار بقوله عليه الصلاة والسلام {إنما أن بشر مثلكم يوحى إلي} (الكهف: 110) يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم، فأمر بتقوى توجب إدامة الحضور، وقال الضحاك: معناه اتق الله ولا تنقض الذي بينك وبينهم، وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة. تنبيه: جعل الله تعالى نداء نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبي والرسول في قوله تعالى {يا أيها النبي اتق الله} {يا أيها النبي لم تحرم} (التحريم: 1) {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} (المائدة: 67) وترك نداءه باسمه كما قال تعالى: يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود كرامة وتشريفاً وتنويهاً بفضله، فإن قيل: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الأخبار في قوله تعالى {محمد رسول الله} (الفتح: 29) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 {وما محمد إلا رسول} (آل عمران: 144) أجيب: بأن ذلك لتعليم الناس أنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الإخبار كيف ذكره بنحو ما ذكر في النداء {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: 128) {وقال الرسول يا رب} (الفرقان، 30) {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة: 62) {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6) {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي} (المائدة: 81) {إن الله وملائكته يصلون على النبي} (الأحزاب: 56) وقرأ نافع النبئ بالهمزة والباقون بغير همز. ولما وجه إليه صلى الله عليه وسلم الأمر بخشية الولي الودود أتبعه النهي عن الالتفات لنحو العدو الحسود بقوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك من الخالق فيه أمر وإن لاحَ لائح خوفٍ أو برق رجاء فجانبهم واحترس منهم، فإنهم أعداء الله تعالى وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارة والمضادة. قال أبو حيان: سبب نزولها أنه روى: «أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود فتابعه ناس على النفاق وكل يلين لهم جانبه، وكانوا يظهرون النصائح من طريق المخادعة فنزلت تحذيراً لهم منهم وتنبيهاً على عداوتهم» انتهى وبهذا سقط ما قيل: لم خص الكافر والمنافق بالذكر ولأن ذكر غيرهما لا حاجة إليه لأنه لا يكون عنده إلا مطاعاً ولأن كل من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم طاعته فهو كافر أو منافق؛ لأن من يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر إيجاب معتقداً أنه لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي، الكافرين بالإمالة محضة، وورش بين بين والباقون بالفتح. ثم علل تعالى الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم بقوله تعالى: {إن الله} أي: بعظيم كماله {كان} أزلاً وأبداً {عليماً} أي: شامل العلم {حكيماً} أي: بالغ الحكمة فهو تعالى لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه، وأحكم إصلاح الحال فيه. ولما كان ذلك مفهماً لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر، وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق قيده بقوله تعالى: {واتبع} أي: بغاية جهدك {ما يوحى} أي: يلقى إلقاء خفياً كما يفعل المحب مع حبيبه {إليك من ربك} أي: المحسن إليك بصلاح جميع أمرك، وأتى موضع الضمير بالظاهر ليدل على الإحسان في التربية ليقوى على امتثال ما أمرت به الآية السالفة. ولما أمر باتباع الوحي رغبه فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي بقوله تعالى مذكراً بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من الأسماء الحسنى زيادة في التقوى على الامتثال مؤكداً للترغيب {أن الله} أي: بعظمته وكماله {كان} أزلاً وأبداً {بما يعملون} أي: الفريقان من المكايد وإن دق {خبيراً} أي: فلا تهتم بشأنهم، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم، وقرأ أبو عمرو {بما يعملون خبيراً} {وبما يعملون بصيراً} بالياء على الغيبة على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين والباقون بالتاء على الخطاب فيهما. ولما كان الآدمي موضع الحاجة قال تعالى: {وتوكل} أي: دع الاعتماد على التدبير في أمورك واعتمد فيها {على الله} أي: المحيط علماً وقدرة فإنه يكفيك في جميع أمورك {وكفى بالله} أي: الذي له الأمر كله على الإطلاق {وكيلا} أي: موكولاً إليه الأمور كلها فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره؛ لأنه ليس لك قلبان تصرف كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 واحد منهما إلى واحد كما قال تعالى: {ما جعل الله} أي: الذي له الحكمة البالغة والعظمة الباهرة {لرجل} أي: لأحد من بني آدم ولا غيره، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب أولى، وأشار إلى التأكيد بقوله تعالى: {من قلبين} وأكد الحقيقة وقررها وجلاها وصورها بقوله تعالى: {في جوفه} أي: ما جمع الله تعالى قلبين في جوف؛ لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني أولاً، ومنبع القوى بأسرها ومدبر البدن بإذن الله تعالى وذلك يمنع التعدد {وما جعل أزواجكم اللائي} أباح لكم التمتع بهن {تظاهرون منهن} كما يقول الإنسان للواحدة منهن: أنت عليّ كظهر أمي {أمهاتكم} بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها {وما جعل أدعياءكم} جمع دعيّ وهو من يدعي لغير أبيه {أبناءكم} حقيقة ليجعل لهم إرثكم ويحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة، وهما حالتان متنافيتان ولم ير أيضاً أن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابناً له؛ لأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل. وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه وعمه: يا زيد أتختار العبودية على الربوبية قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه عليه أعتقه وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون: تزوج امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيه، وكذا قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب: 40) وروي أن رجلاً كان يسمى أبا معمر جميل بن معمر الفهري وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له: ما فعل الناس فقال له: بين مقتول وهارب فقال له: فما بالك إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله» ، وقولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني. وعن ابن عباس: «كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 الله تعالى» وقيل سها في صلاته فقالت اليهود: له قلبان قلب مع أصحابه وقلب معكم، وعن الحسن نزلت في أن الواحد يقول: لي نفسان نفس تأمرني ونفس تنهاني، فإن قيل: ما وجه تعدية الظهار وأخواته بمن؟ أجيب: بأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فكانوا بتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها، تباعد منها جهة الظهار، فلما تضمن معنى التباعد منها عدي بمن. فإن قيل: ما معنى قولهم: أنت علي كظهر أمي، أجيب: بأنهم أرادوا أن يقولوا: أنت عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج؛ لأنه عمود البطن، ومنه حديث عمر: يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره، ووجه آخر: وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرماً عندهم محظوراً، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله كظهر أمه، وهو منكر وزور وفيه كفارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة. وقرأ ابن عامر والكوفيون اللائي بالهمزة المكسورة والياء بعدها في الوصل، وسهل الياء كالهمزة ورش، والبزي وأبو عمرو مع المد والقصر، وعن أبي عمرو والبزي أيضاً إبدالها ياء ساكنة مع المد لا غير، وقالون وقنبل بالهمزة ولا ياء بعدها، وقرأ تظهرون عاصم بضم التاء، وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء مخففة، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مخففتين وألف بعد الظاء وفتح الهاء مخففة، وابن عامر كذلك إلا أنه يشدد الظاء، والباقون بفتح التاء والظاء والهاء مع تشديد الظاء والهاء ولا ألف بعد الظاء وقوله تعالى: {ذلكم} إشارة إلى كل ما ذكر وإلى الأخير {قولكم بأفواهكم} أي: مجرد قول لسان من غير حقيقة كالهذيان {والله} أي: المحيط علماً وقدرة وله جميع صفات الكمال {يقول الحق} أي: ماله حقيقة الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه فلا قدرة لأحد على نقضه، فإن أخبر عن شيء فهو كما قال: {وهو} أي: وحده {يهدي السبيل} أي: يرشد إلى سبيل الحق. ولما كان كأنه قيل فما تقول اهدنا إلى سبيل الحق قال تعالى: {ادعوهم} أي: الأدعياء {لآبائهم} أي: الذين ولدوهم إن علموا ولذا قال زيد بن حارثة: قال صلى الله عليه وسلم «من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام» وأخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص، ثم علل تعالى ذلك بقوله تعالى: {هو} أي: هذا الدعاء {أقسط} أي: أقرب إلى العدل من التبني، وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المُتَبَنَّى والإحسان إليه {عند الله} أي: الجامع لصفات الكمال، وعن ابن عمران زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبائهم} الآية وقيل: كان الرجل في الجاهلة إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان، أما إذا جهلوا فهو ما ذكر بقوله تعالى: {فإن لم تعلموا آباءهم} لجهل أصلي أو طارئ {فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم {في الدين} إن كانوا دخلوا في دينكم أي: قولوا لهم إخواننا {ومواليكم} إن كانوا محررين أي: قولوا موالي فلان، وعن مقاتل إن لم تعلموا لهم أباً فانسبوهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 إخوانكم في الدين أي: أن تقول: عبد الله وعبد الرحمن وعبيد الله وأشباههم من الأسماء، وأن يدعى إلى اسم مولاه وقيل: مواليكم أولياؤكم في الدين. ولما كان عادتهم الخوف مما سبق من أحوالهم على النهي لشدة ورعهم أخبرهم أنه تعالى أسقط عنهم ذلك لكونه خطأ، وساقه على وجه يعمم ما بعد النهي أيضاً بقوله تعالى: {وليس عليكم جناح} أي: إثم وميل واعوجاج، وعبر بالظرف ليفيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه، ولو عبر بالباء لظن أن فيه إثماً ولكن يعفي عنه فقال تعالى: {فيما أخطأتم به} أي: من الدعاء بالنبوة والمظاهرة، أو في شيء قبل النهي أو بعده ودل قوله تعالى {ولكن ما} أي: الإثم فيما {تعمدت قلوبكم} على زوال الحرج أيضاً فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان، أو سبق اللسان، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يتعمد بعد البيان الشافي إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينته المتعمد. تنبيه: يجوز في ما هذه وجهان: أحدهما: أن تكون مجرورة المحل عطف على ما المجرورة قبلها بفي. والتقدير: ولكن الجناح فيما تعمدت كما مرت الإشارة إليه. والثاني: أنها مرفوعة المحل بالابتداء، والخبر محذوف. وتقديره: تؤاخذون به أو عليكم فيه الجناح ونحوه، ولما كان هذا الكرم خاصاً بما تقدم عمم سبحانه وتعالى بقوله {وكان الله} أزلاً وأبداً {غفوراً} أي: من صفته الستر البليغ على المذنب التائب {رحيماً} به، ولما نهى تعالى عن التبني وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وعمه كما مر علل تعالى النهي فيه بالخصوص بقوله تعالى: دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك: {النبي} أي: الذي ينبئه الله تعالى بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال ولا يزيد أن يشغله بولد ولا مال {أولى بالمؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية {من أنفسهم} فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأي مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه» . وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك ديناً فإليّ، ومن ترك مالاً فهو لورثته» وعن أبي هريرة قال: كان المؤمن إذا توفي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل: هل عليه دين؟ فإن قالوا: نعم قال: هل ترك وفاء لدينه، فإن قالوا: نعم صلى عليه وإن قالوا: لا قال: صلوا على صاحبكم، وإنما لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم أولاً فيما إذا لم يترك وفاء لأن شفاعته صلى الله عليه وسلم لا ترد، وقد ورد إن نفس المؤمن محبوسة عن مقامها الكريم ما لم يوف دينه، وهو محمول على من قصر في وفائه في حال حياته، أما من لم يقصر لفقره مثلاً فلا، كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج في باب الرهن. وإنما كان صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرد بهم، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل أعظم بهذا السبب الرباني فأي: حاجة إلى السبب الجسماني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 {وأزواجه أمهاتهم} أي: المؤمنين أي: مثلهن في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن إكراماً له صلى الله عليه وسلم لافى حكم الخلوة والنظر والظهار والمسافرة والنفقة والميراث، وهو صلى الله عليه وسلم أب للرجال والنساء، وأما قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب، 40) فمعناه ليس أحد من رجالكم ولد صلبه وسيأتي ذلك ويحرم سؤالهن إلا من وراء حجاب، وسيأتي ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى في محله. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بغلام وهو يقرأ في المصحف «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» فقال: يا غلام حكتها فقال: هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق، ومعنى ذلك: أن هذا كان يقرأ أولاً، ونسخ لما روي عن عكرمة أنه قال: كان في الحرف الأول {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وهو أبوهم، وعن الحسن قال في القراءة الأولى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وقوله تعالى: {وأولوا الأرحام} أي: القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها {بعضهم أولى} بحق القرابة {ببعض} أي: في التوارث، ثم نسخ لما كان في صدر الإسلام فإنهم كانوا فيه يتوارثون بالحلف والنصر فيقول: ذمتي ذمتك ترثني وأرثك، ثم نسخ بالإسلام والهجرة، ثم نسخ بآية المواريث وبالآية التي في آخر الأنفال وأعادها تأكيداً، فإن آية المواريث مقدمة ترتيباً ونزولاً على آية الأنفال، وآية الأنفال على هذه كذلك وقوله تعالى: {في كتاب الله} يحتمل أن ذلك في اللوح المحفوظ أو فيما أنزل وهو هذه الآيات المذكورة أو فيما فرض الله. ولما بين أنهم أولى لسبب القرابة بين المفضل عليه بقوله تعالى: {من} أي: هم أولى بسبب القرابة من {المؤمنين} الأنصار من غير قرابة مرجحة {والمهاجرين} أي: ومن المهاجرين المؤمنين من غير قرابة كذلك وقوله تعالى: {إلا أن تفعلوا} استثناء منقطع كما جرى عليه الجلال المحلي أي: لكن أن تفعلوا {إلى أوليائكم معروفاً} بوصية فجائز، ويجوز أن يكون استثناء من أعم العام كما قاله الزمخشري في معنى النفع والإحسان كما تقول: القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية، تريد أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية، والمراد بفعل المعروف التوصية لأنه لا وصية لوراث وعدّى تفعلوا بإلى؛ لأنه في معنى تسدوا. والمراد بالأولياء: المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين {كان ذلك} أي: ما ذكر من آيتي {ادعوهم} {والنبي أولى} وقيل: أول ما نسخ من الآيات الإرث بالإيمان والهجرة ثابتاً {في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ والقرآن {مسطوراً} قال الأصبهاني: وقيل في التوراة قال البقاعي: لأن في التوراة إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه، وميراثه لذوي قرابته، فالآية من الاحتباك، أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ووصف الهجرة ثانياً دليلاً على حذف النصرة أولاً. {وإذ} أي: واذكر حين {أخذنا} بعظمتنا {من النبيين ميثاقهم} أي: عهودهم في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم في المنشط والمكره وفي تصديق بعضهم لبعض وفي اتباعك فيما أخبرنا به في قولنا: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} (آل عمران: 88) وقولهم أقررنا. ولما ذكر ما أخذ على جميع الأنبياء من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 العهد في إبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه ذكر ما أخذ عليهم من العهد في التبليغ بقوله تعالى: {ومنك} أي: في قولنا في هذه السورة {اتق الله واتبع ما يوحى إليك} (الأحزاب: 1 ـ 2) وفي المائدة: 67 {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فلا تهتم بمراعاة عدو ولا خليل حقير ولا جليل. ولما أتم المراد إجمالاً وعموماً وخصه صلى الله عليه وسلم من ذلك العموم مبتدئاً به لقوله صلى الله عليه وسلم «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث» بياناً بتشريفه، ولأنه المقصود بالذات أتبعه بقية أولي العزم الذين هم أصحاب الكتب ومشاهير أرباب الشرائع ورتبهم على ترتيبهم في الزمان؛ لأنه لم يقصد المفاضلة بينهم بالتأسية بالمتقدمين والمتأخرين قال {ومن نوح} أول الرسل إلى المخالفين {وإبراهيم} أبي الأنبياء {وموسى} أول أصحاب الكتب من بني إسرائيل {وعيسى بن مريم} ختام أنبياء بني إسرائيل، ونسبه إلى أمه مناداة على من ضل فيه بدعوى الألوهية وبالتوبيخ والتسجيل بالفضيحة. تنبيه: ذكر هذه الخمسة من عطف الخاص على العام كما علم مما تقرر، وقوله تعالى: {وأخذنا} أي: بعظمتنا في ذلك {منهم ميثاقاً غليظاً} أي: شديداً بالوفاء بما حملوه وهو الميثاق الأول، وإنما كرر لزيادة وصفه بالغلظ وهو استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه، وقيل: الميثاق الغليظ اليمين بالله على الوفاء بما حملوه ثم أخذ الميثاق. {ليسأل} أي: الله تعالى يوم القيامة {الصادقين} أي: الأنبياء الذين صدقوا عهدهم {عن صدقهم} أي: عما قالوه لقومهم تبكيتاً للكافرين بهم، وقيل: ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم؛ لأن من قال للصادق: صدقت كان صادقاً في قوله، وقيل: ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم، وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم وقوله تعالى: {وأعد للكافرين عذاباً أليماً} أي: مؤلماً معطوف على أخذنا من النبيين؛ لأن المعنى: أن الله تعالى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذاباً أليماً، ويجوز أن يعطف على ما دل عليه ليسأل الصادقين، كأنه قال: أثاب المؤمنين وأعد للكافرين، وقيل: إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما كذبوا به رسلهم وأعد لهم عذاباً أليماً. ثم حقق الله تعالى ما سبق لهم من الأمر بتقوى الله تعالى بحيث لا يبقى معه الخوف من أحد بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا} ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم بقوله تعالى: {نعمة الله} أي: الملك الأعلى الذي لا كفء له {عليكم} أي: لتشكروه عليها بالنفوذ، لأمره وعبر بالنعمة؛ لأنها المقصودة بالذات، والمراد إنعامه يوم الأحزاب وهو يوم الخندق، ثم ذكر وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {جاءتكم جنود} أي: الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام {فأرسلنا} أي: تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم أرسلنا {عليهم ريحاً} وهي ريح الصبا قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه {وجنوداً} أي: وأرسلنا جنوداً من الملائكة {لم تروها} وكانوا ألفاً ولم تقاتل يومئذ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها على بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هلم إليَّ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا: النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب {وكان الله} أي: الذي له جميع صفات الجلال والجمال {بما يعملون} أي: الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك {بصيراً} أي: بالغ الإبصار والعلم. تنبيه: قال البخاري: قال موسى بن عقبة: كانت غزوة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة أربع، روى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال: دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهودة بن قيس، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه؟ قالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} (النساء: 51) إلى قوله تعالى: {وكفى بجهنم سعيراً} (النساء، 55) فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار به على النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي رضي الله عنه وكان أول مشهد شهده سلمان رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حُرٌّ فقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أكملوه وأحكموه، قال أنس رضي الله عنه: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجزع قال: *اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة* فقالوا مجيبين له: *نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا* الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 قال البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبرَّ بطنه وهو يقول: «والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوت أبينا أبينا» فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش في عشرة آلاف من الأحابيش، وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان حتى نزلت بمجمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة، وأقبلت غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل من هوازن، وانضافت لهم اليهود من قريظة والنضير حتى نزلوا إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، وكان بنو غطفان من أعلى الوادي من قبل المشرق، وقريش من أسفل الوادي من قبل المغرب كما قال تعالى: {إذ جاؤكم} وهو بدل من إذ جاءتكم {من فوقكم} أي: من أعلى الوادي {ومن أسفل منكم} أي: من أسفل الوادي {وإذ} أي: واذكر حين {زاغت الأبصار} أي: مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل لهم من الغفلة الحاصلة من الرعب، وقوله تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر} جمع حنجرة وهي منتهى الحلقوم كناية عن شدة الرعب والخفقان. قال البقاعي: ويجوز وهو الأقرب أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره أي: رئته، فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عمرو وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه فقالا: يا رسول الله أشيء أنزل الله تعالى به لابد لنا من عمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا، قال: لا والله بل لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وأعزنا الله تعالى بك نعطيهم أموالنا، ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال صلى الله عليه وسلم أنت وذلك، فتناول سعد رضي الله تعالى عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال: ليجهدوا علينا. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوهم محاصرهم ولم يكن بينهم قتال إلا فوارس من قريش، عمرو بن عبد ودَ أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 الخطاب، ومرداس أخو محارب بن فهر، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا: تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيولهم فاقتحمت فيه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع. وخرج عليّ رضي الله تعالى عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ودَ قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو إنك كنت تعاهد الله تعالى لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت منه إحداهما، قال له: أجل قال له علي: فإني أدعوك إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام قال: لا حاجة لي بذلك قال: فإني أدعوك إلى البراز قال: ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك. قال عليّ: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فنقره أو ضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجاولا فقتله عليّ، وخرجت خيله مهزومة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان أصابه سهم فمات بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه عليّ رضي الله تعالى عنه فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حاجة لنا في جسده وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه. ولما نشأ عن هذا تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد بقوله تعالى: {وتظنون بالله} الذي له صفات الكمال {الظنوناً} أي: أنواع الظن، فظن المخلصون الثُّبت القلوب أن الله تعالى منجز وعده في إعلاء دينه، أو ممتحنهم، فخافوا الزلل، وروي أن المسلمين قالوا: بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله؟ فقال صلى الله عليه وسلم «قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» وأما الضعاف القلوب والمنافقون فقالوا: ما حكى الله عنهم فيما سيأتي، وقرأ نافع وابن عامر الظنونا هنا والرسولا والسبيلا في آخر السورة بإثبات الألف في الثلاثة وقفاً ووصولاً، وأبو عمرو وحمزة بحذف الألف وقفاً ووصلا قال الزمخشري: وهو القياس والباقون بالألف في الوقف دون الوصل زادوها في الفاصلة كما زادوها في القافية قال: *أقلي اللوم عاذل والعتابا* ورسم الثلاثة بالألف ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة قال تعالى: {هنالك} أي: في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة {ابتلي المؤمنون} اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل {زلزلوا} أي: حركوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة وتطاير الأراجيف {زلزلاً شديداً} فثبتوا تثبيت الله تعالى لهم على عدوهم، وعن صفية قالت: مر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم من يدفع عنا، ورسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت قالت: فقلت يا حسان إن هذا اليهودي يطوف بنا كما ترى بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال: ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب» وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم. ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإنما الحرب خدعة، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم وِدِّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم: إن قريشاً وغطفان جاؤوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأو نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً صلى الله عليه وسلم حين تناجزوه. قالوا: لقد أشرت برأي ونصح، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمر رأيته أن حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي قالوا: نفعل قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، قالوا صدقت قال فاكتموا علي قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثل ما حذرهم فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فأعدوا للقتال حتى نناجز محمداً صلى الله عليه وسلم ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 عليكم، ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً صلى الله عليه وسلم فإنا نخشى إن ضرمتكم الحرب واشتدت عليكم أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمن والله أن الذي حدثكم به نعيم ابن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة أنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن يكن غير ذلك استمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان أنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم. وخذل الله تعالى بينهم وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم قال: من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله تعالى الجنة؟. قال حذيفة: فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله فأسكت القوم وما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويَّاً من الليل ثم التفت إلينا فقال: ألا من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا حذيفة فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقلت: لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته وإن جنبي يضطربان، فمسح رأسي ووجهي ثم قال: ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إليّ، ثم قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي وشددت عليّ أسلابي، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأني أمشي في حمام، فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله عليهم ريحاً، وجنود الله تعالى تفعل فيهم ما تفعل وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ـ ولو رميته لأصبته ـ فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحدثن شيئاً حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله تعالى بهم لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قام فقال: يا معشر قريش ليأخذن كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو، فأخذت بيد جليسي فقلت: من أنت قال: سبحان الله أما تعرفني أنا فلان فإذا رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، وبلغنا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما أخبرته الخبر ضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل قال: فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء، فأدناني النبي صلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 الله عليه وسلم فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه، وألصق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فقال: قم يا نومان. ثم إن الله تعالى بيَّن حال غير الثابتين بقوله تعالى: {وإذ يقول المنافقون} معتب بن قشير وقيل: عبد الله بن أبيّ وأصحابه {والذين في قلوبهم مرض} أي: ضعف اعتقاد {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} أي: باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا، وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله والتمكين في البلاد حتى حفر الخندق، فإنه قال: إنه أبصر بما برق له من ضوء صخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور كسرى من الحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه ليظهرون على ذلك كله، وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك بن جعثم سوار كسرى بن هرمز كما هو مذكور في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم ففاز المصدقون وخاب الذين هم في ريبهم يترددون. {وإذ قالت طائفة منهم} أي: من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه {يا أهل يثرب} أي: المدينة وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في ناحية منها، وفي بعض الأخبار: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب، وقال: هي طابة كأنه كره تلك اللفظة فعدلوا عن هذا الاسم الذي وسمها به النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع نهيه عنه، واحتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف، وقال أهل اللغة: يثرب اسم المدينة وقيل: اسم البقعة التي فيها المدينة. وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو العلمية والتأنيث، وأما يثرب بالمثناة وفتح الراء فموضع آخر باليمن قال الشاعر: *وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب* وقال آخر: *وقد وعدتك موعداً لو وفت به ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب* وقرأ {لا مقام} حفص بضم الميم أي: لا إقامة {لكم} في مكان القتال ومصارعة الأبطال، والباقون بفتحها أي: لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه {فارجعوا} إلى منازلكم عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: عن القتال إلى منازلكم. ولما بين تعالى هؤلاء الذين هتكوا الستر وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر أتبعهم آخرين تستروا ببعض الستر متمسكين بأذيال النفاق خوفاً من أهوال الشقاق بقوله تعالى: {ويستأذن} أي: يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء {فريق منهم} أي: طائفة شأنها الفرقة {النبي} في الرجوع، وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق والخلق وما له من جلالة الشمائل وكرم الخصائل، وهم بنو حارثة وبنو سلمة {يقولون} أي: في كل قليل مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين قولهم {إن بيوتنا} أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم من المنافقين {عورة} أي: غير حصينة بها خلل كبير يمكن كل من أراد من الأحزاب أن يدخلها يدخلها منه، وقيل قصيرة الجدران فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وذباً عن الأهلين، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء والباقون بالكسر، ثم أكذبهم الله تعالى بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنها ما {هي بعورة} في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه ولا يريدون بذهابهم حمايتها {إن} أي: ما {يريدون} باستئذانهم {إلا فراراً} من القتال. ولما كانت عنايتهم مشتدة بملازمة دورهم، فأظهروا اشتداد العناية بحمايتها زوراً بين تعالى ذلك بقوله تعالى: {ولو دخلت} أي: بيوتهم أو المدينة، وأنث الفعل نصاً على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف، وأتى بأداة الاستعلاء بقوله تعالى: {عليهم} إشارة إلى أنه دخول غلبة {من أقطارها} أي: جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب، وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء الأحزاب ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه {ثم سئلوا} من أي سائل كان {الفتنة} أي: الشرك ومقاتلة المسلمين وقرأ {لأتوها} نافع وابن كثير بقصر الهمزة لجاؤها أو فعلوها، والباقون بالمد أي: لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم {وما تلبثوا بها} أي: ما احتبسوا عن الفتنة {إلا يسيراً} أي: لأسرعوا إلى الإجابة للشرك طيبة بها نفوسهم، فعلم بذلك أنهم لا يقصدون إلا الفرار لا حفظ البيوت من المضار، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن: المراد بالفتنة الخروج من البيوت سمى بذلك لأن الإنسان لا يخرجه من بيته إلا الموت أو ما هو يقاربه، فكأنه فتنة، وعلى هذا يكون الضمير في بها راجعاً للبيوت أو المدينة أي: ما لبثوا بالبيوت أو بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا يسيراً حتى هلكوا. {ولقد كانوا} أي: هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار {عاهدوا الله} الذي لا أَجّلَّ منه {من قبل} أي: من قبل غزوة الخندق {لا يولون الأدبار} أي: لا ينهزمون، وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة: هم أناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر فرأوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن، فساق الله تعالى إليهم ذلك، وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا: اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا: وإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله قال: لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم، قال البغوي: وهذا القول، ليس بمرضي لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفراً ليس فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله تعالى أن يقاتلوا ولا يفروا فنقضوا العهد. انتهى. ولما كان الإنسان قد يتهاون بالعهد لإعراض المعاهد عنه قال تعالى: {وكان عهد الله} المحيط بصفات الكمال {مسؤولاً} أي: عن الوفاء به، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل} أي: لهم وأكد لظنهم نفع الفرار {لن ينفعكم الفرار} في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه {إن فررتم من الموت أو القتل} أي: الذي كتب لكم لأن الأجل إن كان قد حضر لم يتأخر بالفرار، وإلا لم يقصره الثبات كما كان عليّ رضي الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 تعالى عنه يقول: دهم الأمر وتوقد الجمر واشتد من الحرب الحر أي: يومي من الموت أفر يوم لا يقدر، أو يوم قدر، وذلك أن أجل الله الذي جعله محيطاً بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً {وإذا} أي: إن فررتم {لا تمتعون} في الدنيا بعد فراركم {إلا قليلاً} أي: مدة آجالكم وهي قليل فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً. ولما كان ربما يقولون بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ومن ثبت فاصطلم، أمره الله تعالى بالجواب عن هذا بقوله تعالى: {قل} أي: لهم منكراً عليهم {من ذا الذي يعصمكم} أي: يجيركم ويمنعكم {من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في حال الفرار وقبله وبعده {إن أراد بكم سوءاً} أي: هلاكاً أو هزيمة فيرد ذلك عنكم {أو} يصيبكم بسوء إن {أراد} أي: الله {بكم رحمة} أي: خيراً أسماه بها لأنه أثرها، والمعنى: هل احترزتم في جميع أعماركم عن سوء أراده فنفعكم الاحتراز أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه، فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئاً من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه، ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ذكر السوء أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً. وذكر الرحمة ثانياً دليلاً على حذف ضدها أولاً. وهذا بيان لقوله تعالى: {لن ينفعكم الفرار} وقوله تعالى: {ولا يجدون لهم} أي: في وقت من الأوقات {من دون الله} أي: غيره {ولياً} أي: يواليهم فينفعهم بنوع نفع {ولا نصيراً} أي: ينصرهم من أمره فيرد ما أراده بهم من السوء عنهم تقرير لقوله تعالى: {من ذا الذي يعصمكم} من الله الآية. ولما أخبرهم تعالى بما علم مما أوقعوه من أسرارهم وأمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم، حذرهم بدوام عمله بمن يخون منهم بقوله تعالى: {قد يعلم الله} الذي له إحاطة الجلال والجمال {المعوقين منكم} أي: المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون {والقائلين لإخوانهم} أي: ساكني المدينة {هلم} أي: ائتوا وأقبلوا {إلينا} موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيها القتال ويواظب فيها على صالح الأعمال قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون لإخوانهم ما محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لا التقمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك، وقال مقاتل: نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحداً، فأنا أشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا فهلم إلينا، فأقبل عبد الله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: ما ترجون من محمد، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزداد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً. تنبيه: هلم اسم صوت سمي به فعل متعد مثل احضر وقرب، وأهل الحجاز يسوّون فيه بين الواحد والجماعة، وبلغتهم جاء القرآن العزيز، وأما بنو تميم فتقول: هلم يا رجل هلما يا رجلان هلموا يا رجال {ولا} أي: والحال أنهم لا {يأتون البأس} أي: الحرب أو مكانها {إلا قليلاً} أي: للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه تسللوا عنه لواذاً وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذاً. {أشحة} أي: يفعلون ما تقدم، والحال أن كلاً منهم شحيح {عليكم} أي: بحصول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 نفع منهم أو من غيرهم نفس أو مال. تنبيه: أشحة جمع شحيح وهو جمع لا يقاس، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو: خليل وأخلاء، وضنين وأضناء، وقد سمع أشحاء وهو القياس والشح البخل، وصفهم الله تعالى بالبخل ثم بالجبن. قوله تعالى {فإذا جاء الخوف} أي: بمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها {رأيتهم} أي: أيها المخاطب. وقوله تعالى: {ينظرون} في محل حال من مفعول رأيتهم لأن الرؤية بصرية، وبيَّن بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية بقوله تعالى: {إليك} أي: حال كونهم {تدور} فهي إما حال ثانية، وإما حال من ينظرون يميناً وشمالاً بإدارة الطرف {أعينهم} أي: زائغاً رعباً ثم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح بقوله تعالى: {كالذي} أي: كدوران عين الذي {يغشى عليه} مبتدأ غشيانه {من الموت} أي: من معالجة سكراته خوفاً ولواذاً بك، وذلك لأن قرب الموت وغشية أسبابه تذهب عقله وتشخص بصره فلا يطرف {فإذا ذهب الخوف} وحيزت الغنائم {سلقوكم} أي: تناولوكم تناولاً صعباً بأنواع الأذى ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور، وأصل السلق البسط بقهر اليد أو اللسان، ومنه سلق امرأته أي: بسطها وجامعها قال القائل: فقد هُيّء لنا المضجع فإن شئت سلقناك وإن شئت على أربع، والسليقة: الطبيعة المباينة، والسليق: المطمئن من الأرض {بألسنة حداد} ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة وغيرها. يقال للخطيب الذرب اللسان: الفصيح مسلق، وقال ابن عباس سلقوكم أي: عضهوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة وقال قتادة: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، ويقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال ولستم بأحق بالغنيمة منا، ثم بين المراد بقوله تعالى: {أشحة} أي: شحاً مستعلياً {على الخير} أي: المال الذي عندهم وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم. ولما وصفهم تعالى بهذه الصفات الدنيئة أخبر تعالى أن أساسها الذي نشأت عنه عدم الوثوق بالله تعالى لعدم الإيمان فقال: {أولئك} أي: البعداء البغضاء {لم يؤمنوا} أي: لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم {فأحبط الله} أي: بجلاله وتفرده في كبريائه وكماله {أعمالهم} التي كانوا يأتونها مع المسلمين أي: فأظهر بطلانها، وإذا لم تثبت لهم الأعمال فتبطل، وقال قتادة: أبطل الله تعالى جهادهم {وكان ذلك} أي: الإحباط {على الله} بما له من صفات العظمة {يسيراً} أي: هيناً لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه. وقوله تعالى: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} يجوز أن يكون مستأنفاً أي: هم من الخوف بحيث أنهم لا يصدقون أن الأحزاب قد ذهبوا عنهم، ويجوز أن يكون حالاً من أحد الضمائر المتقدمة إذا صح المعنى بذلك ولو بعد العامل. قاله أبو البقاء. والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغطفان واليهود ولم يتفرقوا عن قتالهم من غاية الجبن عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله تعالى {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً} (الأحزاب: 20) وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 والباقون بالكسر {وإن يأت الأحزاب} بعدما ذهبوا كرة أخرى {يودوا} أي: يتمنوا {لو أنهم بادون في الأعراب} أي: كائنون في البادية بين الأعراب الذين هم عندهم في محل نقص وممن تكره مخالطته، ثم ذكر حال فاعل بادون بقوله تعالى: {يسألون} كل وقت {عن أنبائكم} أي: أخباركم العظيمة مع الكفار وما آل إليه أمركم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب {ولو} أي: والحال أنهم لو {كانوا} هؤلاء المنافقون {فيكم} هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال {ما قاتلوا} معكم {إلا قليلاً} نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى. ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة أقبل عليهم إقبالاً يدلهم على تناهي الغضب بقوله تعالى: مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم: {لقد كان لكم} أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم {في رسول الله} الذي جلاله من جلاله وكماله من كماله {أسوة} أي: قدوة {حسنة} أي: صالحة وهو المؤتسى به أي: المقتدى به، كما تقول في البيضة: عشرون منَّاً حديداً أي: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد، أو أن فيه خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها، كالثبات في الحرب ومقاسات الشدائد إذ كسر رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه، وأوذي بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك واستسنوا بسنته. تنبيه: الأسوة اسم وضع موضع المصدر وهو الائتساء، فالأسوة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء وائتسى فلان بفلان أي: اقتدى به، وقرأ عاصم بضم الهمزة والباقون بكسرها وهما لغتان: كالعُدوة والعِدوة، والقُدوة والقِدوة وقوله تعالى: {لمن كان} أي: كوناً كائنه جبلة له {يرجو الله} أي: في جبلته أنه يجدد الرجاء مشمراً للذي لا عظيم في الحقيقة سواه، فيؤمل إسعاده ويخشى إبعاده. تخصيص بعد التعميم للمؤمنين أي: أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله. قال ابن عباس: يرجو ثواب الله، وقال مقاتل: يخشى الله {واليوم الآخر} أي: يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال {وذكر الله} أي: الذي له صفات الكمال وقيده بقوله تعالى: {كثيراً} تحقيقاً لما ذكر في معنى الرجاء الذي به الفلاح أو أن المراد به الدائم في حال السراء والضراء. ولما بين تعالى حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب بقوله تعالى: {ولما رأى المؤمنون} أي: الكاملون في الإيمان {الأحزاب} أي: الذين أدهشت رؤيتهم القلوب {قالوا} أي: مع ما حصل لهم من الزلزال وتعاظم الأهوال {هذا} أي: الذي نراه من الهول {ما وعدنا الله} أي: الذي له الأمر كله من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان {ورسوله} المبلغ بنحو قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} (البقرة: 214) {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} (آل عمران: 142) {أحسب الناس أن يتركوا} (العنكبوت: 2) وأمثال ذلك. ثم قالوا في مقابلة قول المنافقين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً {وصدق الله} أي: الذي له صفات الكمال {ورسوله} أي: الذي كماله من كماله أي: ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل ما وعدا به من السراء والضراء كما رأينا، وهما صادقان فيما غاب عنا مما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 وعدا به من نصر وغيره، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما. قال بعض المفسرين: ولو أعيدا مضمرين لجمع بين الباري تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلم فكان يقال: وصدقا، وقد رد صلى الله عليه وسلم على من جمعهما بقوله: {من يطع الله ورسوله} فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، وأنكر عليه بقوله: بئس خطيب القوم أنت. قل: {ومن يعص الله ورسوله} قصداً إلى تعظيم الله تعالى. وقيل: إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما، واستشكل بعضهم الأول بقوله: «حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» فقد جمع بينهما في ضمير واحد؟ وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله تعالى منا فليس لنا أن نقول كما يقول وقد يقال: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك فالله جل وعلا أولى، وحينئذ فالقائل بأنه إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما أولى. ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً فقط كقول المنافقين أكده لظن المنافقين ذلك بقوله تعالى: شاهداً لهم {وما زادهم} أي: ما رأوه من أمرهم أو الرعب {إلا إيماناً} بالله ورسوله {وتسليماً} بجميع جوارحهم في جميع القضاء والقدر، ثم وصف الله تعالى بعض المؤمنين بقوله تعالى: أي: المذكورين سابقاً وغيرهم {رجال} أي: في غاية العظمة عندنا ثم وصفهم بقوله تعالى: {صدقوا ما عاهدوا الله} المحيط علماً وقدرة {عليه} أي: أقاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به {فمنهم من قضى نحبه} أي: نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. والنحب: النذر استعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان وقيل: النحب الموت أيضاً. قال قتادة: قضى نحبه أي: أجله. وقيل: قضى نحبه أي: بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان في سيره يومه وليلته أي: اجتهد، وقيل قضى نحبه قتل يوم بدر أو يوم أُحد. روي أن أنساً قال: «غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم واستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين فقال: واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل. قال أنس بن مالك: فوجدنا في جسده بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح أو رمية بسهم فوجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه» . {ومنهم} أي: الصادقين {من ينتظر} أي: السعادة كعثمان وطلحة {وما بدلوا} أي: العهد ولا غيروه {تبديلاً} أي: شيئاً من التبديل. روي أن ممن لم يقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وفعل ما لم يفعله غيره لزم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه وذبَّ عنه ووقاه بيده حتى شلت إصبعه قال إسماعيل بن قيس: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وعن معاوية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «طلحة ممن قضى نحبه» ، وعن طلحة لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ: {رجال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 صدقوا وما عاهدوا الله عليه} الآية كلها فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله من هؤلاء فقال: «أيها السائل هذا منهم» ، وعنه أيضاً: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ كانوا لا يجترؤن على مسألته يهابونه ويوقرونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني طلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: أنا فقال: «هذا ممن قضى نحبه» ، وهذا يقوي القول بأن المراد بالنحب بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وعن خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه منها، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه منها فقال صلى الله عليه وسلم «ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر» قال: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها أينعت أي: أدركت ونضجت له ثمرتها ويهديها أي: يجنيها، وهذا كناية عما فتح الله تعالى لهم من الدنيا وعن زيد بن ثابت قال: «لما نسخنا المصحف من المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين من المؤمنين {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فألحقتها في سورتها في المصحف» . {ليجزي الله} أي: الذي يريد إظهار جميع صفاته يوم البعث للخاص والعام ظهوراً تاماً {الصادقين} أي: في الوفاء بالعهد وادعاء أنهم آمنوا به {بصدقهم} أي: فيعلي أمرهم وينعمهم في الآخرة فالصدق سبب وإن كان فضلاً منه لأنه الموفق له. تنبيه: في لام ليجزي وجهان: أحدهما: أنها لام العلة، والثاني: أنها لام الصيرورة وفيما تتعلق به أوجه: إما بصدقوا، وإما بما زادهم، وإما بما بدلوا، وعلى هذا جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوا بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما {ويعذب المنافقين} أي: الذين أخفوا الكفر وأظهروا الإسلام في الدارين بكذبهم في دعواهم الإيمان المقتضي لبيع النفس والمال {إن شاء} بأن يميتهم على نفاقهم {أو يتوب عليهم} إن شاء بأن يهديهم إلى التوبة فيتوبوا فالكل بإرادته. تنبيه: جواب إن شاء مقدر، وكذا مفعول شاء أي: إن شاء تعذيبهم عذبهم، وقرأ قالون والبزي وأبو عمر بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلاها أيضاً حرف مد وحققها الباقون وفي الابتداء بالثانية الجميع بالتحقيق. ولما كانت توبة المنافقين مستبعدة لما يرون من صلابتهم في الخداع وخبث سرائرهم قال معللاً ذلك كله على وجه التأكيد: {إن الله} أي: بما له من الجلال والجمال {كان} أزلاً وأبداً {غفوراً} لمن تاب {رحيماً} بهم، ثم بين تعالى بعض ما جزاهم الله تعالى بصدقهم بقوله تعالى: {ورد الله} أي: بما له من صفات الكمال {الذين كفروا} وهم من تحزب من العرب وغيرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم عن المدينة ومضايقة المؤمنين حال كونهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 {بغيظهم} أي: متغيظين لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا، بل تفرقوا عن غير طائل حال كونهم {لم ينالوا خيراً} لا من الدين ولا من الدنيا بل ذلاً وندامة فهو حال ثانية، أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة {وكفى الله} أي: الذي له العزة والكبرياء {المؤمنين القتال} بما ألقى في قلوبهم من الداعية للانصراف بالريح والجنود من الملائكة وغيرهم، منهم نعيم بن مسعود لما تقدم من الحيلة التي فعلها. قال سعيد بن المسيب: لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشا لا تعبد» ، فبينما هم على ذلك إذ جاء نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمنه الفريقان جميعاً فخذل بين الناس فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال فذلك قوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} {وكان الله} أي: الذي له صفات الكمال أزلاً وأبداً {قوياً} على إحداث ما يريد {عزيزاً} غالباً على كل شيء. ولما أتم الله حال الأحزاب أتبعه حال من عاونوهم بقوله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم} أي: عاونوا الأحزاب {من أهل الكتاب} وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير {من صياصيهم} أي: حصونهم متعلق بأنزل، ومن لابتداء الغاية والصياصي جمع صيصية وهي الحصون والقلاع والمعاقل، ويقال: لكل ما يمتنع به ويتحصن فيه صيصية، ومنه قيل لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك صيصية، عن سعيد بن جبير قال: كان يوم الخندق بالمدينة فجاء أبو سفيان بن حرب ومن تبعه من قريش، ومن تبعه من كنانة وعيينة بن حصن، ومن تبعه من غطفان وطليحة، ومن تبعه من بني أسد وبنو الأعور، ومن تبعهم من بين سليم وقريظة، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا ذلك وظاهروا المشركين فأنزل الله تعالى فيهم: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} . وكانت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وعن موسى بن عقبة أنها في سنة أربع قال العلماء بالسير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس والسرج فقال: ما هذا يا جبريل قال: من متابعة قريش فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله تعالى يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فإن الله دقهم دق البيض على الصفا وإنهم لك طعمة فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس. فسار عليّ حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث قال: أظنك سمعت فيَّ منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله صلى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 عليه وسلم من حصنهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه قبل أن يصل إلى بني قريظة قال: هل مر بكم أحد قالوا: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة شهباء عليها قطيفة من ديباج قال صلى الله عليه وسلم ذاك «جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب» . ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة» فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله تعالى بذلك، ولا عنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما نزل، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دياركم وأبنائكم وأموالكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم هذا فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا أحداً ولا شيئاً نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لتحدث النساء والأبناء قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم، فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت فعسى أن يكون محمد وأصحابه قد آمنوا، فانزلوا لعلنا أن نصيب منهم غرة قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا فتركهم. قال علماء السير: وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزلون على حكمي؟ فأبوا وكانوا قد طلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمر وبن عوف وكانوا حلفاء الأوس يستشيرونه في أمرهم، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم فقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه يعني أنه يقتلكم قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى قد عرفت أني خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح من مكاني حتى يتوب الله تعالى علي مما صنعت، وعاهد الله تعالى لا يطأ بني قريظة أبداً ولا يراني الله تعالى في بلد خنت فيه الله ورسوله. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزلون على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» ، ثم استنزلهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير {وقذف} أي: الله تعالى {في قلوبهم الرعب} حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي كما قال الله تعالى: {فريقاً تقتلون} وهم الرجال يقال: كانوا ستمائة {وتأسرون فريقاً} وهم النساء والذراري يقال: كانوا سبعمائة وخمسين، ويقال: تسعمائة.e فإن قيل: ما فائدة تقديم المفعول في الأول حيث قال تعالى: {فريقاً تقتلون} وتأخيره في الثاني حيث قال: {وتأسرون فريقاً} أجيب: بأن الرازي قال: ما من شيء من القرآن إلا وله فائدة، منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر، والذي يظهر من هذا والله أعلم؛ أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب، والرجال كانوا مشهورين، وكان القتل وارداً عليهم، وكان الأسراء هم النساء والذراري ولم يكونوا مشهورين، والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما اشتهر على الفعل القائم به، ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه على المحل الخفي انتهى. وقرأ ابن عامر والكسائي الرعب بضم العين والباقون بسكونها. ولما ذكر الناطق بقسميه ذكر الصامت بقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم} من الحدائق والمزارع {وديارهم} أي: حصونهم لأنه يحامى عليها ما لا يحامى على غيرها {وأموالهم} من النقد والماشية والسلاح والأثاث وغيرها، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم «للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم» ، كما للراجل ممن ليس له فرس سهم. وأخرج منها الخمس وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً، وكان هذا أول فيء وضع فيه السهمان، وجرى على سننه في المغازي واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سباياهم ريحانة بنت عمرو بن قريظة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها، وكانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه من أمرها، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: إن هذا لثعلبة ابن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال: إنكم في منازلكم وقال عمر: إنا نخمس كما خمست يوم بدر، قال: لا إنما جعلت هذه طعمة لي دون الناس قال: رضينا بما صنع الله ورسوله. وأنزل الله تعالى توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقالت: مم تضحك يا رسول الله أضحك الله تعالى سنك فقال: تيب على أبي لبابة فقالت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال: بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله تعالى عليك، فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجاً إلى الصبح أطلقه، ومات سعد بن معاذ بعد انقضاء غزوة بني قريظة. قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 الله تعالى {رحماء بينهم} (الفتح: 29) واختلف في تفسير قوله تعالى {وأرضاً} أي: وأورثكم أرضاً {لم تطؤها} فعن مقاتل أنها خيبر وعليه أكثر المفسرين، وعن الحسن فارس والروم، وعن قتادة كما تحدث أنها مكة، وعن عكرمة كل أرض تفتح إلى القيامة، ومن بدع التفسير أنه أراد نساءهم انتهى. ولما كان ذلك أمراً باهراً سهله بقوله تعالى: {وكان الله} أي: أزلاً وأبداً بما له من صفات الكمال {على كل شيء} هذا وغيره {قديراً} أي: شامل القدرة، روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده» ولما أرشد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جانب ما يتعلق بجانب التعظيم لله تعالى بقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدمهن في النفقة فقال: {يا أيها النبي قل لأزواجك} أي: نسائك {إن كنتن} أي: كوناً راسخاً {تردن} أي: اختياراً على {الحياة} ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم، ويذكر من له عقل بالآخرة بقوله تعالى: {الدنيا} أي: ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة {وزينتها} أي: المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه لأنها قاطعة عنه {فتعالين} أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور فيدعوه أن يرفع نفسه إليه، ثم كثر حتى صار معناه أقبل وهو هنا كناية عن الأخبار والإرادة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره {أمتعكن} أي: بما أحسن به إليكن من متعة الطلاق، وهي واجبة لزوجة لم يجب لها نصف مهر فقط بأن وجب لها جميع المهر، أو كانت مفوضة لم توطأ ولم يفرض لها شيء صحيح. أما في الأولى: فلأن المهر في مقابلة منفعة بضعها، وقد استوفاها الزوج فتجب للإيحاش المتعة، وأما في الثانية: فلأن المفوضة لم يحصل لها شيء، فيجب لها متعة للإيحاش، بخلاف من وجب لها النصف فلا متعة لها لأنه لم يستوف منفعة بضعها فيكفي نصف مهرها للإيحاش. هذا إذا كان الفراق لا بسببها، وسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وأن لا تبلغ نصف المهر، فإن تراضيا على شيء فذاك، وإلا قدرها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره ونسبها وصفاتها قال تعالى {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (البقرة: 236) {وأسرحكن} أي: من حبالة عصمتي {سراحاً جميلاً} أي: طلاقاً من غير مضارة ولا نوع حطة ولا مقاهرة. {وإن كنتن} أي: بما لكن من الجبلة {تردن الله} أي: الآمر بالإعراض عن الدنيا {ورسوله} أي: المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها، المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين، لا يدع منه شيئاً لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله تعالى {والدار الآخرة} أي: التي هي الحيوان بما لها من البقاء والعلو والارتقاء {فإن الله} بما له من جميع صفات الكمال {أعد} أي: في الدنيا والآخرة {للمحسنات منكن} أي: اللاتي يفعلن ذلك {أجراً عظيماً} تستحقر دونه الدنيا وزينتها، ومن للبيان لأنهن كلهن محسنات قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية: أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه من عرض الدنيا شيئاً، وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فهجرهن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا: ما شأنه وكانوا يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال عمر: لأعلمن لكم شأنه قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أطلقتهن قال: لا فقلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال: نعم إن شئت. فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه» ونزل قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 83) فكنت أنا الذي استنبط ذلك الأمر، وأنزل الله تعالى آية التخيير وكان تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وأربع من غير القريشيات: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. فلما نزلت آية التخيير عرض عليهن رضي الله تعالى عنهن ذلك، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رأس المحسنات إذ ذاك، وكانت أحب أهله فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك قال قتادة: فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} (الأحزاب: 52) وعن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر ثم استأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً قال: فقال لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: لا تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً، ثم نزلت هذه الآية {يا أيها النبي قل لأزواجك} (الأحزاب: 28) حتى بلغ {للمحسنات منكن أجراً عظيماً} (الأحزاب: 29) قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت: وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله لم يبعثني معنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً قوله «واجماً» أي: مهتماً والواجم: الذي أسكته الهم، وعلته الكآبة وقيل: الوجوم الحزن، وقوله: فوجأت عنقها أي: دققته، وقوله: لم يبعثني معنتاً العنت: المشقة والصعوبة، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً، قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت: فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل عليّ فقلت: يا رسول الله إنه مضى تسع وعشرون أعدهن فقال: «إن الشهر تسع وعشرون» . تنبيه: اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويضاً للطلاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أو لا، ذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم: إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن} ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة: لا تعجلي حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب آخرون: إلى أنه كان تفويض طلاق، ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً. واختلف العلماء في حكم التخيير: فقال عمر وابن مسعود وابن عباس: إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن عند أصحاب الرأي: أنه يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها. وعند الآخرين: رجعية. وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة، وإن اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن ورواية عن مالك، وروي عن علي: أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء. وعن مسروق قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفاً بعد أن تختارني. قال الرازي: وهنا مسائل: منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، والجواب: أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ لرسالة لأن الله تعالى لما قال له: قل لهن صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا، والظاهر أنه للوجوب. ومنها: أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا: إنها لا تبين إلا بإبانة النبي صلى الله عليه وسلم فهل كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق أم لا، الظاهر نظر إلى منصب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم غير جائز، بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد. ومنها: أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا، الظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا. ومنها: أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها أم لا، الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يباشره أصلاً، لا بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب انتهى. ولما خيرهن واخترن الله ورسوله هددهن الله للتوقي عما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله: {يا نساء النبي} أي: المختارات له لما بينه وبين الله تعالى مما يظهر شرفه {من يأت منكن بفاحشة} أي: سيئة من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، وقال ابن عباس: المراد هنا بالفاحشة: النشوز وسوء الخلق وقيل: هو كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: 60) وقرأ ابن كثير وشعبة {مبينة} بفتح الياء التحتية أي: ظاهر فحشها، والباقون بكسرها أي: واضحة ظاهرة في نفسها {يضاعف لها العذاب} أي: بسبب ذلك {ضعفين} أي: ضعفي عذاب غيرهن أي: مثيله وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن وأقبح لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 أشد منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالم أقبح، ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لم يعاتب به غيرهم، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية وألف بعد الضاد وتخفيف العين مفتوحة، العذاب بالرفع، وابن كثير وابن عامر بالنون، ولا ألف بعد الضاد وتشديد العين مكسورة، العذاب بالنصب، وأبو عمرو بالياء وتشديد العين مفتوحة العذاب بالرفع. وقوله تعالى: {وكان ذلك على الله يسيراً} فيه إيذان بأن كونهن نساء للنبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئاً، وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهن غير صارف عنه. ولما بين تعالى زيادة عقابهن أتبعه زيادة ثوابهن بقوله تعالى: {ومن يقنت} أي: يطع {منكن لله} الذي هو أهل لأن لا يلتفت إلى غيره {ورسوله} الذي لا ينطق عن الهوى فلا تخالفه فيما أمر به ولا تختار عيشاً غير عيشه {وتعمل} أي: مع ذلك بجوارحها {صالحاً} أي: في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه فلا تقتصر على عمل القلب {نؤتها أجرها مرتين} أي: مثلي ثواب غيرهن من النساء. قال مقاتل: مكان كل حسنة عشرين حسنة فمرة على الطاعة، ومرة لطلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة. تنبيه: قوله تعالى: {نؤتها أجرها مرتين} في مقابلة قوله تعالى {يضاعف لها العذاب ضعفين} وفيه لطيفة وهي أنه عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله تعالى، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب بل قال: يضاعف، وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في يعمل، ويؤتها حملاً على لفظ من وهو الأصل، والباقون بالتاء الفوقية في يعمل على معنى من، والنون في نؤتها على أن فيه ضمير اسم الله تعالى {وأعتدنا} أي: هيأنا بما لنا من العظمة {لها} أي: بسبب قناعتها مع النبي صلى الله عليه وسلم المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله تعالى مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة {رزقاً كريماً} أي: في الدنيا والآخرة زيادة على أجرها. أما في الدنيا: فلأن ما يرزقهن منه يوفقن لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب ولا يخشى من أجله نوع عقاب. وأما في الآخرة: فلا يوصف ولا يحد ولا نكد فيه أصلاً ولا كدّ، وهذا ما جرى عليه البقاعي وهو أولى مما جرى عليه كثير من المفسرين من الاقتصار على رزق الجنة، وعلله الرازي بقوله: ووصف رزقاً بكونه كريماً مع أن الكريم لا يكون وصفاً إلا للرازق، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، فإن التاجر يسترزق من السوقة، والعاملون والصناع من المستعملين، والملوك من الرعية والرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه إنما هو مسخر للغير يكتسبه ويرسله إلى الأعيان، وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق. انتهى. ولما ذكر تعالى أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثل أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء قال تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد} قال البغوي: ولم يقل كواحدة لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، والمعنى: لستن كجماعة واحدة {من} جماعات {النساء} إذا تقصيت جماعة النساء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 واحدة واحدة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} (النساء: 152) يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين وقوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} (البقرة: 285) وقوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة: 47) والحمل على الأفراد بأن يقال: ليست كل واحدة منكن كواحدة من آحاد النساء صحيح بل أولى ليلزم تفضيل الجماعة، بخلاف الحمل على الجمع، وعن ابن عباس معنى لستن كأحد من النساء: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي. ولما كان المعنى بل أنتن أعلى النساء ذكر شرط ذلك بقوله تعالى: {إن اتقيتن} الله تعالى أي: جعلتن بينكن وبين غضب الله تعالى وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم وقاية، ثم سبب عن هذا النهي قوله تعالى: {فلا تخضعن} أي: إذا تكلمتن بحضرة أجنبي {بالقول} أي: بأن يكون ليناً عذباً رخماً، والخضوع التطامن والتواضع واللين، ثم سبب عن الخضوع قوله تعالى: {فيطمع} أي: في الخيانة {الذي في قلبه مرض} أي: فساد وريبة من فسق ونفاق أو نحو ذلك، وعن زيد بن علي قال: المرض مرضان: مرض زنا، ومرض نفاق، وعن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} قال: الفجور والزنا قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت الأعشى وهو يقول: *حافظ للفرج راض بالتقى ... ليس ممن قلبه فيه مرض* والتعبير بالطمع للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة؛ لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه، وأريد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التكلف للإتيان بهذه بل المرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع. ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخاوة الصوت أمرهن بضده بقوله تعالى: {وقلن قولاً معروفاً} أي: يعرف أنه بعيد عن محلِّ الطمع من ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع. ولما أمرهن بالقول وقدمه لعمومه أتبعه الفعل بقوله تعالى: {وقرن} أي: اسكن وامكثن دائماً {في بيوتكن} فمن كسر القاف وهم غير نافع وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين، ومن فتحه وهو نافع وعاصم فهو عنده قرر بكسرها وهما لغتان. قال البغوي: وقيل وهو الأصح: أنه أمر من الوقار كقوله: من الوعد عدن، ومن الوصل صلن أي: كن أهل وقار وسكون من قوله: وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن انتهى. ومن فتح القاف فخم الراء، ومن كسرها رقق الراء، وعن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك فقالت: قد حجبت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت، قال فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت بجنازتها. واختلف في معنى التبرج في قوله تعالى: {ولا تبرجن} فقال مجاهد وقتادة: هو التكسر والتغنج، وقال ابن جريج: هو التبختر وقيل: هو إبراز الزينة وإبراز المحاسن للرجال، وقرأ البزي بتشديد التاء في الوصل والباقون بالتخفيف، واختلف أيضاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 في معنى قوله تعالى: {تبرج الجاهلية الأولى} فقال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقال أبو العالية: هي زمن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، كانت المرأة تتخذ قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى خلقها منه، وقال الكبي: كان ذلك في زمن نمروذ الجبار، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس عليهما السلام، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً، وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحاً، وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجالاً من أهل السهل وأجر نفسه منهم فكان يخدمهم، واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله فأتوه وهم يستمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة فيتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن، وأن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهنّ فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنحوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة بينهم فذلك قوله تعالى {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} .k وقال قتادة: ما قبل الإسلام وقيل: الجاهلية الأولى ما ذكرنا، والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان وقيل: الجاهلية الأولى ما كانوا عليه قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر كما في الصحيحين: «إن فيك جاهلية كفر وإسلام» وقول البيضاوي عن أبي الدرداء، قال ابن حجر: لم أجده عن أبي الدرداء وقيل: قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى كقوله تعالى {وإنه أهلك عاداً الأولى} (النجم: 50) ولم تكن لها أخرى. ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب أرشدهن إلى التحلية بالرغائب بقوله تعالى: {وأقمن الصلاة} أي: فرضاً ونفلاً صلة لما بينكن وبين الخالق {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت: 45) {وآتين الزكاة} إحساناً إلى الخلائق وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة. ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما تمم وجمع في قوله تعالى: {وأطعن الله} أي: الذي له صفات الكمال {ورسوله} أي: الذي لا ينطق عن الهوى فيما أمرا به ونهيا عنه {إنما يريد الله} أي: الذي هو ذو الجلال والإكرام بما أمركن به ونهاكن عنه من الإعراض عن الزينة وما يتبعها والإقبال عليه {ليذهب} أي: لأجل أن يذهب {عنكم الرجس} أي: الإثم الذي نهى الله تعالى عنه النساء قاله مقاتل، وقال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن. وقال قتادة: يعني السوء وقال مجاهد: الرجس الشك وقوله تعالى: {أهل البيت} في ناصبه أوجه: أحدها: النداء أي: يا أهل البيت، أو المدح أي: أمدح أهل البيت، أو الاختصاص أي: أخص أهل البيت كما قال صلى الله عليه وسلم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» والاختصاص في المخاطب أقل منه في المتكلم، وسمع: منك الله نرجو الفضل والأكثر إنما هو في المتكلم كقولها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 *نحن بنات طارق نمشي على النمارق* وقولهم: *نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... الموت أحلى عندنا من العسل* وقولهم: *نحن العرب أقرى الناس للضيف* واختلف في أهل البيت والأولى فيهم ما قال البقاعي: إنهم كل من يكون من إلزام النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي صلى الله عليه وسلم أخص وألزم كان بالإرادة أحق وأجدر ويؤيده قول البيضاوي، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله تعالى عنهم؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجلس فجاءت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف. وعن ابن عباس أنهم نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته وتلا قوله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله} (الأحزاب: 34) وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: «في بيتي أنزل {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي فقلت: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله» وقال زيد بن أرقم: أهل بيته من حرم الصدقة بعده آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال الرازي: والأولى أن يقال لهم أولاده وأزواجه والحسن والحسين، وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي صلى الله عليه وسلم ولملازمته له. ولما استعار للمعصية الرجس استعار للطاعة الطهر ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة في الطاعة وتنفيراً لهم عن المعصية بقوله تعالى: {ويطهركم} أي: يفعل في طهركم الصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه، وزاد ذلك عظماً بالمصدر بقوله تعالى: {تطهيراً} وعن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} الصلاة رحمكم الله كل يوم خمس مرات، ثم بين تعالى ما أنعم الله به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحي بقوله تعالى: {واذكرن} أي: في أنفسكن ذكراً دائماً، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم {ما يتلى} أي: يتابع ويوالى ذكره {في بيوتكن} أي: بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خيركن. وقوله تعالى: {من آيات الله} أي: القرآن بيان للموصول فيتعلق بأعني، ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً، واختلف في قوله تعالى: {والحكمة} فقال قتادة: يعني السنة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه {إن الله} أي: الذي له جميع العظمة {كان} أي: ولم يزل {لطيفاً} أي: يوصل إلى المقاصد بلطائف الأضداد {خبيراً} أي: بجميع خلقه يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية، فيعلم من يصلح لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن لا، وما يصلح الناس ديناً ودنيا، وما لا يصلحهم. والطرق الموصلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 لكل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس. من انقطع إلى الله كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها، ولقد صدق الله تعالى وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم خبير، فأفاض بها من رزقه الواسع، ولما توفى نبيه صلى الله عليه وسلم ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن، فعم الفتح جميع الأقطار، الشرق والغرب والجنوب والشمال، ومكن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يكيلون المال كيلاً، وزاد الأمر حتى دوّن عمر رضي الله تعالى عنه الدواوين. وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه، وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة. ونزل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس، حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال: تركتهم يسألون الله تعالى أن يزيد في عمرك من أعمارهم، قال عمر: إنما هو حقهم، وأنا أسعى بأدائه إليهم وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات غاشاً لرعيته لم يَرَ ريح الجنة» فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً لكل واحدة، وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما تأخذه صواحباتها. وروي عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فلما أدخل إليها قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني قالوا: هذا كله لك قالت: سبحان الله ثم قالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت لي: أدخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب قالت برزة بنت رافع: نظر الله لك يا أم المؤمنين والله لقد كان لنا في هذا المال حق قالت: فلكم ما تحت الثوب قالت: فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً، ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا فماتت، قال البقاعي: ذكر ذلك البلاذري في كتاب «فتوح البلاد» انتهى. وعن مقاتل قال: قالت أم سلمة بنت أبي أمية، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم «ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نخشى أن لا يكون فيهن خير» فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} أي: الداخلين في الإسلام المنقادين لحكم الله في القول والعمل. ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكن الجامعين لهذه الأوصاف في كل وصف منها: {والمؤمنين والمؤمنات} أي: المصدقين بما يجب أن يصدق به. ولما كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال: {والقانتين والقانتات} أي: المخلصين في إيمانهم وإسلامهم المداومين على الطاعة. ولما كان القنوت قد يطلق على الإخلاص المقتضى للمداومة، وقد يطلق على مطلق الطاعة قال: {والصادقين والصادقات} أي: في ذلك كله من قول وعمل. ولما كان الصدق وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه قد لا يكون دائماً قال مشيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع: {والصابرين والصابرات} أي: على الطاعات وعن المعاصي. ولما كان الصبر قد يكون سجية دل على صرفه إلى الله بقوله تعالى: {والخاشعين والخاشعات} أي: المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم. ولما كان الخشوع والخضوع والإخبات والسكون لا يصح مع توفير المال، فإنه سكون إليه قال معلماً: إنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته {والمتصدقين والمتصدقات} بما وجب في أموالهم وبما استحب سراً وعلانية تصديقاً لخشوعهم. ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار أتبعه ما يعين عليه بقوله تعالى: {والصائمين والصائمات} أي: فرضاً ونفلاً للإيثار بالقوت وغير ذلك. ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها قال تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات} أي: عما لا يحل لهم. وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه، والتقدير: والحافظاتها، وكذلك والذاكرات، وحسن الحذف رؤوس الفواصل. ولما كان حفظ الفرج وسائر الأعمال لا يكاد يوجد إلا بالذكر وهو الذي يكون عنده المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحببة للفناء قال تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} أي: بقلوبهم وألسنتهم في كل حالة. ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم، وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبق المفردون قالوا: وما المفردون قال: «الذاكرون الله تعالى كثيراً والذاكرات» قال عطاء بن أبي رباح: من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} ومن أقر بأن الله تعالى ربه، ومحمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله تعالى: {والمؤمنين والمؤمنات} ومن أطاع الله تعالى في الفرض، والرسول صلى الله عليه وسلم في السنة فهو داخل في قوله تعالى: {والقانتين والقانتات} ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله تعالى: {والصادقين والصادقات} ومن صبر على الطاعات وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله تعالى: {والصابرين والصابرات} . ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله تعالى: {والخاشعين والخاشعات} ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله تعالى: {والمتصدقين والمتصدقات} ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله تعالى: {والصائمين والصائمات} ومن حفظ فرجه عن الحرام فهو داخل في قوله تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات} ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} {أعد الله} أي: الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يعاظمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 شيء {لهم مغفرة} أي: لما اقترفوه من الصغائر لأنها مكفرات بفعل الطاعات، والآية عامة وفضل الله تعالى واسع. ولما ذكر تعالى الفضل بالتجاوز أتبعه الفضل بالكرم والرحمة بقوله تعالى: {وأجراً عظيما} أي: على طاعتهم، والآية وعد لهن ولأمثالهن بالإثابة على الطاعة والتدرع بهذه الخصال، وروي أن سبب نزول هذه الآية: «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة فأنزل الله تعالى هذه الآية» . روي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن قلن: لا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار قال: ومم ذاك قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال» فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقيل: لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء فنزلت. تنبيه: عطف الإناث على الذكور لاختلاف جنسهما، والعطف فيه ضروري لاختلافهما ذاتاً، وعطف الزوجين وهو مجموع المؤمنين والمؤمنات على الزوجين، وهو مجموع المسلمين والمسلمات لتغاير وصفيهما. وليس العطف فيه بضروري بخلافه في الأول؛ لأن اختلاف الجنس أشد من اختلاف الصفة، وفائدة العطف عند تغاير الأوصاف الدلالة على أن أعداد المعد من المغفرة والأجر العظيم أي: تهيئته للمذكورين للجمع بين هذه الصفات، فصار المعنى: أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات العشر أعد الله تعالى لهم مغفرة وأجراً عظيماً. وقوله تعالى: {وما كان} أي: وما صح {لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً} أي: إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعالى لتعظيم أمره، والإشعار بأنه قضاء الله تعالى. نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش، وأمها أمية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم «لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب على مولاه زيد بن حارثة، وكان اشترى زيداً في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه، فلما خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة، وكذلك كره أخوها» ذلك رواه الدارقطني بسند ضعيف، وقيل: في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد {أن تكون لهم الخيرة من أمرهم} أي: أن يختاروا من أمرهم شيئاً، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعاً لاختيار الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم تنبيه: الخيرة: مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس، وجمع الضمير في قوله تعالى: {لهم} وفي قوله تعالى: {من أمرهم} لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث أنها في سياق النفي، ويجوز أن يكون الضمير في من أمرهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وجمع للتعظيم كما جرى عليه البيضاوي، وقرأ أن يكون الكوفيون وهشام بالياء التحتية والباقون بالفوقية، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ومن عصاه فقد عصى الله تعالى كما قال تعالى: {ومن يعص الله} أي: الذي لا أمر لأحد معه {ورسوله} أي: الذي معصيته معصية الله تعالى لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وقوله تعالى: {فقد ضل} قرأه قالون وابن كثير وعاصم بالإظهار، والباقون بالإدغام وزاد ذلك بقوله تعالى: {ضلالاً مبيناً} أي: فقد أخطأ خطأ ظاهراً لا خفاء فيه، فالواجب على كل أحد أن يكون معه صلى الله عليه وسلم في كل ما يختاره، وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلقاً. يقول الشاعر: *وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم* *وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ... ما من يهون عليك ممن يكرم* فلما نزلت هذه الآية رضيت زينب بذلك وجعلت أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها فأنكحها صلى الله عليه وسلم زيداً، فدخل بها وساق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهماً، وخماراً ودرعاً وإزاراً وملحفة، وخمسين مداً من الطعام، وثلاثين صاعاً من تمر. ومكثت عنده حيناً. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال: سبحان الله مقلب القلوب وانصرف، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ففطن زيد، فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي قال: مالك أربك منها شيء قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعاظم عليّ لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجك يعني زينب بنت جحش واتق الله في أمرها فأنزل الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله} أي: الملك الذي له كل الكمال {عليه} وتولى نبيه عليه الصلاة والسلام إياه» ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام. ثم بين تعالى منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وأنعمت عليه} أي: بالعتق والتبني حيث استشارك في فراق زوجته التي أخبرك الله تعالى أنه يفارقها وتصير زوجتك {أمسك عليك زوجك} أي: زينب رضي الله عنها {واتق الله} الذي له جميع العظمة في جميع أمرك {وتخفي} أي: والحال أنك تخفي أي: تقول قولاً مخفياً {ما في نفسك} أي: ما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عند طلاق زيد {ما الله مبديه} أي: مظهره بحمل زيد على تطليقها، وإن أمرته بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها، وهذا دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عند طلاق زيد؛ لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك، ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه؛ لأنه لا يبدل قوله، وقول ابن عباس كان في قلبه حبها بعيد، وكذا قول قتادة: ودّ لو أنه لو طلقها زيد، وكذا قول غيرهما: كان في قلبه لو فارقها زيد تزوجها. ولما ذكر تعالى إخفاءه ذلك ذكر علته بقوله تعالى: عاطفاً على تخفي {وتخشى الناس} أي: من أن تخبر بما أخبر الله تعالى به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لاسيما اليهود والمنافقون، وقال ابن عباس والحسن: تستحييهم، وقيل: تخاف لأئمة الناس أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها {والله} أي: والحال أن الذي لا شيء أعظم منه {أحق أن تخشاه} أي: وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به حتى يأتيك فيه أمر. قال عمر وابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه، وروي عن مسروق قال: قالت عائشة: «لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} . ويؤيد ما مر ما روى سفيان بن عيينة عن علي عن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} قال: قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني أريد أن أطلقها فقال له: {أمسك عليه زوجك} فقال علي بن الحسين: ليس كذلك؛ لأن الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه، وأن زيداً سيطلقها، فلما جاء زيد وقال: إني أريد أن أطلقها قال له: {أمسك عليك زوجك} فعاتبه الله تعالى وقال: «لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك» وهذا هو اللائق والأليق بحال الأنبياء عليهم السلام، وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرأ} أي: حاجة من زواجها والدخول بها، وذلك بانقضاء عدتها منه؛ لأن به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته وإلا راجعها {زوجناكها} أي: ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفاً لك ولها بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس. ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله تعالى من أنها ستكون زوجة له.k وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: إن التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي. قال البغوي: وهذا هو الأولى والأليق وإن كان الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم؛ لأن الود وميل النفس من طبع البشر، وقوله: {أمسك عليك زوجك واتق الله} أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله: {والله أحق أن تخشاه} لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام قال: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» ولكن المعنى: الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخشى أحداً معه، فأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً. ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء انتهى. وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: «لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 فدخل عليها بغير إذن قال: ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ قال: فما أدري، أنا أخبرته أن القوم خرجوا أو أخبرني قال: فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب» . وعن أنس رضي الله عنه قال: «ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» وفي رواية: «أكثر وأفضل ما أولم على زينب» قال ثابت: فما أولم قال: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه قال أنس رضي الله عنه: «كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات» وقال الشعبي: «كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث: ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وأنكحنيك الله في السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام» وأخرج ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد يقال له: زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة فيقول: أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه فلم يجده، وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلاً، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقالت: ليس هو ههنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل، فأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه إلا ربما أعلن بسبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب، فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزله فقال زيد: ألا قلت له أن يدخل قالت: قد عرضت ذلك عليه فأبى قال: فسمعت شيئاً منه قالت: سمعته حين ولى تكلم بكلام لا أفهمه وسمعته يقول: سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب، فجاء زيد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أمسك عليك زوجك} فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره فيقول: {أمسك عليك زوجك} ففارقها زيد واعتزلها وانقضت عدتها، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة إذ أخذته غشية، فسري عنه وهو يبتسم ويقول: من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله زوجنيها من السماء، وقرأ {وإذ تقول للذي} الآية قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها زوجها الله من السماء وقلت: هي تفخر علينا بهذا» . ولما ذكر تعالى التزويج على ماله من العظمة ذكر علته بقوله تعالى: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج} أي: ضيق وإثم {في أزواج أدعيائهم} أي: الذين تبنوهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين على الحقيقة {إذا قضوا منهن وطرا} أي: حاجة بالدخول بهن، ثم الطلاق وانقضاء العدة. فائدة: لا مقطوعة في الرسم من {لكي} . تنبيه: الأدعياء: جمع دعي وهو المتبنى أي: زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني وإن كان قد دخل بها المتبنى، بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحل للأب {وكان أمر الله} من الحكم بتزويجها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله تعالى به كراهية لسوء المقالة واستحياء من ذلك، وكذا كل أمر يريده سبحانه {مفعولاً} أي: قضاء الله تعالى ماضياً وحكمه نافذاً في كل ما أراده لا معقب لحكمه. {ما كان على النبي} أي: الذي منزلته من الله تعالى الاطلاع على ألا يطلع عليه غيره من الخلق {من حرج فيما فرض} أي: قدر {الله} بما له من صفات الكمال وأوجبه {له} لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقاً حرج في ذلك فكيف برأس المؤمنين؟ وقوله تعالى {سنة الله} منصوب بنزع الخافض أي: كسنة الله {في الذين خلوا من قبل} من الأنبياء عليهم السلام أنه لا حرج عليهم فيما أباح لهم، قال الكلبي ومقاتل: أراد داود عليه السلام حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها، فكذلك جمع بين محمد وبين زينب. وقيل: أراد بالسنة النكاح فإنه من سنة الأنبياء عليهم السلام، فكان من كان من الأنبياء عليهم السلام هذا سنتهم، فقد كان لسليمان بن داود عليهما السلام ألف امرأة، وكان لداود مائة امرأة {وكان أمر الله} أي: قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره {قدراً} وأكده بقوله تعالى: {مقدوراً} أي: لا خلف فيه ولابد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه وقوله تعالى: {الذين} نعت للذين قبله {يبلغون} أي: إلى أممهم {رسالات الله} أي: الملك الأعظم، سواء كانت في نكاح أم غيره {ويخشونه} أي: فيخبرون بكل ما أخبرهم به {ولا يخشون أحداً} قل أو جلَّ {إلا الله} فلا يخشون قالة الناس فيما أحل الله لهم {وكفى بالله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {حسيباً} أي: حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم. ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً وكانوا قد قالوا: لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة تزوج حليلة ابنه قال تعالى: {ما كان} أي: بوجه من الوجوه {محمد} أي: على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، فثبت بذلك أنه يحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل تعالى من بنيكم؛ لأنه لم يكن له في ذلك الوقت سنة خمس، وما داناها ابن ذكر لعلمه تعالى أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام مع ما كان له قبله من البنين الطاهر والطيب والقاسم، وأنه لم يبلغ أحد منهم الحلم عليهم السلام. قال البيضاوي: ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم. انتهى. وهذا إنما يأتي على أن المراد التبني. وقال البغوي: والصحيح أنه أراد بأحد من رجالكم: الذين لم يلدهم. انتهى. ومع هذا الأول أوجه كما جرى عليه البقاعي. ثم لما نفى تعالى أبوته عنهم قال: {ولكن} كان في علم الله غيباً وشهادة {رسول الله} أي: الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده {وخاتم النبيين} أي: آخرهم الذي ختمهم لأن رسالته عامة ومعها إعجاز القرآن فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، وذلك مفض لئلا يبلغ له ولد إذ لو بلغ له ولد، لاق بمنصبه أن يكون نبياً إكراماً له؛ لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظمهم شرفاً، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها وأعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله تعالى أن لا يكون بعده نبي إكراماً له. روى أحمد وابن ماجة عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 قال في ابنه إبراهيم عليه السلام: لو عاش لكان صديقاً نبياً وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب. وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى: «لو قضي أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده» وقال ابن عباس رضي الله عنه: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبياً. وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه: لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً. وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم، إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره، والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده، ولأن فائدة إثبات النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله. وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام، فلم يبق بعد ذلك مرام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وأما تجديد ما وهي مما أحدث بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله عز وجل؛ لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قرره من يريد الله تعالى من العلماء فيعود الاستبصار، كما روي في بعض الآثار: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وأما إتيان عيسى عليه السلام بعد تجديد الهدى لجميع ما وهي من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة يأجوج ومأجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن قول حسان بن ثابت في مرثية لإبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم *مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ... بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل* *رأى أنه إن عاش ساواك في العلا ... فآثر أن تبقى وحيداً بلا مثل* وقال الغزالي في آخر كتابه الاقتصاد: إن الأمة فهمت من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وعدم رسول بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص. وقال: إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه من أنواع الهذيان لا يمنع الحكم بتكفيره؛ لأنه مكذب لهذا النص الذي أجمعت الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص انتهى. وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه السلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم. وهو مثبت لشرف نبينا صلى الله عليه وسلم إذ لولاه لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه السلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى صلى الله عليه وسلم وقرأ عاصم بفتح التاء والباقون بكسرها، فالفتح: اسم للآلة التي يختم بها كالطابع والقالب لما يطبع به ويقلب فيه، والكسر على أنه اسم فاعل. وقال بعضهم: هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم {وكان الله} أي: الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً {بكل شيء} من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 ذلك وغيره {عليماً} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء. قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس: في سؤال القبر واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفه برهان على ختمه، إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحكم بنيانه، ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون بسواها، فكنت أنا موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل» وقال عليه الصلاة والسلام: «إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الله تعالى الناس على قدمي، وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي. ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه وتعالى من إحاطة العلم مستلزماً للإحاطة بأوصاف الكمال قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا ذلك بألسنتهم {اذكروا الله} الذي هو أعظم من كل شيء تصديقاً لدعواكم ذلك {ذكراً كثيراً} قال ابن عباس: لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوباً على عقله. وأمرهم به في الأحوال فقال تعالى: {فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} (النساء: 103) وقال تعالى: {اذكروا الله ذكراً كثيراً} أي: بالليل والنهار والبر والبحر والصحة والسقم في السر والعلانية، وقال مجاهد: الذكر الكثير: أن لا ينساه أبداً، فيعم ذلك سائر الأوقات وسائر ما هو أهله من التقديس والتهليل والتمجيد. {وسبحوه بكرة وأصيلا} أي: أول النهار وآخره خصوصاً، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات؛ لكونهما مشهودين. كإفراد التسبيح من جملة الإذكار لأنه العمدة فيها، وقال البغوي: وسبحوه أي: صلوا له بكرة أي: صلاة الصبح، وأصيلا يعني صلاة العصر. وقال الكلبي: وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر والعشاءين وقال مجاهد: معناه قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فعبر بالتسبيح عن إخوانه، وقيل: المراد من قوله تعالى: {ذكراً كثيراً} هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث. وعن أنس لما نزل قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} (الأحزاب: 56) وقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله ما أنزل الله تعالى عليك خيراً إلا أشركنا فيه أنزل الله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم} أي: يرحمكم {وملائكته} أي: يستغفرون لكم، فالصلاة من الله تعالى رحمة، ومن الملائكة استغفار للمؤمنين، فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح. قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: أيصلي ربنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى، فأوحى الله تعالى إليه قل لهم: إني أصلي، وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كل شيء، وقيل: الصلاة من الله: هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده. وقيل: الثناء عليه. واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليهم، وهو سبب للرحمة من حيث أنهم مجابو الدعوة، فقد اشتركت الصلاتان، واللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً، وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز. قال الرازي: وينسب هذا القول للشافعي رحمه الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وهو غير بعيد، وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له، والمراد: هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية. ولما كان فعل الملائكة منسوباً إليه قال تعالى: {ليخرجكم} أي: ليديم إخراجه إياكم بذلك {من الظلمات} أي: الكفر والمعصية {إلى النور} إلى الإيمان والطاعة، أو ليخرجكم من الجهل الموجب للضلال إلى العلم المثمر للهدى {وكان} أي: أزلاً وأبداً {بالمؤمنين} أي: الذين صار الإيمان وصفاً لهم {رحيماً} أي: بليغ الرحمة بتوفيقهم حيث اعتنى بصلاح أمرهم واستعمل في ذلك ملائكته المقربين فحملهم ذلك على الإخلاص في الطاعات فرفع لهم الدرجات في روضات الجنات. {تحيتهم} أي: المؤمنين {يوم يلقونه} أي: يرون الله تعالى {سلام} أي: يسلم الله تعالى عليهم ويسلمهم من جميع الآفات، وروي عن البراء بن عازب قال: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} يعني يلقون ملك الموت فلا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه، وعن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، وقيل: تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم {وأعد} أي: والحال أنه أعد {لهم} أي: بعد السلامة الدائمة {أجراً كريماً} هو الجنة، وتقدم ذكر الكريم في الرزق، فإن قيل: الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز، فحيث يلقاه يؤتيه ما يرضى به وزيادة، فما معنى الإعداد من قبل؟ أجيب: بأن الإعداد للإكرام لا للحاجة. قال البيضاوي: ولعل اختلاف النظم لمحافظة الفواصل والمبالغة فيما هو أهم. {يا أيها النبي} أي: الذي نخبره بما لا يطلع عليه غيره {إنا أرسلناك} أي: بعظمتنا إلى سائر خلقنا {شاهداً} أي: عليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالتهم، وشاهداً للرسل بالتبليغ، وهو حال مقدرة أو مقارنة لقرب الزمان {ومبشراً} أي: لمن آمن بالجنة {ونذيراً} أي: لمن كذب بالنار. {وداعياً إلى الله} أي: إلى توحيده وطاعته، وقوله تعالى: {بإذنه} حال أي: متلبساً بتسهيله، ولا يريد حقيقة الإذن؛ لأنه مستفاد من أرسلناك {وسراجاً} أي: مثله في الاهتداء به يمد البصائر فيجلي ظلمات الجهل بالعلم للمبصر لمواقع الزلل كما يمد النور الحسي نور الإبصار {منيراً} أي: نيراً على من اتبعه فيصير في أعظم ضياء، ومن تخلف عنه كان في أشد ظلام. وعبر به دون الشمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج؛ لأن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة، إذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه، وكذلك إن غاب النبي صلى الله عليه وسلم كان كل صحابي سراجاً يؤخذ منه نور الهداية كما قال صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» . قال ابن عادل: وفي هذا الخبر لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم، لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور يستفاد منه، فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤخذ إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، فأنوار المجتهدين كلهم من النبي صلى الله عليه وسلم ولو جعلهم كالسرج والنبي صلى الله عليه وسلم كان سراجاً كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار وليس كذلك، فإن مع نص النبي صلى الله عليه وسلم لا يعمل بقول الصحابي، بل يؤخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 النور من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤخذ من الصحابي فلم يجعله سراجاً. تنبيه: جوز الفراء أن يكون الأصل وتالياً سراجاً، ويعني بالسراج: القرآن، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي الذات واحدة؛ لأن التالي هو المرسل. وقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} عطف على محذوف، مثل فراقب أحوال أمتك. ولم يقل أنذر المعرضين إشارة للكرم. وقوله تعالى: {بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} كقوله تعالى {أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} (الأحزاب: 35) والعظيم والكبير متقاربان. ولما أمره سبحانه وتعالى بما يسر نهاه عما يضر بقوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} أي: لا تترك إبلاغ شيء مما أنزلت إليك من الإنذار وغيره كراهة لشيء من مقالهم وأفعالهم في أمر زينب وغيرها، فإنك نذير لهم، وزاد على ما في أول السورة محط الفائدة في قوله مصرحاً بما اقتضاه ما قبله {ودع} أي: اترك على حالة حسنة لك وأمر جميل بك {أذاهم} فلا تحسب له حساباً أصلاً، واصبر عليه فإن الله تعالى دافع عنك لأنك داع بإذنه {وتوكل على الله} أي: الملك الأعلى {وكفى بالله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {وكيلاً} أي: حافظاً. قال البغوي: وهذا منسوخ بآية القتال. ولما بدأ الله تعالى بتأديب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه الشريفات بقوله تعالى: بعده: {يا أيها النبي قل لأزواجك} وثلث بما يتعلق بذكر العامة بقوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً} وكان تعالى كلما ذكر لنبيه مكرمة وعلمه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فلذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بجانب الله تعالى فقال: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات} أي: عقدتم على الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضى لغاية الرغبة فيهن، وأتم الوصلة بينكم وبينهن ثم كما ثلث في تأديب النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} (الأحزاب: 53) {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} (الأحزاب: 56) فإن قيل: إذا كان هذا إرشاداً بما يتعلق بجانب منه ومن خواص المرأة فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بقوله تعالى: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} أي: تجامعوهن، أطلق المس على الجماع؛ لأنه طريق له كما سمى الخمر إثماً؛ لأنها سببه؟ أجيب: بأن هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها.l وبيانه: أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكيد العهد، ولهذا قال تعالى في حق الممسوسة: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} (النساء: 21) فإذا أمر الله تعالى بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بما حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء، أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما، وهذا كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الإسراء: 23) ولو قال: لا تضر بهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى يختص بالضرب أو الشتم لهما، فأما إذا قال: {لا تقل لهما أف} لعلم منه معان كثيرة فكذلك ههنا أمر بالإحسان مع من لا مودة معها، فعلم منه الإحسان إلى الممسوسة، ومن لم تطلق بعد، ومن ولدت عنده منه، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم، والباقون بفتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 التاء ولا ألف بعد الميم. ولما كانت العدة حقاً للرجال وإن كانت لا تسقط بإسقاطهم لما فيها من حق الله تعالى قال تعالى: {فما لكم عليهن من عدة} أي: أياماً يتربصن فيها بأنفسهن {تعتدونها} أي: تحصونها وتستوفونها بالإقراء وغيرها، فتعتدونها صفة لعدة، وتعتدونها إما من العدد، وإما من الاعتداد، أو تحسبونها أو تستوفون عددها من قولك: عد الدراهم فاعتدها أي: استوفى عددها نحو: كلته فاكتال ووزنته فاتزن، فإن قيل: ما الفائدة في الاتيان بثم وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ أجيب: بأن ذلك إزاحة لما قد يتوهم أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب فيؤثر في العدة، وظاهره يقتضي عدم وجود العدة بمجرد الخلوة، وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً لنطفة المؤمن، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق بكلمة ثم وهي للتراخي حتى لو قال لأجنبية: إذا نكحتك فأنت طالق، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق. وهو قول علي وابن مسعود وجابر ومعاذ وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وبه قال أهل العلم: منهم الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما. وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي: وقال ربيعة ومالك والأوزاعي: إن عيّن امرأة يقع وإن عمم فلا يقع. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كذبوا على ابن مسعود رضي الله عنه، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن. وروى عطاء عن جابر: لا طلاق قبل النكاح وقوله تعالى: {فمتعوهن} أي: أعطوهن ما يستمتعن به محله كما قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا لم يكن سمى لها صداقاً وإلا فلها نصف الصداق ولا متعة لها، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} (البقرة: 237) أي: فلا متعة لها مع وجوب نصف الفرض. واختلف في المتعة هل هي واجبة، أو مندوبة؟ وهي عندنا: واجبة بشروط وقد تقدم، والكلام عليها عند قوله تعالى: {فتعالين أمتعكن} وعند بعض الأئمة أنها مندوبة، وقال بعضهم: هي مندوبة عند استحقاقها نصف المهر، واجبة عند عدمه، وذهب بعضهم إلى أنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية {وسرحوهن سراحاً جميلاً} أي: خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار، وليس لكم عليهن عدة، وقيل: السراح الجميل أن لا يطالب بما دفعه إليها بأن يخلي لها جميع المهر وقوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} أي: مهورهن؛ لأن المهر أجر على البضع بيان لإيثار الأفضل له لا لتوقف الحل عليه، وليفيد إحلال المملوكة بكونها مسببة بقوله تعالى: {وما ملكت يمينك مما أفاء الله} أي: الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضيرية، وريحانة القرظية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، مما كن في أيدي الكفار، وتقييد الأقارب بكونهن مهاجرات معه في قوله تعالى {وبنات عمك} أي: الشقيق وغيره {وبنات عماتك} أي: نساء قريش، ولما بدأ بالعمومة لشرفها أتبعها قوله تعالى: {وبنات خالك} جارياً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 في الإفراد والجمع على ذلك النحو {وبنات خالاتك} من نساء بني زهرة، وقال البقاعي: ويمكن في ذلك احتباك عجيب وهو بنات عمك، وبنات أعمامك، وبنات عماتك، وبنات عمتك، وبنات خالك، وبنات أخوالك، وبنات خالتك انتهى. وقوله تعالى: {اللاتي هاجرن معك} يحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة. ويعضده ما روى الترمذي والحاكم عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى {إنا أحللنا لك أزواجك} الآية فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء أي: الأسراء الذين أطلقوا من الأسر، وخلى سبيلهم» قال ابن عادل: ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل انتهى. ثم إن الله تعالى ذكر ما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وامرأة} أي: حرة {مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي} أي: الذي أعلينا قدره بما خصصناه به {أي: يستنكحها} أي: يوجد نكاحه لها بجعلها من منكوحاته فتصير له بمجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود، وخرج بالمؤمنة الكتابية فلا تحل له؛ لأنها تكره صحبته، ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة ولقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب: 6) ولا يجوز أن تكون المشركة أم المؤمنين، ولخبر: «سألت ربي أن لا أزوج إلا من كان معي في الجنة فأعطاني» رواه الحاكم وصحح إسناده، وأما التسري بالكتابية فلا يحرم عليه، قال الماوردي: لأنه صلى الله عليه وسلم تسرى بريحانة وكانت يهودية من بني قريظة» ، واستشكل بهذا تعليلهم السابق بأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، وأجيب: بأن القصد بالنكاح أصالة التوالد فاحتيط له، وبأنه يلزم فيه أن تكون الزوجة المشركة أم المؤمنين بخلاف الملك فيها، وخرج بالحرة الرقيقة وإن كانت مؤمنة لأن نكاحها معتبر بخوف العنت وهو معصوم، وبفقدان مهر حرة، ونكاحه غني عن المهر ابتداءً وانتهاءً، وبرِقِّ الولد ومنصبه صلى الله عليه وسلم منزه عنه. تنبيه: في نصب امرأة وجهان: أحدهما: أنه عطف على مفعول أحللنا أي: وأحللنا لك امرأة موصوفة بهذين الشرطين. قال أبو البقاء: وقد رد هذا قوم وقالوا: أحللنا ماض، وإن وهبت وهو صفة المرأة مستقبل، فأحللنا في موضع جوابه، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى، قال: وهذا ليس بصحيح لأن معنى الإحلال ههنا: الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول: أبحت لك أن تكلم فلاناً إن سلم عليك. والثاني: أنه نصب بمقدر تقديره ونحل لك امرأة، وفي قول الله تعالى: {إن وهبت} إن أراد اعتراض الشرط على الشرط، والثاني: هو قيد في الأول ولذلك تعربه حالاً؛ لأن الحال قيد، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود، فلو قال لزوجته: إن أكلت إن ركبت فأنت طالق فلا بُدَّ أن يتقدم الركوب على الأكل وهذا لتحقيق الحالية والتقييد كما ذكر، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب، فلهذا اشترط تقدم الثاني، ولكن يشترط أن لا يكون ثم قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله لامرأة: إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر لا يتصور هنا تقدم الطلاق على التزوج، قال بعض المفسرين: وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني ههنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك أن المفسرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 فسروا قوله تعالى: {إن أراد} بمعنى قبل الهبة لأن بالقبول منه صلى الله عليه وسلم يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة؛ إذ القبول متأخر، فإن العصمة كانت في تأخر إرادته عن هبتها، ولما جاء أبو حيان إلى هنا جعل الشرط الثاني مقدماً على الأول على القاعدة العامة، ولم يستشكل شيئاً مما ذكر. قال ذلك البعض. وقد عرضت هذا الإشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عنه جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً. ولما كان ربما فهم أن غير النبي صلى الله عليه وسلم يشاركه في هذا المعنى قال الله منبهاً للخصوصية: {خالصة لك} وزاد المعنى بياناً بقوله تعالى: {من دون المؤمنين} أي: من الأنبياء وغيرهم. تنبيهات: الأول في إعراب خالصة وفيه أوجه: أحدها: أنه منصوب على الحال من فاعل وهبت أي: حالة كونها خالصة لك دون غيرك. ثانيها: أنه نعت مصدرٍ مقدّر أي: هبة خالصة فنصبه بوهبت. ثالثها: أنه حال من امرأة؛ لأنها وصفت فتخصصت، وهو بمعنى الأول، وإليه ذهب الزجاج، وقيل غير ذلك. والمعنى: أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق. التنبيه الثاني: في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة وفيه خلاف: فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء: لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وبه قال مالك وربيعة والشافعي. ومعنى الآية: أن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه صلى الله عليه وسلم وقال النخعي وأبو حنيفة وأهل الكوفة: ينعقد بلفظ الهبة والتمليك. وأن معنى الآية: أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة من أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً بالتزويج، وأجيب: بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه، فإن أزواجه صلى الله عليه وسلم كلهن خالصات له، وما مر فللتخصيص فائدة. التنبيه الثالث: في التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هل كانت عنده امرأة منهن؟ فقال عبد الله بن عباس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وقوله تعالى {وهبت نفسها} على طريق الشرط والجزاء، وقال غيرهما: بل كانت موهوبة وهو ظاهر الآية، واختلفوا فيها: فقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها: أم لمساكين، وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر من بني أسد، وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم من بني سليم. التنبيه الرابع: في ذكر شيء من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت منها أشياء كثيرة ينشرح الصدر بها في شرح التنبيه فلا أطيل بذكرها هنا، ولكن أذكر منها طرفاً يسيراً تبركاً ببركة صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن ذكرها مستحب. قال النووي في روضته: ولا يبعد القول بوجوبها لئلا يرى الجاهل بعض الخصائص في الخبر الصحيح فيعمل به أخذاً بأصل التأسي، فوجب بيانها لتعرف وهي أربعة أنواع: أحدها الواجبات وهي أشياء كثيرة: منها الضحى، والوتر، والأضحية، وفي الحديث ما يدل على أن الواجب أقل الضحى، وقياسه أن الوتر كذلك. ومنها السواك لكل صلاة، والمشاورة لذوي الأحلام في الأمر، وتخيير نسائه بين مفارقته طلباً للدنيا واختياره طلباً للآخرة، ولا يشترط الجواب له منهن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 فوراً، فلو اختارته واحدة لم يحرم عليه طلاقها أو كرهته توقفت الفرقة على الطلاق، وليس قولها: اخترت نفسي بطلاق كما مرت الإشارة إليه، وله تزوجها بعد الفراق. النوع الثاني: المحرمات: وهي أشياء كثيرة منها الزكاة والصدقة وتعلم الخط والشعر ومد العين إلى متاع الدنيا. وخائنة الأعين وهي: الإيماء بما يظهر خلافه دون الخديعة في الحرب، وإمساك من كرهت نكاحه. ومنها نكاح كتابية لا للتسري بها كما مر، ولا يحرم عليه أكل الثوم ونحوه ولا الأكل متكئاً. النوع الثالث: التخفيفات والمباحات: وهي كثيرة جداً منها: تزويج من شاء من النساء لمن شاء ولو لنفسه بغير إذن من المرأة ووليها متولياً للطرفين، وزوجه الله تعالى، وأبيح له الوصال ونصفي المغنم. ويحكم ويشهد لولده ولو لنفسه، وأبيح له نكاح تسع، وقد تزوج صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ومات عن تسع، قال الأئمة: وكثرة الزوجات في حقه صلى الله عليه وسلم للتوسعة في تبليغ الأحكام عنه الواقعة سراً مما لا يطلع عليه الرجال، ونقل محاسنه الباطنة فإنه صلى الله عليه وسلم تكمل له الظاهر والباطن، وحرم عليه الزيادة عليهن، ثم نسخ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وينعقد نكاحه محرماً وبلفظ الهبة إيجاباً لا قبولاً، بل يجب لفظ النكاح أو التزويج لظاهر قوله تعالى: {إن أراد النبي أن يستنكحها} ولا مهر للواهبة له وإن دخل بها، وتجب إجابته على امرأة رغب فيها، ويجب على زوجها طلاقها لينكحها. النوع الرابع: الفضائل: وهي كثيرة لا تدخل تحت الحصر منها: تحريم منكوحاته على غيره سواء كن موطوآت أم لا، مطلقات باختيارهن أم لا، وتحريم سراريه وهن إماؤه الموطوآت بخلاف غير الموطوآت، وتقدم أن نساءه أمهات المؤمنين لا المؤمنات بخلافه صلى الله عليه وسلم فإنه أبو الرجال والنساء، وتقدم الكلام على قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب: 40) وإن ثوابهن وعقابهن مضاعف. ومنها أنه يحرم سؤالهن إلا من وراء حجاب، وأفضلهن خديجة ثم عائشة، وأفضل نساء العالمين مريم بنت عمران إذ قيل بنبوتها، ثم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خديجة، ثم عائشة، ثم آسية امرأة فرعون، وأما خبر الطبراني: خير نساء العالمين مريم بنت عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ثم آسية امرأة فرعون فأجيب عنه: بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. ومنها: أنه أول النبيين خلقاً وأفضل الخلق على الإطلاق، وخص بتقديم نبوته فكان نبياً وآدم منجدل في طينته، وبتقديم أخذ الميثاق عليه، وبأنه أول من قال: بلى وقت {ألست بربكم} وبخلق آدم وجميع المخلوقات من أجله، وبكتابة اسمه الشريف على العرش والسماوات والجنات وسائر ما في الملكوت، وبشق صدره الشريف، وبجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه، وبحراسة السماء من استراق السمع والرمي بالشهب، وبإحياء أبويه حتى آمنا به، وبأنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة، وأول شافع وأول مشفع، وأكرم بالشفاعات الخمس يوم القيامة: أولها: العظمى في الفصل بين أهل الموقف حين يفزعون إليه بعد الأنبياء. الثانية: في إدخال خلق الجنة بغير حساب جعلنا الله وأحبابنا منهم. الثالثة: في ناس استحقوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 دخول النار فلا يدخلونها. الرابعة: في ناس دخلوا النار فيخرجون منها. الخامسة: في رفع درجات ناس في الجنة وكلها ثبتت بالأخبار، وخص منها بالعظمى ودخول خلق من أمته الجنة بغير حساب وهي الثانية. قال النووي في روضته: ويجوز أن يكون خص بالثالثة والخامسة أيضاً، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجداً وترابها طهوراً، وأحلت له الغنائم، وأرسل إلى الكافة ورسالة غيره خاصة، وأما عموم رسالة نوح عليه السلام بعد الطوفان فلانحصار الباقين فيمن كان معه في السفينة وهو أكثر الأنبياء أتباعاً، وأمته خير الأمم وأفضلها أصحابه، وأفضلهم الخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة، ثم باقي العشرة. وهي معصومة لا تجتمع على ضلالة، وصفوفهم كصفوف الملائكة، ولها فضائل كثيرة على سائر الأمم. منها: أنها أول من يدخل الجنة بعد الأنبياء عليهم السلام. ومنها: وضع الإصر، وليلة القدر والجمعة ورمضان على أحد قولين، ونظر الله تعالى إليهم ومغفرته لهم أول ليلة منه، وطيب خلوف فم صائمه عنده تعالى، واستغفار الملائكة عليهم السلام في ليله ونهاره، وأمر الله تعالى الجنة أن تتزين لهم، وردِّ صدقاتهم إلى فقرائهم، والغرة والتحجيل من أثر الوضوء، وسلسلة الإسناد والحفظ عن ظهر قلب، وأخذ العلم عن الأحداث والمشايخ. وكتابه صلى الله عليه وسلم معجز محفوظ من التغيير والتبديل، وأقيم بعده حجة على الناس، ومعجزات سائر الأنبياء انقرضت، وشريعته مؤبدة ناسخة لغيرها من الشرائع، وتطوعه قاعداً كقائم، ويحرم رفع الصوت فوق صوته، قال القرطبي: وكره بعضهم رفعه عند قبره صلى الله عليه وسلم ولا تبطل صلاة من خاطبه بالسلام، وتجب إجابته في الصلاة ولو بالفعل ولا تبطل، ويحرم نداؤه من وراء الحجرات، ويحرم نداؤه باسمه كيا محمد صلى الله عليه وسلم لا بكنيته كيا أبا القاسم، ويحرم التكني بكنيته مطلقاً. وقيل: مختص بزمنه. وقيل على من اسمه محمد، وكان يتبرك ويستشفى ببوله ودمه وفضلاته النازلة من الدبر لا ترى بخلافها من القبل. والذي صوبه بعض المتأخرين طهارتها وهو الصواب، وأولاد بناته ينسبون إليه. وأعطي جوامع الكلم. وكان يؤخذ عن الدنيا عند تلقي الوحي ولا يسقط عنه التكليف، ورؤيته في النوم حق، ولا يعمل بها فيما يتعلق بالأحكام لعدم ضبط النائم، والكذب عمداً عليه كبيرة، ولا يجوز الجنون على الأنبياء ولا الاحتلام ولا تأكل الأرض لحومهم. وفي هذا القدر كفاية. ومن أراد الزيادة على ذلك فعليه بكتب الخصائص، فإن العلماء قد صنفوا في ذلك تصانيف، وأنا أسأل الله تعالى من فضله وكرمه أن يشفعه فينا ويدخلنا معه الجنة، ويفعل ذلك بأهلينا ومشايخنا وإخواننا ومحبينا ولا يحرمنا زيارته ولا رؤيته قبل الممات. ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة لمنع غيره من ذلك قال تعالى: {قد} أي: أخبرناك بأن هذا أمر يخصك غيرهم لا ناقد {علمنا ما فرضنا} أي: قدرنا بعظمتنا {عليهم} أي: على المؤمنين {في أزواجهم} أي: من شرائط العقد، وأنهم لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها، ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين {و} في {ما ملكت أيمانهم} من الإماء بشراء وغيره بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية، وأن تستبرأ قبل الوطء، وقيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 المراد أن أحداً غيرك لا يملك رقبة بهبتها لنفسها منه فيكون أحق من سيدها. ولما فرغ من تعليل الدونية علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله تعالى: {لكي لا يكون عليك حرج} أي: ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة، فلكيلا متعلق بخالصة وما بينهما اعتراض، ومن دون متعلق بخالصة كما تقول خلص من كذا {وكان الله} أي: المتصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} أي: بليغ الستر على عباده. ولما ذكر تعالى ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس فيهما وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن ويعتذر مع ذلك عن ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله: {ترجي} أي: تؤخر وتترك مصاحبتها {من تشاء منهن وتؤوي} أي: تضم {إليك من تشاء} وتضاجعها، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بياء ساكنة بعد الجيم من الإرجاء أي: تؤخرها مع أفعال تكون بها راجية لعطفك، والباقون بهمزة مضمومة وهو مطلق التأخير {ومن ابتغيت} أي: طلبت {ممن عزلت} أي: من القسمة {فلا جناج عليك} أي: في وطئها وضمها إليك. تنبيه: اختلف المفسرون في معنى هذه الآية: فأشهر الأقوال أنها في القسم بينهن، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة في النفقة فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين، وأن لا ينكحن أبداً، وعلى أن يؤوي إليه من يشاء ويرجي من يشاء فيرضين، قسم لهن أو لم يقسم قسم، لبعضهن دون بعض، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط، وذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع. والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه، والنكاح عليها رق، فكيف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إليه، فإذا هن كالمملوكات له ولا يجب لقسم بين المملوكات. واختلفوا هل أخرج أحداً منهن عن القسم؟ فقال بعضهم: لم يخرج أحداً منهن عن القسم بل: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعل الله له من ذلك يسوى بينهن في القسم، إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم، وجعلت يومها لعائشة» وقيل: أخرج بعضهن. روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن يا رسول الله: اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن، وآوى إليه بعضهن، فكان ممن أوى: عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة، وكان يقسم بينهن سواء، وأرجأ منهن خمساً: أم حبيبة وميمونة وسودة وصفية وجويرية، فكان لا يقسم لهن ما شاء، وقال مجاهد: {ترجي من تشاء منهن} أي: تعزل من تشاء منهن بغير طلاق، وترد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد، وقال ابن عباس: تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء. وقال الحسن: تترك نكاح من شئت من نساء أمتك. قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها، وروى هشام عن أبيه قال: «كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» {ذلك} أي: التفويض إلى مشيئتك {أدنى} أي: أقرب {أن} أي: إلى أن {تقر أعينهن} أي: بما حصل لهن من عشرتك الكريمة، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد؛ لأن من كان كذلك كانت عينه قارة، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب، هذا إذا كان من القرار بمعنى السكون. ويجوز أن يكون من القر الذي هو ضد الحر؛ لأن المسرور تكون عينه باردة، والمهموم تكون عينه حارة، فذلك يقال للصديق: أقر الله تعالى عينك. وللعدو: سخن الله عينك {ولا يحزن} أي: بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك {ويرضين} لعلمهن أن ذلك من الله تعالى {بما أتيتهن} أي: من الأجور ونحوها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها. ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {كلهن} أي: ليس منهن واحدة لا هي كذلك؛ لأن حكم كلهن فيه سواء، إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك، وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن نفوسهن، وزاد ذلك تأكيداً لما لذلك من الغرابة بقوله تعالى: {والله} أي: بما له من الإحاطة بصفات الكمال {يعلم ما في قلوبكم} أي: الخلائق كلهم، فلا يدع أن يعلم ما في قلوب هؤلاء {وكان الله} أي: أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بكل شيء من يطيعه ومن يعصيه {حليماً} لا يعاجل من عصاه بل يديم إحسانه إليه في الدنيا، فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه، فعلمه موجب للخوف منه وحلمه مقتضٍ للاستحياء منه، وأخذ الحليم شديدٌ، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه، ويرفع قدره ويعلي ذكره. وروى البخاري في التفسير عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية {ترجي من تشاء} الآية قلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً» . ولما أمره الله تعالى بالتخيير وخيرهن واخترن الله ورسوله زاد الله تعالى سرورهن بقوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} أي: بعد من معك من هؤلاء التسع اللاتي اخترنك شكراً من الله لهن؛ لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله فحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن بقوله تعالى: {ولا أن تبدل بهن} أي: هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله تعالى: {من} أي: شيئاً من {أزواج} أي: بأن تطلقهن أي: هؤلاء المعينات أو بعضهن وتأخذ بدلها من غيرهن {ولو أعجبك حسنهن} أي: النساء المغايرات لمن معك. قال ابن عباس: يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 يخطبها فنُهي عن ذلك، وقرأ أبو عمرو لا تحل لك بالتاء الفوقية والباقون بالياء التحتية، وشدد البزي التاء من أن تبذل. تنبيه: في الآية دليل على إباحة النظر إلى من يريد نكاحها لكن من غير العورة في الصلاة، فينظر الرجل من الحرة الوجه والكفين، ومن الأمة ما عدا ما بين السرة والركبة، واحتج لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما أن تدوم المودة والإلفة» رواه الحاكم وصححه. وقوله تعالى: {إلا ما ملكت يمينك} استثناء من النساء؛ لأنه يتناول الأزواج والإماء أي: فتحل لك، وقد ملك بعدهن مارية وولدت له إبراهيم ومات، واختلفوا هل أبيح له النساء من بعد؟ قالت عائشة: «ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء» أي: فنسخ ذلك، وأبيح له أن ينكح أكثر منهن بآية {إنا أحللنا لك أزواجك} ، فإن قيل: هذه الآية متقدمة وشرط الناسخ أن يكون متأخراً؟ أجيب: بأنها مؤخرة في النزول مقدمة في التلاوة، وهذا أصح الأقوال. وقال أنس: مات على التحريم، وقال عكرمة والضحاك: معنى الآية لا تحل لك النساء بعد التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها، وقيل لأبي بن كعب: لو مات نساء النبي صلى الله عليه وسلم أكان يحل له أن يتزوج فقال: وما يمنعه من ذلك قيل: قوله تعالى: {لا تحل لك النساء من بعد} قال: إنما أحل الله تعالى له ضرباً من النساء فقال: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} (الأحزاب: 50) ثم قال {لا تحل لك النساء من بعد} قال أبو صالح: أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة، والخال والخالة إن شاء ثلثمائة وقال مجاهد: معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بهن، يقول: ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى. وقال ابن زيد في قوله تعالى: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله تعالى: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} يعني: تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلا ما ملكت يمينك فلا بأس أن تبادل بجاريتك من شئت، فأما الحرائر فلا. روى عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن ومعه عائشة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا عيينة أين الاستئذان قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر مذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميرة إلى جنبك فقال: هذه عائشة أم المؤمنين، فقال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد حرم ذلك، فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه» . ولما أمر تعالى في هذه الآيات بأشياء ونهى عن أشياء، وحد حدوداً حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل بقوله تعالى: {وكان الله} أي: الذي لا شيء أعظم منه وهو المحيط بجميع صفات الكمال {على كل شيء رقيباً} أي: حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم وهذا من أشد الأشياء وعيداً. ولما ذكر حالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في قوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً} (الأحزاب: 45) ذكر حالهم معه من الاحترام له صلى الله عليه وسلم بقوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه بأن {لا تدخلوا بيوت النبي} أي: الذي تأتيه الأنباء من علام الغيوب مما فيه رفعته في حال من الأحوال أصلاً {إلا} في حال {أن يؤذن لكم} أي: ممن له الإذن في بيوته صلى الله عليه وسلم منه، أو ممن يأذن له في الدخول بالدعاء {إلى طعام} أي: أكله حال كونكم {غير ناظرين} أي: منتظرين {أناه} أي: نضجه وهو مصدر أنى يأني، وقرأ هشام وحمزة والكسائي بالإمالة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح. ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً وكان يراد تقييده قال تعالى: {ولكن إذا دعيتم} أي: ممن له الدعوة {فادخلوا} أي: لأجل ما دعاكم له ثم تسبب عنه قوله تعالى: {فإذا طعمتم} أي: أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً {فانتشروا} أي: اذهبوا حيث شئتم في الحال ولا تمكثوا بعد الأكل أو الشرب لا مستريحين لقرار الطعام {ولا مستأنسين لحديث} أي: طالبين الأنس لأجله. فائدة: قال الحسن: حسبك بالثقلاء أن الله لم يتجوز في أمورهم، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: حسبك بالثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم. ثم علل ذلك بقوله تعالى: مصوباً الخطاب إلى جميعهم معظماً له بأداة البعد {إن ذلكم} أي: الأمر الشديد وهو المكث بعد الفراغ {كان يؤذي النبي} أي: الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكون سبب شرفكم وعلوكم في الدارين، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه، ثم تسبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم له بما يزيد أذاه بقوله تعالى: {فيستحيي منكم} أي: بأن يأمركم بالانصراف {والله} أي: الذي له جميع الأمر {لا يستحيي من الحق} أي: لا يفعل فعل المستحيي فيؤدّيه ذلك إلى ترك الأمر به. تنبيه: قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك: «أنه كان ابن عشر سنين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: فكانت أمهاتي توطنني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين وتوفي وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم وأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت حتى جاء عتبة حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى إذا بلغ حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر ونزلت آية الحجاب، وقال أبو عثمان: واسمه الجعد عن أنس قال: فدخل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} إلى قوله تعالى {والله لا يستحيي من الحق} . وروي عن ابن عباس: «أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم فنزلت الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية. وروى أبو يعلى الموصلي عن أنس قال: «بعثتني أم سليم برطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته بين يديه فأصاب منه ثم أخذ بيدي فخرجنا، وكان حديث عهد بعرس زينب بنت جحش قال: فمر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون فهنينه وهناه الناس فقالوا: الحمد لله أقر بعينك يا رسول الله فمضى حتى أتى عائشة فإذا عندها رجال قال: فكره ذلك، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه قال: فأتيت أم سليم فأخبرتها فقال أبو طلحة: لئن كان كما قال ابنك ليحدثن أمر قال: فلما كان من العشي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم تلا هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا} الآية. وروى البخاري وغيره عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب فقالت لي أم سليم: لو أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية فقلت لها: افعلي فعمدت إلى تمر وأقط وسمن فاتخذت حيسة في برمة وأرسلت بها معي إليه فقال لي: ضعها ثم أمرني فقال: ادع لي رجالاً سماهم، وادع لي من لقيت ففعلت الذي أمرني فرجعت فإذا البيت غاص بأهله» وفي رواية الترمذي أن الراوي قال: قلت لأنس: كم كانوا قال: زهاء ثلثمائة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله تعالى، ثم يدعو عشرة عشرة يأكلون منه ويقول لهم: اذكروا اسم الله تعالى وليأكل كل رجل مما يليه حتى تصدّعوا كلهم عنها، قال الترمذي: فقال لي: يا أنس ارفع فرفعت فما أدري حين وضعت كانت أكثر أو حين رفعت فخرج معي من خرج وبقي قوم يتحدثون فنزلت. ولما كان البيت يطلق على المرأة لملازمتها له عادة أعاد الضمير عليه مراداً به النساء استخداماً فقال تعالى: {وإذا سألتموهن} أي: الأزواج {متاعاً} أي: شيئاً من آلات البيت {فاسألوهن} أي: ذلك المتاع كائنين وكائنات {من وراء حجاب} أي: ستر يستركم عنهن ويسترهن عنكم، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها {ذلكم} أي: الأمر العالي الرتبة {أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أي: من وسواس الشيطان والريب لأن العين وزيرة القلب فإذا لم تر العين لم يشته القلب، فأما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر. روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة: «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح فكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عز وجل الحجاب» ، وعن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاثة قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة: 125) وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب، قال: وبلغني ما آذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه قال: فدخلت عليهن فجعلت أستقررهن واحدة واحدة فقلت والله لتنتهن أو ليبدله الله تعالى أزواجاً خيراً منكن، حتى أتيت على زينب فقالت: يا عمر أما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت قال: فخرجت فأنزل الله تعالى {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} (التحريم: 5) الآية. ولما بين تعالى للمؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على ملاطفة نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وما كان} أي: وما صح وما استقام {لكم} في حال من الأحوال {أن تؤذوا رسول الله} فله إليكم من الإحسان ما يستوجب به منكم غاية الإكرام والإجلال فضلاً عن الكف عن الأذى فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك. ولما كان قد قصر صلى الله عليه وسلم عليهن أحل له غيرهن وقصرهن الله عليه بقوله تعالى: {ولا أن تنكحوا} أي: فيما يستقبل من الزمان {أزواجه من بعده} أي: فراقه بموت أو طلاق سواء أدخل بها أم لا {أبداً} زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته، ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن أزواجه في الجنة، ولأن المرأة في الجنة مع آخر أزواجها كما قاله ابن القشيري، روي أن هذه الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحن عائشة قال مقاتل بن سليمان: هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله تعالى أن ذلك محرم، وقال: {إن ذلكم} أي: الإيذاء بالنكاح وغيره {كان عند الله} أي: القادر على كل شيء {عظيماً} أي: ذنباً عظيماً. فإن قيل: روى معمر عن الزهري أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له. أجيب: بأن ذلك كان قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وقيل: لا تحرم غير الموطوءة لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر فهم برجمهما، فأخبر بأنه صلى الله عليه وسلم فارقها قبل أن يمسها فترك من غير نكير، فأما إماؤه صلى الله عليه وسلم فيحرم منهن الموطوءات على غيره إكراماً له بخلاف غير الموطوءات وقيل: لا تحرم الموطوءات أيضاً. ونزل فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن تبدوا} أي: بألسنتكم وغيرها {شيئاً} أي: من ذلك أو غيره {أو تخفوه} في صدوركم {فإن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {كان} أي: أزلاً وأبداً به هكذا كان الأصل، ولكنه أتى بما يعمه وغيره فقال {بكل شيء} أي: من ذلك وغيره {عليماً} فهو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وإن بالغتم في كتمه فيجازي عليه من ثواب وعقاب، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد. ولما نزلت آية الحجاب قال: الآباء والأبناء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل قوله تعالى: {لا جناح} أي: لا إثم {عليهن في آبائهن} دخولاً وخلوة من غير حجاب سواء كان الأب من النسب أو من الرضاع {ولا أبنائهن} أي: من البطن أو الرضاعة {ولا إخوانهن} لأن عارهنّ عارهم فلا فرق أن يكونوا من النسب أو الرضاع {ولا أبناء إخوانهن} فإنهن بمنزلة آبائهم {ولا أبناء أخواتهن} فإنهن بمنزلة أمهاتهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء خالصة في الوصل وحققها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 الباقون وفي الابتداء بالثانية الجميع بالتحقيق {ولا نسائهن} أي: المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال لكن رجح النووي أنه يجوز أن تنظر منها ما يبدو عند المهنة {ولا ما ملكت أيمانهن} من العبيد لأنهم لما لهنّ عليهم من السلطان يبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم. تنبيه: قدم تعالى الآباء؛ لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر وكيف وهم قد رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن، ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر، وإنما الكلام في بني الإخوة حيث قدّمهم الله تعالى على بني الأخوات، لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم خالات أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم، ففي بني الأخوات مفسدة ما، وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك في بني الإخوة. فإن قيل: لم يذكر الله تعالى من المحارم الأعمام والأخوال فلم يقل: ولا أعمامهن ولا أخوالهن. أجيب عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن ذلك معلوم من بني الإخوة وبني الأخوات؛ لأن من علم أن بني الأخ للعمات محارم علم أن بنات الأخ للأعمام محارم، وكذلك الحال في أمر الخالة. وثانيهما: أن الأعمام ربما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم وهم غير محارم، وكذلك الحال في ابن الخال. وذكر ملك اليمين بعد هذا كله لأن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة وقوله تعالى {واتقين} عطف على محذوف أي: امتثلن ما أمرتن به واتقين {الله} أي: الذي لا شيء أعظم منه فلا تقربن شيئاً مما يكرهه وإنما أمرهن لأن الريبة من جهة النساء أكثر لأنه لا يكاد الرجل يتعرض إلا لمن ظن بها الإجابة لما يرى من مخايلها ومخايل أشكالها. ولما كان الخوف لا يعظم إلا ممن كان حاضراً مطلعاً قال: {إن الله} أي: العظيم الشأن {كان} أي: أزلاً وأبداً {على كل شيء} من أفعالكن وغيرها {شهيداً} أي: لا يغيب عنه شيء وإن دق فهو مطلع عليكن حال الخلوة فلا تخفى عليه خافية. ولما أمر تعالى بالاستئذان وعدم النظر إلى نسائه احتراماً له كمل بيان حرمته بقوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} أي: محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: أراد أن الله تعالى يرحم النبي والملائكة يدعون له، وعن ابن عباس أيضاً: يصلون يبركون والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وقال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء. تنبيه: بيان كمال حرمته في ذلك أن حالاته منحصرة في حالتين حالة خلوة فذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي} وحالة تكون في ملأ، والملأ إما الملأ الأعلى، وإما الملأ الأدنى أما احترامه في الملأ الأعلى، فإن الله وملائكته يصلون عليه، وأما احترامه في الملأ الأدنى فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} أي: ادعو له بالرحمة {وسلموا تسليماً} أي: حيوه بتحية الإسلام وأظهروا شرفه بكل ما تصل قدرتكم إليه من حسن متابعته وكثرة الثناء الحسن عليه والانقياد لأمره في كل ما يأمر به، ومنه الصلاة والسلام عليه بألسنتكم. روى عبد الرحمن بن أبي ليلى لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: بلى فأهدها لي قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وروى أبو حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة» ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً» وروى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقلنا: إنا لنرى البشرى في وجهك فقال: «جاءني جبريل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً» وروى عامر بن ربيعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي، فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر» ، وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات» وروى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» . تنبيه: دلت الآية على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمر للوجوب قالوا: وقد أجمع العلماء أنها لا تجب في غير الصلاة فتعين وجوبها فيها والمناسب لها من الصلاة التشهد آخرها فتجب في التشهد آخر الصلاة أي: بعده وهو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد فالقائل بوجوبها في العمر مرة في غيرها محجوج بإجماع من قبله، ولحديث كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلى آخره» وقيل: تجب كلما ذكر، واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية لقول جابر: «إن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر فلما رقى الدرجة الأولى قال: آمين، ثم رقى الثانية فقال: آمين ثم رقى الثالثة فقال: آمين فقالوا: يا رسول الله سمعناك تقول: آمين ثلاث مرات فقال: لما رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد ذكرت عنده ولم يصل عليك فقلت: آمين» ، وفي رواية رقي المنبر فقال: آمين آمين آمين قيل: يا رسول الله ما كنت تصنع هذا فقال: قال لي جبريل: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما لم يدخلاه الجنة فقلت: آمين، ثم قال رغم أنف عبد دخل عليه رمضان لم يغفر له فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين» ، وكذلك قوله: {وسلموا} أمر فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا في التشهد سلام عليك أيها النبي إلخ، وذكر في السلام المصدر للتأكيد ولم يذكره في الصلاة لأنها كانت مؤكدة بقوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} وأقل الصلاة عليه اللهم صل على محمد، وأكملها اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وآل إبراهيم إسماعيل وإسحاق وأولادهما. فائدة: كل الأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام من ولده إسحاق إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من نسل إسماعيل، ولم يكن من نسله نبي غيره وخص إبراهيم عليه السلام بالذكر لأن الرحمة والبركة لم يجتمعا لنبي غيره فقال الله تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} (هود: 73) فإن قيل: إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة به إلى صلاتنا؟ أجيب: بأن الصلاة عليه ليست لحاجة إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله تعالى عليه وإنما هو إظهاره وتعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً» ، وفي رواية أخرى: وملائكته سبعين، وتجوز الصلاة على غيره تبعاً له وتكره استقلالاً لأنه في العرف صار شعاراً لذكر الرسل ولذلك كره أن يقال لمحمد عز وجل، وإن كان عزيزاً جليلاً. ولما أمر الله تعالى باحترام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نهى عن إيذاء نفسه وإيذاء رسوله بقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله} أي: الذي لا أعظم منه ولا نعمة عندهم إلا من فضله {ورسوله} أي: الذي استحق عليهم بما يخبرهم به عن الله تعالى ما لا يقدرون على القيام بشكره {لعنهم الله} أي: أبعدهم وأبغضهم {في الدنيا} بالحمل على ما يوجب السخط {والآخرة} بإدخال دار الإهانة كما قال تعالى: {وأعد لهم عذاباً مهيناً} (الأحزاب: 57) أي: ذا إهانة، وهو النار ومعنى يؤذون الله يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر، ذلك، حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الأنداد ونسبة الولد والزوجة إليه. قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأما اليهود فقالوا: عزير ابن الله، وقالوا: يد الله مغلولة وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وأما النصارى فقالوا: المسيح ابن الله وثالث ثلاثة، وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد» ، وعن أبي هريرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» معنى الحديث: أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يسبوا الدهر ويذموه عند النوازل لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر فقال تعالى: أنا الدهر أي: الذي أحل بهم النوازل وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه للدهر في زعمكم وقيل: معنى يؤذون الله يلحدون في أسمائه وصفاته وقيل: هم أصحاب التصاوير، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فيخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة» ، ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف أي: أولياء الله كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف، 82) قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» وقال: «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» ومعنى الأذى: هو مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم، والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 أحد قال بعضهم: أتي بالجلالة تعظيماً والمراد: يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {إنما يبايعون الله} (الفتح: 10) وأما إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: إنه شج في وجهه، وكسرت رباعيته وقيل: ساحر شاعر مجنون. ولما كان من أعظم أذاه أذى من تابعه، وكان الأتباع لكونهم غير معصومين يتصور أن يؤذوا على الحق قال تعالى مقيداً للكلام: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} أي: الراسخين في صفة الإيمان {بغير ما اكتسبوا} أي: بغير شيء واقعوه متعمدين له حتى أباح أذاهم {فقد احتملوا} أي: كلفوا أنفسهم أن حملوا {بهتاناً} أي: كذباً وفجوراً زائداً على الحد موجباً للجزاء في الدنيا والآخرة {وإثماً مبيناً} أي: ذنباً ظاهراً جداً موجباً للعقاب في الآخرة. تنبيه: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه ويسمعونه، وقيل: نزلت في شأن عائشة وقال الضحاك والكلبي: نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طريق المدينة يبتغون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحداً، يخرجن في درع وخمار الحرة والأمة، فشكوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} الآية. ثم نهى الحرائر أن يشتبهن بالإماء بقوله تعالى: {يا أيها النبي} ذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة {قل لأزواجك} بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح {وبناتك} ثنى بهن لما لهن من الوصلة، ولهن من القسمين من الشرف وآخرهن عن الأزواج لأن أزواجه يكفونه أمرهن {ونساء المؤمنين يدنين} أي: يقربن {عليهن} أي: على وجوههن وجميع أبدانهن فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً {من جلابيبهن} ولا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن بكشف الشعور ونحوها ظناً أن ذلك أخفى لهن وأستر، والجلباب والقميص وثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، والملحفة: ما ستر اللباس، والخمار: وهو كل ما غطى الرأس وقال البغوي: الجلباب الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال حمزة الكرماني، قال الخليل: كل ما يستر به من دثار وشعار وكساء فهو جلباب والكل تصح إرادته هنا، فإن كان المراد القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي بدنها ورجليها، وإن كان يغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها، وإن كان المراد ما يغطي الثياب فإدناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها، وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين وقال ابن عباس وعبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر. ولما أمر تعالى بذلك علله بقوله تعالى: {ذلك} أي: الستر {أدنى} أي: أقرب من تركه في {أن يعرفن} أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء {فلا} أي: فتسبب عن معرفتهن أن لا {يؤذين} ممن يتعرضن للإماء فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء الإلهية قال ابن عادل: ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي: في الصلاة لا يطمع فيها أنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 تكشف عورتها، فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن انتهى. ولما رقاهن تعالى لهذا الأمر خفف عاقبة ما كن فيه من التشبيه بالإماء فأخبرهن تعالى بوسع كرمه وجوده بقوله تعالى: {وكان الله} أي: الذي له الكمال المطلق أزلاً وأبداً {غفوراً} أي: لما سلف منهن من ترك الستر فهو محاء للذنوب عيناً وأثراً {رحيماً} بهن إذ سترهن وبمن يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه قال البغوي: قال أنس: مرت بعمر جارية مقنعة فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع ويظهر أن عمر إنما فعل ذلك خوفاً من أن تلتبس الإماء بالحرائر فلا يعرف الحرائر فيعود الأمر كما كان. ولما كان المأذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم حذرهم بقوله تعالى مؤكداً دفعاً لظنهم دوام الحلم عليهم: {لئن لم ينته} عن الأذى {المنافقون} أي: الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام {والذي في قلوبهم مرض} أي: غل مقرب من النفاق حامل على المعاصي {والمرجفون في المدينة} المؤمنين أي: بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذيعون في الناس أنهم قد قتلوا أو هزموا ويقولون: قد أتاكم العدو ونحو ذلك، وأصل الرجفة: التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمى به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة {لنغرينك بهم} أي: لنسلطنك عليهم بالقتل والجلاء، أو بما يضطرهم إلى طلب الجلاء وقوله تعالى: {ثم لا يجاورونك} أي: يساكنونك {فيها} أي: المدينة عطف على لنغرينك وثم للدلالة على أن الجلاء ومفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم ما يصيبهم {إلا قليلاً} أي: زماناً أو جواراً قليلاً، ثم يخرجون منها وقيل: نسلطك عليهم حتى تقتلهم وتخلى منهم المدينة. وقوله تعالى: {ملعونين} أي: مبعودين عن الرحمة حال من فاعل يجاورونك قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء {أينما ثقفوا} أي: وجدوا {أخذوا وقتلوا} ثم أكده بالمصدر بغضاً فيهم وإرهاباً لهم بقوله تعالى: {تقتيلاً} أي: الحكم فيهم هذا على وجه الأمر به. وقوله تعالى: {سنة الله} أي: المحيط بجميع العظمة مصدر مؤكد أي: سن الله ذلك {في الذين خلوا من قبل} أي: في الأمم الماضية وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا {ولن تجد لسنة الله} أي: طريقة الملك الأعظم {تبديلاً} أي: ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ. ولما بين تعالى حالهم في الدنيا أنهم ملعونون ومهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها بقوله: {يسألك} يا أشرف الخلق {الناس} أي: المشركون استهزاء منهم وتعنتاً وامتحاناً {عن الساعة} أي متى تكون في أي: وقت {قل} أي: لهم في جوابهم {إنما علمها عند الله} الذي أحاط علمه بجميع الأشياء {وما يدريك} أي: أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها أنت لا تعرفه {لعل الساعة} أي: التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب {تكون} أي: توجد وتحدث على وجه مهوّل عجيب {قريباً} أي: في زمن قريب قال البقاعي: ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو عن تعيين وقتها قال البخاري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 في الصحيح: إذا وصفت صفة المؤنث قلت قريبة، وإذا جعلته ظرفاً أو بدلاً ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث، وكذلك لفظها في الاثنين والجمع للذكر والأنثى. ثم استأنف الإخبار بحال السائلين عنها بقوله تعالى: {إن الله} أي: الملك الأعلى {لعن} أي: أبعد إبعاداً عظيماً من رحمته {الكافرين} أي: الساترين لما من شأنه أن يظهر مما دلت عليه العقول السليمة من أمرها {وأعد} أي: أوجد وهيأ {لهم} من الآن {سعيراً} أي: ناراً شديدة الاضطرام والتوقد لتكذيبهم بها وبغيرها مما أوضح لهم أدلته. {خالدين} أي: مقدّراً خلودهم {فيها} أي: السعير وأعاد عليها الضمير مؤنثاً لأنها مؤنثة أو لأنه في معنى جهنم وقوله تعالى: {أبداً} بيان لإرادة الحقيقة لئلا يتوهم بالخلود المكث الطويل {لا يجدون ولياً} أي: يتولى أمراً مما يصيبهم بشفاعة أو غيرها {ولا نصيراً} ينصرهم وقوله تعالى: {يوم} معمول لخالدين أي: مقدراً خلودهم فيها على تلك الحال يوم {تقلب} أي: تقلباً كثيراً {وجوههم في النار} أي: ظهراً لبطن كاللحم يشوى بالنار حالة كونهم {يقولون} وهم في محل الجزاء وقد فات المحل القابل للعمل متمنين بقولهم: {يا ليتنا أطعنا} أي: في الدنيا {الله} أي: الذي لا أمر لأحد معه لما لا يدركون تلافيه لأنهم لا يجدون ما يقدّر أنه يبرد غلتهم من ولي ولا نصير ولا غيرهما سوى هذا التمني. ولما كان المقام للمبالغة في الإذعان والخضوع أعادوا العامل بقولهم {وأطعنا الرسول} أي: الذي بلغنا عنه حتى لا نبتلي بهذا العذاب. تنبيه: تقدم الكلام على القراءة في {الرسولا} و {السبيلا} أول السورة عند {الظنونا} . {وقالوا} : أي: الأتباع منهم لما لم ينفعهم شيء متبرئين بالدعاء على من أضلهم بما لا يبرئ عليلاً ولا يشفي غليلاً {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا وأسقطوا أداة النداء على عادة أهل الخصوص بالحضور زيادة في التوثيق بإظهار أنه لا واسطة لهم إلا ذلهم وانكسارهم {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر، وقرأ ابن عامر بألف بعد الدال وكسر التاء على جمع الجمع للدلالة على الكثرة والباقون بغير ألف بعد الدال وفتح التاء على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء {فأضلونا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم أضلونا بما كان لهم من نفوذ الكلمة {السبيلا} أي: طريق الهدى فأحالوا ذلك على غيرهم كما هي عادة المخطئ من الإحالة على غيره مما لا ينفعه. ثم كأنه قيل: فما تريدون لهم فقالوا: مبالغين في الرقة للاستعطاف بإعادة الرب. {ربنا} أي: المحسن إلينا {آتهم ضعفين من العذاب} أي: مثلي عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا {والعنهم لعناً كبيراً} أي: اطردهم عن محالّ الرحمة طرداً متناهياً، وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي: لعناً هو أشد اللعن وأعظمه والباقون بالثاء المثلثة أي: كثير العدد. ولما بين تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: صدقوا بما يتلى عليهم {لا تكونوا} بإيذائكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر زينب وغيره كوناً هو كالطبع لكم {كالذين آذوا موسى} من قومه بني إسرائيل آذوه بأنواع الأذى كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم حين قسم قسماً فتكلم فيه بعضهم فقال: «لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر» . واختلفوا فيما أوذي به موسى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 فروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما تستر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا» كما قال تعالى: {فبرأه} أي: فتسبب عن أذاهم أن برأه {الله} الذي له صفات الجلال والكمال {مما قالوا} فخلا يوماً وحده ليغتسل فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ففر الحجر بثوبه فجمح موسى عليه السلام وأخذ عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر به، وطفق بالحجر يضربه بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً» ، والأدرة: عظم الخصية لنفخة فيها وقوله: فجمح أي: أسرع وقوله ندباً هو بفتح النون والدال وأصله: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب بالحجر، وقال قوم: إيذاؤهم إياه لما مات هارون في التيه ادّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة عليهم السلام حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا، وقال أبو العالية: هو أن قارون استأجر مومسة أي: زانية لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله تعالى وبرأ موسى من ذلك، وكان ذلك سبب الخسف بقارون ومن معه وقال عبد الله بن مسعود: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى فلاناً كذا لناس من العرب، وآثرهم في القسمة فقال رجل: هذه قسمة والله ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت: والله لأخبرن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» والصرف بكسر الصاد: صبغ أحمر يصبغ به الأديم. ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال تعالى: {وكان} أي: موسى عليه السلام كوناً راسخاً {عند الله} أي: الذي لا يذل من والاه {وجيهاً} أي: معظماً رفيع القدر ذا وجاهة يقال وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا كان ذا جاه وقدر قال ابن عباس كان عظيماً عند الله تعالى لا يسأله شيئاً إلا أعطاه وقال الحسن كان مجاب الدعوة وقيل كان محبباً مقبولاً. ولما نهاهم عن الأذى أمرهم بالنفع ليصيروا ذوي وجاهة عنده مكرر للنداء استعطافاً وإظهاراً للاهتمام بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا ذلك {اتقوا الله} أي: صدقوا دعواكم بمخافة من له جميع العظمة فاجعلوا لكم وقاية من سخطه بأن تبذلوا له جميع ما أودعكم من الأمانة {وقولوا} في حق النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زينب وغيرها، وفي حق بناته ونسائه وفي حق المؤمنين ونسائهم وغير ذلك {قولاً سديداً} قال ابن عباس: صواباً وقال قتادة: عدلاً وقال الحسن: صدقاً وقال عكرمة: هو قول لا إله إلا الله. وقيل: مستقيماً. {يصلح لكم أعمالكم} قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم وقال مقاتل: يزكي أعمالكم {ويغفر لكم ذنوبكم} أي: يمحها عيناً وأثراً فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {ومن يطع الله} أي: الذي لا أعظم منه {ورسوله} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 أي: الذي عظمته من عظمته في الأوامر النواهي {فقد فاز} وأكد ذلك بقوله تعالى: {فوزاً عظيماً} أي: ظفر بجميع مراداته يعيش في الدنيا حميداً وفي الآخرة سعيداً. ولما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الآداب بين أن التكليف الذي وجهه الله تعالى إلى الإنسان أمر عظيم بقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} واختلف في هذه الأمانة المعروضة فقال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة من الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده عرضها {على السموات والأرض والجبال} على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع وقال مجاهد: الأمانة الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية: ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن أسلم: هو الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، وقال: هذه أمانتي استودعتكها، فالفرج أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال بعضهم: هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير وهي رواية الضحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف أن الله تعالى عرض هذه الأمانة على السموات والأرض والجبال فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن: وما فيها؟ فقال: إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن {فأبين} على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها {أن يحملنها} أي: قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً {وأشفقن منها} أي: وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمن لم يمتنعن من حملها فالجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 11) وقال في الحجارة: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} (البقرة: 74) وقال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال} (الحج: 18) الآية وقال بعض أهل العلم: ركّب الله فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقال بعضهم: المراد بالعرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض عرضها على من فيهما من الملائكة كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 82) أي: أهلها وقيل: المراد المقابلة أي: قابلنا الأمانة مع السماوات والأرض والجبال فرجحت الأمانة قال البغوي: والأول أصح، وهو قول أكثر العلماء. تنبيه: قوله تعالى: {فأبين} أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السماوات على المذكر وهو الجبال. فإن قيل: ما الفرق بين إبائهن وإباء إبليس في قوله تعالى: {أبى أن يكون مع الساجدين} (الحجر: 31) أجيب: بأن الإباء هناك كان استكباراً، لأن السجود كان فرضاً وههنا استصغاراً لأن الأمانة كانت عرضاً. وإنما امتنعن خوفاً كما قال تعالى: {وأشفقن منها} أي: خفن من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب {وحملها الإنسان} أي: آدم قال الله تعالى لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها قال: يا رب وما فيها قال: إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم عليه السلام وقال: بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى: أما إذا تحملت فسأعينك اجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر لما لا يحل فأرخ عليه حجابه، وأجعل للسانك لحيين وغلقاً فإذا خشيت فأغلق، وأجعل لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر. وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال: مثلت الأمانة بصخرة ملقاة ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها وقالوا: لا نطيق حملها وجاء آدم عليه السلام من غير أن يدعى وحرك الصخرة وقال: لو أمرت بحملها لحملتها فقلن: احمل فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال: والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له: احمل فحملها إلى حقويه وقال والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فأراد أن يضعها فقال له الله تعالى: مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة. {إنه كان ظلوماً جهولاً} قال ابن عباس: ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله تعالى وما احتمل من الأمانة وقال الكلبي: ظلوماً حين عصى ربه جهولاً لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقال مقاتل: ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل، وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني في قوله تعالى: {وحملها الإنسان} قولاً آخر فقالوا: إن الله تعالى ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقن له وقوله تعالى: {فأبين أن يحملنها} أي: أبين الأمانة يقال: فلان حمل الأمانة أي: أثم فيها بالخيانة قال تعالى: {وليحملن أثقالهم} (العنكبوت: 13) {إنه كان ظلوماً جهولاً} حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال: وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق حملا الأمانة أي: خانا فيها، والأول قول السلف وهو الأولى وقيل: المراد بالأمانة العقل والتكليف، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وتحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمناً على القوتين حافظاً لهما عن التعدي، ومجازوة الحد ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما، وعن أبي هريرة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال: «متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال: بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة قال: ها أنا يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» وقوله تعالى: {ليعذب الله} أي: الملك الأعظم متعلق بعرضنا المترتب عليه حمل الإنسان {المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي: المضيعين الأمانة. تنبيه: لم يعد اسمه تعالى فلم يقل: ويعذب الله المشركين وأعاده في قوله تعالى {ويتوب الله} أي: بما له من العظمة {على المؤمنين والمؤمنات} أي: المؤدين للأمانة، ولو قال تعالى: ويتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً، ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف. ولما ذكر تعالى في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر تعالى من أوصافه وصفين بقوله تعالى: {وكان الله} أي: على ما له من الكبرياء والعظمة {غفوراً} للمؤمنين حيث عفا عن فرطاتهم {رحيماً} بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم مكرماً لهم بأنواع الكرم. وما رواه البيضاوي من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» حديث موضوع رواه الثعلبي. سورة سبأ مكية إلا {ويرى الذين أوتو العلم} الآية وهي أربع أو خمس وخمسون آية، وثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفاً {بسم الله} أي: الذي من شمول قدرته إقامة الحساب {الرحمن} أي: الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب {الرحيم} أي: الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب. ولما ختم السورة التي قبل هذه بصفتي المغفرة والرحمة بدأ هذه بقوله: {الحمد لله} أي: ذي الجلال والجمال على هذه النعمة. فائدة: السور المفتتحة بالحمد خمس: سورتان في النصف الأول وهما الأنعام والكهف، وسورتان في النصف الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة، والخامسة هي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الثاني الأخير، والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء، فإن الله تعالى خلقنا أولاً برحمته، وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان: الإبداء، والإعادة، وفي كل حالة له تعالى نعمتان: نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء، فقال في النصف الأول: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1) إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد، ويدل عليه قوله تعالى: {هو الذي خلقكم من طين} (الأنعام: 2) فأشار إلى الإيجاد الأول، وقال في السورة الثانية: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} (الكهف: 1) فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء، فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع تنقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والنفاق وقال ههنا: {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض} ملكاً وخلقاً إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى {وله} أي: وحده {الحمد} أي: الإحاطة بالكمال {في الآخرة} أي: ظاهر الكل من يجمعه الحشر وله كل ما فيها لا يدعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 أحد ذلك في شيء منه ظاهراً ولا باطناً وقال في سورة الملائكة: {الحمد لله فاطر السموات والأرض} (فاطر: 1) إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} (فاطر: 1) أي: يوم القيامة يرسلهم الله تعالى مسلمين على المسلمين كما قال تعالى: {وتتلقاهم الملائكة} (الأنبياء: 103) وقال تعالى عنهم: {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر: 73) وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر نعمتين أشار بقوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة: 2) إلى النعمة العاجلة، وأشار بقوله تعالى: {مالك يوم الدين} (الفاتحة: 4) إلى النعمة الآجلة فرتب الافتتاح والاختتام عليهما. فإن قيل: قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلم ذكر الله تعالى السموات والأرض؟ أجيب: بأن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله تعالى النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض. ثم قال: {وله الحمد في الآخرة} ليقابل نعم الآخرة بنعم الدنيا، ويعلم فضلها بدوامها وقيل: الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} (فاطر: 34) {والحمد لله الذي صدقنا وعده} (الزمر: 74) وتقدم الكلام على الحمد لغة واصطلاحاً، والشكر كذلك في أول الفاتحة فتح الله علينا بكل خير وفعل ذلك بأحبابنا. ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاد الآخرة قال تعالى: {وهو الحكيم} أي: الذي بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلاً بالعمل على وفقه {الخبير} أي: البليغ الخبر وهو العلم بظواهر الأمور وبواطنها حالاً ومآلاً. ثم بين كمال خبره بقوله تعالى: {يعلم ما يلج} أي: يدخل {في الأرض} أي: هذا الجنس من المياه والأموال والأموات وغيرها {وما يخرج منها} من المياه والمعادن والنبات وغيرها {وما ينزل من السماء} أي: من هذا الجنس من قرآن وملائكة وماء وحرارة وبرودة وغير ذلك {وما يعرج فيها} من الكلام الطيب قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر: 10) والملائكة والأعمال الصالحة قال تعالى {والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) تنبيه: قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء لأن الحبة تبذر أولاً ثم تسقى ثانياً وقال تعالى {ما يعرج فيها} ولم يقل ما يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة لأن كلمة إلى للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال {وما يعرج فيها} ليفهم نفوذه فيها وصعوده وتمكنه فيها، ولهذا قال في الكلم الطيب {إليه يصعد الكلم الطيب} لأن الله تعالى هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه {وهو} أي: والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للأبدان {الرحيم} أي: المنعم بإنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان وغير ذلك {الغفور} أي: المحاء للذنوب للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائقة للحصر. تنبيه: قدم تعالى صفة الرحمة على صفة الغفور ليعلم أن رحمته سبقت غضبه. ثم بين تعالى أن هذه النعمة التي يستحق الله تعالى بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال: {وقال الذين كفروا} أي: ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة {لا تأتينا الساعة} أي: أنكروا مجيئها أو استظهارها استهزاء بالوعد به، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهم {بلى} رد لكلامهم وإيثار لما نفوه {وربي} أي: المحسن إلي بما عمني به معكم وبما خصني من تنبيئي وإرسالي إليكم إلى غير ذلك من أمور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 لا يحصيها إلا هو {لتأتينكم} أي: الساعة لتظهر فيها ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفصل وغير ذلك من عجائب الحكم والفضل وقوله تعالى {عالم الغيب} قرأه نافع وابن عامر برفع الميم على هو عالم الغيب، أو مبتدأ وخبره ما بعده، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بجره نعتاً لربي وقرأ حمزة والكسائي بعد العين بلام ألف مشددة وخفض الميم {لا يعزب} أي: لا يغيب {عنه مثقال} أي: وزن {ذرة} أي: من ذات ولا معنى، والذرة: النملة الحمراء الصغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه، وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بضمها. وقوله تعالى {في السموات ولا في الأرض} فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله تعالى {في السموات} إشارة إلى علمه بالأرواح وما فيها من الملائكة وغيرهم. وقوله تعالى {ولا في الأرض} إشارة إلى علمه بالأجسام وما في الأرض من غيرها، فإذا علم الأرواح والأجسام قدر على جمعهما فلا استبعاد في الإعادة. وقوله تعالى: {ولا أصغر} أي: ولا يكون شيء أصغر {من ذلك} أي: المثقال {ولا أكبر} أي: منه {إلا في كتاب مبين} أي: بين هو اللوح المحفوظ جملة مؤكدة لنفي العزوب. فإن قيل: فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ أجيب: بأنه تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغار لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال: الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضاً مكتوب. ثم بين علة ذلك كله بقوله: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: وإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان فلا يدعه بغير جزاء، ثم بين جزاءهم بقوله تعالى: {أولئك} أي: العالو الرتبة {لهم مغفرة} أي: لزلاتهم وهفواتهم لأن الإنسان المبني على النقصان لا يقدر أن يقدر العظيم السلطان حق قدره {ورزق كريم} أي: جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي لا كدر فيه وهو رزق الجنة. تنبيه: ذكر تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات أمرين: الإيمان، والعمل الصالح، وذكر لهم أمرين: المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) وقوله صلى الله عليه وسلم «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ومن في قلبه وزن ذرة من إيمان» ، والرزق الكريم على العمل الصالح وهذا مناسب، فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه لا بد وأن ينعم عليه وقوله تعالى {كريم} بمعنى: ذي كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي غالباً. فإن قيل: ما الحكمة في تمييزه الرزق بأنه كريم ولم يصف المغفرة؟ أجيب: بأن المغفرة واحدة وهي للمؤمنين، وأما الرزق فمنه شجرة الزقوم والحميم، ومنه الفواكه والشراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها. ولما بين تعالى حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين في ذلك اليوم بقوله سبحانه: {والذين سعوا} أي: فعلوا فعل الساعي {في آياتنا} أي: القرآن بالإبطال وتزهيد الناس فيها وقوله تعالى: {معجزين} قرأه ابن كثير وأبو عمرو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 بغير ألف بعد العين وتشديد الجيم أي: مبطئين عن الإيمان من أراده، والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم وكذا في آخر السورة أي: مسابقين كي يفوتونا {أولئك} الحقيرون عن أن يبلغوا مراداً بمعاجزتهم {لهم عذاب} وأي عذاب {من رجز} أي: سيئ العذاب {أليم} أي: مؤلم وقرأ ابن كثيرة وحفص أليم بالرفع على أنه صفة لعذاب، والباقون بالجر على أنه صفة لرجز قال الرازي: قال هناك لهم رزق كريم ولم يقل بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا {لهم عذاب من رجز أليم} بلفظة صالحة للتبعيض وذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب وقوله: {ويرى الذين أوتوا العلم} أي: الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو أهل الكتاب وقيل: مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل: الصحابة ومن شايعهم فيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على ليجزي أي: وليعلم الذين أوتوا العلم. والثاني: أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك {الذي أنزل إليك من ربك} أي: المحسن إليك بإنزاله {هو الحق} أي: أنه من عند الله تعالى. تنبيه: الذي أنزل هو المفعول الأول، وهو ضمير فصل والحق: مفعول ثان لأن الرؤية علمية. وقوله تعالى {ويهدي إلى صراط} أي: طريق {العزيز الحميد} في فاعله وجهان أظهرهما أنه ضمير الذي أنزل وهو القرآن. والثاني: ضمير اسم الله تعالى وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة، العزيز: يفيد التخويف والانتقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق. {وقال الذين كفروا} أي: قال بعضهم على وجه التعجب لبعض {هل ندلكم على رجل} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم {ينبئكم} أي: يخبركم إخباراً لا أعظم منه بما حواه من العجب الخارج عما نفعله أنكم {إذا مزقتم} أي: قطعتم وفرقتم بعد موتكم. وقوله تعالى {كل ممزق} يحتمل أن يكون اسم مفعول أي: كل تمزيق فلم يبق شيء من أجسادكم مع شيء بل صار الكل بحيث لا يميز بين ترابه وتراب الأرض، ويحتمل أن يكون ظرف مكان بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم الرياح والسيول كل مذهب {إنكم لفي خلق جديد} أي: تنشؤون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً. والهمزة في قوله: {أفترى} أي: تعمد {على الله} أي: الذي لا أعلم منه {كذباً} أي: بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل صحيح القصد همزة استفهام فالقراء الجميع يحققونها، واستغنى بها عن همزة الوصل فإنها تحذف لأجلها فلذلك تثبت هذه الهمزة ابتداء ووصلاً، قال البغوي: هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك نصبت {أم به جنة} أي: جنون يحكى به ذلك، واستدل الجاحظ بهذه الآية على أن الكلام ثلاثة أقسام: صدق وكذب، ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة منه على القسم الثالث أن قولهم {أم به جنة} لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره، ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث. وأجيب عنه: بأن المعنى أم لم يفتر ولكن عبر هذا بقولهم {أم به جنة} لأن المجنون لا افتراء له. تنبيه: قوله {أفترى} يحتمل أن يكون من تمام قول الكافرين أولاً أي: من كلام القائلين {هل ندلكم} ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل {هل ندلكم} كأن القائل لما قال له {هل ندلكم على رجل} قال له: هل افترى على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه أم به جنة أي: جنون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 إن كان لا يعتقد خلافه. ولما كان الجواب ليس به شيء من ذلك عطف عليه قوله تعالى {بل الذين لا يؤمنون} أي: لا يوجدون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر {بالآخرة} أي: المشتملة على البعث والعذاب {في العذاب} أي: في الآخرة {والضلال البعيد} أي: عن الصواب في الدنيا، فرد الله تعالى عليهم ترديدهم وأثبت لهم سبحانه ما هو أفظع من القسمين فقوله تعالى {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة} (يس: 81) في العذاب في مقابلة قولهم {أفترى على الله كذباً} وقوله تعالى {والضلال البعيد} في مقابلة قولهم {أم به جنة} وكلاهما مناسب، أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤد إلى أنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا الكذب إلى البريء، وأما الضلال فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء، فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين تعالى أنهم هم الضالون، ثم وصف ضلالهم بالبعد ووصف الضلال به للإسناد المجازي لأن من يسمى المهدي ضالاً يكون أضل، والنبي صلى الله عليه وسلم هادي كل مهتد. ولما ذكر تعالى الدليل على كونه عالم الغيب وكونه مجازياً على السيئات والحسنات، ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد بقوله تعالى: {أفلم يروا} أي: ينظروا {إلى ما بين أيديهم} أي: أمامهم {وما خلفهم} وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كلا الخافقين فقوله تعالى {من السماء والأرض} دليل التوحيد فإنهما يدلان على الوحدانية، ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة لقوله تعالى {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} وأما دليل التهديد فقوله تعالى {إن نشأ} أي: بما لنا من العظمة {نخسف بهم الأرض} أي: كما فعلنا بقارون وذويه لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيه بأولى من غيره {أو نسقط عليهم كسفاً} أي: قطعاً {من السماء} فنهلكهم بها، وقرأ حفص بفتح السين والباقون بسكونها. تنبيه: في قوله تعالى {أفلم يروا} الرأيان المشهوران قدره الزمخشري أفعموا فلم يروا وغيره يدعي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف، وقوله {من السماء} بيان للموصول فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل: وثم حال محذوفة تقديره: أفلم يروا إلى كذا مقهوراً تحت قدرتنا أو محيطاً بهم فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها، وأنا القادر عليهم وقرأ حمزة والكسائي {إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط} بالياء في الثلاثة كقوله تعالى {افترى على الله كذباً} والباقون بالنون، وأدغم الكسائي الفاء في الباء وأظهرها الباقون {إن في ذلك} أي: فيما ترون من السماء والأرض {لآية} أي: علامة بينة تدل على قدرتنا على البعث {لكل عبد} أي: متحقق أنه مربوب ضعيف مسخر لما يراد منه {منيب} أي: فيه قابلية الرجوع إلى ربه بقلبه. ولما ذكر تعالى من ينيب من عباده وكان من جملتهم داود عليه السلام كما قال ربه {فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب} (ص: 24) ذكره بقوله تعالى: {ولقد آتينا} أي: أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة {داود منا فضلاً} أي: النبوة والكتاب، أو الملك أو جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به، وهذا الأخير أولى. تنبيه: قوله تعالى {منا} فيه إشارة إلى بيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 فضل داود عليه السلام لأن قوله تعالى {ولقد آتينا داود منا فضلاً} مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل: آتى الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل: أتاه منه خلعه يفيد أنه كان من خاص ما يكون له، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ونظيره قوله تعالى {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} (التوبة: 21) فإن رحمة الله تعالى واسعة تصل إلى كل أحد، لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه وقوله تعالى {يا جبال} محكي بقول مضمر ثم إن شئت قدرته مصدراً، ويكون بدلاً من فضل على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلاً قولنا يا جبال، وإن شئت قدرته فعلاً وحينئذ لك وجهان: إن شئت جعلته بدلاً من آتينا معناه آتينا قلنا: يا جبال، وإن شئت جعلته مستأنفاً {أوبي} أي: رجّعي {معه} بالتسبيح إذا سبح أمر من التأويب وهو الترجيع وقيل: التسبيح بلغة الحبشة وقال العيني: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه يقول: أوبي النهار كله بالتسبيح معه وقال وهب: نوحي معه وقيل: سيري معه وقوله تعالى {والطير} منصوب بإجماع القراء السبعة واختلف في وجه نصبه على أوجه: أحدها: أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً لأن كل منادى في موضع نصب. الثاني: أنه عطف على فضلاً قاله الكسائي، ولابد من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتسبيح الطير. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل أي: وسخرنا له الطير قاله أبو عمرو. تنبيه: لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما تستبعد منه الموافقة، فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى، ثم من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة قال المفسرون: كان داود عليه الصلاة والسلام إذ نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل: كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح، وقيل: كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له. وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال سبحي، وللطير أجيبي، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه، وذلك كما: «كان الحصى يسبح في كف نبينا صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما» وكما: «كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل» ، وكما: «كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه» ، و «حنين الجذع مشهور» ، وكما: «كان الضب يشهد له» و «الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه» ونحو ذلك، وكما: «جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برده رحمة لها» . ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى: {وألنا له الحديد} أي: الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة، وذلك في قدرة الله تعالى يسير، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود، وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيراً، فقيض الله تعالى له ملكاً في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال: ما هي يا عبد الله؟ فقال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال: فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع، وإنه أول من اتخذها يقال: إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ويقال: إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعه بستة آلاف درهم، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال صلى الله عليه وسلم «كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده» . ثم ذكر سبحانه وتعالى علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله تعالى بقوله عز من قائل: {أن اعمل سابغات} أي: دروعاً طوالاً واسعات يجرها لابسها على الأرض، وذكر الصفة يعلم منها الموصوف، واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى {وقدر في السرد} أي: نسج الدروع يقال لصانعه: الزراد والسراد فقيل: قدر المسامير في حلق الدروع أي: لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحلق ولا دقاقاً فتتقلقل فيها ويقال: السرد المسمار في الحلقة يقال: درع مسرودة أي: مسمورة الحلق {وقدر في السرد} اجعله على القصد وقدر الحاجة وقيل: اجعل كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلاً ينفذ منها سهم، ولتكن في ثخنها بحيث لا يقطعها سيف، ولا تثقل على الدرع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر، والظاهر ـ كما قال البقاعي ـ أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ولا كان للإلانة كبير فائدة، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير وقال الرازي: يحتمل أن يقال: السرد هو عمل الزرد وقوله تعالى {وقدر في السرد} أي: أنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب، والكسب يكون بقدر الحاجة، وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب، ويدل عليه قوله تعالى {واعملوا صالحاً} أي: لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه، وأما الكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله تعالى: {إني بما تعملون بصير} أي: مبصر فأجازيكم به يريد بهذا داود وآله. تنبيه: كما ألان الله تعالى لداود عليه السلام الحديد ألان لنبينا صلى الله عليه وسلم في الخندق تلك الكدية وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم، فضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربة واحدة، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيباً أهيل لا ترد فأساً، وتلك الصخرة التي أخبره سلمان عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات كسر في كل ضربة ثلثاً منها، وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة وأضاءت للصحابة رضي الله تعالى عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار، كأنها مصباح في جوف بيت مظلم فسألوه عن ذلك، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك، وأخبره جبريل عليه السلام أنها ستفتح على أمته، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب، وأخبر أنها مفتوحة لهم، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب، وأخبر بفتحها عليهم فصدقه الله تعالى في جميع ما قال، وأعظم من ذلك تصلب الخشب له عليه السلام حتى صار سيفاً قوىّ المتن جيد الحديدة، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً فصار في يده سيفاً قائمة منه فقاتل به، فكان يسمى العرجون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده حتى قتل، وهو عنده وعن الواقدي: «أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيباً كان في يده من عراجين رطاب فقال: اضرب به فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل» وإلحام داود للحديد ليس بأعجب من: «إلحام النبي صلى الله عليه وسلم ليد معوذ بن عفراء لما قطعها أبو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها» كما نقله البيهقي وغيره ومعجزاته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر، وإنما أذكر بعضها تبركاً بذكره صلى الله عليه وسلم وأسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرته ويفعل ذلك بأهلينا ومحبينا. ولما أتم الله تعالى المراد من آيات داود عليه السلام، أتبعها بعض آيات ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام لمشاركته في الإنابة بقوله تعالى: {ولسليمان} أي: عوضاً عن الخيل التي عقرها لله تعالى {الريح} قرأ شعبة الريح بالرفع على الابتداء، والخبر في الجار قبله أو محذوف والباقون بالنصب بإضمار فعل أي: وسخرنا {غدوها} أي: سيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال {شهر} أي: تحمله وتذهب به وبجميع عسكره من الصباح إلى نصف النهار مسيرة شهر {ورواحها} أي: من الزوال إلى الغروب {شهر} أي: مسيرته فكانت تسير به في يوم واحد مسيرته شهرين قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع، وهذا كما سخر الله تعالى الريح لنبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، فكانت تهد خيامهم وتضرب وجوههم بالتراب والحجارة، وهي لا تجاوز عسكرهم إلى أن هزمهم الله تعالى بها، وكما حملت شخصين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في غزوة تبوك فألقتهما بجبل طيىء، وتحمل من أراد الله تعالى من أولياء أمته كما هو في غاية الشهرة ونهاية الكثرة، وأما أمر الإسراء والمعراج فهو من الجلالة والعظم بحيث لا يعلمه إلا الله تعالى، مع أن الله تعالى صرفه في آيات السماء بحبس المطر تارة وإرساله أخرى. ولما ذكر تعالى الريح أتبعها ما هو من أسباب تكوينه بقوله تعالى: {وأسلنا} أي: أذبنا بما لنا من العظمة {له عين القطر} أي: النحاس حتى صار كأنه عين ماء فأجريت ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وعمل الناس إلى اليوم مما أعطي سليمان {ومن الجن} أي: الذي سترناهم عن العيون من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 الشياطين وغيرهم عطف على الريح أي: وسخرنا له من الجن {من يعمل بين يديه} أي: قد أمكنه الله تعالى منهم غاية الإمكان في غيبته وحضوره {بإذن} أي: بأمر {ربه} أي: بتمكين المحسن إليه {ومن يزغ} أي: يمل {منهم عن أمرنا} أي: عن أمره الذي هو من أمرنا {نذقه من عذاب السعير} أي: النار أي: في الآخرة وقيل: في الدنيا بأن يضربه ملك بسوط منها ضربة يحرقه، وهذا كما أمكن نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك العفريت فخنقه وهم بربطه حتى تلعب به صبيان المدينة، ثم تركه تأدباً مع أخيه سليمان عليه السلام فيما سأل الله تعالى فيه، وأما الأعمال التي يدور عليها إقامة الدين فأغناه الله تعالى فيها عن الجن بالملائكة الكرام عليهم السلام وسلط جمعاً من صحابته على جماعة من مردة الجان منهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: «لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان» ، ومنهم أبي بن كعب قبض على شخص منهم كان يسرق من تمره وقال: لقد علمت الجن ما فيهم من هو أشد مني، ومنهم معاذ بن جبل لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة المسلمين فأتاه شيطان يسرق وتصور له بصور منها صورة فيل، فضبطه والتفت يداه عليه وقال له: يا عدو الله فشكا له الفقر وأخبره أنه من جن نصيبين، وأنهم كانت لهم المدينة فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهم منها، وسأله أن يخلي عنه على أن لا يعود، ومنهم بريدة، ومنهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه صارع الشيطان فصرعه عمر، ومنهم عمار بن ياسر قاتل الشيطان فصرعه عمار وأدمى أنف الشيطان بحجر ذكر ذلك البيهقي في الدلائل، وأما عين القطر فهي مما تضمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والملك في الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فاخترت أن أكون نبياً عبداً أجوع يوماً وأشبع يوماً» الحديث، فشمل ذلك اللؤلؤ الرطب إلى عين الذهب المصفى إلى ما دون ذلك، وروى الترمذي ـ وقال: حسن ـ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً قلت: لا يارب ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وشكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» وللطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: «أن إسرافيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائن الأرض وقال: إن الله أمرني أن أعرض عليك أن تسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة، فإن شئت نبياً مالكاً وإن شئت نبياً عبداً فأومأ إليَّ جبريل عليه السلام أن تواضع فقال: نبياً عبداً» ورواه ابن حبان في صحيحه مختصراً من حديث أبي هريرة، وله في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس» وفي البخاري في غزوة أحد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض» هذا ما يتعلق بالأرض، وقد زيد صلى الله عليه وسلم على ذلك بأن أيده ربه سبحانه بالتصرف في خزائن السماء تارة بشق القمر وتارة برجم النجوم، وتارة باختراق السموات، وتارة بحبس المطر، وتارة بإرساله إلى غير ذلك مما قد أكرمه الله تعالى به مما لا يحيط به إلا الله عز وجل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه، وحشرنا ومحبينا معهم في دار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 كرامته. ولما أخبر تعالى أنه سخر لسليمان الجن ذكر حالهم في أعمالهم بقوله تعالى: {يعملون له} أي: في أي: وقت شاء {ما يشاء} أي: عمله {من محاريب} أي: أبنية مرتفعة غير مساجد يصعد إليها بدرج، سميت بذلك لأنها يذب عنها ويحارب عليها ومساجد، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت، وكان مما عملوه له بيت المقدس ابتدأه داود عليه السلام ورفعه قامة رجل فأوحى الله تعالى إليه أني لم أقض ذلك على يديك، ولكن ابن لك اسمه سليمان عليه السلام اقضي تمامه على يديه فلما توفاه الله تعالى استخلف سليمان عليه السلام فأحب إتمام بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضاً، وأنزل على كل ربض سبطاً من الأسباط، وكانوا اثني عشر سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقاً يقتلعون الجواهر من الحجارة من أماكنها، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة، وفصص سقفه وحيطانه باللآلئ والياقوت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله تعالى، وأن كل شيء فيه خالص لله تعالى واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً لله تعالى، روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار ملكه من أرض العراق، وبنى الشياطين باليمن لسليمان حصوناً كثيرة عجيبة من الصخر {وتماثيل} جمع تمثال، وهو كل شيء مثلته بشيء أي: كانوا يعملون له تماثيل أي: صوراً من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك. فإن قيل: كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ أجيب: بأن هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب، وعن أبي العالية لم يكن اتخاذ التصاوير إذ ذاك محرماً، ويجوز أن تكون غير صور الحيوان كصور الأشجار ونحوها، لأن التمثال كل ما صوره على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان، أو بصور محذوفة الرؤوس، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين في أعلاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما وقيل: كانوا يتخذون صور الأنبياء والملائكة والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل: إن هذا كان أول الأمر، فلما تقادم الزمن قال لهم إبليس: إن آباءكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوا الأصنام ولم تكن التصاوير ممنوعة في شريعتهم كما أن عيسى عليه السلام كان يتخذ صوراً من الطين فينفخ فيها فتكون طيراً. {وجفان} أي: قصاع وصحاف يؤكل فيها، واحدتها جفنة {كالجوابي} جمع جابية وهي الحوض الكبير يجبى إليه الماء أي: يجتمع يقال: كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها، وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الباء الموحدة في الوصل دون الوقف، وابن كثير بإثباتها وقفاً ووصلاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. ولما ذكر القصاع على وجه يتعجب منه ذكر ما يطبخ فيه طعام تلك الجفان بقوله تعالى: {وقدور راسيات} أي: ثابتات ثباتاً عظيماً لأنها لكبرها كالجبال لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن، ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد عليها بالسلالم وكانت باليمن. ولما ذكر المساكن وما يتبعها أتبعها الأمر بالعمل بقوله تعالى: {اعملوا} أي: وقلنا لهم اعملوا أي: تمتعوا واعملوا على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل بقوله تعالى: {آل داود} وقوله تعالى {شكراً} يجوز فيه أوجه: أحدها: أنه مفعول به أي: اعملوا الطاعة سميت الصلاة ونحوها شكراً لسدها مسده. ثانيها: أنه مصدر من معنى اعملوا كأنه قال: اشكروا شكراً بعملكم، أو اعملوا عمل شكر. ثالثهما: أنه مفعول من أجله أي: لأجل الشكر، واقتصر على هذا البقاعي. رابعها: أنه مصدر واقع موقع الحال أي: شاكرين. خامسها: أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره: واشكروا شكراً. سادسها: أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره عملاً شكراً أي: ذا شكر. تنبيه: كما قال تعالى عقب قوله سبحانه {أن اعمل سابغات} : {اعملوا صالحاً} قال عقب ما تعمله الجن له {اعملوا آل داود شكراً} إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء، وإنما الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكراً، وقوله تعالى {وقليل} خبر مقدم وقوله تعالى {من عبادي} صفة له وقوله تعالى {الشكور} مبتدأ والمعنى: أن العامل بطاعتي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه ويديه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله تعالى به عليه فيما يرضيه قليل، ومع ذلك لا يوفي حقه لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهاية، ولذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه مطلق الشكر كثير، وأقل ذلك حال الاضطرار وقيل: المراد من آل داود عليه السلام هو داود نفسه وقيل: داود وسليمان وأهل بيتهما عليهما السلام قال جعفر بن سليمان: سمعت ثابتاً يقول: كان داود عليه السلام نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تك تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود عليه السلام قائم يصلي، وقال صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة: «أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه» وقال في صوم التطوع: «أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً» وروي عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: اللهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 اجعلني من القليل فقال عمر: ما هذا الدعاء فقال: إني سمعت الله يقول {وقليل من عبادي الشكور} فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر. ولما كان الموت مكتوباً على كل أحد قال تعالى: {فلما قضينا} وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء بقوله تعالى: {عليه} أي: سليمان عليه السلام {الموت} قال أهل العلم: كان سليمان يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فسألها ما اسمك فتقول: كذا وكذا فيقول: لأي شيء خلقت فتقول: لكذا وكذا فيؤمر بها فتقلع فإن كانت تنبت لغرس غرسها، وإن كانت تنبت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال لها: ما أنت قالت: الخروبة قال: لأي شيء نبت قالت: لخراب مسجدك قال عليه السلام: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض الله روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته، وينظرون إلى سليمان عليه السلام فيرونه قائماً متكئاً على عصاه فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ميتاً فعلموا بموته حينئذ كما قال تعالى {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض} أي: الأرضة لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم {تأكل منسأته} قال البخاري: يعني عصاه فالمنسأة العصا اسم آلة من نسأه أخره كالمكسحة والمكنسة من نسأت الغنم أي: زجرتها وسقتها، ومنه نسأ الله في أجله أي: أخره وقرأ نافع وأبو عمرو بعد السين بألف وابن ذكوان بعد السين بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين فإذا وقف حمزة سهل الهمزة وقيل لم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع فنظر فإذا سليمان قد خر ميتاً ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة {فلما خر} أي: سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه {تبينت الجن} أي: علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتلبيس وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً {أن} أي: أنهم {لو كانوا} أي: الجن {يعلمون الغيب} أي: علمه {ما لبثوا} أي: أقاموا حولاً {في العذاب المهين} من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه، ويجوز أن تكون أن تعليلية ويكون التقدير: تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب لأنهم إلخ، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوماً وليلة مقداراً، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة قال ابن عباس: فشكر الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 الخشب. تنبيه: قد تقدم أن كل شيء أثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من الخوارق ثبت له مثله وأعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته، وهذا الذي ذكر لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه، قال القشيري في رسالته في باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا، وقال أبو عمران الإصطخري: رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء انتهى. فائدة: روي أن سليمان عليه السلام كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه، وروي أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتم فوصى به إلى سليمان عليه السلام فأمر الشياطين بإتمامه. ولما بقي من عمله سنة سأل الله تعالى أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه، وليبطل دعواهم علم الغيب، وروي أن إفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا منه ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعد يدنو منه. ولما بين تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان عليهما السلام، بين حال الكافرين لأنعمه بحكاية أهل سبأ فقال تعالى: {لقد كان لسبأ} أي: القبيلة المشهور روى أبو سبرة النخعي عن أبي قرة بن مسيك القطيعي قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً قال: «كان رجلاً من العرب وله عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير فقال رجل: وما أنمار قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان وسبأ يجمع هذه القبائل كلها» والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية وعدنانية، فالقحطانية: شعبان سبأ وحضرموت، والعدنانية: شعبان: ربيعة ومضر، وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قحطان، وبعضهم إلى عدنان، قيل: إن قحطان أول من قيل له أنعم صباحاً وأبيت اللعن، قال بعضهم: وجميع العرب منسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم وليس بصحيح، فإن إسماعيل عليه السلام نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً، والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل عليه السلام منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأهم وجرهم والعماليق يقال: إن أهماً كان ملكاً ويقال: إنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة يقال لها وبار هلكوا بالرمل أساله الله عليهم فأهلكهم وطم مناهلهم وفي ذلك يقول بعض الشعراء: *وكر دهر على وبار ... فهلكت عنوة وبار* واسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وسمي سبأ قيل: لأنه أول من سبأ في العرب قاله السهيلي، ويقال: إنه أول من تتوج، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وله شعر يشير فيه بوجود النبي صلى الله عليه وسلم وقال في سليمان عليه السلام: *سيملك بعدنا ملك عظيم ... نبي لا يرخص في الحرام* *ويملك بعده منهم ملوك ... يدينوه القياد بكل دامي* الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 *ويملك بعدهم منا ملوك ... يصير الملك فينا بانقسام* *ويملك بعد قحطان نبي ... تقي مخبت خير الأنام* *يسمى أحمداً يا ليت أني ... أعمر بعد مبعثه بعام* *فأعضده وأحبوه بنصري ... بكل مدجج وبكل رامي* *متى يظهر فيكونوا ناصريه ... ومن يلقاه يبلغه سلامي* وقرأ البزي وأبو عمرو بعد الموحدة بهمزة مفتوحة من غير تنوين لأنه صار اسم قبيلة، وقنبل بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مكسورة منونة، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً ولهما أيضاً الروم مع التسهيل وقرأ {في مساكنهم} أي: التي هي في غاية الكثرة حمزة وحفص بسكون السين وفتح الكاف ولا ألف بينهما إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد، وقرأ الكسائي كذلك إلا أنه يكسر الكاف والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملائمة لهم واللين، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن قال حمزة الكرماني: قال ابن عباس: على ثلاثة فراسخ من صنعاء {آية} أي: علامة ظاهرة على قدرتنا، ثم فسر الآية بقوله تعالى: {جنتان عن يمين وشمال} أي: عن يمين الوادي وشماله قد أحاطت الجنتان بذلك الوادي وقيل: عن يمين من أتاهما وبشماله. فإن قيل: كيف عظم الله تعالى جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ورب قرية من قرى العراق يحتف بها من الجنات ما شئت؟ أجيب: بأنه لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدتهم، وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال تعالى {جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} (الكهف: 32) فكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها مكتلاً فتطوف به بين الأشجار فيمتلئ المكتل من جميع أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئاً بيدها مما يتساقط فيه من الثمر. وقوله تعالى {كلوا من رزق ربكم} أي: المحسن إليكم الذي أخرج لكم منهما ما تشتهون {واشكروا له} أي: خصوه بالشكر بالعمل في كل ما يرضيه ليديم لكم النعمة حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله {بلدة طيبة} أي: حسنة التربة ليس بها سباخ، حسنة الهواء سليمة من الهوام ليس فيها بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية يمر الغريب بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب هوائها، وأشار إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره بقوله تعالى: {ورب غفور} أي: لذنب من شكره وتقصيره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب قال البقاعي: وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء قال: وفي بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار دربلي بلاد الشام، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكي وليس له نوى أصلاً انتهى. ولما تسبب عن هذا الإنعام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر دل على ذلك بقوله تعالى: {فأعرضوا} أي: عن الشكر فكفروا قال وهب: أرسل الله تعالى إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعم الله تعالى عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة فقولوا لربكم: فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع. ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم بينه بقوله تعالى: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته أي: سيل واديهم فأغرق جنتيهم وأموالهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب وغيرهما: كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت منه دونها بركة ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله تعالى عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فأغرق الماء جنتيهم وأموالهم، وخرب أرضهم قال وهب: وكانوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون ذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى اقتلع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل مزق حتى صاروا مثلاً عند العرب يقولون: صار بنو فلان أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ أي: تفرقوا وتبددوا قيل: والأوس والخزرج منهم قال البقاعي: وكان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم تنبيه: في العرم أقوال غير ما ذكر أحدها: أنه من باب إضافة الموصوف لصفته في الأصل إذ الأصل السيل العرم، والعرم: الشديد، وأصله من العرامة وهي الشراسة والصعوبة. الثاني: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه تقديره: فأرسلنا عليهم سيل المطر العرم أي: الشديد الكثير. الثالث: أن العرم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه قال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق وقيل: كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء. الرابع: أنه اسم للجرذ وهو الفأر، وقيل: هو الخلد وإنما أضيف إليه لأنه تسبب عنه كما مر {وبدلناهم بجنتيهم} أي: جعلنا لهم بدلهما {جنتين} هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم ولذلك فسرهما بقوله تعالى إعلاماً بأن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم {ذواتي أكل خمط} أي: ثمر بشع، والخمط الأراك وثمره يقال له: البرير هذا قول أكثر المفسرين وقال المبرد والزجاج: كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 خمط وقال ابن الأعرابي: الخمط ثمر شجر يقال له: فسوة الضبع على صورة الخشخاش لا ينتفع به، وعن أبي عبيدة كل شجر ذي شوك، وقرأ أبو عمرو أكل بغير تنوين، والباقون بالتنوين وسكن الكاف نافع وابن كثير وضمها الباقون قال البغوي: فمن جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في أكل أحسن، ومن جعله أصلاً وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بستان فلان: أعناب كرم وأعناب كرم فتصف الأعناب بالكرم لأنها منه. وقوله تعالى {وأثل} أي: وذواتي أثل {وشيء من سدر قليل} معطوفان على أكل لا على خمط فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً وقيل: هو نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمر إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعفص أخضر في طعمه وطبعه، والسدر: شجر معروف وهو شجر النبق وينتفع بورقه لغسل اليد ويغرس في البساتين ولم يكن هذا من ذاك بل كان سدراً برياً لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء، ولهذا قال بعضهم: السدر سدران: سدر له ثمرة غضة لا تؤكل ولا ينتفع بورقه في الاغسال وهو الضال، وسدر له ثمرة تؤكل وهي النبق ويغسل بورقه والمراد في الآية الأول، وقال قتادة: كان شجرهم خير الشجر فغيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم. تنبيه: قد نبهت في شرح المنهاج على أن الباء في الإبدال والتبديل والتبدل والاستبدال هل تدخل على المتروك أو على المأخوذ عند قول المنهاج ولو أبدل ضاداً بظاء. {ذلك} أي: الجزء العظيم بالتبديل {جزيناهم} بما لنا من العظمة {بما كفروا} أي: غطوا الدليل الواضح وهو ما جاء به الرسل، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم وقيل بكفرانهم النعمة {وهل يجازى} أي: مثل هذا الجزاء الذي هو على وجه العقاب {إلا الكفور} أي: إلا البليغ في الكفر، وقال مجاهد: يجازى أي: يعاقب ويقال في العقوبة: يجازي، وفي المثوبة: يجزي قال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى أي: يجزي الثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته وقال بعضهم: المجازاة تقال في النقمة والجزاء في النعمة لكن قوله تعالى {ذلك جزيناهم} يدل على أن يجزي في النقمة أيضاً قال ابن عادل: ولعل من قال ذلك أخذه من أن المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر تكون ما بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر، وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله تعالى مبتدئ بالنعم، وقيل: المؤمن تكفر سيئاته بحسناته، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما يفعله من السوء، وليس لقائل أن يقول: لم قيل وهل يجازى إلا الكفور على اختصاص الكفر بالجزاء والجزاء عام للمؤمن والكافر، لأنه لم يرد الجزاء العام إنما أراد الخاص، وهو العقاب بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه، ألا ترى أنك لو قلت: جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلى الكافر والمؤمن لم يصح ولم يعد كلاماً فتبين أنما يتخيل من السؤال مضمحل، وإن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون مضمومة وكسر الزاي الكفور بالنصب والباقون بالياء المضمومة ونصب الزاي الكفور بالرفع. ولما تم الخبر عن الجنان التي بها القوام نعمة ونقمة أتبعه مواضع السكان بقوله تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {بينهم} أي: بين سبأ وهم بالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 {وبين القرى التي باركنا فيها} أي: بالتوسعة على أهلها بالماء والشجر، وغيرهما وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة {قرى ظاهرة} أي: متواصلة من اليمن إلى الشام {وقدرنا فيها السير} أي: بحيث يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى إلى انتهاء سفرهم ولا يحتاجون فيه إلى حمل زاد وماء من سبأ إلى الشام. وقيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام فلا يحملون شيئاً مما جرت به عوائد السفار فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، وقال قتادة: كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، فكان ما بين اليمن والشام كذلك، فهي حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان بلسان القال أو الحال {سيروا} ودل على تقاربها جداً قوله تعالى: {فيها} ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقت أريد مقدماً لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله تعالى: {ليالي} وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله تعالى: {وأياماً} أي: في أيّ وقت شئتم وإلى عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل مسلم بقوله {آمنين} أي: لا تخافون في ليل أو نهار وإن طالت مدة سفركم فيها، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن فلا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً. وقيل: تسيرون فيها إن شئتم ليالي، وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلاً لعدم علم العدو بسيرهم، وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة. ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للضجر والملال بقوله تعالى: {فقالوا} أي: على وجه الدعاء {ربنا باعد بين أسفارنا} أي: إلى الشام أي: اجعلها مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل، وتزوّد الأزواد والماء فبطروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل لما طلبوا الثوم والبصل فأجابهم الله تعالى بتخريب القرى المتوسطة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بتشديد العين ولا ألف قبلها فعل طلب، والباقون بألف قبل العين وتخفيف العين، وقرئ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه {وظلموا} حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة {أنفسهم} بالكفر {فجعلناهم} أي: بما لنا من العظمة {أحاديث} أي: عبرة لمن بعدهم يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون: ذهبوا أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ قال كثير: *أيادي سبا يا عزُّ ما كنت بعدكم ... فلم يحل للعينين بعدك منظر* {ومزقناهم كل ممزق} أي: فرقناهم في كل جهة من البلاد كل التفريق قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، أما غسان فلحقوا بالشام، ومرّ الأزد إلى عمان، وخزاعة إلى تهامة، ومرّ خزيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج {إن في ذلك} أي: المذكور {لآيات} أي: عبراً ودلالات بينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 جداً على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلقهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات والخسف والمسخ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها، دليلٌ على أن الإنسان ما دام حياً فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية لأنه لما طبع عليه من القلق كثيراً ما يرى النعم نقماً، واللذة ألماً، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة بقوله تعالى: {لكل صبار} على طاعة الله وعن معصيته {شكور} لنعمه قال مقاتل: يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شكور على النعماء قال مطرف: هو المؤمن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلى صبر، وقرأ قوله تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس} أي: الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده، أو الإبلاس وهو اليأس من كل خير ليكون ذلك أبلغ في التبكيت والتوبيخ {ظنه} قرأه الكوفيون بتشديد الدال بعد الصاد أي: ظن فيهم ظناً حيث قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك} (ص: 82) ولا تجد أكثرهم شاكرين فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه، والباقون بالتخفيف أي: صدّق عليهم في ظنه بهم أي: على أهل سبأ كما قاله أكثر المفسرين حين رأى انهماكهم في الشهوات أو الناس كلهم كما قاله مجاهد أي: حين رأى أباهم آدم ضعيف العزم، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب أو سمع من الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها} (البقرة: 30) فقال: لأضلنهم ولأغوينهم، أو الكفار ومنهم سبأ كما قاله الجلال المحلي {فاتبعوه} أي: بغاية الجهد بميل الطبع وقوله {إلا فريقاً من المؤمنين} استثناء متصل على قول مجاهد ومنقطع على قول غيره، وقال السدي عن ابن عباس رضي الله عنه: يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار، أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون قال ابن قتيبة: إن إبليس لعنه الله تعالى لما سأل النظرة فأنظره الله تعالى وقال {لأغوينهم} (الحجر: 39) و {لأضلنهم} (النساء: 119) لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم، وإنما قاله ظناً، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم. ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمراً بنفسه نفاه بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنه ما {كان} أصلاً {له عليهم} أي: الذين اتبعوه ولا غيرهم، وأغرق فيما هو الحق من النفي بقوله تعالى: {من سلطان} أي: تسلط قاهر بشيء من الأشياء بوجه من الوجوه، لأنه مثلهم في كونه عبداً عاجزاً مقهوراً ذليلاً خائفاً مدحوراً قال القشيري: هو مسلط ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه والمعنى: أن الأمر لله وحده {إلا} أي: لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا، وملكناه قيادهم بقهرنا، وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال: {لنعلم} أي: بما لنا من العظمة {من يؤمن} أي: يوجد الإيمان لله {بالآخرة} أي: ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تمييزه تعلقاً تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقاً به في عالم الغيب {ممن هو منها} أي: الآخرة {في شك} فهو لا يجدد لها إيماناً أصلاً لأن الشك ظرف له محيط به، وإنما استعار إلا موضع لكن إشارة إلى أنه مكنه تمكيناً تاماً صار به كمن له سلطان حقيقي. تنبيه: قال الرازي: إن علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد محيط لكل معلوم، وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير، ولكن يتغير تعلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 علمه، فإن العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله تعالى في الأزل أن العالم سيوجد، فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه معدوماً، كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمر وتظهر فيها صورته، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها، وإنما التغيير في الخارجيات، وكذا هنا قوله {إلا لنعلم} أي: ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر، والإيمان من المؤمن، وكان علم الله تعالى أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو وقال البغوي: المعنى إلا لنميز المؤمن من الكافر، وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب وقوله تعالى {وربك} أي: المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنبوتك واجتنابه عن أمتك {على كل شيء} من المكلفين وغيرهم {حفيظ} أي: حافظ أتم حفظ تحقيق ذلك إن الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز. ولما بين تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى، عاد إلى خطابهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قل} أي: يا أعلم الخلق بإقامة الأدلة لهؤلاء الذين أشركوا من لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة {ادعوا الذين زعمتم} أي: أنهم آلهة كما تدعون الله تعالى لا سيما في وقت الشدائد، وحذف مفعولي زعم وهما ضميرهم وآلهة تنبيهاً على استهجان ذلك واستبشاعه وليس المذكور في الآية مفعول زعم ولا قائماً مقام المفعول لفساد المعنى، وبين حقارتهم بقوله تعالى: {من دون الله} أي: الذي حاز جميع، العظمة والمعنى: ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال: {لا يملكون مثقال ذرة} من خير أو شر {في السموات ولا في الأرض} أي: في أمر ما، وذكرهما للعموم العرفي، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب، وبعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية، والجملة استئناف لبيان حالهم. ولما كان هذا ظاهراً في نفي الملك الخاص عن ثبوت المشاركة نفى المشاركة أيضاً بقوله تعالى: مؤكداً تكذيباً لهم فيما يدعونه {وما لهم} أي: الآلهة {فيهما} أي: في السموات والأرض ولا في غيرهما، ولا في فيما فيهما، وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من شرك} أي: شركة لا خلقاً ولا ملكاً {وماله} أي: الله {منهم} وأكد النفي بإثبات الجار فقال {من ظهير} أي: معين على شيء مما يريده من تدبير أمرهما وغيرهما فكيف يصح مع هذا لعجز أن يدعوا كما يدعي، ويرجوا كما يرجي ويعبدوا كما يعبد.v ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة وكان المقصود منها أثرها لا عينها نفاه بقوله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده} أي: فلا تنفعهم شفاعة كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله {إلا لمن أذن له} أي: وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة، أو أكثر في أن يشفع في غيره وفي أن يشفع فيه غيره، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة والباقون بفتحها وقوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} غاية لمفهوم الكلام من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملئ من الزمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وطول من التربص، ومثل هذه الحال دل عليها قوله عز من قائل {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} (النبأ: 37 ـ 38) كأنه قيل: يتوقعون ويتربصون ملياً فزعين ذاهلين حتى إذا فزع عن قلوبهم أي: كشف الفزع عن قلوبهم أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض {ماذا قال ربكم} أي: في الشفاعة ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن بذلك قلوبهم {قالوا} قال: القول {الحق} أي: الثابت الذي لا يمكن أن يبدل، بل يطابق الواقع فلا يكون شيء يخالفه وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى منهم وهم المؤمنون {وهو العلي الكبير} أي: ذو العلو فلا رتبة إلا دون رتبته والكبرياء، فليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء صفقت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: {ماذا قال ربكم} قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي من السماء» وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر وتكلم بالوحي أخذت السماء رجفة، أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل: فيقول جبريل عليه السلام {قال الحق وهو العلي الكبير} فيقولون كلهم مثل ما يقول جبريل عليه السلام، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله تعالى» وقال مقاتل والكلبي والسدي: كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة وخمسين سنة وقيل: ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم كلم جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمداً صلى الله عليه وسلم عند أهل السموات من أشراط الساعة، فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض {ماذا قال ربكم قالوا الحق} يعني الوحي {وهو العلي الكبير} وقال الحسن وابن زيد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة عليهم السلام: ماذا قال ربكم في الدعاء قالوا: الحق فأقروا به حيث لم ينفعهم الإقرار. ولما سلب تعالى عن شركائهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 أن يملكوا شيئاً من الأكوان، وأثبت جميع الملك له وحده، وأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقررهم بما يلزم منه ذلك بقوله تعالى: {قل من يرزقكم من السموات} أي: بالمطر {والأرض} أي: بالنبات، وأفرد الأرض لأنهم لا يعلمون غيرها، ثم أمره تعالى أن يتولى الإجابة بقوله تعالى: {قل الله} أي: إن لم يقولوا رازقنا الله تعالى فقل أنت: إن رازقكم الله وذلك للإشعار بأنهم يقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به، لأن الذي تمكن من صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته؛ ولأنهم إن تفوهوا بأن الله تعالى رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله تعالى {قل من يرزقكم من السماء والأرض} (يونس: 31) {أم من يملك السمع والأبصار} (يونس: 31) حتى قال: {فسيقولون الله} (يونس: 31) ثم قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32) فكأنهم كانوا يقرون بألسنتهم مرة، ومرة يتلعثمون عناداً وفراراً وحذراً من إلزام الحجة ونحوه قوله عز وجل {قل من رب السموات والأرض قل الله أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً} (الرعد: 16) وأمر بأن يقول لهم بعد لاإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه {وإنا أو إياكم} أي: أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة {لعلى هدى} أي: في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه {أو في ضلال} عن الحق {مبين} أي: بين في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال، وهذا ليس على طريق الشك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك أنه على هدى ويقين، وأن الكفار على ضلال مبين وإنما هذا الكلام جار على ما تخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير، ويسميه أهل البيان الاستدراج، وهو أن يذكر لمخاطبه أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ ونظيره قولهم: أخزى الله الكاذب مني ومنك، ومثله قول حسان رضي الله تعالى عنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان: *أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخيركما الفداء* *فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء* مع العلم لكل أحد أنه صلى الله عليه وسلم خير خلق الله كلهم. تنبيه: ذكر تعالى في الهدى كلمة على، وفي الضلال كلمة في، لأن المهتدي كأنه مرتفع مطلع فذكر بكلمة التعالي فكأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فأتى بكلمة في فكأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه قال البغوي: وقال بعضهم: أو بمعنى الواو والألف فيه صلة كأنه يقول: وإنا وإياكم لعلى هدى وفي ضلال مبين يعني: نحن على الهدى وأنتم في الضلال. {قل} أي: لهم {لا تسألون} أي: من سائل ما {عما أجرمنا} أي: لا تؤاخذون به {ولا نسأل} أي: في وقت من الأوقات من سائل ما {عما تعملون} أي: من الكفر والتكذيب وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين، وقيل: المراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل الكفر والمعاصي العظام. {قل} أي: لهم {يجمع بيننا ربنا} أي: يوم القيامة {ثم يفتح} أي: يحكم {بيننا بالحق} أي: الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه وهو العدل والفضل من غير ظلم ولا ميل، فيدخل المحقين الجنة والمبطلين النار {وهو الفتاح} أي: الحاكم الفاصل في القضايا المغلقة البليغ الفتح لما انغلق فلا يقدر أحد على فتحه {العليم} أي: البليغ العلم بكل دقيق وجليل فلا تخفى عليه خافية. {قل} أي: لهم {أروني} أي: أعلموني {الذين ألحقتم به} أي: بالله {شركاء} أي: في العبادة هل يخلقون وهل يرزقون وقوله تعالى: {كلا} أي: لا يخلقون ولا يرزقون ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة كما قال إبراهيم عليه السلام {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} (الأنبياء: 67) بعدما حجهم وقد نبه على تفاحش غلطهم بقوله تعالى: {بل هو الله العزيز} أي: الغالب على أمره الذي لا مثل له وكل شيء يحتاج إليه {الحكيم} أي: المحكم لكل ما يفعله فلا يستطيع أحد نقض شيء منه فكيف يكون له شريك، وأنتم ترون ما ترون له من هاتين الصفتين المنافيتين لذلك. تنبيه: في هذا الضمير وهو «هو» قولان: أحدهما: أنه عائد إلى الله تعالى أي: ذلك الذي ألحقتم به شركاء هو الله والعزيز الحكيم صفتان. والثاني: أنه ضمير الأمر والشأن والله مبتدأ، والعزيز الحكيم خبر إن والجملة خبر هو. فإن قيل: ما معنى قوله {أروني} وكان يراهم ويعرفهم أجيب: بأنه أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله تعالى وأن يقاس على أعينهم فيه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به. ولما بين تعالى مسألة التوحيد شرع في الرسالة بقوله سبحانه وتعالى: {وما أرسلناك} أي: بعظمتنا {إلا كافة للناس} أي: إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا فكأنه حال من الناس قدم للاهتمام، وقول البيضاوي: ولا يجوز جعلها حالاً من الناس أي: لأن تقديم حال المجرور عليه كتقديم المجرور على الجار رده أبو حيان بقوله: هذا ما ذهب إليه الجمهور وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه وهو الصحيح انتهى. وهذا هو الذي ينبغي اعتماده ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» ومن أمثلة أبي علي: زيد خير ما يكون خير منك والتقدير: زيد خير منك خير ما يكون وأنشد: *إذا المرء أعيته المطالب ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد* أي: فمطلبها عليه كهلاً وأنشد أيضاً: *تسليت طراً عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي* أي: عنكم طراً، وقيل: أنه حال من كاف أرسلناك والمعنى: إلا جامعاً للناس في الإبلاغ والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة كهي في علامة ورواية قاله الزجاج. وقيل: إن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا إرسالة كافة قال الزمخشري: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم قال أبو حيان: أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 محذوف خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفة لموصوف محذوف قال البقاعي: وأما الجن فحالهم مشهور أي: أنه أرسل إليهم، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور انتهى. وهذا هو اللائق بعموم رسالته وإن خالف في ذلك الجلال المحلي في «شرحه على جمع الجوامع» ، وفي عموم رسالته صلى الله عليه وسلم فضيلة على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلئن كان داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير وإلانة الحديد وسليمان عليه السلام بما ذكر له، فقد فضل محمد صلى الله عليه وسلم نبينا بإرساله إلى الناس كافة، والحصا سبح في كفه، والجبال أمرت بالسير معه ذهباً وفضة، والحمرة شكت إليه أخذ فراخها أو بيضها، والضب شهد له بالرسالة والجمل شكا إليه وسجد له، والأشجار أطاعته والأحجار سلمت عليه وائتمرت بأمره وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر، وإنما ذكرت ذلك تبركاً بذكره صلى الله عليه وسلم وأنا أسأل الله تعالى أن يشفع في وفي والدي وجميع أحبابي وبقية المسلمين أجمعين. ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار وكان في ذكرها رد لقولهم في الكذب والجنون قال تعالى {بشيراً} أي: مبشراً للمؤمنين بالجنة {ونذيراً} أي: منذراً للكافرين بالعذاب {ولكن أكثر الناس} أي: كفار مكة {لا يعلمون} فيحملهم جهلهم على مخالفتك. ولما سلب عنهم العلم اتبعه دليله كقوله تعالى معبراً بصيغة المضارع الدال على ملازمة التكرير للإعلام بأنه على سبيل الاستهزاء لا الاسترشاد. {ويقولون} من فرط جهلهم بعاقبة ما يوعدونه {متى هذا الوعد} أي: البشارة والنذارة في يوم الجمع وغيره فسموه وعداً زيادة في الاستهزاء. ولما كان قول الجماعة أجدر بالقبول وأبعد عن الرد من قول الواحد أشار إلى زيادة جهلهم بقوله تعالى: {إن كنتم} أي: أيها النبي وأتباعه {صادقين} أي: متمكنين في الصدق. {قل لكم} أي: أيها الجاحدون الأجلاف الذين لا يجوزون الممكنات أو لا يتدبرون ما أوضحها من الدلالات {ميعاد يوم} أي: لا يحتمل القول وصف عظمه لما يأتي فيه لكم من العقاب سواء كان يوم الموت كما قاله الضحاك أو البعث كما قاله أكثر المفسرين {لا تستأخرون} أي: لا يوجب تأخركم {عنه ساعة} لأن الآتي به عظيم القدرة محيط العلم ولذلك قال: {ولا تستقدمون} أي: لا يوجد تقدمكم لحظة فما دونها ولا تتمكنون من طلب ذلك. فإن قيل: كيف انطبق هذا جواباً عن سؤالهم؟ أجيب: بأنهم ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتاً لا استرشاداً فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون بيوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه. {وقال الذين كفروا} مؤكدين قطعاً للأطماع عن دعائهم {لن نؤمن} أي: نصدق أبداً وصرحوا بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم بالإشارة فقالوا: {بهذا القرآن} أي: وإن جمع جميع الحكم والمقاصد المتضمنة لبقية الكتب {ولا بالذي بين يديه} أي: قبله من الكتب التوراة والإنجيل وغيرهما بل نحن قانعون بما وجدنا عليه آباءنا، وذلك لما روي أن كفار مكة سألوا بعض أهل الكتاب فأخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدمه من كتب الله في الكفر بها فكفروا بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 جميعاً. وقيل: الذي بين يديه يوم القيامة، والمعنى أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، وأن يكون ما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة. ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أو للمخاطب: {ولو} أي: والحال أنك لو {ترى} أي: يوجد منك رؤية لحالهم {إذا الظالمون} أي: الذين يضعون الأشياء في غير محالها فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر من غير دليل، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه {موقوفون} أي: بعد البعث بأيدي جنوده أو غيرها بأيسر أمر منه {عند ربهم} أي: في موضع المحاسبة {يرجع بعضهم} أي: على وجه الخصام عداوة كان سببها مواددة في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله تعالى {إلى بعض القول} أي: بالملامة والمباكتة والمخاصمة. تنبيه: مفعول ترى وجواب لو محذوفان للفهم أي: لو ترى حال الظالمين وقت وقوفهم راجعاً بعضهم إلى بعض القول لرأيت حالاً فظيعة وأمراً منكراً ويرجع حال من ضمير موقوفون، والقول مفعول يرجع، لأنه يتعدى قال تعالى: {فإن رجعك الله} (التوبة: 83) وقوله تعالى {يقول الذين استضعفوا} أي: وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحال على سبيل اللوم {للذين استكبروا} أي: أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى استضعافهم للأولين وهم الرؤوس المتبوعون {لولا أنتم} أي: لولا ضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان {لكنا مؤمنين} أي: باتباع الرسول تفسير لقوله تعالى: {يرجع} فلا محل له قال ابن عادل: وأنتم بعد لولا مبتدأ على أصح المذاهب وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرفع بعد لولا أي: وغيره فصيح خلافاً للمبرد حيث جعل خلاف هذا لحناً، وأنه لم يرد إلا في قول زياد: وكم موطن لولاي وإلا قيس جعل الياء ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع وسيبويه جعله ضمير جر. ولما لم يتضمن كلامهم سوى قضية واحدة ذكر الجواب عنها بقوله تعالى: {قال الذين استكبروا} على طريق الاستئناف {للذين استضعفوا} رداً عليهم وإنكاراً لقولهم إنهم هم الذين صدوهم {أنحن} خاصة {صددناكم} أي: منعناكم {عن الهدى بعد إذ جاءكم} أي: على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام لم نفعل ذلك؛ لأن المانع ينبغي أن يكون أرجح من المقتضى حتى يعمل عمله، والذي جاء به الرسل هو الهدى والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاؤوا به فلم يصح تعلقكم بالمانع، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم، والباقون بالإدغام وأمال الألف بعد الجيم حمزة وابن ذكوان وفتحها الباقون، وكذا الإظهار والإدغام في {إذ تأمروننا} (سبأ: 23) وإذا وقف حمزة على {جاءكم} سهل الهمزة مع المد والقصر، وله أيضاً إبدالها ألفاً مع المد والقصر {بل كنتم} أي: جبلة وخلقاً {مجرمين} أي: كافرين لاختياركم لأقوالنا وتسويلنا. فإن قيل: إذ وإذا من الظروف الملازمة للظرفية فلم وقعت إذ مضافاً إليها؟ أجيب: بأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره فأضيف إليها الزمان كما أضيف إلى الجمل في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد وحينئذٍ ويومئذٍ. ولما أنكر المستكبرون بقولهم: {أنحن صددناكم} أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين واثبتوا بقولهم {بل كنتم مجرمين} أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 ذلك بكسبهم واختيارهم كر عليهم المستضعفون كما قال تعالى: {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا} رداً لإنكارهم صدهم {بل} أي: الصاد لنا {مكر الليل والنهار} أي: الواقع فيهما من مكركم فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم بنا ليلاً ونهاراً {إذ تأمروننا أن نكفر بالله} أي: الملك الأعظم بالاستمرار على ما كنا عليه قبل إتيان الرسل {ونجعل له أنداداً} أي: شركاء نعبدهم من دونه، فإن قيل: لم قيل {قال الذين استكبروا} بغير عطف وقيل {وقال الذي استضعفوا} أجيب: بأن الذين استضعفوا مر أولاً كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الأول. تنبيه: يجوز رفع مكر من ثلاثة أوجه: أحدها: الفاعلية تقديره بل صدنا مكركم في هذين الوقتين كما مر. الثاني: أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي: مكر الليل صدنا. الثالث: العكس أي: سبب كفرنا مكركم وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم ليل ماكر والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام كقول الشاعر: * ... ونمت وما ليل المطي بنائم* فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه، وأما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مصدراً مضافاً لمفعوله قال ابن عادل: وهذا أحسن من قول من قال: إن الإضافة بمعنى في أي: مكر في الليل لأن ذلك لم يثبت في محل النزاع وقيل مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فيهما كقوله تعالى {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} (الحديد: 16) تنبيه: قوله تعالى أولاً يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول {الذين استضعفوا} بلفظ المستقبل، وقوله تعالى في الآيتين الأخيرتين {وقال الذين استكبروا} {وقال الذين استضعفوا} بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع، أشار به إلى أن ذلك لا بد من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر: 30) وأما الاستقبال فعلى الأصل {وأسروا} أي: الفريقان {الندامة} من المستكبرين والمستضعفين وهم الظالمون في قوله تعالى {إذا الظالمون موقوفون} (سبأ: 31) يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين {لما} أي: حين {رأوا العذاب} أي: حين رؤية العذاب أخفاها كل عن رفيقه مخافة التعبير. وقيل: معنى الإسرار والإظهار وهو من الأضداد أي: أظهروا الندامة قال ابن عادل: ويحتمل أن يقال: إنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله تعالى بقولهم {أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً} (السجدة: 12) وأجيبوا: بأن لامرد لكم فأسروا ذلك القول وقوله تعالى {وجعلنا الأغلال} أي: الجوامع التي تغل اليد إلى العنق {في أعناق الذين كفروا} يعم الأتباع والمتبوعين جميعاً، وكان الأصل في أعناقهم ولكن جاء بالظاهر تنويهاً بذمهم وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال وهذه إشارة إلى كيفية عذابهم {هل يجزون} أي: بهذه الأغلال {إلا ما} أي: إلا جزاء ما {كانوا يعملون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار.k ولما كان في هذا تسلية أخروية للنبي صلى الله عليه وسلم أتبعه التسلية الدنيوية بقوله تعالى: {وما أرسلنا} أي: بعظمتنا {في قرية} وأكد النفي بقوله تعالى: {من نذير إلا قال مترفوها} رؤساؤها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 الذين لا شغل لهم إلا التنعم بالفاني حتى أكسبهم البغي والطغيان ولذلك قالوا لرسلهم: {إنا بما أرسلتم به} أي: أيها المنذرون {كافرون} أي: وإذا قال المتنعمون ذلك تبعهم المستضعفون. {وقالوا} أي: المترفون أيضاً متفاخرين {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} أي: في هذه الدنيا ولو لم يرض منا ما نحن عليه ما رزقنا ذلك، فاعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم فعلى قياسهم ذلك قالوا: {وما نحن بمعذبين} أي: إن الله تعالى قد أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا في الآخرة، ثم إن الله سبحانه وتعالى بين خطاهم بقوله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهم {إن ربي} أي: المحسن إلي بالإنعام بالسعادة الباقية {يبسط الرزق} أي: يوسعه في كل وقت أراده بالأموال والأولاد وغيرها {لمن يشاء} امتحاناً {ويقدر} أي: يضيقه على من يشاء ابتلاء بدليل مقابلته بيبسط وهذا هو الطباق البديعي، فالرزق في الدنيا لا تدل سعته على رضا الله تعالى ولا ضيقه على سخطه فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع،، وربما عكس وربما وسع عليهما وضيق عليهما، وكم من موسر شقي وكم من معسر تقي {ولكن أكثر الناس} أي: كفار مكة {لا يعلمون} أي: ليس لهم علم فيتدبروا به ما ذكرنا من الأمر فيعلمون أنه ليس كل موسع عليه في دنياه سعيداً في عقباه ولا كل مضيق عليه في دنياه شقياً. ثم بين تعالى فساد استدلالهم بقوله سبحانه وتعالى: {وما أموالكم} أي: أيها الخلق الذي أنتم من جملتهم وإن كثرت، وكرر النافي تصريحاً بإبطال كل على حياله فقال {ولا أولادكم} كذلك {بالتي} أي: بالأموال والأولاد التي {تقر بكم عندنا} أي: على مالنا من العظمة {زلفى} أي: درجة علية وقربة مكينة. تنبيه: قوله تعالى: {بالتي تقربكم} (سبأ: 37) صفة للأموال والأولاد كما تقرر لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة وقال الفراء والزجاج أنه: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا: والتقدير: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي تقر بكم ولا حاجة إلى هذا، ونقل عن الفراء ما تقدم من أن التي صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح، وجعل الزمخشري «التي» صفة لموصوف محذوف قال: ويجوز أن تكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله تعالى زلفى وحدها أي: ليست أموالكم ولا أولادكم بتلك الموصوفة عند الله بالتقريب قال أبو حيان: ولا حاجة إلى هذا الموصوف انتهى. وزلفى: مصدر من معنى الأول إذ التقدير: تقربكم قربى وقال الأخفش: زلفى اسم مصدر كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا تقريباً وأمالها حمزة والكسائي محضة وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح وقوله تعالى: {إلا من آمن وعمل صالحاً} أي: تصديقاً لإيمانه على ذلك الأساس استثناء من مفعول تقربكم أي: الأموال والأولاد لا تقرب أحد إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح، أو من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف إلى إلا أموال وأولاد من آمن وعمل صالحاً {فأولئك} أي: العالو الرتبة {لهم جزاء الضعف} أي: أن يأخذوا جزاءهم مضاعفاً في نفسه من عشرة أمثاله إلى ما لا نهاية له {بما عملوا} فإن أعمالهم ثابتة محفوظة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 بأساس الإيمان، ثم زاد وقال تعالى {وهم في الغرفات} أي: العلالي المبنية فوق البيوت في الجنات زيادة على ذلك {آمنون} أي: ثابت أمانهم دائماً لا خوف عليهم من شيء من الأشياء أصلاً، وأما غيرهم وهم المرادون بما بعده فأموالهم وأولادهم وبال عليهم، وقرأ حمزة بسكون الراء ولا ألف بعد الفاء على التوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه، وقد أجمع على التوحيد في قوله تعالى: {يجزون الغرفة} (الفرقان: 75) ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس، والباقون بضم الراء وألف بعد الفاء على الجمع جمع سلامة، وقد أجمع على الجمع في قوله تعالى {لنبوأنهم من الجنة غرفاً} (العنكبوت: 58) ثم بين حال المسيء وهو من يبعده ماله وولده من الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى: {والذين يسعون} أي: يجددون السعي من غير توبة بأموالهم وأولادهم {في} إبطال {آياتنا} أي: حجتنا على ما لها من عظمة الانتساب إلينا {معجزين} أي: طالبين تعجيزها أي: تعجيز الآتين بها عن إنفاذ مرادهم بها بما يلقون من الشبه فيضلون غيرهم بما أوسعنا عليهم وأعززناهم به من الأموال والأولاد {أولئك} أي: هؤلاء البعداء البغضاء {في العذاب} أي: المزيل للعذوبة {محضرون} أي: يحضرهم فيه الموكلون بهم من جندنا على أهون وجه وأسهله. {قل} أي: يا أشرف الخلق لجميع الخلق ومنهم هؤلاء {إن ربي} أي: المحسن إلي بهذا البيان وغيره {يبسط الرزق} أي: يوسعه {لمن يشاء} متى شاء {من عباده} امتحاناً {ويقدر} أي: يضيقه {له} بعد البسط ابتلاء قال البيضاوي: فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، وما سبق في شخصين فلا تكرار. ولما بين بهذا البسط أن فعله بالاختيار بعد أن بين بالأول كذبهم في أنه سبب السلامة من النار دل على أنه الفاعل لا غيره بقوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} أي: فهو يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال، أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما آجلاً بالثواب الذي كل خلف دونه، وعن سعيد بن جبير ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه، وعن الكلبي ما تصدقتم من صدقة أو أنفقتم في خير من نفقة فهو يخلفه على المنفق، إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وعن مجاهد من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأول {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ: 39) فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية: وما كان من خلف فهو منه فدل ذلك على أنه مختص بالإخلاف لأنه ضمن الإخلاف لكل ما ينفق على أي وجه كان، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى أنفق ينفق عليك» ولمسلم: «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» وعن أبي هريرة أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» وعنه أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت أحد صدقة من مال وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل» وعن عبد الحميد بن الحسن الهلالي قال: أنبأنا محمد بن المكندر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 «وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة» «وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة» قلت: ما معنى وقى به عرضه قال: ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقي، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية الله عز وجل قوله: قلت ما معنى مقول عبد الحميد لمحمد بن المكندر {وهو خير الرازقين} فإن قيل: قوله تعالى خير الرازقين ينبئ عن كثرة الرازقين ولا رازق إلا الله تعالى أجيب: بأن الله تعالى هو خير الرازقين الذين يغذونهم هذا الغذاء ممن يقيمهم الله تعالى فيضيفون الرزق إليهم، لأن كل من يرزق غيره من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله فهو واسطة لا يقدر إلا على ما قدره الله، وأما هو سبحانه فهو يوجد المعدوم ويرزق من يطيعه ومن يعصيه ولا يضيق رزقه بأحد ولا يشغله فيه أحد عن أحد وعن بعضهم الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فيجد فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي، وقرأ أبو عمر وقالون والكسائي فهو يخلفه بسكون الهاء والباقون بالضم. ولما بين تعالى أن حال النبي صلى الله عليه وسلم كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه كحال من تقدم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم، بين ما يكون عاقبة حالهم بقوله تعالى: {ويوم يحشرهم} أي: نجمعهم جمعاً بكره بعد البعث وعم التابع والمتبوع بقوله تعالى: {جميعاً} فلم نغادر منهم أحداً، وقرأ حفص يحشرهم ثم يقول بالياء والباقون بالنون. ولما كانت مواقف الحشر طويلة وزلازله مهولة قال تعالى: {ثم نقول للملائكة} أي: توبيخاً للكافرين وإقناطاً مما يرجون منهم من الشفاعة {أهؤلاء} أي: الضالون وأشار إلى أنه لا ينفع من العبادة إلا ما كان خالصاً بقوله تعالى: {إياكم} أي: خاصة {كانوا يعبدون} فهذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر: إياك أعني واسمعي يا جارة ونحوه قوله عز وجل: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة: 116) وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين براء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا فيكون تقريعهم أشد وتعييرهم أبلغ وخجلهم أعظم ولذلك: {قالوا} أي: الملائكة متبرئين منهم مفتتحين بالتنزيه تخضعاً بين يدي البراءة خوفاً {سبحانك} أي: تنزهك تنزيهاً يليق بجلالك عن أن يستحق أحد غيرك أن يعبد {أنت ولينا} أي: معبودنا الذي لا وصلة بيننا وبين أحد إلا بأمره {من دونهم} أي: ليس بيننا وبينهم ولاية بل عداوة، وكذا كان من تقرب إلى شخص بمعصية الله تعالى فإنه يقسى الله تعالى قلبه عليه ويبغضه فيه فيجافيه ويعاديه. ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم {بل كانوا يعبدون الجن} أي: إبليس وذريته الذين زينوا لهم عبادتنا من غير رضانا بذلك، وكانوا يدخلون في أجواف الأصنام ويخاطبونهم ويستجيرون بهم في الأماكن المخوفة، ومن هذا تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة. وقيل: صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الجن فاعبدوها ثم استأنفوا قولهم {أكثرهم} أي: الإنس {بهم} أي: الجن {مؤمنون} أي: راسخون في الإشراك لا يقصدون بعبادتهم غيرهم. وقيل: الضمير الأول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 للمشركين والأكثر: بمعنى الكل وقيل: منهم من يقصد بعبادته بتزيين الجن غيرهم وهم مع ذلك يصدقون ما يرد عليهم من إخبارات الجن على ألسنة الكهان وغيرهم مع ما يرون فيها من الكذب في كثير من الأوقات. ولما بطلت تمسكاتهم وانقطعت تعلقاتهم تسبب عن ذلك تقريعهم الناشئ عن تنديمهم بقوله تعالى: بلسان العظمة: {فاليوم} أي: يوم مخاطبتهم بهذا التبكيت وهو يوم الحشر {لا يملك} أي: شيئاً من الملك {بعضكم لبعض} أي: من المقربين والمبعدين {نفعاً ولا ضراً} بل تنقطع الأسباب التي كانت في دار التكليف من دار الجزاء التي المقصود فيها تمام إظهار العظمة لله وحده على أتم الوجوه. فإن قيل: قوله تعالى نفعاً مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضر مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك أجيب: بأن العبادة لما كانت تقع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره بين أنه ليس فيهم ذلك الوجه الذي تحسن لأجله عبادتهم وقوله تعالى: {ونقول} أي: في ذلك الحال من غير إمهال {للذين ظلموا} أي: بوضع العبادة في غير موضعها عند إدخالهم النار {ذوقوا عذاب النار التي كنتم} أي: جبلة وطبعاً {بها تكذبون} عطف على لا يملك فبين المقصود من تمهيده، فإن قيل: قوله ههنا التي كنتم بها صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار، وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته أجيب: بأنهم كانوا متلبسين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} (السجدة: 20) فوصف لهم ما لابسوه وهنا لم يلابسوه بعد لأنه عقب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم {هذه النار التي كنتم بها تكذبون} . {وإذا تتلى عليهم} أي: في وقت من الأوقات من أي تال كان {آياتنا} أي: من القرآن حال كونها {بينات} أي: واضحات بلسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا ما هذا} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم {إلا رجل} أي: مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم وتزيدون أنتم عليه بالكثرة {يريد أن يصدكم} بهذا الذي يتلوه {عما كان يعبد آباؤكم} من الأصنام أي: لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً فعارضوا البرهان بالتقليد {وقالوا ما هذا} أي: القرآن وقيل: القول بالوحدانية {إلا أفك} أي: كذب مصروف عن وجهه {مفتري} بإضافته إلى الله تعالى كقوله تعالى في حقهم {أئفكاً آلهة دون الله تريدون} (الصافات: 86) وكقولهم للرسول {أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} (الأحقاف: 22) {وقال الذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه العقول من جهة القرآن {للحق} أي: الهدى الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقيقة فيه {لما جاءهم} من غير نظر ولا تأمل {أن} أي: ما {هذا} أي: الثابت الذي لا شيء أثبت منه {إلا سحر} أي: خيال لا حقيقة له {مبين} أي: ظاهر قال ابن عادل: وهذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى: {وقال الذين كفروا} على العموم انتهى. ولم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية والعلق الشهوانية قال الطفيل بن عمرو الدوسي ذو النور: «لقد أكثروا علي في أمره صلى الله عليه وسلم حتى حشوت في أذني ماء الكرفس خوفاً من أن يخلص إلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 شيء من كلامهم فيفتنني، ثم أراد الله تعالى لي الخير فقلت واثكل أمي إني والله للبيب عاقل شاعر ولي معرفة بغث الكلام من سمينه فما لي لا أسمع منه فإن كان حقاً تبعته، وإن كان باطلاً كنت منه على بصيرة أو كما قال قال: فقصدت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أعرض على ما جئت به فلما عرضه علي قلت: بأبي وأمي ما سمعت قولاً قط هو أحسن منه ولا أمراً أعدل منه فما توقفت في أن أسلمت ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم في أن يدعو له الله تعالى أن يعطيه آية يعينه بها على قومه، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته فخشي أن يظنوا أنها مثلة فدعا الله تعالى بتحويله فتحول في طرف سوطه فأعانه الله تعالى على قومه فأسلموا» . تنبيه: في تكرير الفعل وهو قال: والتصريح بذكر الكفرة وما في لامي الذين والحق من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وما في لما من المفاجأة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم للقول وتعجيب بليغ منه. ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع بين ذلك بقوله تعالى: {وما} أي: قالوا ذلك والحال أنا ما {آتيناهم} أي: هؤلاء العرب {من كتب} أصلاً لأنهم لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب، وأتى بصيغة الجمع مع تأكيد النفي قبل كتابك الجامع {يدرسونها} أي: يجددون دراستها كل حين فيها دليل على صحة الإشراك {وما أرسلنا} أي: إرسالاً لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة {إليهم} أي: خاصة بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم بأعيانهم فهم مقصودون بالذات لا أنهم داخلون في عموم أو مقصودون من باب الأمر بالمعروف وفي جميع الزمان الذي {قبلك} أي: قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة {من نذير} أي: ليكون عندهم قول منه يدعوهم إلى الإشراك أو ينذرهم على تركه وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم، ثم هددهم بقوله تعالى: {وكذب الذين من قبلهم} أي: من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء من التكذيب، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر {وما بلغوا} أي: هؤلاء {معشار ما آتيناهم} أي: عشراً صغيراً مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل {فكذبوا} أي: بسبب ما طبعوا عليه من العناد {رسلي} إليهم {فكيف كان نكير} أي: إنكاري على المكذبين لرسلي بالعقوبة والإهلاك أي: هو واقع موقعه فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير أي: فعلوا التكذيب كثيراً فكان سبباً لتكذيب الرسل والثاني: للتكذيب أو الأول: مطلق والثاني: مقيد ولذلك عطف عليه. {قل إنما أعظكم} أي: أرشدكم وأنصح لكم {بواحدة} أي: بخصلة واحدة هي {أن تقوموا} أي: توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق وعبر بالقيام إشارة إلى الاجتهاد {لله} أي: الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له لديكم من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم {مثنى} أي: اثنين اثنين قال البقاعي: وقدمه إشارة إلى أن أغلب الناس ناقص العقل {وفرادى} أي: واحداً واحداً من وثق بنفسه في رصانة عقله وإصابة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره وأعون على خلوص فكره، ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إذا نسي ويقومه إذا زاغ، ولم يذكر غيرهما من الأقسام لأن الازدحام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 يشوش الخواطر ويخلط القول. ولما كان ما طلب منهم هذا لأجله عظيماً جديراً بأن يهتم له هذا الاهتمام أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى: {ثم تتفكروا} أي: في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيته {ما بصاحبكم} أي: رسولكم الذي أرسل إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم {من جنة} أي: جنون يحمله على ذلك {إن} أي: ما {هو} أي: المحدث عنه بعينه {إلا نذير} أي: خالص إنذاره {لكم بين يدي} أي: قبل حلول {عذاب شديد} أي: في الآخرة إن عصيتموه، روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: «صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا: بلى قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا فأنزل الله تعالى {تبت يدا أبي لهب وتب} (المسد: 1) ولما انتفى عنه بهذا ما تخيلوا به بقي إمكان أن يكون لغرض أمر دنيوي فنفاه بقوله تعالى: {قل} أي: لهم يا أشرف الخلق {ما} أي: مهما {سألتكم من أجر} أي: على دعائي لكم من الإنذار والتبليغ {فهو لكم} أي: لا أريد منه شيئاً وهو كناية عن أني لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله تعالى أجراً أصلاً بوجه من الوجوه فإذا ثبت أن الدعاء ليس لغرض دنيوي، وأن الداعي أرجح الناس عقلاً ثبت أن الذي حمله على تعريض نفسه لتلك الأخطار العظيمة إنما هو أمر الله تعالى الذي له الأمر كله {إن} أي: ما {أجرى} أي: ثوابي {إلا على الله} أي: الذي لا أعظم منه فلا ينبغي لذي همة أن يطلب شيئاً إلا من عنده {وهو} أي: والحال أنه {على كل شيء شهيد} أي: حفيظ مهيمن بليغ العلم بأحوالي فيعلم صدقي وخلوص نيتي، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أجرى في الوصل بفتح الياء، والباقون بالسكون. {قل} أي: لمن أنكر التوحيد والرسالة والحشر {إن ربي} أي: المحسن إليّ بأنواع الإحسان {يقذف بالحق} أي: يلقيه إلى أنبيائه أو يرمي به الباطل إلى أقطار الآفاق فيكون وعداً بإظهار الإسلام وإفشائه {علام الغيوب} أي: ما غاب عن خلقه في السموات والأرض. تنبيه: في رفع علام أوجه: أظهرها: أنه خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ مضمر، أو بدل من الضمير في يقذف وقال الزمخشري: رفع محمول على محل أن واسمها أو على المستكن في يقذف يعني بقوله محمول على محل إن واسمها النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم، ويريد بالحمل على الضمير في يقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي، وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم. {قل} لهؤلاء {جاء الحق} أي: الإسلام وقيل: القرآن وقيل: كل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المراد من جاء الحق أي: ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر وأكد تكذيباً لهم في ظنهم أنهم يغلبون بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنه ما {يبدئ الباطل} أي: الذي أنتم عليه من الكفر {وما يعيد} أي: ذهب فلم تبق منه بقية مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعلوا قولهم لا يبدئ ولا يعيد مثلاً في الهلاك ومنه قول عبيد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 *أقفر من أهيله عبيد ... أصبح لا يبدي ولا يعيد* والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى {جاء الحق وزهق الباطل} (الإسراء: 81) وعن ابن مسعود: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود ويقول {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء: 81) {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} (سبأ: 49) وقيل: الباطل إبليس أي: ما ينشئ خلقاً ولا يعيده، والمنشئ والباعث هو الله تعالى، وعن الحسن لا يبدئ لأهله خيراً ولا يعيده أي: لا ينفعهم في الدنيا والآخرة وقال الزجاج: أي: شيء ينشئه إبليس ويعيده فجعله للاستفهام وقيل: للشيطان الباطل لأنه صاحب الباطل، ولأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك وحينئذ يكون غير منصرف وإن جعلته من شطن كان منصرفاً. ولما لم يبق بعد هذا إلا أن يقولوا عناداً أنت ضال ليس بك جنون ولا كذب، ولكنك قد عرض لك ما أضلك عن الجمعة قال تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المعاندين على سبيل الاستعطاف بما في قولك من الإنصاف وتعليم الأدب {إن ضللت} أي: عن الطريق على سبيل الفرض {فإنما أضل على نفسي} أي: إثم إضلالي عليها {وإن اهتديت فبما} أي: فاهتدائي إنما هو بما {يوحى إلي ربي} أي: المحسن إلي من القرآن والحكمة لا بغيره فلا يكون فيه ضلال لأنه لاحظ للنفس فيه أصلاً، فإن قيل: أين التقابل بين قوله تعالى: {فإنما أضل على نفسي} وقوله تعالى: {فيما يوحي إلى ربي} وإنما كان يقال: فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فإنما اهتدى لها كقوله تعالى {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} (فصلت: 46) وقوله تعالى: {فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} (الزمر: 41) أو يقال فإنما أضل نفسي أجيب: بأنهما متقابلان من جهة المعنى لأن النفس كل ما عليها فهو بسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها مما ينفعها فبهداية ربه وتوفيقه وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلاله محله وسداد طريقه كان غيره أولى به، وفتح الياء من ربي عند الوصل نافع وأبو عمرو الباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المد، ثم علل الضلال والهداية بقوله تعالى: {إنه} أي: ربي {سميع} أي: لكل ما يقال {قريب} أي: يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه. ولما أبطل تعالى شبههم وختم من صفاته بما يقتضي البطش بمن خالفه عطف على {ولو ترى إذ الظالمون} . {ولو ترى} أي: تبصر يا أشرف الخلق {إذ فزعوا} أي: عند الموت أو البعث أو يوم بدر، وجواب لو محذوف نحو: لرأيت أمراً عظيماً {فلا} أي: فتسبب عن ذلك الفزع أنه لا {فوت} أي: لهم منا لأنهم في قبضتنا، ثم حقر أمرهم بالبناء للمفعول بقوله تعالى: {وأخذوا} أي: عند الفزع من كل من نأمره بأخذهم سواء أكان قبل الموت أم بعده {من مكان قريب} أي: القبور أو من الموقف إلى النار، أو من صحراء بدر إلى القليب وقال الكلبي: من تحت أقدامهم، وقيل: أخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها وحيثما كانوا فهم من الله تعالى قريب لا يفوتونه، والعطف على فزعوا أو لا فوت. {وقالوا} أي: عند الأخذ ومعاينة الثواب والعقاب {آمنا به} أي: القرآن الذي قالوا: إنه أفك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 مفترى أو محمد صلى الله عليه وسلم الذي قالوا: إنه ساحر {وأنى} أي: وكيف ومن أين {لهم التناوش} أي: تناول الإيمان تناولاً سهلاً {من مكان بعيد} أي: عن محله إذ هم في الآخرة ومحله في الدنيا، ولا يمكن إلا برجوعهم إلى الدنيا التي هي دار العمل وهذا تمثيل لحالهم في طلبهم أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا بحال من أراد أن يتناول شيئاً من علوه كما يتناوله الآخر من قدر ذراع تناولاً سهلاً لا تعب فيه، فإن قيل: كيف قال تعالى: {من مكان بعيد} وقد قال تعالى في كثير من المواضع أن الآخرة من الدنيا قريب، وسمى الله تعالى الساعة قريبة فقال {اقتربت الساعة} (القمر: 1) {اقترب للناس حسابهم} (الأنبياء: 1) {لعل الساعة قريب} (الشورى: 17) أجيب: بأن الماضي كالأمس الدابر وهو من أبعد ما يكون إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنون فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيها، ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي بعد الألف بهمزة مضمومة والباقون بعد الألف بواو مضمومة فمعناه على هذا: كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيعوه، وأما من همز فقيل معناه هذا أيضاً. وقيل: التناؤش بالهمز من التنؤش الذي هو حركة في إبطاء يقال: جاء منئشاً أي: مبطئاً متأخراً والمعنى: من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه قال ابن عباس: يسألون الرد فيقال: وأنى لهم الرد إلى الدنيا من مكان بعيد أي: من الآخرة إلى الدنيا وأمال أنى محضة حمزة والكسائي، وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح. {وقد} أي: كيف لهم ذلك والحال أنهم قد {كفروا به} أي: بالذي طلب منهم أن يؤمنوا به محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو البعث {من قبل} أي: في دار العمل {و} الحال أنهم حال كفرهم {يقذفون} أي: يرمون {بالغيب} ويتكلمون بما يظهر لهم في الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعن وهو قولهم: ساحر وشاعر وكاهن، وفي القرآن سحر شعر كهانة وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار {من مكان بعيد} أي: ما غاب علمه عنهم غيبة بعيدة وهذا تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً ولا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه. {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} أي: من نفع الإيمان يومئذ والنجاة من النار والفوز بالجنة، أو من الرد إلى الدنيا كما حكى عنهم {أرجعنا نعمل صالحاً} ، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم الحاء وهو المسمى بالإشمام والباقون بكسرها {كما فعل} أي: بأيسر وجه {بأشياعهم} أي: أشباهم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم {من قبل} أي: قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم بل كان كلما كذب أمة رسولها أخذناها فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا فلم يقبل منهم ذلك ولا نفعهم شيئاً لا بالكف عن إهلاكهم ولا لإدراكهم شيئاً من الخير بعد إهلاكهم {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق: 37) ثم علل عدم الوصول إلى قصدهم بقوله تعالى: مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك في شيء من أمرهم {إنهم كانوا} أي: في دار القبول {في شك} أي: في جميع ما تخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء والبعث وغير ذلك {مريب} أي: موقع في الريبة فهو بليغ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 في بابه كما يقال: عجب عجيب أو هو واقع في الريب كما يقال: شعر شاعر أي: ذو شعر فهو اسم فاعل من أراب أي: أتى بالريب أو دخل فيه أي: أوقعته في الريب، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز قال الزمخشري: إلا أن بينهما فرقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعني، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر انتهى، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً» حديث موضوع. سورة فاطر مكية هي ست وأربعون آية، ومائة وسبعةوتسعون كلمة، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفاً وهي ختام السور المفتتحة باسم الحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة وهي: الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بإنهاء القدرة وأحكمها المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محله. {بسم الله} الذي أحاطت دائرة قدرته بالممكنات {الرحمن} الذي عم الخلق بعموم الرحمة {الرحيم} الذي شرف أهل الكرامة بدوام المراقبة. ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام كما يكون بالإعطاء والإنعام قال تعالى ما هو نتيجة ذلك: {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً {لله} أي: وحده. ولما كان الإيجاد من العدم أدل دليل على ذلك قال تعالى دالاً على استحقاقه للمحامد {فاطر السموات والأرض} أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق قاله ابن عباس، أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض، وعن مجاهد عن ابن عباس ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي: ابتدأتها. تنبيه: إن جعلت إضافة فاطر محضة كان نعتاً، وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً وهو قليل من حيث إنه مشتق. ولما كانت الملائكة عليهم السلام مثل الخافقين في أن كلا منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر أخبر عنهم بعدما أخبر عما طريقه المشاهدة بقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون رسالته بالوحي والإلهام والرؤية الصادقة، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه {أولي} أي: أصحاب {أجنحة} يهيئهم لما يراد منهم، ثم وصفها بقوله تعالى: {مثنى} أي: جناحين لكل واحد من صنف منهم {وثلاث} أي: ثلاثة ثلاثة لصنف آخر منهم {ورباع} أي: أربعة أربعة لصنف آخر منهم، فهم متفاوتون بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ويسرعون بها نحو ما وكلهم الله تعالى عليه فيتصرفون فيه على ما أمرهم به، وإنما لم تصرف هذه الصفات لتكرر العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر، وحذام عن حاذمة. {يزيد في الخلق ما يشاء} أي: يزيد في خلق الأجنحة وفي غيره ما تقتضيه مشيئته، والأصل: الجناحان؛ لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل وذلك أقوى للطيران وأعون عليه، فإن قيل: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة؟ أجيب: بأن الثالث لعله يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران، قال الزمخشري: فقد مرّ بي في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى انتهى. وروى ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينثر من رأسه الدر والياقوت» ، وروي أنه عليه السلام: «سأل جبريل أن يتراءى في صورته فقال: إنك لن تطيق ذلك فقال: إني أحب أن تفعل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال: سبحان الله ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله تعالى حتى يعود مثل الوصع، وهو العصفور الصغير» . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {يزيد في الخلق ما يشاء} وهو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن، وقيل: هو الخط الحسن، وعن قتادة: الملاحة في العينين، والآية كما قال الزمخشري: مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش، ومتانة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم وحسن تأنَ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف. ثم علَّل تعالى ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث {إن الله} أي: الجامع لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} وتخصيص بعض الأشياء دون بعض إنما هو من جهة الإرادة، قال أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السموات والأرض ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه، وأنه الأهل للحمد والمستحق إذ الكل خلقه وملكه، وتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه وتجردت هذه للتعريف بالاختراع والخلق. ولما وصف سبحانه نفسه المقدسة بالقدرة الكاملة دلَّ على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، وقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً: {ما} أي: مهما فهي شرطية {يفتح الله} أي: الذي لا يكافئه شيء {للناس} لأن كل ما في الوجود لأجلهم {من رحمة} أي: من الأرزاق الحسية والمعنوية، من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر قلّت أو كثرت فيرسلها {فلا ممسك لها} أي: الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه إذا حصل له خير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 لا يعدمه من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله ولا يقدر على تأثير ما فيه {وما يمسك فلا مرسل له} يطلقه، واختلاف الضميرين، لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة، والثاني مطلق يتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه. ولما كان ربما ادعى أحد فجوراً حال إمساك الرحمة أو النعمة أنه هو الممسك قال تعالى {من بعده} أي: إمساكه وإرساله {وهو} أي: هو فاعل ذلك، والحال أنه هو وحده {العزيز} أي: القادر على الإمساك والإرسال الغالب على كل شيء، ولا غالب له {الحكيم} أي: الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراده على قوانين الحكمة فلا يستطاع نقض شيء منه. ولما بيَّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يعود إلى الشكر وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود قال: {يا أيها الناس} أي: الجميع؛ لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله تعالى، وعن ابن عباس يريد يا أهل مكة {اذكروا} بالقلب واللسان {نعمت الله} أي: الذي لا منعم في الحقيقة سواه {عليكم} أي: في دفع ما دفع عنكم من المحن وصنع ما صنع لكم من المنن لتشكروه ولا تكفروه. تنبيه: {نعمت} هنا مجرورة في الرسم وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء. ولما أمر بذكر نعمته أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته بقوله تعالى منبهاً لمن غفل موبخاً لمن جحد ورادَّاً على أهل القدر الذين يدعون أنهم يخلقون أفعالهم ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول {هل من خالق} أي: للنعم وغيرها {غير الله} أي: فليس لغيره في ذلك مدخل يستحق أن يشرك به، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء نعتاً لخالق على اللفظ ومن خالق مبتدأ مزاد فيه من، والباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر المبتدأ، والثاني: أنه صفة لخالق على الموضع والخبر إما محذوف وإما يرزقكم. والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية؛ لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام. ولما كان جواب الاستفهام قطعاً لا بل هو الخالق وحده قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول بقوله تعالى: {يرزقكم} أي: وحده فنعمة الله تعالى مع كثرتها منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء. ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال {من السماء} أي: بالمطر وغيره {والأرض} أي: بالنبات وغيره. ولما بين تعالى أنه الرازق وحده قال {لا إله إلا هو فأنىَّ تُؤفكون} أي: من أين تصرفون عن توحيده مع إقراركم بأنه الخالق الرازق وتشركون المنحوت بمن له الملكوت. ولما بين تعالى الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى: {وإن يكذبوك} أي: يا أشرف الخلق في مجيئك بالتوحيد والبعث والحساب والعقاب وغير ذلك {فقد كذبت رسل من قبلك} في ذلك، فإن قيل: فما وجه صحة جزاء الشرط ومن حق الجزاء أن يعقب الشرط وهذا سابق له؟ أجيب: بأن معناه وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك فوضع {فقد كذبت رسل من قبلك} موضع «فتأس» استغناء بالسبب عن المسبب أعني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 بالتكذيب عن التأسي، فإن قيل: ما معنى التنكير في رسل؟ أجيب: بأن معناه فقد كذبت رسل أي: رسل ذوو عدد كثير وأولو آيات ونذر وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم وما أشبه ذلك، وهذا أسلى له وأحث على المصابرة. قال القشيري: وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتعنتين. ثم بين من حيث الإجمال أن المكذِّب في العذاب، وأن المكذَّب له الثواب بقوله تعالى: {وإلى الله} أي: وحده؛ لأن له الأمور كلها {ترجع الأمور} أي: في الآخرة فيجازيكم وإياهم على الصبر والتكذيب. ثم بين تعالى الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى: {يا أيها الناس} ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله تعالى {إن وعد الله} أي: الذي له صفات الكمال بكل ما وعد به من البعث وغيره {حق} أي: ثابت لا خلف فيه، وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب ويعرض عن الأحساب والأنساب {فلا تغرنكم} أي: بأنواع الخداع من اللهو والزينة {الحياة الدنيا} فإنه لا يليق بذي همة علية اتباع الدنيء والرضا بالدون الزائل عن العالي الدائم {ولا يغرنكم بالله} أي: الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعال {الغرور} أي: الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو، ولذلك استأنف قوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار: {إن الشيطان} أي: المحترق بالغضب البعيد عن الخبر {لكم} أي: خاصة {عدو} فهو في غاية الفراغ لأذاكم بتصويب مكايده كلها إليكم، وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم، وأيضاً من عادى أباك فقد عاداك فاجتهدوا في الهرب منه ولا توالوه كما قال تعالى {فاتخذوه} أي: بغاية جهدكم {عدواً} أي: في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجدنَّ منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. قال القشيري: ولا تقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب، فإنه لا يغفل عن عداوتك فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة. ثم علل عداوته بقوله {إنما يدعو حزبه} أي: الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله تعالى {ليكونوا} باتباعه كوناً راسخاً {من أصحاب السعير} وهذا غرضه لا غرض له سواه ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسّوف لهم بها بالفسحة في الأمل والإبعاد في الأجل للإفساد في العمل، والرحمن إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم كما قال تعالى {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25) . ثم بين تعالى ما حال حزب الشيطان بقوله تعالى: {الذين كفروا لهم عذاب شديد} أي: في الدنيا بفوات ما يأملونه مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجراً، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها، ثم بين حزبه تعالى بقوله سبحانه {والذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك من المأمورات {لهم مغفرة} أي: ستر لذنوبهم في الدنيا ولولا ذلك لافتضحوا، وفي الآخرة بحيث لا عتاب ولا عقاب ولولا ذلك لهلكوا {أجر كبير} هو الجنة والنظر إلى وجهه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 الكريم، فالمغفرة في مقابلة الإيمان فلا يؤبد مؤمن في النار، والأجر الكبير في مقابلة العمل الصالح، ونزل كما قال ابن عباس في أبي جهل ومشركي العرب: {أفمن زين له سوء عمله} أي: قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالاً أو مآلاً بأن غلب وهمه وهواه على عقله {فرآه} أي: السيء بسبب التزيين {حسناً} أي: عملاً صالحاً {فإن} أي: السبب في رؤية الأشياء على غير ما هي عليه أن {الله} أي: الذي له الأمر كله {يضل من يشاء} فلا يرى شيئاً على ما هو به فيقدم على الهلاك البيِّن وهو يراه عين النجاة {ويهدي من يشاء} فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلا حسناً. تنبيه: من موصول مبتدأ وما بعده صلته، والخبر محذوف، واختلف في تقديره فقدره الكسائي: تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة قوله تعالى تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة قاهرة {فلا تذهب نفسك عليهم} أي: المزيّن لهم {حسرات} أي: لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر، وقدره الزجاج وأضله الله كمن هداه، وقدره غيرهما كمن لم يزين له، وهو أحسن لموافقته لفظاً ومعنى، ونظيره {أفمن كان على بينة من ربه} (هود: 17) أي: كمن هو أعمى {أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} (الرعد: 19) وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في أصحاب الأهواء والبدع قال قتادة: منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم، فأما أهل الكتاب فليسوا منهم؛ لأنهم لا يستحلون الكبائر {إن الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {عليم} أي: بالغ العلم {بما يصنعون} فيجازيهم عليه. ثم عاد تعالى إلى البيان بقوله سبحانه: {والله} أي: الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها {الذي أرسل الرياح} أي: أوجدها من العدم فهبوبها دليل على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب وقد لا ينشئ فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر مؤثر مقدر وقوله تعالى {فتثير سحاباً} عطف على أرسل؛ لأن أرسل بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرسل لتحقيق وقوعه وب «تثير» لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة كقوله تعالى {أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} (الحج: 63) ولما أسند فعل الإرسال إليه تعالى وما يفعله يكون بقوله تعالى: {كن} فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة تكوينه فكأنه كان، ولأنه فرغ عن كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهي تؤلف في زمان فقال {تثير} أي: على هيئتها، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد، والباقون بالجمع وقوله تعالى {فسقناه} فيه التفاف عن الغيبة {إلى بلد ميت} أي: لا نبات بها، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء، والباقون بالتخفيف {فأحيينا به} أي: بالمطر النازل منه، وذِكْر السحاب كذكر المطر حيث أقيم مقامه أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطراً {الأرض} بالنبات والكلأ {بعد موتها} أي: يَبَسِها. تنبيه: العدول في: «سقنا» و «أحيينا» من الغيبة في قوله تعالى {والله الذي أرسل الرياح} إلى ما هو أدخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 في الاختصاص وهو التكلم فيهما لما فيهما من مزيد الصنع، والكاف في قوله تعالى {كذلك} في محل رفع أي: مثل إحياء الموات {النشور} للأموات وجه الشبه من وجوه: أولها: أن الأرض الميتة قبلت الحياة كذلك الأعضاء تقبل الحياة. ثانيها: كما أن الريح يجمع السحاب المقطع كذلك تجمع الأعضاء المتفرقة. ثالثها: كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت كذلك نسوق الروح إلى الجسد الميت. فإن قيل: ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟ أجيب: بأنه تعالى لما ذكر كونه فاطر السموات والأرض وذكر من الأمور السماوية الأرواح وإرسالها بقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} (فاطر: 1) ذكر من الأمور الأرضية الرياح، وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: هل مررت بواد أهلك محلاً ثم مررت به يهتز؟ فقال: نعم فقال: فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه» وقيل: يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق. ولما كان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال تعالى {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً} (مريم: 81) والذين آمنوا بألسنتهم غير مواطئة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال تعالى {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً} (النساء: 139) بين تعالى أن لا عزة إلا لله بقوله سبحانه: {من كان} أي: في وقت من الأوقات {يريد العزة} أي: الشرف والمنعة {فلله العزة جميعاً} أي: في الدنيا والآخرة، والمعنى: فليطلبها عند الله، فوضع قوله تعالى {فلله العزة جميعاً} موضعه استغناء به عنه لدلالته عليه، لأن الشيء لا يطلب إلا من عند صاحبه ومالكه، ونظيره قوله: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، يريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه، وقال قتادة: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله تعالى ومعناه: الدعاء إلى الطاعة من له العزة أي: فليطلب العزة من عند الله بطاعته، كما يقال من كان يريد المال فالمال لفلان أي: فليطلبه من عنده. ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله تعالى: {إليه} أي: لا إلى غيره {يصعد الكلم الطيب} قال المفسرون: هو قول لا إله إلا الله، وقيل: هو قول الرجل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وعن ابن مسعود قال: إذا حدثتكم حديثاً أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل: «ما من عبد مسلم يقول: خمس كلمات سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وتبارك الله إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صعد بهن فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيي بها وجه رب العالمين» ومصداقه من كتاب الله عز وجل قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب} وقيل: الكلم الطيب ذكر الله، وعن قتادة إليه يصعد الكلم الطيب أي: يقبل الله الكلم الطيب، وقيل: الكلم الطيب يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن، وعن الحاكم موقوفاً وعن الثعلبي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: «هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل» . {والعمل الصالح يرفعه} أي: يقبله فصعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله تعالى إياهما، أو صعود الكتبة بصحفهما، أو المستكن في يرفعه لله تعالى، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة وقال سفيان بن عيينة: العمل الصالح هو الخالص يعني الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال لقوله تعالى {فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (الكهف: 110) فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء. تنبيه: صعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 تعالى إياهما، أو صعود الكتبة بصحفهما والمستكن في {يرفعه} لله تعالى، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة أو للكلم، فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد أو للعمل فإنه يحقق الإيمان ويقويه، قال الرازي في «اللوامع» : «العلم لا يتم إلا بالعمل كما قيل: العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل» انتهى. وقد قيل: *لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يصدق ما يقول فعاله* *فإذا وزنت مقاله بفعاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جماله* وقال الحسن: الكلم الطيب ذكر الله تعالى، والعمل الصالح أداء فرائضه فمن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، فمن قال حسناً وعمل غير صالح ردّ الله تعالى عليه قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه الله. ولما بيّن ما يحصل العزة من عليّ الهمة بين ما يكسب المذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة بقوله تعالى: {والذين يمكرون} أي: يعملون على وجه المكر أي: الستر، المكرات: {السيئات} أي: مكرات قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث: حبسه وقتله وإجلاؤه كما قال تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} الآية (الأنفال: 30) ، وقال الكلبي: معناه يعملون السيئات وقال مقاتل: يعني الشرك، وقال مجاهد: هم أصحاب الرياء {لهم عذاب شديد} أي: لا توبة دونه بما يمكرون {ومَكْر أولئك} أي: البعداء من الفلاح {هو} أي: وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره {يبور} أي: يفسد ولا ينفذ إذ الأمور مقدرة فلا تتغتير بسبب مكرهم كما دل عليه بقوله تعالى: {والله خلقكم من تراب} أي: بتكوين أبيكم آدم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ثم} أي: بعد ذلك في الزمان والرتبة خلقكم {من نطفة} أي: جعلها أصلاً ثانياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه {ثم} بعد أن أنهى التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار {جعلكم أزواجاً} أي: بين ذكور وإناث دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار، وعن قتادة: زوج بعضكم بعضاً. تنبيه: يصح أن يقال كما قال ابن عادل: خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم عليه السلام وكلهم من تراب ومن نطفة؛ لأن كلهم من نطفة، والنطفة من غذاء، والغذاء ينتهي بالآخرة إلى الماء والتراب فهم من تراب صار نطفة. ولما بين تعالى بقوله سبحانه: {خلقكم من تراب} كمال قدرته بين بقوله سبحانه {وما تحمل من أنثى ولا تضع} أي: حملاً {إلا} أي: مصحوباً {بعلمه} أي: في وقته ونوعه وشكله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمّه التي هي أقرب إليه فلا يكون إلا بقدرته فما شاء أتمه وما شاء أخرجه كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله تعالى: {وما يعمر من معمر} أي: وما يمد في عمره من مصغره إلى كبر، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه فمعناه: وما يعمر من أحد، وفي عود ضمير قوله تعالى {ولا ينقص من عمره} قولان: أحدهما: أنه يعود على معمر آخر؛ لأن المراد بقوله تعالى: {من معمر} الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى؛ لأنه بعد أن فرض كونه معمراً استحال أن ينقص من عمره نفسه كما يقال: لفلان عندي درهم ونصفه أي: نصف درهم آخر. والثاني: أنه يعود على المعمر نفسه لفظاً ومعنى، والمعنى: أنه إذا ذهب من عمره حول أحصى وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص، وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ومنه قول الشاعر: *حياتك أنفاس تعد فكلما ... مضى نفس منك انتقصت به جزأ* وقال الزمخشري: هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض يقولون: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق قال: وفيه تأويل آخر وهو: أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون فقد نقص عن عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» . وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله تعالى عنه: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله فقيل لكعب: أليس قد قال الله تعالى {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) فقال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ هذه الآية وقد استفاض على الألسنة: أطال الله تعالى بقاءك، وفسح في مدتك وما أشبهه. وعن سعيد بن جبير: يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخره، وعن قتادة المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب في قوله تعالى {إلا في كتاب} أي: مكتوب فيه عمر فلان كذا وكذا، وعمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا إن لم يعمل كذا هو اللوح المحفوظ قاله ابن عباس، قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله تعالى أو صحيفة الإنسان. ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد ولا يحصره الحد فكان في عداد ما ينكره الجهلة قال تعالى مؤكداً لسهولته {إن ذلك} أي: الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها {على الله} أي: الذي له جميع العزة {يسير} أي: هين. وقوله تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذب} أي: طيب حلو لذيذ ملائم طبعه {فرات} أي: بالغ العذوبة {سائغ شرابه} أي: شربه مرئ سهل انحداره لما له من اللذة والملايمة للطبع {وهذا ملح أجاج} أي: جمع إلى الملوحة المرارة فلا يسوغ شرابه بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 ضرب مثلاً للمؤمن والكافر، وقوله تعالى: {ومن كل} أي: الملح والعذب {تأكلون} أي: من السمك المنّوع إلى أنواع تفوت الحصر {لحماً طرياً} أي: شهي المطعم {وتستخرجون} أي: من الملح دون العذب {حلية تلبسونها} أي: نساؤكم من الجواهر الدر والمرجان وغيرهما، ذكر استطراداً في صفة البحرين وما فيهما من النعم وتمام التمثيل، والمعنى: كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو مقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما أفسده، وغيره عن كمال فطرته فلا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصة العظمة وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر. وقيل: تخرج الحلية منهما كما هو ظاهر قوله تعالى {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن: 22) قال البغوي: لأنه قد يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك انتهى. فائدة: عاب المبرد وغيره قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز وقالوا: إنه لحن وإنما يقال: ملح كما قال تعالى {وهذا ملح أجاج} وهم مخطئون في ذلك كما قيل: *وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم* *ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القريحة والفهوم* قال النووي: وأجاب أصحابنا بأجوبة: أصحها أن فيه أربع لغات: ملح ومالح ومليح وملاح بضم الميم وتخفيف اللام قال عمر بن أبي ربيعة: *ولو تفلت في البحر والبحر مالح ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا* وقال آخر: *وللرزق أسباب تروح وتغتدي ... وإني منها غير غاد ورائح* *قنعت بثوب العدم من حلة الغنى ... ومن بارد عذب زلال بمالح* وقال محمد بن حازم: *تلونت ألواناً علي كثيرة ... وخالط عذباً من إخائك مالح* وقال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة بنت الزبير: *ولو وردت ماء وكانت قبيله ... مليحاً شربنا ماءه بارداً عذباً* وقال الخطابي: يقال: ماء ملاح كما يقال: أجاج وزعاق وزلال قال: وإنما نزل الشافعي من اللغة العالية إلى التي هي أدنى للإيضاح وحسماً للإشكال والالتباس؛ لئلا يتوهم متوهم أنه أراد بالملح المذاب فيظن أن الطهارة به جائزة. وثاني الأجوبة: أن الشافعي إمام في اللغة فقوله فيها حجة. وثالثها: أن هذه اللفظة ليست من كلام الشافعي ولم يذكرها بل من كلام المزني وهذا ليس بشيء، وكيف ينسب الخطأ إلى المزني وعنه مندوحة، وقولهم: لم يذكرها الشافعي غير صحيح وقد أنكره البيهقي وقال: بل سمى الشافعي البحر مالحاً في كتابين «أمالي الحج» و «المناسك الكبير» . فائدة أخرى: وهي أن ابن عمر قال في البحر: التيمم أحب إلينا منه وقال: بحركم هذا نار وتحت النار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 بحر حتى عد سبعة أبحر وسبعة أنوار، ولكن روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يطهره البحر فلا طهره الله» ويؤول كلام ابن عمر بأنه سيصير يوم القيامة ناراً أو بأنه مهلكة يهلك كما تهلك النار، ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عمَّ الخطاب. ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً لكنه صار لشدة ألفه لا يقوم بأنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر خص بالخطاب فقال {وترى الفلك} أي: السفن سمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف في قوله تعالى {فيه} لأنه أشد دلالة على ذلك {مواخر} أي: جواري مستدبرة الريح شاقة للماء بجريها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة يقال: مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب: بنات مخر؛ لأنها تمخر الهواء، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر؛ لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ثم علق بالمخر معللاً قوله تعالى {لتبتغوا} أي: تطلبوا طلباً شديداً {من فضله} أي: الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها، ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك ولم يجر به ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه {ولعلكم تشكرون} أي: وليكون حالكم بهذه الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ولطفه حال من يرجى شكره. تنبيه: حرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل؟ كأنما قيل: لتبتغوا ولتشكروا. ولما ذكر تعالى اختلاف الذوات الدالة على بديع صنعه أتبعه اختلاف الأزمنة الدالة على بديع قدرته بقوله تعالى: {يولج} أي: يدخل الله {الليل في النهار} فيصير الظلام ضياء. ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة نبه عليه بإعادة الفعل بقوله تعالى: {ويولج النهار في الليل} فيصير ما كان ضياء ظلاماً، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار. ولما ذكر الليل والنهار ذكر ما ينشأ عنهما بقوله تعالى: {وسخر الشمس والقمر} ثم استأنف قوله تعالى {كل} أي: منهما {يجري} أي: في فلكه {لأجل} أي: لأجْلِ أجَلٍ {مسمى} مضروب له لا يقدر أن يتعداه، فإذا جاء ذلك الأجل غرب هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم فيختل هذا النظام بإذن الملك العلام، وتقوم الناس ليوم الزحام وتكون الأمور العظام. ولما ذكر سبحانه أنه الفاعل المختار القادر على ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره وختم بما تكرر مشاهدته في كل يوم مرتين أنتج ذلك قطعاً قوله تعالى معظماً بأداة البعد وميم الجمع {ذلكم} أي: العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها {الله} الذي له صفة كل كمال، ثم نبههم على أنه لا مدبر لهم سواه بخبر آخر بقوله تعالى: {ربكم} أي: الموجد لكم من العدم المربّي بجميع النعم لا رب لكم سواه، ثم استأنف قوله تعالى: {له} أي: وحده {الملك} أي: كله وهو مالك كل شيء {والذين تدعون} أي: تعبدون {من دونه} أي: غيره وهم الأصنام وغيرها وكل شيء دونه {ما يملكون} في حال من الأحوال وأعرق في النفي بقوله تعالى: {من قطمير} وهو كما روي عن ابن عباس: لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة الملتفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 عليها، كناية عن أدنى الأشياء فكيف بما فوقه؟ فليس لهم شيء من الملك، والآية من الاحتباك ذكر الملك أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والملك ثانياً دليلاً على حذفه أولاً. وقيل: القطمير هو القمع وقيل: ما بين القمع والنواة، ففي النواة على الأول أربعة أشياء يضرب بها المثل: في القلة الفتيل: وهو ما في شق النواة، والقطمير: وهو اللفافة والنقير: وهو ما في ظهر النواة والرقروق: وهو ما بين القمع والنواة ثم بين ذلك بقوله تعالى: {إن تدعوهم} أي: المعبودات من دونه دعاء عبادة أو استعانة {لا يسمعوا دعاءكم} أي: لأنهم جماد {ولو سمعوا} أي: على سبيل الفرض والتقدير {ما استجابوا لكم} أي: لعدم قدرتهم على الانتفاع. ولما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في الآخرة بقوله سبحانه {ويوم القيامة} أي: حين ينطقهم الله تعالى {يكفرون بشرككم} أي: بإشراككم فينكرونه ويتبرؤن منه بقولهم {ما كنتم إيّانا تعبدون} (يونس: 28) كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في آية أخرى {ولا ينبئك} أي: يخبرك أي: السامع بالأمر مخبر هو {مثل خبير} أي: عالم به أي: أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به؛ لأنه لا يمكن الطعن في شيء مما أخبر به بخلاف غيره والمعنى: أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق؛ لأني خبير بما أخبرت به. ولما اختص تعالى بالملك ونفى عن شركائهم النفع أنتج ذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس} أي: كافة {أنتم} أي: خاصة {الفقراء} وقوله سبحانه {إلى الله} إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه، وهذا يوجب عبادته لكونه مفتقر إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره. فإن قيل: لم عرف الفقراء؟ أجيب: بأنه قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم؛ لأن الفقر يتبع الضعف وكلما كان الفقير أضعف كان أحقر، وقد شهد الله تعالى على الإنسان بالضعف في قوله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفاً} (النساء: 28) وقال تعالى {الله الذي خلقكم من ضعف} (الروم: 54) ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. قال القشيري: والفقر على ضربين: فقر خلقة، وفقر صفة فالأول عام، فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبدئه وينشئه، وفي ثانيه ليديمه ويبقيه، وأما فقر الصفة: فهو التجرد وفقر العوام التجرد عن المال، وفقر الخواص التجرد عن الإعلال فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلومات. ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم فقال: {والله هو الغني} أي: المستغني على الإطلاق فلا يحتاج إلى أحد ولا إلى عبادة أحد من خلقه، وإنما أمرهم بالعبادة لإشفاقه تعالى عليهم ففي هذا رد على المشركين حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله لعله محتاج إلى عبادتنا حتى أمرنا بها أمراً بالغاً وهددنا على تركها مبالغاً، فإن قيل: قد قابل الفقر بالغنى فما فائدة قوله تعالى {الحميد} أي: المحمود في صنعه بخلقه؟ أجيب: بأنه لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم وليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان الغني منعماً جواداً، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد ذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه الجواد المنعم عليهم المستحق بإنعامه أن يحمدوه وقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 {إن يشأ يذهبكم} أي: جميعاً بيان لغنائه وفيه بلاغة كاملة؛ لأن قوله تعالى {إن يشأ يذهبكم} أي: ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه: إن شاء فلان هدم داره، وإنما يقال: لولا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله تعالى: {ويأت بخلق جديد} أي: إن كان يتوهم متوهم أن بهذا الملك كماله وعظمته فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا وأجمل، وعن ابن عباس: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً. {وما ذلك} أي: الأمر العظيم من الإذهاب والإتيان {على الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال خاصة {بعزيز} أي: بممتنع ولا شاق وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد، فإن قيل: استعمل تعالى العزيز تارة في القائم بنفسه فقال تعالى في حق نفسه {وكان الله قوياً عزيزاً} (الأحزاب: 25) وقال في هذه السورة {عزيز غفور} (فاطر: 28) واستعمله تارة في القائم بغيره فقال تعالى {وما ذلك على الله بعزيز} وقال تعالى {عزيز عليه ما عنتم} (التوبة: 128) فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ أجيب: بأن العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال: هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله تعالى {وما ذلك على الله بعزيز} أي: ذلك الفعل لا يغلبه بل هو هيّن على الله تعالى وقوله سبحانه {عزيز عليه ما عنتم} أي: يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب. وقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فيه حذف الموصوف للعلم به أي: ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} ؟ (العنكبوت: 13) أجيب: بأن تلك الآية في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وكل ذلك أوزارهم وليس فيها شيء من أوزار غيرهم. {وإن تدع} أي: نفس {مثقلة} أي: بالوزر {إلى حملها} أي: من الوزر أحداً ليحمل بعضه {لا يحمل} أي: من حامل ما {منه شيء} أي: لا طواعية ولا كرهاً بل لكل امرئ شأن يغنيه {ولو كان} ذلك الداعي أو المدعو للحمل {ذا قربى} لمن دعاه. فإن قيل: ما الفرق بين معنى قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ومعنى قوله تعالى {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء} ؟ أجيب: بأن الأول: في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في أن لا غياث يومئذ بمن استغاث حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لَوْدَعت إلى أن تخفف بعض وزرها لم تجب ولم تغث، وإن كان الداعي أو المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ قال ابن عباس: يلقى الأب أو الأم ابنه فيقول: يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي. تنبيه: أضمر الداعي أو المدعو بدلالة إن تدع عليه. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك فلم ينفعهم نزل {إنما تنذر} أي: إنذاراً يفيد الرجوع عن الغي {الذين يخشون ربهم} أي: المحسن إليهم فيوقعون هذا الفعل في الحال ويواطئون عليه في الاستقبال، ولما كان أولى الناس عقلاً وأعلاهم همة من كان غيبه مثل حضوره قال تعالى {بالغيب} وهو حال من الفاعل أي: يخشونه غائبين بين عنه أو من المفعول أي: غائباً عنهم. ولما كانت الصلاة جامعة للخضوع الظاهر والباطن فكانت أشرف العبادات وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص قال تعالى معبراً بالماضي؛ لأن مواقيت الصلاة مضبوطة {وأقاموا} أي: دليلاً على خشيتهم {الصلاة} في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن {ومن تزكى} أي: تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي {فإنما يتزكى لنفسه} إذ نفعه لها {وإلى الله} أي: الذي لا إله غيره {المصير} أي: المرجع كما كان منه المبدأ فيجازي كلاً على فعله. ثم لما بين تعالى الهدى والضلالة وهدى الله تعالى المؤمن ولم يهد الكافر ضرب لهما مثلاً بقوله تعالى: {وما يستوي الأعمى} أي: عن الهدى {والبصير} بالهدى أي: المؤمن والكافر وقيل: الجاهل والعالم، وقيل: هما مثلاً للصنم ولله تعالى. {ولا الظلمات} أي: الكفر {ولا النور} أي: الإيمان، أو ولا الباطل ولا الحق. {ولا الظل} أي: الجنة {ولا الحرور} أي: النار، أو ولا الثواب ولا العقاب. تنبيه: قال ابن عباس: الحرور الريح الحارة بالليل، والسموم بالنهار وقيل: الحرور تكون بالنهار مع الشمس، وقيل: السموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار. وقوله تعالى {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} تمثيل آخر للمؤمن والكافر أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل: للعلماء وللجهال. تنبيه: زيادة لافي الثلاثة لتأكيد نفي الاستواء، وجاء ترتيب هذه المنفيات على أحسن الوجوه، فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير مثلين للمؤمن والكافر عقب بما كل منهما فيه، والكافر في ظلمة والمؤمن في نور؛ لأن البصير وإن كان حديد البصر لابد له من ضوء يبصر فيه، وقدم الأعمى؛ لأن البصير فاصله فحسن تأخيره، ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور، ولأن النور فاصلة، ثم ذكر ما لكل منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور وأخر الحرور لأجل الفاصلة كما مر، وقولنا: لأجل الفاصلة أولى من قول بعضهم لأجل السجع؛ لأن القرآن ينبو عن ذلك، وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع. وإنما كرر الفعل في قوله تعالى {وما يستوي الأحياء} مبالغة في ذلك؛ لأن المنافاة بين الحياة والموت أتمّ من المنافاة المتقدمة، وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يعد لا تأكيداً في قوله تعالى {الأعمى والبصير} وكرّرها في غيره؛ لأن منافاة ما بعده أتم، فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم يصير أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظل والحرور، والظلمات والنور، فإنها منافية أبداً لا يجتمع اثنان منها في محل، فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمة. فإن قيل: الحياة والموت بمنزلة العمى والبصر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت، أجيب: بأن المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير؛ لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت، فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير؛ لأنه قابل الجنس بالجنس، وقد يوجد في أفراد العميان من يساوي بعض أفراد البصراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد. وجمع الظلمات؛ لأنها عبارة عن الكفر والضلال وطرقهما كثيرة متشعبة ووحد النور؛ لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد، فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى: الظلمات كلها لا يوجد فيها ما يساوي هذا الواحد. ثم نبه سبحانه بقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 {إن الله} أي: القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة من صفات الكمال {يسمع من يشاء} على أن الخشية والقسوة إنما هما بيده تعالى، وإن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه فيتعظ ويجيب {وما أنت} أي: بنفسك من غير إقدار الله تعالى لك {بمسمع} أي: بوجه من الوجوه {من في القبور} أي: الحسية أو المعنوية إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} (فاطر: 8) {إن} أي: ما {أنت إلا نذير} أي: تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار ولست بوكيل تقهرهم على الإيمان. ثم بين تعالى أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو بإذن الله تعالى وإرساله بقوله تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أرسلناك} أي: إلى هذه الأمة {بالحق} أي: الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيه من الدلائل علم مطابقة الواقع لما يأمر به. تنبيه: يجوز في قوله تعالى: {بالحق} أوجه: أحدها: أنه حال من الفاعل أي: أرسلناك محقين، أو من المفعول أي: محقاً، أو نعت لمصدر محذوف أي: إرسالاً متلبساً بالحق ويجوز أن يكون صلة لقوله تعالى {بشيراً} أي: لمن أطاع {ونذيراً} أي: لمن عصى {وإن} أي: وما {من أمة إلا خلا} أي: سلف {فيها نذير} أي: نبي ينذرها. تنبيه: الأمة: الجماعة الكثيرة قال تعالى {وجد عليه أمة من الناس يسقون} (القصص: 23) ويقال لكل أهل عصر أمة، والمراد ههنا أهل العصر، فإن قيل: كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يخل فيها نذير، أجيب: بأن آثار النذارة إذا كانت باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فإن قيل: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ أجيب: بأنه لما كانت النذارة مشفوعة من البشارة لا محالة دلّ ذكرها على ذكرها، لا سيما وقد اشتملت الآية على ذكرهما، أو لأن الإنذار هو المقصود والأهم من البعثة. {وإن يكذبوك} أي: أهل مكة {فقد كذب الذين من قبلهم} أي: ما أتتهم به رسلهم عن الله تعالى {جاءتهم} أي: الأمم الخالية {رسلهم بالبينات} أي: الآيات الواضحات والدلالة على صحة الرسالة من المعجزات وغيرها {وبالزبر} أي: الأمور المكتوبة كصحف إبراهيم عليه السلام {وبالكتاب} أي: جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل {المنير} أي: الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر، كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كانت طريقتك أوضح وأظهر، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث علم أن غيره كان مثله في تكذيبه وكان محتملاً لأذى القوم. تنبيه: لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب. ولما سلاه الله تعالى هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم الماضية بقوله تعالى: {ثم أخذت} أي: بأنواع الأخذ {الذين كفروا} أي: ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام عليهم ودعائهم لهم {فكيف كان نكير} أي: إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك أي: هو واقع موقعه. تنبيه: أثبت ورش الياء بعد الراء في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. ولما ذكر تعالى الدلائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 ولم ينتفعوا قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم بقوله تعالى: {ألم تر} أي: تعلم أي: أيها المخاطب {أن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {أنزل من السماء ماء} كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره: اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر ما ذكره للأول، ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة، وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول بل يأتي بما يقاربه؛ لئلا يسمع الأول كلام الآخر فيترك التفكر فيما كان وقوله تعالى {فأخرجنا} أي: بما لنا من القدرة والعظمة {به} أي: بالماء {ثمرات} أي: متعددة الأنواع، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان ذلك؛ لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء وقوله تعالى: {مختلفاً} نعت لثمرات وقوله تعالى: {ألوانها} فاعل به، ولولا ذلك لأنث مختلفاً، ولكنه لما أسند إلى جمع تكسير غير عاقل جاز تذكيره، ولو أنث فقيل: مختلفة كما تقول: اختلفت ألوانها لجاز أي: مختلفة الأجناس من الرمان والتفاح والعنب وغيرها مما لا يحصر أو الهيئات من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر. ولما ذكر تعالى تنوع ما من الماء وقدمه؛ لأنه الأصل في التكوين أتبعه التكوين من التراب الذي هو أيضاً شيء واحد بقوله تعالى ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التكوين: {ومن الجبال جدد} قال الجلال المحلّي رحمه الله تعالى: جمع جدة: طريق في الجبل وغيره وقال الزمخشري: الجدد الخطوط والطرائق، وقال أبو الفضل: الجدة ما تخالف من الطرائق لون ما يليها، ومنه جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه {بيض وحمر} وصفر وقوله تعالى {مختلف} صفة لجدد وقوله تعالى {ألوانها} فاعل به كما مر في نظيره، ويحتمل معنيين: أحدهما: أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرب أبيض أشد من أبيض وأحمر أشد من أحمر فنفس البياض مختلف وكذا الحمرة، فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المشكك. والثاني: أن الجدد كلها على لونين بياض وحمرة والبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا باعتبار محلهما. وقوله تعالى {وغرابيب سود} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه معطوف على حمر عطف ذي لون على ذي لون. ثانيها: أنه معطوف على بيض. ثالثها: واقتصر عليه الجلال المحلي أنه معطوف على جدد أي: صخور شديدة السواد قال الجلال المحلي: يقال كثيراً: أسود غربيب، وقليلاً غربيب أسود، وقال البغوي: أي: سود غرابيب على التقديم والتأخير يقال: أسود غربيب أي: شديد السواد تشبيهاً بلون الغراب أي: طرائق سود، وعن عكرمة: هن الجبال الطوال السود، وقال الزمخشري: الغربيب تأكيد للأسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد كقولك: أصفر فاقع، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده مفسراً لما أضمر كقوله النابغة الجعدي: *والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسغد* هما موضعان والمؤمن: اسم الله وهو مجرور بالقسم والعائذات: منصوب بالمؤمن والمراد بها: الحمام لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم التعرض لها، والطير منصوب بالبدل أو بعطف البيان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 ووجه الاستدلال بذلك: أن الطير دال على المحذوف وهو مفعول لمؤمن والعائذات الطير، قال أبو حيان: وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد، ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك، ورد عليه بأن هذا ليس هو التأكيد المختلف في حذف مؤكده؛ لأن هذا من باب الصفة والموصوف ومعنى تسميه الزمخشري له توكيداً من حيث إنه لا يفيد معنى زائداً وإنما يفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون، والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول توكيداً فقالوا: وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو قوله تعالى {نفخة واحدة} (الحاقة: 13) و {إلهين اثنين} (النحل: 51) والتوكيد المختلف في حذف مؤكده، إنما هو في باب التوكيد الصناعي، ومذهب سيبويه جوازه، وقال ابن عادل: والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود. ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى أمر آخر بعيد من الماء وأتبعه التراب الصرف ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال: {ومن الناس والدواب} ولما كانت الدابة في الأصل اسماً لما دبَّ على الأرض ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال: {والأنعام} ليعم الكل صريحاً {مختلف ألوانه} أي: ألوان ذلك البعض الذي أفهمته من {كذلك} أي: مثل الثمار والأراضي منه ما هو ذو لون ومنه ما هو ذو لونين أو أكثر. ولما قال تعالى {ألم تر} بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعه وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته من أنه فاعل بالاختيار فهو يفعل ما يشاء قال تعالى: {إنما يخشى الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {من عباده العلماء} قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني، فالخشية بقدرة معرفة المخشي، والعالم يعلم الله فيخافه ويرجوه، وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) بين تعالى أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل، فمن ازداد منه علماً ازداد منه خشية وخوفاً، ومن كان علمه به أقل كانت خشيته أقل، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» وقال صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» . وقال مسروق: كفى بالمرء علماً أن يخشى، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله، وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم فقال له: العالم من خشي الله تعالى، قال السهروردي في الباب الثالث من معارفه: فينتفي العلم عمن لا يخشى الله تعالى كما إذا قال إنما يدخل الدار بغدادي فينتفي دخول غير البغدادي الدار، وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى أثرت فيه، فإن قيل: هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ أجيب: بأنه يختلف فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، فإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله تعالى {ولا يخشون أحداً إلا الله} (الأحزاب: 39) وهما معنيان مختلفان. تنبيه: رسم العلماء بالواو وقوله تعالى {إن الله} أي: المحيط بالجلال والإكرام {عزيز} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 غالب على جميع أمره {غفور} أي: لذنوب من أراد من عباده تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصرّ على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى. ولما بين سبحانه العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه بقوله تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله} أي: يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم، وعن مطرف: هي آية القراء، وعن الكلبي: يأخذون بما فيه، وقيل: يعلمون ما فيه ويعملون به، وعن السدي: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عطاء: هم المؤمنون {وأقاموا الصلاة} أي: أداموها {وأنفقوا مما رزقناهم} من زكاة وغيرها {سراً وعلانية} قيل: السر في المسنون والعلانية في المفروض. تنبيه: أشار تعالى بقوله سبحانه وتعالى {يتلون كتاب الله} إلى الذكر وبقوله تعالى: {وأقاموا الصلاة} إلى العمل البدني وبقوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناهم} إلى العمل المالي، وفي هاتين الآيتين الشريفتين حكمة بالغة وهي أن قوله تعالى {إنما يخشى الله} إشارة إلى عمل القلب وقوله تعالى {الذين يتلون} إشارة إلى عمل اللسان وقوله {وأقاموا الصلاة} إشارة إلى عمل الجوارح ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله تعالى وقوله تعالى {وأنفقوا مما رزقناهم} بمعنى الشفقة على خلقه وقوله تعالى {سراً وعلانية} حث على الإنفاق كيفما تهيأ، فإن تهيأ سراً فذاك وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء. ولما أحل تعالى هؤلاء بالمحل الأعلى بين حالهم بقوله تعالى: {يرجون} أي: في الدنيا والآخرة {تجارة} أي: بما عملوا {لن تبور} أي: تكسد وتهلك بل هي باقية؛ لأنها رفعت إلى من لا تضيع إليه الودائع وهي رائجة رابحة لكونه تعالى تام القدرة شامل العلم له الغنى المطلق. {ليوفيهم أجورهم} أي: جزاء أعمالهم بالثواب {ويزيدهم من فضله} قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني سوى الثواب ما لم تر عين ولم تسمع أذن، ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه تعالى كما جاء في تفسير الزيادة وهذا هو النعمة العظمى {إنه غفور شكور} قال ابن عباس رضي الله عنه: يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم، وقيل: غفور عند إعطاء الأجر شكور عند إعطاء الزيادة. تنبيه: في خبر إن من قوله {إن الذين يتلون كتاب الله} وجهان: أحدهما: أنه الجملة من قوله تعالى: يرجون تجارة أي: إن التالين يرجون، ولن تبور صفة تجارة، وليوفيهم متعلق ب يرجون أو تبور، أو بمحذوف أي: فعلوا ذلك ليوفيهم، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة. والثاني: أن الخبر إنه غفور شكور جوز هذا الزمخشري على حذف العائد أي: غفور لهم وعلى هذا فيرجون حال من أنفقوا أي: أنفقوا ذلك راجين. ولما بين تعالى الأصل الأول وهو وجود الله تعالى الواحد بالدلائل في قوله تعالى {الله الذي يرسل الرياح} وقوله تعالى {والله خلقكم} وقوله تعالى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء} ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى: {والذي أوحينا} أي: بما لنا من العظمة {إليك من الكتاب} أي: الجامع خيري الدارين. تنبيه: «من الكتاب» يجوز أن تكون من للبيان كما يقال: أرسل إلى فلان من الثياب جملة، وأن تكون للجنس، وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال: جاءني كتاب من الأمير، وعلى كل فالكتاب يمكن أن يراد به اللوح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 المحفوظ يعني: الذي أوحينا من اللوح المحفوظ {هو الحق} أي: الكامل في الثبات ومطابقة الواقع، ويمكن أن يراد به القرآن وهو ما اقتصر عليه الجلال المحلي يعني: الإرشاد والتبيين اللذين أوحينا إليك من القرآن، ويمكن أن تكون من للتبعيض وهو فصل أو مبتدأ وقوله تعالى {مصدقاً لما بين يديه} أي: لما تقدمه من الكتب حال مؤكدة؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق وهذا تقرير لكونه وحياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن قارئاً كاتباً وأتى ببيان ما في كتاب الله لا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فإن قيل: لم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن؟ أجيب: بأن القرآن كونه معجزة يكفي تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بد فيه من معجزة تصدقه. تنبيه: قوله تعالى {هو الحق} آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين: أحدهما: أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور؛ لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة. الثاني: أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا: زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً ولا يعلم قيامه فيخبر به، فإذا كان الخبر معلوماً فتكون الأخبار للنسبة فتعرف باللام كقولنا: إن زيداً العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً. {إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {بعباده لخبير} أي: عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم {بصير} أي: بظواهر أمورهم وبواطنها أي: فهو يسكن الخشية والعلم في القلوب على قدر ما أوتوا من الكتاب في علمه، فأنت أحقهم بالكمال؛ لأنك أخشاهم وأتقاهم فلذلك آتيناك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية وقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب} في معناه وجهان: أحدهما: إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي: حكمنا بتوريثه أو قال تعالى {أورثنا} وهو يريد نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه وقال مجاهد: أورثنا أعطينا؛ لأن الميراث إعطاء واقتصر على هذا الجلال المحلي، وقيل: أورثنا أخرنا ومنه الميراث؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه: أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له. تنبيه: أكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن، وقيل: إن المراد جنس الكتاب {الذين اصطفينا} أي: اخترنا {من عبادنا} قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد بالعباد أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي: من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الله تعالى أورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم كل كتاب أنزله أي: لأن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وخصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله تعالى، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله تعالى، ثم قسمهم بقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} أي: في التقصير بالعمل به {ومنهم مقتصد} أي: يعمل به في أغلب الأوقات {ومنهم سابق بالخيرات} وهو من يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل. روى أسامة بن زيد في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلهم من هذه الأمة» . وروى أبو عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وروى أبو الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {ثم أورثنا الكتاب} الآية (فاطر: 34) قال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة، ثم قرأ قوله تعالى {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} الآية. وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية فقالت: يا بني كلهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم، وأما الظالم فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا، وقال مجاهد والحسن: فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المشأمة، ومنهم مقتصد هم أصحاب الميمنة، ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: السابق المؤمن المخلص، والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله تعالى غير الجاحد لها؛ لأنه تعالى حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقيل: الظالم هو الراجح السيئات، والمقتصد هو الذي تساوت سيئاته وحسناته، والسابق هو الذي رجحت حسناته، وقيل: الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه، والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه، والسابق من باطنه خير من ظاهره، وقيل: الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد: هو الموحد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد. وقيل: الظالم صاحب الكبيرة، والمقتصد صاحب الصغيرة، والسابق المعصوم، وقيل: الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل به، والمقتصد التالي العالم غير العامل، والسابق التالي العالم العامل، وقيل: الظالم الجاهل، والمقتصد المتعلم، والسابق العالم. وقال جعفر الصادق: بدأ بالظالم إخباراً بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وإن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنّى بالمقتصد؛ لأنه بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة، وقال أبو بكر الوراق: رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس؛ لأن أحوال العبد ثلاثة: معصية وغفلة، ثم توبة، ثم قربة، فإذا عصى دخل في حياز الظالمين، فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين، فإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين، وقيل غير ذلك والله أعلم. ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات ولا يوجد بالكسب والاجتهاد أشار إلى عظمته بقوله تعالى: {بإذن الله} أي: بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الجمال والجلال والكمال وتسهيله وتيسيره، لئلا يأمن أحد مكره تعالى، قال الرازي في «اللوامع» : ثم من السابقين من يبلغ محل القرب فيستغرق في وحدانيته تعالى {ذلك} أي: إيراثهم الكتاب أو السبق أو الاصطفاء {هو الفضل الكبير} . ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوالهم بين جزاءهم ومالهم بقوله تعالى مستأنفاً جواباً لمن سأل عن ذلك: {جنات عدن} أي: إقامة بلا رحيل؛ لأنه لا سبب للترحيل عنها وقوله تعالى {يدخلونها} أي: الثلاثة أصناف، خبر جنات عدن ومن دخلها لم يخرج منها؛ لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 الخروج منها، وقرأ أبو عمرو بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء. ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال تعالى {يحلون فيها} أي: يلبسون على سبيل التزين والتحلي {من أساور} أي: بعض أساور {من ذهب} فمن الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين وقوله تعالى {ولؤلؤ} عطف على ذهب أي: من ذهب مرصع باللؤلؤ، أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ، وقرأ عاصم ونافع بالنصب عطفاً على محل من أساور، والباقون بالجر. تنبيه: أساور جمع أسورة وهي جمع سوار، وذكر الأساور من بين سائر الحلي في مواضع كثيرة كقوله تعالى {وحلوا أساور من فضة} (الإنسان: 21) يدل على كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال؛ لأن كثرة الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور على الفراغ من الأعمال، ولما كانت هذه الزينة لا تليق إلا على اللباس الفاخر قال تعالى {ولباسهم فيها حرير} . {وقالوا} أي: ويقولون عند دخولهم، وعبر عنه بالماضي تحقيقاً له {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حزن النار، وقال قتادة: حزن الموت وقال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع بهم، وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب وخوف رد الطاعات، وقال القاسم: حزن زوال النعم وخوف العاقبة، وقيل: حزن أهوال القيامة، وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: الحزن في الدنيا، وقيل: همّ المعيشة، وقال الزجاج: أذهب الله تعالى عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد أي: وهذا أولى الكل قال عليه الصلاة والسلام: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» . ثم قالوا {إن ربنا} أي: المحسن إلينا مع إساءتنا {لغفور} أي: محّاء للذنوب عيناً وأثراً للصنفين الأولين ولغيرهما من المذنبين {شكور} للصنف الثالث ولغيره من المطيعين. تنبيه: ذكر الله تعالى عن هذه الثلاثة ثلاثة أمور كلها تفيد الكرامة، الأول: قولهم {الحمد لله} فإن الحامد يثاب. الثاني: قولهم {ربنا} فإن الله تعالى إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادي ما لم يكن يطلب ما لا يجوز. الثالث: قولهم {غفور شكور} والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحمدهم في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة. وقولهم: {الذي أحلنا دار المقامة} أي: الإقامة إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل منها إلى منزلة القبور، ومن القبور إلى منزلة العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق إلى دار البقاء، إما إلى الجنة، وإما إلى النار أجارنا الله تعالى ومحبينا منها. وقولهم {من فضله} أي: بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت مناً منه تعالى إذ لا واجب عليه، متعلق بأحلنا، ومن إما للعلة، وإما لابتداء الغاية. وقولهم {لا يمسنا فيها} أي: في وقت من الأوقات {نصب ولا يمسنا فيها لغوب} حال من مفعول أحلنا الأول أو الثاني، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما، وإن كان الحال من الأول أظهر، والنصب التعب والمشقة، واللغوب الفتور الناشئ عنه، وعلى هذا فيقال: إذا انتفى السبب انتفى المسبب، فإذا قيل: لم آكل فيعلم التغاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس، ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل والآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 الكريمة على ما تقرر من نفي السبب ثم نفي المسبب فما فائدته؟ أجيب: بأن النصب هو تعب البدن واللغوب هو تعب النفس، وقيل: اللغوب الوجع وحينئذ فالسؤال زائل، وأجاب الرازي بجواب قال ابن عادل: ليس بذاك فتركته. ولما بين تعالى ما هم فيه من النعمة في دار السرور التي قال فيها القائل: *علياء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء* بين ما لأعدائهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات {لهم نار جهنم} أي: بما تجهموا أولياء الله الدعاة إليه {لا يقضي} أي: يحكم {عليهم} أي: بموت ثان {فيموتوا} أي: فيتسبب عن القضاء موتهم فيستريحوا كقوله تعالى {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} (الزخرف: 77) أي: بالموت فنستريح بل العذاب دائم. تنبيه: نصب فيموتوا بإضمار أن. ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال تعالى: {ولا يخفف عنهم} وأعرق في النفي بقوله تعالى: {من عذابها} أي: جهنم. تنبيه: في الآية الأولى أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجاً فاسداً لا يحس به المعذب فقال: عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفنى وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم. الثانية: وصف العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يجابون كما قال تعالى {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} (الزخرف: 77) أي: بالموت. الثالثة، ذكر في المعذبين الأشقياء أنه لا ينقضي عذابهم ولم يقل تعالى: نزيدهم عذاباً وفي المثابين قال تعالى {ويزيدهم من فضله} (النور: 38) وقوله تعالى {كذلك} إما مرفوع المحل أي: الأمر كذلك وإما منصوبه أي: مثل ذلك الجزاء العظيم {نجزي كل كفور} أي: كافر بالله تعالى وبرسوله، وقرأ أبو عمرو بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع كل، والباقون بنون مفتوحة وكسر الزاي ونصب كل. {وهم} أي: فعل ذلك بهم والحال أنهم {يصطرخون فيها} أي: يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح من البكاء والتوجع يقولون {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا {أخرجنا} أي: من النار {نعمل صالحاً} ثم فسروه وبينوه بقولهم {غير الذي كنا نعمل} في الدنيا، فإن قيل: هلا اكتفى بقولهم {نعمل صالحاً} كما اكتفى به في قولهم {فأرجعنا نعمل صالحاً} (السجدة: 12) وما فائدة زيادة {غير الذي كنا نعمل} على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ أجيب: بأن فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} (الكهف: 104) فقالوا: أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: {أو لم نعمركم} أي: نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ. {ما} أي: زماناً {يتذكر فيه من تذكر} قال عطاء وقتادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 والكلبي: ثماني عشرة سنة وقال الحسن: أربعون سنة وقال ابن عباس: ستون سنة، وروي ذلك عن علي، وروى البزار أنه صلى الله عليه وسلم قال: «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة» وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من عمرّه الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» وأقلهم من يجوز ذلك. وقوله تعالى: {وجاءكم النذير} عطف على {أو لم نعمركم} لأنه في معنى قد عمرناكم كقوله {ألم نربك} (الشعراء: 18) ثم قال {ولبثت} وقال تعالى {ألم نشرح لك صدرك} (الشرح: 1) ثم قال تعالى {ووضعنا عنك وزرك} (الشرح: 2) إذ هما في معنى ربيناك وشرحنا، واختلف في النذير فقال الأكثرون: هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: القرآن، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع: هو الشيب، والمعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم ويقال: الشيب نذير الموت، وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها: استعدي فقد قرب الموت. ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال تعالى: {فذوقوا} أي: ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً {فما للظالمين} أي: الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها {من نصير} أي: في وقت الحاجة حتى يرفع العذاب عنهم قال البقاعي وهذا عام في كل ظالم. ولما كان تعالى عالماً بكل ما نفى وما أثبت قال تعالى: {إن الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {عالم غيب السموات والأرض} لا تخفى عليه خافية فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم وقوله تعالى {إنه عليم بذات الصدور} تعليل له؛ لأنه إذا علم مضمرات الصدور قبل أن يعلمها أربابها حتى تكون غيباً محضاً كان أعلم بغيره، ويعلم أنكم لو مدّت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وإنه لا مطمع في صلاحكم. ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به قال تعالى: {هو} أي: وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم {الذي جعلكم} أيها الناس {خلائف في الأرض} أي: يخلف بعضكم بعضاً، وقيل: جعلكم أمة واحدة خلفت من قبلها ورأت فيمن قبلها ما ينبغي أن يعتبر به، وقال القشيري: أهل كل عصر خليفة عمن تقدّمهم فمن قوم هم لسلفهم جمال ومن قوم هم أرذال وأسافل. تنبيه: خلائف جمع خليفة وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به والخلفاء: جمع خليفة قاله الأصبهاني {فمن كفر فعليه كفره} أي: وبال كفره {ولا} أي: والحال أنه لا {يزيد الكافرين} أي: المغطين للحق {كفرهم} أي: الذي هم ملتبسون به ظانون أنه يسعدهم وهم راسخون فيه غير منتقلين عنه {عند ربهم} أي: المحسن إليهم {إلا مقتاً} أي: غضباً؛ لأن الكافر السابق كان ممقوتاً {ولا يزيد الكافرين} أي: العريقين في صفة التغطية للحق {كفرهم إلا خساراً} أي: للآخرة؛ لأن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله تعالى ربح، ومن اشترى به سخط الله تعالى خسر.) ولما بين أنه سبحانه هو الذي استخلفهم أكد بيان ذلك عندهم بأمره صلى الله عليه وسلم بما يضطرهم إلى الاعتراف بقوله تعالى: {قل} أي: لهم {أرأيتم} أي: أخبروني {شركاءكم} أضافهم إليهم؛ لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته؛ لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالسوائب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه، ثم بين المراد من عدّهم لهم شركاء بقوله تعالى: {الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: غيره وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء الله تعالى {أروني} أي: أخبروني {ماذا} أي: الذي أو أي شيء {خلقوا من الأرض} أي: لتصح لكم دعوى الشركة فيهم وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وإنكم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا {أم لهم شرك} أي: شركة مع الله تعالى وإن قلت {في السموات} أي: أروني ماذا خلقوا لكم من السموات فالآية من الاحتباك حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً له لدلالة مثله أولاً عليه. {أم آتيناهم كتاباً} ينطق على أنا اتخذنا شركاء {فهم} الأحسن في هذا الضمير أن يعود على الشركاء لتناسق الضمائر، وقيل: يعود على المشركين قاله مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة {على بينة} أي: حجة {منه} بأن لهم معي شركة، ولما كان التقدير لا شيء لهم من ذلك قال تعالى منبهاً على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم {بل إن} أي: ما {يعد الظالمون} أي: الواضعون الأشياء في غير موضعها {بعضهم بعضاً} أي: الاتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى زلفى، وأنها تشفع وتضر وتنفع {إلا غروراً} أي: باطلاً. ولما بين تعالى حقارة الأصنام بين عظمته سبحانه بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {يمسك السموات} أي: على كبرها وعلوها {والأرض} أي: على سعتها وبعدها عن التماسك على ما تشاهدون، وقوله تعالى {أن تزولا} أي: برجة عظيمة وزلزلة كبيرة يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي: كراهة أن تزولا، وقيل: لئلا تزولا، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي: يمنعهما من أن تزولا، ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي: يمنع زوالهما؛ لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق الله تعالى. ولما كان في هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان أتبعه ما هو أبين منه بقوله تعالى: معبراً بأداة الإمكان {ولئن} لام قسم {زالتا} أي: بزلزلة خراب أو غير ذلك {إن} أي: ما {أمسكهما من أحد من بعده} جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: والجملة سدت مسد الجوابين فيه تجوز، فالمراد بسدهما مسدهما أنها تدل عليهما لا أنها قائمة مقامهما إذ يلزم أن تكون معمولة وغير معمولة؛ لأنها باعتبار جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وباعتبار جواب الشرط لها محل، ومن في {من أحد} مزيدة لتأكيد الاستغراق وفي {من بعده} لابتداء الغاية، والمعنى: أحد سواه أو من بعد الزوال {إنه كان} أي: أزلاً وأبداً {حليماً} إذ أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّاً كما قال تعالى {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً} (مريم: 90) لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرصة {غفوراً} أي: محاء لذنوب من رجع إليه وأقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 بالاعتراف عليه فلا يعاقبه ولا يعاتبه. ولما بلغ كفار مكة أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم: {وأقسموا} أي: كفار مكة {بالله} أي: الذي لا يقسم بغيره {جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {لئن جاءهم نذير} أي: رسول {ليكونن أهدى من إحدى الأمم} أي: اليهود والنصارى وغيرهم أي: آية واحدة منها لما رأوا من تكذيب بعضها بعضاً {إذ قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} (البقرة: 113) {فلما جاءهم نذير} أي: على ما شرطوا وزيادة وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفساً وأشرفهم نسباً وأكرمهم خلقاً {ما زادهم} أي: مجيئه شيئاً مما هم عليه من الأحوال {إلا نفوراً} أي: تباعداً عن الهدى؛ لأنه كان سبباً في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها، فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق، ثم علل نفورهم بقوله تعالى: {استكباراً} أي: طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم {في الأرض} أي: التي من شأنها السفول والتواضع والخمول فلم يكن نفورهم لأمر محمود ولا مباح، ويجوز أن يكون استكباراً بدلاً من نفوراً وأن يكون حالاً أي: حال كونهم مستكبرين قاله الأخفش. وقوله تعالى {ومكر السيء} فيه وجهان: أظهرهما: أنه عطف على استكباراً، والثاني: أنه عطف على نفوراً وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمكر السيء، والبصريون يؤولونه على حذف موصوف أي: العمل السيء أي: الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره وهو إرادتهم لإهانة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله عز وجل، وقال الكلبي: هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ حمزة في الوصل بهمزة ساكنة أي: بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر واتقانه وإخفائه جهدهم، والباقون بهمزة مكسورة، وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء وأدغم الياء الأولى في الياء الثانية، ووقف الباقون بهمزة ساكنة {ولا} أي: والحال أنه لا {يحيق} أي: يحيط إحاطة لازمة خسارة {المكر السيء} أي: الذي هو عريق في السوء {إلا بأهله} أي: وإن أذى غير أهله لكنه لا يحيط بذلك الغير، فإن قيل: كثيراً ما نرى الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك، أجيب: بأجوبة: أحدها: أن المكر في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره. ثانيها: أنه عام وهو الأصح، ويدل له قول الزهري: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله تعالى يقول: وقرأ هذه الآية، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله تعالى {إنما بغيكم على أنفسكم} (يونس: 23) ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله تعالى {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} (الفتح: 10) ثالثها: أن الأعمال بعواقبها ومن مكر بغيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى {فهل ينظرون} أي: ينتظرون {إلا سنت الأولين} أي: سنة الله تعالى فيهم من تعذيبهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 بتكذيبهم رسلهم، والمعنى: فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار. ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق بقوله تعالى: {فلن تجد} أي: في وقت من الأوقات {لسنت الله} أي: طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين {تبديلاً} أي: من أحد يأتي بسنة غيرها تكون بدلاً لها؛ لأنه تعالى لا مكافئ له {ولن تجد لسنت الله} أي: الذي لا أمر لأحد معه {تحويلا} أي: من حالة إلى أخف منها؛ لأنه لا مرد لقضائه. فائدة: ترسم سنت لسنت الثلاثة بالتاء المجرورة كما رأيت، ووقف أبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء على أصله. ولما ذكر الله تعالى الأولين وسنتهم في إهلاكهم نبههم بتذكير حال الأولين بقوله تعالى: {أولم يسيروا} أي: فيما مضى من الزمان {في الأرض} أي: التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق {فينظروا} أي: فيتسبب عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عليه ما جرى من مقاله، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الذين من قبلهم} أي: على أي حالة كان آخر أمرهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل عليهم السلام فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم، وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم، وكانوا أطول منهم أعماراً وأشد اقتداراً ومع هذا لم يكذبوا مثل محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم يا أهل مكة كفرتم بمحمد ومن قبله عليهم السلام {وكانوا} أي: أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا، والحال أنهم كانوا {أشد منهم} أي: من هؤلاء {قوة وما كان الله} أي: الذي له جميع العظمة وأكد الاستغراق في النفي بقوله تعالى: {ليعجزه} أي: مريداً لأن يعجزه، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى، وأبلغ في التأكيد بقوله تعالى: {من شيء} أي: قل أو جل وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله تعالى: {في السموات} أي: جهة العلو، وأكد بقوله عز وجل {ولا في الأرض} أي: جهة السفل {أنه كان} أي: أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بالأشياء كلها حقيرها وجليلها {قديراً} أي: كامل القدرة أي: فلا يريد شيئاً إلا كان ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء، كقولهم: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} (الأنفال: 32) على أن التقدير ولو عاملكم الله تعالى معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم عطف عليه قوله تعالى إظهاراً للحكم مع العلم {ولو يؤاخذ الله} أي: بما له من صفات العلو {الناس} أي: المكلفين {بما كسبوا} أي: من المعاصي {ما ترك على ظهرها} أي: الأرض {من دابة} أي: نسمة تدب عليها كما كان في زمن نوح عليه السلام أهلك الله تعالى ما على ظهر الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح. فإن قيل: إذا كان الله تعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب؟ أجيب: بأن المطر إنعام من الله في حق العباد، وإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فيموت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 جميع الحيوانات، وبأن خلقة الحيوانات نعمة والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم والدواب أقرب النعم؛ لأن المفرد أولاً ثم المركب، والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً، والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً، والحيوان إما إنسان أو غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان. فإن قيل: كيف يقال لما علته الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابله الوجه فهو كالمتضاد؟ أجيب: بأن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر، وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن من باب فوجه الأرض ظهر؛ لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن. {ولكن} لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش بل يحلم عنهم فهو {يؤخرهم} أي: في الحياة الدنيا ثم في البرزخ {إلى أجل مسمى} أي: سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم يبعثهم من قبورهم وهو تعالى لا يبدل القول لديه لما له من صفات الكمال {فإذا جاء أجلهم} أي: الفناء الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله، أو الإيجاد الإبقائي بعث كلاً منهم فجازاه بعمله {فإن الله} أي: الذي له الصفات العليا {كان} ولم يزل {بعباده} الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد واحد منهم بجميع ذواتهم وأحوالهم {بصيراً} أي: بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب ومن يستحق الثواب، قال ابن عباس: يريد أهل طاعته وأهل معصيته، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت» حديث موضوع. سورة يس مكية وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وتسعةوعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف وتسمى أيضاً: القلب والدافعة والقاضية والمعممة تعم صاحبها بخير الدارين، وتدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة، والبيضاوي ذكر هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخنا القاضي زكريا: لم أره ولكن المثبت مقدم على النافي. {بسم الله} أي: الذي جل ملكه على أن يحاط بمقدراه {الرحمن} الذي جعل إنذار يوم الجمع رحمة عامة {الرحيم} الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه وقوله تعالى: {يس} كـ[ألم] في المعنى والإعراب وقال ابن عباس: يس قسم، وروي عن شعبة أن معناه يا إنسان بلغة طيء على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل: م الله في أيمن الله، وقال أكثر المفسرين: يعني محمداً صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسعيد بن جبير وجماعة وقال أبو العالية: يا رجل وقال أبو بكر الوراق: يا سيد البشر. قال ابن عادل في ذكر هذه الحروف أوائل السور: أمور تدل على أنها غير خالية من الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها والذي يدل على أنها فيها حكمة هو أن الله عز وجل ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً نصف ثمانية وعشرين حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا: الهمزة ألف متحركة، ثم إن الله تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال، والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرة في الوسط من الراء إلى الغين، وذكر من القسم الأول حرفين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 الألف والحاء، وترك سبعة وترك من القسم الأخير حرفين هما الألف واللام، وذكر سبعة ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء، ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشفة إلا واحداً لم يتركه وهو الميم والعشر الأوسط ذكر منه حرفاً وترك حرفاً فترك الزاي وذكر الراء، وذكر السين وترك الشين وذكر الصاد وترك الضاد وذكر الطاء وترك الظاء وذكر العين وترك الغين، وليس لها أمر يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة لكنها غير معلومة. وهب أن واحداً يدعى فيه شيئاً فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن وق وص، وبعضها بحرفين كسورة حم ويس وطس وطه، وبعضها بثلاثة أحرف كألم وطسم والر، وبعضها بأربعة أحرف كسورة المر والمص، وبعضها بخمسة أحرف كسورة حم عسق وكهعيص. وهب أن قائلاً يقول: إن هذه إشارة بأن الكلام إما حرف وإما فعل وإما اسم، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب وهمزة الاستفهام وكاف التشبيه وباء الإلصاق وغيرها، وجاء على حرفين كمن للتبعيض وأو للتخيير وأم للاستفهام المتوسط وإن للشرط وغيرها، والفعل والاسم والحرف جاءت ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألوا بالواو، وعلا يعلو في الفعل والاسم، والفعل جاء على أربعة أحرف، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة كعجل ومسجد وجردحل. فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد والبعض بأكثر فلا يعلم ما السر إلا الله تعالى، ومن أعلمه الله تعالى به. وإذا علم هذا فالعبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية، وكل واحد منها قسمان: قسم عقل معناه وحقيقته، وقسم لم يعلم، أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل فمنها ما لم يعلم دليله عقلاً، وإنما وجب الإيمان به والاعتقاد سمعاً كالصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف، والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر، وكيفية الجنة والنار، فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي، وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم مقطوع به بالسمع، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله تعالى وصدق الرسل، وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات. والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان إلا لمحض الفائدة بخلاف ما لم تعلم الفائدة، فربما تأتي الفائدة وإن لم يؤمر كما لو قال السيد لعبده: انقل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها، ولو قال: انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمر. وإذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهي فإذا قال: حم طس يس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالاً لما أمر به، انتهى كلام ابن عادل بحروفه وهو كلام دقيق، وقرأ يس بإمالة الياء شعبة وحمزة والكسائي، والباقون بالفتح، وأظهر النون من يس عند واو. {والقرآن} قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 وأدغم الباقون، وهي واو القسم أو العطف إن جعل يس مقسماً به، ثم وصف القرآن بقوله تعالى: {الحكيم} أي: المحكم بعظيم النظم وبديع المعاني، وقوله تعالى: {إنك لمن المرسلين} أي: الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم فصاروا بما وهبهم الله من القوة النورانية وبما تخلقوا به من أوامره ونواهيه كالملائكة الذين تقدم ذكرهم في السورة الماضية إنهم رسله جواب القسم وهو رد على الكفار حيث قالوا: لست مرسلاً، فإن قيل: المطلب يثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقسام؟ أجيب: بأوجه: أولها: أن العرب كانوا يتقون الأيمان الفاجرة، وكانوا يقولون إن الأيمان الفاجرة توجب خراب العالم، وصحح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع» ثم إنهم كانوا يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه من آلهتهم وهي الكواكب عذاب، والنبي صلى الله عليه وسلم يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأناً وأمنع مكاناً فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب. ثانيها: أن المناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب: إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة وعجزت أنا على القدح فيه، وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمراً إلا اليمين، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أقام البراهين وقالت الكفرة {ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد أباؤكم} (سبأ: 43) {وقالوا ما هذا إلا أفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} (سبأ: 43) فالتمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل. ثالثها: أن هذا ليس بمجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين؛ لأن القرآن معجزة، ودليل كونه مرسلاً هو المعجزة والقرآن كذلك، فإن قيل: لِمَ لم يذكر في صورة الدليل وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين؟ أجيب: بأن الدليل إذا ذكر في صورة اليمين، واليمين لا يقع ولاسيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين يقبل عليه السامع لكونه دليلاً شافياً يسر به الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب وقوله تعالى: {على صراط} أي: طريق واسع واضح {مستقيم} أي: هو التوحيد والاستقامة في الأمر، يجوز أن يكون متعلقاً بالمرسلين تقول: أرسلت عليه كذا قال تعالى {وأرسل عليهم طيراً أبابيل} (الفيل: 3) وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكن في {لمن المرسلين} لوقوعه خبراً، وأن يكون حالاً من المرسلين، وأن يكون خبراً ثانياً لإنك.H وقرأ قنبل «سراط» بالسين عوضاً عن الصاد، وخلف بالإشمام وهو بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد الخالصة. ولما كان كأنه قيل: ما هذا الذي أرسل به؟ كان كأنه قيل جواباً: هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو: {تنزيل} أو حال كونه تنزيل {العزيز} أي: المتصف بجميع صفات الجلال {الرحيم} أي: الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم فهو الواحد المنفرد في ملكه، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي تنزيل بالنصب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 على الحال كما مر، أو بإضمار أعني، والباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر كما مر. ولما ذكر تعالى المرسل وهو الله تعالى، والمرسل وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمرسل به وهو القرآن ذكر المرسل لهم بقوله تعالى: {لتنذر قوماً} أي: ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة {ما أنذر} أي: لم تنذر أصلاً {آباؤهم} أي: لم ينذروا في زمن الفترة {فهم} أي: بسبب زمان الفترة {غافلون} أي: عن الإيمان والرشد وقوله تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم} فيه وجوه: أشهرها: أن المراد بالقول هو قوله تعالى: {لقد حق القول مني لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ثانيها: أن معناه لقد سبق في علمه تعالى أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي: وجب وثبت بحيث لا يبدل بغيره كما قال تعالى {ما يبدل القول لدى} (ق: 29) ثالثها: المراد لقد حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل من التوحيد وغيره {فهم} أي: بسبب ذلك {لا يؤمنون} أي: بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيء. ونزل في أبي جهل وصاحبه: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} أي: بأن تضم إليها الأيدي؛ لأن الغل يجمع اليد إلى العنق، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه به فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده إلى عنقه، فلما رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله تعالى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: ما رأيته ولقد سمعت كلاماً وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال تعالى {لقد حق القول على أكثرهم} وتقدم أن المراد به البرهان وقال بعد ذلك: بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه، ومنع من إرسال الحجر وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلاً، وقال أهل المعاني: هذا على طريق المثل ولم يكن هناك غل، أراد منعناهم عن الإيمان بموانع، فجعل الأغلال مثلاً لذلك فهو تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر بتمثيلهم بالذين غلت أيديهم. وقال الفراء: معناه حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} (الإسراء: 29) معناه: ولا تمسكها عن النفقة، ومناسبة هذا لما تقدم أن قوله تعالى {فهم لا يؤمنون} يدخل فيه أنهم لا يصلون لقوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة: 143) أي: صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال: لا يصلون ولا يزكون، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى {فهي إلى الأذقان} على وجهين: أشهرهما: أنه عائد على الأغلال؛ لأنها هي المحدث عنها، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغل لغلظه وعرضه يصل إلى الذقن؛ لأنه يلبس العنق جميعه، قال الزمخشري: والمعنى أنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه. ثانيهما: أن الضمير يعود إلى الأيدي، وإليه ذهب الطبري وعليه جرى الجلال المحلي؛ لأن الغل لا يكون إلا في العنق واليدين، ودل على الأيدي وإن لم تذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 الملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغل. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين {فهم مقمحون} أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفتة إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطؤن رؤوسهم له، والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشرب إما لبرودة الماء، وإما لكراهة طعمه. ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال تعالى: {وجعلنا} أي: بعظمتنا {من بين أيديهم} أي: الوجه الذي يمكنهم عمله {سداً} فلا يسلكون طريق الاهتداء. ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال تعالى {ومن خلفهم} أي: الوجه الذي هو خفي عنهم {سداً} فلا يرجعون إلى الهداية فصارت كل جهة يلتفتون إليها منسدة فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق، ولا الخلوص إليه، فلذلك قال تعالى {فأغشيناهم} أي: جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة {فهم} أي: بسبب ذلك {لا يبصرون} أي: لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم بصر ظاهر ولا بصيرة باطنة، وأيضاً الإنسان مبدؤه من الله تعالى ومصيره إليه فعمى الكافرين بأن لا يبصروا ما بين أيديهم من المصير إلى الله تعالى، وما خلفهم من الدخول في الوجود بخلق الله تعالى كمن أحاط بهم سد فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، وأيضاً فإن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع، فإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامته هلك. فإن قيل: ذكر السد من بين الأيدي ومن الخلف ولم يذكره من اليمين والشمال فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم، فيجعل الله تعالى السد هناك فيمنعه من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله تعالى بين يديه سداً، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سداً بفتح السين في الموضعين وهو لغة فيه، والباقون بالضم. ولما منعوا بذلك حس البصر أخبر عن حس السمع بقوله تعالى: {وسواء عليهم} أي: مستو ومعتدل غاية الاعتدال {أأنذرتهم} أي: بما أخبرناك به من الزواجر المانعة للكفر {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ؛ لأنهم ممن علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وقد سبق أيضاً في البقرة تفسيره والكلام على الهمزتين، ثم بين الله تعالى الأقل الناجي؛ لأنه المقصود بالذات بقوله تعالى: {إنما تنذر} أي: إنذاراً ينفع المنذر فتتأثر عنه النجاة {من اتبع الذكر} أي: القرآن بالتأمل فيه والعمل به {وخشي الرحمن} أي: خاف عقابه {بالغيب} أي: قبل موته ومعاينة أهواله أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه تعالى كما هو رحمن رحيم منتقم جبار {فبشره} أي: بسبب خشيته بالغيب {بمغفرة} أي: لذنوبه وإن عظمت وتكررت. ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال تعالى {وأجر كريم} أي: هو الجنة فإنها دار لا كدر فيها بوجه، والمقصود منها هو النظر لوجهه الكريم، اللهم متعنا ومحبينا بالنظر إلى وجهك الكريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 ولما ذكر تعالى خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى بقوله تعالى: {إنا نحن} أي: بما لنا من العظمة التي لا تضاهى {نحيي الموتى} أي: كلهم حسّاً بالبعث، ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلمة الجهل {ونكتب} أي: جملة عند نفخ الروح وشيئاً فشيئاً بعده فلا يتعدى التفصيل شيئاً في ذلك الإجمال {ما قدموا} أي: وأخروا من جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم من صالح وغيره فاكتفى بأحدهما لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر} (النحل: 81) أي: والبرد. وقيل المعنى: ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة كقوله تعالى {بما قدمت أيديهم} (الجمعة: 7) أي: بما قدموا في الوجود وأوجدوه، وقيل: نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وقوله تعالى {وآثارهم} فيه وجوه: أحدها: وهو مبني على التفسير الأخير، وهو كتب النيات المراد بالآثار: الأعمال. ثانيها: ما سنوا من سنة حسنة وسيئة، فالحسنة كالكتب المصنفة والقناطر المبنية، والسيئة كالظلامات المستمرة التي وضعتها الظلمة والكتب المضلة قال صلى الله عليه وسلم «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً» . ثالثها: خطاهم إلى المساجد لما روى أبو سعيد الخدري قال: شكت بنو سلمة بعد منازلهم عن المسجد فأنزل الله تعالى {ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله يكتب خطواتكم ومشيكم ويثيبكم عليها» وقال صلى الله عليه وسلم «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم مشياً والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام» ، فإن قيل: الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال تعالى {نحيي الموتى ونكتب} ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم؟ أجيب: بأن الكتابة معظمة لأمر الإحياء؛ لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم، والكتابة في نفسها إن لم يكن هناك إحياء ولا إعادة لا يبقى لها أثر أصلاً، والإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء؛ لأنه تعالى قال: {إنا نحن} وذلك يفيد العظمة والجبروت، والإحياء العظيم يختص بالله تعالى والكتابة دونه تقرير التعريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم. ولما كان ذلك الأمر ربما أوهم الاقتصاد على ما ذكر من أحوال الآدميين دفع ذلك بقوله تعالى: {وكل شيء} من أمور الدنيا والآخرة {أحصيناه} أي: قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وحفظاً وكتبناه {في إمام} وهو اللوح المحفوظ {مبين} أي: لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال والأقوال فهو تعميم بعد تخصيص؛ لأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه بل كل شيء محصي في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئاً من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله تعالى ولا يفوته كقوله تعالى {وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر} (القمر: 52 ـ 53) يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب لا يبدل، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال تعالى {نكتب ما قدموا} بين أن قبل ذلك كتابة أخرى، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه، قيل: إن ذلك مؤكد لمعنى قوله تعالى {ونكتب} ؛ لأن من يكتب شيئاً في أوراق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال تعالى: نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} (طه: 52) وقوله سبحانه وتعالى: {واضرب} بمعنى واجعل {لهم} وقوله تعالى {مثلاً} مفعول أول، وقوله تعالى: {أصحاب} مفعول ثان والأصل: واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب {القرية} فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله تعالى {واسأل القرية} (يوسف: 82) قال الزمخشري: وقيل لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى: اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً، أو مثل أصحاب القرية بهم قال المفسرون: المراد بالقرية أنطاكية وقوله تعالى {إذ جاءها} إلخ بدل اشتمال من أصحاب القرية أي: إذ جاء أهلها {المرسلون} أي: رسل عيسى عليه السلام وإضافة إلى نفسه في قوله تعالى: {إذ أرسلنا إليهم اثنين} لأنه فعل رسوله عليه السلام {وإذ أرسلنا} إلخ بدل من إذ الأولى، وفي هذا لطيفة وهي أن في القصة أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى: إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا تفهم يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وإنما هو رسل الله تعالى، فتكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله تعالى: {إذ أرسلنا} ويؤيد هذا مسألة فقهية وهي أن كل وكيل للوكيل بإذن الموكل عند الإطلاق وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول. تنبيه: في بعث الاثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام بإذن الله تعالى، فكان عليهما إنهاء الأمر إليه والإتيان بما أمر الله تعالى، والله سبحانه عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده، وأما عيسى عليه السلام فبشر فأمر الله تعالى بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى عليه السلام حجة ثابتة، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل، وحمزة والكسائي بضمهما، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف فحمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها، والجميع في الوقف بسكون الميم. {فكذبوهما} أي: مع ما لهما من الآيات؛ لأن من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر سواء أكان عنا من غير واسطة، أو كان بواسطة رسولنا كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النورين لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له آية فكانت نوراً في جبهته، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه. ولما كان المتظافر على الشيء أقوى لشأنه وأعون على ما يراد منه تسبب عن ذلك قوله تعالى {فعززنا} أي: قوينا {بثالث} يقال: عزز المطر الأرض أي: قواها ولبدها ويقال لتلك الأرض العزاز وكذا كل أرض صلبة، وتعزز لحم الناقة أي: صلب وقوي والمفعول محذوف أي: فقويناهما بثالث، أو فغلبناهما بثالث؛ لأن المقصود من البعثة نصرة الحق لا نصرتهما، والكل كانوا مقوين للدين بالبرهان قال وهب: اسم المرسلين يحيى ويونس، واسم الثالث شمعون، وقال كعب: الرسولان صادق ومصدوق والثالث: سلوم، وقرأ شعبة بتخفيف الزاي الأولى، والباقون بتشديدها والزاي الثانية ساكنة بلا خلاف. {فقالوا إنا إليكم مرسلون} وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين فلما قربا من المدينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 رأيا حبيباً النجار يرعى غنماً فسلما عليه فقال: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أمعكما آية؟ قالا: نعم نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى فقال: إن لي ابناً مريضاً منذ سنين قالا: فانطلق بنا ننظر حاله فأتى بهما إلى منزله فمسحاه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحاً ففشا الخبر في المدينة وآمن حبيب النجار، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيراً من المرضى وكان لهم ملك اسمه أنطيحس وكان من ملوك الروم فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام قال: وفيما جئتما؟ قالا: ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر قال: أولنا إله دون آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك فقال: قوما حتى أنظر في أمركما وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، فلما كذبا وضربا بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين شمعون الصفار على أثرها لينصرهما، فدخل البلد متنكراً وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعوا إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله تعالى الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال لهما شمعون: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك فدعا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك: أرأيت إن سألت إلهك يصنع مثل هذا حتى يكون لك الشرف ولآلهتك؟ فقال الملك: ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيراً ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم، ثم قال الملك لهما: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا: إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك: إن هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه، وكان غائباً فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعو ربه سراً، فقام الميت وقال: إني دخلت سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله تعالى، ثم قال: فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسناً يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه فتعجب الملك لما علم، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه فآمن الملك وآمن قوم وكفر آخرون، فمن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا. وقيل: أن ابنة الملك كانت قد توفيت ودفنت فقال شمعون للملك: اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك فطلب الملك منهما ذلك فقاما وصليا ودعوا الله تعالى وشمعون معهما في السر فأحيا الله تعالى المرأة، ثم انشق القبر عنها فخرجت وقالت: أسلموا فإنهما صادقان قالت: ولا أظنكم تسلمون ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا تراباً على رأسها فعادت إلى قبرها كما كانت، وقال ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 إسحاق عن كعب ووهب: بل كفر واجتمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة بالأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين. {قالوا} أي: أهل القرية للرسل {ما أنتم} أي: وإن زاد عددكم {إلا بشر مثلنا} لا مزية لكم علينا فما وجه الخصوصية لكم في كونكم رسلاً دوننا، فجعلوا كونهم بشراً مثلهم دليلاً على عدم الإرسال، وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم {أأنزل عليه الذكر من بيننا} (ص: 8) وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان، فرد الله عليهم بقوله سبحانه {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} (الجن: 23) وبقوله تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء} (الشورى: 13) إلى غير ذلك. تنبيه: رفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا ثم قالوا {وما أنزل الرحمن} أي: العام الرحمة، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته يقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا، وأغرقوا في النفي بقولهم {من شيء} أي: وحي ورسالة {إن} أي: ما {أنتم إلا تكذبون} أي: في دعوى رسالة حالاً ومآلاً. {قالوا} أي: الرسل {ربنا} أي: الذي أحسن إلينا {يعلم} أي: ولهذا يظهر على أيدينا الآيات {إنا إليكم لمرسلون} استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم، وزادوا اللام المؤكدة؛ لأنه جواب عن إنكارهم. {وما علينا} أي: وجوباً من قبل من أرسلنا {إلا البلاغ المبين} أي: المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت وغيرهما فما كان جوابهم بعد هذا إلا أن: {قالوا إنا تطيرنا} أي: تشاءمنا {بكم} وذلك أن المطر حبس عنهم فقالوا: أصابنا هذا بشؤمكم ولاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له ونفرتهم عنه قالوا: {لئن لم تنتهوا} أي: عن مقالتكم هذه {لنرجمنكم} أي: لنقتلنكم قال قتادة: بالحجارة، وقيل: لنشتمنكم وقيل: لنقتلنكم شر قتلة {وليمسنكم منا} أي: لا من غيرنا {عذاب أليم} كأنهم قالوا: لا نكتفي برجمكم بحجر وحجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم، أو يكون المراد وليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب أليم أي: مؤلم، وإن قلنا: الرجم: الشتم فكأنهم قالوا: ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحسي، وإذا فسرنا أليم بمعنى مؤلم ففعيل بمعنى مفعل قليل، ويحتمل أن يقال: هو من باب قوله تعالى {عيشة راضية} (الحاقة: 21) أي: ذات رضا أي: عذاب ذو ألم فيكون فعيلاً بمعنى فاعل وهو كثير، ثم أجابهم المرسلون بأن: {قالوا طائركم} أي: شؤمكم الذي أحل بكم البلاء {معكم} وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم وكفركم فأصابكم الشؤم من قبلكم، وقال ابن عباس والضحاك: حظكم من الخير والشر، والهمزة في قوله تعالى {أئن ذكرتم} أي: وعظتم وخوفتم همزة استفهام وجواب الشرط محذوف أي: تطيرتم وكفرتم فهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الثانية، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفاً، وورش وابن كثير بغير إدخال، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال. ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سبباً للتطير بوجه أضربوا عنه بقولهم {بل} أي: ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير بسبب التطير بل {أنتم قوم} أي: غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون {مسرفون} أي: عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 فعوقبتم لذلك. ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله تعالى، فلا هادي لمن يضل ولا مضل لمن هدى فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إذا أراد وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب قدّم مكان المجيء على فاعلة بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال تعالى: {وجاء من أقصى} أي: أبعد بخلاف ما مر في القصص ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية وقال {المدينة} لأنها أدل على الكبر المستلزم بعد الأطراف وجمع الأخلاط ولما بين الفاعل بقوله تعالى: {رجل} بين اهتمامه بالنهي عن المكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله تعالى: {يسعى} أي: يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه. تنبيه: في تنكير الرجل مع أنه كان معلوماً معروفاً عند الله تعالى فيه فائدتان، الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه أي: رجل كامل في الرجولية، الثانية: أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال: إنهم تواطؤوا، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام، وقال السدي: كان قصاراً، وقال وهب: كان يعمل الحرير وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب في المدينة، وكان مؤمناً وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله تعالى ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته وقوله: {يسعى} تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النصح. ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه بينه بقوله تعالى: {قال} واستعطفهم بقوله تعالى: {يا قوم} وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله {اتبعوا المرسلين} أي: في عبادة الله تعالى وحده، فجمع بين إظهار دينه وإظهار النصيحة فقوله {اتبعوا} النصيحة وقوله {المرسلين} إظهار إيمانه، وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان؛ لأنه كان ساعياً في النصيحة، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله {يسعى} دل على إردته النصح. فإن قيل: ما الفرق بين مؤمن آل فرعون حيث قال: {اتبعون أهدكم} (غافر: 38) وهذا قال: {اتبعوا المرسلين} ؟ أجيب: بأن هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال: اتبعوني في الإيمان بموسى وهرون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ولم يكن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يعلمون اتباعه لهم. ولما قال لهم: اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال: {اتبعوا من لا يسألكم أجراً} أي: أجرة؛ لأن الخلق في الدنيا سالكون طريق الاستقامة، والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه وعدم الاستماع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين: إما لطلب الدليل الأجرة، وإما: لعدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة {وهم مهتدون} عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين أليسوا بمهتدين؟ فاتبعوهم وقوله تعالى: {ومالي لا أعبد الذي فطرني} أصله: وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عنه ليكون الكلام أسرع قبولاً حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد: تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال {وإليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 ترجعون} دون وإليه أرجع مبالغة في التهديد وفي العدول عن مخاصمة القوم إلى حال نفسه مبالغة في الحكمة، وهي أنه لو قال: ما لكم لا تعبدون الذي فطركم لم يكن في البيان مثل قوله: ما لي؛ لأنه لما قال: مالي فأحد لا يخفى عليه حال نفسه، علم كل واحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد؛ لأنه أعلم بحال نفسه وقوله {الذي فطرني} أشار به إلى وجود المقتضى فإن قوله: {مالي} إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى فقوله {الذي فطرني} دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيمان، والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته، وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي، لأن المقتضي لظهوره كان مستغنياً عن البيان فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه، واختار من الآيات فطرة نفسه؛ لأن خالق عمرو يجب على زيد عبادته؛ لأن من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف، لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً. تنبيه: أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم؛ لأن الفطرة أثر النعمة فكانت عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر فكان بهم أليق، روي أنه لما قال {اتبعوا المرسلين} أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له: أفأنت تتبعهم؟ فقال {ومالي لا أعبد الذي فطرني} أي: أي: شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون، تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم ومعنى فطرني: خلقني اختراعاً ابتداء، وقيل: خلقني على الفطرة كما قال تعالى {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم: 30) ثم عاد إلى السياق الأول فقال: {أأتخذ} وهو استفهام بمعنى الإنكار أي: لا أتخذ وبين علو رتبته تعالى بقوله {من دونه} أي: سواه مع دنو المنزلة وبين عجز ما عبدوه بتعدده فقال {آلهة} وفي ذلك لطيفة وهي: أنه لما بين أنه يعبد الذي فطره بين أن من دونه لا تجوز عبادته؛ لأن الكل محتاج مفتقر حادث وقوله {أأتخذ} إشارة إلى أن غيره ليس بإله؛ لأن المتخذ لا يكون إلهاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل فيهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام وورش وابن كثير بغير إدخال ألف، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال وإذا وقف حمزة فله تسهيل الثانية والتحقيق؛ لأنه متوسط بزائد وله أيضاً إبدالها ألفاً. ثم بين عجز تلك الآلهة بقوله {إن يردن الرحمن} أي: العام النعمة على كل المخلوقين العابد والمعبود {بضر} أي: سوء ومكروه {لا تغن عني شفاعتهم شيئاً} أي: لو فرض أنهم شفعوا ولكن شفاعتهم لا توجد {ولا ينقذون} أي: بالنصر والمظاهرة من ذلك المكروه أو من العذاب لو عذبني الله تعالى إن فعلت ذلك. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا: {إن يردن الرحمن} بصيغة المضارع وقال في الزمر: {إن أرادني الله} (الزمر: 38) بصيغة الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك باسم الله؟ أجيب: بأن الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً؛ لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله {أأتخذ} وقوله {مالي لا أعبد} والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله {أفرأيتم} (الزمر: 38) تنبيه: إن يردن شرط جوابه لا تغن عني إلخ والجملة الشرطية في محل النصب صفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 لآلهة. فائدة: أثبت ورش الياء بعد النون في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. {إني إذاً} أي: إن عبدت غير الله تعالى {لفي ضلال مبين} أي: خطأ ظاهر، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء، وسكنها الباقون وهم على مذاهبهم في المد. ولما أقام الأدلة ولم يبق لأحد تخلف عنه عله صرح بما لوح إليه من إيمانه بقوله: {إني آمنت} أي: أوقعت التصديق الذي لا تصديق في الحقيقة غيره، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو، وسكنها الباقون، واختلف في المخاطب بقوله {بربكم} على أوجه أحدها: أنه خاطب المرسلين قال المفسرون: أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو على المرسلين قال {إني آمنت بربكم فاسمعون} أي: اسمعوا قولي واشهدوا لي، وثانيها: هم الكفار لما نصحهم وما نفعهم قال {آمنت بربكم فاسمعون} وثالثها: بربكم أيها السامعون فاسمعون على العموم كقول الواعظ: يا مسكين ما أكثر أملك يريد: كل سامع يسمعه فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه وقال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم، وقال السدي: كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي حتى قطعوه وقتلوه وقال الحسن: خرقوا خرقاً في حلقه فعلقوه في سور المدينة وقبره بأنطاكية مشهور رضي الله تعالى عنه. تنبيه: في قوله {فاسمعون} فوائد: منها: أنه كلام متفكر حيث قال: اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر، ومنها: أن ينبه القوم ويقول: إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرته لآمنا معك، فإن قيل: إنه قال من قبل {ومالي لا أعبد الذي فطرني} وقال ههنا: {آمنت بربكم} ولم يقل: آمنت بربي؟ أجيب: بأنا إن قلنا: الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر؛ لأنه لما قال {آمنت بربكم} ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال {بربكم} وإن قلنا الخطاب مع الكفار ففيه بيان التوحيد؛ لأنه لما قال {أعبد الذي فطرني} ثم قال {آمنت بربكم} فهم أنه يقول: ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال: آمنت بربي فيقول الكافر: وأنا أيضاً آمنت بربي. فائدة: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم «أن مثل صاحب يس هذا في هذه الأمة عروة بن مسعود الثقفي حيث نادى قومه بالإسلام ونادى على علية بالأذان فرموه بالسهام فقتلوه» . ثم إنه سبحانه وتعالى بين حال هذا الذي قال {آمنت بربكم} بعد ذلك بقوله تعالى: إيجازاً في البيات لأهل الإيمان: {قيل} أي: قيل له بعد قتلهم إياه، فبناه للمفعول؛ لأن المقصود المقول لا قائله والمقول له معلوم {ادخل الجنة} لأنه شهيد والشهداء يسرحون في الجنة حيث شاؤوا من حين الموت، وقيل: لما هموا بقتله رفعه الله تعالى إلى الجنة، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف وهو المسمى بالإشمام، والباقون بالكسر. ولما أفضى به إلى الجنة {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي} أي: بغفران ربي لي المحسن إلي في الآخرة بعد إحسانه في الدنيا بالإيمان في مدة يسيرة بعد طول عمري في الكفر {وجعلني من المكرمين} أي: الذين أعطاهم الدرجات العلا فنصح لقومه حياً وميتاً بتمني عملهم بالكرامة له ليعملوا مثل عمله فينالوا ما ناله. تنبيه: في القصة حث على المبادرة إلى مفارقة الأشرار واتباع الأخيار والحلم عن أهل الجهل وكظم الغيظ والتلطف في خلاص الظالم من ظلمه وأنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 الله وإن كان محسناً، وهذا كما وقع للأنصار رضي الله تعالى عنهم في المبادرة إلى الإيمان مع بعد الدار والنسب، وفي قول من استشهد منهم في بئر معونة كما رواه البخاري في المغازي عن أنس: «بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا» وفي غزوة أُحد. كما في السيرة وغيرها: لما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} (آل عمران: 169) ، وفي التمثيل بهذه القصة إشارة إلى أن في قريش من حتم بموته على الكفر ولم ينقص ما قضى له من الأجل، فالله سبحانه يؤيد هذا الدين بغيرهم لتظهر قدرته وحكمته: {وما أنزلنا} بما لنا من العظمة {على قومه} أي: حبيب {من بعده} أي: من بعد إهلاكه أو رفعه {من جند من السماء} لإهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك، وفيه استحقار بإهلاكهم وإيماء بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا لكان تحريك ريشة من جناح ملك كافياً في استئصالهم، فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى {من بعده} وهو تعالى لم ينزل عليهم من قبله؟ أجيب: بأن استحقاق العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك بقوله تعالى: {وما كنا منزلين} أي: ما كان ذلك من سنتنا وما صح في حكمتنا أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير. {إن} أي: ما {كانت} أي: الواقعة التي عذبوا بها {إلا صيحة} صاحها بهم جبريل عليه السلام فماتوا عن آخرهم وأكد أمرها وحقق وحدتها بقوله تعالى: {واحدة} أي: لحقارة أمرهم عندنا ثم زاد في تحقيرهم ببيان الإسراع في الإهلاك بقوله تعالى: {فإذا هم خامدون} أي: ثابت لهم الخمود ما كأنهم كانت بهم حركة يوماً من الدهر شبهوا بالنار رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة والميت كرمادها كما قال لبيد: *وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يصير رماداً بعد إذ هو ساطع* وقال المعري: *وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان* قال المفسرون: أخذ جبريل عليه السلام بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فماتوا {يا حسرة على العباد} أي: هؤلاء ونحوهم ممن كذبوا الرسل فأهلكوا وهي شدة التألم ونداؤها مجاز أي: هذا أوانك فاحضري، ثم بين تعالى سبب الحسرة والندامة بقوله تعالى: {ما يأتيهم من رسول} أي رسول كان في أي وقت كان {إلا كانوا به} أي: بذلك الرسول {يستهزؤن} والمستهزئ بالناصحين المخلصين أحق أن يتحسر ويتحسر عليه، وقيل: يقول الله تعالى يوم القيامة {يا حسرة على العباد} حين لم يؤمنوا بالرسل. ولما بين تعالى حال الأولين قال للحاضرين: {ألم يروا} أي: أهل مكة القائلين للنبي صلى الله عليه وسلم لست مرسلاً، والاستفهام للتقرير أي: اعلموا وقوله تعالى {كم} خبرية بمعنى كثيراً وهو مفعول لأهلكنا تقديره: كثيراً من القرون أهلكنا وهي معمولة لما بعدها معلقة ليروا عن العمل ذهاباً بالخبرية مذهب الاستفهامية والمعنى: أما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 {أهلكنا قبلهم} كثيراً {من القرون} أي: الأمم، قال البغوي: والقرن أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود {أنهم} أي: المهلكين {إليهم} أي: إلى أهل مكة {لا يرجعون} أي: لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون، وقيل: لا يرجعون أي: الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بسبب ولا ولادة أي: أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم، قال ابن عادل: والأول أشهر نقلاً. والثاني: أظهر عقلاً. وقوله تعالى: {وإن} نافية أو مخففة وقوله تعالى {كل} أي: كل الخلائق مبتدأ وقرأ {لما} ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد الميم بمعنى إلا، والباقون بالتخفيف واللام فارقة وما مزيدة وقوله تعالى {جميع} أي: مجموعون خبر أول {لدنيا} أي: عندنا في الموقف بعد بعثهم وقوله تعالى {محضرون} أي: للحساب خبر ثان وما أحسن قول القائل: *ولو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حيّ* *ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعدها عن كل شيء* ولما قال {وإن كل لما جميع} كان ذلك إشارة إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستبعادهم فقال تعالى: {وآية} أي: علامة عظيمة {لهم} أي: على قدرتنا على البعث وإيجادنا له {الأرض} أي: هذا الجنس الذي هم منه ثم وصفها بما حقق وجه الشبه بقوله تعالى: {الميتة} التي لا روح لها؛ لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفنى أو لم يكن بها شيء أصلاً، ثم استأنف بيان كونها آية بقوله تعالى: {أحييناها} أي: باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله، فإن قيل: الأرض آية مطلقاً فلم خصها بهم حيث قال تعالى: {وآية لهم} ؟ أجيب: بأن الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية فلا يذكر له دليل فالنبي صلى الله عليه وسلم وعباد الله المخلصين عرفوا الله تعالى قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم. تنبيه: آية خبر مقدم ولهم صفتها أو متعلقة بآية؛ لأنها علامة والأرض مبتدأ، وأعرب أبو البقاء آية مبتدأ ولهم الخبر والأرض الميتة مبتدأ وصفة وأحييناها خبره فالجملة مفسرة لآية وبهذا بدأ ثم قال: وقيل فذكر الوجه الأول. ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال {وأخرجنا منها حباً} أي: جنس الحب كالحنطة والشعير والأرز، ثم بين عموم نفعه بقوله {فمنه} أي: بسبب هذا الإخراج {يأكلون} أي: من ذلك الحب فهو حب حقيقة تعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين لا تقدرون تدعون أن ذلك خيال سحري بوجه من الوجوه، وفي هذه الآية وأمثالها حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله تعالى وكماله، وقد أنشد هنا الأستاذ القشيري في تفسيره وعيب على من أهمل ذلك: *يا من تصدر في دست الإمامة في ... مسائل الفقه إملاء وتدريساً* *غفلت عن حجج التوحيد تحكمها ... شيدت فرعاً وما مهدت تأسيساً* ولما ذكر الزرع وهو مالا ساق له أتبعه بذكر ما له ساق بقوله: {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 {فيها} أي: الأرض {جنات} أي: بساتين {من نخيل وأعناب} ذكر هذين النوعين لكثرة نفعهما وقدم النخل؛ لأنه نفع كله خشبه وسعفه وليفه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وبسراً ورطباً وتمراً وفيه زينة دائماً لكونه لا يسقط ورقه. ولما كانت الجنان لا تصلح إلا بالماء قال تعالى {وفجرنا} أي: فتحنا سيحاً عظيماً {فيها} أي: الأرض {من العيون} شيئاً فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو العيون، ومن مزيدة عند الأخفش، قال البقاعي: والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء فكل موضع منها صالح لأن يتفجر منه الماء ولكن الله تعالى يمنعه من بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس فيها شيء غالب على الأرض، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض ليكون موضعاً للسكن ولو شاء لفجر الأرض كلها عيوناً كما فعل بقوم نوح فأغرق أهل الأرض كلهم، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين، والباقون بالكسر. ولما كانت حياة كل شيء إنما هي بالماء أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {ليأكلوا من ثمره} أي: ثمر ما ذكر وهو الجنات، وقيل: الضمير يعود على الأعناب؛ لأنها أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى لتقديم شيئين وهما الأعناب والنخيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما، وقيل: الضمير لله على طريق الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم وهي لغة فيه أو جمع ثمار، والباقون بفتحهما. وقوله تعالى: {وما عملته أيديهم} عطف على الثمر والمراد: ما يتخذ منه كالعصير والدبس مما موصولة ومن الذي عملته أيديهم ويؤيد هذا قراءة حمزة والكسائي وشعبة بحذف الهاء من عملته، وما نافية على قراءة الباقين بإثباتها أي: وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ولا صنع لهم فيها، وقيل: أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد مخلوق مثل دجلة والفرات والنيل. ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله تعالى: {أفلا يشكرون} أي: اشكروا فهو أمر بصيغة الاستفهام أي: ادأبوا دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم. ولما أمرهم الله تعالى بالشكر وشكر الله تعالى بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره وأشركوا قال تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج} أي: الأصناف والأنواع {كلها} أي: وغيره لم يخلق شيئاً ثم بين ذلك بقوله تعالى: {مما تنبت الأرض} دخل فيه كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها {ومن أنفسهم} من الذكور والإناث وقوله تعالى {ومما لا يعلمون} يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين من المخلوقات العجيبة الغريبة. ولما استدل تعالى بأحوال الأرض وهو المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي بقوله تعالى: {وآية لهم الليل} أي: على إعادة الشيء بعد فنائه {نسلخ} أي: نفصل {منه النهار} فإن دلالة الزمان والمكان متناسبة؛ لأن المكان لا يستغني عنه الجواهر، والزمان لا يستغني عنه الأعراض؛ لأن كل عرض فهو في زمان. تنبيه: نسلخ استعارة تبعية مصرحة، شبه انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد من الشاة والجامع ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر {فإذا هم} أي: بعد إزالة ما للنهار الذي سلخناه من الليل {مظلمون} أي: داخلون في الظلام بظهور الليل الذي كان الضياء ساتراً له كما يستر الجلد الشاة، قال الماوردي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم نقله ابن الجوزي عنه، وقد أرشد السياق حتماً إلى أن التقدير: والنهار نسلخ منه الليل الذي كان ساتره وغالباً عليه فإذا هم مبصرون. ولما ذكر الوقتين ذكر آيتيهما مبتدئاً بآية النهار بقوله تعالى: {والشمس} أي: التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها {تجري لمستقر لها} أي: لحد معين ينتهي إليه دورها لا تتجاوزه فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره، وقيل: مستقرها بانتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة، وقيل: إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها لا تتجاوزه، وقيل: مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مستقرها تحت العرش» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس: «تدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها} » . ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على ممر السنين وتعاقب الأحقاب عظمه بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر الباهر للعقول وزاد في عظمه بصيغة التفعيل بقوله تعالى: {تقدير العزيز} أي: الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة وهو غالب على كل شيء {العليم} أي: المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى المستقر أي: ذلك المستقر تقدير العزيز العليم. ولما ذكر آية النهار أتبعها آية الليل بقوله تعالى: {والقمر قدرناه} أي: من حيث سيره {منازل} ثمانية وعشرين منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوماً وليلة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً، وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس عليه السلام، فإذا صار القمر في آخر منازله دق فذلك قوله تعالى {حتى عاد} أي: بعد أن كان بدراً عظيماً {كالعرجون} من النخل وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منتهاه وهو منبته من النخلة رقيقاً منحنياً ثم وصفه بقوله تعالى: {القديم} فإنه إذا عتق يبس وتقوس واصفر فيشبه القمر في رقته وصفرته في رأي العين في آخر المنازل، قال القشيري: إن القمر يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً ثم يدنو، فكلما ازداد من الشمس دنواً ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والقمر برفع الراء، والباقون بالنصب والرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال، والوجهان مستويان لتقدم جملة ذات وجهين وهي قوله تعالى: {والشمس تجري} فإن راعيت صدرها رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عجزها نصبت لتعطف فعلية على مثلها. ولما قرر أن لكل منهما منازل لا يعدوها فلا يغلب ما هو آيته آية الآخر بل إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان ذاك وإذا جاء ذاك ذهب هذا قال تعالى: {لا الشمس} التي هي آية النهار {ينبغي} أي: يسهل {لها} أي: ما دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب {أن تدرك القمر} أي: تجتمع معه في الليل فما النهار سابق الليل {ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 الليل سابق النهار} أي: فلا يأتي أحدهما قبل انقضاء الآخر، فالآية من الاحتباك؛ لأنه نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها القمر ففيه دليل على ما حذف من الثاني من نفي إدراك الشمس للقمر أي: فيغلبها وإن كان يوجد في النهار لكن من غير سلطنة فيه، بخلاف الشمس فإنها لا تكون في الليل أصلاً ونفى ثانياً سبق الليل النهار وفيه دليل على حذف سبق النهار الليل أولاً كما قدرته. {وكل} أي: من الشمس والقمر {في فلك} محيط به وهو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة؛ لأن أهل اللغة على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها، وفلكة الخيمة هي: الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة. فإن قيل: فعلى هذا تكون السماء مستديرة وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة لها أطراف على جبال وهي كالسقف المستوي ويدل عليه قوله تعالى {والسقف المرفوع} ، (الطور: 5) أجاب الرازي: بأنه ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل الدليل الحسي على كونها مستديرة فوجب المصير إليه والسقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك على جبال. ومن الأدلة الحسية أن السماء لو كانت مستوية لكان ارتفاع أول النهار ووسطه وآخره مستوياً، وليس كذلك وذكر غير ذلك من الأدلة وفي هذا كفاية، ولما ذكر لها فعل العقلاء من كونها على نظام محرر لا يختل وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل جمعها جمعهم بقوله تعالى: {يسبحون} وقال المنجمون: قوله تعالى {يسبحون} يدل على أنها أحياء؛ لأن ذلك لا يطلق إلا على العاقل قال الرازي: إن أرادوا القدر الذي يكون منه التسبيح فنقول به؛ لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام {ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون} (الصافات: 91 ـ 92) ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك ذكر ما هيأ به من الفلك للسباحة على وجه الماء بقوله تعالى: {وآية لهم} أي: على قدرتنا التامة {أنا} أي: على ما لنا من العظمة {حملنا ذريتهم} أي: آباءهم الأصول، قال البغوي: واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد والألف واللام في قوله تعالى {في الفلك} للتعريف أي: فلك نوح عليه الصلاة والسلام وهو مذكور في قوله تعالى {واصنع الفلك بأعيننا} (هود: 37) وهو معلوم عند العرب ثم وصف الفلك بقوله تعالى: {المشحون} أي: الموقر المملوء حيواناً وناساً وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير أحد قط مثلها ولا يرى أيضاً ومع ذلك فسلمها الله تعالى، وأيضاً الآدمي يرسب في الماء ويغرق فحمله في الفلك وقع بقدرته تعالى لكن من الطبيعيين من يقول: الخفيف لا يرسب؛ لأنه يطلب جهة فوق فقال {الفلك المشحون} أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله. وقال أكثر المفسرين: إن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد: إما أن يكون الفلك المعين الذي كان لنوح عليه الصلاة والسلام وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} (الزخرف: 12) وقوله تعالى {وترى الفلك فيه مواخر} (فاطر: 12) وقوله تعالى {فإذا ركبوا في الفلك} (العنكبوت: 65) إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس، فإن كان المراد: سفينة نوح عليه السلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 ففيه وجوه. الأول: أن المراد حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك ما بقي للأب نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله تعالى {حملنا ذريتهم} إشارة إلى كمال النعمة أي: لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري قال ابن عادل: ويحتمل أن يقال: إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر؛ لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال تعالى {حملنا ذريتهم} أي: لم يكن الحمل حملاً لهم وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صندوقاً لا قيمة له وفيه جواهر قيل: إنه لم يحمل الصندوق وإنما حمل ما فيه. ثانيها: أن المراد بالذرية الجنس أي: حملنا أجناسهم؛ لأن ذلك الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري أي: النساء لأن المرأة، وإن كانت صنفاً غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال: ذرارينا أي: أمثالنا. ثالثها: أن الضمير في قوله تعالى {وآية لهم الليل} للعباد وكذا {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} وإذا علم هذا فكأنه تعالى قال: وآية للعبادة أنا حملنا ذرية العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً معينين كقوله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 29) {ويذيق بعضكم بأس بعض} و (الأنعام: 65) لذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال فقال هؤلاء القوم: هم قتلوا أنفسهم فهم في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً معينين بل المراد أن بعضهم قتل بعضهم فكذلك قوله تعالى {وآية لهم} أي: آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وإن قلنا المراد: جنس الفلك قال ابن عادل: وهو الأظهر؛ لأن سفينة نوح عليه السلام لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد. وقوله تعالى في سفينة نوح عليه السلام {وجعلناها آية للعالمين} (العنكبوت: 15) أي: بوجود جنسها ومثلها ويؤيده قوله تعالى {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (لقمان: 31) ، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى {وآية لهم الأرض الميتة} {وآية لهم الليل} ولم يقل: وآية لهم الفلك؟ أجيب: بأن حملهم في الفلك هو العجب أما نفس الفلك فليس بعجيب؛ لأنه كبيت مبني من خشب وأما نفس الأرض فعجيب ونفس الليل فعجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله. فإن قيل: قال تعالى {وحملناكم في البر والبحر} (الإسراء: 70) ولم يقل: ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النقمة. أجيب: بأنه تعالى لما قال {في البر والبحر} عم الخلق جميعاً؛ لأن ما من أحد إلا وحمل في البر والبحر، وأما الحمل في البحر فلم يعم فقال: إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء، وقرأ نافع وابن عامر بألف بعد الياء التحتية وكسر الفوقانية على الجمع، والباقون بغير ألف وفتح الفوقانية على الإفراد واختلف في تفسير قوله تعالى: {وخلقنا لهم من مثله} أي: من مثل الفلك {ما يركبون} فقال ابن عباس: يعني الإبل فالإبل في البر كالسفن في البحر وقيل: أراد به السفن التي عملت بعد سفينة نوح عليه السلام على هيأتها، وقال قتادة والضحاك وغيرهما: أراد به السفن الصغار التي تجري في الأنهار كالفلك الكبار في البحار. {وإن نشأ} أي: لأجل ما لنا من القوة الشاملة والدرة التامة {نغرقهم} أي: مع أن هذا الماء الذي يركبونه ليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 كالماء الذي حملنا آباءهم {فلا صريخ لهم} أي: مغيث لهم لينجيهم مما نريد بهم من الغرق أو فلا إغاثة كقولهم: أتاهم الصريخ {ولا هم} أي: بأنفسهم من غير صريخ {ينقذون} أي: يكون لهم إنقاذ أي: خلاص لأنفسهم أو غيرها. {إلا رحمة} أي: فنحن ننقذهم إن شئنا رحمة {منا} أي: لهم لا وجوباً علينا ولا لمنفعة تعود منهم إلينا {ومتاعاً} أي: وتمتيعنا إياهم بلذاتهم {إلى حين} أي: إلى انقضاء آجالهم. {وإذا قيل لهم} أي: من أي: قائل كان {اتقوا ما بين أيديكم} أي: من عذاب الدنيا كغيركم {وما خلفكم} من عذاب الآخرة {لعلكم ترحمون} تعاملون معاملة المرحوم بالإكرام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما بين أيديكم يعني: الآخرة فاعملوا لها وما خلفكم يعني: الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها، وقال قتادة ومقاتل: ما بين أيديكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة. تنبيهان: أحدهما: {إلا رحمة} منصوب على المفعول له وهذا مستثنى مفرغ وقيل: مستثنى منقطع وقيل: على المصدر بفعل مقدر وقيل: على إسقاط الخافض أي: إلا برحمة والفاء في قوله تعالى {فلا صريخ لهم} رابطة لهذه الجملة بما قبلها، فالضمير في لهم عائد على المغرقين. ثانيهما: جواب إذا محذوف تقديره أعرضوا يدل عليه قوله تعالى بعده {إلا كانوا عنها معرضين} وعلى هذا فلفظ كانوا زائد. {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} أي: المحسن إليهم {إلا كانوا} أي: مع كونها من عند من غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه {عنها معرضين} أي: دائماً إعراضهم. {وإذا قيل لهم} أي: من أي: قائل كان {أنفقوا} أي: على من لا شيء له شكراً لله على ما أعطاكم قال صلى الله عليه وسلم «هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» «إنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء» . وبين تعالى أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه بقوله تعالى: {مما رزقكم الله} أي: مما أعطاكم الله الذي له جميع صفات الكمال {قال الذين كفروا} أي: ستروا وغطوا ما دلهم عليه أنوار عقولهم من الخيرات {للذين آمنوا} أي: استهزاء بهم {أنطعم من لو يشاء الله} أي: الذي له جميع العظمة كما زعمتم في كل وقت يريده {أطعمه} وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله سبحانه وتعالى، وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأموالهم قالوا {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} لكنا ننظره لا يشاء ذلك، فإنه لم يطعمهم مما ترى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك موافقة لمراد الله تعالى فيه فتركوا لتأدب مع الأمر وأظهروا التأدب مع بعض إرادة الله المنهي عن الجري معها والاستسلام لها، وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون: لا نعطي من حرمه الله تعالى وهذا الذي يزعمونه باطل؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا عن الفقير لا بخلاً وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلوا الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني، فلا اعتراض لأحد في مشيئة الله وحكمه في خلقه وما كفاهم حتى قالوا لمن أرشدهم إلى الخير {إن} أي: ما {أنتم إلا في ضلال} أي: محيط بكم {مبين} أي: في غاية الظهور وما دروا أن الضلال إنما هو لهم. فإن قيل: قولهم {من لو يشاء الله أطعمه} كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذم؟ أجيب: بأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله تعالى أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 مع قدرة الله تعالى وكلاهما فاسد فبين ذلك تعالى بقوله سبحانه {مما رزقكم الله} فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء؛ لأن من كان له مع الغير مال وله في خزانته مال مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من في يده مال في خزانتك أكثر مما في يدي أعطه منه. فإن قيل: ما الحكمة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا: أننفق على من لو يشاء الله رزقه؛ لأنهم أمروا بالإنفاق فكان جوابهم أن يقولوا: أننفق فلم قالوا: أنطعم؟ أجيب: بأن هذا بيان غاية مخالفتهم؛ لأنهم إنما أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فلم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وهذا كقول القائل لغيره: أعط زيداً ديناراً فيقول: لا أعطيه درهماً مع أن المطابق هو أن يقول: لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك هنا. تنبيه: إنما وصفوا المؤمنين بأنهم في ضلال مبين لظنّهم أن كلام المؤمنين متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال، قال الرازي: ووجه ذلك أنهم قالوا {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} وهذا إشارة إلى أن الله تعالى إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمراً بتحصيل الحاصل، وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام، فكيف تأمروننا به؟ ووجه آخر: وهو أنهم قالوا: إن أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعياً في إبطال فعل الله تعالى وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال، واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر، وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي الإطلاع على المقصود الذي لأجله أمر به، مثاله: إذا أراد الملك الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد وقال للعبد: أحضر المركوب فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لتسبب إلى أن يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره فالأدب في الطاعة: هو امتثال الأمر لا تتبع المراد، فالله سبحانه إذا قال {أنفقوا مما رزقكم الله} لا يجوز أن يقال لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه؟ وقد تقدم ماله بهذا تعلق. {ويقولون} أي: عادة مستمرة مضمومة إلى ما تقدم {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا {الوعد} أي: البعث الذي تهددوننا به تارة تلويحاً وتارة تصريحاً عجلوه لنا {إن كنتم صادقين} فيه قال الله تعالى: {ما ينظرون} أي: ينتظرون {إلا صيحة} وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته بقوله عز وجل {واحدة} وهي نفخة إسرافيل عليه السلام الأولى المميتة {تأخذهم} وقوله تعالى {وهم يخصمون} قرأه حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم والمعنى: يخصم بعضهم بعضاً فالمفعول محذوف، وأبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد، ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنهم باختلاس فتحة الخاء، والباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد، والأصل في القراءات الثلاث يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحها إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنبيهاً على أن الخاء أصلها السكون، والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان لذلك فكسروا أولهما فهذه أربع قراءات. ولما كانت هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 هي النفخة المميتة تسبب عنها قوله تعالى: {فلا يستطيعون توصية} أي: يوجدون الوصية في شيء من الأشياء {ولا إلى أهلهم} أي: فضلاً عن غيرهم {يرجعون} أي: فيروا حالهم بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجؤه الصيحة وربما أفهم التعبير بإلى أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها، وفي الحديث: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها» . ولما دل ذلك على الموت قطعاً عقبه بالبعث بقوله تعالى: {ونفخ في الصور} أي: القرن النفخة الثانية للبعث وبين النفختين أربعون سنة. ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده من غير تخلف عبر تعالى بما يدل على التعقب والتسبب والفجأة بقوله تعالى: {فإذا هم} أي: حين النفخ {من الأجداث} أي: القبور واحدها جدث المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ، فإن قيل: كيف يكون ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال؟ أجيب: بأن الله تعالى يجمع أجزاء كل ميت في الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه {إلى ربهم} أي: إلى الموقف الذي أعده لهم من أحسن إليهم بالتربية {ينسلون} أي: يسرعون المشي مع تقارب الخطا بقوة ونشاط فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى.u فإن قيل: المسيئ إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رجلاً ويؤخر أخرى والنسلان سرعة المشي فكيف يوجد منهم؟ أجيب: بأنهم ينسلون من غير اختيارهم، فإن قيل: قال في آية أخرى {فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر: 68) وقال ههنا {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} والقيام غير النسلان وقوله تعالى في الموضعين {إذا هم} يقتضي أن يكونا معاً؟ أجيب: بأن القيام لا ينافي المشي السريع؛ لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وبأن ذلك لسرعة الأمور كان الكل في زمان واحد كقول القائل: * ... مكر مفر مقبل مدبر معاً* واعلم أن النفختين يورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع الأجرام يفرقها وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو المراد النفخة الثانية. ولما تشوقت النفوس إلى ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون استأنف قوله تعالى: {قالوا} أي: الذين هم من أهل الويل {يا} للتنبيه {ويلنا} أي: هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه {من بعثنا من مرقدنا} قال أبي بن كعب وابن عباس وقتادة: إنما يقولون هذا؛ لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل. وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها دعوا بالويل وصار عذاب القبر في جنبها كالنوم فعدوا مكانهم الذي كانوا فيه مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ مرقداً هيناً بالنسبة إلى ما انكشف لهم من العذاب الأكبر فقالوا: من بعثنا من مرقدنا، فإن قيل: ما وجه تعلق من بعثنا من مرقدنا بقولهم يا ويلنا؟ أجيب: بأنهم لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل عليهم الصلاة والسلام فقالوا: يا ويلنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياماً فنبهنا؟ كما إذا كان الإنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لا يطيقه، ثم يرى رجلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول: أهذا ذاك أم لا؟ ويدل على هذا قولهم {من مرقدنا} حيث جعلوا القبور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياماً فتنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا، وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من مرقدنا إشارة إلى متوهمهم احتمال الانتباه. وقولهم {هذا} إشارة إلى البعث {ما} أي: الذي {وعد} أي: به {الرحمن} أي: العام الرحمة الذي رحمته مقتضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه ويجازي كلاً بعمله من غير حيف وقد رحمنا بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام إلينا بذلك وطالما أنذرونا حلوله وحذرونا صعوبته وطوله {وصدق} أي: في أمره {المرسلون} أي: الذين أتونا بوعد الله تعالى ووعيده. تنبيه: في إعراب هذا وجهان: أظهرهما: أنه مبتدأ وما بعده خبره ويكون الوقف تاماً على قوله تعالى {من مرقدنا} وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان: أحدهما: أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى أو من قول الملائكة أو من قول المؤمنين، الثاني: أنها من كلام الكفار فتكون في محل نصب بالقول الثاني من الوجهين الأولين هذا صفة لمرقدنا وما وعد منقطع عما قبله، ثم في (ما) وجهان أحدهما: أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي: الذي وعده الرحمن وصدق المرسلون فيه حق عليكم وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري، والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: في هذا الذي وعد الرحمن. {إن} أي: ما {كانت} أي: النفخة التي وقع الإحياء بها {إلا صيحة واحدة} أي: كما كانت صيحة الإماتة واحدة {فإذا هم} أي: فجأة من غير توقف أصلاً {جميع} أي: على حالة الاجتماع لم يتأخر منهم أحد {لدينا} أي: عندنا {محضرون} ثم بين تعالى ما يكون في ذلك اليوم بقوله تعالى: {فاليوم لا تظلم نفس} أي: أي نفس كانت مكروهة أو محبوبة {شيئاً} أي: لا يقع لها ظلم ما من أحد ما في شيء ما {ولا تجزون} أي: على عمل من الأعمال شيئاً من الجزاء من أحد {إلا ما كنتم تعملون} ديدناً لكم بما ركز في جبلاتكم ثم بين تعالى حال المحسن بقوله تعالى: {إن أصحاب الجنة} أي: الذين لا حظ للنار فيهم {اليوم} أي: يوم البعث وهذا يدل على أنه يعجل دخولهم ودخول بعضهم إليها ووقوف الباقين للشفاعات ونحوها من الكرامات عند دخول أهل النار النار، وعبر بما يدل على أنهم بكلياتهم مقبلون عليه ومطرقون له مع توجههم إليه بقوله {في شغل} أي: عظيم جداً لا تبلغ وصفه العقول كما كانوا في الدنيا في أشغل الشغل بالمجاهدات في الطاعات. وقرأ ابن عامر والكوفيون بضم العين، والباقون بالإسكان ثم بين ذلك الشغل بقوله {فاكهون} أي: متلذذون في النعمة، واختلف في هذا الشغل فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في افتضاض الإبكار، وقال وكيع بن الجراح رضي الله عنهما: في السماع، وقال الكلبي: في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال ابن كيسان: في زيارة بعضهم بعضاً، وقيل: في ضيافة الله تعالى فاكهون، وقيل: في شغل عن هول اليوم يأخذون ما آتاهم الله تعالى من الثواب فما عندهم خبر من عذاب ولا حساب. وقوله تعالى {فاكهون} متمم لبيان سلامتهم فإنه لو قال: في شغل جاز أن يقال: هم في شغل أعظم من التفكر في اليوم وأهواله فإن من تصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخسران وقع في ماله يقول: أنا مشغول عن هذا بأهم منه فقال: فاكهون أي: شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فاكهون: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 فرحون. ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال تعالى: {هم} أي: بظواهرهم وبواطنهم {وأزواجهم} أي: أشكالهم الذين لهم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون من خشيتنا، وفي هذا إشارة إلى عدم الوحشة {في ظلال} أي: يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد فلا تصيبهم الشمس كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام والصبر في مرضاتنا على الآلام ويعرون أيديهم وقلوبهم من الأموال ببذل الصدقات في سبيلنا على ممر الليالي وكر الأيام. تنبيه: ظلال جمع ظل كشعاب أو ظله كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي بضم الظاء ولا ألف بين اللامين وهم مبتدأ وخبره في ظلال كما قاله أبو البقاء. ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح النفس وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر قال تعالى {على الأرائك} أي: السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجال قال ثعلب لا تكون أريكة حتى تكون عليها حجلة وقال ابن جرير الأرائك الحجال فيها السرر وروى أبو عبيدة في (الفضائل) عن الحسن قال: كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجل من أهل اليمن، فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون أبصارهم ويضعون نفوسهم لأجلنا {متكئون} كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال، والاتكاء الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه أو الجلوس مع التمكن على هيئة المتربع وفي هذا إشارة إلى الفراغ وقوله تعالى: {لهم} أي: خاصة بهم {فيها فاكهة} أي: لا تنقطع أبداً ولا مانع لهم من تناولها ولا يتوقف ذلك على غير الإرادة إشارة إلى أن لا جوع هناك؛ لأن التفكه لا يكون لدفع الجوع {ولهم ما يدعون} أي: يتمنون. تنبيه: في ما هذه ثلاثة أوجه: موصولة اسمية نكرة موصوفه، والعائد على هذين محذوف مصدرية، ويدعون مضارع ادعى افتعل من دعا يدعو أشرب معنى التمني، وقال الزجاج: هو من الدعاء أي: ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من دعوت غلامي فيكون الافتعال بمعنى: الفعل كالاحتمال بمعنى: الحمل والارتحال بمعنى: الرحل، وقيل: افتعل بمعنى: تفاعل أي: ما يتداعونه كقولهم: ارتموا وتراموا بمعنى واحد، ثم فسر الذي يدعونه أي: يطلبونه بغاية الاشتياق إليه واستأنف الإخبار عنه بقوله تعالى: {سلام} أي: عظيم جداً عليكم يا أهل الجنة والسلام يجمع جميع النعم ثم بين هذا السلام بما أظهر من عظمه بقوله {قولاً من رب} أي: دائم الإحسان {رحيم} أي: عظيم الإكرام بما ترضاه الإلهية كما كانوا في الدنيا يفعلون كل ما فيه الرضا فيرحمهم في حال السلام وسماع الكلام بلذّة الرؤية مع التقوية على الدهش والضعف لعظيم الأمر وبالتأهيل لهذا المقام الأكرم مع قصورهم عنه. روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 عليهم في ديارهم» ، وقيل: تسلم عليهم الملائكة من ربهم لقوله تعالى {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد: 23 ـ 24) أي: يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم وقيل: يعطيهم السلامة الأبدية. ولما ذكر ما للمؤمنين من النعيم ذكر ما للكافرين من الجحيم بقوله تعالى: {وامتازوا} أي: ويقال للمجرمين امتازوا أي: انفردوا {اليوم أيها المجرمون} عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم قال الضحاك: لكل كافر في النار بيت يدخل ذلك البيت فيردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى، وقيل: إن قوله تعالى {وامتازوا} أمر تكوين فحين يقول {امتازوا اليوم} فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم وفي وجوههم سواد كما قال تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41) ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرؤوس قال تعالى موبخاً لهم: {ألم أعهد إليكم} أي: أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة ومنحت من العقول وبعثت من الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزلت من الكتب في بيان الطريق الموصل إلى النجاة. ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتبكيتهم وكانت هذه السورة قلباً وكان القلب أشرف الأعضاء وكان الإنسان أشرف الموجودات خصه بالخطاب بقوله تعالى: {يا بني آدم} أي: على لسان رسلي عليهم الصلاة والسلام، واختلف في معنى: هذا العهد على وجوه أقواها: ألم أوص إليكم كما مر، وقيل: آمركم، وقيل: غير ذلك، واختلفوا في هذا العهد أيضاً على أوجه: أظهرها: أنه مع كل قوم على لسان رسلهم كما مر، وقيل: هو العهد الذي كان مع آدم في قوله تعالى {ولقد عهدنا إلى آدم} (طه: 115) وقيل: هو الذي كان مع ذريته عليه السلام حين أخرجهم وقال {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: 172) {أن لا تعبدوا الشيطان} أي: البعيد المحترق بطاعتكم فيما يوسوس به إليكم والطاعة قد تطلق على العبادة. ثم علل النهي عن عبادته بقوله تعالى: {إنه لكم} والتأكيد؛ لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته {عدو مبين} أي: ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشرف منها ومن جهة أمركم بما ينغص الدنيا من التخالف والخصام، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً؟ فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي؟ فكيف إذا كان عائقاً عن المولى؟ فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً عنه؟ فإن قيل: إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزنا، والشرب، ونحو ذلك، ويكره ما يسخطه من المجاهدة، والعبادة ونحو ذلك؟ أجيب: بأنه يستعين عليه بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله تعالى، فيستعين بشهوته التي خلقها الله تعالى فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سبباً لفساد حاله، ويدعوه بها إلى مسالك المهالك، وكذا يستعين بغضبه الذي خلقه الله تعالى فيه لدفع المفاسد ويجعله سبباً لوباله وفساد أحواله، وميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى المضار، وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد في مرضه ومن معدته فاسدة لا تهضم القليل من الغداء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه. ولما منع من عبادة الشيطان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 أمر بعبادة الرحمن بقوله عاطفاً على أن لا: {وأن اعبدوني} أي: وحدوني وأطيعوني {هذا} أي: الأمر بعبادتي {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: بليغ الاستقامة وعبادة الشيطان طريق ضيق معوج غاية الضيق والعوج، وقرأ قنبل بالسين وخلف بالإشمام أي: بين الصاد والزاي والباقون بالصاد. ثم ذكر ما ينبه لعداوة الشيطان بقوله تعالى: {ولقد أضل منكم} أي: عن الطريق الواضح السوي بما سلطه به من الوسوسة {جبلاً} أي: أممااًكباراً عظاماً ما كانوا كالجبال في قوة العزائم وصعوبة الانقياد، ومع ذلك كان يلعب بهم كما تلعب الصبيان بالكرة، فسبحان من أقدره على ذلك وإلا فهو أضعف كيداً وأحقر أمراً، وقرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء الموحدة وتشديد اللام مع التنوين، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة، والباقون بضم الجيم والموحدة وكلها لغات ومعناها: الخلق والجماعة أي: خلقاً {كثيراً} ثم زاد في التوبيخ والإنكار بقوله تعالى: {أفلم تكونوا تعقلون} أي: عداوته وإضلاله، وما حل بهم من العذاب فتؤمنوا ويقال لهم في الآخرة: {هذه جهنم} أي: التي تستقبلكم بالعبوسة، والتجهم كما كنتم تفعلون بعبادي الصالحين {التي كنتم توعدون} أي: إن لم ترجعوا عن غيّكم. {اصلوها} أي: قاسوا حرها وتوقدها وهول أمر ذلك اليوم فإن ذكره على حد ما مضى بقوله تعالى: {اليوم} ليكونوا في شغل شاغل كما كان أصحاب الجنة وشتان ما بين الشغلين {بما} أي: بسبب ما {كنتم تكفرون} أي: تسترون ما هو ظاهر جداً بعقولكم من آياتي في دار الدنيا. تنبيه: في هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه أحدها: قوله تعالى {اصلوها} أمر تنكيل وإهانة كقوله تعالى {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49) ثانيها: قوله تعالى {اليوم} يعني: العذاب حاضر ولذاتهم قد مضت وبقي اليوم العذاب. ثالثها: قوله تعالى {بما كنتم تفكرون} فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام كما قيل: *أليس بكاف لذي همة ... حياء المسيئ من المحسن* ولما كان كأنه قيل هل يحكم في ذلك اليوم بعلمه، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة؟ نبه على أظهر من قواعد الدنيا بقوله تعالى مهولاً: {اليوم} على النسق الماضي في مظهر العظمة؛ لأنه أليق بالتهويل {نختم} أي: بما لنا من عظيم القدرة {على أفواههم} أي: الكفار لاجترائهم على الكذب كقوله سبحانه {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: 23) {وتكلمنا أيديهم} أي: بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة {وتشهد أرجلهم} أي: عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار {بما كانوا} أي: في الدنيا بجبلاتهم {يكسبون} فكل عضو ينطق بما صدر عنه، فالآية من الاحتباك أثبت الكلام للأيدي أولاً: لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً: وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً؛ لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً. وتقريبه: أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة، وفي كيفية هذا الختم وجهان أقواهما أن الله تعالى يسكت ألسنتهم، وينطلق جوارحهم فتشهد عليهم، وإن ذلك في قدرة الله تعالى يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فإن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فجاز تحريك غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 بمثلها والله سبحانه قادر على كل الممكنات. والوجه الآخر: أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم، وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس لا يجدون عذراً فيعتذرون، ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن. والصحيح الأول لما روى أبو هريرة: «أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤيتهما قال: فيلقى العبد فيقول: ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتزايد وتترافع قال: بلى يا رب قال: فظننت أنك ملاقي فيقول: لا يا رب فيقول اليوم أنساك كما نسيتني إلى أن قال: ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ثم قال: فيقال له: أفلا نبعث عليك شاهدنا قال: فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه، فيقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، قال: وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه» . ولما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك قال: قلنا: الله ورسوله أعلم قال: من مخاطبة العبد ربه قال: يقول العبد: يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول: بلى فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول تعالى {كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً} (الإسراء: 14) وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقول لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لَكُنَّ أو سحقاً فعنكن كنت أناضل» وقال صلى الله عليه وسلم «أول ما يسأل من أحدكم فخذه وكفه» . تنبيه: ههنا سؤالات: الأول: ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال {نختم} وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، الثاني: ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل، الثالث: أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً، وغير الصديقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم، والأيدي والأرجل صدرت الذنوب عنها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتهم؟ أجيب: عن الأول: بأنه لو قال: نختم على أفواههم وننطِق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} أي: بالاختيار بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم. وأجيب عن الثاني: بأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى {وما عملته أيديهم} أي: ما عملوه وقال تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195) أي: ولا تلقوا أنفسكم فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهن. وأجيب عن الثالث: بأن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكلف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق إنما المنسوب من ذلك إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 العبد المكلف لا إلى أعضائه، ولا يقال: ورد أن العين تزني وأن الفرج يزني وأن اليد كذلك؛ لأن معناه أن المكلف يزني بها لا أنها هي تزني، وأيضاً فإنا نقول: في رد شهادتها قبول شهادتها؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لابد أن يكون مذنباً في الدنيا وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا، وهذا كمن قال لفاسق: إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر فقال الفاسق: كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد؛ لأنه إن صدق في قوله: كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووقع الجزاء، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم فقد وجد الشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني: كذبت في نهار ذلك اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه، ثم بين سبحانه وتعالى أنه قادر على إذهاب الأبصار كما هو قادر على إذهاب البصائر بقوله تعالى: k {ولو نشاء} وعبر بالمضارع ليتوقع في كل حين فيكون أبلغ في التهديد {لطمسنا على أعينهم} أي: الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق وهو معنى الطمس كقوله تعالى {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} (البقرة: 20) يقول: إنا أعمينا قلوبهم ولو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة وقوله تعالى {فاستبقوا الصراط} أي: ابتدروا الطريق ذاهبين كعادتهم عطف على لطمسنا {فأنى} أي: فكيف {يبصرون} الطريق حينئذ وقد أعمينا أعينهم أي: لو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عمياً يترددون فلا يبصرون الطريق وهذا قول الحسن والسدي، وقال ابن عباس ومقاتل: معناه لو نشاء لطمسنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم. ولما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال تعالى: {ولو نشاء} أي: مسخهم {لمسخناهم} أي: حولناهم عن تلك الحالة فجعلناهم حجارة أو جعلناهم قردة وخنازير. ولما كان المقصود من المفاجأة بهذه المصائب بيان أنه سبحانه لا كلفة عليه في شيء من ذلك قال تعالى {على مكانتهم} أي: المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منهم شاغلاً له بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه، وقرأ شعبة بألف بعد النون على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد {فما استطاعوا} أي: بأنفسهم بنوع معالجة {مضيا} أي: إلى جهة من الجهات ثم عطف على جملة الشرط قوله تعالى {ولا يرجعون} أي: يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر قيل: لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع. {ومن نعمره} أي: نطل عمره إطالة كثيرة {ننكسه} قرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وتشديد الكاف مكسورة من نكسه مبالغة، والباقون بفتح النون الأولى وسكون الثانية وتخفيف الكاف مضمومة من نكسه وهي محتملة للمبالغة وعدمها ومعنى ننكسه: {في الخلق} أي: خلقه نرده إلى أرذل العمر يشبه الصبي في الخلق، وقيل: ننكسه في الخلق أي: ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنتين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلا تزيد فيه غريزة ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 في البدن، وأما في المعارف فتارة وتارة وهذا أيضاً في غير الأنبياء عليهم السلام، أما هم فلا ينقص شيء من قواهم بل تزداد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي غير مكترث وأن الصحابة رضي الله عنهم يجهدون أنفسهم فيكون جهدهم أن لا يدركوا مشيته الهوينا و «أنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة» الذي كان يضرب بقوته المثل، وكان واثقاً من نفسه أنه يصرع من صارعه فلم يملكه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وعاد إلى ذلك ثلاث مرات كل ذلك لا يتمسك في يده حتى خرج يقول: إن هذا لعجب يا محمد تصرعني» ، وحتى: «أنه دار على نسائه وهن تسع كل واحدة منهن تسع مرات في طلق واحد» إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس. ولم يحك عن نبي من الأنبياء عليهم السلام ممن عاش منهم ألفاً وممن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة: «أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صَكّهُ ففقأ عينه فقال لربه: أرسلتني لعبد لا يريد الموت قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال: أي: رب ثم ماذا؟ قال: الموت قال: فالآن» وكان موسى وقت قبضه ابن مائة وعشرين سنة {أفلا يعقلون} أي: أن القادر على ذلك عندهم قادر على البعث فيؤمنون، وقرأ نافع وابن ذكوان بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة. ولما منح الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم غرائز من الفضائل مما عجز عنها الأولون والآخرون، وأتى بقرآن أعجز الأنس والجن، وعلوم وبركات فاقت القوى ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وكذباً وعدواناً قال تعالى: {وما علمناه} أي: نحن {الشعر} فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم، ورويِّ مقصود وقافية يلتزمها ويدير المعاني عليها ويحتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير وغيره في قصائدهم {وما أنا من المتكلفين} (ص: 86) لأن ذلك، وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا؛ لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافية ملتزمة على أن فيه نقيصة أخرى وهي أعظم ما يوجب النفرة عنه وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا فيه ينابيع الحكمة ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة بما ألهمنا إياه، ثم ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرناه به من جوامع الكلم والحكم فلا تكلف عنده أصلاً: «ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم» . ولما كان الشعر مع ما يبنى عليه من التكلف الذي هو بعيد جداً عن سجايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف شرفهم بما يكسب مدحاً وهجواً فيكون أكثره كذباً إلى غير ذلك. قال تعالى {وما ينبغي له} أي: وما يصح له الشعر ولا يسهل له على ما أختبرتم من طبعه نحواً من أربعين سنة؛ لأن منصبه أجل وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً أو أن يتقيد بما قد يجر نقيصة في المعنى وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له، كما جعلناه أمياً لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض، وما كان يتزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً روى الحسن: «أن النبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: *كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهياً* فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال الشاعر: *كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً فقال عمر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله يقول الله عز وجل {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وعن ابن شريح قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت: «كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت: وربما قال: *ويأتيك بالأخبار من لم تزود* وفي رواية قالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بين قيس طرفة العبدي: *ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود* فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فقال: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» وقيل: معناه ما كان متأتياً له، وأما قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم والبخاري: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» وقوله كما رواه الشيخان أيضاً: * «هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت» * فاتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعراً، هذا وقد روى أنه حرك الباءين في قوله: أنا النبي لا كذب وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية من قوله هل أنت إلا إصبع إلخ. وقيل: الضمير للقرآن أي: وما يصح أن يكون القرآن شعراً، فإن قيل: لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر والكهانة ولم يقل: وما علمناه السحر وما علمناه الكهانة؟ أجيب: بأن الكهانة إنما كانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب وتكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكليم الجذع والحجر وغير ذلك، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلو القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى {إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} (البقرة: 23) إلى غير ذلك ولم يقل: إن كنتم في شك من رسالتي فأخبروا بالغيوب أو أشبعوا الخلق الكثير بالشيء اليسير. فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم. وما نفى أن يكون ما أتى به من جنس الشعر قال تعالى: {إن} أي: ما {هو} أي: هذا الذي آتاكم به {إلا ذكر} أي: شرف وموعظة {وقرآن} أي: جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والنظر إلى وجه الله العظيم {مبين} أي: ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين} (ص: 86) كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما ذكر للأذكياء جداً وقوله تعالى: {لينذر} ضميره للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء الفوقية على الخطاب وقيل: للقرآن ويدل له قراءة الباقين بالياء التحتية على الغيبة، واختلف في قوله تعالى {من كان حياً} على قولين: أحدهما: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 أن المراد به المؤمن؛ لأنه حي القلب والكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه} (الأنعام: 122) والثاني: المراد به العاقل فهماً فيعقل ما يخاطب به فإن الغافل كالميت {ويحق} أي: يجب ويثبت {القول} أي: العذاب {على الكافرين} أي: الغريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء، ويمكن أن تكون هذه الآية من الاحتباك حذف الإيمان أولاً لما دل عليه من ضده ثانياً، وحذف الموت ثانياً لما دل عليه من ضده أولاً، وأفرد الضمير في الأول على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء، وجمع في الثاني على المعنى إعلاماً بكثرة الأشقياء. {أو لم يروا} أي: يعلموا علماً هو كالرؤية، والاستفهام للتقرير والواو الداخلة عليها للعطف {أنا خلقنا لهم} أي: في جملة الناس {مما عملت أيدينا} أي: مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد المبالغة في الاختصاص والتفرد في الإحداث، كما يقول القائل: عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد {أنعاماً} على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها، وإنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلقه وإيجاده، لأن الأنعام أكثر أموال العرب والنفع بها أعم {فهم لها مالكون} أي: خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك أو فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم: *أصبحت لا أملك السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا* *والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا* والشاهد في قوله: ولا أملك رأس البعير أي: لا أضبطه والمعنى: لم نخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة كما قال تعالى: {وذللناها لهم} أي: يسرنا قيادها ولو شئنا جعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف، فمن قدر على تذليل الأشياء الصعبة جداً لغيره قادر على تطويع الأشياء لنفسه ثم سبب عن ذلك قوله تعالى {فمنها ركوبهم} أي: ما يركبون وهي الإبل؛ لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها {ومنها يأكلون} أي: ما يأكلون لحمه. ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار وكانت منافعها لغير ذلك كثيرة قال تعالى: {ولهم فيها منافع} أي: من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها وغير ذلك {ومشارب} أي: من ألبانها جمع مشرب بالفتح، وخص الشرب من عموم المنافع بعموم نفعه وجمعه لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة، ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان لو فقدها الإنسان لتكدرت معيشته تسبب عنها استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله تعالى: {أفلا يشكرون} أي: المنعم عليهم بها فيؤمنون. ولما ذكرهم تعالى نعمه وحذرهم نقمه عجب منهم في سفول نظرهم وقبح أثرهم بقوله تعالى موبخاً لهم: {واتخذوا من دون} أي: غير {الله} الذي له جميع صفات الكمال والعظمة {آلهة} أي: أصناماً يعبدونها بعدما رأوا منه تعالى تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا أنه المنفرد بها {لعلهم ينصرون} أي: رجاء أن ينصروهم فيما أحزنهم من الأمور والأمر بالعكس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 كما قال تعالى: {لا يستطيعون} أي: الآلهة المتخذة {نصرهم} أي: العابدين {وهم} أي: العابدون {لهم} أي: للآلهة {جند محضرون} أي: الكفار جند الأصنام فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً، وقيل: هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جنده يحضرون في النار وهذا كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) وقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات: 22 ـ 23) ولما بين تعالى ما تبين من قدرته الظاهرة الباهرة ووهن أمرهم في الدنيا والآخرة ذكر ما يسلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فلا يحزنك قولهم} أي: في تكذيبك كقولهم: {لست مرسلاً} (الرعد: 43) {إنا نعلم ما} أي كل ما {يسرون} أي: في ضمائرهم من التكذيب وغيره {وما يعلنون} أي: يظهرونه بألسنتهم من الأذى وغيره من عبادة الأصنام فنجازيهم عليه. ولما ذكر تعالى دليلاً على عظم قدرته ووجوب عبادته بقوله تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً} ذكر دليلاً من الأنفس أبين من الأول بقوله تعالى: {أولم ير} أي: يعلم {الإنسان} علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر {أنا خلقناه} أي: بما لنا من العظمة {من نطفة} أي: شيء حقير يسير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا إياه من تراب وأنه من لحم وعظام {فإذا هو} أي: فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه {خصيم} أي: بليغ الخصومة {مبين} أي: في غاية البيان عما يريده حتى إنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته وأنشد الأستاذ القشيري في ذلك: *أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني* *وكم علمته علم القوافي ... فلما قال قافية هجاني* وفي هذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ لإنكاره، حيث تعجب منه وجعله إفراطاً في الخصومة بيناً ومنافاته لجحود القدرة على ما هو أهون مما علمه في بدء خلقه ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفاً مكرماً بالعقوق والتكذيب. {وضرب} أي: هذا الإنسان {لنا} أي: على ما يعلم من عظمتنا {مثلاً} أي: أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى، روي: «أن أبي بن خلف الجمحي وهو الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد مبارزة، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده فقال: أترى الله يحيي هذا بعدما رم؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك ويدخلك النار» فنزلت. وقيل: هو العاصي بن وائل قاله الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأول {ونسي} أي: هذا الذي تصدى على مهانة أصله لمخاصمة الجبار {خلقه} أي: بدء أمره من المني وهو أغرب من مثله، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول وأن يكون بمعنى الترك، ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بأن {قال} أي: على طريق الإنكار {من يحيي العظام وهي رميم} أي: صارت تراباً تمرّ مع الرياح ورميم قال البيضاوي: بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث، أو اسم مفعول من رممته، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء ا. هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 قال البغوي: ولم يقل: رميمة؛ لأنه معدول عن فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله تعالى {وما كانت أمك بغيا} (مريم: 28) أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية. تنبيه: هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر؛ لأن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون {أءذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد} (السجدة: 10) {أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} (المؤمنون: 82) {من يحيي العظام وهي رميم} قالوا: ذلك على طريق الاستبعاد فأبطل الله تعلى استبعادهم بقوله تعالى: {ونسي خلقه} أي: نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصورة، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذان بهما استحقوا الإكرام، فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة مذرة لم تكن محلاً للحياة أصلاً، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه واختاروا العظم بالذكر؛ لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلاء والتفتت. والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال: {وضرب لنا مثلاً} أي: جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، ومنهم من ذكر شبهة وإن كان في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين: الأول: أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف الحكم على العدم بالوجود؟ فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بأن قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء البعداء البغضاء {يحييها} أي: بعد أن أنشأها أول مرة {الذي أنشأها} أي: من العدم ثم أحياها {أول مرة} فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً كذلك يعيده إن لم يبق شيئاً مذكوراً. الوجه الثاني: أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضها في أبدان السباع وبعضها في حواصل الطيور وبعضها في جدران الربوع كيف تجتمع. وأبعد من هذا لو أكل إنسان إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تنخلق منها أعضاؤه وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك، فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله {وهو بكل خلق} أي: مخلوق {عليم} أي: يجمع الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحه وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته. ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم بقوله تعالى: {الذي جعل لكم} أي: في جملة الناس {من الشجر الأخضر} أي: الذي تشاهدون فيه الماء {ناراً} قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ والأخرى: العفار، الأول: بفتح الميم والخاء المعجمة شجر سريع الوري أي: القدح، والثاني: بفتح المهملة وفاء وراء بعد ألف الزند فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 السواكين وهما أخضران يقطران الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى وتقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا العناب {فإذا أنتم} أي: فتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنه {منه} أي: من الشجر الموصوف بالخضرة {توقدون} أي: توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى وهذا أدل على القدرة على البعث فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب فلا الماء يطفئ النار ولا النار تحرق الخشب. ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى: {أوليس الذي خلق} أي: أوجد من العدم {السموات والأرض} أي: على كبرهما وعظم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع، وأثبت الجار تحقيقاً للأمر وتأكيداً للتقرير فقال تعالى {بقادر على أن يخلق مثلهم} أي: مثل هؤلاء الأناسي في الصغر أي: يعيدهم بأعيانهم، وقيل: الضمير يعود على السموات والأرض لتضمنهم من يعقل والأول أظهر؛ لأنهم المخاطبون وقوله تعالى {بلى} جواب ليس وإن دخل عليها الاستفهام المصير لها إيجاباً أي: هو قادر على ذلك أجاب نفسه تعالى {وهو} مع ذلك أي: مع كونه عالماً بالخلق {الخلاق} أي: الكثير الخلق {العليم} أي: البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماض ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب. ولما تقرر ذلك أنتج قوله تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم القدرة على البعث: {إنما أمره} أي: شأنه ووصفه {إذا أراد شيئاً} أي: خلق شيء من جوهر أو عرض أي شيء كان {أن يقول له كن} أي: أن يريده {فيكون} أي: يحدث وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعاً لمادة الشبهة وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، وقرأ ابن عامر والكسائي بنصب النون عطفاً على يقول، والباقون بالرفع أي: فهو يكون. ولما كان ذلك تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فلذلك قال: {فسبحان} أي: تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يبلغ أفهامكم كنهه وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال {الذي بيده} أي: قدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره {ملكوت كل شيء} أي: ملكه التام وملكه ظاهراً وباطناً. ولما كان التقدير فمنه تبدؤون عطف عليه قوله تعالى {وإليه} أي: لا إلى غيره {ترجعون} أي: معنى في جميع أموركم وحسّاً بالبعث لينصف بينكم فيدخل بعضاً النار وبعضاً الجنة، وعن ابن عباس: كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا به لهذه الآية. وما رواه البيضاوي عنه صلى الله عليه وسلم «إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس» ، و «أيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون قبض روحه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه» ، و «أيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 ريان» حديث موضوع. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفوراً له» وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات» . وعن يحيى بن أبي كثير قال: بلغنا أن من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح. سورة الصافات مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية، وثمان مئة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمان مئة وستة وعشرون حرفاً {بسم الله} الذي له الكمال المطلق {الرحمن} الذي من رحمته العدل في الدارين {الرحيم} الذي لا يدنو من جنابه نقص واختلف في تفسير قوله تعالى: {والصافات صفا} أي: وهو ترتيب الجمع على خط، فقال ابن عباس والحسن وقتادة: هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة، وعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تصفون كصفوف الملائكة عند ربهم» قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: «يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف» . وقيل: هي الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد، وقيل: هي الطير تصف أجنحتها في الهواء لقوله تعالى: {والطير صافات} (النور: 41) . واختلف أيضاً في قوله تعالى: {فالزاجرات زجراً} فأكثر المفسرين على أنها الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح، واختلف أيضاً في قوله تعالى: {فالتاليات ذكراً} فالأكثر أيضاً، أنهم الملائكة عليهم السلام يتلون ذكر الله تعالى، وقيل: هم جماعة قراء القرآن. فإن قيل: قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة؛ لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة عليهم السلام مبرؤون من هذه الصفة. أجيب بوجهين: الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال: جماعة صافة ثم تجمع على صافات. والثاني: أنهم مبرؤون من التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة. تنبيه: اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين: أحدهما: أن المقسم به خالق هذه الأشياء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى، ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى، ففي ذلك إضمار تقديره ورب الصافات ورب الزاجرات ورب التاليات، ومما يؤيد هذا أنه تعالى صرح به في قوله تعالى: {والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها} (الشمس: 5 ـ 7) والثاني: وعليه الأكثر أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل، وأما النهي عن الحلف بغير الله تعالى فهو نهي للمخلوق عن ذلك، وأما قوله تعالى: {وما بناها} فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ولو كان المراد بالقسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد، وهو لا يجوز، وأيضاً لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء، التنبيه على شرف ذواتها. وقال البيضاوي: أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية على مراتب باعتبارها تفيض عليهم أنوار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 الهيبة منتظرين لأمر الله الزاجرين، للأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور فيها، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخبر، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين لآيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه أو بطواف الأجرام المترتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أو بنفوس العلماء الصادقين في العبارات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه، أو بنفوس الغزاة الصادقين في الجهاد الزاجرين للخيل والعدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو، وقال الزمخشري: الفاء في، فالزاجرات والتاليات إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله: *يا لهف زيابة للحرث ... الصابح فالغانم فالآيب* أي: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها كقوله: «رحم الله المحلقين فالمقصرين» ، والبيضاوي ذكر هذا حديثاً قال شيخنا القاضي زكريا: لم أره بهذا اللفظ ا. هـ، لكنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس، وقرأ أبو عمرو وحمزة بالإدغام فيما ذكر، والباقون بالإظهار؛ وجواب القسم. {إن إلهكم} أي: الذي اتخذتم من دونه آلهة {لواحد} إذ لو لم يكن واحداً لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة وما يترتب عليها فكان غير حكيم، فإن قيل: ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجهين: الأول: أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو الكافر، فالأول باطل؛ لأن المؤمن مقرّ به من غير حلف. والثاني: باطل أيضاً؛ لأن الكافر لا يقرّ به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كل تقدير، الثاني: أنه يقال أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق، فقال: {والذاريات ذرواً} (الذاريات: 1) إلى قوله {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع} (الذاريات: 5) وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لا يليق بالعقلاء؟ أجيب: عن ذلك بأوجه: أولها: أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في غالب السور بالدلائل اليقينية، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لما تقدم لاسيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب. ثانيها: أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل: إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة. ثالثها: أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشيائ على صحة قوله تعالى: {إن إلهكم لواحد} (الصافات: 4) عقبه بما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحد، وهو قوله تعالى: {رب} أي: موجد ومالك ومدبر {السموات} أي: الأجرام العالية {والأرض} أي: الأجرام السافلة {وما بينهما} أي: من الفضاء المشحون بما يعجز عن عده القوي، وذلك؛ لأنه تعالى بين في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22) أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال {إن إلهكم لواحد} أردفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 بقوله {رب السموات والأرض وما بينهما} كأنه قيل: بينا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على أن الإله واحد فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد. تنبيه: علم من قوله تعالى {وما بينهما} أنه تعالى خالق لأعمال العباد؛ لأن أعمالهم موجودة فيما بين السماء والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السماء والأرض، فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله تعالى، فإن قيل: الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماء والأرض؛ لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك؟ أجيب: بأنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السموات والأرض {ورب المشارق} أي: والمغارب وجمعها باعتبار جميع السنة فإن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق وثلاثمئة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل. وقيل: كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب كأنه أراد جميع ما أشرقت عليه الشمس. وقيل: المراد بالمشارق مشارق الكواكب ومغاربها؛ لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، فإن قيل: إن الله تعالى قال في موضع {رب المشرق والمغرب} (الشعراء: 28) وقال في موضع آخر {رب المشرقين ورب المغربين} (الرحمن: 17) فما الجمع بين هذه المواضع؟ أجيب: بأن المراد بقوله {رب المشرق والمغرب} الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وبقوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} مشرقا الشتاء والصيف ومغربا الشتاء والصيف وأما موضع الجمع فقد مر. فإن قيل: لم اكتفى بذكر المشارق؟ أجيب: بوجهين. الأول: أنه اكتفى به كقوله تعالى {تقيكم الحر} (النحل: 81) والثاني: أن الشروق أقوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً منه فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بقوله {إن الله يأتي بالشمس من المشرق} (البقرة: 258) : {إنا زينا} أي: بعظمتنا التي لا تدانى {السماء} ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السموات وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال تعالى {الدنيا} أي: التي هي أدنى السموات إليكم {بزينة الكواكب} أي: بضوئها كما قاله ابن عباس أو بها، وقرأ عاصم وحمزة بزينة بالتنوين، والباقون بغير تنوين والإضافة للبيان كقراءة تنوين بزينة المبينة بالكواكب ونصب الياء الموحدة من الكواكب شعبة، وكسرها الباقون. فإن قيل: قد ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات الستة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله تعالى {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} ؟ أجيب: بأن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إن نظروا إلى السماء الدنيا فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى {إنا زينا السماء بزينة الكواكب} وقوله تعالى: {وحفظاً} منصوب بفعل مقدر أي: حفظناها بالشهب أو معطوف على زينة باعتبار المعنى، كأنه قال: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً {من كل شيطان} أي: بعيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 عن الخير محترق {مارد} أي: عات خارج عن الطاعة. ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته استأنف قوله تعالى: {لا يسمعون} أي: الشياطين المفهومون من كل شيطان {إلى الملأ الأعلى} أي: الملائكة أو أشرافهم في السماء، وعدى السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بفتح السين وتشديدها وتشديد الميم من التسمع وهو طلب السماع، وقرأ الباقون بسكون السين وتخفيف الميم {ويقذفون} أي: الشياطين يرمون بالشهب {من كل جانب} أي: من آفاق السماء وقوله تعالى: {دحوراً} مصدر دحره أي: طرده وأبعده وهو مفعول له، وقيل: هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل، وقيل: غير ذلك {ولهم} أي: في الآخرة {عذاب} غير هذا {واصب} أي: دائم، وقال مقاتل: أي: دائم في الدنيا إلى النفخة الأولى وقوله تعالى: {إلا من خطف} فيه وجهان: أحدهما: أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير لا يسمعون وهو أحسن؛ لأنه غير موجب. والثاني: أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى: أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف، وقوله تعالى: {الخطفة} مصدر معرف بأل الجنسية أو المعرفة ومعنى اختطف اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة {فاتبعه} أي: لحقه {شهاب} أي: كوكب {ثاقب} أي: مضيء قوي لا يخطئه يقتله أو يحرقه أو يثقبه أو يخبله. تنبيه: ههنا سؤالات: أولها: أن هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا؟ والأول: باطل؛ لأنها تبطل وتضمحل فلو كانت تلك الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير البتة، وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء الدنيا فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض، وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مشكل؛ لأنه تعالى قال في سورة الملك {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشيطانين} (الملك: 5) فالضمير في قوله {وجعلناها} عائد على المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي المرجوم بها بأعيانها. ثانيها: كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الفعل من عاقل؟ فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة؟. ثالثها: دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك ترى الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم رابعها: الشيطان مخلوق من النار كما حكى عن قول إبليس لعنه الله تعالى {خلقتني من نار} (الأعراف: 12) وقال تعالى {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر: 27) ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟. أجيب عن الأول: بأن هذه الشهب غير تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 الكواكب الثابتة وأما قوله تعالى {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} (الملك: 5) فنقول: كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبها يزول الإشكال. وعن الثاني: بأن هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها بين الشياطين وأجاب أبو علي الجبائي: بأن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى موضع الملائكة ومواضعها مختلفة، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب، وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب، فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم الشهب فيها، كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة، وفي جواب أبي علي نظر: إذ ليس في السماء موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد. وعن الثالث: بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكن بقلة، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقعت بكثرة فصارت بسبب الكثرة معجزة. وعن الرابع: بأن الشياطين ليسوا من نار خالصة وعلى التنزل بأنهم من النيران الخالصة إلا أنها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم فلا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضعف، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ؟ فكذلك ههنا. ولما كان المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر افتتح الله سبحانه هذه السورة بإثبات ما يدل على الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أشق وأصعب وجب أن يقدر على ما هو دونه، وهو قوله تعالى: {فاستفتهم} أي: سل كفار مكة أن يفتوك بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث وأصله من الفتوة وهي الكرم {أهم أشد} أي: أقوى وأشق وأصعب {خلقاً} أي: من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها {أم من خلقنا} أي: من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب. تنبيه: في الإتيان بمن تغليب للعقلاء وهو استفهام بمعنى التقرير أي: هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله تعالى {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر: 57) وقوله تعالى {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها} (النازعات: 27) وقيل: معنى أم من خلقنا أي: من الأمم الماضية؛ لأن لفظ من يذكر لمن يعقل؛ والمعنى: أن هؤلاء الأمم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم الخالية وقد أهلكناهم بذنوبهم فمن الذي يؤمن هؤلاء من العذاب {إنا خلقناهم} أي: أصلهم آدم بعظمتنا {من طين} أي: تراب رخو مهين {لازب} أي: شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وخمر بحيث يعلق باليد وقال مجاهد والضحاك: منتن فهو مخلوق من غير أب ولا أم وقرأ حمزة والكسائي: {بل عجبت} بضم التاء والباقون بفتحها، أما بالضم فبإسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 من الآدميين كما قال تعالى {فيسخرون منهم سخر الله منهم} (التوبة: 79) وقال تعالى {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه، والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما في الحديث: «عجب ربكم من شاب ليست له صبوة» وفي حديث آخر: «عجب ربكم من الكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم» قوله الكم الألّ أشد القنوط. وقيل: هو رفع الصوت بالبكا، وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال: إن الله تعالى لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله صلى الله عليه وسلم فلما عجب رسوله قال تعالى {وإن تعجب فعجب قولهم} (الرعد: 5) أي: هو كما تقوله، وأما الفتح فعلى أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: عجبت من تكذيبهم إياك. {ويسخرون} أي: وهم يسخرون من تعجبك قال قتادة: عجب نبي الله صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن حين أنزل ومن ضلال بني آدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {بل عجبت ويسخرون} . {وإذا ذكروا} أي: وعظوا بالقرآن {لا يذكرون} أي: لا يتعظون. {وإذا رأوا آية} قال ابن عباس وقتادة: يعني انشقاق القمر {يستسخرون} أي: يستهزئون بها وقيل: يستدعي بعضهم من بعض السخرية. {وقالوا إن} أي: ما {هذا إلا سحر مبين} أي: ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصّوا البعث بالإنكار إعلاماً بأنه أعظم مقصود بالنسبة إلى السحر فقالوا مظهرين له في مظهر الإنكار: {أءذا متنا} وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا {وكنا} أي: كوناً في غاية التمكن {تراباً} وقدموه؛ لأنه أدل على مرادهم؛ لأنه أبعد عن الحياة {وعظاماً} كأنهم جعلوا كل واحد من الموت أو الكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة والمختلطة بهما مانعاً من البعث، وهذا بعد اعترافهم بأن ابتداء خلقهم كان من التراب، ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به كما سيأتي بيانه زيادة في الإنكار فقالوا {أئنا لمبعوثون} . وقولهم {أو آباؤنا الأولون} عطف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون فإنه مفصول عنه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم، وهذا بيان للسبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط بالأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم، فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حياً؟ ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء البعداء البغضاء {نعم} أي: تبعثون على كل تقدير قدرتموه {وأنتم داخرون} أي: مكرهون عليه صاغرون ذليلون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب؛ لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق، فلما قامت المعجزة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم كان واجب الصدق فكان مجرد قوله {نعم} دليلاً قاطعاً على الوقوع، وقرأ {متنا} بضم الميم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة، وكسرها الباقون. وأما {أءذا} و {أئنا} فقرأ نافع والكسائي بالاستفهام في الأول والخبر في الثاني وابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 عامر بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني، والباقون بالاستفهام فيهما وسهل الهمزة الثانية في الاستفهام نافع وابن كثير وأبو عمرو وحقق الباقون، وأدخل في الاستفهام الفاء بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال، وقرأ قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك، والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف، وقرأ الكسائي {نعم} بكسر العين وهو لغة فيه، وقوله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة} جواب شرط مقدر أي: إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة أي: صيحة واحدة هي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها، وأمرها في الإعادة كأمرها بكن في الابتداء ولذلك رتب عليها {فإذا هم ينظرون} أي: أحياء في الحال من غير مهلة ينظر بعضهم بعضاً، وقيل: ينظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً ومن هو بين ذلك، قال البقاعي: ولعله خص بالذكر؛ لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «إذا قبض الروح تبعه البصر» وأما السمع فقد يكون لغير الحي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الكفار من قتلى بدر: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» قال: وشاهدت أنا في بلاد العرب المجاورة لنابلس شجرة لها شوك يقال لها: الغبيرا متى قيل عندها: هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة أخذ ورقها في الحال في الذبول فإنه سبحانه أعلم ما سبب ذلك. تنبيه: لا أثر للصيحة في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال تعالى {الذي خلق الموت والحياة} (الملك: 2) روي أن الله تعالى يأمر الملك إسرافيل فينادي: أيها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. {وقالوا} أي: كل من جمعه البعث من الكفرة بعد القيام من القبور معلنين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل {يا ويلنا} أي: هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه وقال الزجّاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة وتقول لهم الملائكة: {هذا يوم الدين} أي: الحساب والجزاء. {هذا يوم الفصل} أي: بين الخلائق {الذي كنتم به تكذبون} وقيل: هو أيضاً من كلام بعضهم لبعض وقوله تعالى: {احشروا} أي: اجمعوا بكره وصغار {الذين ظلموا} أي: ظلموا أنفسهم بالشرك أمر من الله تعالى للملائكة عليهم السلام، وقيل: أمر من بعضهم لبعض أي: احشروا الظلمة من مقامهم إلى الموقف، وقيل: منه إلى جهنم {وأزواجهم} أي: وأشباههم عابدوا الصنم مع عبدة الصنم وعابدو الكواكب مع عبدتها كقوله تعالى {وكنتم أزواجاً ثلاثة} (الواقعة: 7) أي: أشكالاً وأشباهاً، وقال الحسن: وأزواجهم المشركات، وقال الضحاك ومقاتل: قرناؤهم من الشياطين وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي أي: يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة {وما كانوا يعبدون من دون الله} أي: غيره في الدنيا من الأوثان والطواغيت زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، ومثل الأوثان الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بعبادة الله تعالى الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال، وقال مقاتل: يعني إبليس وجنوده واحتج بقوله تعالى: {أن لا تعبدوا الشيطان} (يس: 60) {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النار، وقال ابن كيسان: قدموهم، قال البغوي: والعرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 تسمي السائق هادياً، قال الواحدي: هذا وهم؛ لأنه يقال: هدى إذا تقدم ومنه الهادية والهوادي وهاديات الوحوش ولا يقال: هدى بمعنى قدم. {وقفوهم} أي: احبسوهم قال البغوي: قال المفسرون: لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط فقيل لهم: قفوهم {إنهم مسؤولون} قال ابن عباس: عن جميع أقوالهم وأفعالهم، وروي عنه عن لا إله إلا الله، وقيل: تسألهم خزنة جهنم عليهم السلام {ألم يأتكم نذير} (الملك: 8) أي: رسل منكم جاؤكم بالبينات {قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} (الزمر: 71) ، وروي عن أبي برزة الأسلمي قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعلمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه» . وفي رواية و «عن شبابه فيم أبلاه» ، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به وإن دعا رجل رجلاً ثم قرأ {وقفوهم إنهم مسؤولون} ويقال لهم توبيخاً: {ما لكم} أي: أي شيء حاصل لكم شغلكم وألهاكم حال كونكم {لا تناصرون} قال ابن عباس: لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، فقيل لهم يوم القيامة ما لكم لا تناصرون، وقيل: يقال للكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب ويقال عنهم: {بل هم اليوم مستسلمون} قال ابن عباس: خاضعون وقال الحسن: منقادون يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، والمعنى: هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم في دفع تلك المضار. ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بأنهم سئلوا فلم يجيبوا ربما كان يظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد تكذيبهم فقال عاطفاً على قوله تعالى: {وقالوا يا ويلنا} (الصافات: 20) {وأقبل بعضهم} أي: الذين ظلموا {على بعض} أي: بعد إيقافهم لتوبيخهم وعبر عن خصامهم تهكماً بقوله تعالى: {يتساءلون} أي: يتلاومون ويتخاصمون. {قالوا} أي: الأتباع منهم للمتبوعين {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} قال الضحاك: أي: من قبل الدين فتضلوننا عنه، وقال مجاهد: عن الصراط الحق واليمين عبارة الدين الحق كما أخبر الله تعالى عن إبليس لعنه الله تعالى {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} (الأعراف: 17) فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات، لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر، قال ابن عادل: لا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيسر و «كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في شأنه كله» ، وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين، ووعد الله تعالى المؤمن أن يعطيه الكتاب باليمين، وقيل: إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم، وقيل: عن اليمين عن القوة والقدرة كقوله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} (الحاقة: 45) {قالوا} أي: المتبوعون لهم {بل لم تكونوا مؤمنين} أي: وإنما يصدق الإضلال منا أن لو كنتم مؤمنين فرجعتم عن الإيمان إلينا وإنما الكفر من قبلكم. {وما كان لنا عليكم من سلطان} أي: قوة وقدرة حتى نقهركم ونجبركم على متابعتنا {بل كنتم قوماً طاغين} أي: ضالين مثلنا. {فحق} أي: وجب {علينا} جميعاً {قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 ربنا} أي: كلمة العذاب وهو قوله تعالى {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود: 119) {إنا} أي: جميعاً {لذائقون} أي: العذاب بذلك القول ونشأ عنه قولهم: {فأغويناكم} أي: فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه {إنا كنا غاوين} أي: ضالين فأحببتم أن تكونوا مثلنا، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية بإغواء غاوٍ فمن أغوى الأول قال الله تعالى: {فإنهم} أي: المتبوعين والأتباع {يومئذ} أي: يوم القيامة {في العذاب مشتركون} أي: كما كانوا مشتركين في الغواية. {إنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {كذلك} أي: كما نفعل بهؤلاء {نفعل بالمجرمين} غير هؤلاء أي: نعذبهم التابع منهم والمتبوع ثم وصفهم الله تعالى بقوله: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} أي: يتكبرون عن كلمة التوحيد أو عمن يدعوهم إليها. {ويقولون أئنا} في الهمزتين ما مر {لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله تعالى: {بل جاء بالحق} أي: الدين الحق {وصدق المرسلين} أي: صدقهم في مجيئهم بالتوحيد فأتى بما أتى به المرسلون من قبله ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال تعالى: {إنكم لذائقو العذاب الأليم} ثم كأنه قيل: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي الغني عن الضر والنفع أن يعذب عباده؟ فأجاب بقوله تعالى: {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} أي: جزاء عملكم وقوله تعالى: {إلا عباد الله المخلصين} أي: المؤمنين استثناء منقطع، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام بعد الخاء أي: إن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله، والباقون بالكسر أي: إنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى وقوله: {أولئك لهم} أي: في الجنة {رزق معلوم} أي: بكرة وعشياً بيان لحالهم وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غدوة أو عشية، وقيل: معلوم الصفة أي: مخصوص بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر، وقيل معناه: أنهم يتقينون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع، وقيل: معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى وقوله: {فواكه} يجوز أن يكون بدلاً من رزق، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: ذلك الرزق فواكه وفي الفواكه جمع فاكهة قولان: أحدهما: أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فعلى سبيل التلذذ. والثاني: أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى أي: لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور. {وهم مكرمون} أي: في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال لا كما عليه رزق الدنيا. ولما ذكر مأكلهم ذكر مسكنهم بقوله تعالى: {في جنات النعيم} أي: في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو متعلق بمكرمون أو خبر ثان لأولئك أو حال من المستكن في مكرمون وقوله تعالى: {على سرر متقابلين} أي: لا يرى بعضهم قفا بعض حال، ويجوز أن يتعلق على سرر بمتقابلين، ولما ذكر سبحانه وتعالى المأكل والمسكن ذكر بعد ذلك صفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 المشرب بقوله تعالى: {يطاف عليهم} أي: على كل منهم {بكأس} أي: بإناء فيه خمر فهو اسم للإناء بشرابه فلا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب وإلا فهو إناء، وقيل: المراد بالكأس: الخمر كقول الشاعر: *وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها أي: رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها، والكأس مؤنثة كما قاله الجوهري، وقوله تعالى {من معين} أي: من شراب معين أو من نهر معين مأخوذ من عين الماء أي: يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي عيناً لظهوره يقال: عان الماء إذا ظهر جارياً وقوله تعالى: {بيضاء} أي: أشد بياضاً من اللبن قاله الحسن صفة لكأس، وقال أبو حيان: صفة لكأس أو للخمر، واعترض بأن الخمر لم يذكر، وأجيب عنه: بأن الكأس إنما سميت كأساً إذا كان فيها الخمر وقوله تعالى {لذة} صفة أيضاً وصفه بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال: فلان جود وكرم إذا كان المراد المبالغة، وقال الزجاج: أو على حذف المضاف أي: ذات لذة وقوله تعالى {للشاربين} أي: بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب صفة للذة، وقال الليث: اللذة واللذيذة يجريان مجرى واحد في النعت يقال: شراب لذ ولذيذ وقوله تعالى: {لا فيها غول} صفة أيضاً، واختلف في الغول فقال الشعبي أي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقال الكلبي: معناه الإثم أي: لا إثم فيها، وقال قتادة: وجع البطن، وقال الحسن: صداع، وقال أهل المعاني الغول: فساد يلحق في خفاء يقال: اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل منها أنواع الفساد منها السكر وذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة {ولا هم عنها ينزفون} أي: يسكرون، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف الشارب إذا نزف عقله من السكر، والباقون بفتحها من نزف الشارب نزيفاً إذا ذهب عقله أفرده بالذكر وعطفه على ما يعمه؛ لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه. ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم بقوله تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف} أي: حابسات الأعين غاضات الجفون قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن وقوله تعالى {عين} جمع عيناء وهي الواسعة العين والذكر أعين قال الزجاج: كبار الأعين حسانها يقال: رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين. {كأنهن} أي: في اللون {بيض} للنعام {مكنون} أي: مستور بريشه لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة يقال: هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة مشربة بصفرة قال ذو الرمة في ذلك: *بيضاء في ترح صفراء في غنج ... كأنها فضة قد مسها ذهب* قال المبرد: والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة، وقال بعضهم: إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء فقال: *تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى ... بهن اختلافاً بل أتين على قدر* الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 ويجمع البيض على بيوض قال الشاعر: *بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها* {فأقبل بعضهم} أي: بعض أهل الجنة {على بعض يتساءلون} معطوف على يطاف عليهم أي: يشربون فيتحادثون على الشراب قال القائل: *وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الكرام على المدام* وأتى بقوله تعالى: {فأقبل} ماضياً لتحقق وقوعه كقوله تعالى {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} (الأعراف: 44) وقوله تعالى {يتساءلون} حال من فاعل أقبل وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا. ولما ذكر تعالى أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشراب ويتحدثون كان من جملة كلماتهم أنهم يتذكرون ما كان حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله تعالى ثم إنهم تخلصوا منه وهو ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {قال قائل منهم} أي: من أهل الجنة في الجنة في مكالمتهم {إني كان لي قرين} أي: في الدنيا ينكر البعث. {يقول أءِنك لمن المصدقين} أي: كان يوبخني على التصديق بالبعث ويقول تعجباً. {أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمدينون} أي: مجزيون ومحاسبون من الدين بمعنى الجزاء وهذا استفهام إنكار. تنبيه: اختلف في ذلك القرين فقال مجاهد: كان شيطاناً، وقيل: كان من الإنس، وقال مقاتل: كانا أخوين، وقيل: كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار فتقاسماها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه، وقال: كيف ترى حسنها؟ فقال: ما أحسنها ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال: اللهم إن صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحور العين، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار، فتصدق هذا بألفي دينار ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلبه في الجنة، وقيل: كان أحدهما كافراً اسمه ينطواوس والآخر مؤمن اسمه يهودا وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى {واضرب لهم مثلاً رجلين} (الكهف: 32) {قال} أي: ذلك القائل لإخوته {هل أنتم مطلعون} أي: معي إلى النار لننظر حاله فيقولون: لا. {فاطلع} ذلك القائل من بعض كوى الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار {فرآه} أي: رأى قرينه {في سواء الجحيم} أي: وسط النار وإنما يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه. {قال} له توبيخاً مقسماً بقوله {تالله إن كدت} أي: قاربت وإن مخففة من الثقيلة {لتردين} أي: لتهلكني بإغوائك إياي بإنكار البعث والقيامة. {ولولا نعمة ربي} أي: إنعامه علي بالإيمان والهداية والعصمة {لكنت من المحضرين} معك في النار. تنبيه: أثبت الياء بعد النون في {لتردين} ورش، والباقون بالتخفيف. ولما تم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال: {أفما نحن بميتين} وهذا عطف على محذوف أي: أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي: ممن شأنه الموت، وقال بعضهم: إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح يقول أهل الجنة للملائكة: أفما نحن بميتين؟ فتقول الملائكة: لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون، وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت، وقيل: إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجبه بها يقول ذلك على جهة التحديث بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه، وقيل: يقوله المؤمن لقرينه توبيخاً له بما كان ينكره، وقوله: {إلا موتتنا الأولى} منصوب على المصدر والعامل فيه الوصف قبله ويكون استثناء مفرغاً، وقيل: هو استثناء منقطع أي: لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهي متناوله لما في القبر بعد الإحياء للسؤال وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (الدخان: 56) {وما نحن بمعذبين} هو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى من تأبيد الحياة وعدم التعذيب. {إن هذا} أي: الذي ذكر لأهل الجنة {لهو الفوز العظيم} هو قول أهل الجنة عند فراغهم من هذه المحادثات وقوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} قيل: إنه من بقية كلامهم، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الإنصرام. ولما ذكر تعالى ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال {لمثل هذا فليعمل العاملون} أتبعه بقوله تعالى: {أذلك} أي: المذكور لأهل الجنة {خير نزلاً} وهو ما يعد للنازل من ضيف أو غيره {أم شجرة الزقوم} أي: المعدة لأهل النار نزلاً، وانتصاب نزلاً على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ولهم ما وراء ذلك مما تقصر عنه الأفهام، وكذا الزقوم لأهل النار وهي: اسم شجرة صغيرة الورق زفرة مرة تكون بتهامة ثم سميت به: الشجرة الموصوفة، وإذا عرف هذا فالحاصل من الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم، ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم والكافرون اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم. {إنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة البالغة {جعلناها فتنة} أي: محنة وعذاباً {للظالمين} أي: الكافرين قال الكلبي: في الآخرة وابتلاء في الدنيا لما سمعوا بأنها في النار قالوا: كيف ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق يعيش في النار ويتلذذ بها فهو أقدر على خلقه الشجر في النار وحفظه من الإحراق. ولما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعرى: أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد الزقوم، ثم أدخلهم أبو جهل بيته وقال لجاريته: زقمينا فأتته بزبد وتمر وقال: تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد، وهذا عناد منه وكذب فإنه من العرب العرباء وهم إنما يطلقونه على شجرة مسمومة يخرج لها لبن متى مس جسم أحد تورم فمات، والتزقم البلع الشديد للأشياء الكريهة وأما الزبد بالرطب فيسمى: ألوقة قاله ابن الكلبي وأنشد: *وإني لمن سالمتهم لألوقة ... وإني لمن عاديتهم سم أسود* ثم إن الله تعالى وصف هذه الشجرة بصفتين: الأولى: قوله تعالى: {إنها شجرة تخرج في أصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 الجحيم} قال الحسن: أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. الصفة الثانية قوله تعالى: {طلعها} أي: ثمرها قال الزمخشري: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية قال ابن قتيبة: سمي طلعاً لطلوعه كل سنة فكذلك قيل: طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره ثم وصف ذلك الطلع بقوله تعالى: {كأنه رؤوس الشياطين} وفيه وجهان: أحدهما: أنه حقيقة وأن رؤوس الشياطين شجرة معينة بناحية اليمن وتسمى: الأستن قال النابغة: *تحيد عن أستن سود أسافله ... مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما* وهو شجر منكر الصورة مر، تسميه العرب بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به، وقيل: الشياطين صنف من الحيات لهن أعراف قال الراجز: *عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف* وقيل: شجرة يقال لها: الصوم ومنه قول ساعدة بن حربة: *موكل بسروف الصوم يرقبها ... من المعارف محفوظ الحشا ورم* فعلى هذا خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة. والثاني: أنه من باب النخيل والتمثيل، وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يكن يراه، والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخيلية وذلك كقول امرئ القيس: *أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال* ولم ير أنيابها بل ليست موجودة البتة قال الرازي: وهذا هو الصحيح وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة عليهم السلام كمال الفضل في الصورة والسيرة فكما حسن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النسوة {إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف: 31) فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا: إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً حسناً قالوا: إنه ملك من الملائكة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الشياطين بأعيانهم. {فإنهم} أي: الكفار {لآكلون منها} أي: من الشجرة أو من طلعها {فمالئون منها البطون} والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، فإن قيل: كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها؟ أجيب: بأن المضطر ربما استروح من الضرر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله تعالى الجوع الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء، أو يقال: إن الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة لعذابهم. ولما ذكر الله تعالى طعامهم بتلك الشناعة والكراهية وصف شرابهم بما هو أشنع منه بقوله تعالى: {ثم إن لهم عليها} أي: بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش {لشوباً من حميم} أي: ماء حار يشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوباً، وعطف بثم لأحد معنيين: إما لأنه يؤخر ما يظنونه يرويهم من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى بثم المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقتضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 تراخي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المنوال، وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء قال الزجاج: الشراب اسم عام في كل ما خلط بغيره والشوب الخلط والمزج ومنه شاب اللبن يشوبه أي: خلطه ومزجه. {ثم إن مرجعهم} أي: مصيرهم {لإلى الجحيم} قال مقاتل: أي: بعد أكل الزقوم وشرب الحميم وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يردون الحميم لأجل الشرب كما ترد الإبل الماء ويدل عليه قوله تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آن} (الرحمن: 44) وقوله تعالى: {إنهم ألفوا} أي: وجدوا {آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون} تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد قال الفراء: الإهراع الإسراع يقال: هرع وأهرع إذا استحث والمعنى: أنهم يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم يقوله سبحانه: {ولقد ضل قبلهم} أي: قبل قومك {أكثر الأولين} أي: من الأمم الماضية. {ولقد أرسلنا فيهم منذرين} أي: أنبياء أنذروهم من العواقب فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له صلى الله عليه وسلم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله تعالى وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال، والباقون بالإدغام ثم قال تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} أي: الكافرين كان عاقبتهم العذاب وهذا خطاب وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المقصود منه خطاب الكفار؛ لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوفه يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم وقوله تعالى: {إلا عباد الله المخلصين} استثناء من المنذرين استثناء منقطع؛ لأنه وعيد وهم لا يدخلون في هذا الوعيد، وقيل: استثناء من قوله تعالى {ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين} والمراد بالمخلصين: الموحدون نجوا من العذاب وتقدمت القراءة في المخلصين، ثم شرع تعالى في تفصيل القصص بعد إجمالها بقوله تعالى: {ولقد نادانا نوح} أي: نادى ربه أن ينجيه مع من نجي من الغرق بقوله: رب إني مغلوب فانتصر فأجاب الله تعالى دعاءه وقوله تعالى {فلنعم المجيبون} جواب قسم مقدر أي: فوالله ومثله: لعمري لنعم السيدان وجدتما، والمخصوص بالمدح محذوف أي: نحن أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه. {ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} أي: من الغرق وأذى قومه وهذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه أولها: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: {ولقد نادانا نوح} فالقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم. وثانيها: أنه تعالى أعاد صيغة الجمع فقال تعالى {فلنعم المجيبون} وفي ذلك أيضاً ما يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف الله تعالى تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة. وثالثها: أن الفاء في قوله تعالى {فلنعم المجيبون} تدل على أن حصول تلك الإجابة مرتب على ذلك النداء وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة وقوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} يفيد الحصر، وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 فالناس كلهم من نسله عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنه: ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزرج ويأجوج ومأجوج وما هنالك قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم. {وتركنا عليه في الآخرين} أي: أبقينا له ثناء حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، وقيل: أن نصلي عليه إلى يوم القيامة وقوله تعالى: {سلام على نوح} مبتدأ وخبر وفيه أوجه أحدها: أنه مفسر لتركنا، والثاني: أنه مفسر لمفعوله أي: تركنا عليه ثناء وهو هذا الكلام، وقيل: ثم قول مقدر أي: فقلنا سلام وقيل: ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلط تركنا على ما بعده {في العالمين} متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً وقوله تعالى: {إنا كذلك نجزي المحسنين} تعليل لما فعل بنوح عليه السلام من التكرمة بأنه مجازاة له أي: إنما خصصناه بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن ترقية ذكره الحسن في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً وقوله تعالى: {إنه من عبادنا المؤمنين} تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره. {ثم أغرقنا الآخرين} كفار قومه. القصة الثانية: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وإن من شيعته} أي: ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة {لإبراهيم} ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالباً، وقال الكلبي: الضمير يعود على محمد صلى الله عليه وسلم أي: وإن من شيعة محمد صلى الله عليه وسلم لإبراهيم عليه الصلاة السلام والشيعة قد تطلق على المتقدم كقول القائل: *ومالي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مذهب الحق مذهب» * فجعل آل أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له قاله الفراء، والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر قالوا: كان بين نوح وإبراهيم نبيان هود وصالح، وروى الزمخشري: أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة وفي العامل في قوله تعالى: {إذ جاء ربه} وجهان أحدهما: اذكر مقدراً وهو المعروف، والثاني: قال الزمخشري: ما في معنى الشيعة من معنى المشايعة يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه ورد هذا أبو حيان قال: لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لإبراهيم؛ لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ، واختلف في قوله عز وجل {بقلب سليم} فقال مقاتل والكلبي: المعنى أنه سليم من الشرك؛ لأنه أنكر على قومه الشرك، وقال الأصوليون: معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية وقوله تعالى: {إذا قال لأبيه وقومه} بدل من إذ الأولى أو ظرف لسليم أو لجاء وقوله تعالى لهم: {ماذا} أي: ما الذي {تعبدون} استفهام توبيخ تهجين لتلك الطريقة تقبيحها وفي قوله: {أئفكا آلهة دون الله تريدون} أوجه من الإعراب أحدها: أنه مفعول من أجله أي: أتريدون آلهة دون الله إفكاً فآلهة مفعول به ودون ظرف لتريدون وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها وحسنه كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول من أجله على المفعول به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 اهتماماً به؛ لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل وبهذا الوجه بدأ الزمخشري، الثاني: أن يكون مفعولاً به بتريدون ويكون آلهة بدلاً منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها منه وفسره بها واقتصر على هذا ابن عطية، الثالث: أنه حال من فاعل تريدون أي: أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك، وإليه نحا الزمخشري، واعترضه أبو حيان بأن جعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع نحو أما علماً فعالم، والإفك أسوأ الكذب. {فما ظنكم} أي: أتظنون {برب العالمين} أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء، أو فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يترككم بلا عذاب لا، وكانوا نجامين فخرجوا إلى عيد لهم وتركوا طعامهم عند أصنامهم زعموا التبرك عليه فإذا رجعوا أكلوه وقالوا للسيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام: اخرج. {فنظر نظرة في النجوم} إيهاماً لهم أنه يعتمد عليها فيتبعوه. {فقال إني سقيم} أي: عليل وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فيقدر على كسرها. فإن قيل: النظر في علم النجوم غير جائز فكيف قدم إبراهيم عليه السلام عليه وأيضاً لم يكن سقيماً فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟ أجيب عن ذلك: بأنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم؛ لأن قوله {إني سقيم} على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم، وعلى تقدير تسليم ذلك أجيب بأوجه: أحدها: أن نظره في النجوم أو في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه الحمى في بعض ساعات الليل والنهار، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال {إني سقيم} فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال؛ لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت. ثانيها أنهم كانوا أصحاب النجوم أي: يعلمونها ويقضون بها على أمورهم، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي: في علم النجوم كما تقول: نظر فلان في الفقه أي: في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في عملهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال لهم {إني سقيم} سكنوا إلى قوله، وأما قوله {إني سقيم} فمعناه سأسقم كقوله تعالى {إنك ميت} (الزمر: 30) أي: ستموت. ثالثها: أن نظره في النجوم هو قوله تعالى {فلما جن عليه الليل رأى كوكباً} إلخ الآيات (الأنعام: 76) فكان نظره ليتعرف هذه الكواكب هل هي قديمة أو حادثة وقوله {إني سقيم} أي: سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل بلوغه. رابعها: قال ابن زيد: كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال {إني سقيم} أي: هذا السقم واقع لا محالة. خامسها: أن قوله {إني سقيم} أي: مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {فلعلك باخع نفسك} (الكهف: 6) سادسها: قال الرازي: قال بعضهم: ذلك القول من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 إبراهيم عليه السلام كذبة وأوردوا فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» قلت: ولبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل؛ إذ فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام فقال ذلك الرجل: فكيف نحكم بكذب الراوي العدل؟ فقلت له: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبة الكذب إلى الراوي أولى، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله {فنظر نظرة في النجوم} أي: نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال: إنها منجمة أي: مفرقة ومنه نجوم المكاتب والمعنى: أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذراً أحسن من قوله: {إني سقيم} والمراد: أنه لا بد من أن يصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر إنك مسافر. ولما قال: {إني سقيم} تولوا عنه كما قال تعالى: {فتولوا عنه} أي: إلى عيدهم {مدبرين} أي: هاربين مخافة العدوى وتركوه وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم. {فراغ} أي: مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ولا يقال: راغ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه {إلى آلهتهم} وعندها الطعام {فقال} استهزاء بها {ألا تأكلون} أي: الطعام الذي كان بين أيديهم فلم ينطقوا فقال استهزاء بها أيضاً: {ما لكم لا تنطقون} فلم تجب. {فراغ عليهم} أي: مال عليهم مستخفياً وقوله تعالى {ضرباً} مصدر واقع موقع الحال أي: فراغ عليهم ضارباً أو مصدر لفعل، وذلك الفعل حال تقديره فراغ يضرب ضرباً وقوله تعالى: {باليمن} متعلق بضرباً إن لم نجعله مؤكداً وإلا فبعامله، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر، وأن يراد بها القوة واقتصر عليه الجلال المحلي فالباء على هذا للحال أي: متلبساً بالقوة وأن يراد بها الحلف وفاء بقوله {وتالله لأكيدن أصنامكم} (الأنبياء: 57) والباء على هذا للسبب وعدى راغ الثاني بعلى لما كان مع الضرب المستولي من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله تعالى: {عليهم ضرباً} على ظن عبدتها أنها كالعقلاء ثم إنه عليه السلام كسرها فبلغ قومه من ورائه ذلك. {فأقبلوا إليه} أي: إلى إبراهيم بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة {يزفون} أي: يسرعون المشي، وقرأ حمزة بضم الياء على البناء للمفعول من أزفه أي: يحملون على الزفيف، والباقون بفتحها من زف يزف فقالوا: نحن نعبدها وأنت تكسرها. {قال} لهم توبيخاً {أتعبدون ما تنحتون} أي: من الحجارة وغيرها أصناماً. {والله خلقكم وما تعملون} أي: نحتكم ومنحوتكم فاعبدوه وحده. تنبيه: دلت هذه الآية على مذهب الأشعرية وهو أن فعل العبد مخلوق لله عز وجل وهو الحق وذلك؛ لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله تعالى {وما تعملون} معناه وعملكم وعلى هذا فيصير معنى الآية: والله خلقكم وخلق عملكم. ولما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء لئلا يظهر للعامة عجزهم بأن: {قالوا ابنوا له بنياناً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: بنوا حائطاً من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملؤوه ناراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 فطرحوه فيها وذلك هو قوله تعالى {فألقوه في الجحيم} وهي النار العظيمة قال الزجاج: كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم. {فأرادوا به كيداً} أي: شراً بإلقائه في النار لتهلكه {فجعلناهم الأسفلين} أي: المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم وجعلنا ذلك برهاناً نيراً على علو شأنه حيث جعلنا النار عليه برداً وسلاماً وخرج منها سالماً. {وقال إني ذاهب إلى ربي} أي: إلى حيث أمرني ربي ونظيره قوله تعالى {وقال إني مهاجر إلى ربي} (العنكبوت: 26) أي: مهاجر إليه من دار الكفر {سيهدين} أي: إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وهو الشام، وإنما بتّ القول لسبق وعده ولفرط توكله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث قال {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} (القصص: 22) فلذلك ذكر بصيغة التوقع. ولما وصل إلى الأرض المقدسة قال: {رب هب لي من الصالحين} أي: هب لي ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة؛ لأن لفظ هب غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبياً} (مريم: 53) قال الله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} أي: ذي حلم كثير في كبره غلام في صغره، ففيه بشارة بأنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سن يوصف بالحلم وأي حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات: 102) وقيل: ما وصف الله تعالى نبياً بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما الصلاة والسلام وحالتهما المذكورة تشهد عليه. {فلما بلغ معه السعي} أي: أن يسعى معه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: بلغ معه السعي إي المشي معه إلى الجبل وقال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما شب حتى بلغ سعيه بسعي إبراهيم والمعنى: بلغ أن يتصرف معه وأن يعينه في عمله، وقال الكلبي: يعني العمل لله تعالى وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع سنين. تنبيه: معه متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلاً قال: مع من بلغ السعي؟ فقيل: مع أبيه ولا يجوز تعلقه ببلغ؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حد السعي ولا يجوز تعلقه بالسعي؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه. وقوله تعالى {قال يا بني إني أرى} أي: رأيت {في المنام أني أذبحك} يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره، وقيل: إنه رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول له: إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله أم من الشيطان؟ فمن ثم سمى يوم التروية فلما أمسى رأى أيضاً مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة ثم رأي مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وهذا قول أكثر المفسرين، وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة وعلى هذا فتقدير اللفظ: أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك. تنبيه: اختلف في الذبيح فقيل: هو اسحق عليه السلام وبه قال: عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم، وقيل: إسماعيل وبه قال ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وغيرهم وهو الأظهر كما قاله البيضاوي؛ لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن الذبيحين» . وقال له أعرابي: يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 زمزم نذر إن سهل الله أمرها ليذبحن أحد ولده فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل ولذلك سنت الإبل مائة والذبيح الثاني إسماعيل، ونقل الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة. وقد وصف الله تعالى إسماعيل عليه السلام بالصبر دون إسحاق عليه السلام في قوله تعالى {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} (الأنبياء: 85) وهو صبره على الذبح ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال: {إنه كان صادق الوعد} (مريم: 54) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فقال {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات: 102) وقال تعالى: {فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب} (هود: 71) فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له؟ هذا يناقض البشارة المتقدمة. وقال الإمام أحمد بن حنبل: الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام وعليه جمهور العلماء من الخلف والسلف قال ابن عباس: وزعمت اليهود أنه اسحق عليه السلام وكذبت اليهود وما روي أنه صلى الله عليه وسلم «سئل أي النسب أشرف؟ فقال: يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» فالصحيح أنه قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم والزوائد من الراوي، وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت وقال محمد بن إسحاق: كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى بلغ إسماعيل معه السعي أمر في المنام أن يذبحه قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك قال لابنه {فانظر ماذا ترى} من الرأي: فشاوره ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به قال ابن اسحق وغيره ولما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب شعب ثبير أخبره بما أمر. {قال يا أبت افعل ما تؤمر} أي: ما أمرت به {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} أي: على ذلك، وقرأ {يا بني} حفص بفتح الياء، والباقون بالكسر، وقرأ {إني أرى} نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، وقرأ {ماذا ترى} حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء، والباقون بفتحهما والحكمة في مشاورته في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله تعالى فيكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحد العظيم والصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا. وقرأ يا أبت ابن عامر في الوصل بفتح التاء، وكسرها الباقون والتاء عوض عن ياء الإضافة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وابن عامر، ووقف الباقون بالتاء والرسم بالتاء وفتح ياء ستجدني في الوصل نافع، وسكنها الباقون. {فلما أسلما} أي: انقادا وخضعا لأمر الله، وقال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه {وتله للجبين} أي: صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة، والجبهة بين الجبينين وشذ جمعه على أجبن، وقياسه في القلة أجبنة كأرغفة وفي الكثرة جبن وجبنان كرغيف ورغف ورغفان، وقيل: إنه لما أراد ذبحه قال: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب فينقص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 أجري، واكفف عني ثيابي حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء وتراه أمي فتحزن حزناً طويلاً، واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله تعالى ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تجل شيئاً ثم أنه شحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئاً، قال السدي: ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه قال: فقال الإبن عند ذلك يا أبت كبني على وجهي لجبيني فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رحمة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر الشفرة فأجزع، ففعل ذلك إبراهيم ووضع السكين على قفاه فانقلبت السكين. {وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} أي: بالعزم والإتيان بالمقدمات ما أمكنك. تنبيه: في جواب لما ثلاثة أوجه أظهرها: أنه محذوف، أي: نادته الملائكة عليهم السلام أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، وقدره بعضهم بعد الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه. ونقل ابن عطية أن التقدير: فلما أسلما سلما وتله للجبين ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل. الثاني: أنه وتله للجبين والواو زائدة، وهو قول الكوفيين والأخفش، الثالث: أنه وناديناه والواو زائدة أيضاً واقتصر على هذا الجلال المحلي، وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار: أن إبراهيم عليه السلام لما رأى ذبح ولده قال الشيطان: لئن لم أفتن آل إبراهيم عند هذا لم أفتن أحداً منهم أبداً فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام وقال: هل تدرين أين يذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به يحتطبان من هذا الشعب قال: والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحم به وأشد حباً له من ذلك، قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن إن يطيع ربه، فخرج من عندها الشيطان، ثم أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره، قال: فليفعل ما أمره به ربه فسمع وطاعة، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم فقال له: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، قال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ولدك هذا، فعرفه إبراهيم فقال: إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئاً كما أراد الله عز وجل. وروى أبو الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنه: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فإن قيل: لم قال تعالى: {قد صدقت الرؤيا} وكان قد رأى الذبح ولم يذبح؟ أجيب: بأنه جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 والمطلوب استسلامهما لأمر الله تعالى وقد فعل، اوقيل: كان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم وقد فعل في اليقظة ما رآه في النوم، ولذلك قال: {قد صدقت الرؤيا} قال المحققون: السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذه التكاليف الشاقة الشديدة وظهر منه كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى: {قد صدقت الرؤيا} وقوله تعالى: {إنا كذلك نجزي المحسنين} ابتداء إخبار من الله تعالى، والمعنى: إنا كما عفونا عن ذبح ولدك كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا، قال مقاتل: جزاء الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه. {إن هذا} أي: الذبح المأمور به {لهو البلاء المبين} أي: الاختبار الظاهر الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم، والمحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها وقال مقاتل: البلاء ههنا النعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش كما قال تعالى: {وفديناه} أي: المأمور بذبحه وهو إسماعيل وهو الأظهر، وقيل: إسحق {بذبح عظيم} أي: عظيم الجثة سمين أو عظيم القدر؛ لأن الله تعالى فدى به نبياً ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، وهو كبش أتى به جبريل عليه السلام من الجنة وهو الذي قربه هابيل، فقال لإبراهيم: هذا فدا ولدك فاذبحه دونه، فكبر إبراهيم وكبر ولده، وكبر جبريل وكبر الكبش وأخذ إبراهيم الكبش، وأتى به المنحر من منى فذبحه، قال البغوي: قال أكثر المفسرين: كان ذلك الذبح كبشاً رعى في الجنة أربعين خريفاً، وقيل: كان وعلاً أهبط عليه من ثبير، وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة. تنبيه: الذبح مصدر ويطلق على ما يذبح وهو المراد في هذه الآية. {وتركنا عليه في الآخرين} ثناء حسناً، وقوله تعالى: {سلام} أي: منا {على إبراهيم} سبق بيانه في قصة نوح عليهما السلام. {كذلك} أي: كما جزيناك {نجزي المحسنين} لأنفسهم، وقوله تعالى: {إنه من عبادنا المؤمنين} تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره وقوله تعالى: {وبشرناه بإسحق} فيه دليل على أن الذبيح غيره، وقد مرت الإشارة إلى ذلك، وقوله تعالى {نبياً} حال مقدرة أي: يوجد مقدراً نبوته، وقوله تعالى: {من الصالحين} يجوز أن يكون صفة لنبياً وأن يكون حالاً من الضمير في نبياً فتكون حالاً متداخلة، ويجوز أن تكون حالاً ثانية ومن فسر الذبيح بإسحق عليه السلام جعل المقصود من البشارة نبوته، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل. {وباركنا عليه} أي: على إبراهيم عليه السلام بتكثير ذريته {وعلى إسحق} بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب عليهم السلام فجميع الأنبياء بعده من صلبه إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرية إسماعيل عليه السلام وفيه إشارة إلى أنه مفرد علم فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. {ومن ذريتهما محسن} أي: مؤمن طائع {وظالم} أي: كافر وفاسق {لنفسه مبين} أي: ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة وعيب ولا غير ذلك والله أعلم. القصة الثالثة: قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد مننا على موسى وهارون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 أي: أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية. {ونجيناهما وقومهما} أي: بني إسرائيل {من الكرب} أي: الغم {العظيم} أي: الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وقيل: من الغرق، والضمير في قوله تعالى: {ونصرناهم} يعود على موسى وهارون وقومهما، وقيل: على الإثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} (الطلاق: 1) وقول الشاعر: فإن شئت حرمت النساء سواكم. {فكانوا هم الغالبين} أي: على فرعون وقومه في كل الأحوال، أما في أول الأمر فبظهور الحجة، وأما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة. تنبيه: يجوز في هم أن يكون تأكيداً، وأن يكون بدلاً، وأن يكون فصلاً وهو الأظهر. {وآتيناهما الكتاب المستبين} أي: المستنير البليغ البيان المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا وهو التوراة كما قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} (المائدة: 44) {وهديناهما الصراط المستقيم} أي: دللناهما على الطريق الموصل إلى الحق والصواب عقلاً وسمعاً. {وتركنا} أي: أبقينا {عليهما} ثناء حسناً {في الآخرين} {سلام} أي: منا {على موسى وهارون} {إنا كذلك} أي: كما جزيناهما {نجزي المحسنين} وقوله تعالى: {إنهما من عبادنا المؤمنين} تعليل لإحسانهما بالإيمان وإظهار لجلالة قدره وأصالة أمره. القصة الرابعة قصة الياس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وإن الياس لمن المرسلين} روي عن ابن مسعود أنه قال: الياس هو إدريس، وهو قول عكرمة وقال أكثر المفسرين: إنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، قال ابن عباس: وهو ابن عم اليسع عليهما السلام، وقال محمد بن إسحاق: هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران عليهما السلام. تنبيه: أذكر فيه شيئاً من قصته عليه السلام قال علماء السير والأخبار: لما قبض الله تعالى حزقيل النبي عليه السلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله تعالى إليهم إلياس نبياً وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى عليه السلام بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون عليه السلام لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وأحل سبطاً منها ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم الياس، فبعثه الله تعالى إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك اسمه لاجب وكان أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان لهم صنم طوله عشرون ذراعاً وله أربعة وجوه وكان يسمى: ببعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن أي: خادم، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك، وكان الياس يدعوهم إلى عبادة الله وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه، فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة تسمى: بإزميل جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها، وكانت تبرز للناس فتقضي بينهم وكانت قتالة للأنبياء، ويقال: إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام، وكان له كاتب رجل مؤمن حليم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتلهم إذا بعث كل واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 منهم سوى الذين قتلتهم وكانت في نفسها غير محصنة، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل وقتلتهم كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال: إنها ولدت سبعين ولداً، وكان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له: مزدكي، وكان له جنينة يعيش منها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، وكانا يشرفان عليها يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه، وامرأته إزميل تحسده لأجل تلك الجنينة وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال أن تقتله، والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلاً، ثم أنه اتفق خروج الملك إلى مكان بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته إزميل ذلك فجمعت جمعاً من الناس وأمرتهم أنهم يشهدون على مزدكي أنه سب زوجها لاجب فأجابوها إليه وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة، فأحضرت مزدكي وقالت له: بلغني أنك شتمت الملك فأنكر فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فأمرت بقتله وأخذت جنينته، فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال لها: ما أصبت ولا أبداً نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت أمره بأسوء الجوار قالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها: أوما كان يسعه حلمك فتحفظين جواره؟ قالت: قد كان ما كان فبعث الله إلياس إلى لاجب الملك، وأمره الله أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب عليهم لوليه حين قتلوه ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما، يعني: لاجب وامرأته في جوف الجنينة، ثم يضعهما جثتين ملقيين فيها حتى تتفرق عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بها إلا قليلاً، فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله في أمره وأمر امرأته والجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه، وقال: يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً، وهم بتعذيبه وقتله، فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هارباً، ورجع الملك إلى عبادة بعل وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه، ويقال: أنه بقي سبع سنين شريداً خائفاً يأوي الشعوب والكهوف، يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا العيون عليه والله تعالى يستره منهم، فلما طال الأمر على إلياس وطال عصيان قومه وضاق بذلك ذرعاً أوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين: يا إلياس ما هذا الخوف الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم، قال: تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني، فأوحى الله تعالى إليه: يا الياس ما هذا اليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها؟ وإنما قوامهما وصلاحهما بك وأشباهك وإن كنتم قليلاً ولكن سلني فأعطك، قال إلياس: إن لم تمتني فاعطني ثأري من بني إسرائيل، قال الله تعالى: وأي: شيء تريد أن أعطيك؟ قال: تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشئ سحابة عليهم إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي فإنهم لا يذكرهم إلا ذلك، قال الله تعالى: يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 ظالمين، قال: ست سنين، قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك، قال: فخمس سنين، قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك، ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك، قال: فبأي شيء أعيش؟ قال: أسخر لك جنساً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف ومن الأرض التي لم تقحط، قال إلياس: قد رضيت، فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهداً عظيماً، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان وقد عرف ذلك قومه.l قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها: هل عندكم طعام؟ قالت: نعم شيء من دقيق وزيت قليل فدعا بهما ودعا فيه بالبركة حتى ملأ خوابيها دقيقاً وخوابيها زيتاً، فلما رأوا ذلك عندها، قالوا لها: من أين لك هذا؟ قالت: مر بي رجل من حاله كذا وكذا ثم وصفته بصفته فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم أنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب به مرض فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيثما ذهب، وكان إلياس قد كبر سنه واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعص من البهائم والطير والهوام بحبس المطر، فقال إلياس: يا رب دعني أنا الذي أكون أدعو لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم أن يرجعوا عما هم عليه من عبادة غيرك، فقيل له: نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال: إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً وقد هلكت البهائم والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوتم الله سبحانه وتعالى، ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا: أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لإلياس: إنا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم وحييت بلادهم، فلما كشف الله تعالى عنهم المطر لم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه أن يريحه منهم، فقيل له: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار، وقيل: لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه إلياس وانطلق به الفرس وناداه اليسع: يا إلياس ما تأمرني؟ فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر عهده به ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وسلط الله تعالى على لاجب الملك وقومه عدواً لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى أرهقهم فقتل لاجب وامرأته إزميل في بستان مزدكي فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما، ونبأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولاً إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه وأيده، فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع. روى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: الياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس ويوافيان موسم الحج في كل عام، وقيل: إن الياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى {وإن إلياس لمن المرسلين} . {إذ} أي: اذكر يا أفضل الخلق إذ {قال لقومه ألا تتقون} أي: ألا تخافون الله. ولما خوفهم على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف بقوله تعالى: {أتدعون بعلاً} اسم لصنم لهم من ذهب وبه سميت البلد أيضاً مضافاً إلى بك أي: أتعبدونه أو تطلبون الخير منه، وقيل: البعل الرب بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلاً منهم ينشد ضالة فقال آخر: أنا بعلها فقال: الله أكبر وتلا الآية، ويقال: من بعل هذه الدار أي: من ربها، وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى قال الله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن} (البقرة: 228) وقالت امرأة إبراهيم {وهذا بعلي شيخاً} والمعنى: أتدعون بعض البعول {وتذرون} أي: وتتركون {أحسن الخالقين} فلا تعبدونه، وقرأ ابن ذكوان بهمزة الوصل من إلياس في الوصل فإن ابتدأ بها ابتدأ بفتحها، والباقون بهمزة مكسورة وصلاً وابتداء وقوله تعالى: {الله ربكم ورب آبائكم الأولين} قرأه حفص وحمزة والكسائي بنصب الهاء من الاسم الكريم ونصب الباء الموحدة من ربكم ورب وذلك إما على المدح أو البدل أو البيان إن قلنا إن إضافة أفعل إضافة محضة، والباقون بالرفع في الثلاثة وذلك إما على خبر مبتدأ مضمر أي: هو الله وعلى أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر. أي: في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفاً وقوله تعالى: [إلا عباد الله المخلصين] أي: المؤمنين مستثنى من فاعل فكذبوه، وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه، فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مستثنين من ضمير لمحضرون لفساد المعنى؛ لأنه يلزم أن يكونوا مندرجين فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين وهو بين الفساد لا يقال: هو مستثنى منه استثناء منقطعاً؛ لأنه يصير المعنى: لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضروا، ولا حاجة إلى هذا إذ به يفسد نظم الكلام وتقدم الكلام على قراءة المخلصين في أول السورة. {وتركنا عليه في الآخرين} ثناء حسناً. {سلام} أي: منا، وقوله تعالى: {على إل ياسين} قرأه نافع وابن عامر بفتح الهمزة ممدودة وكسر اللام وقطعها عن الياء كما رسمت أي: أهله والمراد به إلياس، والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام وهي مقطوعة عن الياء قيل: هو إلياس المتقدم، وقيل: هو ومن آمن معه فجمعوا معه تغليباً كقولهم للمهلب وقومه: المهلبون، وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو غيره من كتب الله تعالى، قال البيضاوي: والكل لا يناسب نظم سائر القصص ولا قوله تعالى: {إنا كذلك نجزي المحسنين} أي: كما جزيناه. {إنه من عبادنا المؤمنين} إذ الظاهر أن الضمير لإلياس. القصة الخامسة قصة لوط عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وإن لوطاً لمن المرسلين} {إذ} أي: واذكر إذ {نجيناه وأهله أجمعين} {إلا عجوزاً في الغابرين} أي: الباقين في العذاب. {ثم دمرنا} أي: أهلكنا {الآخرين} أي: كفار قومه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 {وإنكم} يا أهل مكة {لتمرون عليهم مصبحين} أي: على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سدوم في طريقه، وقوله تعالى: {وبالليل} عطف على الحال قبلها أي: ملتبسين بالليل والمعنى: أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في أول الليل وفي أول النهار فلهذا السبب عبر الله تعالى عن هذين الوقتين ثم قال تعالى: {أفلا تعقلون} أي: أليس فيكم عقل يا أهل مكة فتنظروا ما حل بهم فتعتبروا؟ القصة السادسة: وهي آخر القصص، قصة يونس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين} وقوله تعالى: {إذ أبق} ظرف للمرسلين أي: هو من المرسلين حتى في هذه الحالة وأبق أي: هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. {إلى الفلك المشحون} أي: السفينة المملوءة، قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب: كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمنشوز منهم فقصد البحر فركب السفينة، فقال الملاحون: ههنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقال يونس: أنا الآبق فزج نفسه في البحر. وروي في القصة: أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب، ثم جاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، وجاء ذئب فأخذ ابنه الأصغر فبقي فريداً، فجاءت مركب أخرى فركبها وقعد ناحية من القوم، فلما جرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون: إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل وقوف السفينة كما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فأقرعوا فمن خرجت القرعة على سهمه نغرقه فإن تغريق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فذلك قوله تعالى: {فساهم} أي: قارع أهل السفينة {فكان من المدحضين} أي: المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر. {فالتقمه} ابتلعه {الحوت وهو مليم} أي: آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر وركوبه السفينة بلا إذن من ربه وقيل: مليم نفسه. {فلولا أنه كان من المسبحين} أي: الذاكرين قبل ذلك وكان عليه السلام كثير الذكر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من المصلين، وقال وهب: من العابدين، وقال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً، قال الضحاك: شكر الله تعالى له طاعته القديمة، اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة، فإن يونس كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر الله تعالى له ذلك، وقال سعيد بن جبير: يعني قوله: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء: 87) {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} أي: صار بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة وهو حي أو ميت وفي ذلك حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده في الضراء. {فنبذناه} أي: ألقيناه من بطن الحوت فأضاف النبذ إلى نفسه سبحانه مع أن النبذ إنما حصل بفعل الحوت فهو يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى {بالعراء} أي: بوجه الأرض، وقال السدي: بالساحل والعراء الأرض الخالية من الشجر والنبات، روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح الله تعالى حتى انتهى إلى الأرض فلفظه. تنبيه: اختلفوا في مدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 لبثه في بطن الحوت فقال الحسن: لم يلبث إلا قليلاً ثم أخرج من بطن الحوت، وقال بعضهم: التقمه بكرة ولفظه عشية، وقال مقاتل بن حبان: ثلاثة أيام، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال الضحاك: عشرين يوماً، وقيل: شهراً، وقيل: أربعين يوماً، قال الرازي: ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير؟ وروى أبو بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سبح يونس في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا: ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة فقال تعالى: ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه كل يوم وليلة عمل صالح، قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل. وروي أن يونس عليه السلام لما ابتلعه الحوت ابتلع الحوت حوت آخر أكبر منه فلما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حي فخر لله تعالى ساجداً وقال: يا رب اتخذت لي مسجداً لم يعبدك أحد في مثله {وهو سقيم} أي: عليل كالفرخ الممعوط. {وأنبتنا عليه} أي: له وقيل: عنده {شجرة من يقطين} قال المبرد والزجاج: اليقطين كل ما لم يكن له ساق من عود كالقثاء والقرع والبطيخ والحنظل وهو قول الحسن ومقاتل، قال البغوي: المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين، وروى الفراء أنه قيل عند ابن عباس: هو ورق القرع فقال: ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة انشقت وشربت فهو يقطين. فإن قيل: الشجر ما له ساق واليقطين مما لا ساق له كما قال تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن: 6) . أجيب: بأن الله تعالى جعل لها ساقاً على خلاف العادة في القرع معجزة له عليه السلام ولو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به قال مقاتل بن حبان: كان يونس عليه السلام يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشياً حتى اشتد لحمه ونبت شعره. وروي أن يونس عليه السلام كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، وكان قد أوحى الله تعالى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له: يبعث إلى بني إسرائيل نبياً، فاختار من بني إسرائيل يونس عليه السلام لقوته وأمانته فقال يونس: الله أمرك بهذا؟ قال: لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك، فقال يونس: في بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لم تبعثه؟ فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم فوجد سفينة مشحونة فحملوه فيها فلما أشرف على لجة البحر أشرفوا على الغرق فقال الملاحون: إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه فقال التجار: قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرجت عليه نغرقه في البحر فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل، فخرج من بينهم يونس فقال: يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كسائه ورمى بنفسه فالتقمه الحوت، وأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تكسر منه عظماً ولا تقطع منه وصلاً، ثم إن الحوت خرج إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم إلى دجلة وصعد به ورماه في أرض نصيبين بالعراء وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد، ثم إن الأرضة أكلتها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 فحزن يونس لذلك حزناً شديداً، فقال: يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت فقال: يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف إو يزيدون تركتهم فانطلق إليهم، فانطلق إليهم وذلك قوله تعالى: {وأرسلناه} أي: بعد ذلك كقبله إلى قومه بنينوى من أرض الموصل {إلى مائة ألف أو يزيدون} قال ابن عباس: إن أو بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي: بمعنى بل، وقال الزجاج: على الأصل بالنسبة للمخاطبين، واختلفوا في مبلغ الزيادة فقال ابن عباس ومقاتل: كانوا عشرين ألفاً، ورواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحسن: بضعاً وثلاثين ألفاً، وقال سعيد بن جبير: تسعين ألفاً. فإن قيل: الشجر ما له ساق واليقطين مما لا ساق له كما قال تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن: 6) . أجيب: بأن الله تعالى جعل لها ساقاً على خلاف العادة في القرع معجزة له عليه السلام ولو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به قال مقاتل بن حبان: كان يونس عليه السلام يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشياً حتى اشتد لحمه ونبت شعره. وروي أن يونس عليه السلام كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، وكان قد أوحى الله تعالى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له: يبعث إلى بني إسرائيل نبياً، فاختار من بني إسرائيل يونس عليه السلام لقوته وأمانته فقال يونس: الله أمرك بهذا؟ قال: لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك، فقال يونس: في بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لم تبعثه؟ فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم فوجد سفينة مشحونة فحملوه فيها فلما أشرف على لجة البحر أشرفوا على الغرق فقال الملاحون: إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه فقال التجار: قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرجت عليه نغرقه في البحر فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل، فخرج من بينهم يونس فقال: يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كسائه ورمى بنفسه فالتقمه الحوت، وأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تكسر منه عظماً ولا تقطع منه وصلاً، ثم إن الحوت خرج إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم إلى دجلة وصعد به ورماه في أرض نصيبين بالعراء وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد، ثم إن الأرضة أكلتها، فحزن يونس لذلك حزناً شديداً، فقال: يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت فقال: يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف إو يزيدون تركتهم فانطلق إليهم، فانطلق إليهم وذلك قوله تعالى: {وأرسلناه} أي: بعد ذلك كقبله إلى قومه بنينوى من أرض الموصل {إلى مائة ألف أو يزيدون} قال ابن عباس: إن أو بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي: بمعنى بل، وقال الزجاج: على الأصل بالنسبة للمخاطبين، واختلفوا في مبلغ الزيادة فقال ابن عباس ومقاتل: كانوا عشرين ألفاً، ورواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحسن: بضعاً وثلاثين ألفاً، وقال سعيد بن جبير: تسعين ألفاً. {فآمنوا} أي: الذين أرسل إليهم عند معاينة العذاب الموعودين به {فمتعناهم} أي: أبقيناهم بما لهم {إلى حين} أي: إلى انقضاء آجالهم. تنبيه: قال البيضاوي: ولعله إنما لم يختم قصته وقصة لوط عليهما السلام بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين أرباب الشعائر الكثيرة وأولي العزم من الرسل واكتفاء بالسلام الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {فاستفتهم} أي: استخبر كفار مكة توبيخاً لهم {ألربك البنات ولهم البنون} قال الزمخشري: معطوف على مثله في أول السورة، قال أبو حيان: وإذا كانوا قد عدوا الفصل بجملة نحو: كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً من أقبح التراكيب فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ فأجيب عنه: بأن الفصل وإن كثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر وأما المثال الذي ذكره فمن قبيل المفردات. ألا ترى كيف عطف خبزاً على لحماً؟ وأيضاً الفاصل ليس بأجنبي، كما أشار إليه البيضاوي بقوله: أمر رسوله أولاً باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث وساق الكلام في تقريره جاراً لما يلائمه من القصص موصولاً بعضها ببعض، ثم أمره صلى الله عليه وسلم باستفتائهم عن وجه القسمة، حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم: الملائكة بنات الله وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر من التجسيم وتجويز البنات على الله تعالى، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام المتكونة الفاسدة وتفضيل أنفسهم الخسيسة عليه سبحانه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرنعهما لهم واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكاره ذلك وإبطاله في كتابه العزيز مراراً وجعله مما تكاد السموات ينفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، والإنكار ههنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما. ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا: إن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله، وهذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما: إثبات البنات لله تعالى وذلك باطل؛ لأن العرب كانوا يستنكفون من البنات والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق؟ والثاني: إثبات أن الملائكة إناث وهذا أيضاً باطل؛ لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر، أما الحس فمفقود؛ لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله تعالى الملائكة، وهو المراد من قوله تعالى: {أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون} وإنما خص علم المشاهدة؛ لأن أمثال ذلك لا يعلم إلا به، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء والإشعار بأنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 لفرط جهلهم يثبتونه كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وأما الخبر فمفقود أيضاً؛ لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل، وهذا هو المراد من قوله تعالى: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} أي: فيما زعموا وقوله تعالى: {أصطفى البنات على البنين} استفهام إنكار واستبعاد، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء. فائدة: همزة أصطفى همزة قطع مفتوحة مقطوعة وصلاً وابتداء. هذا الحكم الفاسد {أفلا تذكرون} أي: أنه تعالى منزه عن ذلك، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال، والباقون بالتشديد. وأما النظر فمفقود من وجهين؛ الأول: أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب؛ لأنه تعالى أكمل الموجودات، والأكمل له اصطفاء الأبناء على البنات يعني: أن إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولهم باطلاً، الثاني: أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم وإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم وهذا هو المراد بقوله تعالى: {أم لكم سلطان مبين} أي: حجة واضحة أن لله ولداً. {فأتوا بكتابكم} أي: التوراة فأروني ذلك فيه {إن كنتم صادقين} أي: في قولكم هذا. {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} قال مجاهد وقتادة: أراد بالجنة الملائكة عليهم السلام سموا جناً لاجتنانهم عن الأبصار، وقال ابن عباس: حي من الملائكة يقال لهم: الجن منهم إبليس لعنه الله، وقيل: هم خزان الجنة، قال الرازي: وهذا القول عندي مشكل؛ لأنه تعالى أبطل قولهم: الملائكة بنات الله، ثم عطف عليه قوله تعالى: {وجعلوا} إلخ والعطف يقتضي المغايرة، فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم، وقال مجاهد: قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه منكراً عليهم: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن، وهذا أيضاً بعيد؛ لأن المصاهرة لا تسمى نسباً، قال الرازي: وقد روينا في تفسير قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن} (الأنعام: 100) أن قوماً من الزنادقة يقولون: إن الله تعالى وإبليس أخوان فالله تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الأخ الشرير، فالمراد من ذلك هو هذا المذهب وهو مذهب المجوس، قال: وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل في الرد عليه بهذه الآية {ولقد علمت الجنة أنهم} أي: أهل هذا القول {لمحضرون} أي: إلى النار ومعذبون، وقيل: المراد ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون العذاب، فعلى الأول الضمير عائد إلى القائل، وعلى الثاني عائد إلى نفس الجنة. ثم إنه تعالى نزه نفسه عما قالوه من الكذب فقال تعالى: {سبحان الله عما يصفون} بأن لله تعالى ولداً ونسباً وقوله تعالى: {إلا عباد الله المخلصين} أي: المؤمنين استثناء منقطع أي: لكن عباد الله المخلصين ينزهون الله تعالى عما يصف هؤلاء. الثالث: أنه ضمير محضرون أي: لكن عباد الله تعالى ناجون وعلى هذا فتكون جملة التسبيح معترضة وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناء متصلاً؛ لأنه قال: مستثنى من جعلوا أو محضرون، ويجوز أن يكون منفصلاً، فظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل وليس ببعيد كأنه قيل: وجعل الناس، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 نسباً فهو عند الله مخلص من الشرك، وقوله تعالى: a {فإنكم} أي: يا أهل مكة {وما تعبدون} أي: من الأصنام عود إلى خطابهم؛ لأنه لما ذكر الدلائل الدالة على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه به على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله تعالى في حقه بالعذاب والوقوع في النار، كما قال تعالى: {ما أنتم عليه} أي: على معبودكم، وعليه متعلق بقوله: {بفاتنين} أي: بمضلين أحداً من الناس. {إلا من هو صال الجحيم} أي: إلا من سبق له في علم الله تعالى الشقاوة. تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر هو الله حيث قضاه وقدره، ثم إن جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار بقوله: {وما منا} أي: معشر الملائكة ملك {إلا له مقام معلوم} في السموات يعبد الله تعالى فيه لا يتجاوزه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي ويسبح، وروى أبو ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً» قيل: الأطيط أصوات الأقتاب وقيل: أصوات الإبل وحسها، ومعنى الحديث: ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن ثم أطيط، وقال السدي: إلا له مقام معلوم في القرب والمشاهدة. {وإنا لنحن الصافون} أي: أقدامنا في الصلاة، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض. {وإنا لنحن المسبحون} أي: المنزهون الله تعالى عما لا يليق به، وقيل: هذا حكاية كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والمعنى: وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله تعالى في القيامة وإنا لنحن الصافون في الصلاة والمنزهون له تعالى عن السوء، ثم إنه تعالى أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال: {وإن كانوا} أي: كفار مكة، وإن مخففة من الثقيلة {ليقولون لو أن عندنا ذكراً} أي: كتاباً {من الأولين} أي: من كتب الأمم الماضين. {لكنا عباد الله المخلصين} أي: لأخلصنا العبادة له وما كذبنا ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والمهيمن عليها وهو القرآن العظيم. {فكفروا به فسوف يعلمون} عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم، ولما هددهم بذلك أردفه بما يقوي قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا} أي: بالنصر {لعبادنا المرسلين} وهي قوله تعالى {لأغلبن أنا ورسلي} (المجادلة: 21) أو هي قوله تعالى: {إنهم لهم المنصورون} . {وإن جندنا} أي: المؤمنين {لهم الغالبون} أي: الكفار، والنصرة والغلبة قد تكون بالحجة وقد تكون بالدولة والاستيلاء، وقد تكون بالدوام والثبات، فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب في الآخرة، فالحكم في ذلك للأغلب في الدنيا فلا ينافي ذلك قتل بعض الأنبياء عليهم السلام وهزم كثير من المؤمنين، وإنما سمى ذلك كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد. {فتول عنهم} أي: أعرض عن كفار مكة، واختلف في قوله تعالى: {حتى حين} فقال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يوم بدر، وقال السدي: حتى يأمرك الله تعالى بالقتال، وقيل: إلى أن يأتيهم عذاب الله، وقيل: إلى فتح مكة، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 مقاتل بن حبان: نسختها آية القتال. {وأبصرهم} أي: إذا نزل بهم العذاب من القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة، {فسوف يبصرون} أي: ما قضيناه لك من التأييد والنصرة والثواب في الآخرة وسوف للوعيد لا للتبعيد. ولما قيل لهم ذلك قالوا استهزاء: متى نزول العذاب؟ فقال تعالى تهديداً لهم: {أفبعذابنا يستعجلون} أي: إن ذلك الاستعجال جهل؛ لأن لكل شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر. {فإذا نزل} أي: العذاب {بساحتهم} قال مقاتل: بحضرتهم، وقيل: بفنائهم، قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم فشبه العذاب بجيش هجم فأناخ بفنائهم بغتة {فساء} أي: فبئس صباحاً {صباح المنذرين} أي: الكافرين الذين أنذروا بالعذاب، وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر أتاها ليلاً وكان إذا جاء قوماً بليل لم يغر حتى يصبح، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيها ومكاتلها، فلما رأوه قالوا: محمد والله محمد والخميس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات» وقوله تعالى: {وتول عنهم حتى حين} {وأبصر فسوف يبصرون} فيه وجهان أحدهما: أن في هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال يوم القيامة على هذا فالتكرار زائل، والثاني: أنها مكررة للمبالغة في التهديد والتهويل. فإن قيل: ما الحكمة في قوله أولاً: {وأبصرهم} وههنا قال: {وأبصر} بغير ضمير؟ أجيب: بأنه حذف مفعول أبصر الثاني إما اختصاراً لدلالة الأول عليه وإما اقتصاراً تفنناً في البلاغة، ثم إنه تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهية فقال تعالى: {سبحان ربك رب العزة} أي: الغلبة والقوة وفي قوله تعالى: {رب} إشارة إلى كمال الحكمة والرحمة، وفي قوله تعالى {العزة} إشارة إلى كمال القدرة وأنه القادر على جميع الحوادث؛ لأن الألف واللام في قوله تعالى: {العزة} تفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكاً له سبحانه لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله سبحانه وتعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} أي: أن له ولداً كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات وقوله تعالى: {وسلام على المرسلين} أي: المبلغين من الله تعالى التوحيد والشرائع تعميم للرسل بعد تخصيص بعضهم. {والحمد لله رب العالمين} أي: على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام وعلى ما أفاض عليهم ومن اتبعهم من النعمة وحسن العاقبة، ولذلك أخره عن التسليم والغرض من ذلك تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه لما روى البغوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين إلخ. وأما ما رواه البيضاوي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين» فموضوع. سورة ص مكية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وهي ست أو ثمان وثمانون آية، وسبعمائةواثنتان وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفاً {بسم الله} المنزه عن كل شائبة نقص {الرحمن} الذي عم جوده سائر مخلوقاته {الرحيم} بمن خلقه، واختلف في تفسير قوله تعالى: {ص} فقيل: قسم وقيل: هو اسم للسورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي في أوائل السور وقال محمد بن كعب القرظي: مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد، وقال الضحاك: معناه صدق الله، وروي عن ابن عباس: صدق محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضته. {والقرآن} أي: الجامع مع البيان لكل خير {ذي الذكر} أي: الموعظة والتذكير وقال ابن عباس: ذي البيان، وقال الضحاك: ذي الشرف ودليله قوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: 44) ، فإن قيل: هذا قسم فأين المقسم عليه؟ أجيب: بأنه محذوف تقديره: ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة وقوله تعالى: {بل الذين كفروا} أي: من أهل مكة إضراب انتقال من قصة إلى أخرى {في عزة} أي: حمية وتكبر عن الإيمان {وشقاق} أي: خلاف وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والتنكير في عزة وشقاق للدلالة على شدتهما، وقيل: جواب القسم قد تقدم وهو قوله تعالى: {ص} أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمد الصادق وقال الفراء: {ص} معناها وجب وحق فهو جواب قوله: {والقرآن} كما تقول: نزل والله، وقال الأخفش: قوله تعالى: {إن كل إلا كذب الرسل} وقال السدي: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار، قال البغوي: وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة وقال مجاهد: في عزة متعازين. {كم} أي: كثيراً {أهلكنا من قبلهم} وأكد كثرتهم بقوله تعالى: {من قرن} أي: من أمة من الأمم الماضية كانوا في شقاق مثل شقاقهم. تنبيه: كم مفعول أهلكنا، ومن قرن تمييز، ومن قبلهم لابتداء الغاية {فنادوا} أي: استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وقيل: نادوا بالإيمان والتوبة {ولات} أي: وليس الحين {حين مناص} أي: منجى وفرار، قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب، قال بعضهم لبعض: مناص أي: اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله تعالى ذلك، والمناص مصدر ناص ينوص إذا تقدم، ولات بمعنى: ليس بلغة أهل اليمن، وقال النحويون: هي لا زيدت فيها التاء كقولهم: رب وربت، وثم وثمت، وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا: لات كما قالوا: ثمت ولا تعمل إلا في الأزمان خاصة نحو لات حين ولات أوان كقول الشاعر: *طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء* والأكثر حينئذ حذف مرفوعها فتقديره ولات الحين حين مناص، وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع كقول القائل: *من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح* أي: لا براح لي، ولما حكى تعالى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة بقوله تعالى: {وعجبوا} أي: الكفار الذين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} {أن} أي: لأجل أن {جاءهم منذر} هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي قوله تعالى: {منهم} وجهان أحدهما: أنهم قالوا أن محمداً مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنية والنسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 والشكل والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي. والثاني: أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد والترغيب في الآخرة ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً عن الكذب والتهمة وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون من قوله: {وقال الكافرون} وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشارة إلى أنهم يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ومعاندون لا غافلون وإيذاناً بشدة غضبه عليهم وذماً لهم على قولهم: {هذا} أي: النذير {ساحر} أي: فيما يظهره معجزة {كذاب} أي: فيما يقول على الله تبارك وتعالى: {أجعل} أي: صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه {الآلهة} أي: التي نعبدها {إلهاً واحداً} كيف يسع الخلق كلهم إله واحد {إن هذا} أي: القول بالوحدانية {لشيء عجاب} أي: بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ونشاهده من أن الواحد لا يفي عمله وقدرته بالأشياء الكثيرة، وقال البغوي: العجب والعجاب واحد كقولهم: رجل كريم وكرام، وكبير وكبار، وطويل وطوال، وعريض وعراض، وسبب قولهم ذلك أنه روى أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش: ـ وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلاً أكبرهم سناً الوليد بن المغيرة ـ اذهبوا إلى أبي طالب، فأتوا إليه وقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إليه فحضر فقال له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تسألونني؟ فقالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا، قال: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل: لله أبوك نعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقاموا» فقالوا ذلك. {وانطلق الملأ منهم} أي: أشراف قريش من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله {أن امشوا} أي: يقول بعضهم لبعض امشوا أي: اذهبوا {واصبروا} أي: اثبتوا {على آلهتكم} أي: على عبادتها، قال الزمخشري: ويجوز أنهم قالوا: امشوا أي: أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها، ومنه الماشية للتفاؤل. فائدة: الجميع يكسرون النون في الوصل من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا. ولما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة بمكانه قال المشركون {إن هذا} أي: الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {لشيء يراد} أي: بنا فلا مرد له أو أن الصبر على عبادة الآلهة لشيء يراد وهو أهل للإرادة فهو أهل أن لا ننفك عنه، وقيل: هذا المذكور من التوحيد لشيء يراد منا وقيل: إن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم. {ما سمعنا بهذا} أي: الذي يقوله محمد من التوحيد {في الملة الآخرة} قال ابن عباس: يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون: ثالث ثلاثة، وقال مجاهد: يعنون ملة قريش دينهم الذي هم عليه {إن} أي: ما {هذا} أي: الذي يقوله {إلا اختلاق} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 افتعال وكذب. {أأنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {الذكر} أي: القرآن {من بيننا} وليس بأكبرنا ولا أشرفنا وهذا استفهام على سبيل الإنكار لاختصاصه عليه الصلاة والسلام بالوحي وهو مثلهم، وفي ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالواو، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو بخلاف عن ورش وابن كثير بغير إدخال، وعن هشام فيها ثلاثة أوجه: تحقيق الهمزتين، وإدخال ألف بينهما، وتحقيقهما من غير إدخال ألف بينهما، قال الله تبارك وتعالى: {بل هم في شك} أي: تردد محيط بهم مبتدأ لهم {من ذكري} أي: وحيي وما أنزلت لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل الذي لو نظروا فيه لزال هذا الشك عنهم {بل} أي: ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك {لما يذوقوا عذاب} أي: الذي أعددته للمكذبين ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ولصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ولا ينفعهم التصديق حينئذ. {أم} أي: بل {عندهم خزائن} أي: مفاتيح {رحمة} أي: نعمة {ربك} وهي النبوة يعطونها من شاؤوا، ونظيره قوله تعالى {أهم يقسمون رحمة ربك} (الزخرف: 32) أي: نبوة ربك {العزيز} أي: الغالب الذي لا يغلبه أحد {الوهاب} الذي له أن يهب كل ما يشاء من النبوة أو غيرها لمن يشاء من خلقه. ولما كانت خزائن الله تعالى غير متناهية كما قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} (الجن: 21) ومن جملته السموات والأرض وما بينهما وهم عاجزون عن هذا القسم قال الله تعالى: {أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما} أي: ليس لهم ذلك فلأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله تعالى أولى، وقوله تعالى: {فليرتقوا في الأسباب} جواب شرط محذوف أي: إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم فينزلوا الوحي إلى من يريدونه وهذا غاية التهكم بهم والتعجيز أو التوبيخ، قال مجاهد: أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سبب واستدل حكماء الإسلام بقوله تعالى: {فليرتقوا في الأسباب} على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله تعالى فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات: أسباباً وهذا يدل على ذلك وقوله تعالى: {جُندٌ ما هنالك مهزوم من الأحزاب} خبر مبتدأ مضمر أي: هم قريش جند من الكفار المتحزبين على الرسل عليهم السلام، مهزوم: مكسور عما قريب، فمن أين لهم تدبير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية، فلا تكترث بما تقوله قريش، قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فقال تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر: 45) فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم، وقيل: يوم الخندق، قال الرازي: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون مهزومين في مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح. تنبيه: في ما وجهان، أحدهما: أنها مزيدة، والثاني: أنها لجند على سبيل التعظيم للمهزومين وللتحقير، فإن ما الصفة تستعمل لهذين المعنيين، وقد تقدم الكلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 عليها في أوائل البقرة، وهنالك صفة لجند وكذلك مهزوم ومن الأحزاب ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معزياً له عليه السلام: {كذبت} أي: مثل تكذيبهم {قبلهم قوم نوحٍ} أنث قوم باعتبار المعنى واستمروا على عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام {وعادٌ} سماهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح العقيم ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض وهم لا يذعنون لما دعاهم إليه هود عليه السلام {وفرعونُ ذو الأوتاد} كانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد يشد كل يد وكل رجل منه إلى سارية وتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت، وقال مجاهد: كان يمد الرجل مستلقياً بين أربعة أوتاد على الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، قال السدي: كان يشد الرجل بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات، وقال ابن عباس: ذو البناء المحكم، وقيل: ذو الملك الشديد الثابت، وقال العتبي: تقول العرب: هم في عز ثابت الأوتاد يريدون أنه دائم شديد قال الأسود بن يعقوب: *ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد وقال الضحاك: ذو القوة والبطش، وقال عطية: ذو الجموع والجنود الكثيرة لأنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء، والأوتاد جمع وتد وفيه لغات وتد بفتح الواو وكسر التاء وهو الفصحى، ووتد بفتحتين، وودّ بإدغام التاء في الدال. {وثمود} واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها ولم يكن في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم {وقوم لوط} أي: الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وفي شقاقهم حتى ضربوا بالعشاء وطمس الأعين ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم {وأصحاب الأيكة} أي: الغيضة، وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام {أولئك الأحزاب} أي: المتحزبون على الرسل عليهم السلام الذين خص الجند المهزوم منهم، وقيل: المعنى أولئك الأحزاب مبالغة في وصفهم بالقوة كما يقال: فلان هو الرجل أي: أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل عليهم العذاب، وفي الآية زجر وتخويف للسامعين. {إن} أي: ما {كل} أي: من الأحزاب {إلا كذب الرسل} أي: لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم لأن دعوتهم واحدة وهي دعوة التوحيد {فحق عقاب} أي: فوجب عليهم ونزل بهم عذابي. ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال تعالى: {وما ينظر} وحقرهم بقوله تعالى: {هؤلاء} أي: وما ينتظر كفار مكة {إلا صيحة واحدة} وهي نفخة الصور الأولى، كقوله تعالى: {ما ينظرون إلا صيحةً واحدةً تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية} (يس: 50) الآية والمعنى: أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معدٌّ لهم يوم القيامة، فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يقطع كل ساعة بحضوره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 قيل: المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة كما يقال: صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر: *صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان* ونظيره قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} (يونس: 102) الآية. وقرأ حمزة والكسائي: {ما لها} أي: الصيحة {من فواق} بضم الفاء، والباقون بفتحها، وهما لغتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع والمعنى: ما لها من توقف قدر فواق ناقة، وفي الحديث: «العبادة قدر فواق ناقة» وهذا في المعنى كقوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) وقال ابن عباس: ما لها من رجوع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال: أفاقت الناقة تفيق إفاقة، رجعت واجتمعت الفيقة في ضرعها، والفيقة اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم يترك ساعة حتى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق أي: العذاب لا يمهلهم بذلك القدر. {وقالوا} أي: كفار مكة استهزاءً لما نزل قوله تعالى في الحاقة: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} (الحاقة: 19) {وأما من أوتي كتابه بشماله} (الحاقة: 25) {ربنا} أي: يا أيها المحسن إلينا {عجل لنا قطنا} أي: كتاب أعمالنا في الدنيا {قبل يوم الحساب} وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول، وقال مجاهد والسدي: يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب، قال عطاء: قاله النضر ابن الحارث وهو قوله: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال: 32) وقال مجاهد: قطنا حسابنا، يقال لكتاب الحساب: قط، وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز ويجمع على قطوط وقططة، كقرد وقرود وقردة، وفي القلة على أقطة وأقطاط، كقدح وأقدحة وأقداح، إلا أن أفعلة في فعل شاذ. ولما أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة أولها: من أمر النبوات وإثباتها كما قال تعالى: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (ص: 4) وثانيها: تعجبهم من الإلهيات فقالوا {أجعل الآلهة إلهاً واحداً} وثالثها: تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} قالوا ذلك استهزاء أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر فقال سبحانه: وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال {على ما يقولون} أي: على ما يقول الكافرون من ذلك، ثم إنه تعالى لما أمر نبيه بالصبر ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية له فكأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص، وحزن خاص، فيعلم حينئذ أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله تعالى لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا. وبدأ من ذلك بقصة داود عليه السلام فقال تعالى: {واذكر عبدنا} أي: الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا وأبدل منه أو بينه بقوله تعالى: {داود ذا الأيد} قال ابن عباس: أي: القوة في العبادة، روي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه» وقيل: ذا القوة في الملك ووصفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 تعالى بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء: 1) وأيضاً وصف الأنبياء عليهم السلام بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة {إنه أواب} أي: رجاع إلى مرضاة الله تعالى، والأواب فعال من آب يؤب إذا رجع قال الله تعالى: {إن إلينا إيابهم} (الغاشية: 25) وهذا بناء مغالبة كما يقال: قتال وضراب وهو أبلغ من قاتل وضراب وقال ابن عباس: مطيع، وقال سعيد بن جبير: مسبح بلغة الحبشة، ويؤيد هذا قوله تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {سخرنا الجبال} أي: التي هي أقسى من قلوب قومك وأنها أعظم الأراضي صلابة وقوةً وعلواً ورفعةً بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله تعالى: {معه} أي: مصاحبة له {يسبحن} أي: بتسبيحه وفي كيفية تسبيحها وجوه أحدها: أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ونطقاً وحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى، ثانيها: قال القفال: إن داود عليه السلام أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً. روى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود عليه السلام حتى أنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، ثالثها: أن الله تعالى سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود عليه السلام فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدرته تعالى واتقان حكمته {بالعشي والإشراق} قال الكلبي: غدوةً وعشياً، والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها، قال الزجاج: يقال: شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، وقيل: هما بمعنى واحد والأول أكثر استعمالاً، تقول العرب: شرقت الشمس ولما تشرق، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى قال ابن عباس: كنت أمر بهذه الآية ولم أدر ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى وقال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق» ، وروى طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا: لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. وقوله تعالى: الكتاب: السراج المنير للخطيب الشربينى {والطير محشورةً} أي: مجموعة إليه تسبح معه، عطف مفعول على مفعول، وهما الجبال والطير، أو حال على حال، وهما يسبحن، ومحشورة كقولك: ضربت زيداً مكتوفاً وعمراً مطلقاً وأتى بالحال اسماً لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئاً فشيئاً لأن حشرها دفعة واحدة أدل على القدرة والحاشر هو الله تعالى؟ فإن قيل: كيف يصدر تسبيح الله تعالى من الطير مع أنه لا عقل لها؟ أجيب: بأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولاً ولا حتى تعرف الله تعالى فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداود عليه السلام {كلٌ} أي: من الجبال والطير {له} أي: لداود أي: لأجل تسبيحه {أواب} أي: رجاع إلى طاعته بالتسبيح وقيل: كل مسبح فوضع أواب موضع مسبح وقيل: الضمير في له للباري تبارك وتعالى والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى. {وشددنا} أي: قوينا بما لنا من العظمة {ملكه} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 بالحرس والجنود، قال ابن عباس: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، وعن ابن عباس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود فقال: إن هذا قد غصبني بقراً فسأله داود فجحد فقال للآخر: البينة فلم تكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثانية فلم يفعل فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل داود إليه فقال له: إن الله تعالى أوحى إلي أن أقتلك فقال: تقتلني بغير بينة فقال: نعم والله لأنفذن أمر الله تعالى فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت ابن هذا فقتلته فبذلك أخذت، فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى: {وشددنا ملكه} {وآتيناه} أي: بعظمتنا {الحكمة} أي: النبوة والإصابة في الأمور. واختلف في تفسيره قوله تعالى: {وفصل الخطاب} فقال ابن عباس: بيان الكلام أي: معرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير رؤية في ذلك، وقال ابن مسعود والحسن: علم الحكمة والبصر بالقضاء، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به، وقال أبي بن كعب: فصل الخطاب الشهود والإيمان، وقال مجاهد وعطاء ويروى عن الشعبي: إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه، أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه السلام، وقيل غيره كما ذكرته في شرح المنهاج عند قول المنهاج أما بعد، وقيل: هو الخطاب الفصل الذي ليس باختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء وصف كلام النبي صلى الله عليه وسلم فصل لا نزر ولا هذر، وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وهل} استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده {أتاك} يا أفضل الخلق {نبأ} أي: خبر {الخصم} وهو في الأصل مصدر ولذلك يصلح للمفرد والمذكر والمراد به هنا الجمع بدليل قوله تعالى {إذ} أي: حين {تسوروا} أي: تصعدوا وعلوا {المحراب} أي: البيت الذي كان يدخل فيه داود ويشتغل فيه بالعبادة والطاعة، قال الزمخشري: فإن قلت: بما انتصب إذ؟ قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك أو بنبأ أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بنبأ؛ لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم تكن ناصباً، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا، انتهى. فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف، ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل وقوله تعالى: {إذ} أي: حين {دخلوا على داود} بدل من إذ الأولى أو ظرف لتسوروا، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند التاء في الأول وعند الدال في الثاني ووافقهم ابن ذكوان في الأول والباقون بالإدغام فيهما {ففزع منهم} أي: لأنهم نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 يدخل عليه، فإنه عليه السلام كان جزأ زمانه يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للوعظ ويوماً للاشتغال بحاجته فتسور عليه ملكان على صورة الإنسان في يوم الخلوة {قالوا لا تخف} وقولهم: {خصمان} خبر مبتدأ وضمر أي: نحن خصمان أي: فريقان، ليطابق ما قبله من ضمير الجمع وقيل: اثنان، والضمير بمعناهما وقد مر أن الخصم يطلق على الواحد والأكثر، وقولهم: {بغى بعضنا على بعض} جملة يجوز أن تكون مفسرة لحالهم وأن تكون خبراً ثانياً، فإن قيل: كيف قالوا بغى بعضنا على بعض وهم ملائكة على المشهور؟ أجيب: بأن ذلك على سبيل الفرض أي: أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي من أحدهما {فاحكم بيننا بالحق} أي: الأمر الثابت الذي يطابق الواقع {ولا تشطط} أي: ولا تجر في الحكومة {واهدنا} أي: أرشدنا {إلى سواء الصراط} أي: وسط الطريق الصواب فقال لهما: تكلما فقال أحدهما: {إن هذا أخي} أي: على ديني وطريقتي أو في النصح لا من جهة النسب {له تسع وتسعون نعجة} أي: امرأة {ولي نعجة واحدة} امرأة واحدة، والنعجة هي الأنثى من الضأن ولكن كثر في كلامهم الكناية عن المرأة، قال ابن عون: *أنا أبوهن ثلاثة هنه ... رابعة في البيت صغرا هنه* *ونعجتي خمساً توافيهنه* قال الحسن بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن ثم نعاج ولا بغي فهو كقولهم: ضرب زيد عمراً واشترى بكر داراً ولا ضرب هناك ولا شراء، وقرأ حفص بفتح الياء والباقون بالسكون {فقال أكفلنيها} قال ابن عباس: أعطنيها وقال مجاهد: انزل لي عنها وحقيقته ضمها إلي واجعلني كافلها وهو الذي يعولها وينفق عليها والمعنى: طلقها لأتزوجها {وعزني} أي: غلبني {في الخطاب} أي: الجدال لأنه أفصح مني في الكلام، وقيل: قهرني لقوة ملكه، قال الضحاك: يقول: إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني، وحقيقة المعنى: أن الغلبة كانت له لضعفي في يده وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود وسيأتي الكلام على قصته إن شاء الله تعالى عن قريب. {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} وهذا جواب قسم محذوف أريد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والانضمام أي: ليضمها مضافة إلى نعاجه، فإن قيل: كيف قال: {لقد ظلمك} ولم يكن سمع قول صاحبه؟ أجيب: بأن معناه: إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك أو أنه قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول ولم يذكر الله تعالى ذلك لدلالة الكلام عليه، وقيل: التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه قد ظلمك، وقرأ قالون وابن كثير وهشام وعاصم بإظهار الدال عند الظاء والباقون بالإدغام، وقوله: {وإن كثيراً من الخلطاء} أي: مطلقاً منكم ومن غيركم والخلطاء جمع خليط وهم الشركاء الذين خلطوا أموالهم، وقال الليث: خليط الرجل مخالطه {ليبغي} أي: ليعتدي {بعضهم} غالباً {على بعض} فيريدون غير الحق. فإن قيل: لم خص الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك؟ أجيب: بأن المخالطة توجب كثرة المنازعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 والمخاصمة لأنهما إذا اختلطا اطلع كل منهما على أحوال صاحبه فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيفضي ذلك إلى زيادة المنازعة والمخاصمة، فلذلك خص داود عليه السلام الخلطاء بالبغي والعدوان ثم استثنى فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا} أي: تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: الطاعات فإنهم لا يقع منهم شيء لأن مخالطة هؤلاء تكون لأجل الدين وهذا استثناء متصل من قوله: {بعضهم وقليل ما هم} أي: هم قليل فقليل خبر مقدم وما مزيدة للتعظيم وهو مبتدأ، وقال الزمخشري: ما للإبهام وفيه تعجب من قلتهم قال: فإن أردت أن تحقق فائدتها وموقعها فأخرجها من قول امرئ القيس: *وحديث ما على قصره وانظر هل بقي لها معنى {وظن داود} أي: لذهابهم قبل فصل الأمر وقد همه من ذلك أمر من عظمه لا عهد له بمثله {أنما فتناه} أي: امتحناه، قال المفسرون: إن الظن هنا بمعنى العلم لأن داود لما قضى الأمر بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك، وقال ابن عباس: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه {فاستغفر ربه} أي: طلب الغفران من مولاه الذي أحسن إليه {وخرّ} أي: سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك {راكعاً} أي: ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدؤه أو خر للسجود راكعاً أو مصلياً كأنه أحرم بركعتي الاستغفار {وأناب} أي: رجع إلى الله تعالى. قال الرازي: وللناس في هذه القصة ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة منه، وثانيها: على الصغيرة، وثالثها: لا تدل على كبيرة ولا صغيرة، فأما القول الأول فقالوا: إن داود عليه السلام أحب امرأة أوريا فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله تعالى ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته وعرضا تلك الواقعة عليه، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك واشتغل بالتوبة، قالوا: وسبب ذلك أن داود عليه السلام تمنى يوماً من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسأل ربه: أن يمتحنه كما امتحنهم ويعطيه من الفضل ما أعطاهم فأوحى الله تعالى إليه أنك تبتلى في يوم كذا فاحترس، فلما كان ذلك اليوم جاءه الشيطان فتمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فطارت غير بعيدة فتبعها فطارت من كوة، فنظر داود أين تقع فأبصر داود امرأة في بستان تغتسل فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده إعجاباً، فسأل عنها فقيل له: امرأة أوريا وزوجها في غزاة فأحب داود أن يقتله ويتزوج بها، فأرسل داود إلى ابن أخته أن قدم أوريا قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل أن يرجع وراءه حتى يفتح الله تعالى على يديه أو يقتل، فقدمه ففتح على يديه فكتب إلى داود فأمر أن يقدمه بعد ذلك ففعل ثلاث مرات فقتل في الثالثة فلما انقضت عدتها تزوج بها فهي أم سليمان عليهما السلام. قال الرازي: والذي أدين الله تعالى به وأذهب إليه أن ذلك باطل لوجوه. الأول: أن هذه الحكاية لا تناسب داود لأنها لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 فجوراً لانتفى منها والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إلى داود عليه السلام. ثانيها: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته، أما الأول: فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلم «من سعى في ذم مسلم ولو بشطر كلمة جاء مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله» ، وأما الثاني: فمنكر أيضاً قال صلى الله عليه وسلم «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» فإن أوريا لم يسلم من داود عليه السلام لا في روحه ولا في منكوحه. ثالثها: إن الله تعالى وصف داود عليه السلام بصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر. الصفة الأولى: أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بداود عليه السلام في المصابرة على المكاره فلو قلنا: إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم عبد مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله تعالى. الصفة الثانية: أنه وصفه بكونه عبداً له وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في وصف العبودية في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات، فلو قلنا: إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلا في طاعة الهوى والشهوة. الصفة الثالثة: وهي قوله تعالى {ذا الأيد} أي: ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم. الصفة الرابعة: كونه أواباً كثير الرجوع إلى الله فكيف يليق هذا الوصف بمن قلبه مشغول بالفسق والفجور. الصفة الخامسة: قوله تعالى: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن} أَفَتَرى أنه سخرت له الجبال ليتخذ سبيل القتل والفجور؟. الصفة السادسة: قوله تعالى: {والطير محشورة} قيل: إنه كان محرماً عليه صيد شيء من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على روحه ومنكوحه. الصفة السابعة: قوله تعالى: {وشددنا ملكه} ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد إنا ملكناه بقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لم يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك. الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال: إنا آتيناه الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف من مزاحمة أخص أصحابه في الروح والمنكوح، فهذه الصفات التي وصف بها قبل شرح القصة وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة. فأولها: قوله تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} وقوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} فكيف أن الله تعالى يجعله خليفة ويقع منه ذلك، وقد روي عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: من حدثكم بحديث داود على ما ترويه القصاص فاجلدوه مائة جلدة وستين وهو حد الفرية أي: الكذب على الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم قالوا: إن المغيرة بن شعبة زنا وشهد ثلاثة من الصحابة بذلك وأما الرابع فلم يقل إني رأيت ذلك بعيني، فإن عمر رضي الله عنه كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، فإذا كان هذا الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام، فثبت بما ذكرنا أن القصة الذي ذكرها هؤلاء باطلة لا يجوز ذكرها.d قال الرازي: حضرت في مجلس وفيه بعض الأكابر فكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة بسبب اقتضى ذلك فقلت له: لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، وقال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} (الأنعام: 124) ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في الطعن فيه وأيضاً بتقدير أنه ما كان نبياً فلا شك أنه كان مسلماً وقال صلى الله عليه وسلم «لا تذكروا موتاكم إلا بخير» وذكرت له أشياء أخر قال: سكت ولم يذكر شيئاً. فإن قيل: قد ذكر هذه القصة كثير من المحدثين والمفسرين. أجيب: بأنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القطعية واجباً والمحققون يردون هذا القول ويحكمون عليه بالكذب، وأما القول الثاني: فقالوا: تحمل هذه القصة على حصول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه: الأول: أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود عليه السلام فآثره أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه. الثاني: قالوا: إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب البتة أما وقوع بصره عليها بغير قصد فليس بذنب وأما حصول الميل عقب النظر فليس أيضاً ذنباً لأن الميل ليس في وسعه فليس مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها تزوج بها. الثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن يطلق زوجته حتى يتزوجها وكانت عادة مألوفة معهودة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان، فقيل له ذلك، وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملت هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى. وأما القول الثالث: فقال تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا صغيرة لداود عليه السلام بل يوجب أعظم أنواع المدح والثناء له وهو أنه قد روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل فيه بطاعة ربه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً تمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً، وقالوا: {خصمان بغى بعضنا على بعض} إلى آخر القصة فعلم غرضهم وقصد أن ينتقم منهم وظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى فاستغفر ربه مما هم به وأناب، فإن قيل: ههنا أربعة ألفاظ يمكن أن يحتج بها في إلحاق الذنب بداود عليه السلام أحدها: قوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه} وثانيها: قوله تعالى: {فاستغفر ربه} وثالثها: قوله تعالى: {وأناب} ورابعها: قوله تعالى: {فغفرنا له ذلك} . أجيب: بأن هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكر لاحتمال أن تكون الزلة إنما حصلت من باب ترك الأفضل والأولى كما مر، وحمل هذه الألفاظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 على هذا الوجه لا يلزم منه إسناد شيء من الذنوب إليه بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه، وقيل: إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته وهناك أشياء كثيرة ذكرها البغوي وغيره وفيما ذكرناه كفاية. {فغفرنا له ذلك} أي: ما استغفر منه {وإن له عندنا لزلفى} أي: زيادة خير في الدارين بعد المغفرة {وحسن مآب} أي: مرجع في الجنة. ولما تم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض بقوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} أي: تدبر أمر العباد بأمرنا وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول الأول كما مر لأن من البعيد جداً أن يوصف الرسول بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين رغبة في انتزاع أزواجهم من أيديهم ثم يذكر عقبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه، ثم في تفسير كونه خليفة وجهان: أحدهما: جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه وذلك إنما يعقل في حق من تصح عليه الغيبة وذلك على الله تعالى محال. ثانيهما: إنا جعلناك ممكناً في الناس نافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة ومنه يقال: خليفة الله تعالى في أرضه. وحاصله: أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة للزوم نفاذ الحكم في تلك الحقيقة {فاحكم بين الناس} أي: الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا {بالحق} أي: بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات وإذا كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى ذلك إلى تخريب العالم ووقوع الهرج فيه والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال تعالى: {ولا تتبع الهوى} أي: لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى ثم سبب عنه قوله تعالى: {فيضلك} أي: ذلك الاتباع أو الهوى {عن سبيل الله} لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب {إن الذين يضلون عن سبيل الله} أي: عن الإيمان بالله تعالى {لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا} أي: بسبب نسيانهم {يوم الحساب} أي: المرتب عليه تركهم الإيمان ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا، وقال الزجاج: بتركهم العمل لذلك اليوم، وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا أي: تركوا القضاء بالعدل. {وما خلقنا السماء} التي ترونها {والأرض وما بينهما} أي: مما تحسون به من الرياح وغيرها خلقاً {باطلاً} أي: عبثاً قال الله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون: 115) تنبيه: احتج أهل السنة بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى خلق كل ما بين السماء والأرض وأعمال العباد مما بين السماء والأرض فوجب أن يكون تعالى خالقاً لها، ودلت على صحة القول بالحشر والنشر لأنه تعالى لما خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يكون خلقهم للإضرار والانتفاع أو لا لشيء، والأول باطل لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضاً باطل، لأن هذه الحالة حاصلة خالصة حين كانوا معدومين فلم يبق إلا أن يقال: خلقهم للانتفاع وذلك الانتفاع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة. والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل الضرر الكثير لوجدان المنفعة القليلة لا يليق بالحكمة، ولما بطل هذا القول ثبت القول بوجود حياة بعد هذه الحياة الدنيا وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة. تنبيه: يجوز في باطلاً أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضميره أي: خلقاً باطلاً وأن يكون حالاً من فاعل خلقنا أي: مبطلين أو ذوي باطل وأن يكون مفعولاً من أجله أي: للباطل وهو العبث {ذلك} أي: خلق ما ذكر لا لشيء {ظن الذين كفروا} أي: أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب {فويل} أي: هلاك عظيم بسبب هذا الظن أو واد في جهنم {للذين كفروا} أي: مطلقاً بهذا الظن وغيره من أي شرك كان {من النار} لأن من أنكر الحشر والنشر كان شاكاً في حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض. ونزل لما قال كفار مكة للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة مثل ما تعطون. {أم نجعل} أي: على عظمتنا {الذين آمنوا} أي: امتثالاً لأوامرنا {وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {كالمفسدين} أي: المطبوعين على الفساد والراسخين فيه {في الأرض} أي: في السفر وغيره لم نجعلهم مثلهم وأم منقطعة والاستفهام فيها لإنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلاً ليدل على نفيه وكذا التي في قوله تعالى: {أم نجعل المتقين كالفجار} كرر الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية، أولاً بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم وقوله تعالى: {كتاب} خبر مبتدأ مضمر أي: هذا كتاب ثم وصفه بقوله تعالى: {أنزلناه} أي: بما لنا من العظمة {إليك} يا أشرف الخلق {مبارك} أي: كثير خيره ونفعه، وقوله تعالى: {ليدبروا} أصله ليتدبروا أدغمت التاء في الدال {آياته} أي: ليتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة فيأتمروا بأوامره ومناهيه فيؤمنوا {وليتذكر} أي: وليتعظ به {أولو الألباب} أي: أصحاب العقول. القصة الثانية: قصة سليمان عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ووهبنا} أي: بما لنا من العظمة {لداود سليمان} ابنه فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنيا وعلماً وحكمة وعظمة ورحمة، والمخصوص بالمدح في قوله تعالى: {نعم العبد} محذوف أي: سليمان، وقيل: داود {إنه أواب} أي: رجاع إلى التسبيح والذكر في جميع الأوقات. {إذ} أي: اذكر إذ {عرض عليه} أي: سليمان، وقوله تعالى: {بالعشي} وهو ما بعد الزوال إلى الغروب، وقوله تعالى: {الصافنات} أي: الخيل العربية الخالصة جمع صافنة وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج: هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وهي علامة الفراهة فيه وأنشد: *ألف الصفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا* وقيل: هو الذي يجمع يديه ويسويهما، وقيل: هو القائم مطلقاً أي: سواء كان من الخيل أم من غيرها قاله القتيبي واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم «من سره أن تقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار» أي: يديمون له القيام وجاء الحديث قمنا صفوناً أي: صافين أقدامنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وقيل: هو قيام الخيل مطلقاً، أي: سواء وقف على طرف سنبكه أم لا، قال الفراء: على هذا رأيت أشعار العرب، واختلف أيضاً في قوله تعالى: {الجياد} فهي إما من الجودة ويقال: جاد الفرس يجود جودة وجودة بالفتح والضم فهو جواد للذكر والأنثى، وهو الذي يجود في جريه بأعظم ما يقدر عليه، والجمع جياد وأجواد وأجاويد، وقيل: جمع لجود بالفتح كثياب وثوب، وإما من الجيد وهو العنق، والمعنى: طويلة الأجياد وهو دال على فراهتها. قال الكلبي: غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس، وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، وقال عوف عن الحسن: بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر لها أجنحة، وعن عكرمة: أنها كانت عشرين ألف فرس لها أجنحة فصلى سليمان الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم لذلك. {فقال إني أحببت} أي: أردت {حب الخير} أي: الخيل {عن ذكر ربي} أي: صلاة العصر {حتى توارت} أي: الشمس {بالحجاب} أي: استترت بما يحجبها عن الأبصار. {ردوها علي} أي: الخيل المعروضة، وقيل: الضمير يرجع للشمس، قال الرازي: وهذا بعيد لوجوه. الأول: أن الصافنات مذكورة بالصريح والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر. وثانيها: أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقه التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة، فأما أن يقول على سبيل العظمة لرب العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقب ذلك الجرم العظيم الذي لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول عليه السلام المطهر المكرم. ثالثها: أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلك مشاهداً لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقل علمنا فساده، انتهى. قال أكثر المفسرين: فلما ردوا الخيل إليه أقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف أخذاً من قوله تعالى {فطفق مسحاً} أي: فأخذ يمسح السيف مسحاً {بالسوق والأعناق} أي: سوقها وأعناقها يقطعها من قولهم: مسح علاوته إذا ضرب عنقه، قالوا: فعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لمرضاته حيث اشتغل عن طاعته وكان ذلك مباحاً له وإن كان حراماً علينا كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام وبقي منها مائة فرس فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل من نسل تلك المائة. قال الحسن: فلما عقر الخيل أبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، قال الرازي: وهذا عندي بعيد لوجوه. الأول: أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي: اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل: مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح. الثاني: أن القائلين بهذا القول أجمعوا على أن لسليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة فأولها: ترك الصلاة وثانيها: أنه استولى عليه الإشتغال بحب الدنيا حتى نسي الصلاة وقال صلى الله عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 وسلم «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وثالثها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة. ورابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: ردوها علي وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس. وخامسها: أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لأكله، وهذه أنواع من الكبائر ينسبونها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها، وخلاصتها: أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقب قوله: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} وأن الكفار لما بالغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ثم ذكر عقبه قصة سليمان عليه السلام فقال تعالى: {ووهبنا لداود سليمان} الآية والتقدير: أنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان، وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا: إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً. قال: والصواب: أن تقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد صلى الله عليه وسلم ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أجريها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله: {عن ذكر ربي} ثم إنه عليه السلام أمر بإجرائها وسيرها حتى توارت بالحجاب أي: غابت عن بصره ثم إنه أمر الرابضين أن يردوها فردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك أمور: الأول: تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو. الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه. الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسها ويمسح لها سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام والعجب منهم كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة. قال: فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه فالجواب أن نقول: لفظ الآية لا تدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قطعي ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات من أقوام لا يلتفت إلى أقوالهم والذي ذهبنا إليه قول الزهري وابن كيسان ا. هـ، وقد يجاب من جهة الجمهور أن ما نسبه إليهم ممنوع. وبيان ذلك أن قوله: إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح يقال: القرينة كافية في ذلك وقوله أنهم جمعوا أنواعاً مذمومة أولها: ترك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 الصلاة إنما يكون ذلك مذموماً إذا تركها متعمداً ولم يكن ذلك بل نسيها وقد نام صلى الله عليه وسلم في الوادي حتى طلعت الشمس وقضى الصبح والنسيان والنوم لا مؤاخذة فيهما، وقوله: ثانيها: أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إنما اشتغل بذلك لأمر الجهاد وهو مطلوب في حقه، وقوله: ثالثها: أنه لم يشتغل بالتوبة يقال: إنه لم يأت بذنب، وقوله: رابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: ردوها علي ممنوع والمخاطب إنما هو جماعته، وقوله: خامسها إلى أن قال: وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عقر الحيوان قد مر عنهم أن ذلك كان مباحاً له فليس فيما قالوه نسبة سليمان عليه الصلاة والسلام إلى معصية فلو قال: الأولى أن يقال: كذا كان أولى، وقرأ قنبل بهمزة ساكنة بعد السين وقيل عنه أيضاً بضم الهمزة وواو بعدها، واختلف في سبب الفتنة التي وقعت لسليمان عليه السلام في قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا} أي: بما لنا من العظمة {على كرسيه جسداً ثم أناب} فقال محمد بن إسحاق: عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر وكان الله تعالى قد أعطى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فأخذها وقتل ملكها وسبا ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشق ذلك على سليمان عليه السلام. فقال لها: ويحك ما هذا الحزن؟ قالت له: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصاب فيحزنني ذلك فقال لها سليمان عليه السلام: قد أبدلك الله ملكاً هو أعظم من ملكه وسلطاناً هو أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك كذلك ولكن إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يذهب ذلك حزني، فأمر سليمان عليه السلام الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فعمدت إليه حين صنعوه وألبسته ثياباً مثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان عليه السلام تذهب إليه مع ولائدها فتسجد له ويسجدن معها له تبعاً لها كما كانت تصنع في ملكه، وسليمان عليه السلام لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً، فبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقاً لسليمان عليه السلام وكان لا يرد عن أبواب سليمان عليه السلام أي ساعة أراد دخول شيء من بيوت سليمان عليه السلام حاضراً كان سليمان عليه السلام أو غائباً. فقال: يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأثني عليهم بعملي فيهم وأعلم الناس ببعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم، فقال: افعل فجمع سليمان عليه السلام الناس فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تبارك وتعالى وأثنى على كل نبي بما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان عليه السلام فقال: ما كان أحكمك في صغرك ثم انصرف، فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى امتلأ غضباً، فلما دخل داره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 دعاه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم وكل حال أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيراً في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري فما الذي أحدثت في آخر عمري فقال آصف: إن غير الله تعالى يعبد في دارك، فقال سليمان عليه السلام: إنا لله وإنا إليه راجعون لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان عليه السلام إلى داره فكسر الصورة وعاقب تلك المرأة وولائدها، وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرماد وجلس عليه تائباً إلى الله تعالى.l وكانت له أم ولد يقال لها: الأمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه فيه فوضعه عندها يوماً، فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان عليه السلام وقال لها: يا أمينة خاتمي فناولته الخاتم وتختم به وجلس على كرسي سليمان عليه السلام فعكف عليه الطير والجن والإنس وتغيرت صفة سليمان عليه السلام، فأتى الأمينة يطلب الخاتم فأنكرته فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال: أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه وأخذ ينقل السمك للسماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحداها بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها فمكث كذلك أربعين صباحاً مدة ما كان عبد الوثن في داره فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان. وسأل آصف نساء سليمان عليه السلام فقلن: ما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة فقال آصف: إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج على بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم مما في العامة فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان عليه السلام بسمكتين صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، وخرج سليمان عليه السلام بسمكتيه فباع السمكة التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله الخاتم في جوفها فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً، وعكفت عليه الطير والجن والأنس ورجع إلى ملكه وأخذ ذلك الشيطان وحبسه في صخرة وألقاه في البحر هذا ملخص حديث وهب، وقال الحسن: ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه. وقال السدي: كان سبب فتنة سليمان عليه السلام أنه كانت له مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة: وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته فقالت له يوماً: إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال: نعم ولم يفعل فابتلى بقوله: نعم، وذكر نحو ما تقدم وفي بعض الروايات أن سليمان عليه السلام لما افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه فأعاده سليمان عليه السلام إلى يده فسقط فأيقن سليمان عليه السلام بالفتنة، فأتاه آصف فقال لسليمان عليه السلام: إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك ففر إلى الله تعالى تائباً فإني أقوم مقامك وأسير بسيرك إلى أن يتوب الله تعالى عليك، ففر سليمان عليه السلام إلى الله تعالى وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت فأقام آصف في ملك سليمان عليه السلام يسير بسيره أربعة عشر يوماً إلى أن رد الله تعالى على سليمان عليه السلام ملكه وتاب عليه ورجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده، فهو الجسد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 الذي ألقي على كرسيه. وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عليه السلام عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله عز وجل وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه. قال الرازي: واستبعد أهل التحقيق هذا الكلام من وجوه؛ الأول: أن الشيطان لو قدر على أن يشتبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذٍ لا يبقى اعتماد على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال وذلك يبطل الدين بالكلية. الثاني: أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله تعالى سليمان عليه السلام بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقتلهم ويمزق تصانيفهم ويخرب ديارهم، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولى. الثالث: كيف يليق بحكمة الله تعالى وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان عليه السلام ولا شك أنه قبيح أي: على غير رأي الحسن كما مر. الرابع: لو قلنا إن سليمان عليه السلام أذن لتلك المرأة في عبادتها تلك الصورة فهذا كفر منه، وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله تعالى سليمان عليه السلام بفعل لم يصدر منه أي: وقد يقال: إنما أوخذ بذلك لكونه كان سبباً في عملها. قال: فأما أهل التحقيق فقد ذكروا وجوهاً؛ الأول: أن فتنة سليمان عليه السلام أنه ولد له ابن فقالت: الشياطين إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله، فعلم سليمان عليه السلام ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يثق ولم يتوكل على الله تعالى فاستغفر ربه وتاب. الثاني: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله تعالى، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله تعالى لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعين» فذلك قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 34) الثالث: أنه أصابه مرض فصار يجلس على كرسيه وهو مريض فذلك قوله تعالى {وألقينا على كرسيه جسداً} وذلك لشدة المرض والعرب تقول في الضعيف: أنه لحم على وضم وجسم بلا روح {ثم أناب} أي: رجع إلى حال الصحة أي: وهذا أظهر ما قيل كما قاله البيضاوي. الرابع: لا يبعد أيضاً أن يقال: إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط وقوع خوف أو وقوع بلاء توقعه من بعض الجهات حتى صار بقوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الخفي على ذلك الكرسي ثم إن الله تعالى أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب، فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة، فإن قيل: لولا تقدم الذنب. لما {قال رب اغفر لي} . أجيب: بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأنه أبدأ في مقام هضم النفس وإظهار الندم والخضوع كما قال صلى الله عليه وسلم «إني لاستغفر الله تعالى في اليوم والليلة سبعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 مرة» مع أنه صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى واختلف في قول سليمان عليه السلام {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} أي: سواي نحو فمن يهديه من بعد الله أي: سوى الله فقال عطاء بن أبي رباح: يريد هب لي ملكاً لا تسلبنيه في باقي عمري {إنك أنت الوهاب} وقال مقاتل: إن الشيطان لما استولى على ملكه طلب أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه البتة وقال: من أنكر أن الشيطان لم يستول على ذلك أن ذلك محتمل لوجوه؛ الأول: أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى: {فسخرنا} أي: بما لنا من العظمة {له الريح تجري بأمره رُخاءً} أي: حالة كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا تدرك الخيل غدوها شهر ورواحها شهر {حيث أصاب} أي: أراد فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته، وقد جعل الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فهي أربعة أشهر. الثاني: أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل مني إلى غيري. الثالث: أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة فكأنه قال: يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية حتى احترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل. الرابع: سأل ذلك ليكون علامة على قبول توبته حيث أجاب الله تعالى دعاءه ورد عليه ملكه وزاده فيه، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتاً من الجن أتاني الليلة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه فذكرت دعوة أخي سليمان {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فرددته خاسئاً» فعلم من هذه الأوجه أنه ليس في كلام سليمان عليه السلام ما يشبه الحسد وهو طلب ما لا ينبغي لأحد غيره، وأجاب الزمخشري بأجوبة غير ذلك منها: أن سليمان عليه السلام كان ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما فأراد أن يطلب من ربه معجزة فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلاً على نبوته قاهراً للمبعوث إليهم ثم قال: وعن الحجاج أنه قيل له: إنك حسود، فقال: أحسد مني من قال: {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} قال: وهذا من جراءته على الله تعالى وشيطنته ومن شيطنته ما حكي عنه طاعتنا أوجب من طاعة الله لأنه شرط في طاعته فقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 36) وأطلق في طاعتنا فقال {وأولي الأمر منكم} (النساء: 59) ، فإن قيل: قوله تعالى: {رخاء} ينافيه قوله تعالى في آية أخرى: {ولسليمان الريح عاصفة} أجيب عن ذلك بوجهين: الأول: أن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصفة إلا أنها لما أمرت بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رخاء. الثاني: أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين. تنبيه: قوله تعالى: {حيث} ظرف لتجري أو لسخرنا. فائدة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 روي أن رجلين خرجا يقصدان رؤبة يسألانه عن معنى: أصاب فقال لهما: أين تصيبان؟ فعرفا، وقالا: هذا بغيتنا. وقوله تعالى: {والشياطين} عطف على الريح، وقوله تعالى: {كل بناءٍ} بدل من الشياطين كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، روي أن سليمان عليه السلام أمر الجان فبنت له اصطخر وكان فيها قرار مملكة الترك قديماً وبنت له الجان أيضاً تدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذين بدمشق على أحد الأقوال، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غمدان وسلحين ويبنون ومدينة صنعاء، وقوله تعالى: {وغواصٍ} عطف على بناء أي: يغوصون له في البحر يستخرجون اللؤلؤ وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر، وقوله تعالى: {وآخرين مقرنين} أي: مشدودين {في الأصفاد} أي: القيود بجمع أيديهم إلى أعناقهم عطف على كل فهو داخل في حكم البدل، فكأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر، فإن قيل: أجسامهم إما أن تكون كثيفة أو لطيفة فإن كانت كثيفة وجب أن يراها صحيح الحاسة وإن كانت لطيفة فلا تقوى على العمل ولا يمكن تقرينها؟ أجيب: بأن أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى وتقوى على العمل ويمكن تقرينها، أو أن المراد: تمثيل كفهم عن الشرور بالإقتران في الصفد وهو القيد ويسمى به العطاء لأنه يربط المنعم عليه وفرقوا بين فعل الصفد بمعنى القيد وفعله بمعنى العطاء فقالوا: صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد في الخير والشر في ذلك نكتة وهي: أن القيد ضيق فناسبه تقليل حروف فعله والعطاء واسع فناسبه تكثير حروف فعله، والوعد خير وهو خفيف فناسبه تقليل حروفه، والإيعاد شر وهو ثقيل فناسبه تكثير حروفه. {هذا} أي: وقلنا هذا الأمر الكبير {عطاؤنا} أي: على ما لنا من العظمة {فامنن أو أمسك} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أعط من شئت وامنع من شئت، قال المفسرون: أي: لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت، وقال الحسن: ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان عليه السلام فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة، وقال مقاتل: هذا في أمر الشياطين يعني خل من شئت منهم وأمسك من شئت في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه وقوله تعالى {بغير حساب} فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه متعلق بعطاؤنا أي: أعطيناك بغير حساب ولا تقدير وهو دال على كثرة الإعطاء، ثانيها: أنه حال من عطاؤنا أي: في حال كونه غير محاسب عليه لأنه جم كثير يعسر على الحاسب ضبطه، ثالثها: أنه متعلق بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون حالاً من فاعلهما أي: غير محاسب عليه. ولما ذكر تعالى ما أنعم عليه به في الدنيا أتبعه بما أنعم عليه به في الآخرة بقوله سبحانه وتعالى: {وإن له عندنا} أي: في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا {لزلفى} أي: قربى عظيمة {وحسن مآب} وهو الجنة. القصة الثالثة قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {واذكر عبدنا} أي: الذي هو أهل للإضافة إلى جنابنا ويبدل منه {أيوب} وهو ابن الروم بن عيص بن اسحق وامرأته ليا بنت يعقوب عليهما السلام وقوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 تعالى: {إذ نادى ربه} بدل من عبدنا بدل اشتمال وأيوب عطف بيان له وقوله: {إني} أي: بأني {مسني الشيطان} أي: المحترق باللعنة البعيد من الرحمة {بِنُصبٍ} أي: بمشقة وضر {وعذاب} أي: ألم جيء به على حكاية كلامه الذي نادى بسببه ولو لم يحكه لقيل: إنه مسه لأنه غائب، وقال قتادة رضي الله عنه: النصب في الجسد والعذاب في المال، واختلف العلماء في هذه الآلام والأسقام الحاصلة في جسده على قولين؛ أحدهما: أنها حصلت بفعل الشيطان، والثاني: أنها حصلت بفعل الله تعالى، والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان وهو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة، أما تقرير القول الأول فهو ما روي أن إبليس لعنه الله سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني، فقال الله تعالى: نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه، فقال: رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله فكان الشيطان يجيئه ويقول له: يا أيوب هلك من مالك كذا وكذا، فيقول أيوب له: الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله سبحانه وتعالى، فقال: يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عليه وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سنين حتى استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال: إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} فأجاب الله تعالى دعاءه وأوحى إليه أن {اركض برجلك} إلى آخر الآية. وأما تقرير القول الثاني: فإن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه. الأول: أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندنا من الخيرات والسعادات قد حصل بفعله وحينئذ لا سبيل إلى معرفة من يعطي الحياة والموت والصحة والسقم أهو الله تعالى أم الشيطان. ثانيها: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ولم لا يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادهم. ثالثها: أن الله تعالى حكى عن الشيطان أنه قال: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم: 22) فصرح بأنه لا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان؟. أجيب: بأنه إذا كان لابد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحق أن المراد بقوله: {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة كاد يلقيه في أنواع العذاب، والقائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا أوجهاً؛ أولها: أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له مال البتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 عليهم ومن خدمتهم، والشيطان كان يذكره النعمة التي كانت عليه والآفات التي حصلت له وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال: مسني الشيطان بنصب وعذاب لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد. ثانيها: أنه لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان ليقنطه مرة ويزلزله ليجزع مرة فخاف من خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال: {إني مسني الشيطان} . ثالثها: قيل: إن امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب عليه السلام فاتفق لها أنهم لما استخدموها طلبت بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني فعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه فعند ذلك قال: {مسني الشيطان بنصب وعذاب} . رابعها: روي أنه عليه السلام قال في بعض الأيام: يا رب لقد علمت أني ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيماً ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً، فنودي يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق فأخذ أيوب عليه السلام التراب فوضعه على رأسه وقال: منك يا رب ثم خاف من الخواطر الأولى فقال: {مسني الشيطان بنصب وعذاب} وذكروا أقوالاً أخر في سبب بلائه، منها: أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه، وقيل: كانت مواشيه ترعى في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يعظه، وقيل: أعجب بكثرة ماله وأعلم أن داود وسليمان عليهما السلام كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنعماء وأيوب عليه السلام كان ممن خصه الله بأنواع البلاء والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال: يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر من الأنبياء نعمة ومالاً وجاهاً من داود وسليمان عليهما السلام، وما كان فيهم أكثر بلاء ومحنة من أيوب عليه السلام، فتأمل أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره. ولما اشتكى أيوب عليه السلام الشيطان وسأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية أجاب الله تعالى له بأن قال له: {اركض} أي: اضرب {برجلك} أي: الأرض فضرب فنبعت عين ماء، فقيل له: {هذا مغتسل باردٌ} أي: ماء تغتسل منه فيبرأ ظاهرك {وشراب} أي: وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه وشرب منه، وأكثر المفسرين قالوا: نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى وقيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها، وقيل: ضرب الأرض فنبعت له عين ماء فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه. {ووهبنا} أي: بما لنا من العظمة {له أهله} أي: بأن جعلناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، وقيل: وهبنا له مثل أهله والأول هو ظاهر الآية فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة {ومثلهم معهم} حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 كان له ضعف ما كان، وقوله تعالى: {رحمة} أي: نعمة {منا} مفعول لأجله أي: وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه {وذكرى} أي: وتذكيراً بحاله {لأولي الألباب} أي: أصحاب العقول ليعلموا أن من صبر ظفر وأن رحمة الله تعالى واسعة وهو عند القلوب المنكسرة فما بينه وبين الإجابة الأحسن الإنابة فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره كما قيل: *لكل شيء إذا فارقته عوض ... وما عن الله إن فارقت من عوض* وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم كما مر وقوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثاً} معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش والقضبان فيها مائة عود كشمراخ النخلة وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان، وقوله سبحانه وتعالى: {فاضرب به ولا تحنث} يدل على تقدم يمين منه عليه الصلاة والسلام واختلفوا في سبب حلفه عليها ويبعد ما قيل أنها رغبته في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت ذؤابتيها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب ما روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل: رحمة بنت افراثيم بن يوسف عليه السلام ذهبت لحاجة فأبطأت عليه فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برئ. ولما كانت حسنة الخدمة جعل الله تعالى يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية في الحدود لما روي أنه صلى الله عليه وسلم «أتي برجل ضعيف قد زنا بأمة فقال صلى الله عليه وسلم خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة» {إنا وجدناه صابراً} أي: فيما أصابه في النفس والأهل والمال. فإن قيل: كيف وجده صابراً وقد شكا إليه؟ أجيب بأوجه: أحدها: أن شكواه إلى الله تعالى كتمني العافية فلا يسمى جزعاً ولهذا قال يعقوب عليه السلام: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (يوسف: 86) وكذلك شكوى العليل وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابراً مع تمني العافية أفلا يعد صابراً مع اللجوء إلى الله تعالى والدعاء بكشف ما به مع التعالج ومشاورة الأطباء. ثانيها: أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما تعاظمت الوساوس على القلب تضرع إلى الله تعالى. ثالثها: أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر، ويروى أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه ثم استأنف قوله تعالى: {نعم العبد} أي: أيوب عليه السلام ثم علل بقوله تعالى: مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك {إنه أواب} أي: رجاع إلى الله تعالى روي: أنه لما نزل قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان عليه السلام تارة وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن قوله تعالى: {نعم العبد} تشريف عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب عليه السلام لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله فأنزل الله تعالى قوله سبحانه وتعالى: {نعم المولى ونعم النصير} (الأنفال: 40) والمراد: أنك أيها الإنسان إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى وإن كان منك غير الفضل فأنا مني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتيسير. القصة الرابعة: قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهما السلام المذكورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 في قوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق} بن إبراهيم {ويعقوب} بن إسحاق {أولي الأيدي} أي: أصحاب القوى في العبادة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أولي القوة في طاعة الله تعالى {والأبصار} أي: المعرفة بالله أي: البصائر في الدين وأولي الأعمال الجليلة والعقائد الشرعية، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالإبصار عن المعارف لأنها أقوى عبادتها، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله تعالى ولا من المستبصرين في دين الله، وفيه توبيخ أيضاً على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما فهم في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والناقصي العقول الذين لا استبصار لهم، وقال قتادة ومجاهد: أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين، وقرأ ابن كثير بفتح العين وسكون الباء الموحدة ولا ألف بعدها على التوحيد على أنه إبراهيم وحده لمزيد شرفه وإبراهيم عطف بيان وإسحاق ويعقوب عطف على عبدنا والباقون بكسر العين وفتح الموحدة وألف بعدها على الجمع. {إنا أخلصناهم بخالصةٍ} أي: اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين بخصلة خالصة لا شوب فيها وهي {ذكرى الدار} الآخرة أي: ذكرها والعمل لها لأن مطمح نظرهم الفوز بلقائه وذلك في الآخرة وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار الحقيقة والدنيا معبر، وقرأ نافع وهشام خالصة بغير تنوين بالإضافة للبيان أو أن خالصة مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله والباقون بالتنوين، فمن أضاف فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة وأن يعملوا لها، والذكرى بمعنى: الذكر، قال مالك بن دينار: نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل، وقال السدي: أخلصوا الخوف للآخرة وقال ابن زيد: أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، ومن قرأ بالتنوين فمعناه: بخلة خالصة هي ذكرى الدار فيكون ذكرى الدار بدلاً من الخالصة أو جعلناهم مخلصين بما أخبرنا من ذكر الآخرة، والمراد بذكرى الدار: الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة، وقيل: إنه أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقيل: هو دعاؤه {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء: 84) {وإنهم عندنا لمن المصطفين} أي: اصطفاء لا يقدح فيه قادح فصاروا في غاية الرسوخ في هذا الوصف {الأخيار} أي: المختارين من أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت، واحتج العلماء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء عليهم السلام لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يفهم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء منه. القصة الخامسة: قصة إسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام المذكورة في قوله تعالى: {واذكر} يا أشرف الخلق {إسماعيل} أي: أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والإنفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرياسة والذكر في هذه البلدة {واليسع} وهو ابن إخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ واللام كما في قوله: * ... رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء بعدها والباقون بسكون اللام وفتح الياء بعدها {وذا الكفل} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 وهو ابن عم اليسع أو بشر بن أيوب واختلف في نبوته وكفلته فقيل: فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم وقيل: كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة {وكل} أي: وكلهم {من الأخيار} فهم قوم خيرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى وصبروا فاذكرهم يا أفضل الخلق بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم. ولما أجرى تعالى ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتمه قال مؤكداً لشأنهم وشرف ما ذكر من أعمالهم: {هذا} أي: ما تلوناه عليك من ذكرهم وذكر غيرهم {ذكر} أي: شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر ثم عطف على قوله تعالى: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد} (ص: 26) ما لأضدادهم فقال تعالى رداً على من ينكر ذلك من كفار العرب وغيرهم {وإن للمتقين لحسن مآب} أي: مرجع. ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله تعالى: {جنات عدنٍ} أي: إقامة في سرور وطيب عيش، ثم إنه تعالى وصف أهل الجنة بأشياء أولها قوله تعالى: {مفتحة لهم الأبواب} أي: أن الملائكة يفتحون لهم أبواب الجنة ويحيونهم بالسلام كما قال تعالى: {حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها} (الزمر: 73) الآية وقيل: المعنى أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم، وقيل: المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسعة وقرة العيون فيها، ثانيها: قوله تعالى: {متكئين فيها} وقد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتكاء فقال تعالى في آية: {على الأرائك متكئون} (يس: 56) وقال في آية أخرى: {متكئين على رفرف خضر} (الرحمن: 76) ثالثها: قوله تعالى {يدعون فيها} أي: الجنات {بفاكهة كثيرة وشراب} أي: كثير فيدعون فيها بألوان الفاكهة وألوان الشراب. ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح تتميماً للنعمة بقوله سبحانه تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف} أي: حابسات الطرف أي: العين على أزواجهن {أتراب} أي: أسنانهن واحدة وهي بنات ثلاث وثلاثين سنة واحدها ترب، وعن مجاهد: متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن وقيل: أتراب للأزواج، قال القفال: والسبب في اعتبار هذه الصفة لما تشابهن في الصفة والسن والجبلة كان الميل إليهن على السوية وذلك يقتضي عدم الغيرة وقرأ قوله تعالى: {هذا ما يوعدون} ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالفوقية على الخطاب، وجه الغيبة تقدم ذكر المتقين، ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقبال عليهم أي: قل للمتقين هذا ما توعدون {ليوم الحساب} أي: في يوم الحساب أو لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء. {إن هذا} أي: المشار إليه إشارة الحاضر الذي لا يغيب {لرزقنا ما له من نفاد} أي: انقطاع وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب. تنبيه: من نفاد فاعل ومن مزيدة والجملة في محل نصب على الحال من رزقنا أي: غير نافد ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لأن أي: دائم. ولما وصف تعالى ثواب المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكوراً عقب الوعد والترغيب عقب الترهيب بقوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مآب} أي: مرجع هذا في مقابلة قوله تعالى: {وإن للمتقين لحسن مآب} (ص: 49) والمراد بالطاغين الكفار، وقال الجبائي: على مذهبه الفاسد هم أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أم لا واحتج الأول بأن هذا ذم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان وهو الكافر، واحتج هو بقوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق: 6 ـ 7) فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة لأن من تجاوز حد تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى ورد هذا بأن المراد بالإنسان هنا هو الكافر أيضاً. تنبيه: هذا يحتمل أن يكون مبتدأ والخبر مقدر أي: كما ذكر، كما قدره الزمخشري، وقدره أبو علي بقوله: هذا للمؤمنين، وقال الجلال المحلي: هذا المذكورة للمؤمنين ويحتمل أن يكون خبر متبدأ مضمر أي: الأمر هذا وقوله تعالى: {جهنم} أي: الشديدة الإضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم فيه إعراب جنات المتقدم، وقوله تعالى: {يصلونها} أي: يدخلونها فيباشرون شدائدها حال من جهنم {فبئس المهاد} أي: المهد والفراش مستعار من فرش النائم، وهذا معنى قوله تعالى {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف: 41) شبه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم، والمخصوص بالذم محذوف أي: هي وفي قوله تعالى: {هذا} أي: العذاب المفهوم مما بعده أوجه من الإعراب أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر هذا، ثم استأنف أمر إقفال {فليذوقوه} ثانيها: أنه مبتدأ أو خبره {حميمٌ وغساقٌ} واسم الإشارة يكتفي بواحده في المثنى كقوله تعالى: {عوان بين ذلك} (البقرة: 68) أو يكون المعنى: هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله تعالى: {فليذوقوه} جملة اعتراضية. ثالثها: أنه مبتدأ والخبر محذوف أي: هذا كما ذكر وهذا للطاغين وقيل غير ذلك، وقيل: هذا على التقديم والتأخير والتقدير: هذا حميم وغساق فليذوقوه وقيل التقدير: جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدئ فيقول: حميم وغساق أي: منه حميم وغساق، والحميم: الحار الذي انتهى حره، والغساق: ما يسيل من صديد أهل النار، وقال كعب: هو عين في جهنم يسيل إليها كل ذوب حية وعقرب، وقال أبو عمرو: هو القيح الذي يسيل من أهل النار فيجتمع فيسقونه، وقال قتادة: هو ما يغسق أي: يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة، وقيل: هو المنتن بلغة الترك، حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة بالمغرب لأنتنت أهل المشرق، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين والباقون بالتخفيف وقرأ أبو عمرو: {وأخر} بضم الهمزة على جمع أخرى مثل الكبرى والكبر أي: أصناف أخر من العذاب {من شكله} أي: مثل المذكور من الحميم والغساق، والباقون بفتح الهمزة ممدودة على التوحيد على أنه لما ذكروا، اختار أبو عبيدة الجمع لأنه تعالى نعته بالجمع فقال سبحانه وتعالى: {أزواج} أي: أصناف أي: عذابهم من أنواع مختلفة، ويقال لهم عند دخولهم النار بأتباعهم: {هذا فوج} أي: جمع كثيف {مقتحم} أي: داخل ومفعوله محذوف أي: مقتحم النار {معكم} بشدة، فيقول المتبوعون: {لا مرحباً بهم} أي: لاسعة عليهم أو لا سمعوا مرحباً وقولهم: {إنهم صالو النار} أي: داخلون النار بأعمالهم مثلنا تعليل لاستجابة الدعاء عليهم ونظير هذه الآية قوله تعالى: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} (الأعراف: 38) وقال الكلبي: إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار خوفاً من تلك المقامع. {قالوا} أي: الأتباع {بل أنتم لا مرحباً بكم} أي: إن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به منا وعللوا ذلك بقولهم {أنتم قدمتموه} أي: الكفر {لنا} أي: بدأتم به قبلنا وشرعتموه وسننتموه لنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 وقيل: أنتم قدمتم هذا العذاب لنا بدعائكم إيانا إلى الكفر {فبئس القرار} أي: النار لنا ولكم. {قالوا} أي: الأتباع أيضاً {ربنا من قدم لنا هذا} أي: شرعه وسنه لنا {فزده عذاباً ضعفاً} أي: مثل عذابه على كفره {في النار} قال ابن مسعود: يعني حيات وأفاعي. {وقالوا} أي: الطاغون وهم في النار {ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار} يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب وصهيب وبلال وسلمان الذين كانوا يسترذلونهم ويسخرون بهم وقولهم: {أتخذناهم سخرياً} صفة أخرى ل {رجالاً} أي: كنا نسخر بهم في الدنيا، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها {أم زاغت} أي: مالت {عنهم الأبصار} أي: فلم نرهم حين دخلوها وقال ابن كيسان: أي: أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئاً. {إن ذلك} أي: الذي حكيناه عنهم {لحق} أي: واجب وقوعه فلا بد أن يتكلموا به ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم بقوله تعالى: {تخاصم أهل النار} أي: في النار وإنما سماه تخاصماً لأن قول القادة للأتباع: لا مرحباً بهم، وقول الأتباع للقادة: بل أنتم لا مرحباً بكم من باب الخصومة. تنبيه: يصح في تخاصم أوجه من الإعراب أحدها: أنه بدل من لحق، الثاني: أنه عطف بيان، الثالث: أنه خبر ثان لأن، الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هو تخاصم. ولما شرح سبحانه نعيم أهل الثواب وعقاب أهل العذاب عاد إلى تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورات أول السورة بقوله تعالى: {قل} يا أفضل الخلق للمشركين {إنما أنا منذرٌ} أي: مخوف بالنار لمن عصى {و} لا بد من الإقرار بأنه {ما من إله إلا الله} أي: الجامع لجميع الأسماء الحسنى {الواحد القهار} فكونه واحداً يدل على عدم الشريك وكونه قهاراً مشعر بالتخويف والترهيب. ولما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب بقوله تعالى: شأنه: {رب السموات} أي: مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع {والأرض} أي: على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب {وما بينهما} أي: الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها ربي كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب فدل ذلك على قهره وتفرده {العزيز} أي: الغالب على أمره {الغفار} فكونه رباً يشعر بالتربية والكرم والإحسان والجود وكونه غفاراً يشعر بأن العبد لو أقدم على المعاصي والذنوب ثم تاب إليه فإنه يغفرها برحمته، وهذا الموصوف بهذه الصفات هو الذي تجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى ثوابه وقوله تعالى: {قل} أي: لهم {هو نبأ عظيم} يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار، وقيل: تخاصم أهل النار، وقيل: على ما تقدم من إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه نذير مبين وبأن الله تعالى إله واحد متصف بتلك الصفات الحسنى وقوله تعالى: {أنتم عنه معرضون} صفة لنبأ أي: لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة إما على التوحيد فما مر وإما على النبوة، فقوله تعالى: {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى} أي: الملائكة فقوله: {بالملأ} متعلق بقوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 {من علم} وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدى بالباء {إذ يختصمون} أي: في شأن آدم عليه السلام حين قال الله عز وجل: {إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة: 30) الآية، فإن قيل: الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} (البقرة: 30) فالمخاصمة مع الله تعالى كفر؟ أجيب: بأنه لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة، ولما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يذكر هذا الكلام على سبيل الزجر أمره أن يقول: {إن} أي: ما {يوحي إلي إلا أنما} أي: أني {أنا نذير مبين} أي: بين الإنذار فأبين لكم ما تأتونه وما تجتنبونه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربي في أحسن صورة، قال ابن عباس رضي الله عنه: أحسبه قال في المنام فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: أنت أعلم أي رب مرتين، قال: فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو قال: في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض، وفي رواية ثم تلا هذه الآية {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} (الأنعام: 75) ثم قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت: نعم في الدرجات والكفارات، قال: وما هن قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء في المكاره، قال: من يفعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال: يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» قال: ومن الدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام، وفي رواية: «فقلت: لبيك وسعديك في المرتين وفيهما فعلمت ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وللعلماء في هذا الحديث وأمثاله من أحاديث الصفات مذهبان. أحدهما: مذهب السلف وهو إقراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه مع الاعتقاد بأن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. والمذهب الثاني: مذهب الخلف: وهو تأويل الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين: أحدهما: وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالاً وكمالاً وحسناً عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعده لشدة الوحي وثقله. الثاني: أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى الله تعالى والمعنى: أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال إليه والله تعالى تلقاه بالإكرام والإعظام فأخبر صلى الله عليه وسلم عن عظمته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبهه بالخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله وهو السميع البصير وقوله صلى الله عليه وسلم فوضع يده بين كتفي إلخ فالمراد باليد: النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام الله تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لم يعرفه حتى وجد برد النعمة والرحمة والمعرفة في قلبه، وذلك لما نور قلبه وشرح صدره فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تبارك وتعالى ولا على صفات ذاته سبحانه مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه، وإذا حملنا الحديث على المنام وإن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال لأن رؤية الباري سبحانه في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي، وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل، وسميت هذه الخصال كفارات؛ لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه وسمي ذلك مخاصمة لما مر في السؤال والجواب المتقدمين وقوله تعالى: f {إذ} يجوز أن يكون بدلاً من إذا الأولى كما قاله الزمخشري، وأن يكون منصوباً باذكر كما قاله أبو البقاء أي: واذكر إذ {قال ربك للملائكة إني خالق} أي: جاعل {بشراً من طين} هو آدم عليه السلام، فإن قيل: كيف صح أن يقول لهم إني خالق بشراً وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ أجيب: بأنه قد يكون قال لهم: إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم. {فإذا سويته} أي: أتممت خلقه {ونفخت} أي: أجريت {فيه من روحي} فصار حياً حساساً متنفساً وإضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريف لآدم عليه السلام والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم والماء في العود الأخضر {فقعوا} أي: خروا {له ساجدين} . {فسجد الملائكة} وقوله تعالى: {كلهم أجمعون} فيه تأكيدان، وقال الزمخشري: كل للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرقين في أوقات، انتهى. فإن قيل: كيف ساغ السجود لغير الله؟ أجيب: بأن الممنوع هو السجود لغير الله تعالى على وجه العبادة فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل إلا أن يكون فيه مفسدة فينهى الله تعالى عنه والأولى في الجواب أنه سجود تحية بالانحناء كما قاله الجلال المحلي. {إلا إبليس استكبر} أي: تكبر وتعظم عن السجود، فإن قيل: كيف استثنى من الملائكة عليهم السلام إبليس وهو من الجن؟ أجيب: بأنه قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله تعالى {فسجد الملائكة} ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً وقال الجلال المحلي: هو أبو الجن وكان من الملائكة وعلى هذا فلا سؤال {وكان} أي: وصار {من الكافرين} باستكباره عن أمر الله تعالى أو كان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله تعالى. تنبيه: المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً عن هاتين الخصلتين المذمومتين. {قال} الله تعالى {يا إبليس} سماه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى تحتم العقوبة له {ما منعك أن تسجد} وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله تعالى معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل: {لما خلقت بيدي} أي: توليت خلقه من غير توسط سبب كأب وأم والتثنية في اليد لما في خلقه من مزيد القدرة، وقوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 تعالى: {أستكبرت} استفهام توبيخ أي: تعظمت بنفسك الآن عن السجود له {أم كنت من العالين} أي: من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود له لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله: {قال أنا خيرٌ منه} أي: لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيراً منه بقوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} والنار أشرف من الطين بدليل أن الأجرام الفلكية أفضل من الأجرام العنصرية، والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعد عنه، فوجب كون النار أفضل من الأرض، وأيضاً فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض، وأيضاً فالكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة وإما البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت، وأيضاً فالنار لطيفة والأرض كثيفة واللطافة أفضل من الكثافة، وأيضاً فالنار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة، وأيضاً فالنار خفيفة تشبه الروح والأرض كثيفة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض. والدليل على أن الأرض أفضل من النار إنها أمينة مصلحة فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة، والنار خائنة مفسدة لكل ما سلمته إليها، وأيضاً فالنار بمنزلة الخادم لما في الأرض إن احتيج إليها استدعيت استدعاء الخادم وإن استغني عنها طردت، وأيضاً فالأرض مستولية على النار لأنها تطفئ النار، وأيضاً فإن استدلال إبليس يكون أصله خيراً من أصله استدلال فاسد لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد، وأيضاً هب أن اعتبار هذه الجهة توجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يعارض بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه إلا أن الذي لا يكون نسيباً قد يكون كثير العلم والزهد فيكون أفضل من النسيب بدرجات لا حد لها فكذبت مقدمة إبليس، فإن قيل: هب أن إبليس أخطأ في القياس لكن كيف لزمه الكفر في تلك المخالفة وتقرير السؤال من وجوه؛ الأول: أن قوله تعالى: {اسجدوا} أمر وهو يحتمل الوجوب والندب فكيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر، الثاني: هب أنه للوجوب وقلتم إن إبليس ليس من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود لآدم لا يدخل فيه إبليس، الثالث: هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس. الرابع: هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر؟ أجيب: بأن صيغة الأمر وإن لم يدل على الوجوب يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل عليه وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى: {أستكبرت أم كنت من العالين} (ص: 75) فعلم بذلك أن الأمر للوجوب وأنه مخاطب بالسجود فلما أتى بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر القياس ليتوصل به إلى القدح في أمر الله تعالى وتكليفه وذلك يوجب الكفر. ولما ذكر إبليس لعنه الله تعالى هذا القياس الفاسد. {قال} الله تعالى له: {فاخرج} أي: بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه إلى الجور {منها} أي: من الجنة، وقيل: من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 الخلقة التي أنت فيها لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعدما كان أبيض وقبح بعدما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً، وقيل: من السموات {فإنك رجيم} أي: مطرود لأن من طرد رمي بالحجارة فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد، فإن قيل: الطرد هو: اللعن فيكون قوله تعالى: {وإن عليك لعنتي} مكرراً أجيب: بحمل الطرد على ما تقدم وتحمل اللعنة على الطرد من رحمة الله تعالى وأيضاً قوله تعالى: {وإن عليك لعنتي} {إلى يوم الدين} أي: الجزاء أفاد أمراً وهو طرده إلى يوم القيامة فلا يكون تكراراً وقيل: المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب، فإن قيل: كلمة إلى لانتهاء الغاية فكأن لعنة الله إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع، أجيب: بأنها كيف تنقطع وقد قال تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} (الأعراف: 44) فأفاد أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة اقترن عليه مع اللعنة من العذاب ما تنسى عنده اللعنة فكأنها انقطعت. تنبيه: قال تعالى هنا {لعنتي} وفي آية أخرى {اللعنة} وهما وإن كانا في اللفظ عاماً وخاصاً إلا أنهما من حيث المعنى عامان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله تعالى كانت عليه لعنة كل أحد لا محالة، وقال تعالى: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} (البقرة: 161) ولما صار إبليس ملعوناً مطروداً: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} أي: الناس طلب الإنظار إلى يوم البعث لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أنظر ليوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فلذلك: {قال} تعالى: {فإنك من المنظرين} . {إلى يوم الوقت المعلوم} أي: وقت النفخة الأولى فيموت فيها فلم يجبه إلى دعائه كما قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (الرعد: 14) ومعنى المعلوم: أنه معلوم عند الله تعالى معين لا يتقدم ولا يتأخر فلما أنظره الله تعالى إلى ذلك الوقت. {قال فبعزتك} أقسم بعزة الله تعالى وهي قهره وسلطانه {لأغوينهم أجمعين} ثم استثنى من ذلك ما ذكره الله بقوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} أي: الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم من إضلاله أو أخلصوا قلوبهم على اختلاف القراءتين فإن نافعاً والكوفيين قرؤوا بفتح اللام بعد الخاء والباقون بالكسر. تنبيه: قيل إن غرض إبليس من هذا الاستثناء أنه لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله تعالى المخلصين وعند هذا يقال: إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فليس يليق بالمسلم وهذا يدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله تعالى المخلصين، وقد قال تعالى في صفة يوسف عليه السلام {إنه من عبادنا المخلصين} (يوسف: 24) فتحصل من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسف عليه السلام وما نسب إليه من القبائح كذب وافتراء. ولما قال إبليس ذلك: {قال} تعالى: {فالحقُ} أي: فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق {والحقَ أقول} أي: لا أقول إلا الحق فإن كل شيء قلته ثبت فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، والباقون بنصبهما فنصب الثاني بالفعل بعده ونصب الأول بالفعل المذكور، أو على الإغراء أي: الزموا الحق، أو على المصدر أي: أحق الحق، أو على نزع حرف القسم ورفعه على أنه مبتدأ محذوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 الخبر أي: فالحق مني أو فالحق قسمي وجواب القسم. {لأملأن جهنم منك} أي: بنفسك وذريتك {وممن تبعك منهم} أي: من الناس، وقوله تعالى: {أجمعين} فيه وجهان أظهرهما أنه توكيد للضمير في منك ولمن عطف عليه في قوله تعالى: {وممن تبعك} والمعنى: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحداً، وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في منهم خاصة فقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس، ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لقومك {ما أسألكم عليه} أي: على تبليغ الرسالة أو القرآن {من أجر} أي: جعل {وما أنا من المتكلفين} أي: المتصفين بما لست من أهله على ما عرفتم من حالي فانتحل النبوة وأتقوّل القرآن وكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه فهو متكلف له، وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول من لا يعلم: الله أعلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} وقيل المعنى: إن هذا الذي أدعوكم إليه ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته. {إن} أي: ما {هو} أي: القرآن {إلا ذكر} أي: عظة وشرف {للعالمين} أي: للخلق أجمعين. {ولتعلمن} جواب قسم مقدر ومعناه لتعرفن يا كفار مكة {نبأه} أي: خبر صدقه وهو ما فيه من الوعد والوعيد أو صدقه بإتيان ذلك {بعد حين} قال ابن عباس وقتادة: بعد الموت، وقال عكرمة: يوم القيامة، وقال الحسن: ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله تعالى لداود عشر حسنات وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير» حديث موضوع. سورة الزمر مكية إلا قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الآية فمدنية وهي خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتانوتسعون كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف {بسم الله} الذي له صفات الكمال {الرحمن} الذي أنعم على عباده بأنواع النعم {الرحيم} بأنواع المغفرة على المؤمنين من عباده. {تنزيل الكتاب} أي: القرآن مبتدأ، وقوله تعالى: {من الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال خبره أي: تنزيل الكتاب كائن من الله تعالى، وقيل: تنزيل الكتاب خبر مبتدأ مضمر تقديره هذا تنزيل الكتاب من الله {العزيز} أي: الغالب في ملكه {الحكيم} أي: في صنعه ففي ذلك دلالة على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات غني عن جميع الحاجات، فإن قيل: إن الله تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق. أجيب: بأن ذلك محمول على الصيغ والحروف. {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أنزلنا عليك} يا أشرف الخلق خاصة بواسطة جبريل الملك {الكتاب} أي: القرآن الجامع لكل خير وقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 {بالحق} يجوز أن يتعلق بالإنزال أي: بسبب الحق وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب أي: ملتبسين بالحق أو ملتبساً بالحق والصدق والصواب، والمعنى: أن كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق يجب العمل به، وفي قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب} تكرير تعظيم بسبب إبرازه في جملة أخرى مضافاً إنزاله إلى المعظم نفسه، فإن قيل: لفظ تنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله نجماً نجماً على وفق المصالح على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله دفعة واحدة. أجيب: بأن طريق الجمع أن يقال: إنا حكمنا حكماً كلياً بأنا نوصل إليك هذا الكتاب وهذا هو الإنزال ثم أوصلناه إليك نجماً نجماً على وفق المصالح. ولما بين تعالى أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق أردفه ببيان بعض ما فيه من الحق والصدق، وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فقال سبحانه وتعالى: {فاعبد الله} أي: الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك {مخلصاً له الدين} أي: ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. {ألا لله} أي: الملك الأعلى وحده {الدين الخالص} أي: لا يستحقه غيره فإنه المنفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر، قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله، وقال مجاهد: الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى: {فاعبد الله} عام وروي أن امرأة الفرزدق لما قربت وفاتها أوصت أن يصلي الحسن البصري عليها، فلما دفنت قال الحسن البصري: يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، فقال الحسن هذا العمود فأين الطنب؟ قال ابن عادل فبين بهذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة أي: الانتفاع الكامل وإلا فهي ينتفع بها ولكن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي. {والذين اتخذوا من دونه} أي: من دون الله {أولياء} وهم كفار مكة اتخذوا الأصنام وقالوا {ما نعبدهم} أي: لشيء من الأشياء {إلا ليقربونا إلى الله} أي: الذي له معاقد العز ومجامع العظمة {زلفى} وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا: الله فيقال: فما عبادتكم لهم قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى أي: قربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر كأنهم قالوا: إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريباً حسناً سهلاً وتشفع لنا عند الله تعالى: {إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {يحكم بينهم} أي: وبين المسلمين {فيما هم فيه يختلفون} أي: من أمر الدين فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار {إن الله} أي: الملك القادر {لا يهدي} أي: لا يرشد {من هو كاذب} أي: في قوله إن الآلهة تشفع لهم مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وفي نسبة الولد إلى الله تعالى {كفار} أي: بعبادته غير الله تعالى. {لو أراد الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال {أن يتخذ ولداً} أي: كما قالوا اتخذ الرحمن ولداً {لاصطفى} أي: اختار {مما يخلق ما يشاء} أي: اتخذ ولداً غير من قالوا الملائكة بنات الله وعزير ابن الله والمسيح ابن الله، كما قال تعالى {لو أردنا أن نتخذ لهواً} أي: كما زعموا {لاتخذناه من لدنا} (الأنبياء: 17) إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوقه ومن البين أن المخلوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 لا يماثل الخالق فيقوم مقام الولد له. ثم نزه نفسه سبحانه فقال تعالى شأنه {سبحانه} أي: تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي فقال تعالى: {هو} أي: الفاعل لهذا الفعال القائل لهذه الأقوال {الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال: {الواحد} أي: في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد ولا والد له {القهار} أي: الغالب الكامل القدرة فكل شيء تحت قدرته. ولما ثبتت هذه الصفات التي نفت أن يكون له شريك أو ولد وأثبتت له الكمال المطلق استدل على ذلك بقوله تعالى: {خلق السموات والأرض} أي: أبدعهما من العدم وقوله تعالى: {بالحق} متعلق بخلق لأن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إما أن تكون فلكية أو أرضية، أما الفلكية فأقسام؛ أحدها: خلق السموات والأرض، وثانيها: اختلاف الليل والنهار كما قال تعالى {يكور} أي: يدخل {الليل على النهار ويكور النهار على الليل} قال الحسن: ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل فما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل. قال البغوي: ومنتهى النقص تسع ساعات، ومنتهى الزيادة: خمس عشرة ساعة. وقال قتادة: يغشى هذا هذا كما قال تعالى {يغشي الليل النهار} (الأعراف: 54) وقال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا وذلك يدل على أن كل واحد مغلوب مقهور ولابد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله تعالى انتهى. وورد في الحديث: «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» أي: من النقصان بعد الزيادة وقيل: من الإدبار بعد الإقبال. {وسخر} أي: ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر {الشمس والقمر} فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما {كلٌ} أي: منهما {يجري لأجل مسمى} أي: إلى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا، والمراد من هذا التسخير: أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون أي: الدولاب الذي يسقى عليه على حد واحد {ألا هو العزيز} أي: الغالب على أمره المنتقم من أعدائه {الغفار} أي: الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة يمحو ذنوب من يشاء عيناً وأثراً بمغفرته. ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل السفلية فقال تعالى: {خلقكم} أيها الناس المدعون إلهية غيره {من نفس واحدة} وهي آدم عليه السلام {ثم جعل منها} أي: من تلك النفس {زوجها} حواء وإنما بدأ منها بذكر الإنسان لأنه أقرب وأكبر دلالة وأعجب، وفيه ثلاث دلالات: خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعب الخلق الفائت للحصر منهما فهما آيتان إلا أن إحداهما جعلها الله تعالى عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها العادة ولم يخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل. تنبيه: في ثم هذه أوجه؛ أحدها: أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك يروى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم ثم ظهره كالذر ثم خلق حواء بعد ذلك بزمان. ثانيها: أنها على بابها أيضاً لكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله تعالى {واحدة} إذ التقدير من نفس وحدت أي: انفردت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 ثم جعل منها زوجها. ثالثها: أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل: كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها. رابعها: أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي: إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر. وقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام} عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها، ويحتمل المجاز وله وجهان؛ أحدهما: أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل: *إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا* والثاني: أن قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ وهو أيضاً سبب في إيجادها. وقال البغوي: معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله تعالى: {أنزلنا عليكم لباساً} (الأعراف: 26) وقيل: إنه إنزال الماء الذي هو سبب ثبات القطن والكتان وغيرهما الذي يجعلون منه اللباس. وقيل: معنى قوله {أنزل لكم من الأنعام} جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى قوله {ثمانية أزواج} أي: ثمانية أصناف وهي الإبل والبقر والضأن والمعز من كل زوجان ذكر وأنثى كما بين في سورة الأنعام وقوله تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم} بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة غير أنه تعالى غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة، والباقون: بالضم وفي الابتداء الجميع بالضم وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون ومعنى قوله تعالى: {خلقاً من بعد خلق} ما ذكره الله تعالى بقوله: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} (المؤمنون: 12 ـ 13) الآيات، وأما قوله تعالى: {في ظلمات ثلاث} فقال ابن عباس: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن {ذلكم} أي: العالي المراتب بشهادتكم أيها الخلق كلكم بعضكم بلسان قاله وبعضكم بناطق حاله الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا من أفعاله. ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد أخبر عن اسم الإشارة بقوله تعالى: {الله} أي: الذي خلق هذه الأشياء {ربكم} أي: الملك والمربي لكم بالخلق والرزق فهو المستحق لعبادتكم وقوله تعالى: {له الملك} يفيد الحصر أي: له الملك لا لغيره. ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه {لا إله إلا هو} أي: لا يشاركه في الخلق غيره. ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته ورحمته زيف طريقة المشركين بقوله تعالى: {فأنى} أي: فكيف ومن أي: وجه {تصرفون} عن طريق الحق بعد هذا البيان. {إن تكفروا فإن الله} أي: الذي له الكمال كله {غني عنكم} لأنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة لأنه تعالى غني على الإطلاق، فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة؛ لأنه تعالى واجب الوجود لذاته، وواجب الوجود لذاته في جميع أفعاله يكون غنياً على الإطلاق، وأيضاً فالقادر على خلق السموات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك {ولا يرضى لعباده} أي: لأحد منهم {الكفر} أي: بالإقبال على ما سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف، ومعنى عدم الرضا به: لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه ويثيب فاعله ويمدحه بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته إذ لا يخرج شيء عنها، وهذا قول قتادة والسلف أجروه على عمومه، وقال ابن عباس: ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الإسراء: 65) فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} (الإنسان: 6) يريد بعض العباد. {وإن تشكروا} الله تعالى أي: فتؤمنوا بربكم وتطيعوه {يرضه لكم} أي: فيثيبكم عليه لأنه سبب فلاحكم. وقرأ السوسي في الوصل بسكون الهاء، وللدوري وهشام وجهان السكون والضم وصلة الهاء بواو للدوري، وابن كثير وابن ذكوان والكسائي والباقون بالسكون وهو لغة فيه. {ولا تزر} أي: نفس {وازرة وزر} نفس {أخرى} أي: لا تحمله بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل. واحتج بهذا من أنكر وجوب الدية على العاقلة ورد بأن السنة خصصت ذلك، وأما الإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه فوزر الفاعل على الفعل ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي. وقوله تعالى: {ثم إلى ربكم مرجعكم} يدل على إثبات البعث والقيامة {فينبئكم بما كنتم تعلمون} فيه تهديد للعاصي وبشارة للمطيع وقوله تعالى: {إنه عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما في القلوب كالعلة لما سبق أي: إنه تعالى ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف، قال صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . ولما بين تعالى فساد القول بالشرك وبين تعالى أنه الذي يجب أن يعبد بين أن طريقة الكفار متناقضة بقوله تعالى: {وإذا مس الإنسان} أي: هذا النوع الآنس بنفسه {ضر دعا ربه} لأنهم إذا مسهم الضر طلبوا رفعه من الله تعالى وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام فكان الواجب عليهم أن يتعرفوا بالله تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم والمراد بالإنسان: الكافر، وقيل: المؤمن والكافر، وقيل المراد: أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره، والمراد بالضر: جميع المكاره في جسمه أو ماله أو أهله أو ولده لعموم اللفظ وقوله تعالى {منيباً} حال من فاعل دعا وقوله تعالى {إليه} متعلق بمنيباً أي: راجعاً إليه في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة الرجوع {ثم إذا خوله} أي: أعطاه {نعمة} مبتدأة {منه} أي: من غير مقابل ولا يستعمل في الجزاء بل في ابتداء العطية قال زهير: * ... هنالك إن يستخولوا المال يخولوا* ويروى أن يستخيلوا المال يخيلو وقال أبو النجم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 *أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخوّل* وحقيقة خول من إحدى معنيين: إما من قولهم: هو خائل مال إذا كان متعهداً له حسن القيام عليه، وإما من خال يخول إذا اختال وافتخر ومنه قول العرب: إن الغني طويل الذيل مياس. {نسي} أي: ترك {ما} أي: الأمر الذي {كان يدعو} أي: يتضرع {إليه من قبل} أي: قبل النعمة. تنبيه: يجوز في ما هذه أوجه؛ أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي مراعى بها الضر الذي كان يدعو إلى كشفه أي: ترك دعاءه كأنه لم يتضرع إلى ربه، ثانيها: أنها بمعنى الذي مراداً بها البارئ تعالى أي: نسي الله الذي كان يتضرع إليه وهذا عند من يجيز وقوع ما على أولي العلم. وقال الرازي: ما بمعنى من كقوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} (الليل: 3) وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} (الكافرون: 3) وقوله {فانكحوا ما طاب لكم} (النساء: 3) ثالثها: أن تكون مصدرية أي: نسي كونه داعياً {وجعل} أي: ذلك الإنسان زيادة على الكفران بالنسيان للإحسان {لله} أي: الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والسمع والعقل {أنداداً} أي: شركاء {ليضل عن سبيله} أي: دين الإسلام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد اللام أي: ليفعل الضلال بنفسه والباقون بضمها أي: لم يقنع بضلاله في نفسه حتى يحمل غيره عليه فمفعوله محذوف، واللام يجوز أن تكون للعلة وأن تكون لام العاقبة كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} (القصص: 8) واختلف في سبب نزول قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهذا الذي قد حكم بكفره {تمتع} أي: في هذه الدنيا {بكفرك قليلاً} أي: بقية أجلك فقال مقاتل: نزل في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وقيل: في عتبة بن ربيعة وقيل: عام في كل كافر، وهذا أمر تهديد وفيه إقناط للكافر من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله تعالى: {إنك من أصحاب النار} أي: الذين لم يخلقوا إلا لها على سبيل الاستئناف للمبالغة قال تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} (الأعراف: 179) الآية. ولما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح المخلصين فقال تعالى: {أمن هو قانتٌ} أي: قائم بوظائف الطاعات {آناء الليل} أي: جميع ساعاته ومن إطلاق القنوت على القيام قوله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصلاة صلاة القنوت» وهو القيام فيها ومنه القنوت لأنه يدعو قائماً، وعن ابن عمر أنه قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا {أمن هو قانت} وعن ابن عباس: القنوت الطاعة لقوله تعالى: {كل له قانتون} (البقرة: 116) أي: مطيعون، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بتخفيف الميم والباقون بتشديدها وفي القراءة الأولى وجهان؛ أحدهما: أن الهمزة همزة الاستفهام دخلت على من بمعنى الذي والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف تقديره أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً أو أمن هو قانت كغيره، وأما القراءة الثانية: فأم داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميم في الميم وفي أم حينئذ قولان؛ أحدهما: أنها متصلة ومعاد لها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت، والثاني: أنها منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي: بل أمن هو قانت كغيره أو كالكافر المقول له تمتع بكفرك وقوله تعالى {ساجداً} أي: وراكعاً {وقائماً} أي: وقاعداً في صلاته حالان من ضمير قانت. تنبيه: في هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار، واختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال الضحاك: في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال أبو عمرو: في عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال الكلبي: في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله تعالى عنهم. وقوله تعالى: {يحذر الآخرة} أي: عذاب الآخرة يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ساجداً وقائماً أو من الضمير في قانت وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدها قيل: يحذر الآخرة {ويرجو رحمة} أي: جنة {ربه} الذي لم يزل يتقلب في إنعامه وفي الكلام حذف والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها. {قل هل يستوي} أي: في الرتبة {الذين يعلمون} أي: وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجدين وقائمين {والذين لا يعلمون} أي: وهم صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون، وإنما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يعلمون لأن الله تعالى وإن أعطاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا جعلهم الله تعالى كأنهم ليسوا من أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم، وفي هذا تنبيه على فضيلة العلم، قيل: لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء، عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه. وقال في الكشاف: وأراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة كأنه جعل من لا يعمل غير عالم، قال: وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنون ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله تعالى جهلة حيث جعل الله تعالى القانتين هم العلماء، قال: ويجوز أن يراد على سبيل التشبيه أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون ا. هـ، وعن الحسن: أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال: هذا تمنَ، وإنما الرجاء قوله تعالى وتلا هذه الآية. {إنما يتذكر} أي: يتعظ {أولو الألباب} أي: أصحاب العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون في آخر سورة آل عمران بقوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} (آل عمران: 191) إلى آخرها. ولما نفى الله تعالى المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب المؤمنين فقال سبحانه: {قل} أي: لهم {يا عبادي الذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة {اتقوا ربكم} أي: بطاعته واجتناب معاصيه ثم بين تعالى لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد بقوله تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} أي: بالطاعة {حسنة} أي: في الآخرة وهي الجنة والتنكير في حسنة للتعظيم أي: حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها، فقوله تعالى: {في هذه الدنيا} متعلق: بأحسنوا وقيل: متعلق {بحسنة} وعلى هذا قال السدي: معناه في هذه الدنيا حسنة يعني الصحة والعافية. قال الرازي: الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية» ا. هـ ورد بأنه يتعين حمله على حسنة الآخرة لأن ذلك حاصل للكفار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 أكثر من حصوله للمؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . واختلف في معنى قوله تعالى: {وأرض الله} أي: الذي له الملك كله والعظمة الشاملة {واسعة} فقال ابن عباس: يعني ارتحلوا من مكة وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي ونظيره قوله تعالى: {قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} (النساء: 57) وقيل: نزلت في مهاجري الحبشة. وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهرب، وقال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة كما قال تعالى: {جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} (آل عمران: 133) {إنما يوفى} أي: التوفية العظيمة {الصابرون أجرهم} أي: على الطاعات وما يبتلون به، وقيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا ومعنى {بغير حساب} أي: بغير نهاية بكيل أو وزن لأن كل شيء داخل تحت الحساب فهو متناهٍ، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب. وعن ابن عباس: لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب ولا يعرف. وقال علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه: كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثياً. وروى الشعبي لكن بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الموازين تنصب يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» . ولما كان للعبادة ركنان: عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدمه سبحانه بقوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف المرسلين {إني أمرت} قرأ نافع بفتح الياء والباقون بسكونها {أن أعبد الله مخلصاً له الدين} أي: مخلصاً له التوحيد لا أشرك به شيئاً ثم ذكر عقبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام المذكور في قوله: {وأمرت لأن} أي: لأجل أن أو بأن {أكون أول المسلمين} أي: من هذه الأمة وبهذا زال التكرار. وقال الزمخشري: فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين. ولما دعا المشركون النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه أمره الله تعالى بقوله سبحانه: {قل إني أخاف إن عصيت ربي} أي: المحسن إلي المربي لي بكل جميل وعبدت غيره {عذاب يوم عظيم} والمقصود من هذا الأمر المبالغة في زجر الغير عن المعاصي، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أني بفتح الياء والباقون بسكونها. {قل الله} أي: المحيط بصفات الكمال وحده {أعبد مخلصاً له} وحده {ديني} من الشرك. قال الرازي: فإن قيل: ما معنى التكرير في قوله تعالى {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} وقوله تعالى: {قل الله أعبد مخلصاً له ديني} قلنا: ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإيمان بالعبادة، والثاني: إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله تعالى، وذلك أن قوله {أمرت أن أعبد الله} لا يفيد الحصر وقوله تعالى: {قل الله أعبد} يفيد الحصر أي: الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 ويدل عليه أنه لما قال {قل الله أعبد} قال بعده: {فاعبدوا} أي: أنتم أيها الداعون في وقت الضراء المعرضون في وقت الرخاء {ما شئتم من دونه} أي: غيره في هذا تهديد وزجر لهم وإيذان بأنهم لا يعبدون الله تعالى، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله سبحانه {قل إن الخاسرين} أي: الكاملين في الخسران {الذين خسروا أنفسهم} أي: أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه {و} خسروا {أهليهم يوم القيامة} أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا ذهاباً لا رجوع بعده البتة. وقوله تعالى {ألا ذلك} أي: الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة {هو الخسران المبين} أي: البين يدل على غاية المبالغة من وجوه؛ أحدها: أنه وصفهم بالخسران ثم أعاد ذلك بقوله تعالى: {ألا ذلك هو الخسران المبين} وهذا التكرير لأجل التأكيد، وثانيها: ذكر حرف ألا وهو للتنبيه، وذكر التنبيه يدل على التعظيم، كأنه قال: بلغ في العظم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا له، وثالثها: قوله تعالى {هو الخسران} ولفظة هو تفيد الحصر كأنه قيل: كل خسران يصير في مقابلته كل خسران، ورابعها: وصفه تعالى بكونه خسراناً مبيناً يدل على التهويل. ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخسران بقوله تعالى: {لهم من فوقهم ظلل} أي: طباق {من النار ومن تحتهم ظلل} أي: فرش ومهاد نظيره قوله تعالى: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف: 41) ، فإن قيل: الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته ظلة؟ أجيب بأوجه: أحدها: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) ، ثانيها: أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار دركات كما أن الجنة درجات، ثالثها: أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم إحداهما على الأخرى لأجل المماثلة والمشابهة وقيل المراد: إحاطة النار بهم من جميع الجهات. {ذلك} أي: العذاب المعد للكفار {يخوف الله به عباده} أي: المؤمنين ليتجنبوا ما يوقعهم فيه، وقيل: يخوف به الكفار والضلال ويدل للأول قوله تعالى: {يا عباد فاتقون} أي: ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة، ووجه الدلالة أن إضافة العبيد إلى الله تعالى في القرآن مختص بأهل الإيمان. {والذين اجتنبوا الطاغوت} أي: البالغ غاية الطغيان والطاغوت فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيه قلباً بتقديم اللام على العين إذ أصله طغيوت قدمت الياء على الغين ثم قلبت الفاء لتحركها وانفتاح ما قبلها، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكونها مصدراً وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأنّ عين الشيطان طغيان وإن البناء بناء مبالغة، فإن الرحموت الرحمة الواسعة، والملكوت الملك المبسوط، والقلب وهو للاختصاص قال في الكشاف: إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها هنا: الجمع انتهى. لكن ابن الخازن فسر الطاغوت بالأوثان وتبعه الجلال المحلي. فإن قيل: يتعين هذا التفسير لأنهم إنما عبدوا الصنم لا الشيطان. أجيب: بأن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان هو الداعي كانت عبادة الصنم عبادة له. فإن قيل: ما وجه تسمية الصنم بالطاغوت على التفسير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 الثاني مع أنه لا يطلق إلا على الشيطان كما مر؟ أجيب: بأنه أطلق عليه على سبيل المجاز لأن الطغيان لما حصل بسبب عبادته والتقرب إليه وصفه بذلك إطلاقاً لاسم السبب على المسبب بحسب الظاهر. وقوله تعالى: {أن يعبدوها} بدل اشتمال من الطاغوت لأن الطاغوت مؤنث كأنه قيل: اجتنبوا عبادة الطاغوت. فإن قيل: على التفسير الأول إنما عبدوا الصنم لا الشيطان؟ أجيب: بأنه الداعي إلى عبادة الصنم. فائدة: نقل في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صور على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة. {وأنابوا} أي: رجعوا {إلى الله} أي: إلى عبادة الله بكليتهم وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى: {لهم البشرى} أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة: فعند الخروج من القبور وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان. تنبيه: يحتمل أن يكون المبشر لهم هم الملائكة عليهم السلام لأنهم يبشرونهم عند الموت لقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم} (النحل: 32) وعند دخول الجنة لقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} (الرعد: 23 ـ 24) ويحتمل أن يكون هو الله تعالى لقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} (الأحزاب: 44) ولا مانع أن يكون من الله تعالى ومن الملائكة عليهم السلام فإن فضل الله سبحانه واسع وقوله تعالى: {فبشر عباد} قرأه السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف والباقون بغير ياء. {الذين يستمعون} أي: بجميع قلوبهم {القول فيتبعون} أي: بكل عزائمهم بعد انتقاده {أحسنه} أي: بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى. تنبيه: في هذا وضع الظاهر موضع مضمر {الذين اجتنبوا} للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان: عبادات ومعاملات، فأما العبادات فكقولنا: الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي: فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا. هـ وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف: ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل: *ولا تكن مثل غير قيد فانقادا* يريد: المقلد ا. هـ، وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً، والثاني: مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وقيل: يسمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل: يسمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو قال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: 237) وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمعه ويكف عما سواه. وروي عن ابن عباس آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم {فبشر عبادي} الآية. {أولئك} أي: العالو الهمة والرتبة {الذين هداهم الله} بما له من صفات الكمال لدينه {وأولئك أولو الألباب} أي: أصحاب العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وقال أبو زيد: نزل {والذين اجتنبوا الطاغوت} (الزمر: 17) الآيتين في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن لا إله إلا الله. وفي هذه الآية لطيفة وهي: أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بد من فاعل وقابل، فأما الفاعل: فهو الله تعالى وهو المراد من قوله تعالى: {أولئك الذين هداهم الله} وأما القابل فإليه الإشارة بقوله تعالى: {وأولئك هم أولو الألباب} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقيقية في قلبه. واختلف في معنى قوله تعالى: {أفمن حق} وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم {عليه كلمة العذاب} فقال ابن عباس معنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار، وقيل: كلمة العذاب قوله تعالى: {لأملأن جهنم} (الأعراف: 18) الآية وقيل: قوله تعالى: «هؤلاء للنار ولا أبالي» وقوله تعالى {أفأنت تنقذ} أي: تخرج {من في النار} جواب الشرط وأقيم فيه الظاهر مقام الضمير إذ كان الأصل أفأنت تنقذه، وإنما وقع موقعه شهادة عليه بذلك، والهمزة للإنكار والمعنى: لا تقدر على هدايته فتنقذه من النار وقال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده ويجوز أن تكون من موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف. واختلف في تقديره فقدره أبو البقاء كمن نجا وقدره الزمخشري فأنت تخلصه أي: حذف لدلالة أفأنت تنقذ عليه وقدره غيرهما تتأسف عليه وقدره آخر يتخلص منه أي: من العذاب. وقوله تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} استدراك بين شبهي نقيضين أو ضدين وهما المؤمنون والكافرون أي: جعلوا بينهم وبين المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكون فلم يجعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه وقوله تعالى: {لهم غرف} أي: علالي من الجنة يسكنونها {من فوقها غرف} شديدة العلو مقابل لما ذكر في وصف الكفار لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل والمعنى لهم منازل في الجنة رفيعة ومن فوقها منازل أرفع منها. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {مبنية} ؟ أجيب: بأن المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله تعالى: {مبنية} فائدته أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ للمنزل الأسفل. ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء وكان الجاري أحسن أشرف قال تعالى {تجري من تحتها} أي: من تلك الغرف الفوقانية والتحتانية {الأنهار} أي: المختلفة كما قال تعالى: {فيها أنهار من ماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: 15) وقوله تعالى: {وعد الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى: {غرف} في معنى وعدهم الله ذلك {لا يخلف الله الميعاد} لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وقوله: الغابر أي: الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب. ولما وصف الله تعالى الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفات توجب اشتداد النفرة عنها بقوله تعالى: {ألم تر} أي: تعلم {أن الله} أي: الذي له كمال القدرة {أنزل من السماء} أي: التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهر الماء على ذلك، والمراد بالسماء: الجرم أو السحاب {ماء} وهو المطر، قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه {فسلكه} أي: أدخل ذلك الماء خلال التراب حال كونه {ينابيع في الأرض} أي: عيوناً ومجاري ومسالك كالعروق في الأجسام {ثم يخرج} الله تعالى {به} أي: بالماء {زرعاً مختلفاً ألوانه} من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ومختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها {ثم يهيج} أي: ييبس {فتراه} بعد الخضرة مثلاً {مصفراً} من يبسه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يفصل عن منابته {ثم يجعله حطاماً} أي: فتاتاً {إن في ذلك} أي: التدبير على هذا الوجه {لذكرى} أي: تذكيراً وتنبيهاً {لأولي الألباب} أي: أصحاب العقول الصافية جداً فيتذكرون هذه الأحوال في النبات فيعلمون بدلالته على وحدانية الله تعالى شأنه وقدرته وأحوال الحيوان والإنسان، وإنه وإن طال عمره فلابد من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات مذكرة حصول مثل هذه الأحوال في نفسه في حياته فحينئذ تعظم نفرته عن الدنيا ولذاتها. ولما بين تعالى الدلائل على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا ولذاتها ذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الصدور ونور القلوب فقال سبحانه: {أفمن شرح الله} أي: الذي له القدرة الكاملة {صدره للإسلام} أي: وسعه لقبول الحق فاهتدى {فهو} أي: بسبب ذلك {على نور من ربه} أي: المحسن إليه كمن أقسى الله تعالى قلبه دل على هذا {فويل} كلمة عذاب {للقاسية قلوبهم من ذكر الله} قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وأما نور الله تعالى فهو لطفه. روي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل: يا رسول الله فما علامة انشراح الصدر للإسلام قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» . فإن قيل: إن ذكر الله تعالى سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 قال تعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28) فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول القسوة في القلب؟ أجيب: بأن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر، بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطباع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله تعالى يزيدها قسوة وكدرة، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أمثاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس، ولما نزل قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون: 12) الآية وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} (المؤمنون: 14) قال كل واحد منهما {تبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون: 14) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اكتب فكذا نزلت» فازداد عمر رضي الله عنه إيماناً على إيمانه وارتد ذلك الإنسان. وإذا عرف ذلك لم يبعد أن يكون ذكر الله تعالى يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القنوط والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة، وقيل: من بمعنى عن أي: قست قلوبهم عن قبول ذكر الله وجرى على ذلك الجلال المحلي {أولئك} أي: هؤلاء البعداء {في ضلال مبين} أي: بين قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبي بن خلف، وقيل: في علي وحمزة وأبي لهب وولده وقيل: في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. {الله} الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال {نزل} أي: بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة {أحسن الحديث} أي: القرآن روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا: حدثنا فنزلت وكونه أحسن الحديث لوجهين؛ أحدهما: من جهة اللفظ، والآخر: من جهة المعنى، أما الأول: فلأن القرآن أفصح الكلام وأبلغه وأجزله وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه مع أن كل طبع سليم يستلذه ويستطيبه، وأما من جهة المعنى: فهو منزه عن التناقض والاختلاف قال جل ثناؤه: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء: 82) ومشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار، وفي إيقاع لفظ الجلالة مبتدأ وبناء نزل عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على حسنه وتأكيده لاستناده إلى الله تعالى وأنه من عنده وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث. وقوله تعالى: {كتاباً} أي: جامعاً لكل خير بدل من أحسن الحديث، وقيل: حال منه بناءً على أن أحسن الحديث معرفة لإضافته إلى معرفة، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلاف فقيل: إضافته محضة وقيل: غير محضة والصحيح الأول وقوله تعالى: {متشابهاً} نعت لكتاباً وهو المسوغ لمجيء الجامد حالاً أو أنه في قوة مكتوب وتشابهه بتشابه أبعاضه في الإعجاز والبلاغة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى مع كونه نزل مفرقاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أم لا. وقوله تعالى: {مثاني} جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده مواعظه أو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، وقيل: لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل كما جاء في وصفه لا يخلق على كثرة الترداد. فإن قيل: كيف وصف كتاباً وهو مفرد بالجمع؟ أجيب: بأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا ترى أنك تقول: القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، ويجوز أن يكون مثاني منتصباً على التمييز من متشابهاً كما تقول: رأيت رجلاً حسناً شمائل. فإن قيل: ما فائدة التثنية والتكرير؟ أجيب: بأن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظهم به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم {تقشعر} أي: تضطرب وتشمئز {منه} عند ذكر وعيده {جلود} أي: ظواهر أجسام {الذين يخشون} أي: يخافون {ربهم} والمعنى تأخذهم قشعريرة وهو تغير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر آيات العذاب {ثم تلين} أي: تطمئن {جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} أي: عند ذكر وعده، والمعنى إذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28) روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» وفي رواية: «حرمه الله على النار» قال قتادة: هذا نعت أولياء الله تعالى نعتهم الله تعالى بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم وإنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان. وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال: قلت لها: إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وروي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله تعالى سقط فقال: إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط. وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق. فإن قيل: لم ذكرت الجلود وحدها أولاً في جانب الخوف ثم قرنت بها القلوب ثانياً في الرجاء؟ أجيب: بأن الخشية التي محلها القلوب إذا ذكرت فقد ذكرت القلوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد وتخشى قلوبهم في أول وهلة وإذا ذكر الله تعالى ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم. فإن قيل: ما وجه تعدية تلين بإلى؟ أجيب: بأنه ضمن معنى فعل متعد بإلى كأنه قيل: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله تعالى. فإن قيل: كيف قال الله تعالى: {إلى ذكر الله} ولم يقل إلى رحمة الله؟ أجيب: بأن من أحب الله تعالى لأجل رحمته فهو ما أحب الله تعالى وإنما أحب شيئاً غيره وأما من أحب الله تعالى لا لشيء سواه فهو المحب الحق وهي الدرجة العالية كما قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} {ذلك} أي: القرآن الذي هو أحسن الحديث {هدى الله} الذي له صفات الكمال {يهدي به من يشاء} أي: وهو الذي شرح الله تعالى صدره أولاً لقبول الهداية {ومن يضلل الله} أي: يجعل قلبه قاسياً مظلماً {فما له من هاد} أي: يهديه. وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد الدال، والباقون بغير الياء واتفقوا في الوصل على عدم الياء. ولما حكم تعالى على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال: {أفمن يتقي بوجهه سوء} أي: شدة {العذاب} أي: يجعله وقاية يقي بها نفسه لأنه تكون يداه مغلولتين إلى عنقه {يوم القيامة} فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه، وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال عطاء: يرمى به في النار منكوساً فأول شيء يلقى في النار وجهه. وقيل: يلقى في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة عظيمة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه، فحرها ووهجها لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. وقيل المراد بالوجه الجملة، وقيل: نزلت في أبي جهل ومعنى الآية: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن أمن من العذاب بدخول الجنة فحذف الخبر كما حذف في نظائره، {وقيل} أي: تقول الخزنة {للظالمين} أي: الكافرين، وكان الأصل لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم {ذوقوا ما} أي: وبال الذي {كنتم تكسبون} أي: تعملون في الدنيا من المعاصي. ولما بين تعالى كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال تعالى: {كذب الذين} وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال تعالى: {من قبلهم} أي: من قبل كفار مكة أي: مثل سبأ وقوم تبع كذبوا رسلهم في إتيان العذاب {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي: من جهة لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها. {فأذاقهم الله} أي: الذي له القدرة الكاملة {الخزي} أي: الذل والهوان من المسخ والقتل وغيرهما {في الحياة الدنيا} أي: العاجلة الدنيئة {ولعذاب الآخرة} أي: المعد لهم {أكبر} أي: من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا {لو كانوا} أي: المكذبون {يعلمون} أي: عذابها ما كذبوا ولكن لا علم لهم أصلاً إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.Y ولما ذكر تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البينات بلغت حد الكمال والتمام فقال تعالى: {ولقد ضربنا} أي: جعلنا {للناس} أي: عامة لأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة {في هذا القرآن} أي: الجامع لكل علم وكل خير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 {من كل مثل} أي: يحتاج إليه الناظر في أمر دينه {لعلهم يتذكرون} أي: يتعظون به وقرأ نافع وقالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد والباقون بالإدغام. وقوله تعالى: {قرآناً عربياً} فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون منصوباً على المدح لأنه لما كان نكرة امتنع إتباعه للقرآن، ثانيها: أن ينتصب بيتذكرون أي: يتذكرون قرآناً، ثالثها: أن ينتصب على الحال من القرآن على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطئة لأن الحال في الحقيقة عربياً وقرآناً توطئة له نحو جاء زيد رجلاً صالحاً {غير ذي عوج} أي: مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف نعت لقرآناً أو حال أخرى. فإن قيل: هلا قيل: مستقيماً أو غير معوج؟ أجيب: بأن في ذلك فائدتين إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج قط كما قال تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} (الكهف: 1) ثانيتهما: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان، وقيل: المراد بالعوج الشك واللبس قال القائل: *وقد أتاك يقين غير ذي عوج ... من الإله وقول غير مكذوب* {لعلهم يتقون} أي: الكفر. تنبيه: وصف تعالى القرآن بثلاث صفات؛ أولها: كونه قرآناً والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قرب قيام الساعة، ثانيها: كونه عربياً أي: أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} (الإسراء: 88) ثالثها: كونه غير ذي عوج، قال مجاهد: غير ذي لبس وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غير مختلف، وقال السدي: غير مخلوق، ويروى ذلك عن مالك بن أنس، وحكى شقيق وابن عيينة عن سبعين من التابعين: أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق. ولما شرح الله تعالى وعيد الكفار مثل لما يدل على فساد مذهبهم وقبيح طريقتهم بقوله تعالى: {ضرب الله} أي: الذي له الملك كله {مثلاً} أي: للمشركين والموحدين وقوله تعالى: {رجلاً} بدل من مثلاً وقوله تعالى: {فيه شركاء} يجوز أن تكون الجملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة ل {رجلاً} ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده وشركاء فاعل به قال ابن عادل: وهو أولى لقربه من المفرد وقوله تعالى: {متشاكسون} صفة لشركاء والتشاكس التخالف وأصله سوء الخلق وعسره وهو سبب التخالف أي: متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم يقال: رجل شكس وشرس إذا كان سيء الخلق مخالفاً للناس لا يرضى بالإنصاف {ورجلاً سلماً} أي: خالصاً من نزاع {لرجل} أي: خالصاً له لا شريك له فيه. ولا منازع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بألف بعد السين وكسر اللام بعدها، والباقون بغير ألف وفتح اللام وهو الذي لا ينازع فيه من قولهم: هو لك سلم أي: مسلم لا منازع لك فيه. وقوله تعالى: {هل يستويان} استفهام إنكار أي: لا يستويان وقوله تعالى: {مثلاً} تمييز والمعنى اضرب لقومك مثلاً وقل لهم: ما تقولون في رجل مملوك لشركاء بينهم اختلاف وتنازع وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه حوائجهم وهو متحير في أمره، وكلما أرضى أحدهم غضب الباقون وإذا احتاج إليهم فكل واحد يرده إلى الآخر فبقي متحيراً لا يعرف أيهم أولى أن يطلب رضاه وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب في عذاب أليم. وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه على مهماته فأي هذين العبدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 أحسن حالاً، لا شك أن هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول، فإن الأول: مثل المشرك والثاني: مثل الموحد، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح المشرك وتحسين الموحد. فإن قيل: هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا تشاكس؟ أجيب: بأن عبدة الأصنام يختلفون، منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ألا ترى أنهم يقولون: زحل هو النحس الأعظم والمشتري هو: السعد الأعظم، ومنهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية، وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة فيكون المثال مطابقاً، ومنهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل لأشخاص من العلماء والزهاد مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله تعالى، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هم على دينه وأن من سواه مبطل، وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال. ولما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق قال الله تعالى: {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي: كل الحمد لله الذي لا مكافئ له فلا يشاركه فيه على الحقيقة سواه لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق {بل أكثرهم} أي: أهل مكة {لا يعلمون} أي: ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به غيره من فرط جهلهم وقول البغوي والمراد بالأكثر الكل ليس بظاهر. ولما كان كفار مكة يتربصون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الله تعالى بأن الموت يجمعهم جميعاً بقوله تعالى: {إنك ميت} أي: ستموت وخصه الله تعالى بالخطاب لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه فكل موضع كان للأتباع، وخص فيه صلى الله عليه وسلم بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ {وإنهم ميتون} أي: سيموتون فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني. فائدة: قال الفراء: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت: بالتخفيف من فارقته الروح ولذلك لم يخفف هنا. وقوله تعالى: {ثم إنكم} فيه تغليب المخاطب على الغائب {يوم القيامة عند ربكم} أي: المربي لكم بالخلق والرزق {تختصمون} فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت وكذبوا واجتهدت في الإرشاد والتبليغ فلجوا في التكذيب والعناد ويعتذرون بالأباطيل يقول الأتباع أطعنا سادتنا وكبراءنا وتقول السادات أغوتنا آباؤنا الأقدمون والشياطين، ويجوز أن يكون المراد به الاختصام العام وجرى عليه الجلال المحلي وهو أولى وإن رجح الأولَ الكشافُ، لما روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: «لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال: نعم فقال: إن الأمر إذاً لشديد» وقال ابن عمر: عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين، قلنا: كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأينا بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفنا أنها فينا نزلت. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه الآية قال: كنا نقول: ربنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: هو هذا. وعن إبراهيم النخعي قال: لما نزلت قالت الصحابة كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا. وعن أبي العالية: نزلت في أهل القبلة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه» . وعن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد كان شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» . ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قبائح أفعالهم بقوله تعالى: {فمن} أي: لا أحد {أظلم} أي: منهم هكذا كان الأصل، ولكن قال تعالى: {ممن كذب} تعميماً {على الله} أي: الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره بنسبة الولد والشريك إليه {وكذب} أي: أوقع التكذيب لكل من أخبره {بالصدق} أي: بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إذ جاءه} أي: فاجأه بالتكذيب لما سمع من غير وقفة ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يستمعون، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم والباقون بالإدغام، ثم أردف ذلك بالوعيد فقال: {أليس في جهنم} أي: النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله {مثوى} أي: مأوى {للكافرين} أي: لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في للكافرين إشارة إليهم والاستفهام بمعنى التقرير. ولما ذكر من افترى وكذب ذكر مقابله وهو الذي جاء بالصدق وصدق به بقوله تعالى: {والذي جاء بالصدق} قال قتادة ومقاتل: هو النبي صلى الله عليه وسلم {وصدق به} هم المؤمنون فالذي بمعنى الذين ولذلك روعي معناه فجمع في قوله تعالى: {أولئك} أي: العالو الرتبة {هم المتقون} أي: الشرك كما روعي معنى من في قوله تعالى: {للكافرين} فإن الكافرين ظاهر واقع موقع الضمير، إذ الأصل مثوى لهم وكما في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} (البقرة: 17) ثم قال {ذهب الله بنورهم} (البقرة: 17) قال الزمخشري: ويجوز أن يريد الفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته رضي الله تعالى عنهم الذين صدقوا به ا. هـ قال أبو حيان: وفيه توزيع للصلة والفوج هو الموصول فهو كقولك: جاء الفريق الذي شرف وشرف، والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى، وقيل: بل الأصل والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله تعالى: {كالذي خاضوا} (التوبة: 69) قال ابن عادل: وهذا وهم إذ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال: والذي جاؤوا كقوله تعالى: {كالذي خاضوا} ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنى كقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 *أبني كليب إن عميّ اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا* وقال ابن عباس رضي الله عنهما: والذي جاء بالصدق يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله وصدق به الرسول أيضاً بلغه إلى الخلق. وقال السدي: والذي جاء بالصدق جبريل عليه السلام جاء بالقرآن وصدق به محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه بالقبول، وقال أبو العالية والكلبي: والذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق به أبو بكر رضي الله عنه، وقال عطاء: والذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع، وقال الحسن: هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاؤوا به في الآخرة وقوله تعالى: {لهم ما يشاؤون} أي: من أنواع الكرامات {عند ربهم} أي: في الجنة يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه {ذلك} أي: هذا الجزاء {جزاء المحسنين} لأنفسهم بإيمانهم. وقوله تعالى: {ليكفر الله عنهم} يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أن يسترها عليهم بالمغفرة. تنبيه: في تعلق هذه اللام وجهان أحدهما: أنها متعلقة بمحذوف أي: يسر لهم ذلك ليكفر، ثانيهما: أنها متعلقة بنفس المحسنين كأنه قيل: الذين أحسنوا ليكفر أي: لأجل التكفير وقوله تعالى: {أسوأ الذي} أي: العمل الذي {عملوا} فيه مبالغة فإنه إذا كفر غيره أولى بذلك أو للإيذان بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية أو أنه بمعنى السيء كما جرى عليه الجلال المحلي كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي: عادلاهم إذ ليس المراد به التفضيل، والناقص هو محمد الخليفة سمي به؛ لأنه نقص أعطية القوم والأشج هو عمر بن عبد العزيز سمي به لشجة أصابت رأسه. {ويجزيهم أجرهم} أي: ويعطيهم ثوابهم {بأحسن الذي} أي: العمل الذي {كانوا يعملون} أي: فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر لحسن إخلاصهم فيها وهذا أولى من قول الجلال المحلي إنه بمعنى الحسن. وقوله تعالى: {أليس الله} أي: الجامع لصفات الكمال كلها المنعوت بنعوت العظمة والجلال {بكاف عبده} أي: الخالص له استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر العين وفتح الباء الموحدة وألف بعدها على الجمع، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون الباء على الإفراد، فقراءة الإفراد محمولة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة الجمع على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن قومهم قصدوهم بالسوء كما قال الله تعالى {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} (غافر: 5) وكفاهم الله تعالى شر من عاداهم ويحتمل أن يراد بقراءة الإفراد: الجنس فتساوي قراءة الجمع وقيل: المراد أن الله تعالى كفى نوحاً عليه السلام الغرق وإبراهيم عليه السلام الحرق ويونس عليه السلام بطن الحوت فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك. {ويخوفونك} أي: عباد الأصنام {بالذين من دونه} وذلك أن قريشاً خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معاداة الأوثان، وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي: «أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادتها أي: خادمها: لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 فهشم أنفها فنزلت هذه الآية» . ولما شرح الله الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ختم الكلام بخاتمة هي: الفصل فقال تعالى شأنه {ومن يضلل الله} أي: الذي له الأمر كله {فما له من هاد} أي: يهديه إلى الرشاد. {ومن يهد الله فما له من مضل} أي: فهذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق إذ لا راد لفعله كما قال تعالى: {أليس الله} أي: الذي بيده كل شيء {بعزيز} أي: غالب على أمره {ذي انتقام} أي: من أعدائه بلى هو كذلك، وفي هذا تهديد للكفار. ولما بين تعالى وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريق عبدة الأوثان وهذا الترتيب مبني على أصلين الأول: أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد من قوله تعالى: {ولئن سألتهم} أي: من شئت منهم فرادى أو مجموعين واللام لام القسم {من خلق السموات} أي: على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع {والأرض} أي: على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع {ليقولن الله} أي: وحده لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية قال بعض العلماء: العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم علم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه، وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم، والأصل الثاني: أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله تعالى {قل أفرأيتم} أي: بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى: {ما تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: الذي هو ذو الجلال والإكرام {إن أرادني الله} أي: الذي لا راد لأمره {بضر} أي: بشدة بلاء {هل هن كاشفات ضره} أي: لا نقدر على ذلك {أو أرادني برحمة} أي: بعافية وبركة {هل هن ممسكات رحمته} أي: لا تقدر على ذلك فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم، قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا، وقرأ أبو عمرو بتنوين التاء من كاشفات وممسكات ونصب الراء من ضره ورفع الهاء ونصب التاء من رحمته والباقون بغير تنوين فيهما وكسر الراء والهاء من ضره والتاء والهاء من رحمته، وإذا كانت هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر كانت عبادة الله تعالى كافية والاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله تعالى: {قل حسبي الله} أي: ثقتي به واعتمادي {عليه يتوكل المتوكلون} أي: يثق الواثقون، فإن قيل: لِمَ قال تعالى: {كاشفات} {وممسكات} على التأنيث بعد قوله تعالى: {ويخوفونك بالذين من دونه} (الزمر: 36) أجيب: بأنه أنثها تحقيراً لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث وهي اللات والعزى ومناة قال الله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} (النجم: 19 ـ 20) وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل يا قوم} أي: الذين أرجوهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولون {اعملوا على مكانتكم} أي: على حالتكم فيه تهديد أي: أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، وقرأ شعبة بألف بعد النون جمعاً والباقون بغير ألف إفراداً {إني عامل} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 أي: في تقرير ديني {فسوف تعلمون} أي: بوعد لا خلف فيه. {من يأتيه} منا ومنكم بسبب أعماله {عذاب يخزيه} فإن خزي أعدائه دليل عليه وقد أخذهم الله تعالى يوم بدر {ويحل} أي: ينزل {عليه عذاب مقيم} أي: دائم وهو عذاب النار. تنبيه: المكانة بمعنى المكان فاستعيرت من العين للمعنى كما استعير لفظ هنا وحيث للزمان وهما للمكان، فإن قيل: حق الكلام إني عامل على مكانتي فلم حذف؟ أجيب: بأنه حذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حاله لا تقف وتزداد كل يوم قوة وشدة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فسوف تعلمون} توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة. ولما بين تعالى في هذه الآيات فساد مذاهبهم أي: المشركين تارة بالدلائل وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد، وكان صلى الله عليه وسلم يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} (الكهف: 41 ـ 47) وقال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} (فاطر: 8) أردفه بكلام يزيل ذلك الحزن العظيم عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {إنا أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة التامة {عليك} يا أشرف الخلق {الكتاب} أي: الكامل الشرف {للناس} أي: لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم فهو للناس عامة لأن رسالتك عامة وجعلنا إنزاله مقروناً {بالحق} أي: بالصدق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله {فمن اهتدى} أي: طاوع الهادي {فلنفسه} أي: فنفعه يعود إلى نفسه {ومن ضل} أي: وقع في الضلال بمخالفته {فإنما يضل عليها} أي: فضرر ضلاله يعود إليه. ولما دل السياق على أن التقدير فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى عطف عليه قوله تعالى: {وما أنت عليهم بوكيل} أي: لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، فكما أن الحياة واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى كذلك الضلال لا يحصل إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب. ولما بين سبحانه أن الهداية والضلال بتقديره قال تعالى: {الله} أي: الذي له مجامع الكمال وليس لشائبة النقص إليه سبيل {يتوفى الأنفس} أي: الأرواح {حين موتها} أي: موت أجسادها وتوفيها إماتتها وهي أن تسلب ما هي به حية حساسة دراكة من صحة أجزائها وسلامتها لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وقوله تعالى: {والتي لم تمت في منامها} عطف على الأنفس أي: يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفى أيضاً الأنفس التي لم تمت في منامها ففي منامها ظرف ليتوفى أي: يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى ومنه قوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} (الأنعام: 60) حتى لا تميزوا ولا تتصرفوا كما أن الموتى كذلك فالتي تتوفى عند النوم هي الأنفس التي يكون بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان: f إحداهما: نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت ويزول بزوالها النفس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 والأخرى هي النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس {فيمسك التي قضى عليها الموت} فلا يردها إلى جسدها، وقرأ حمزة والكسائي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء بعد الضاد ورفع التاء من الموت، والباقون بفتح القاف والضاد وسكون الياء بعد الضاد ونصب الموت {ويرسل الأخرى} أي: يردها إلى جسدها وهي التي لم يقض عليها الموت {إلى أجل مسمى} أي: إلى الوقت الذي ضربه لموتها، وقيل: يتوفى الأنفس أي: يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي أنفس التمييز، قالوا: والتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ولأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس، ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس: التي بها العقل والتمييز، والروح: التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه. قال الزمخشري: والصحيح ما ذكر أولاً لأن الله تعالى علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام انتهى. ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه قال: يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا نبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، ويقال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت العود إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مدة حياتها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخل إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول: اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين» . {إن في ذلك} أي: التوفي والإمساك والإرسال {لآيات} أي: دلالات على كمال قدرته وحكمته ورحمته. وقال مقاتل: لعلامات {لقوم يتفكرون} أي: فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، فإن قيل: قوله تعالى {الله يتوفى الأنفس} (الزمر: 42) يدل على أن المتوفي هو الله تعالى ويؤيده قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة} (الملك: 2) وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {ربي الذي يحيي ويميت} (البقرة: 258) وقال تعالى في آية أخرى {إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا} (الأنعام: 61) فكيف الجمع؟ أجيب: بأن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في آية إلى الله تعالى وهي الإضافة الحقيقية، وفي آية إلى ملك الموت لأنه الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى: أتباعه ثم إن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله تعالى من المقربين فنحن نعبدها لتشفع لنا أولئك المقربون عند الله تعالى فأجاب الله سبحانه عنه بقوله تعالى: {أم اتخذوا} أي: كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندهم {من دون الله} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 الذي لا مكافئ له ولا مداني {شفعاء} أي: تشفع لهم عند الله تعالى. تنبيه: أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء البعداء {أولو} أي: أيشفعون ولو {كانوا لا يملكون شيئاً} أي: من الشفاعة وغيرها {ولا يعقلون} أي: أنكم تعبدونهم ولا غير ذلك وجواب لو محذوف تقديره ولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم. {قل} أي: لهم {لله} أي: الذي له كمال القدرة والعظمة {الشفاعة جميعاً} أي: هو مختص بها فلا يشفع أحد إلا بإذنه ثم قرر ذلك فقال {له ملك السموات والأرض} أي: فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم دون إذنه ورضاه {ثم إليه ترجعون} أي: يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أعمال المشركين القبيحة بقوله تعالى: {وإذا ذكر الله} أي: الذي لا إله غيره {وحده} أي: دون آلهتهم {اشمأزت} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: يعني انقبضت، وقال قتادة: استكبرت وأصل الاشمئزاز والنفور والاستكبار أي: نفرت واستكبرت {قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يؤمنون بالبعث {وإذا ذكر الذين من دونه} أي: الأصنام {إذا هم يستبشرون} أي: يفرحون لفرط افتتانهم ونسيانهم حق الله تعالى ولقد بالغ في الأمرين حق الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه والاشمئزاز أن يمتلئ غيظاً وهماً حتى ينقبض أديم وجهه. قال مجاهد ومقاتل: وذلك حين: «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم وألقى الشيطان في أمنيته تلك الغرانيق العلا ففرح به المشركون وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الحج» . تنبيه: قال الزمخشري: فإن قلت ما العامل في إذا ذكر، قلت: العامل في إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار. قال أبو حيان: أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو هو أن الظرفين معمولان لفاجؤوا ثم قال: إذا الأولى تنتصب على الظرفية والثانية على المفعول به. ولما حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال تعالى: {قل اللهم} أي: يا الله {فاطر السموات والأرض} أي: مبدعهما من العدم أي: ألتجئ إلى الله تعالى بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وعجزت في عنادهم وشدة شكيمتهم فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها {عالم الغيب والشهادة} وصف تعالى نفسه بكمال القدرة وكمال العلم {أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} أي: من أمر الدين وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام لما أخبر بقتل الحسين وسخط على قاتله وقالوا: الآن يتكلم فما زاد على أن قال: آه أوقد فعلوا وقرأ الآية، وروي أنه قال على أثرها: أو قتل من كان يجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره ويضع فاه على فيه. وعن أبي سلمة قال: «سألت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته بالليل قالت: كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . ولما حكى الله تعالى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء. أولها: قوله تعالى: {ولو أن للذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 ظلموا} أي أنفسهم بالكفر {ما في الأرض جميعاً} أي: من الأموال {ومثله معه لا افتدوا} أي: اجتهدوا في طلب أن يفدوا أنفسهم {به من سوء العذاب يوم القيامة} وهذا وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص روى الشيخان عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً لو أن لك ما في الأرض من شيء لكنت تفتدي به فيقول: نعم فيقول الله: قد أردت منك وفي رواية سألتك أهون من هذا وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي شيئاً» قوله أردت أي: فعلت معك فعل الآمر المريد وهو معنى قوله في رواية قد سألتك. ثانيها: قوله تعالى: {وبدا لهم من الله} أي: الملك الأعظم {ما لم يكونوا يحتسبون} أي: ظهر لهم أنواع من العذاب لم تكن في حسابهم وفي هذا زيادة مبالغة هو نظير قوله تعالى في الوعد {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة: 17) وقوله صلى الله عليه وسلم «في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . وقال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي: ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدلت لهم سيئات لأنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام ويظنونها حسنات فبدت لهم سيئات. ثالثها قوله تعالى: {وبدا لهم} أي: ظهر ظهوراً تاماً {سيئات ما كسبوا} أي: مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله تعالى {وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} أي: يطلبون ويوجدون الهزء في العذاب ثم حكى الله تعالى عنهم طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة بقوله تعالى: {فإذا مس الإنسان} أي: الجنس {ضر} أي: فقر أو مرض أو غير ذلك {دعانا} أي: في دفع ذلك، فإن قيل: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ أجيب: بأن السبب في ذلك أن هذه وقعت مسببة عن قوله تعالى: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت} على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره فقوله تعالى: {فإذا مس الإنسان} معطوف على قوله تعالى: {وإذا ذكر الله وحده} وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم هذا محصل كلام الزمخشري، واعترضه أبو حيان بأن أبا علي يمنع الاعتراض بجملتين فكيف بهذه الجمل الكثيرة ثم قال: والذي يظهر في الربط أنه لما قال {ولو أن للذين ظلموا} (الزمر: 47) الآية وكان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم يوم القيامة العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله تعالى فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه كما قال تعالى: {ثم إذا خولناه} أي: أعطيناه {نعمة منا} أي: تفضلاً فإن التحويل يختص به {قال إنما أوتيته} أي: المنعم به {على علم} أي: على علم من الله تعالى إني له أهل. وقيل: إن كان ذلك سعادة في المال أو عافية في النفس يقول: إنما حصل ذلك بجده واجتهاده وإن كان صحة قال: إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني وإن حصل مال يقول: حصل بكسبي وهذا تناقض أيضاً لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله تعالى، وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله تعالى وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح {بل هي فتنة} أي: بلية يبتلي بها العبد. فإن قيل: كيف ذكر النعمة أولاً في قوله: {إنما أوتيته} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 ثم أنثها ثانياً؟ أجيب: بأنه ذكر أولاً لأن النعمة بمعنى المنعم به كما مر وقيل: تقديره شيئاً من النعمة وأتت ثانياً اعتباراً بلفظها أو لأن الخبر لما كان مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه كقولهم ما جاءت حاجتك وقيل: هي أي: الحالة أو القولة كما جرى عليه الجلال المحلي أو العطية أو النعمة كما قاله البقاعي {ولكن أكثرهم} أي: أكثر هؤلاء القائلين هذا الكلام {لا يعلمون} أن التخويل استدراج وامتحان. {قد قالها} أي: القولة المذكورة وهي قوله: {إنما أوتيته على علم} لأنها كلمة أو جملة من القول {الذين من قبلهم} أي: من الأمم الماضية. قال الزمخشري: هم قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندي، وقومه راضون به فكأنهم قالوها. قال: ويجوز أن يكون في الأمم الماضية آخرون قائلون مثلها {فما أغنى عنهم} أي: أولئك الماضين {ما كانوا يكسبون} أي: من متاع الدنيا ويجمعون منه. {فأصابهم سيئات ما كسبوا} أي: جزاؤها من العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى {والذين ظلموا} أي: بالعتو {من هؤلاء} أي: من مشركي قومك ومن للبيان أو للتبعيض {سيصيبهم سيئات ما كسبوا} أي: كما أصاب أولئك {وما هم بمعجزين} أي: فائتين عذابنا فقتل صناديدهم يوم بدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين فقيل لهم: {أولم يعلموا أن الله} أي: الذي له الجلال والكمال {يبسط الرزق} أي: يوسعه {لمن يشاء} وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً {ويقدر} أي: يضيق الرزق لمن يشاء وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاء فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلابد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الإنسان وجهله فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأفلاك لأن الساعة التي ولد فيها ذلك الملك السلطان القاهر قد ولد فيها عالم أيضاً من الناس وعالم من الحيوان غير الإنسان وتولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات. فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} قال الشاعر: *فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل* *ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل* {إن في ذلك} أي: البيان الظاهر {لآيات} أي: دلالات {لقوم يؤمنون} أي: بأن الحوادث كلها من الله تعالى بوسط أو غيره. ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} أي: أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن {لا تقنطوا} أي: لا تيأسوا {من رحمة الله} أي: إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل، وفتحها الباقون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 تقنطوا بكسر النون بعد القاف والباقون بفتحها {إن الله} أي: المتفضل على عباده المؤمنين {يغفر الذنوب} لمن تاب من الشرك {جميعاً} لمن يشاء كما قال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) وأما الكافر إذا أسلم فإن الله تعالى لا يؤاخذه بما وقع من كفره قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال: 38) تنبيه: في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى: {من رحمة الله} ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى: {إن الله} ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى {إنه هو} أي: وحده {الغفور} أي: البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب {الرحيم} أي: المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة» فنزلت هذه الآية. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: «أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله، فأنزل الله سبحانه وتعالى {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً} (مريم: 60) فقال وحشي: هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآية قال: نعم هذا. فجاء فأسلم، فقال المسلمون: هذا له خاصة قال: بل للمسلمين عامة» . وروي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال: يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} وعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي» وروى الطبراني: «أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي: بهذه الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: إلاً من أشرك ثلاث مرات» . وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل، فإذا راهب فسأله فقال: هل لي توبة فقال: لا فقتله وجعل يسأل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 فقال رجل: ائت قرية كذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال: قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له» . وفي رواية فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة فقال: لا فقتله فكمل مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عالم فقال: «إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا إلى أن قال: فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة» . وعن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} (محمد: 33) فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقيل لنا: الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئاً خفنا عليه، ومن لم يصب منها شيئاً رجونا له فأنزل الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله} وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. ولما كان التقدير وأقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال عطف عليه استعظاماً قوله تعالى: {وأنيبوا} أي: ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم {إلى ربكم} أي: الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه {وأسلموا} أي: وأخلصوا {له} أعمالكم {من قبل أن يأتيكم} أي: وأنتم صاغرون {العذاب} أي: القاطع لكل عذوبة، المجرّع لكل مرارة وصعوبة {ثم لا تنصرون} أي: لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً إن لم تتوبوا. {واتبعوا} أي: عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع {أحسن ما أنزل إليكم} أي: على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فوق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله تعالى، واتباع أحاسن ما فيه فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون كأنك تراه الذي هو أعلى من استحضار أنه يراك الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك. ولما كان هذا شديداً على النفس رغب فيه بقوله تعالى بمظهر صفة الإحسان موضع الإضمار: {من ربكم} أي: الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. وقال الحسن رضي الله عنه: معنى الآية الزموا طاعته واجتنبوا معصيته فإن في القرآن ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه، وذكر الأحسن لتؤثره. وقيل: الأحسن الناسخ دون المنسوخ لقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} (البقرة: 106) وقيل: العزائم دون الرخص وقوله تعالى: {من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} أي: ليس عندكم شعور بإتيانه بوجه من الوجوه فيه تهديد وتخويف. ولما خوفهم الله تعالى بهذا العذاب بين أنهم بتقدير نزوله عليهم ماذا يقولون، فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلام الأول: ما ذكره بقوله تعالى: {أن} أي: كراهة أن {تقول نفسٌ} أي: عند وقوع العذاب وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} قال الحسن: قصرت في طاعة الله، وقال مجاهد: في أمر الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 وقال سعيد بن جبير: في حق الله وقيل: ضيعت في ذات الله، وقيل: معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى والعرب تسمي الجانب جنباً، قال في «الكشاف» : هذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ألا ترى إلى قول الشاعر: *إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج* أي: فإنه لم يصرح بثبوت هذه الصفات المذكورة لابن الحشرج بل كنى عن ذلك في قبة مضروبة عليه فأفاد اثباتها له، والقبة تكون فوق الخيمة تتخذها الرؤساء، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة والدوري عن أبي عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {وإن} أي: والحال إني {كنت} أي: كان ذلك في طبعي {لمن الساخرين} أي: المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة أي: تقول هذا لعله يقبل منها ويعفى عنها على عادة المعترفين في وقت الشدائد لعلهم يعاودون إلى أجمل العوائد. الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عنهم بعد نزول العذاب عليهم: ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه: {أو تقول} أي: تلك النفس المفرطة {لو أن الله} أي: الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل {هداني} أي: لبيان الطريق {لكنت من المتقين} أي: الذين لا يقدمون على فعل إلا ما يدلهم عليه دليل. الثالث من الكلمات ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه: {أو تقول} أي: تلك النفس المفرطة {حين ترى العذاب} أي: الذي واجهها عياناً {لو أن} أي: يا ليت {لي كرة} أي: رجعة إلى دار العمل {فأكون} أي: يتسبب عن رجوعي إليها أن أكون {من المحسنين} أي: العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن. تنبيه: في نصب فأكون وجهان أحدهما: عطفه على كرة فإنها مصدر فعطف مصدر مؤول على مصدر مصرح به كقولها: *للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف* والثاني: أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله تعالى: {لو أن لي كرة} والفرق بين الوجهين أن الأول: يكون فيه الكون متمنى ويجوز أن تضمر أن وأن تظهر، والثاني: يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمنى لا متمنى ويجب أن تضمر أن. ثم أجاب الله تعالى هذا القائل بقوله سبحانه: {بلى قد جاءتك أياتي} أي: القرآن وهي سبب الهداية {فكذبت بها} أي: قلت ليست من عند الله {واستكبرت} أي: تكبرت عن الإيمان بها {وكنت من الكافرين} . فإن قيل: هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله: {لو أن الله هداني} (الزمر: 57) ولم يفصل بينهما؟ أجيب: بأنه لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب، فإن قيل: كيف صح أن تقع بلى جواباً لغير منفي؟ أجيب: بأن قوله {لو أن الله هداني} بمعنى ما هديت. {ويوم القيامة} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 أي: الذي لا يصح في الحكمة تركه {ترى} أي: أيها المحسن {الذين كذبوا على الله} أي: الحائز لجميع صفات الكمال بنسبة الشريك والولد إليه، وقال الحسن: هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل، قال البقاعي: وكأنه عنى من المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم إنهم يخلقون أفعالهم قال: ويدخل فيه من تكلم في الدين بجهل وكل من كذب وهو يعلم أنه كاذب في أي شيء كان، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله تعالى لا يعلم كذبه أي: ولا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله وقوله تعالى: {وجوههم مسودة} جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية وقيل: في محل نصب مفعولاً ثانياً لأن الرؤية قلبية، ورد بأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما، وذكر أن هذا السواد مخالف لسائر أنواع السواد {أليس في جهنم مثوى} أي: مأوى {للمتكبرين} أي: الذين تكبروا على اتباع أمر الله تعالى وهو تقرير لأنهم يرونه كذلك. ولما ذكر الله تعالى الذين أشقاهم أتبعهم حال الذين أسعدهم بقوله تعالى: {وينجي الله} أي: يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك {الذين اتقوا} أي: بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هنا من العقوبات {بمفازتهم} أي: بسبب فلاحهم لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة، ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بألف بعد الزاي جمعاً على أن لكل متق مفازة، والباقون بغير ألف بعد الزاي إفراداً وقوله تعالى {لا يمسهم السوء} جملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقال: لا يمسهم السوء فلا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الذين اتقوا، ومعنى الكلام لا يمسهم مكروه {ولا هم يحزنون} أي: ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنه لا يفوت لهم شيء أصلاً. ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا القادر المبدع القيوم قال تعالى مستأنفاً أو معللاً، مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام: {الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً والذي نجاهم {خالق كل شيء} أي: من خير وشر وإيمان وكفر فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه. ولما دل هذا على القدرة الشاملة وكان لا بد معها من العلم الكامل قال تعالى: {وهو على كل شيء} أي: مع القهر والغلبة {وكيل} أي: حفيظ لجميع ما يريده قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة وقوله تعالى: {له مقاليد السموات والأرض} جملة مستأنفة والمقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل أي: هو مالك أمرها وحافظها وهي من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح والكلمة أصلها فارسية، فإن قيل: ما للكتاب المبين والفارسية؟ أجيب: بأن التعريب قد أحالها عربية كما أخرج استعمال المهمل عن كونه مهملاً، قال الزمخشري: «سأل عثمان النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: {له مقاليد السموات والأرض} فقال: يا عثمان ما سألني أحد عنها قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» . وروى هذا الطبراني بسند ضعيف بل رواه ابن الجوزي في الموضوعات، ثم قال الزمخشري وتأويله على هذا: أن الله تعالى في هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه، وقال قتادة ومقاتل: مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة وقال الكلبي: خزائن المطر والنبات. ولما وصف الله تعالى بالصفة الإلهية والجلالة وهو كونه خالقاً للأشياء وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده: {والذين كفروا} أي: لبسوا ما اتضح من الدلالات وجحدوا {بآيات الله} أي: دلائل قدرته الظاهرة الباهرة {أولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الخاسرون} لأنهم خسروا أنفسهم وكل شيء متصل بها على وجه النفع، وقال الزمخشري: {والذين كفروا} متصل بقوله: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} (الزمر: 61) واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها وأن له مقاليد السموات والأرض، واعترضه الرازي: بأن وينجي جملة فعلية والذين كفروا جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز واعترض الآخر بأنه لا مانع من ذلك. ولما دعا كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائهم قال الله تعالى: {قل} أي: لهم {أفغير الله} أي: الملك الأعظم {تأمروني أعبد أيها الجاهلون} أي: العريقون في الجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل، وقرأ نافع بتخفيف النون وفتح الياء وابن كثير بتشديد النون وسكون الياء، وابن عامر بنونين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وسكون الياء والباقون بتشديد النون وسكون الياء. {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} أي: الذي عملته قبل الشرك، فإن قيل: الموحى إليهم جماعة فكيف قال لئن أشركت على التوحيد؟ أجيب: بأن تقدير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي: أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت كما تقول: كسانا حلة أي: كل واحد منا، فإن قيل: كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} قضية شرطية، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزئها، ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجاً لكانت منقسمة بمتساويين، قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22) ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا أو أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كما قاله أكثر المفسرين أو أن ذلك على سبيل الفرض المحال ذكر ليكون ردعاً للأتباع. ولما كان السياق للتهديد وكانت العبارة شاملة لما تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وهي {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} (البقرة: 217) قال تعالى: {ولتكونن} أي: لأجل حبوطه {من الخاسرين} فإن من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته أما من أسلم بعد ردته فإنما يحبط ثواب عمله لا عمله كما نص عليه الشافعي. تنبيه: اللام الأولى موطئة للقسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 والأخريان للجواب. ولما كان التقدير لا تشرك بنا عطف عليه قوله تعالى: {بل الله} أي: المتصف بصفات الكمال وحده {فاعبد} أي: مخلصاً له العبادة {وكن من الشاكرين} أي: العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق أجمعين. ولما حكى الله تعالى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول أن يعبد الله ولا يعبد سواه، وبين أنهم لو عرفوا الله تعالى حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية قال: {وما قدروا الله} أي: الملك الأعظم {حق قدره} أي: ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره مع أنهم لو استغرقوا الزمان كله في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره. ولما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال عظمته بقوله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته} وهو مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي: ما عظموه حق عظمته والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة كقوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} (البقرة: 28) أي: كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا، وجميعاً حال وهي دالة على أن المراد بالأرض: الأرضون لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، وقدم الأرض على السموات لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها. ولما كان في هذه الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال تعالى: {يوم القيامة} ولا قبضة هناك لا حقيقة ولا مجازاً وكذا الطي واليمين وإنما هو تمثيل وتخييل لتمام القدرة. ولما كانوا يعلمون أن السموات سبع متطابقة بما يشاهدونه من سير النجوم جمع ليكون مع جميعاً كالتصريح في جمع الأرض أيضاً في قوله تعالى: {والسموات مطويات} أي: مجموعات {بيمينه} قال الإمام الرازي: وههنا سؤالات؛ الأول: أن العرش أعظم من السموات السبع والأرضين السبع ثم إنه تعالى قال في صفة العرش {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} (الحاقة: 17) ، فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسموات والأرض؟ وأجاب: بأن مراتب التعظيم كثيرة. فأولها: تقرير الله بكونه قادراً على هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش. السؤال الثاني: قوله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} شرح حال لا تحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم معترفون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم، وإن كان الخطاب مع المكذبين بالنبوة فهم ينكرون قوله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟. وأجاب عنه: بأن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأرضين من وجوه العمارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإفنائها يوم القيامة، وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق، فإنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض وذلك يدل على كمال الاستغناء. السؤال الثالث: حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرته تعالى، فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟ وأجاب: بأنه خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا. ولما كان هذا إنما هو تمثيل يعهد والمراد به الغاية في القدرة نزه نفسه المقدس عما ربما نسبه له المجسم والمشبه فقال تعالى: {سبحانه} أي: تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص {وتعالى} علو الإيحاط به {عما يشركون} معه لأنه لو كان له شريك ينازعه في هذه القدرة أو بعضها لمنعه شيئاً منها وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء البتة. روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره عن عبد الله بن مسعود قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا كان يوم القيامة جعل الله تعالى السموات على إصبع والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك. فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقول الحبر ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {وما قدروا الله حق قدره} الآية» وإنما ضحك صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهم علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، وإنما يدل ذلك على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأذهان هينة عليه هواناً لا يصل السامع إلى الوقوف عليه إلا بإجراء العبارة في مثل هذه الطريقة على التخييل. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبابرة أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون» . وللبخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض» . قال أبو سليمان الخطابي: ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من وصف اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف، وقد ورد كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة رضي الله تعالى عنهم، وقال سفيان ابن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه انتهى. وقد قدمنا أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه وأن الخلف يؤولونه والأول أسلم والثاني أحكم. ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضاً على كمال العظمة وهو شرح مقدمات يوم القيامة فقال: {ونفخ في الصور} أي: القرن النفخة الأولى لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم {فصعق} أي: مات {من في السموات ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 في الأرض} واختلف فيمن استثنى الله تعالى بقوله سبحانه: {إلا من شاء الله} فقال الحسن: هو الله وحده وقال ابن عباس: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ثم يميت الله تعالى ميكائيل وإسرافيل وجبريل وملك الموت، وقيل: حملة العرش، وقيل: الحور والولدان، وقيل: الشهداء لقوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران: 169) وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش» . وقال جابر: هو موسى عليه السلام لأنه صعق فلا يصعق ثانياً وقال قتادة: الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم وهذا أسلم، {ثم نفخ فيه} أي: في الصور نفخة {أخرى} أي: نفخة ثانية {فإذا هم} أي: جميع الخلائق الموتى {قيام} أي: قائمون {ينظرون} أي: يقبلون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب جسيم، وقيل: ينتظرون أمر الله تعالى فيهم وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن لفظة ثم للتراخي، وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين النفختين أربعون قالوا: أربعون يوماً، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهراً، قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة، قال: أبيت، قال: ثم ينزل الله تعالى من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» وقوله تعالى: {فإذا هم} يدل على أن قيامهم يحصل عقب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء تدل على التعقيب. ولما ذكر تعالى إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن أتبعه بنور أرض القيامة فقال: {وأشرقت} أي: أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة {الأرض} أي: التي أوجدت لحشرهم وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} (إبراهيم: 8) . {بنور ربها} أي: خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه قال صلى الله عليه وسلم «سترون ربكم» وقال: «كما لا تضارون في الشمس في يوم الصحو» وقال الحسن والسدي: بعدل ربها. {ووضع الكتاب} أي: كتاب الأعمال للحساب لقوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} (الإسراء: 13) وقوله تعالى: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف: 49) وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ تقابل به الصحف، وقيل: الكتاب الذي أنزل إلى كل أمة تعمل به، واقتصر على هذا البقاعي. {وجيء بالنبيين} أي: للشهادة على أممهم واختلف في قوله تعالى: {والشهداء} فقال ابن عباس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقوله تعالى: {جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 143) وقال عطاء ومقاتل: يعني الحفظة لقوله تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} (ق: 21) وقيل: هم المستشهدون في سبيل الله. ولما بين تعالى أنه يوصل إلى كل واحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها قوله تعالى: {وقضى بينهم} أي: العباد {بالحق} أي: العدل، ثانيها: قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، ثالثها: قوله تعالى: {ووفيت كل نفس ما عملت} أي: جزاء ما عملته، رابعها: قوله تعالى: {وهو أعلم بما يفعلون} أي: فلا يفوته شيء من أفعالهم ثم فصل التوفية بقوله تعالى مقدماً أهل الغضب: {وسيق الذين كفروا} أي: بالعنف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 والدفع {إلى جهنم} كما قال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} (الطور: 13) أي: يدفعون إليها دفعاً وقوله تعالى: {زمراً} حال أي: جماعات في تفرقة بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة. {حتى إذا جاؤوها} أي: على صفة الذل والصغار، وأجاب إذا بقوله تعالى: {فتحت أبوابها} أي: السبعة وكانت مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها، وقرأ الكوفيون فتحت وفتحت الآتية بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير. {وقال لهم خزنتها} إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً {ألم يأتكم رسل منكم} أي: من جنسكم لأن قيام الحجة بالجنس أقوى {يتلون} أي: يتلون مرة بعد مرة وشيئاً في إثر شيء {عليكم آيات ربكم} أي: المحسن إليكم من القرآن وغيره {وينذرونكم} أي: يخوفونكم {لقاء يومكم} وقولهم {هذا} إشارة إلى يوم البعث، فإن قيل: لم أضيف إليهم اليوم؟ أجيب: بأنهم أرادوا لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة، قال الزمخشري: وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة، ويجوز أن يراد باليوم يوم البعث كله وجرى عليه البقاعي وهو أولى ولما قال لهم الخزنة ذلك {قالوا بلى} أتونا وتلوا علينا وحذرونا {ولكن حقت} أي: وجبت {كلمة العذاب} أي: التي سبقت في الأزل علينا هكذا كان الأصل ولكنهم قالوا {على الكافرين} تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم الأنوار التي أتتهم بها الرسل عليهم الصلاة والسلام. تنبيه: في الآية دليل على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا لهم أنهم ما بقي لهم عذر ولا على بعد مجيء الرسل عليهم الصلاة والسلام، فلو لم يكن مجيء الرسل شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة، وقيل: كلمة العذاب هي قوله تعالى: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود: 119) ثم كأنه قيل: فماذا وقع بعد هذا التقريع؟. {قيل} : وقع أن الملائكة قالت لهم {ادخلوا أبواب جهنم} أي: طبقاتها المتجهمة لداخلها {خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها} ولما كان سبب كفرهم بالآيات هو التكبر قالوا لهم: {فبئس مثوى} أي: منزل ومقام {المتكبرين} أي: الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم فلذلك تعاطوا أسبابها. ولما ذكر تعالى أحوال الكافرين أتبعه أحوال أضدادهم فقال عز من قائل: {وسيق الذين اتقوا ربهم} أي: الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة {إلى الجنة} وقوله تعالى: {زمراً} حال أي: جماعات أهل الصلاة المستكثرين منها على حدة وأهل الصوم كذلك إلى غير ذلك من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه. فإن قيل: السوق في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يساقوا إليه وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأي حاجة فيه إلى السوق؟ أجيب: بأن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين سراعاً إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين هذا سوق تشريف وإكرام وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا من بدائع أنواع البديع وهو أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم فسبحان من أنزله معجز المباني وتمكن المعاني عذب الموارد والمثاني. وقيل: إن المحبة والصداقة باقية بين المتقين إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدواً إلا المتقين} (الإحزاب: 67) فإذا قيل لواحد منهم: اذهب إلى الجنة فيقول: لا أدخلها إلا مع أحبابي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السوق إلى الجنة. ولما ذكر تعالى السوق ذكر غايته بقوله تعالى: {حتى إذا جاؤوها} اختلف في جواب إذا على أوجه أحدها قوله تعالى: {وفتحت أبوابها} والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش، وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة عادة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها، فعلى هذا أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون مقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} (ص: 50) فلذلك جيء بالواو فكأنه قال: حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها. ثانيها قوله تعالى: {وقال لهم خزنتها} أي: بزيادة الواو أيضاً أي: حتى إذا جاؤوها قال لهم خزنتها، ثالثها: قال الزجاج: القول عندي إن الجواب محذوف تقديره دخلوها بعد قوله تعالى: {إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها} أي: حين الوصول {سلام عليكم} تعجيلاً للمسرة بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها {طبتم} أي: صلحتم لسكناها لأنها دار طهرها الله تعالى من كل دنس وطيبها من كل قذر فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً تنقي أنفسنا من درن الذنوب وتميط وضر هذه القلوب ثم سببوا عن ذلك {فادخلوها خالدين} أي: مقدرين الخلود. وسمى بعضهم الواو في قوله تعالى: {وفتحت} واو الثمانية قال: لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} (الكهف: 22) وقيل: تقدير الجواب {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} يعني أن الجواب بلفظ الشرط ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صح، وقدره الجلال المحلي بقوله: دخلوها وقال: إن قوله تعالى: {وقالوا} عطف على دخلوها المقدر {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي: الملك الأعظم {الذي صدقنا وعده} في قوله تعالى: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً} (مريم: 63) فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة {وأورثنا} كما وعدنا {الأرض} أي: الأرض التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقولهم: {نتبوأ} أي: ننزل {من الجنة حيث نشاء} جملة حالية وحيث ظرف على بابها وقيل: مفعول به، وإنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجهين؛ أحدهما: أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام لأنه تعالى قال: {فكلا منها رغداً حيث شئتما} فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم عليه السلام كان ذلك سبباً للإرث، ثانيها: أن الوارث ينصرف فيما ورثه كيف شاء من غير منازع فكذلك المؤمنون يتصرفون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 في الجنة حيث شاؤوا وأرادوا، فإن قيل: كيف يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ أجيب: بأن لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث شاء ولا يحتاج إلى جنة غيره ولا يشتهي أحد إلا مكانه مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها ولما كانت بهذا الوصف الجليل تسبب عنه مدحها بقوله: {فنعم} أي: أجرنا هكذا كان الأصل ولكنه قال: {أجر العاملين} ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال. ولما ذكر سبحانه الذين أكرمهم من المتقين وما وصلوا إليه من المقامات أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات فقال تعالى صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق لأنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: {وترى الملائكة} أي: القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق وقوله تعالى: {حافين} حال أي: محدقين {من حول العرش} أي: من جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال من يفهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله تعالى أنهم لا يملؤون حوله، وهذا أولى من قول البيضاوي: إن من زائدة وقوله تعالى: {يسبحون} حال من ضمير حافين {بحمد ربهم} أي: متلبسين بحمده يقولون سبحان الله وبحمده فهم ذاكرون له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق {وقضي بينهم} أي: بين جميع الخلق {بالحق} أي: العدل فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم {وقيل} أي: وقال المؤمنون من المقضي بينهم والملائكة وطي ذكرهم لتعيينهم وتعظيمهم {الحمد} أي: الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو أحق بهذا المقام فقال {لله} ذي الجلال والإكرام علمنا ذلك في هذا اليوم عين اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين. ولما كان هذا اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم {رب العالمين} أي: الذين ابتدأهم أول مرة من العدم، وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير وأبقاهم رابعاً لا إلى أخير وقيل: إن الله تعالى ابتدأ ذكر الخلق بالحمد لله في قوله سبحانه: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} (الأنعام: 1) وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداية كل أمر وخاتمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين» . حديث موضوع، وقوله عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر» رواه الترمذي وغيره. سورة غافر (المؤمن) مكية قال الحسن: إلا قوله: {وسبح بحمد ربك} لأن الصلوات نزلت بالمدينة، وقد قيل في الحواميم: أنها كلها مكية عن ابن عباس وابن الحنفية، وتسمى: سورة الطول وسورة غافر وهي: خمس وقيل: اثنتان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وثمانون آية وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربع آلاف وتسعمائة وستون حرفاً {بسم الله} الملك الأعظم الذي يعطي كلاً من عباده ما يستحقه فلا يقدر أحد أن يناقض في شيء من ذلك ولا يعارض. {الرحمن} الذي عمهم برحمته في الدنيا بالخلق والرزق والبيان الذي لا خفاء معه. {الرحيم} الذي يخص برحمته من يشاء من عباده فيجعله حكيماً وفي ملك الأرض وملكوت السموات عليماً. وقوله تعالى: {حم} قرأه ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وورش وأبو عمرو بين بين والباقون بالفتح وقد سبق الكلام في حروف التهجي، وقال ابن عباس: {حم} اسم الله الأعظم وعنه قال: الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة وقيل: حم اسم السورة، وقيل: الحاء افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنان والميم افتتاح أسمائه ملك مجيد منان، وقال الضحاك والكسائي: معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معنى حم: حم بضم الحاء وتشديد الميم، وهل يجوز أن يجمع حم على حواميم؟ نقل ابن الجوزي عن شيخه الجواليقي أنه خطأ وليس بصواب بل الصواب أن يقول: قرأت آل حم. وفي الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات. وقال الكميت: *وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومعرب* ومنهم من جوزه، وروي في ذلك أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم «الحواميم ديباج القرآن» . وقوله صلى الله عليه وسلم «الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع جهنم والحطمة ولظى والسعير وسقر والهاوية والجحيم، فتجيء كل حم منهن يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فتقول لا يدخل النار من كان يؤمن بي ويقرؤني» . وقوله صلى الله عليه وسلم «لكل شيء ثمرة وثمرة القرآن ذوات حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم» . وقوله صلى الله عليه وسلم «الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب» . وقال ابن عباس: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم، قال ابن عادل: فإن صحت هذه الأحاديث فهي الفصل في ذلك أي: فتدل على جواز الجمع، وقال البيضاوي في حم السجدة: ولعل افتتاح هذه السبع بحم وتسميتها به لكونها مصدرة بيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى أي: أخذاً مما قيل إن حم اسم من أسماء القرآن وقوله تعالى: {تنزيل الكتاب} أي: الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والإكرام إما خبر لحم إن كانت مبتدأ، وإما خبر لمبتدأ مضمر وإما مبتدأ وخبره {من الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال، ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال تعالى: {العزيز} أي: في ملكه {العليم} بخلقه، فبين تعالى أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز ولولا كونه عزيزاً عالماً لما صح ذلك. {غافر الذنب} أي: بتوبة وغير توبة للمؤمن إن شاء وأما الكافر فلا بد من توبته بالإسلام {وقابل التوب} أي: ممن عصاه وهو يحتمل أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجنس كالذنب وأن يكون جمعاً لتوبة كتمر وتمرة {شديد العقاب} أي: على الكافر، فإن قيل: إن شديد صفة مشبهة فإضافته غير محضة بكل حال بخلاف اسم الفاعل إذا لم يرد به الحال ولا الاستقبال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 كغافر الذنب وقابل التوب فإن إضافته محضة تفيد التعريف، قال سيبويه: كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة ولم يستثن الكوفيون شيئاً؟ أجيب: بأن شديد معناه مشدد كأذين بمعنى مأذون فتتمحض إضافته أو الشديد عقابه، فحذف اللام للازدواج مع أمن الالتباس أو بالتزام مذهب الكوفيين هو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمحض إضافتها أيضاً فتكون معرفة يقولون في نحو حسن الوجه يجوز أن تصير إضافته محضة وقال الرازي: لا نزاع في جعل غافر وقابل صفتين وإنما كان كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك شديد العقاب لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث يقال شديد عقابه وهذا المعنى حاصل أبداً، فلا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن قال أبو حيان: وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون: {حكيم عليم} و {مليك مقتدر} معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفات لم تحصل بعد إن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء وهذا لا يقوله مبتدئ في علم النحو فكيف من يصنف فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى. قال الزمخشري: فإن قلت ما بال الواو في قوله: {وقابل التوب} قلت: فيها نكتة جليلة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. قال ابن عادل: وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة، قال أبو حيان: وما أكثر تبجح هذا الرجل وشقشقته والذي أفادته الواو الجمع وهذا معلوم من ظاهر علم النحو. وأنشد بعضهم: *وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم* وقال آخر: *قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم* ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب بالعقوبة أتبعه التشويق إلى الفضل فقال تعالى {ذي الطول} أي: سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة فلا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، قال ابن عباس: غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله شديد العقاب لمن لا يقول: لا إله إلا الله ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله، وقال الحسن: ذو الفضل، وقال قتادة: ذو النعم ثم علل تمكنه من كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال تعالى: {لا إله إلا هو إليه} وحده {المصير} أي: المرجع فلو جعل معه إلهاً آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملان حاصلين بسبب هذا التوحيد وقوله تعالى: {إليه المصير} مما يقوي الرغبة في الإقرار بالعبودية له، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله تعالى: {إليه المصير} وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع وأحسن النزوع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه وقفوه وادعوا له الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه. ولما قرر تعالى أن القرآن كتاب أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله فقال: {ما يجادل} أي: يخاصم ويماري أي: يفتل الأمور إلى مراده {في آيات الله} أي: في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدال كالشمس على أنه تعالى إليه المصير بأن يغش نفسه بالشك في ذلك {إلا الذين كفروا} قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} وقوله تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} (البقرة: 176) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن جدالاً في القرآن كفر» . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتمارون في القرآن فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم ضربوا كتاب الله بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم عنه فكلوه إلى عالمه» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» . تنبيه: الجدال نوعان: جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل. أما الأول: فهو حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125) وحكى عن قوم نوح قولهم: {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} (هود: 32) . وأما الثاني: فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية فجدالهم في آيات الله هو قولهم مرة هذا سحر، ومرة هذا شعر، ومرة هو قول الكهنة، ومرة أساطير الأولين، ومرة إنما يعلمه بشر، وأشباه هذا. ولما أثبت أن الحشر لا بد منه وأن الله تعالى قادر كل القدرة لأنه لا شريك له، وهو محيط بجميع أوصاف الكمال تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فلا يغررك تقلبهم} أي: تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم {في البلاد} كبلاد الشام واليمن فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح} وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء، ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان وكان للإجمال من الردع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل، قال تعالى: {والأحزاب} أي: الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله: {من بعدهم} كعاد وثمود {وهمت كل أمة} أي: من هؤلاء {برسولهم} أي: الذي أرسلناه إليهم {ليأخذوه} أي: ليتمكنوا من إصابته بما أرادوه من تعذيب أو قتل.s ويقال للأسير: أخيذ، وقال ابن عباس: ليقتلوه ويهلكوه {وجادلوا بالباطل} أي: بالأمر الذي لا حقيقة له وليس له من ذاته إلا الزوال كما تفعل قريش ومن ضاهاهم من العرب ثم بين علة مجادلتهم بقوله تعالى: {ليدحضوا} أي: ليزيلوا {به الحق} أي: الذي جاءت به الرسل عليهم السلام {فأخذتهم} أي: أهلكتهم وهم صاغرون، وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال والباقون بالإدغام {فكيف كان عقاب} لهم أي: هو واقع موقعه وهم يمرون على ديارهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 ويرون أثرهم وهذا تقريع فيه معنى التعجب. تنبيه: حذفت ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى شيء من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد، ولما كان التقدير فحقت عليهم كلمة الله تعالى عطف عليه. {وكذلك} أي: ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ {حقت كلمة ربك} أي: المحسن إليك وهي {لأملأن جهنم} الآية {على الذين كفروا} لكفرهم، وقرأ نافع وابن عامر بألف بعد الميم على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد، وقوله: {أنهم أصحاب النار} في محل رفع بدل من {كلمة ربك} أي: مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ومعناها: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب هلاكهم بعذاب النار في الآخرة أو في محل نصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل ولما بين تعالى أن الكفار بالغوا في إظهار العداوة للمؤمنين بقوله: {ما يجادل في آيات الله} وما بعده، بين تعالى أن الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حوله يبالغون في إظهار المحبة والنصر للمؤمنين فقال تعالى: {الذين يحملون العرش} وهو مبتدأ وقوله: {ومن حوله} عطف عليه وقوله تعالى: {يسبحون} خبره {بحمد ربهم} أي: المحسن إليهم، قال شهر بن حوشب: حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على عفوك بعد قدرتك قال: وكأنهم يرون ذنوب بني آدم وقيل: إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى بأربعة أخر كما قال تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} (الحاقة: 17) وهم من أشراف الملائكة وأفضلهم لقربهم من محل رحمة ربهم قال ابن الخازن: وجاء في الحديث: أن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجه مخافة أن ينظر إلى العرش فيضعف وجناحان يهفو بهما في الهواء، ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد، ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء. وقال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرض والأرضون والسموات إلى حجزتهم وهم يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وقال ميسرة بن عرفة: أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها. وقال مجاهد: بين الملائكة والعرش سبعون ألف حجاب من نور وسبعون ألف حجاب من ظلمة. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» ، وأما صفة العرش فقيل: أنه من جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقاً. روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطائر المسرع ثلاثين ألف عام، ويكسي العرش كل يوم سبعين ألف لون من نور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى كلها، والأشياء كلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 في العرش كحلقة في فلاة، وقال مجاهد: بين السماء السابعة والعرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة. وقيل: إن العرش قبلة أهل السماء كما أن الكعبة قبلة أهل الأرض، وأما من حول العرش فهم الكروبيون وهم سادات الملائكة. قال وهب بن منبه: إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم على أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأحلمك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر، الخلق كلهم لك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى، ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلثمائة عام، وما بين شحمتي أذنيه إلى عاتقه أربعمائة عام، وقد احتجب الله عز وجل عن الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور وسبعين حجاباً من در أبيض وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من برد، وما لا يعلم علمه إلا الله تعالى، فسبحان من له هذا الملك العظيم. ولما كان تعالى لا يحيط به علماً أحد من خلقه أشار إلى أنهم مع قربهم كغيرهم لا فرق في ذلك بينهم وبين من في الأرض السفلى بقوله تعالى: {ويؤمنون به} لأن الإيمان إنما يكون بالغيب فهم يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له، فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {ويؤمنون به} ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ أجيب: بأن فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في غير موضع من كتابه بالصلاح، لذلك وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} فأبان بذلك فضل الإيمان ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف وكان أقرب ما يتقرب به إلى الملك لتقربه إلى أهل وده نبه سبحانه بقوله تعالى: {ويستغفرون} أي: يطلبون محو الذنوب عيناً وأثراً {للذين آمنوا} أي: أوقعوا هذه الحقيقة فهم يستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم، وفي ذلك تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعث على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ولا بين سماوي وأرضي قط، ولكن لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض قال تعالى: {ويستغفرون لمن في الأرض} (الشورى: 5) واستغفارهم بأن يقولوا {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره فهو معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل يستغفرون أو خبر بعد خبر {وسعت كل شيء رحمة وعلماً} أي: وسعت رحمتك كل شيء وعلمك كل شيء، فأزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم كأنَّ ذاته رحمة وعلم واسعان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 كل شيء، وأكثر ما يكون الدعاء بذكر الرب لأن الملائكة قالوا في هذه الآية وقال آدم عليه السلام: {ربنا ظلمنا أنفسنا} (الأعراف: 23) وقال نوح عليه السلام: {رب إن قومي كذبون} (الشعراء: 117) وقال: {رب اغفر لي ولوالدي} (إبراهيم: 41) وقال إبراهيم عليه السلام: {رب أرني كيف تحيي الموتى} (البقرة: 260) وقال: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} (البقرة: 128) وقال يوسف عليه السلام: {رب قد آتيتني من الملك} (يوسف: 101) وقال موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} (الأعراف: 143) وقال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} (القصص: 16) وقال سليمان عليه السلام: {رب اغفر لي وهب لي ملكاً} (ص: 35) وقال عيسى عليه السلام: {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} (المائدة: 114) وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} (المؤمنون: 97) ، فإن قيل: لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ رب بالدعاء؟ أجيب: بأن العبد يقول: كنت في العدم المحض والنفي الصرف فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك وإحسانك سبباً لإجابة دعائي {فاغفر للذين تابوا} أي: رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوها عيناً وأثراً فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها {واتبعوا} أي: كلفوا أنفسهم على مالها من العوج إن لزموا {سبيلك} المستقيم الذي لا لبس فيه. ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب وكان سبحانه وتعالى له أن يعذب من لا ذنب له وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا: {وقهم عذاب الجحيم} أي: اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم فإنك وعدت من كان كذلك بذلك ولا يبدل القول لديك وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء وإن الخلق عبيدك، ولما طلبوا من الله سبحانه وتعالى إزالة العذاب عنهم وكان ذلك لا يستلزم الثواب قالوا مكررين صفة الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان. {ربنا} أيها المحسن إلينا {وأدخلهم جنات عدن} أي: إقامة {التي وعدتهم} أي: إياها وقولهم: {ومن صلح} معطوف على هم في وعدتهم وقدموا قولهم: {من آبائهم} على قولهم: {وأزواجهم وذرياتهم} لأن الآباء أحق الناس بالإجلال وقدموا الأزواج في اللفظ على الذرية لأنهم أشد إلصاقاً بالشخص وطلبوا لهم ذلك لأن الإنسان لا يتم نعيمه إلا بأهله، قال سعيد بن جبير: يدخل الجنة المؤمن فيقول: أين أبي أين ولدي وزوجتي؟ فيقال له: إنهم لم يعملوا مثل عملك، فيقول: إني كنت أعمل لي ولهم، فيقال: أدخلوهم الجنة. {إنك أنت} أي: وحدك {العزيز} أي: فأنت تغفر لمن شئت {الحكيم} فكل فعلك في أتم مواضعه فلا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه. {وقهم السيئات} أي: بأن تجعل بينهم وبينها وقاية بأن تطهرهم من الأخلاق الحاملة عليها، فإن قيل: هذا مكرر مع قوله: {وقهم عذاب الجحيم} ؟ أجيب: بأن التفاوت حاصل من وجهين: أحدهما: أن يكون قولهم وقهم عذاب الجحيم دعاء مذكوراً للأصول وقولهم: وقهم السيئات دعاء مذكوراً للفروع وهم الآباء والأزواج والذريات، ثانيهما: أن يكون قوله: {وقهم عذاب الجحيم} مقصوراً على إزالة عذاب الجحيم وقوله: {وقهم السيئات} يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف يوم القيامة والسؤال والحساب، فيكون تعميماً بعد تخصيص وهذا أولى. وقال بعض المفسرين: إن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار عنهم بقولهم وقهم عذاب الجحيم، وطلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم: وأدخلهم جنات عدن، ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا من العقائد الفاسدة بقولهم وقهم السيئات. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 الميم والهاء، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم ثم قالت الملائكة: {ومن تق السيئات} أي: جزاءها كلها {يومئذ} أي: يوم تدخل فريقاً الجنة وفريقاً النار المسببة عن السيئات وهو يوم القيامة {فقد رحمته} أي: الرحمة الكاملة التي لا يستحق غيرها معها أن يسمى رحمة فإن تمام النعيم لا يكون إلا بها لزوال التحاسد والتباغض والنجاة من النار باجتناب السيئات ولذلك قالوا: {وذلك} أي: الأمر العظيم جداً {هو الفوز العظيم} أي: النعيم الذي لا ينقطع في جوار ملك لا تصل العقول إلى كنه عظمته وإجلاله هذا آخر دعاء الملائكة للمؤمنين، قال مطرف: أنصح عباد الله تعالى للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر أحوال المؤمنين عاد إلى ذكر أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله تعالى وهم المذكورون في قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} (غافر: 4) فقال تعالى مستأنفاً مؤكداً لإنكارهم آيات الله تعالى: {إن الذين كفروا} أي: أوقعوا الكفر ولو لحظة {ينادون} يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم: {لمقت الله} أي: الملك الأعظم إياكم {أكبر} والتقدير: لمقت الله لأنفسكم أكبر {من مقتكم أنفسكم} فاستغنى بذكرها مرة وقوله تعالى: {إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} منصوب بالمقت الأول والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله تعالى يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان يدعوكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر، أشد ما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن. وذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً؛ أولها: أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا. ثانيها: أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين يدعونهم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى: {اقتلوا أنفسكم} (النساء: 66) والمراد أن يقتل بعضكم بعضاً. ثالثها: قال محمد بن كعب: إذا خطبهم إبليس وهو في النار بقوله: ما كان لي عليكم من سلطان إلى قوله ولوموا أنفسكم، ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم. وأما الذين ينادون الكفار بهذا الكلام فهم خزنة جهنم، وعن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا لمقت الله أكبر، وقيل: معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله تعالى: {يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} (العنكبوت: 25) و {إذ تدعون} تعليل، والمقت: أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال فالمراد منه: أبلغ الإنكار وأشده، وعن مجاهد: مقتوا أنفسهم حين رأوا أعمالهم ومقت الله تعالى إياهم في الدنيا، إذ يدعون إلى الإيمان فيكفرون أكبر، وقال الفراء: معناه: ينادون إن مقت الله يقال: ناديت أن زيداً قائم وناديت لزيد قائم، وقرأ أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطاب: {قالوا ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا {أمتنا اثنتين} أي: إماتتين {وأحييتنا اثنتين} أي: إحيائتين، قال ابن عباس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 وقتادة والضحاك: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة الأولى التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما موتتان وحياتان وهو كقوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} (البقرة: 28) وقال السدي: أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم للمسألة ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا في الآخرة، وقيل: واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر ورد بأن الصعق ليس بموت وما في القبر ليس بحياة حتى يكون عنه موت وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصا على التسبيح والحجر على التسليم والضب على الشهادتين. {فاعترفنا بذنوبنا} أي: بكفرنا بالبعث {فهل إلى خروج} من النار إلى الدنيا فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك {من سبيل} أي: طريق ونظيره هل إلى مرد من سبيل، والمعنى: أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة، فإن قيل: الفاء في قوله تعالى: {فاعترفنا بذنوبنا} تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سبباً لهذا الاعتراف فما وجه هذه السببية؟ أجيب: بأنهم كانوا منكرين البعث فلما شاهدوا هذا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث، فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن تلك الإماتة والإحياء. ولما كان الجواب قطعاً لا سبيل إلى ذلك علله بقوله تعالى: {ذلكم} أي: القضاء النافذ العظيم العالي بتخليدكم في النار مقتاً منه لكم {بأنه} أي: كان بسبب أنه {إذا دُعي الله} أي: الملك الأعظم من أي داع وفي إعراب قوله تعالى {وحده} وجهان؛ أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال وجاز مع كونه معرفة لفظاً لكونه في قوة النكرة كأنه قيل: منفرداً، ثانيهما: وهو قول يونس: أنه منصوب على الظرف، والتقدير: دعي على حِدَته وهو مصدر محذوف الزوائد، والتقدير: أوحدته إيحاداً. {كفرتم} بتوحيده {وإن يشرك به} أي: يجعل له تعالى شريك {تؤمنوا} أي: تصدقوا بالإشراك {فالحكم} أي: فتسبب عن القطع بأنه لا رجعة وأن الكفار ما ضروا إلا أنفسهم مع ادعائهم العقول الراجحة ونحو ذلك أن الحكم كله {لله} أي: المحيط بصفات الكمال {العلي} أي: عن أن يكون له شريك {الكبير} أي: الذي لا يليق الكبر إلا له. ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك بقوله تعالى: {هو} أي: وحده {الذي يريكم} أي: بالصبر والبصيرة {آياته} أي: علاماته الدالة على تفرده بصفات الكمال وأنه لا يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصور شركاء لله عز وجل في العبودية، ومن آياته الدالة على كمال القدرة والعظمة قوله تعالى: {وينزل لكم من السماء} أي: جهة العلو الدالة على قهر ما نزل منها بإمساكه إلى حين الحكم بنزوله {رزقاً} أي: أسباب رزق كالمطر لإقامة أبدانكم لأن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان، والله تعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء، فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان وعند حصولهما يكمل الأنعام الكامل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {وما يتذكر} ذلك تذكراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 تاماً فيتعظ بهذه الآيات {إلا من ينيب} أي: يرجع إلى الله تعالى ويقبل بكليته إلى الله تعالى في جميع أموره فيعرض عن غير الله تعالى ولهذا قال عز من قائل: {فادعوا} وصرح بالاسم الأعظم فقال تعالى: {الله} الذي له صفات الكمال أي: فاعبدوه {مخلصين له الدين} أي: الأفعال التي يقع الجزاء عليها فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً، اجتهد في تصفية أعماله فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص {ولو كره} أي: الدعاء منكم {الكافرون} أي: السائرون لأنوار عقولهم. ولما ذكر تعالى من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات ذكر ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهي قوله تعالى: {رفيع الدرجات} وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع، وأن يكون المراد منه المرتفع، فإن حملناه على الأول ففيه وجهان: أولها: أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء، ثانيهما: يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجة معينة كما قال تعالى عنهم: {وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: 164) وجعل لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11) وعين لكل جسم درجة معينة، فجعل بعضها سفلية كدرة وبعضها فلكية وبعضها من جواهر العرش والكرسي، وأيضاً جعل لكل واحد مزية معينة في الخلق والخلق والرزق والأجل فقال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات} (الأنعام: 165) وجعل لكل واحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة، وفي الآخرة تظهر تلك الآثار وإن حملنا الرفيع على المرتفع فهو سبحانه وتعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال. تنبيه: في رفيع وجهان؛ أحدهما: أنه مبتدأ والخبر {ذو العرش} أي: الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو فهو محيط بجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان وعال بجلاله وعظمته عن كل ما يخطر في الأذهان وقوله تعالى: {يلقي الروح} أي: الوحي سماه روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. {من أمره} قال ابن عباس: أي: رضاه، وقوله: {يلقي} يجوز أن يكون خبراً ثانياً وأن يكون حالاً، ويجوز أن تكون الثلاثة أخباراً لقوله تعالى: {هو الذي يريكم آياته} . ولما كان أمره تعالى غالباً على كل أمر أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال تعالى: {على من يشاء} أي: يختار {من عباده} للنبوة وفي هذا دليل على أنها عطائية وقوله: {لينذر} أي: يخوف غاية الإلقاء والفاعل هو الله تعالى، أو الروح، أو من يشاء، أو الرسول. والمنذر به محذوف تقديره لينذر العذاب. {يوم التلاق} أي: يوم القيامة فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض، وقال مقاتل: يلتقي الخلق والخالق تعالى. وقال ميمون بن مهران: يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل: يلتقي العابدون والمعبودون. وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله والأولى أن تفسر الآية بما يشمل الجميع. {يوم هم بارزون} أي: خارجون من قبورهم وقيل: ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو شجر أو تلال أو غير ذلك، وقيل: بارزون كناية عن ظهور حالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى: {يوم تبلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 السرائر} (الطلاق: 9) والأولى أيضاً أن تفسر الآية بما يشمل الجميع كما قال تعالى: {لا يخفى على الله} أي: المحيط علماً وقدرة {منهم} أي: من أعمالهم وأحوالهم {شيء} وإن دق وخفي ويقول الله تعالى في ذلك اليوم بعد فناء الخلق {لمن الملك اليوم} أي: يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه فيقول تعالى: {لله} أي: الذي له جميع صفات الكمال ثم دل على ذلك بقوله تعالى: {الواحد} أي: الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسيمة ولا غيرهما {القهار} أي: الذي قهر الخلق بالموت، وقيل: يجيبونه بلسان الحال أو المقال فيقولون ذلك، وقال الرازي: لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يبعد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمعاً آخرين وليس على التعيين، فإن قيل: الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم؟ أجيب: بأنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله تعالى لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمون في الدنيا كما قال تعالى: {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون} (فصلت: 22) وقال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} (النساء: 108) وهو معنى قوله تعالى: {وبرزوا لله الواحد القهار} (إبراهيم: 48) ولما أخبر تعالى عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب أخبرهم بما يزيد رعبهم ويبعث رغبتهم وهو نتيجة تفرده بالملك فقال تعالى: {اليوم تجزى} أي: تقضى وتكافأ {كل نفس بما} أي: بسبب ما {كسبت} أي: عملت لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت إهمال أحد منهم فيجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {لا ظلم اليوم} أي: بوجه من الوجوه {إن الله} أي: التام القدرة الشامل للعلم {سريع الحساب} أي: بليغ السرعة فيه لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير ولا يشغله شأن عن شأن لأنه تعالى لا يحتاج إلى تكلف عدّ ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب ولا شيء، فكان في ذلك ترجية وخوف الفريقين لأن المؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب والظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، وعن ابن عباس: إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها. ثم نبه تعالى بقوله سبحانه: {وأنذرهم يوم الآزفة} أي: القيامة على أن يوم القيامة قريب، ونظيره قوله تعالى: {اقتربت الساعة} (القمر: 1) قال الزجاج: إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن ما هو كائن قريب، والآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا وحضر كقوله تعالى في صفة القيامة: {أزفت الآزفة} (النجم: 57) أي: قربت قال النابغة: *أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكان وقد* وقال كعب بن زهير: *بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا ... ولا أرى لشباب بائن خلفا* تنبيه: الآزفة: نعت لمحذوف مؤنث كيوم القيامة الآزفة أو يوم المجازاة الآزفة، قال القفال: وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة لأنها مرجع معناها على الداهية، ويوم القيامة له أسماء كثيرة تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله، منها يوم البعث وهو ظاهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 ومنها يوم التلاق لما مر ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه وخسرانه، وقيل: المراد بيوم الآزفة مشارفتهم دخول النار فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها من شدة الخوف، وقال أبو مسلم: هو يوم حضور الأجل فإن يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب. ولما ذكر تعالى اليوم هوَّل أمره بما يحصل فيه من المشاق بقوله تعالى: {إذ القلوب} أي: من كل من حضره ترتفع {لدى} أي: عند {الحناجر} أي: حناجر المجموعين فيه وهو جمع حنجور وهو الحلقوم يعني أنها زالت عن أماكنها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج. ثم أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال تعالى: {كاظمين} أي: ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً مكروبين فقد استدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم. ولما كان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك والشفاعات قال تعالى مستأنفاً: {ما للظالمين} أي: العريقين في الظلم {من حميم} أي: قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم مزيل لكروبهم {ولا شفيع يطاع} فيشفع لهم. تنبيه: احتج المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة عن المذنبين، فقالوا: نفي حصول شفيع لهم يطاع يوجب أن لا يحصل لهم هذا الشفيع وأجيبوا بوجوه؛ أولها: أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع كقولك ما عندي كتاب يباع، لا يقتضي نفي الكتاب فهذا ينفي أن لهم شفيعاً يطيعه الله تعالى ما من شفيع إلا من بعد إذنه، ثانيها: أن المراد بالظالمين في هذه الآية ههنا الكفار لأنها وردت في زجر الكفار قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13) ، ثالثها: أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق أو لا، فإن كان المراد: جميعهم فيدخل فيه الكفار، وعندنا أنه ليس لهذا الجمع شفيعاً لأن بعضه كفار وليس لهم شفيع، فحينئذ لا يكون لهذا الجمع شفيع، وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع. ولما أمر الله تعالى بإنذار يوم الآزفة وما يعرض فيه من شدة الغم والكرب وأن الظالم لا يجد من يحميه ولا يشفع له، ذكر اطلاعه على جميع ما يصدر من الخلق سراً وجهراً فقال تعالى: {يعلم خائنة الأعين} أي: خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهو الإشارة بالعين، قال أبو حيان: من كسر عين وغمز ونظر يفهم المراد. ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر أتبعه أخفى أفعال الباطن فقال تعالى: {وما تخفي الصدور} أي: القلوب فعلم من ذلك أن الله تعالى عالم بجميع أفعالهم لأن الأفعال على قسمين أفعال الجوارح وأفعال القلوب، فأما أفعال الجوارح فأخفاها خيانة الأعين والله تعالى عالم بها فكيف الحال في سائر الأعمال، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله عز وجل: {وما تخفي الصدور} (غافر: 19) وقوله تعالى: {والله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال {يقضي بالحق} أي: الثابت الذي لا ينتفي يوجب عظيم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى. ولما عول الكفار في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام بين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة فقال تعالى: {والذين يدعون} أي: يعبدون {من دونه} وهم الأصنام {لا يقضون} لهم {بشيء} من الأشياء أصلاً فكيف يكونون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 شركاء لله تعالى، وقرأ نافع وهشام تدعون بتاء الخطاب للمشركين والباقون بياء الغيبة إخباراً عنهم بذلك. ولما أخبر تعالى أنه لا فعل لشركائهم وأن الأمر له وحده قال تعالى مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكار ذلك {إن الله} أي: المنفرد بصفات الكمال {هو} أي: وحده {السميع} أي: لجميع أقوالهم {البصير} أي: بجميع أفعالهم، ففي ذلك تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه، فثبت أن الأمر له وحده فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كان أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيه فيشفع فيشفعه الله تعالى، فيفصل سبحانه وتعالى بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره جنته أو ناره. ولما أوعدهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة ممن تتبع الديار، والاعتبار بما كان لهم فيها من عجائب الآثار فقال عز من قائل: {أولم يسيروا في الأرض} أي: في أي أرض ساروا فيها {فينظروا} أي: نظر اعتبار كما هو شأن أهل البصائر {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الذين كانوا} أي: سكاناً للأرض عريقين في عمارتها {من قبلهم} أي: قبل زمانهم من الكفار كعاد وثمود {كانوا هم} أي: المتقدمون لما لهم من القوة الظاهرة والباطنة {أشد منهم} أي: من هؤلاء {قوة} أي: ذوات ومعاني وإنما جيء بالفصل وحقه أنه يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من المعرفة في امتناع دخول اللام عليه، وقرأ ابن عامر منكم بكاف والباقون بهاء الغيبة {و} أشد {آثاراً في الأرض} لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليه ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن ومع قوتهم {فأخذهم الله} أي: الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة {بذنوبهم} أي: بسببها {وما كان لهم} من شركائهم الذين ضلوا بهم هؤلاء ومن غيرهم {من الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال {من واق} أي: يقيهم عذابه والمعنى: أن العاقل من اعتبر بغيره وأن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء، ولما كذبوا رسلهم أهلكهم الله تعالى عاجلاً، وقرأ ابن كثير في الوقف بالياء بعد القاف والباقون بغير ياء واتفقوا على التنوين في الوصل. ثم ذكر تعالى سبب أخذهم بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأخذ العظيم {بأنهم} أي: الذين كانوا من قبل {كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} أي: الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها. ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب عبر بالماضي فقال تعالى: {فكفروا} أي: سببوا عن إتيان الرسل عليهم السلام إليهم الكفر بهم {فأخذهم الله} أي: الملك الأعظم أخذ غضب {إنه قوي} أي: متمكن مما يريد غاية التمكن {شديد العقاب} لا يؤبه بعقاب دون عقابه. ولما سلَّى تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر الكفار الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 كذبوا الأنبياء عليهم السلام قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: على ما لنا من العظمة {موسى بآياتنا} أي: الدالة على جلالنا {وسلطان} أي: أمر قاهر عظيم جداً لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه {مبين} أي: بين في نفسه يتبين لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول إلى أذاه مع ما له من القوة والسلطان. {إلى فرعون} أي: ملك مصر {وهامان} أي: وزيره {وقارون} أي: قريب موسى {فقالوا} أي: هؤلاء ومن معهم هو {ساحر} لعجزهم عن مقاهرته أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في النية، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلاً به لأنه لم يتب منه ثم وصفوه بقولهم: {كذاب} لخوفهم من تصديق الناس له. {فلما جاءهم بالحق} أي: بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً {من عندنا} على ما لنا من القهر فآمن معه طائفة من قومه {قالوا} أي: فرعون وأتباعه {اقتلوا} أي: قتلاً حقيقياً بإزالة الروح {أبناء الذين آمنوا} به أي: فكانوا {معه} أي: خصوهم بذلك واتركوا من عداهم فلعلهم يكذبونه {واستحيوا نساءهم} أي: اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن، قال قتادة: هذا غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث موسى عليه السلام أعاد القتل عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل لئلا ينشؤوا على دين موسى فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين فلهذا أمر بقتل الأبناء واستحياء نسائهم {وما} أي: والحال أنه ما {كيد الكافرين} تعميماً وتعليقاً بالوصف {إلا في ضلال} أي: مجانبة للسداد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أوليائه تعالى ما حفر أحد منهم لأحد منهم حفرة مكراً إلا أركسه الله تعالى فيها. {وقال فرعون} أي: أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله، وملأه ما رأى منه خوفاً دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً منه موهماً أن قومه هم الذين يردونه عنه وأنه لولا ذلك لقتله. {ذروني} أي: اتركوني على أي حالة كانت {أقتل موسى} وزاد في الإيهام للأغبياء والمناداة على نفسه عند البصراء بقوله: {وليدع ربه} أي: الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق، وقيل: كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى، وفي منعه من قتله وجوه؛ أولها: لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى عليه السلام صادقاً فيتحيل في منع فرعون من قتله، وثانيها: قال الحسن: إن أصحابه قالوا له: لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكن أن يغلب سحرنا فإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس ويقولون: إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه، وثالثها: أنهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب تلك الأقوام؛ لأن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من قبل ذلك الملك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وقرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالسكون. ثم ذكر فرعون السبب الموجب لقتل موسى عليه السلام وهو إما فساد الدين أو فساد الدنيا فقال: {إني أخاف} أي: إن تركته {أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} أي: لا بد من وقوع أحد الأمرين إما فساد الدين، وإما فساد الدنيا. أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو دينهم الذي كانوا عليه فلما كان موسى عليه السلام ساعياً في إفساده اعتقدوا أنه ساع في إفساد الدين الحق، وأما فساد الدنيا فهو أن يجتمع عليه أقوام ويصير ذلك سبباً في وقوع الخصومات وإثارة الفتن، وبدأ فرعون بذكر الدين أولاً لأن حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم. ولما توعد فرعون موسى عليه السلام بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن استعان بالله واعتمد على فضله كما قال تعالى: {وقال موسى إني عذت} أي: اعتصمت عند ابتداء الرسالة {بربي} ورغبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله: {وربكم} أي: المحسن إلينا أجمعين وأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا {من كل متكبر} أي: عات طاغ متعظم على الحق هذا وغيره {لا يؤمن} أي: لا يتجدد له تصديق {بيوم الحساب} من ربه له وهو يعلم أنه لا بد من حسابه هو لمن تحت يده من رعاياه وعبيده فيحكم على ربه بما لا يحكم به على نفسه، وبهذين الأمرين يقدم الإنسان على اتقاء الناس لأن المتكبر القاسي القلب قد يحمله طبعه عن إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقراً بالبعث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له عن الجري على موجب تكبره، فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء لأن المانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائل فلا جرم تعظم القسوة والإيذاء. واختلف في الرجل المؤمن في قوله تعالى: {وقال رجل مؤمن} أي: راسخ الإيمان {من آل فرعون} أي: من وجوههم ورؤسائهم {يكتم إيمانه} أي: يخفيه خفاء شديداً خوفاً على نفسه، فقال مقاتل والسدي: كان قبطياً ابن عم فرعون وهو الذي حكى الله تعالى عنه: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} (القصص: 20) ، وقيل: كان إسرائيلياً، وعن ابن عباس: لم يكن في آل فرعون غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى عليه السلام الذي قال: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون الذي قال {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله} (غافر: 28) والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم» . وعن جعفر بن محمد أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سراً وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه جهاراً {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله} وروي عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وقال له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ قال: أنا ذلك فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} فكان أبو بكر أشد من ذلك» . وعن أنس بن مالك قال: «ضربوا رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله قالوا: من هذا؟ قيل: هذا ابن أبي قحافة» . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وأكثر العلماء كان اسم الرجل حزقيل، وقال ابن إسحاق: جبريل، وقيل: حبيب. ولما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع فرعون وشره على الاستعاذة بالله تعالى، بين أنه تعالى قبض له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه، وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال: {أتقتلون رجلاً} أي: هو عظيم في الرجال حساً ومعنى ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال: {أن} أي: لأجل أن {يقول} قولاً على سبيل الإنكار {ربي} أي: المربي والمحسن إلي {الله} أي: الجامع لصفات الكمال {وقد} أي: والحال أنه قد {جاءكم بالبينات} أي: الآيات الظاهرات من غير لبس {من ربكم} أي: الذي لا إحسان عندكم إلا منه ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال: {وإن يك} أي: هذا الرجل {كاذباً فعليه} أي: خاصة {كذبه} أي: كان وبال كذبه عليه وليس عليكم منه ضرر فاتركوه {وإن يك صادقاً يصيبكم بعض الذي يعدكم} أي: العذاب عاجلاً وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً، فإن قيل: لم قال {بعض الذي يعدكم} وهو نبي صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله؟ أجيب: بأنه إنما قال ذلك ليهضم موسى بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له، وهذا أولى من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل، وأنشد قول لبيد: *تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو ترتبط بعض النفوس حمامها* وأنشد أيضاً قول عمرو بن سهم: d *قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل* وقال الآخر: *إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا* وقوله: {إن الله} أي: الذي له مجامع العظمة {لا يهدي} إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر {من هو مسرف} بإظهار الفساد وبتجاوز الحدود {كذاب} فيه احتمالان؛ أحدهما: أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليه السلام، والمعنى أن الله تعالى هدى موسى عليه السلام إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ومن هداه الله تعالى إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً، فدل على أن موسى عليه السلام ليس من المسرفين الكذابين، ثانيهما: أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى عليه السلام كذاب في ادعائه الإلهية والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره. ولما استدل مؤمن آل فرعون على أنه لا يجوز قتل موسى عليه السلام، خوف فرعون وقومه ذلك العذاب الذي توعدهم به في قوله: {يصيبكم بعض الذي يعدكم} فقال: {يا قوم} وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال: {لكم الملك} ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله: {اليوم} وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله: {ظاهرين} أي: عالين على بني إسرائيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 وغيرهم، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء وأهل الرخاء يتوقعون البلاء ونبه بقوله: {في الأرض} أي: أرض مصر على الاحتياج ترهيباً لهم وعرفها لأنها كالأرض كلها لحسنها وجمعها المنافع ثم حذرهم من سخط الله تعالى فقال: {فمن ينصرنا} أي: أنا وأنتم أدرج نفسه فيهم عند ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة. {من بأس الله} أي: الذي له الملك كله {إن جاءنا} أي: غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله تعالى بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد. ولما قال المؤمن هذا الكلام {قال فرعون} أي: لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن: {ما أريكم} من الآراء {إلا ما أرى} أي: إنه صواب على قدر مبلغ علمي ولا أرى لكم إلا ما أرى لنفسي، وقال الضحاك: ما أعلمكم إلا ما أعلم {وما أهديكم} أي: بما أشرت به عليكم من قتل موسى وغيره {إلا سبيل الرشاد} أي: الذي أرى أنه صواب لا أظهر شيئاً وأبطن غيره. ولما ظهر لهذا المؤمن أن فرعون ذل لكلامه ارتفع إلى أصرح من الأسلوب الأول كما أخبرنا الله تعالى بقوله: {وقال الذي آمن} أي: بعد قول فرعون هذا الكلام الذي دل على عجزه وجهله وذله {يا قوم} وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم اتهامه فقال: {إني أخاف عليكم} أي: من المكابرة في أمر موسى عليه السلام {مثل يوم الأحزاب} أي: أيام الأمم الماضية يعني وقائعهم وجمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم مع أن إفراده أردع وأقوى في التخويف وأفظع للإشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على إهلاكهم في أقل زمان. ولما أجمل فصل وبين أو أبدل بعد أن هول بقوله: {مثل دأب} أي: عادة {قوم نوح} أي: فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المجادلة والمقاومة لما يريدونه {وعاد وثمود} مع ما بلغكم من جبروتهم. تنبيه: لابد من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم. ولما كان هؤلاء أقوى الأمم اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال: {والذين من بعدهم} أي: بالقرب من زمانهم كقوم لوط {وما الله} أي: الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {يريد ظلماً للعباد} أي: فلا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ولا يهلكهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام وهو أبلغ من قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} (فصلت: 46) من حيث أن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم. ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر قال: {ويا قوم إني أخاف عليكم} وقوله: {يوم التناد} أجمع المفسرون أنه يوم البعث وفي تسميته بهذا الاسم وجوه؛ أولها: أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار كما حكى الله تعالى عنهم، ثانيها: قال الزجاج: هو قوله تعالى {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} (الإسراء: 71) ثالثها: ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والثبور فيقولون يا ويلنا. رابعها: ينادون إلى المحشر. خامسها: ينادى المؤمن {هاؤم اقرؤوا كتابيه} (الحاقة: 19) والكافر {يا ليتني لم أوت كتابيه} (الحاقة: 25) . سادسها: ينادى باللعنة على الظالمين. سابعها: يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار ثم ينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. ثامنها: ينادى بالسعادة والشقاوة إلا أن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً وفلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً وهذه الأمور كلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 تجتمع في هذا اليوم فلا بد من تسميته بها كلها. ولما كان عادة المتنادين الإقبال وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال تعالى مبدلاً أو مبيناً: {يوم تولون} أي: عن الموقف {مدبرين} قال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار وفروا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى أماكنهم فذلك قوله تعالى: {والملك على إرجائها} (الحاقة: 17) وقوله تعالى: {يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} (الرحمن: 33) وقال مجاهد: فارين من النار غير معجزين، وقيل: منصرفين عن الموقف إلى النار ثم أكد التهديد بقوله تعالى: {مالكم من الله} أي: الملك الجبار الذي لا يذل {من عاصم} أي: من فئة تحميكم وتنصركم وتمنعكم من عذابه. ثم نبه على قوة ضلالهم وشدة جهالتهم فقال تعالى: {ومن يضلل الله} أي: الملك المحيط بكل شيء {فما له من هاد} أي: إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه. تنبيه: في قراءة هاد ما تقدم في قوله: {من واق} (الرعد: 34) ولما قال لهم مؤمن آل فرعون: {ومن يضلل الله فما له من هاد} ذكر لهم مثالاً بقوله تعالى: {ولقد جاءكم} أي: جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد ومن أنهم على طبعهم لا سيما أن كانوا لم يفارقوا مساكنهم {يوسف} أي: نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام {من قبل} أي: قبل زمن موسى عليه السلام {بالبينات} أي: الآيات الظاهرات لا سيما في أمر يوم التناد {فما زلتم} أي: ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم {في شك} أي: محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن {مما جاءكم به} من التوحيد، وقال ابن عباس: من عبادة الله وحده لا شريك له فلم تنتفعوا البتة بتلك البينات ودل على تمادي شكهم بقوله تعالى: {حتى إذا هلك} فهو غاية أي: فما زلتم في شك حتى هلك {قلتم لن يبعث الله} أي: الذي له صفات الكمال {من بعده} أي: يوسف عليه السلام {رسولاً} أي: أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة، وهذا ليس إقراراً منهم برسالته بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته والتكذيب برسالة من بعده وقوله تعالى: {كذلك} خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر كذلك أو مثل هذا الضلال {يضل الله} أي: بما له من صفات القهر {من هو مسرف} أي: مشرك متغال في الأمور خارج عن الحدود {مرتاب} أي: شاك فيما تشهد به البينات بغلبة الوهم والانهماك في التقليد ثم بين تعالى ما لأجله بقوا في الشك والإسراف فقال سبحانه: {الذين يجادلون} وهو مبتدأ أي: يخاصمون خصاماً شديداً {في آيات الله} أي: المحيط بأوصاف الكمال لاسيما الآيات الدالة على يوم التناد فإنها أظهر الآيات، وكذا الآيات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل {بغير سلطان} أي: برهان {أتاهم} وقوله: {كبر} أي: جدالهم {مقتاً} خبر المبتدأ ويجوز في الذين أوجه أيضاً منها: أنه بدل من قوله تعالى: {من هو مسرف} وإنما جمع اعتباراً بمعنى من، ومنها: أن يكون بياناً له، ومنها: أن يكون صفة له وجمع على معنى من أيضاً، ومنها أن ينصب بإضمار أعني، وقال الزجاج قوله: {الذين يجادلون} تفسير لمسرف مرتاب يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي: في إبطالها بالتكذيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً {عند الله} أي: الملك الأعظم {و} كبر مقتاً أيضاً {عند الذين آمنوا} أي: الذين هم خاصته، ودلت الآية على أنه يجوز وصفه تعالى بأنه مقت بعض عباده إلا أنها صفة واجبة التأويل في حق الله تعالى كالغضب والحياء والعجب وقوله تعالى: {كذلك} أي: ومثل هذا الطبع العظيم {يطبع الله} أي: الذي له جميع العظمة يدل على أن الكل من عند الله كما هو مذهب أهل السنة {على كل قلب متكبر} أي: متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله {جبار} أي: ظاهر الكبر قويه قهار، وقال مقاتل: الفرق بين المتكبر والجبار أن المتكبر عن قبول التوحيد والجبار في غير الحق، قال الرازي: كما أن السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبار كالمضاد للشفقة على خلق الله، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان: بتنوين الباء الموحدة، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم: رأت عيني وسمعت أذني أو على حذف مضاف أي: على كل ذي قلب متكبر جبار فهي حينئذ مساوية لقراءة الباقين بغير تنوين ثم إن فرعون عليه اللعنة أعرض عن جواب المؤمن لأنه لم يجد فيه مطعناً. {وقال فرعون يا هامان} وهو وزيره {ابن} وعرفه بشدة اهتمامه بالإضافة إليه في قوله {لي صرحاً} أي: بناء مكشوفاً عالياً لا يخفى على الناظر وإن بعد، من صرح الشيء إذا ظهر {لعلي أبلغ الأسباب} أي: التي لا أسباب غيرها لعظمها، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي. ولما كان بلوغها أمراً عظيماً أورده على نمط مشوق إليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنه ليتشوف السامع إلى بنائه بقوله: {أسباب السموات} أي: الأمور الموصلة إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، وقرأ الكوفيون بسكون الياء والباقون بالفتح وقرأ {فاطلع} حفص بنصب العين وفيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جواب الأمر في قوله ابن لي فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله: *يا ناق سيري عنقاً فسيحاً ... إلى سليمان فنستريحا* وهذا أوفق لمذهب البصريين، ثانيها: قال أبو حيان: أنه منصوب على التوهم لأن خبر لعل جاء مقروناً بأن كثيراً في النظم وقليلاً في النثر، فمن نصب توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبراً منصوب بأن والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس، ثالثها: على جواب الترجي في لعل وهو مذهب كوفي وإلى هذا نحا الزمخشري وتبعه البيضاوي قال: وهو الأولى تشبيهاً للترجي بالتمني والباقون عطفاً على أبلغ أي: فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال يرصد فيه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه أو أن يرى فساد قول موسى، فإن أخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان وذلك لجهله بالله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 تعالى وكيفية أسبابه {وإني لأظنه} أي: موسى عليه السلام {كاذباً} في دعوى الرسالة وفي أن له إلهاً غيري قال فرعون: ذلك تمويهاً {وكذلك} أي: مثل ذلك التزيين العظيم الشأن {زين} أي: زين المزين النافذ الأمر وهو الله تعالى حقيقة بخلقه وإلزامه لأن كل ما دخل في الوجود من المحدثات فهو خلقه والشيطان مجازاً بالتسبب بالوسوسة التي هي بخلق الله تعالى {لفرعون سوء عمله} في جميع أمره فأقبل عليه راغباً فيه مع بعده عن عقل أقل ذوي العقول فضلاً عن ذوي الهمم منهم فضلاً عن الملوك وأطاعه فيه قومه وقرأ غير الكوفيين {وصد} بفتح الصاد أي: نفسه ومنع غيره، وقرأ الكوفيون بضمها أي: منعه الله تعالى {عن السبيل} أي: طريق الهدى وهي الموصلة إلى الله تعالى {وما كيد فرعون} أي: في إبطال ما جاء به موسى عليه السلام {إلا في تباب} أي: خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه. ولما كان فساد ما قال فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان أعرض المؤمن عنه: {وقال الذي آمن} أي: مشيراً إلى وهن قول فرعون بالإعراض عنه بقوله: {يا قوم} أي: يا من لا قيام لي إلا بهم وأنا غير متهم في نصيحتهم {اتبعوني} أي: كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان {أهدكم سبيل} أي: طريق {الرشاد} أي: الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد فلا يوصل إلا إلى النار فهو تعريض به شبيه بالتصريح به، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يخلي نفسه عن الوعظ لغيره، وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد النون وقفاً ووصلاً، وأثبتها قالون وأبو عمرو وصلاً لا وفقاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ثم إن ذلك المؤمن زهدهم في الدنيا وكرر: {يا قوم} كما كرر إبراهيم عليه السلام يا أبت زيادة في استعطافهم بقوله: {إنما هذه الحياة} وحقرها بقوله: {الدنيا} إشارة إلى دناءتها بقوله: {متاع} إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار النقلة والزوال والتزود والارتحال، والإخلاد إليها هو أصل الشر كله ومنه تشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله تعالى ويجلب الشقاوة في العاقبة ثم رغبهم في الآخرة بقوله: {وإن الآخرة} أي: لكونها مقصودة بالذات {هي دار القرار} أي: التي لا تحول منها أصلاً لأنها الوطن المستقر، قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن، وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فكان الترغيب في نعيم الجنان والترهيب من عذاب النيران من أعظم وجوه الترغيب والترهيب. والآية من الاحتباك ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً ثم قال ذلك المؤمن لقومه: {من عمل سيئة} أي: ما يسوء من أي صنف كان الذكور والإناث المؤمنين والكافرين {فلا يجزى} أي: من الملك الذي لا ملك سواه {إلا مثلها} عدلاً منه لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها {ومن عمل صالحاً} أي: ولو قل {من ذكر أو أنثى وهو} أي: والحال أنه {مؤمن} إذ لا يصح عمل بدون إيمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 {فأولئك} أي: العالو الرتبة والهمة {يدخلون الجنة} أي: بأمر من له الأمر كله بعد أن تضاعف لهم أعمالهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء {يرزقون فيها} أي: الجنة من غير احتياج إلى تحيل ولا إلى أسباب {بغير حساب} لخروج ما فيها لكثرته عن الحصر فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، وهذا من باب الفضل وفضل الله لا حد له ورحمته غلبت غضبه، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم، قال الأصبهاني: فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد بسبق الرحمة الغضب فانهدمت قواعد المعتزلة ثم كرر الوعظ عليهم بقوله: {ويا قوم ما} أي: أي شيء من الحظوظ والمصالح {لي} في أني {أدعوكم إلى النجاة} والجنة شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم {وتدعونني إلى النار} والهلاك بالكفر فالآية من الاحتباك، ذكر النجاة الملازمة للإيمان أولاً دليلاً على حذف الهلاك الملازم للكفران ثانياً والنار ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بفتح ياء مالي والباقون بسكونها واتفقوا على سكون الياء من تدعونني. ولما أخبر ذلك المؤمن بقلة إنصافهم إجمالاً بينه بقوله: {تدعونني} أي: توقعون دعائي إلى معبوداتكم {لأكفر} أي: لأجل أن أكفر {بالله} الذي له مجامع القهر والعز والعظمة والكبرياء {وأشرك به} أي: أجعل له شريكاً {ما ليس لي به} أي: بربوبيته {علم} أي: نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك، فالمراد بنفي العلم نفي الإله كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله. ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بقوله: {وأنا أدعوكم} أي: أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده {إلى العزيز} أي: البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة، وقرأ نافع وأنا بالمد بعد النون، وقالون يمد ويقصر وورش بالمد لا غير والباقون بغير مد. وقوله: {الغفار} أي: الذي يتكرر منه دائماً محو الذنوب عيناً وأثراً إشارة إلى أنهم يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله تعالى بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة فإن الإله العالم وإن كان عزيزاً لا يغلب قادراً لا يعارض لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة وقوله: {لا جرم} رد لما دعوه إليه وجرم فعل بمعنى حق وفاعله {أنما} أي: الذي {تدعونني إليه} من هذه الأنداد {ليس له دعوة} بوجه من الوجوه فإنه لا إدراك له هذا إن أريد ما لا يعقل وإن أريد شيء مما يعقل فلا دعوة له مقبولة بوجه فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة {في الدنيا} أي: التي هي محل الأسباب الظاهرة {ولا في الآخرة} أي: ليس له استجابة دعوة فيهما فسمى استجابة الدعوة دعوة إطلاقاً لاسم أحد المتضايفين على الآخر كقوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) وكقولهم: «كما تدين تدان» ، وقيل: ليس له دعوة أي: عبادة في الدنيا لأن الأوثان لا تدعي الربوبية ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 تتبرأ من عابديها ثم قال: {وأن مردنا} أي: مرجعنا {إلى الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال فيجازي كل أحد بما يستحقه {وأن المسرفين} أي: المجاوزين للحدود الغريقين في هذا الوصف، قال قتادة: وهم المشركون لقوله تعالى: {هم} أي: خاصة {أصحاب النار} أي: ملازموها، وعن مجاهد: هم السفاكون للدماء بغير حلها، وقيل: الذين غلب شرهم هم المسرفون. ولما بالغ هذا المؤمن في هذا الشأن ختم كلامه بخاتمة لطيفة هي قوله: {فستذكرون} أي: قطعاً بوعد لا خلف فيه مع القرب {ما أقول لكم} حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي أو لم تقبلوه. ولما خوفهم بذلك توعدوه وخوفوه بالقتل فعوّل في دفع تخويفهم وكبرهم ومكرهم على الله تعالى بقوله: {وأفوض} أي: أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله {أمري} أي: فيما تمكرونه بي {إلى الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً فهو يحمي منكم من شاء وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام حين خوفه فرعون بالقتل فرجع موسى عليه السلام في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال: إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.Y ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة علل ذلك بقوله: {إن الله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {بصير} أي: بالغ العلم {بالعباد} ظاهراً وباطناً فيعلم من يستحق النصرة فينصره لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة، قال مقاتل: فلما قال هذه الكلمات قصدوا قتله. {فوقاه الله} أي: حصل له وقاية تنجيه منهم جزاء على تفويضه {سيئات} أي: شدائد {ما مكروا} ديناً ودنيا فنجاه مع موسى عليه السلام، قال قتادة: وكان قبطياً تصديقاً لوعده سبحانه بقوله تعالى: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} (القصص: 35) ولما كان المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله قال تعالى: {وحاق} أي: نزل محيطاً بعد إحاطة الإغراق {بآل فرعون} أي: فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم هذا إن قلنا أن الآل مشترك بين الشخص وأتباعه وإن لم نقل ذلك فالإحاقة بفرعون من باب أولى لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه {سوء العذاب} أي: الغرق في الدنيا والنار في الآخرة، فإن قيل: قوله تعالى: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} معناه: أنه رجع إليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً، فإذا فسر سوء العذاب بالغرق في الدنيا ونار جهنم في الآخرة لم يكن مكرهم راجعاً إليهم لأنهم لا يعذبون بذلك؟ أجيب: بأنهم هموا بشر فأصابهم ما وقع عليه اسم السوء ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه وقوله تعالى: {النار} في إعرابه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه بدل من سوء العذاب، قاله الزجاج، ثانيها: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو أي: سوء العذاب النار لأنه جواب لسؤال مقدر وقوله تعالى: {يعرضون} على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من النار وأن يكون حالاً من آل فرعون، ثالثها: أنه مبتدأ وخبره يعرضون {عليها غدواً وعشياً} أي: صباحاً ومساء، قال ابن مسعود: أرواح آل فرعون في أجواف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار ويقال: يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة. وقال قتادة: تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشياً ما دامت الدنيا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى يوم القيامة» . ثم أخبر الله تعالى عن مستقر آل فرعون يوم القيامة بقوله سبحانه وتعالى: {ويوم تقوم الساعة} يقال لهم: {أدخلوا آل} أي: يا آل {فرعون} أي: هو بنفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به {أشد العذاب} وهو عذاب جهنم، أجارنا الله تعالى نحن وأحباءنا منها فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم، وهذه الآية نص على إثبات عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الخاء وصلاً وابتداء على أمر الملائكة بإدخالهم النار، والباقون بوصل الهمزة وضم الخاء وصلاً في الابتداء بضم الهمزة واختلف في العامل في قوله تعالى: {وإذا} على ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه معطوف على غدواً فيكون معمولاً ليعرضون على النار في هذه الأوقات كلها، قاله أبو البقاء، ثانيها: أنه معطوف على قوله إذا القلوب لدى الحناجر قاله الطبري ونظر فيه لبعد ما بينهما، وثالثها: أنه منصوب بإضمار اذكر أي: واذكر يا أشرف الخلق لقومك إذ {يتحاجون} أي: الكفار {في النار} أي: يتخاصمون فيها أتباعهم ورؤساؤهم مما لا يغنيهم {فيقول الضعفاء} أي: الأتباع {للذين استكبروا} أي: طلبوا أن يكونوا كبراءهم الرؤساء {أنا كنا لكم} أي: دون غيركم {تبعاً} أي: أتباعاً فتكبرتم على الناس بنا {فهل أنتم} أيها الكبراء {مغنون} أي: كافون ومجزئون وحاملون {عنا نصيباً من النار} . تنبيه: تبعاً اسم جمع لتابع ونحوه خادم وخدم، قال البغوي: والتبع يكون واحداً وجمعاً في قول أهل البصرة واحده تابع، وقال الكوفيون: هو جمع لا واحد له وجمعه أتباع، وقيل: إنه مصدر واقع موقع اسم الفاعل أي: تابعين، وقيل: مصدر ولكنه على حذف مضاف أي: ذوي تبع ونصيباً منصوب بفعل مقدر يدل عليه قولهم مغنون وتقديره: هل أنتم دافعون عنا نصيباً، وقيل: منصوب على المصدر، قال البقاعي: كما كان شيئاً كذلك ألا ترى إلى قوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} في موضع غني فكذلك نصيباً ومن النار صفة لنصيباً. {قال الذين استكبروا} أي: من شدة ما هم فيه {إنا كل} أي: نحن وأنتم {فيها} فكيف نغني عنكم ولو قدرنا أغنينا عن أنفسنا {إن الله} أي: المحيط بأوصاف الكمال {قد حكم} بالعدل {بين العباد} أي: فأدخل أهل الجنة دارهم وأهل النار دارهم فلا يغني أحد عن أحد شيئاً فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون كلهم إلى خزنة جهنم يسألونهم كما حكى الله عنهم بقوله سبحانه وتعالى: {وقال الذين في النار} أي: جميعاً الأتباع والمتبوعون {لخزنة جهنم} أي: لخزنتها فوضع جهنم موضع المضمر للتهويل أو لبيان محلهم فيها، قال البيضاوي: ويحتمل أن تكون جهنم أبعد دركاتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 من قولهم بئر جهنام أي: بكسر الجيم والهاء وتشديد النون بعيد القعر، وقال بعض أهل اللغة: هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ سميت بذلك: لغلظ عذابها وهي عجمية منعت من الصرف للتعريف والعجمة، وقيل: عربية ومنعت من الصرف للتعريف والتأنيث {ادعوا ربكم} أي: المحسن إليكم بأنكم لا تجدون ألماً من النار {يخفف عنا يوماً} أي: قدر يوم {من العذاب} أي: شيئاً، فيوماً ظرف ليخفف ومفعول يخفف محذوف أي: يخفف عنا شيئاً من العذاب في يوم ويجوز أن يكون من العذاب هو المفعول ليخفف ومن تبعيضية ويوماً ظرفاً، سألوا أن يخفف عنهم بعض العذاب لا كله في يوم ما لا في كل يوم ولا في يوم معين. {قالوا} أي: الخزنة لهم {أولم تك تأتيكم} على سبيل التجدد شيئاً في أثر شيء {رسلكم} أي: الذين هم منكم وأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم لأن الجنس إلى الجنس أميل والإنسان من مثله أقبل {بالبينات} أي: التي لا شيء أوضح منها أرادوا بذلك إلزامهم الحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها وكذلك رسلنا ورسلهم {قالوا} أي: الكفار {بلى} أي: أتونا كذلك {قالوا} أي: الخزنة لهم {فادعوا} أي: أنتم فإنا لا نشفع لكافر {وما دعاء الكافرين} أي: الذين ستروا مرأى عقولهم عن أنوار الحق {إلا في ضلال} أي: ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا كذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة، من زرع شيئاً في الدنيا حصده في الآخرة والآخرة ثمرة الدنيا لا تثمر إلا من جنس ما غرس في الدنيا وفي هذا إقناطهم عن الإجابة. ولما ذكر تعالى وقاية موسى عليه السلام وذلك المؤمن من مكر فرعون وقومه منّ بقوله تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {لننصر رسلنا} أي: على من عاداهم {والذين آمنوا} أي: اتسموا بهذا الوصف {في الحياة الدنيا} أي: بإلزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة وإن غلبوا في بعض الأحيان، فإن العاقبة تكون لهم ولو بأن يقيض الله تعالى لأعدائهم من يقتص منهم ولو بعد حين وقل أن يتمكن أعداؤهم من كل ما يريدون منهم {ويوم يقوم الأشهاد} وهو جمع شاهد كصاحب وأصحاب والمراد بهم: من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب، وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء: 41) وأما المؤمنون فقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 143) وقوله تعالى: {يوم} بدل من يوم قبله أو بيان له أو نصب بإضمار أعني يوم {لا تنفع الظالمين} أي: الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير موضعها {معذرتهم} أي: اعتذارهم، فإن قيل: هذا يدل على أنهم يذكرون الأعذار ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف هذا مع قوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 36) أجيب: بأن هذا لا يدل على أنهم ذكروا الاعتذار بل ليس فيه إلا أن ليس عندهم عذر مقبول، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر، وقرأ نافع والكوفيون بالياء التحتية والباقون بتاء الخطاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 {ولهم} أي: خاصة {اللعنة} أي: البعد عن كل خير مع الإهانة بكل ضير {ولهم} أي: خاصة {سوء الدار} أي: الآخرة أي: أشد عذابها. ولما بين تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال تعالى: {ولقد آتينا} أي: بما لنا من العزة {موسى الهدى} أي: ما يُهتَدَى به في الدنيا من المعجزات والصحف والشرائع {وأورثنا} أي: بما لنا من العظمة {بني إسرائيل} أي: بعدما كانوا فيه من الذل {الكتاب} أي: الذي أنزلناه عليه وآتيناه الهدى به وهو التوراة إيتاء هو الإرث لا ينازعهم فيه أحد توارثوه خلفاً عن سلف ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم وأورثناه لهم من بعد موسى عليه السلام حال كونه. {هدى} أي: بياناً عاماً لكل من تبعه {وذكرى} أي: عظة عظيمة {لأولي الألباب} أي: القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية. ولما بين تعالى أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى عليه السلام خاطب بعد ذلك محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فاصبر} أي: يا أشرف الخلق على أذى قومك كما صبر موسى عليه السلام على أذى فرعون {إن وعد الله} أي: الذي له الكمال كله {حق} أي: في إظهار دينك وإهلاك أعدائك قال الكلبي: نسخت آية القتل آية الصبر، وقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} إما أن يكون المصدر مضافاً للمفعول أي: لذنب أمتك في حقك، وإما أن يكون ذلك تعبداً من الله تعالى ليزيده به درجة وليصير سنة يستن به من بعده {وسبح بحمد ربك بالعشي} هو من بعد الزوال {والإبكار} قال الحسن رضي الله عنه: يعني صلاة العصر وصلاة الفجر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الصلوات الخمس وذلك أن العشي من زوال الشمس إلى غروبها والإبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولما ابتدأ بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على الترتيب المتقدم إلى هنا نبه تعالى على الماهية التي تحمل الكفار على تلك المجادلة فقال تعالى: {إن الذين يجادلون} أي: يناصبون العداوة {في آيات الله} أي: الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا {بغير سلطان} أي: برهان {أتاهم أن} أي: ما {في صدورهم} أي: بصدهم عن سواء السبيل، قال ابن عادل: ما حملهم على تكذيبك {إلا كبر} أي: تكبر عن الحق وتعظم عن التفكير والتعلم وآذن ذكر الصدور دون القلوب بعظمه جداً فإنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها {ما هم ببالغيه} قال مجاهد: ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى مذلهم، وقال ابن قتيبة: إن في صدورهم إلا كبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك، قال المفسرون: نزلت في اليهود وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم «إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك علينا» قال الله تعالى: {فاستعذ} أي: اعتصم {بالله} أي: المحيط بكل شيء من فتنة الدجال ومن كيد من يحسدك ويبغى عليك وغير ذلك كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك به كما أنجز له ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنه هو} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 وحده {السميع} أي: لأقوالهم {البصير} أي: لأفعالهم. ولما وصف تعالى جدالهم في الآيات بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً فقال: {لخلق السموات} أي: على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها {والأرض} أي: على ما ترون من عجائبها وكثرة منافعها {أكبر} عند كل من يعقل {من خلق الناس} أي: خلق الله تعالى لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه مع عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم {ولكن أكثر الناس} وهم الذين ينكرون البعث وغيره {لا يعلمون} أي: لا علم لهم أصلاً بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم. تنبيه: تقدير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام؛ أحدها: أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد. ثانيها: أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله فهذا الاستدلال صحيح لما ثبت في الأصول أن حكم الشيء حكم مثله. ثالثها: أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل قدر على الأقل الأرذل بالأولى، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل البتة ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السموات والأرض هو الله تعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب، ثم إن هذا البرهان على قوته صار لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منه: الذين ينكرون الحشر والنشر فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ولا حجة بل بمجرد الحسد والكبر والغضب. ثم لما بين تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون وإن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون نبه تعالى على الفرق بين البيانين بذكر مثال فقال تعالى: {وما يستوي} أي: بوجه من الوجوه من حيث البصر {الأعمى والبصير} أي: وما يستوي المستدل والجاهل المقلد {والذين آمنوا} أي: أوجدوا حقيقة الإيمان {وعملوا الصالحات} أي: تحقيقاً لإيمانهم {ولا المسيء} أي: وما يستوي المحسن والمسيء فلا زائدة للتوكيد لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد قسم المؤمنين أعاد معه لا توكيداً، والمراد بالأول: التفاوت بين العالم والجاهل، وبالثاني: التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة. ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه قال تعالى: {قليلاً ما يتذكرون} أي: يتعظ المجادلون وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون، فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عمل صالح أو فاسد. تنبيه: التقابل يأتي على ثلاث طرق؛ إحداها: أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية. والثانية: أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى: {مثل الفريقين} كالأعمى والأصم والبصير والسميع. الثالثة: أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور} (فاطر: 19 ـ 20) كل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب أو الالتفات للمذكورين بعد الإخبار عنهم، أو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة، والباقون بياء الغيبة نظراً لقوله تعالى: {إن الذين يجادلون} وهم الذين التفت إليهم في قراءة الخطاب. ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة أردفه بالإخبار عن وقوعها فقال تعالى: {إن الساعة} أي: القيامة التي يجادل فيها المجادلون {لآتية} أي: للحكم بالعدل بين المسيء والمحسن لأنه لا يسوغ في الحكمة عند أحد من الخلق أن يساوي بين محسن عبيده ومسيئهم {لا ريب} أي: لا شك {فيها} أي: في إتيانها. ولما حصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} أي: لا يصدقون بها وما ذاك إلا لعناد بعضهم ولقصور نظر الباقين على الحس. تنبيه: يأتي قبل قيام الساعة فتن أعظمها فتنة المسيح الدجال فعن هشام بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بين خلق آدم عليه السلام إلى قيام الساعة أكبر من خلق الدجال» . معناه أكبر فتنة وأعظم شوكة من الدجال، وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: «إنه أعور عين اليمنى كأنها عنبة طافية» ولأبي داود والترمذي عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله تعالى بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: «إني أنذركموه وما من نبي إلا أنذر قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه تعلمون إنه أعور والله سبحانه ليس بأعور» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من نبي إلا وأنذر قومه وأمته الأعور الدجال ألا وأنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية مسلم: «بين عينيه ك ف ر يقرؤه كل مسلم» . وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال فقال: «إن بين يديه ثلاثة سنين سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله فلا تبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلكت، ومن أشد فتنته أن يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم إني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له مثل إبله كأحسن ما تكون ضروعاً وأسنمة، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول: إن أحييت لك أباك وأحييت لك أخاك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه قالت: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم فأخذ بلحمتي الباب فقال: مهيم أسماء قلت: يا رسول الله قد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال: إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه وإلا فربي خليفتي على كل مؤمن، قالت: فقلت يا رسول الله: إنا لنعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين حينئذ؟ قال: يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس» . وروى البغوي بسنده عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة في النار» انتهى. والذي جاء في صحيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 مسلم قالت: قلت يا رسول الله ما مكثه في الأرض؟ قال: «أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدراً، قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح» . وفي رواية أبي داود: «فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته» ومنه: «ثم ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله» وعن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن مع الدجال إذا خرج ماء وناراً، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء بارد وأما الذي يرى الناس أنه ماء فنار تحرق، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى الناس أنه نار فإنه ماء عذب بارد» . وعن أبي هريرة: «ألا أحدثكم حديثاً عن الدجال ما حدث به نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة والنار فالتي يقول: إنها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه» وعن المغيرة بن شعبة قال: «ما سأل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر ما سألته وأنه قال لي: ما يضرك قلت إنهم يقولون: أن معه جبال خبز ونهر ماء قال: هو أهون على الله من ذلك» . أي: أهون على الله من أن يجعل ما خلق الله بيده مضلاً للمؤمنين ومشككاً لقلوبهم، بل إنما جعله الله تعالى ليزدادوا إيماناً وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين، وليس معناه ليس معه شيء من ذلك لما مر في الحديث أن معه ماء وناراً وذكر فيه أحاديث كثيرة، وفي هذا القدر تذكرة لأولي الألباب أجارنا الله تعالى وأحبابنا من فتنته آمين. ولما بين تعالى أن القول بالقيامة حق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله والتضرع إليه لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات. ولما كان أشق أنواع الطاعات الدعاء والتضرع لا جرم أمر الله تعالى به فقال سبحانه: {وقال ربكم} أي: المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة {ادعوني} أي: اعبدوني دون غيري {أستجب لكم} أي: أثبكم وأغفر لكم بقرينة قوله تعالى: {إن الذين يستكبرون} أي: يوجدون الكبر {عن عبادتي} أي: عن الاستجابة لي فيما دعوت إليه من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي {سيدخلون} أي: بوعد لا خلف فيه {جهنم} فتلقاهم جزاء على كفرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة {داخرين} أي: صاغرين حقيرين ذليلين وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلته للمبالغة والمراد بالعبادة: الدعاء فإنه من أبوابها، روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء مخ العبادة» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه» ، فإن قيل: أنه صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن ربه عز وجل: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فهذا يقتضي أن ترك الدعاء أفضل فكيف من لم يسأل الله يغضب؟ أجيب: بأنه إن كان مستغرقاً في الثناء على الله تعالى فهو أفضل من الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة والاستغراق في معرفة الله تعالى وجلاله أفضل من طلب الجنة وإلا فالدعاء أفضل، وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ الآية، فإن قيل: كيف قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} وقد يدعو الإنسان كثيراً فلا يستجاب له؟ أجاب الكعبي: بأن الدعاء إنما يصح بشرط ومن دعا كذلك أستجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال: إن الله تعالى يفعل ما هو الأصلح بغير دعاء فما فائدة الدعاء وأجاب عنه بأن فيه الفزع والانقطاع إلى الله تعالى، وأجاب الرازي عن الأول: بأن كل من دعا الله تعالى وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأصدقائه واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله تعالى إلا باللسان وأما القلب فهو يعول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله تعالى، فهذا إنسان ما دعا ربه وأما إذا دعا في وقت لا يكون القلب فيه ملتفتاً إلى غير الله تعالى فالظاهر أنه يستجاب له، وقال القشيري: الدعاء مفتاح الإجابة وأسنانه لقمة الحلال، وقرأ ابن كثير وشعبة بضم ياء سيدخلون وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء. ولما أمر الله تعالى بالدعاء فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القادر فقال تعالى مفتتحاً بالاسم الأعظم: {الله} أي: المحيط بصفات الكمال {الذي جعل لكم} لا غيره {الليل} أي: مظلماً {لتسكنوا فيه} راحة ظاهرة بالنوم الذي هو الموت الأصغر وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة {والنهار مبصراً} لتنظروا فيه باليقظة التي هي إحياء بالمعنى، فالآية من الاحتباك حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في نفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل للراحة لمن أرادها والعبادة لمن اعتمدها واستزادها، فإن قيل: هلا قيل بحسب رعاية النظم: هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال جعل لكم الليل ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك فما الحكمة فيه وفي تقديم ذكر الليل؟ أجيب عن الأول: بأن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات وأما النور واليقظة فأمور وجودية مقصودة بالذات، وقد بين الشيخ عبد القادر في دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفرق، وأجيب عن الثاني: بأن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود فلهذا السبب قال تعالى في سورة الأنعام {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1) . {إن الله} أي: ذا الجلال والإكرام {لذو فضل} أي: عظيم جداً باختياره {على الناس} أي: كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} الله فلا يؤمنون وينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً ويعلمون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس} ولم يقل ولكن أكثرهم ولا يكرر ذكر الناس؟ أجيب: بأن في هذا التكرار تخصيصاً لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله تعالى ولا يشكرونه كقوله تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم: 34) ولما بين تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال تعالى: {ذلكم} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 أيها المخاطبون {الله} أي: الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه فيها أحد {ربكم} أي: المربي لكم المحسن إليكم {خالق كل شيء} أي: بما ثبت من تمام قدرته لأنه {لا إله إلا هو} أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية فهي أخبار مترادفة وإذا كان خالق كل شيء {فأنى} أي: فكيف ومن أي وجه {تؤفكون} أي: تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. {كذلك} أي: مثل هذا الصرف البعيد عن مناهج العقلاء {يؤفك} أي: يصرف {الذين كانوا} أي: مطبوعين على أنهم {بآيات الله} أي: ذي الجلال والكمال {يجحدون} أي: ينكرون عناداً ومكابرة. ولما كان دلائل وجوده تعالى إما أن تكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام وذكر منها أحوال الليل والنهار كما تقدم، ذكر أيضاً منها ههنا الأرض والسماء فقال تعالى: {الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء {الذي جعل} أي: وحده {لكم الأرض} أي: مع كونها فراشاً ممهداً {قراراً} مع كونها في غاية الثقل ولا ممسك لها سوى قدرته {والسماء} أي: على علوها وسعتها مع كونها أفلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل والنهار والأظلام {بناء} مظلة كالقبة من غير عماد وحامل. ثم ذكر دلائل النفس وهي دلالة أحوال بدن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم بقوله تعالى: {وصوركم} والتصوير على غير نظام واحد لا يكون إلا بقدرة قادر تام القدرة مختار {فأحسن صوركم} على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها لم يخلق الله تعالى حيواناً أحسن صورة من الإنسان كما قال تعالى: {في أحسن تقويم} (التين: 4) قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الإنسان قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده وغير ابن آدم يتناول بفيه. ولما ذكر تعالى المساكن والساكن ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال سبحانه {ورزقكم من الطيبات} أي: الشهية الملائمة للطباع وقيل: هو ما خلق الله تعالى لعباده من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب، وعن الحسن: أنه قال لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام: إن الأرض لا تسعهم قال الله تعالى: فإني جاعل موتاً، قالوا: إذاً لا يهنأ لهم العيش قال تعالى: فإني جاعل أملاً. ولما دل هذا على التفرد قال تعالى على وجه الإنتاج {ذلكم} أي: الرفيع الدرجات {الله} أي: المالك لجميع الملك {ربكم} أي: المحسن إليكم لا غيره {فتبارك} أي: ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض {الله} المختص بالكمال {رب العالمين} كلهم فهو المحسن إليهم بالتربية وغيرها. ثم نبه تعالى بقوله سبحانه: {هو الحي} بما يفيد الحصر بأنه لا حي على الدوام إلا هو ثم نبه تعالى على وحدانيته بقوله سبحانه: {لا إله إلا هو} ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال تعالى: {فادعوه} أي: اعبدوه {مخلصين له الدين} أي: من كل شرك جلي أو خفي. ولما كان تعالى موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له: {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي: المسمى بهذا الاسم الجامع لمجامع معاني الأسماء الحسنى {رب العالمين} أي: الذي رباهم هذه التربية، وقال الفراء: هو خبر وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحمدوه، وعن ابن عباس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 رضي الله عنهما: من قال لا إله إلا الله فليقل: على أثرها الحمد لله رب العالمين. ولما أورد على المشركين تلك الأدلة الدالة على إثبات إله العالم أمره بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء الذين يجادلونك في البعث مقابلاً لإنكارهم بالتوكيد {إني نهيت} أي: ممن لا نهي لغيره نهياً عاماً ببراهين العقول ونهياً خاصاً بأدلة النقل {أن أعبد الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: الذي له الكمال كله، قال البقاعي: ودل على أنه ما كان متعبداً قبل البعثة بشرع أحد بقوله: {لما جاءني البينات} أي: الحجج وهي ما تقدم من الدلائل الدالة على أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا له وأما الأحجار المنحوتة والأخشاب المصورة فلا تصح أن تكون شركاء له. ثم نبه على أنه تعالى كما يستحق الإفراد بالعبادة لذاته يستحقها شكراً لإحسانه بقوله: {من ربي} أي: المربي لي تربية خاصة هي أعلى من كل مخلوق سواي فأنا أعبده عبادة تفوق عبادة كل عابد. ولما أمره بما ينهى عنه أمره بما يتحلى به فقال: {وأمرت أن أسلم} أي: حين دعي إلى الكفر {لرب العالمين} لأن كل ما سواه مربوب له فالإقبال عليه خسار وإذا نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر بهذا لكون الآمر والناهي هو رب العالمين كان غيره مشاركاً له في ذلك لا محالة. ولما استدل تعالى على إثبات الإلهية بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهار والأرض والسماء، ثم ذكر الليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان؛ أحدهما: حسن الصورة ورزق الطيبات، ذكر النوع الثاني: وهو كيفية تكوين البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فقال تعالى: {هو} أي: لا غيره {الذي خلقكم من تراب} أي: بخلق أبيكم آدم عليه السلام منه، قال الرازي: وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية كلها منتهية إلى النبات، والنبات إنما يكون من التراب والماء، فثبت أن كل إنسان متكون من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفة كما قال تعالى: {ثم من نطفة} أي: من مني {ثم من علقة} أي: دم غليظ متباعد حاله عن حال النطفة كما كان حال النطفة متباعداً عن حال التراب {ثم} بعد أن جرت شؤون أخرى {يخرجكم} أي: يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء {طفلاً} أي: أطفالاً والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً {ثم} يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال {لتبلغوا أشدكم} أي: تكامل قوتكم من الثلاثين سنة إلى الأربعين وعن الشعبي صغر الغلام لسبع سنين ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين وينتهي عقله لثمان وعشرين ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين {ثم} يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول {لتكونوا شيوخاً} ضعفاء غرباء قد ماتت قوتكم ووهنت أركانكم، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم الشين والباقون بكسرها {ومنكم من يتوفى} بقبض روحه {من قبل} أي: قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 الأشدية أو قبل هذه الأحوال إذا خرج. تنبيه: قوله تعالى: {لتبلغوا أشدكم} متعلق قال الزمخشري: بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا أشدكم وكذلك لتكونوا وأما قوله: {ولتبلغوا} أي: كل واحد منكم {أجلاً مسمى} فمعناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل: يوم القيامة {ولعلكم تعقلون} أي: ما في ذلك من العبر والحجج وتستدلون بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى. ولما ذكر تعالى انتقال الأجسام من كونها تراباً إلى أن بلغت الشيخوخة واستدل بهذه التقديرات على وجود الإله القادر أنتج قوله تعالى: {هو} أي: لا غيره {الذي يحيي ويميت} كما تشاهدونه في أنفسكم فكما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات المتقدمة يدل على الإله القادر فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر. ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فإذا قضى أمراً} أي أراد أي: أمر كان من القيامة أو غيرها {فإنما يقول له كن فيكون} فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة، وقرأ ابن عامر بنصب النون والباقون بالرفع وتقدم توجيه ذلك في سورة البقرة، ثم إنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات الله مخاطباً بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {ألم تر} أي: يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً {إلى الذين يجادلون} أي: بالباطل {في آيات الله} أي: الملك الأعظم {أني} أي: كيف ومن أي وجه {يصرفون} أي: عن التصديق وتكرير ذم المجادلة بتعدد المجادل والمجادل فيه أو للتوكيد وقوله تعالى: {الذين كذبوا} يجوز أن يكون بدلاً من الموصول قبله أو بياناً أو نعتاً أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوباً على الذم {بالكتاب} أي: بسببه في جمع ما له من الشؤون التي تفوق الحصر وهو القرآن أو بجنس الكتب السماوية {وبما أرسلنا} أي: على ما لنا من العظمة {به رسلنا} أي: من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى: {فسوف يعلمون} أي: بوعد صادق لا خلف فيه ما يحل بهم من سطواتنا وقوله تعالى: {إذِ الأغلال في أعناقهم} ظرف ليعلمون، فإن قيل: سوف للاستقبال وإذ للماضي فهو مثل قولك سوف أصوم أمس؟ أجيب: بأن المعنى على إذا إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد والمعنى على الاستقبال قالوا وكما تقع إذا موقع إذ في قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} (الجمعة: 11) كذلك تقع إذ موقعها وقوله تعالى: {والسلاسل} عطف على الأغلال، فتكون في الأعناق، والسلسلة معروفة، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره في أرجلهم وخبره {يسحبون} والعائد محذوف أي: بها والسحب الجر بعنف، والسحاب من ذلك لأن الريح تجره أو أنه يجر الماء {في الحميم} أي: الماء الحار الذي يكسب الوجوه سواداً والأعراض عاراً والأرواح عذاباً والأجسام ناراً {ثم في النار يسجرون} أي: يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين كما يسجر التنور بالحطب، كما قال تعالى: {وقودها الناس والحجارة} (البقرة: 24) والسجير الخليل الذي يسجر في مودة خليله، كقولهم: فلان يحترق في مودة فلان، هذه كيفية عقابهم. {ثم قيل لهم} تبكيتاً أي: بعد أن طال عذابهم وبلغ منهم كل مبلغ ولم يجدوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 ناصراً يخلصهم ولا شافعاً يخصصهم {أين} وأكد التعبير عنهم بأداة ما لا يعقل في قوله تعالى: {ما كنتم} أي: دائماً {تشركون} {من دون الله} أي: معه وهي الأصنام {قالوا ضلوا} أي: غابوا {عنا} فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا وذلك قبل أن تقرن آلهتهم أو ضاعوا عنا فلم نجد منهم ما كنا نتوقع منهم {بل لم نكن ندعو} أي: لم يكن ذلك في طباعنا {من قبل} أي: قبل هذه الإعادة {شيئاً} لنكون قد أشركنا به أنكروا عبادتهم إياها كقولهم في سورة الأنعام: {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: 23) وقال الحسن بن الفضل: أي: لم نكن نصنع من قبل شيئاً، أي: ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله ما كنت أعمل شيئاً ثم يقرنون بآلهتهم كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) أي: وقودها {كذلك} أي: مثل إضلال هؤلاء المكذبين {يضل الله} أي: المحيط علماً وقدرة عن القصد النافع من حجة وغيرها {الكافرين} أي: الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا ينجلي فيها الحق ثم صار لهم ذلك ديدناً. {ذلكم} أي: الجزاء العظيم {بما كنتم} أي: دائماً {تفرحون} أي: تبالغون في السرور وتستغرقون فيه {في الأرض بغير الحق} من الإشراك وإنكار البعث فأشعر ذلك أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة وهي الثبات دائماً للمفروح به وذلك لا يكون إلا في الجنة {وبما} أي: وبسبب ما {كنتم تمرحون} أي: تبالغون في الفرح مع الأشر والبطر والنشاط الموجب للاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح. تنبيه: قوله تعالى: {تفرحون وتمرحون} من باب التحنيس المحرف وهو أن يقع الفرق بين اللفظين بحرف. ولما كان السياق لذم الجدال وكان الجدال إنما يكون عن الكبر قال تعالى: {ادخلوا} أي: أيها المكذبون {أبواب جهنم} أي: الأبواب السبعة المقسومة لكم قال تعالى: {لها سبعة أبواب} (الحجر: 44) لكل باب منهم جزء مقسوم، وسميت: جهنم لأنها تلقى صاحبها بتكبر وعبوس وتجهم {خالدين فيها} أي: مقدرين الخلود {فبئس مثوى} أي: مأوى {المتكبرين} أي: عن الحق والمخصوص بالذم محذوف أي: مثواكم، فإن قيل: كان قياس النظم أن يقول: فبئس مدخل المتكبرين كما تقول: زرت بيت الله فنعم المزار وصليت في المسجد فنعم المصلى؟ أجيب: بأن الدخول لا يدوم وإنما يدوم المثوى فلذلك خصه بالذم وإن كان الدخول أيضاً مذموماً. ولما زيف تعالى طريقة المجادلين في آيات الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر بقوله: {فاصبر} أي: على أذاهم بسبب المجادلة وغيرها {إن وعد الله} أي: الجامع لصفات الكمال {حق} أي: بنصرتك في الدارين فلا بد من وقوعه {فإما نرينك} قال الزمخشري: أصله فإن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ولذلك ألحقت النون بالفعل ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك ولكن إما تكرمني أكرمك، قال أبو حيان: وما ذكره من تلازم النون وما الزائدة ليس مذهب سيبويه إنما هو مذهب المبرد والزجاج ونص سيبويه على التخيير {بعض الذي نعدهم} به من العذاب في حياتك وجواب الشرط محذوف أي: فذاك {أو نتوفينك} أي: قبل تعذيبهم {فإلينا يرجعون} أي: فنعذبهم أشد العذاب فالجواب المذكور للمعطوف فقط. {ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {رسلاً} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 أي: بكثرة {من قبلك} إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به {منهم من قصصنا} بما لنا من العظمة {عليك} أي: أخبارهم وأخبار أممهم {ومنهم من لم نقصص عليك} لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة، روي أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس {وما} أي: أرسلناهم والحال أنه ما {كان لرسول} أصلاً {أن يأتي بآية} أي: ملجئة أو غير ملجئة مما يطلب الرسول استعجالاً لاتباع قومه له أو اقتراحاً من قومه عليه {إلا بإذن الله} أي: بأمره وتمكينه فإن له الإحاطة بكل شيء فلا يخرج شيء عن أمره وهم عبيد مربوبون. تنبيه: معنى الآية أن الله تعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس منهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه وكذبوه فيها فصبروا وكانوا أبداً يقترحون على أنبيائهم عليهم السلام إظهار المعجزات الزائدة على الحاجة عناداً وعبثاً، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله تعالى والله سبحانه علم الصلاح في إظهار ما أظهروه دون غيره ولم يقدح ذلك في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جرم ما أظهرناها {فإذا جاء أمر الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بنزول العذاب على الكفار {قُضِي} أي: بأمره على أيسر وجه وأسهله بين الرسل ومكذبيهم {بالحق} الأمر الثابت {وخسر هنالك} أي: في ذلك الوقت العظيم {المبطلون} أي: المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق المعاندون الذين يجادلون في آيات الله، فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبثاً، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وأبدلاها أيضاً ألفاً، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين. ولما ذكر الله تعالى الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد فقال تعالى: {الله} أي: الملك الأعظم {الذي جعل لكم} أي: لا غيره {الأنعام} أي: الأزواج الثمانية بالتذلل والتسخير، وقال الزجاج: الأنعام الإبل خاصة {لتركبوا منها} وهي الإبل مع قوتها ونفرتها وقد تركب البقر أيضاً {ومنها} أي: من الأنعام كلها {تأكلون} ولما كان التصرف فيها غير منضبط أجمله بقوله تعالى: {ولكم فيها} أي: كلها {منافع} أي: كثيرة بغير ذلك من الدر والوبر والصوف وغيرها {ولتبلغوا عليها} وهي في غاية الذل والطواعية ونبههم على نقصهم وعظم نعمته عليهم بقوله تعالى: {حاجة} أي: جنس الحاجة، وقوله تعالى: {في صدوركم} إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حتى فاضت منها فملأت مساكنها {وعليها} أي: الإبل في البر {وعلى الفلك} أي: في البحر {تحملون} أي: تحملون أمتعتكم الثقيلة من مكان إلى مكان آخر وأما حمل الإنسان نفسه فقد مر بالركوب، فإن قيل: لِمَ لم يقل وفي الفلك كما قال تعالى في سورة هود: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين} (هود: 40) أجيب: بأن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع على الفلك كما صح أن يقال وضع فيه صح أن يقال وضع عليه، ولما صح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 الوجهان كانت لفظة على أولى حتى تتم المزاوجة في قوله تعالى {وعليها وعلى الفلك تحملون} (المؤمنون: 22) وقال بعضهم: أن لفظ فيها هناك أليق لأن سفينة نوح عليه السلام كما قيل مسبقة عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح لأن الناس على ظهرها. ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى مشتملة على آيات كثيرة قال تعالى: {ويريكم} أي: في كل لحظة {آياته} أي: دلائل قدرته {فأي آيات الله} أي: المحيط بصفات الكمال الدالة على وحدانيته {تنكرون} حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته وهذا استفهام توبيخ. تنبيه: أي: منصوب بتنكرون وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام وتذكيره أشهر من تأنيثه، قال الزمخشري: وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهو في أي: أغرب لإبهامه، قال أبو حيان: ومن قلة تأنيث أي: قول الشاعر: *بأي كتاب أم بأية سنة ... ترى حبهم عاراً علي وتحسب* قال ابن عادل: وقوله وهو في أي أغرب إن عني أياً على الإطلاق فليس بصحيح؛ لأن المستفيض في النداء أن تؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} (الفجر: 27) ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول: يا أيها المرأة إلا صاحب «البديع في النحو» وإن عني غير المناداة فكلامه صحيح، يقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة وشرطية. ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهب فقال تعالى: {أفلم يسيروا} أي: هؤلاء الذين هم أضل من الإنعام، لما حصل في صدورهم من الكبر العظيم طلباً للرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه {في الأرض} أي أرض كانت سير اعتبار {فينظروا} نظر تفكر فيما سلكوه من سبلها ونواحيها {كيف كان عاقبة} أي: آخر {الذين من قبلهم} أي: مع قرب الزمان والمكان أو بعد ذلك {كانوا أكثر منهم} عَدداً وعُدداً ومالاً وجاهاً {وأشد قوة} في الأبدان كقوم هود عليه السلام وبناء {وآثاراً في الأرض} بنحت البيوت في الجبال وحفر الآبار وبناء المصانع الجليلة وغير ذلك {فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما رتبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم الموت بل كانوا كأمس الذاهب. تنبيه: ما الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به. {فلما جاءتهم رسلهم} أي: الذين قد أرسلناهم إليهم وهم يعرفون صدقهم وأماناتهم {بالبينات} أي: المعجزات الظاهرات الدالة على صدقهم لا محالة واختلف في عود ضمير فرحوا في قوله تعالى: {فرحوا بما عندهم من العلم} على وجهين؛ أحدهما: أنه عائد إلى الكفار واختلف في ذلك العلم الذي فرحوا به فقيل: هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً وهي الشبهات المحكية عنهم في القرآن كقولهم: {ما يهلكنا إلا الدهر} (الجاثية: 24) وقولهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} (الأنعام: 148) وقولهم: {من يحيي العظام وهي رميم} (يس: 78) {ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً} (الكهف: 36) فكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء كما قال تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم: 32) وقيل: المراد علم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علوم الأنبياء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 عن علومهم، كما روي عن بقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء عليهم السلام فقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. وقيل: المراد علمهم بأمر الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كقوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ذلك مبلغهم من العلم} (النجم: 29 ـ 30) فلما جاءت الرسل عليهم السلام بعلوم الديانات ومعرفة الله عز وجل ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤوا بها واعتقدوا أن لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، ويجوز أن يكون المراد علم الأنبياء وفرح الكفار به ضحكهم واستهزاؤهم به ويؤيده قوله تعالى: {وحاق} أي: أحاط على وجه الشدة {بهم ما كانوا به يستهزئون} أي: من الوعيد الذي كانوا قاطعين ببطلانه، والوجه الثاني: أنه عائد على الرسل وفيه وجهان؛ أحدهما: أن تفرح الرسل إذا رأوا من قوم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحق وعلموا سوء غفلتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالجاهلين جزاء جهلهم واستهزائهم، الثاني: أن المراد أن الرسل فرحوا بما عند الكفار من العلم فرح ضحك واستهزاء. {فلما رأوا} أي: عاينوا {بأسنا} أي: عذابنا الشديد ومنه قوله تعالى: {بعذاب بئيس} (الأعراف: 165) {قالوا آمنا بالله} أي: الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ونفوذ الكلمة {وحده} لا نشرك به شيئاً {وكفرنا بما كنا} أي: جبلة وطبعاً {به مشركين} يعنون الأصنام أي: لأنا علمنا أنه لا يغني من دون الله شيء. ولما كان الكفر بالغيب سبباً لعدم قبول الإيمان عند الشهادة قال تعالى: {فلم يك ينفعهم} أي: لم يصح ولم يقبل بوجه من الوجوه {إيمانهم} أي: لا يتجدد لهم نفعه بعد ذلك لأنه إيمان الجاء واضطرار، لا إيمان طواعية واختيار {لما رأوا} وأظهر موضع الإضمار زيادة في الترهيب فقال تعالى شأنه: {بأسنا} أي: عذابنا لامتناع قبول الإيمان حينئذ لأنه لا يتحقق ولا يتصور إلا مع الغيب، وأما عند الشهادة فقد كشفت سريرته على انه قد فاتت حقيقته وصورته، ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه، فإن قيل: أي: فرق بين قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم} وبينه، لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم؟ أجيب: بأنه من كان في نحو قوله تعالى: {ما كان الله أن يتخذ من ولد} (مريم: 35) والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم. فإن قيل: كيف ترادفت هذه الفاءات؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {فما أغنى عنهم} نتيجة قوله تعالى: {كانوا أكثر منهم} وأما قوله تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم} فجار مجرى البيان والتفسير لقوله تعالى: {فما أغنى عنهم} كقولك رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء وقوله تعالى {فلما رأوا بأسنا} تابع لقوله تعالى: {فلما جاءتهم} كأنه قال: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا فكذلك فلم يك ينفعهم إيمانهم تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله تعالى، وقوله تعالى: {سنت الله} أي: الملك الأعظم، يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة أي: الذي فعله الله تعالى بهم سنة سابقة من الله تعالى ويجوز انتصابها على التحذير أي: احذروا سنة الله تعالى في المكذبين {التي قد خلت في عباده} وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا ولم ينفعهم إيمانهم. فائدة: رسمت سنة بتاء مجرورة ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وأمال الكسائي الهاء في الوقف {وخسر} أي: هلك أي: تحقق وتبين أنه خسر {هنالك الكافرون} أي: العريقون في هذا الوصف فلا انفكاك بينهم وبين الكفر. تنبيه: هنالك في الأصل اسم مكان قيل: استعير هنا للزمان ولا حاجة له فالمكانية فيه ظاهرة، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له» حديث موضوع. وعن ابن سيرين رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهن فقال لهن: لمن أنتن فقلن لمن يقرأ آل حم. سورة حم فصلت مكية وتسمى فصلت وهي أربع وخمسون آية وسبعمائةوتسعة وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وثلاثمئة وخمسون حرفاً {بسم الله} الذي له أوصاف الكمال {الرحمن} الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً {الرحيم} الذي فصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان، وتقدم الكلام على قوله تعالى: {حم} ثم إن جعلتها اسماً للسورة كانت في موضع الابتداء وخبره. {تنزيل من الرحمن الرحيم} وإن جعلتها تعديداً للحروف كان تنزيل خبر المبتدأ محذوف أي: هذا تنزيل وقال الأخفش: تنزيل رفع بالابتداء وخبره. {كتاب} فصلت، وجرى على ذلك الجلال المحلي {فصلت} أي: بينت {آياته} بالأحكام والقصص والمواعظ بياناً شافياً في اللفظ والمعنى حال كونه {قرآناً} أي: جامعاً مع التفصيل وهو مع جمع اللفظ وضبطه منثور اللؤلؤ منتشر المعاني لا إلى حد ولا نهاية عد بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: {عربياً} لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً، وفي ذلك امتنان لسهولة قراءته وفهمه، وقوله تعالى: {لقوم يعملون} أي: العربية أو لأهل العلم وهو النظر وهو متعلق بفصلت أي: فصلت لهؤلاء وبينت لهم لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس، أو بمحذوف صفة لقرآناً أي: كائناً لهؤلاء خاصة لما تقدم من المعنى. تنبيه: حكم الله تعالى على هذه السورة بأشياء أولها: كونها تنزيلاً والمراد المنزل والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور كقولك هذا بناء الأمير أي: مبنيه وهذا الدرهم ضرب السلطان أي: مضروبه ومعنى كونها منزلة أن الله تعالى كتبها في اللوح المحفوظ وأمر جبريل عليه السلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على محمد صلى الله عليه وسلم ويؤديها إليه، فلما حصل تفهم هذه الكلمات بواسطة جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلاً. وثانيها: كون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى لأن الفعل المقرون بالصفة لابد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة، فكونه تعالى رحماناً رحيماً صفتان دالتان على كمال الرحمة والتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة، والأمر كذلك لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 والمحتاجين والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليه. وثالثها: كونه كتاباً وهذا الاسم مشتق من الكتب وهو الجمع، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين. ورابعها: قوله تعالى {فصلت آياته} أي: ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها وصف ذات الله تعالى وصفات التنزيه والتقديس وشرح كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وعجائب أحوال خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان، وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قصص الأنبياء عليهم السلام وتواريخ الماضين وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن. وخامسها: قوله تعالى: {قرآناً} وقد مر توجيه هذا الاسم. وسادسها: قوله تعالى: {عربياً} أي: إنما نزل بلغة العرب ويؤيده قوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} (إبراهيم: 4) وسابعها: قوله تعالى: {لقوم يعلمون} أي: جعلناه قرآناً لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب بلغتهم ليفهموا منه المراد، وثامنها وتاسعها: قوله تعالى: {بشيراً} أي: لمن اتبع {ونذيراً} أي: لمن امتنع وانقطع، وعاشرها: قوله تعالى {فأعرض أكثرهم} أي: عن تدبره وقبولهم {فهم} لذلك {لا يسمعون} أي: يفعلون فعل من لم يسمع لأنهم لا يسمعون سماع تأمل وطاعة فهذه صفات عشر وصف الله تعالى القرآن بها. واحتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه أولها: أنه تعالى وصف القرآن بكونه منزلاً وتنزيلاً والمنزل والتنزيل مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكون مخلوقاً، ثانيها: أن التنزيل مصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين، ثالثها: أن المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول، رابعها: أن قوله تعالى: {فصلت آياته} يدل على أن متصرفاً تصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم، خامسها: إنما سمي قرآناً لأنه قرن بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل، سادسها: وصفه بكونه عربياً وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم وما حصل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بد وأن يكون محدثاً ومخلوقاً. وأجاب أهل السنة بأن كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة، وذهب قوم إلى أن في القرآن من سائر اللغات كالاستبرق والسجل فإنهما فارسيان والمشكاة فإنها حبشية والقسطاس فإنه من لغة الروم وهذا فاسد لقوله تعالى: {قرآناً عربياً} وقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} (إبراهيم: 4) ولما وصف الله تعالى القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه بين أنهم صرحوا بهذه النفرة، وذكر ثلاثة أشياء مذكورة عنهم في قوله تعالى: {وقالوا} أي: عند إعراضهم ممثلين في عدم قبولهم {قلوبنا في أكنة} أي: أغشية محيطة بها والأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء والكنان هو الذي تجعل فيه السهام والمعنى لانفقه ما تقول {مما تدعونا} أيها المخبر بأنه نبي {إليه} فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 سبيل إلى الوصول إليها لتفقه أصلاً، فإن قيل: هلا قالوا على قلوبنا أكنة كما قالوا: {وفي آذاننا} أي: التي نسمع بها وهي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب {وقر} أي: ثقل قد أصمها عن سماعه ليكون على نمط واحد؟ أجيب: بأنه على نمط واحد لأنه لا فرق في المعنى بين قولك قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة} (الكهف: 57) ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى، والمعنى: إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع {ومن بيننا وبينك حجاب} أي: حاجز من جبل أو نحوه فلا تلاقي ولا ترائي {فاعمل} أي: على دينك {إننا عاملون} على ديننا أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك، فإن قيل: هل لزيادة من في قولهم من بيننا وبينك حجاب فائدة؟ أجيب: بنعم لأنهم لو قالوا وبيننا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط بين الجهتين، وإما بزيادة من، فالمعنى أن الحجاب ابتداء منا وابتداء منك فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك كلها مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها. ولما أخبروا بإعراضهم وعللوا بعدم فهمهم لما يدعو إليه أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال تعالى: {قل} أي: لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادى عليهم بالعجز {إنما أنا بشر مثلكم} أي: لست غير بشر مما لا يرى كالملك والجني بل واحد منكم والبشر يرى بعضهم بعضاً ويسمعه ويبصره فلا وجه لما تقولونه أصلاً {يوحى إلي} أي: بطريق تخفى عليكم ولولا الوحي ما دعوتكم {أنما إلهكم} أي: الذي يستحق العبادة {إله واحد} لا غير واحد، وهذا ما دلت عليه الفطرة الأولى السوية وقامت عليه الأدلة العقلية وأيدتها في كل عصر الطرق النقلية وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورة النفسانية، قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع. ولما قطع حجتهم وأزال علتهم تسبب عن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم {فاستقيموا إليه} أي: غير معوجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره، وعدى بإلى لتضمنه معنى توجهوا والمعنى: وجهوا استقامتكم إليه بطاعته ولا تميلوا عن سبيله {واستغفروه} أي: اطلبوا منه غفران ذنوبكم وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها والإقلاع عنها حالاً ومآلاً، ثم هدد على ذلك فقال: {وويل} كلمة عذاب أو واد في جهنم {للمشركين} أي: من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله تعالى. {الذين لا يؤتون الزكاة} أي: لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل {وهم بالآخرة} أي: الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها {هم كافرون} واحتج من قال إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بهذه الآية فقالوا: إن الله تعالى توعدهم بأمرين أحدهما: كونهم مشركين والثاني: لا يؤتون الزكاة، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين تأثير في حصول الوعيد وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة مع الشرك تأثيراً عظيماً في زيادة الوعيد وهو المطلوب، فإن قيل: لِمَ خص تعالى من أوصاف المشركين منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة؟ أجيب: بأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 وصدق نيته ونصوح طويته ألا ترى قوله تعالى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم} (البقرة: 265) أي: يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم، وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحروب وجوهدوا، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد في منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة، وقال ابن عباس: هم الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس، والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بالزكاة ولا يرون إيتاءها واجباً وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك. وقال الضحاك ومقاتل: لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون، وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم. ولما ذكر تعالى ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً فقال تعالى مجيباً لمن تشوق لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره: {إن الذين آمنوا} أي: بما آتاهم الله تعالى من العلم النافع {وعملوا الصالحات} من الزكاة وغيرها من أنواع الطاعات {لهم أجر} أي: عظيم {غير ممنون} أي: غير مقطوع جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله تعالى من أقوالهم وأفعالهم في الآخرة والدنيا، والممنون المقطوع من مننت الحبل إذا قطعته ومنه قولهم قد منّه السفر أي: قطعه، وقال مقاتل: غير منقوص، ومنه المنون لأنه ينقص من الإنسان وقوته، وأنشدوا لذي الإصبع العدواني: *إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا أجري بممنون* وقيل: غير ممنون به عليهم لأن عطاء الله تعالى لا يمن به إنما يمن المخلوق، وقال السدي: نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كما صح ما كانوا يعملون فيه، روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو ألفته إلي» . ولما ذكر سبحانه وتعالى سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد كخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق: {قل} يا أشرف الرسل لمن أنكر الخلق منكراً عليه بقولك: {أئنكم} وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر بقوله تعالى: {لتكفرون} أي: توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة {بالذي خلق الأرض} أي: على سعتها وعظمها من العدم {في يومين} فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها وهذان اليومان الأحد والاثنين كما قاله ابن عباس وعبد الله بن سلام، قال ابن الجوزي والأكثرون قال ابن عباس: إن الله خلق يوماً فسماه الأحد ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء ثم خلق خامساً فسماه الخميس، فخلق الله الأرض في يوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل، وخلق مواضع الأنهار والشجر والقرى يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة وفرغ من الخلق يوم السبت ولكن، في حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل» ، فإن قيل: الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل؟ أجيب: بأن المراد في مقدار يومين أو نوبتين، خلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون، قال البيضاوي: ولعل المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة، ومن خلقها في يومين أنه خلق لها أصلاً مشتركاً ثم خلق لها صوراً بها صارت أنواعها، وكفرهم به إلحادهم في ذاته تعالى وصفاته، وقرأ قالون وأبو عمرو وهشام بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام وأدخلوا بين الهمزة المحققة والمسهلة ألفاً، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال، والباقون بتحقيقهما من غير إدخال. ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره عطف على تكفرون قوله تعالى: {وتجعلون} أي: مع هذا الكفر {له أنداداً} من الخشب المنجور ومن الحجر المنحوت شركاء في المعبودية ولما بكَّتهم على قبح معتقدهم عظَّم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال تعالى: {ذلك} أي: الإله العظيم {رب العالمين} أي: موجدهم ومربيهم وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال. ولما ذكر تعالى ما هم به مقرون من إبداعها أتبعه بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك: فالأول: قوله تعالى: {وجعل فيها رواسي} أي: جبالاً ثوابت، وهو مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بينهما بأجنبي وهو قوله تعالى: {وتجعلون} فإنه معطوف على لتكفرون كما مر، فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: {من فوقها} ولم يقتصر على قوله: {وجعل فيها رواسي} كما اقتصر على قوله تعالى: {وجعلنا فيها رواسي شامخات} (المرسلات: 27) وقوله تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم} (فصلت: 10) وقوله تعالى: {وجعل فيها رواسي} ؟ أجيب: بأنه تعالى لو قال وجعل لها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال: جعلت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال الثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله تعالى. ولما هيأ الأرض لما يراد منها ذكر ما أودعها، وهو النوع الثاني: بقوله تعالى: {وبارك فيها} أي: بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك، وقال ابن عباس: يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الحيوانات، النوع الثالث: قوله تعالى: {وقدر فيها أقواتها} أي: أقوات أهلها بأن عيّن لكل نوع ما يصلحه ويغني به، وقال محمد بن كعب: قدر الأقوات قبل أن يخلق الخلق والأبدان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 أي: أقواتاً تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، فأضاف القوت إلى الأرض لكونه متولداً من تلك الأرض حادثاً فيها لأن النحاة قالوا: يكفي في جنس الإضافة أدنى سبب، فالشيء يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، أي: قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدة لنوع من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال لتنتظم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان جميع ما تقدم من إبداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها دفعة واحدة على مقدار لا يتعداه ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه وقدره فأمضاه لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته. ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها. فقال تعالى: {في أربعة أيام} أي: مع اليومين الماضيين كقولك بنيت بيتي في يوم وأكملته في يومين أي: بالأول، وقال أبو البقاء: في تمام أربعة أيام ولولا هذا التقدير لكانت ثمانية، يومان في الأول وهو قوله تعالى {خلق الأرض في يومين} ويومان في الآخر وهو قوله تعالى: {فقضاهن سبع سموات في يومين} وأربعة في الوسط وهو قوله تعالى: {في أربعة أيام} ، فإن قيل: إنه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط فلم ترك التصريح بذكر الكلام المجمل؟ أجيب: بأن قوله تعالى في: {أربعة أيام} {سواء} أي: استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص فيه فائدة زائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين لأنه لو قال تعالى خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كون اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال: {في أربعة أيام سواء} دل على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان. ولم يفعل تعالى ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختبار ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السموات مع كونها أصغر من السموات دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين الإنس والجن، فزادت لما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضاً لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمجادلات والمعالجات كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في القدرة من المقدور وعجائب الأمور. قال البقاعي: ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً للسكينة والبعد عن العجلة، وقوله تعالى: {للسائلين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 بسواء بمعنى مستويات للسائلين، ثانيها: أنه متعلق بقدر أي: قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين، ثالثها: أنه متعلق بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها. ولما كانت السموات أعظم من الأرض في ذاتها باتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي ولفظ الاستواء وحرف الغاية الدال على عظم الغاية فقال تعالى: {ثم استوى} أي: قصد قصداً، هو القصد منتهياً قصده {إلى السماء وهي} أي: والحال أنها {دخان} قال المفسرون: هذا الدخان بخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى: {وكان عرشه على الماء} (هود: 7) ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزبد وارتفع فخرج منه دخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السموات، فإن قيل: هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل السموات وقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات: 30) مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السموات وذلك يوجب التناقض؟. أجيب: بأن المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق بعدها السموات ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها حينئذ فلا تناقض، قال الرازي: وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثم استوى إلى السماء فهذا يقتضي أن الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة وحينئذ يعود السؤال ثم قال: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض وتأويل الآية أن يقال الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد والدليل عليه قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59) فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين بل عبارة عن التقدير، والتقدير في حق الله تعالى هو: كلمته بأن سيوجده، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى: {خلق الأرض في يومين} : معناه: أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاء الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء حينئذ يزول السؤال. {فقال لها} أي: السماء عقب الاستواء {وللأرض ائتيا} أي: تعاليا وأقبلا منقادتين وقوله تعالى: {طوعاً أو كرهاً} مصدران في موضع الحال أي: طائعتين أو كارهتين {قالتا أتينا} أي: نحن وما فينا وما بيننا {طائعين} أي: أتينا على الطوع لا على الكره، والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير من غير أن يحقق شيئاً من الخطاب والجواب، ونحو ذلك قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني قال الوتد سل من يدقني، فإن قيل: هلا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون؟ أجيب: بأنه لما جعلهن مخاطبات ومجيبات ووصفهن بالطوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 والكره قال: طائعين في موضع طائعات نحو قوله ساجدين. تنبيه: جمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان بل قد يكون القول لهما متعاقباً، فإن قيل: إن الله تعالى أمر السماء والأرض فأطاعتا كما أن الله تعالى أنطق الجبال مع داود عليه السلام فقال تعالى: {يا جبال أوّبي معه والطير} (سبأ: 10) وأنطق الأيدي والأرجل فقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} (النور: 24) وقوله تعالى: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} (فصلت: 21) وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله تعالى في ذات السموات والأرض حياة وعقلاً ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما؟. ووجه هذا بوجوه؛ الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا أن يمنع منه مانع وههنا لا مانع، الثاني: أنه تعالى جمعها جمع العقلاء فقال تعالى: {قالتا آتينا طائعين} الثالث: قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} (الأحزاب: 72) وهذا يدل على كونها عارفة بالله تعالى عالمة بتوجه تكليف الله تعالى، وأجاب الرازي عن هذا: بأن المراد من قوله تعالى: {ائتيا طوعاً أو كرهاً} الاتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير، فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة إذ لو كانت موجودة لم يجز، فثبت أن حال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة وإذا كانت معدومة لم تكن عارفة ولا فاهمة للخطاب فلم يجز توجه الأمر إليها. فإن قيل: روى مجاهد وطاووس عن ابن عباس أنه قال: قال الله للسموات والأرض: أخرجا ما فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك وقال لهما: افعلا ما أمرتكما طوعاً وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه، وعلى هذا لا يكون المراد من قوله {أتينا طائعين} حدوثهما في ذاتهما، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهر ما كان مودعاً فيهما؟ أجيب: بأن هذا لم يثبت لأنه تعالى قال: {فقضاهن} أي: خلقهن خلقاً إبداعياً {سبع سموات} وهذا يدل على أن حصول السماء إنما حصل بعد قوله ائتيا طوعاً أو كرهاً. تنبيه: الضمير للسماء على المعنى كما قال تعالى: {طائعين} ونحوه {أعجاز نخل خاوية} (الحاقة: 7) ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات، وسبع سموات حال على الأول، وتمييز على الثاني، وقوله تعالى: {في يومين} قال أهل الأثر: إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق آدم عليه السلام وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، ولذلك لم يقل هنا سواء ووافق هذا آيات خلق السموات والأرض في ستة أيام، وعن ابن عباس رضي الله عنه: «أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمعايش والعمران والخراب فهذه أربعة، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 منه فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم فأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش قالوا: قد أصبت لو أتممت قالوا: ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً فنزل {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون} (ق: 38 ـ 39) ، فإن قيل: اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بطلوع الشمس وغروبها وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم؟. أجيب: بأن معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدار اليوم كما مر، وقضاء الشيء إتمامه والفراغ منه قال ابن جرير: وإنما سمي الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وخلق السموات والأرض أي: فرغ من ذلك وأتمه {فأوحى} أي: ألقى بطريق خفي وحكم بثبوت قوي {في كل سماء أمرها} أي: الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل وزمام مبرم لا ينحل، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى. وقال السدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو وقعت منه حصاة لوقعت على الكعبة. ولما عم خص التي تلينا إشارة إلى تشريفنا فقال تعالى صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم {وزينا} أي: بما لنا من العظمة {السماء الدنيا} أي: القربى إليكم لأجلكم {بمصابيح} وهي النيرات التي خلقها الله في السموات وخص كل واحدة بضوء معين وسير معين وطبيعة معينة لا يعلمها إلا الله تعالى ولا ينافي كون الدنيا مزينة بذلك أن تكون النجوم في غيرها مما هو أعلى منها لأن السياق دل على أنها زينة. وقوله تعالى: {وحفظاً} في نصبه وجهان؛ أحدهما: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر أي: وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظاً، والثاني: أنه مفعول من أجله على المعنى فإن التقدير: وخلقنا الكواكب زينة وحفظاً قال أبو حيان: وهو تكلف وعدول عن السهل البين، والمعنى: وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع بالشهب أو من الآفات {ذلك} أي: الأمر الرفيع والشأن البديع {تقدير العزيز} أي: الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء، {العليم} أي: المحيط علماً بكل شيء فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم. ولما كان المتمادي على إعراضه كأنه جدد إعراضاً غير إعراضه الأول قال تعالى مفصلاً بعد قوله تعالى {فأعرض أكثرهم} : {فإن أعرضوا} أي: استمروا على إعراضهم بعد هذا الشأن أو أعرض غيرهم عن قبول ما جئتهم به من الذكر بعد هذا البيان الواضح في هذه الآيات التي دلت على الوحدانية والعلم والقدرة وغيرها من صفات الكمال أتم دلالة {فقل} أي: لهم {أنذرتكم صاعقة} أي: فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة {مثل صاعقة عاد وثمود} وقال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان والإنذار التخويف، وإنما خص هاتين القبيلتين لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 قريشاً كانوا يمرون على بلادهم. ثم علل إيقاع ذلك بقوله تعالى: {إذ} يجوز أن يكون ظرفاً لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي: حين {جاءتهم} أي: عاداً أو ثمود {الرسل} لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه {من بين أيديهم} أي: من قبلهم لأن نذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به {ومن خلفهم} وهم من أتى إليهم لأنهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم فالخلف كناية عن الخفاء والقدام عن الجلاء وأنهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم فاعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض. كما حكى الله تعالى عن الشيطان {لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} (الأعراف: 17) أي: لآتينهم من كل جهة، عن الحسن: أنذروهم من وقائع الله تعالى فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم، وأتوهم مقبلين عليهم ومدبرين عنهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم وأدغمها الباقون. , {أن} أي: بأن {لا تعبدوا إلا الله} أي: الذي له صفات الكمال جميعاً {قالوا} أي: الكفار لرسلهم {لو شاء ربنا} الذي ربانا أحسن تربية أن يرسل إلينا رسولاً {لأنزل} إلينا {ملائكة} فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم يرسل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولاً {فإنا بما} أي: بسبب ما {أرسلتم به} أي: على زعمكم بأنكم رسل {كافرون} إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا. روي: «أن أبا جهل قال في ملأ قريش: التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالسحر والشعر والكهانة وكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد علمت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي، فأتاه فقال له: يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فلم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن كنت أردت الباء زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فلما فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرغت؟ قال: نعم قال: فاسمع ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته} إلى أن بلغ قوله تعالى {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، وقال: والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ولكني أتيته وقصصت عليه القصة وجاءني بشيء والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكت بفيه وناشدته الرحم حتى سكت، ولقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب» . وفي رواية لمحمد بن كعب أنه قال: إني سمعت قرآناً والله ما سمعت بمثله قط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة يا معشر قريش أطيعوني، خلوا بينكم وبين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظفر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وأنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا لوليد بلسانه قال: هذا رأي لكم فاصنعوا ما بدا لكم. ولما جمعهم الله فيما اجتمعوا فيه حتى كأنهم تواصوا به، فصّلهم وفصّل ما اختلفوا فيه فقال مسبباً عما مضى من مقالاتهم: {فأما عاد} أي: قوم هود عليه السلام {فاستكبروا} أي: طلبوا الكبر وأوجدوه {في الأرض} أي: كلها التي كانوا فيها بالفعل وغيرها بالقوة أو في الكل بالفعل لكونهم ملكوها كلها، ثم بين كبرهم أنه {بغير الحق} أي: الذي لم يطابق الواقع، ثم ذكر تعالى سبب الاستكبار بقوله تعالى: {وقالوا من أشد منا قوة} وذلك أن هوداً عليه السلام هددهم بالعذاب، فقالوا: نحن نقدر على دفع العذاب بفضل قوتنا، وكانوا ذوي أجسام طوال طول الطويل منهم أربعمائة ذراع كما سيأتي في سورة الفجر، قال الله تعالى رداً عليهم: {أولم يروا} أي: يعلموا علماً هو كالمشاهدة {أن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {الذي خلقهم} ولم يكونوا شيئاً {هو أشد منهم قوة} ومن علم أن غيره أقوى منه وكان عاقلاً انقاد له فيما ينفعه ولا يضره، وقوله تعالى: {وكانوا بآياتنا يجحدون} أي: يعرفون أنها حق وينكرونها، عطف على فاستكبروا. {فأرسلنا} أي: بسبب ذلك على مالنا من العظمة {عليهم ريحاً} أي: عظيمة {صرصراً} أي: شديد البرد والصوت والعصوف حتى كانت تجهد البدن ببردها فتكون كأنها تصره أي: تجمعه في موضع واحد فتمنعه التصرف بقوتها وتقطع القلب بصوتها فتقهر شجاعته وتمحق بشدة بردها كل ما مرت عليه، وقوله تعالى: {في أيام نحسات} أي: مشؤومات جمع نحسة، وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الحاء من نحس، نحساً نقيض سعد سعداً فهو نحس والباقون بسكونها فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر قال الضحاك: أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين وكانت الريح عليهم من غير مطر، روي أن الأيام كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء قال البيضاوي: وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. وعن عبد الله بن عباس أنه قال: الرياح ثمان: أربع منها عذاب: وهي العاصفة والصرصر والعقيم والقاصف، وأربع منها رحمة: وهي المبشرات والناشرات والمرسلات والذاريات، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي، وفعلنا ذلك بهم {لنذيقهم عذاب الخزي} أي: الذل والهوان {في الحياة الدنيا} كما استكبروا في الأرض بغير الحق فيذبلوا عند من تعظموا عليه في الدار التي اغتروا بها فتعظموا فيها، فإن ذلك أدل على القدرة عند من تقيد بالوهم {ولعذاب الآخرة} أي: الذي أعد للمتكبرين في الآخرة بغير الحق {أخزى} أي: أشد إهانة، وهو في الأصل صفة المعذب، وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة {وهم لا ينصرون} أي: لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه. ولما أنهى تعالى أمر صاعقة عاد، شرع في بيان صاعقة ثمود فقال تعالى: {وأما ثمود} وهم قوم صالح عليه السلام {فهديناهم} أي: بينا لهم طريق الهدى من أنا قادرون على البعث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 وعلى كل شيء فلا شريك لنا، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب إبصار بصائرهم غاية الإبصار، فكرهوا ذلك لما يلزمه من تركهم طريق آبائهم وأقبلوا على لزوم طريق آبائهم {فاستحبوا} أي: اختاروا {العمى} أي: الكفر {على الهدى} أي: الإيمان، قال القشيري قيل: إنهم آمنوا وصدقوا ثم ارتدوا وكذبوا فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستبدال. فإن قيل: أليس معنى هديته حصلت فيه الهدى والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، وبمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ أجيب: بأنه لما مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذراً ولا علة فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. {فأخذتهم صاعقة العذاب} أي: بسبب ذلك أخذ قهر وهوان {الهون} أي: ذي الهوان وهو الذي يهينهم {بما كانوا} أي: دائماً {يكسبون} أي: من شركهم وتكذيبهم صالحاً عليه السلام. ولما أنهى الله تعالى الخبر عن الكافرين من الفريقين أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ونذارة لمن صد عنه فقال تعالى: {ونجينا} أي: تنجية عظيمة بما لنا من القدرة {الذين آمنوا} أي: أوجدوا هذا الوصف من الفريقين {وكانوا} أي: كوناً عظيماً {يتقون} أي: يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بغير دليل، فإن قيل: كيف يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمته، وقد صرح تعالى بذلك فقال عز من قائل: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: 33) وجاء في الحديث الصحيح «أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع» ؟ أجيب: بأنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في الكفر عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة، وأن السبب الموجب للعذاب واحد وربما يكون العذاب النازل من جنس ذلك العذاب وإن كان أقل درجة وهذا القدر يكفي في التخويف. ولما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير فقال تعالى: {ويوم} أي: واذكر يوم {يحشر} أي: يجمع بكره بأمر قاهر لا كلفة فيه {أعداء الله} أي: الملك الأعظم {إلى النار} وقرأ نافع بنون مفتوحة وضم الشين ونصب أعداء على البناء للفاعل وهو الله تعالى، والباقون بياء الغيبة مضمومة وفتح الشين على البناء للمفعول ورفع أعداء لقيامه مقام الفاعل، وجه الأول أنه معطوف على نجينا فحسن أن يكون على وفقه في اللفظ، ووجه الثاني موافقة قوله تعالى: {فهم} أي: بسبب حشرهم {يوزعون} أي: يساقون ويدفعون إلى النار، وقال قتادة: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا أي: يوقف سوابقهم حتى تصل إليهم. ولما بين تعالى إهانتهم بالوزع بين غايتها بقوله تعالى: {حتى إذا ما جاؤوها} أي: النار التي كانوا بها يكذبون، فما زائدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور، كما قال تعالى: {شهد عليهم} وبين الشاهد وعدده بقوله تعالى: {سمعهم} وأفرد السمع لعدم تفاوت الناس فيه {وأبصارهم} وجمعها لعظم تفاوت الناس فيها {وجلودهم بما كانوا يعملون} أي: يجددون عمله مستمرين عليه. تنبيه: في كيفية تلك الشهادة ثلاثة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 أقوال؛ أولها: أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه، ثانيها: أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني، ثالثها: أن يظهر في تلك الأعضاء أحوالاً تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه. فإن قيل: ما السبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر مع أن الحواس خمسة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس؟ أجيب: بأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى يصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في جنس اللمس، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى: {لا تواعدوهن سراً} (البقرة: 235) وأراد النكاح وقال تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (النساء: 43) والمراد قضاء الحاجة وقال صلى الله عليه وسلم «أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه» وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ، وقال مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتمت الأنفس من عملهم وعن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: «هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول: بلى قال فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهداً مني قال فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وبالكرام الكاتبين عليك شهوداً قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعداً لَكُنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل» . {وقالوا} أي: الكفار الذين يحشرون إلى النار {لجلودهم} مخاطبين لها مخاطبة العقلاء لما فعلت فعل العقلاء {لم شهدتم علينا} مع أنا كنا نحاجج عنكم {قالوا} مجيبين لهم معتذرين {أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} أراد نطقه على وجه لم يقدر على التخلف عنه فليس بعجب من قدرة الله الذي له مجامع العز {وهو خلقكم أول مرة} والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم {وإليه} لا إلى غيره {ترجعون} فينبئكم بما كنتم تعملون. تنبيه: اختلف في قوله تعالى: {وهو خلقكم} الآية فقيل: هو من كلام الجلود وقيل: هو من كلام الله تعالى كالذي بعده وموقعه تقريب ما قبله بأن القادر على إنشائكم ابتداءً وعلى إعادتكم بعد الموت أحياءً قادر على إنطاق جلودكم وأعضائكم. {وما كنتم تستترون} أي: عند ارتكابكم الفواحش خفية {أن يشهد عليكم سمعكم} وأكد بتكرير النافي فقال: {ولا أبصاركم} جمع وأفرد لما مضى {ولا جلودكم} والمعنى: أنكم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش وما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث جهلاً منكم {ولكن} إنما استتاركم لأنكم {ظننتم} بسبب إنكار البعث جهلاً منكم {أن الله} الذي له جميع صفات الكمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 {لا يعلم} أي: في وقت من الأوقات {كثيراً مما تعملون} وهو الخفيات من أعمالكم. روي عن ابن مسعود قال: «كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر، ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول فقال الآخر: يسمع إن جهرنا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا يسمع إذا أخفينا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {وما كنتم تستترون} الآية قيل: الثقفي عبد يا ليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية وقوله تعالى: {وذلكم} إشارة إلى ظنهم هذا وهو مبتدأ وقوله تعالى: {ظنكم} بدل منه، وقوله تعالى: {الذي ظننتم بربكم} نعت البدل والخبر {أرداكم} أي: أهلككم، وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ولا يزول عن ذهنه أن عليه من الله تعالى عيناً كالئة ورقيباً مهيمناً حتى يكون في أوقاته وخلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاماً وأوفر تحفظاً وتصوراً منه مع الملأ، ولا ينبسط في سره مراقبة من التشبه بهؤلاء الظانين. ولما كان الصباح محل رجاء للإفراج فكان شر الإتراح ما كان فيه، قال تعالى {فأصبحتم} أي: بسبب ما أعطيتموه من النعم لتستنقذوا أنفسكم به من الهلاك، كان سبب هلاككم {من الخاسرين} أي: العريقين في الخسارة المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم. قال المحققون: الظن قسمان أحدهما: حسن، والآخر: فاسد، فالحسن، أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي» . وقال صلى الله عليه وسلم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» . والظن الفاسد أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة: الظن نوعان: منجي ومردي، فالمنجي: قوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} (الحاقة: 20) وقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} (البقرة: 46) والمردي: هو قوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم} . {فإن يصبروا فالنار مثوىً} أي: منزل {لهم} أي: إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مقاماً لهم {وإن يستعتبوا} أي: يسألوا العتبى وهو، الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه {فما هم من المعتبين} أي: المجابين إليها، ونحوه قوله عز وجل: {أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} (إبراهيم: 21) ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة أتبعه سبب كفرهم الذي هو سبب الوعيد فقال تعالى: {وقيضنا} قال مقاتل: هيأنا وقال الزجاج: سببنا {لهم} أي: للكفرة وأصل التقييض: التيسير والتهيئة يقال: قيضته للدواء هيأته له ويسرته، وهذان ثوبان قيضان أي: كل منهما مكافئ للآخر في الثمن وقوله تعالى: {قرناء} أي: نظراء من الشياطين حتى أضلوهم، جمع قرين قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين} {فزينوا لهم} أي: من القبائح {ما بين أيديهم} أي: من أمر الدنيا حتى آثروها على الآخرة {وما خلفهم} أي: من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث، وقال الزجاج: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا بأن الدنيا قديمة ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك، قال القشيري: إذا أراد الله بعبده سوءاً قيض له إخوان سوء وقرناء سوء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، وشر منه النفس وبئس القرين، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غداً عليه، وإذا أراد الله بعبده خيراً قيض الله له قرناء خير يعينونه على الطاعة ويحملونه عليها ويدعونه إليها. وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه عنده ولا قبيحاً إلا حسنه عنده» . وعن عائشة: إذا أراد الله بالوالي خيراً قيض له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى» . تنبيه: في الآية دلالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافرين لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر ولكن لا يرضاه كما قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7) {وحق} أي: وجب وثبت {عليهم القول} أي: كلمة العذاب، وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وقوله تعالى: {في أمم} محله نصب على الحال من الضمير في عليهم أي: حق عليهم القول كائنين في جملة أمم كثيرة، وفي بمعنى مع {قد خلت} أي: لم تتعظ أمة منهم بالأخرى {من قبلهم} أي: في الزمان {من الجن والأنس} قد عملوا مثل أعمالهم، وقوله تعالى: {إنهم} أي: جميع المذكورين منهم وممن قبلهم {كانوا خاسرين} تعليل لاستحقاقهم العذاب وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا} أصله وقالوا أي: المعرضون، ولكنه قال ذلك تنبيهاً على الوصف الذي أوجب إعراضهم {لا تسمعوا} أي: شيئاً من مطلق السماع {لهذا القرآن} وعينوه بالإشارة احترازاً عن غيره من الكتب القديمة كالتوراة، قال القشيري: لأنه مقلب القلوب وكل من استمع له صبا إليه {والغوا} أي: اهزؤوا {فيه} أي: اجعلوه ظرفاً للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغط واللغو والتصدية أي: التصفير والتصفيق وغيرها، وقال ابن عباس: كان بعضهم يعني قريشاً يعلم بعضاً إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر، واللغو: هو من باب لغي بالكسر يلغى بالفتح إذا تكلم بما لا فائدة فيه {لعلكم تغلبون} أي: ليكون حالكم حال من يرجى له أن يغلب ويظفر بمراده في أن لا يميل إليه أحد وسكت ونسي ما كان يقول، وهذا يدل على أنهم عارفون بأن من يسمعه مال إليه وأقبل بكليته عليه وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها. {فلنذيقن الذين كفروا} أظهر في موضع الإضمار إذ أصله فلنذيقنهم، لكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف {عذاباً شديداً} في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان، وفي الآخرة بالنيران {ولنجزينهم} أي: بأعمالهم {أسوأ} أي: سوء العمل {الذي كانوا يعملون} أي: مواظبين عليه. {ذلك} أي: الجزاء الأسوأ العظيم جداً {جزاء أعداء الله} أي: الملك الأعظم، ثم بينه بقوله تعالى: {النار} وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة واواً خالصة، والباقون بتحقيقهما، وأما الابتداء بالثانية فالجميع بالتحقيق، ثم فصّل بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 ما في النار بقوله تعالى: {لهم فيها} أي: النار {دار الخلد} أي: فإنها دار إقامة، قال الزمخشري: فإن قلت ما معنى قوله: {لهم فيها دار الخلد} قال: قلت: إن النار في نفسها دار الخلد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) أي: الرسول هو نفس الأسوة. وقال البيضاوي: هو كقولك في هذه الدار دار سرور يعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة قال ابن عادل: في هذا نظر إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار داراً تسمى دار الخلد والنار محيطة بها وهذا أولى، وقوله تعالى: {جزاءً} منصوب بالمصدر الذي قبله وهو {جزاء أعداء الله} والمصدر ينصب بمثله كقوله تعالى: {فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً} (الإسراء: 63) {بما كانوا بآياتنا} أي: على ما لنا من العظمة {يجحدون} أي: يلغون في القراءة وسماه جحداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً وأنهم جحدوا حسداً. ولما بين تعالى أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعذاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين ما يقولون في النار بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا} أي: غطوا أنوار عقولهم داعين بما لا يسمع لهم فهو زيادة في عقوبتهم وحكايته لها وعظ وتحذير {ربنا} أي: يا أيها الذي لم يقطع قط إحسانه عنا {أرنا} الصنفين {اللذين أضلانا} أي: عن المنهج الموصل إلى محل الرضوان {من الجن والإنس} لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن} (الأنعام: 112) وقال تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} (الناس: 5 ـ 6) وقيل: هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه، لأن الكفر سنه إبليس، والقتل بغير حق سنه قابيل، فهما سنا المعصية، وقرأ ابن كثير والسوسي، وابن عامر وشعبة بسكون الراء من أرنا، واختلس الدوري كسر الراء، وكسرها الباقون، وشدد ابن كثير النون من اللذين {نجعلهما تحت أقدامنا} في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما {ليكونا من الأسفلين} قال مقاتل: أسفل منافي النار، وقال الزجاج: ليكونا في الدرك الأسفل من النار أي: من أهل الدرك الأسفل وممن هودوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال باتباعنا لهما، وقال بعض الحكماء: المراد باللذين أضلانا: الشهوة والغضب، والمراد بجعلهما تحت أقدامهم: كونهما مسخرين للنفس مطيعين لها وأن لا يكونا مستوليين عليها ظاهرين عليها. ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب فقال تعالى: {إن الذين قالوا} أي: قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله تعالى في الدنيا {ربنا} أي: المحسن إلينا {الله} أي: المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له، وثم في قوله تعالى: {ثم استقاموا} لتراخي الرتبة في الفضيلة فإن الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات أمر في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام. سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئاً، وقال عمر رضي الله عنه، الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب. وقال عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل لله، وقال علي رضي الله عنه: أدوا الفرائض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: استقاموا على أمر الله تعالى بطاعته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله، وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال: اللهم ربنا ارزقنا الاستقامة، وقال سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت: يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به قال: «قل ربي الله ثم استقم فقلت: ما أخوف ما تخاف علي، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال: هذا» . قال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. {تتنزل عليهم الملائكة} قال ابن عباس: عند الموت وقال قتادة: إذا قاموا من قبورهم، وقال وكيع بن الجراح: البشرى: تكون في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث وهي {ألا تخافوا} قال مجاهد: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة {ولا تحزنوا} على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك كله، وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا من ذنوبكم ولا تحزنوا فإني أغفرها لكم، والخوف غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار، والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبداً. تنبيه: يجوز في أن: أن تكون المخففة أو الفسرة أو الناصبة، ولا ناهية على الوجهين الأولين، ونافية على الثالث {وأبشروا} أي: املؤوا صدوركم سروراً يظهر أثره على بشرتكم بتهلل الوجه ويعم سائر الجسد {بالجنة التي كنتم} أي: كوناً عظيماً على ألسنة الرسل عليهم السلام {توعدون} أي: يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل. تنبيه: فيما ذكر دلالة على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث يكون فارغاً من الأهوال والفزع الشديد. فإن قيل: البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع فأما إذا أخبر الشخص بحصول المنفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة فما السبب في تسمية هذا الخبر بشارة؟ أجيب: بأن المؤمن قد يسمع بشارات الخير ولم يعلم بأن له الجنة فيكون ذلك بشارة، أما إذا علم أنه من أهل الجنة بإخبار نبي فإنه إذا سمع هذا الكلام من الملائكة فإنه يكون إخباراً. ولما أثبتوا لهم الخير ونفوا عنهم الضير عللوه بقولهم: {نحن أولياؤكم} أي: أقرب الأقرباء إليكم فنحن نفعل معكم كل ما يمكن أن يفعله القريب {في الحياة الدنيا} نجلب لكم المسرات وندفع عنكم المضرات ونحملكم على جميع الخيرات، فنوقظكم من المنام ونحملكم على الصلاة والصيام ونبعدكم عن الآثام ضد ما تفعله الشياطين مع أوليائهم {وفي الآخرة} كذلك حيث تتعادى الأخلاء إلا الأتقياء. قال السدي: تقول الملائكة عليهم السلام: نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة. أي: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة {ولكم فيها} أي: في الآخرة أي: في الجنة وقبل دخولها في جميع أوقات المحشر {ما تشتهي} ولو على أدنى وجوه الشهوات، كما يرشد إليه حذف المفعول {أنفسكم} من اللذائذ لأجل ما منعتموها من الشهوات في الدنيا {ولكم فيها} أي: في الآخرة {ما تدعون} أي: تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من القول، وقوله تعالى: {نزلاً} حال مما تدعون أي: هذا كله يكون لكم نزلاً كما يقدم إلى الضيف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 عند قدومه إلى أن يهيأ له ما يضاف به، وأما ما يعطون فهو مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولما كان من وحُوسب عُذِّب فلا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى، أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {من} أي: كائن ذلك النزل من {غفور} له صفة المحو للذنوب عيناً وأثراً على غاية لا يمكن وصفها {رحيم} أي: بالغ الرحمة وهو الله تعالى، واختلف في تفسير قوله تعالى: {ومن أحسن قولاً} أي: من جهة القول {ممن دعا إلى الله} أي: الذي عم بصفات كماله جميع الخلق، فقال ابن سيرين والسدي: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقال الحسن: هو المؤمن الذي أجاب الله تعالى دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب إليه {وعمل} أي: والحال أنه قد عمل {صالحاً} في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه {وقال إنني من المسلمين} تفاخراً به وقطعاً لطمع المفسدين، وقال عكرمة: هم المؤذنون، وقالت عائشة رضي الله عنها: إن هذه الآيات نزلت في المؤذنين، وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه: وعمل صالحاً صلى ركعتين بين الأذان والإقامة، وعن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة ثلاث مرات ثم قال في الثالثة لمن شاء، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد. {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} أي: الصبر والغضب والحلم والجهل والعفو والإساءة في الجزاء وحسن العاقبة. تنبيه: في لا الثانية وجهان: أحدهما: أنها زائدة للتأكيد كقوله تعالى: {ولا الظل ولا الحرور} (فاطر: 21) لأن الاستواء لا يكتفي بواحد، الثاني: أنها مؤسسة غير مؤكدة، إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس، إذ لا تستوي الحسنات في أنفسها فإنها متفاوتة ولا تستوي السيئات أيضاً فرب واحدة أعظم من أخرى وهو مأخوذ من كلام الزمخشري {ادفع} كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس {بالتي} أي: بالخصال والأحوال التي {هي أحسن} على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات والعفو عن المسيء حسن والإحسان إليه أحسن منه. {فإذا الذي بينك وبينه عداوة} عظيمة فاجأته حال كونه {كأنه ولي} أي: قريب فاعل ما يفعله القريب {حميم} أي: في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره وشفى علله وقرب بعيده وأزال درنه كما يزيل الماء الحار الوسخ، وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وصار ولياً مصافياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نبه على عظيم فضل هذه الخصلة بقوله تعالى: {وما يلقاها} أي: على ما هي عليه من العظمة {إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} من الفضائل النفسانية، وقال قتادة: الحظ العظيم الجنة أي: وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة وقوله تعالى: {وإما} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {ينزغنك من الشيطان نزغ} قال الزمخشري: النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبيه النخس، والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه فيبعثه على ما لا ينبغي، وجعل النزغ نازغاً كما قيل: جد جده أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر أو تسويله، والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن {فاستعذ بالله} أي: استجر بالملك الأعلى من شر الشيطان واطلب من الله الدخول في عصمته مبادراً إلى ذلك وامض على شأنك ولا تطعه وتوكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 على الله تعالى {إنه هو} أي: وحده {السميع} أي: لكل مسموع من استعاذتك وغيرها {العليم} أي: بكل معلوم من نزغه وغيره فهو القادر على رد كيده وتوهين أمره ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: {ومن آياته} الدالة على وحدانيته وأنه سميع عليم {الليل والنهار} باختلاف هيئتهما على قدرته على البعث وكل مقدور، وقدم الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدم، والنور وجود والعدم سابق على الوجود، {والشمس والقمر} اللذان هما الليل والنهار، وقدم الشمس على ذكر القمر لكثرة نفعها. ولما ثبت أنه تعالى المنفرد بالخلق قال سبحانه: {لا تسجدوا للشمس} التي هي من أعظم أوثانكم وأعاد النافي تأكيداً فقال: {ولا للقمر} فإنهما دالان على وجود الإله مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بالذي أوجدهما من العدم كما قال تعالى: {واسجدوا لله} (فصلت: 37) أي: الذي له كل كمال من غير شائبة نقص. واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: {الذي خلقهن} على أوجه؛ أولاها: عوده للآيات الأربع كما جرى عليه الجلال المحلي، وقيل: يرجع لليل والنهار والشمس والقمر، قال الزمخشري: لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى والإناث، يقال: الأقلام بريتها وبريتهن، وناقشه أبو حيان من حيث أنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث وفي جمع الكثرة أن يعامل معاملة الأنثى، والأفصح أن يقال: الأجذاع كسرتهن والجذوع كسرتها، وأجاب بعضهم: بأن الزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح من الأفصح بل في مقام كيف يجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنت، وقال البغوي: إنما قال خلقهن بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنت. ولما ظهر أن الكل عبيده وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال تعالى: {إن كنتم إياه} أي: خاصة بغاية الرسوخ {تعبدون} كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين على أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم، فإنه تعالى أمر الملائكة عليهم السلام الذين هم من أشرف خلقه بالسجود لآدم عليه السلام وهم في ظهره فتكبر إبليس فأبَّد لعنته إلى يوم القيامة. {فإن استكبروا} أي: أوجدوا التكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم ينزهوا الله تعالى عن الشريك {فالذين عند ربك} أي: من الملائكة، قال الرازي: ليس المراد بهذه العندية: قرب المكان بل كما يقال عن الملك من الجند كذا وكذا، ويدل عليه قوله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي» ، {وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي} {يسبحون له بالليل والنهار} أي: دائماً لقوله تعالى: {وهم لا يسأمون} أي: لا يملون ولقوله سبحانه وتعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} (الأنبياء: 20) ، فإن قيل: اشتغالهم بهذا العمل على الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال مع أنهم ينزلون إلى الأرض كما قال تعالى {نزل به الروح الأمين على قلبك} (الشعراء: 193 ـ 194) وقال تعالى عن الذين قاتلوا يوم بدر {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} (آل عمران: 125) أجيب: بأن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة. تنبيه: اختلف في مكان السجدة فقيل: هو عند قوله تعالى: {إياه تعبدون} وهو قول ابن مسعود والحسن رضي الله عنهما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما لأنه ذكر السجدة قبيله، والصحيح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه عند قوله تعالى {لا يسأمون} وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه لأن عنده تم الكلام. ولما ذكر تعالى الدلائل الأربعة الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال تعالى: {ومن آياته} الدالة على قدرته ووحدانيته {أنك} أي: أيها الإنسان {ترى الأرض} أي: بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرت {خاشعة} أي: يابسة لا نبات فيها والخشوع التذلل والتقاصر فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها كما وصفها بالهمود في قوله تعالى: {وترى الأرض هامدة} (الحج: 5) وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو، كما قال تعالى: {فإذا أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة {عليها الماء} من الغمام أو غيره {اهتزت} أي: تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه {وربت} أي: تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها وتشعبت عروقه وغلظت سوقه فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه بعدما كانت قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة، وقرأ السوسي: ترى الأرض في الوصل بالإمالة بخلاف منه، والباقون بالفتح، وفي الوقف أمال محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وورش بين بين، والباقون بالفتح، ثم استدل بذلك على القدرة على البعث فقال تعالى: {إن الذي أحياها} أي: بما أخرج من نباتها بعد أن كانت ميتة {لمحيي الموتى} كما فعل بالنبات من غير فرق {إنه على كل شيء قدير} فهو قادر على إحياء الأرض بعد موتها وعلى إحياء هذه الأجساد بعد موتها لأن الممكنات بالنسبة إلى القدرة متساوية فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره. ثم إنه تعالى هدد من يجادل في آياته بإلقاء الشبهات فيها بقوله تعالى: {إن الذين يلحدون في آياتنا} أي: القرآن على ما لها من العظمة بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإلغاز فيها، وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء من لحد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد يقال: لحد الحافر وألحد إذا مال عن الاستقامة بحفره في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم اختص في العرف بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، قال مجاهد: يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط، وقال السدي: يعاندون ويشاقون {لا يخفون علينا} أي: في وقت من الأوقات ونحن قادرون على أخذهم متى شئنا أخذنا ولا يعجل إلا من يخشى الفوات، قال مقاتل: نزلت في أبي جهل وقوله تعالى {أفمن يلقى في النار} أي: على وجهه بأيسر أمر {خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة} استفهام بمعنى التقرير والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة حين يجمع الله تعالى عباده للعرض عليه للحكم بينهم بالعدل، قال البغوي قيل: هو حمزة وقيل: هو عثمان وقيل: عمار بن ياسر. فائدة: أم في الرسم مقطوعة وقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} أي: فقد علمتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 مصير المسيء والمحسن تهديد فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعمله فإنه ملاقيه، وقوله تعالى {إنه بما تعملون} أي: في كل وقت {بصير} أي: عالم بأعمالكم فيه، وعيد بالمجازاة وقوله تعالى: {إن الذين كفروا بالذكر} أي: القرآن {لما جاءهم} بدل من قوله تعالى: {إن الذين يلحدون} أو مستأنف وخبر إن محذوف مثل معاندون أو هالكون أو أولئك ينادون، ولما بالغ تعالى في تهديد الملحدين في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن فقال تعالى: {وإنه} أي: والحال إنه {لكتاب} أي: جامع لكل خير {عزيز} أي: فهو كثير النفع عديم النظير يغلب كل ذكر ولا يغلبه ذكر ولا يقرب منه ذلك ويعجز كل معارض ولا يعجز عن إقعاد مناهض، وقال الكلبي: عن ابن عباس رضي الله عنهما كريم على الله تعالى، وقال قتادة: أعزه الله تعالى. {لا يأتيه الباطل} لأنه يمتنع منه بمتانة وصفه وجزالة نظمه وحلاوة معانيه فلا يلحقه تغيير {من بين يديه ولا من خلفه} أي: لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات لأن قدام أوضح ما يكون وخلف أخفى ما يكون فما بين ذلك من باب أولى، والعبارة كناية عن ذلك لأن صفة الله تعالى لا وراء لها ولا أمام لها على الحقيقة، ومثل ذلك ليس وراء الله تعالى مرمى ولا دونه منتهى، وقال قتادة والسدي: الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه، وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وعلى هذا فمعنى الباطل الزيادة أو النقصان، وقال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يأتي بعده كتاب فيبطله، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {تنزيل} أي: بحسب التدريج لأجل المصالح {من حكيم} أي: بالغ الحكمة فهو يضع كل شيء منه في أتم محله من وقت النزول وسياق النظم {حميد} أي: بالغ الإحاطة بأوصاف الكمال من الحكمة وغيرها والتطهر والتقديس عن كل شائبة نقصِ يحمده كل خلقه بلسان حاله إن لم يحمده بلسان قاله، فإن قيل: أما طعن فيه الطاعنون وتأوله المبطلون؟ أجيب: بأن الله تعالى حماه عن تعلق الباطل به بأن قيض قوماً عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقاً ولا قول مبطل إلا مضمحلاً ونحو هذا قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9) ثم سلَّى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ما يقال} أي: من الكفار أو من غيرهم {لك} يا أكرم الخلق مما يحصل به ضيق صدر وتشويش فكر {إلا ما} أي: شيء {قد قيل} أي: حصل قوله على ذلك الوجه {للرسل من قبلك} فصبروا على ما أوذوا فاصبر كما صبروا {إن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وإنزال كتابه إليك ومن يكرم بمثل هذا لا ينبغي له أن يحزن لشيء يعرض له {لذو مغفرة} أي: لمن تاب وآمن بك {وذو عقاب أليم} أي: مؤلم لمن أصر على التكذيب وعلى هذا فقوله تعالى: {إن ربك} الآية مستأنف، وقيل: مفسر للمقول كأنه قيل للرسل: إن ربك لذو مغفرة وجرى على ذلك الزمخشري ونزل جواباً لقولهم هلا نزل القرآن بلغة العجم. {ولو جعلناه} أي: هذا الذكر بما لنا من العظمة {قرآناً} أي: على ما هو عليه من الجمع {أعجمياً} أي: لا يفصح {لقالوا} أي: هؤلاء المتعنتون {لولا} أي: هلا ولِمَ لا {فصلت} أي: بينت {آياته} حتى نفهمها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 وقولهم: {أأعجمي} أي: أقرآن أعجمي {و} نبي {عربي} استفهام إنكار منهم، وقال مقاتل: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي وكان يهودياً أعجمياً يكنى أبا فكيهة فقال المشركون: إنما يعلمه يسار غلام عامر فضربه سيده وقال: إنك تعلم محمداً فقال: هو يعلمني فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وقرأ قالون وأبو عمرو بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما، وورش وابن كثير وابن ذكوان وحفص بتسهيل الثانية ولا إدخال، وأسقط هشام الأولى والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل هو} أي: هذا القرآن {للذين آمنوا} أي: أردنا وقوع الإيمان منهم {هدى} أي: بيان لكل مطلوب {وشفاء} أي: لما في صدورهم من داء الكفر والهوى وقيل: من الأوجاع والأسقام متعلق كما قال الرازي بقولهم: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} (فصلت: 5) الآية كأنه تعالى يقول هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق وقلباً داعياً إلى الصدق فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى وشفاء، وأما من غرق في بحر الخذلان وشغف بمتابعة الشيطان فهو في ظلمة وعمى كما قال تعالى: {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر} أي: ثقل فلا يسمعون سماعاً ينفعهم {وهو عليهم عمى} فلا يبصرون الداعي حق الإبصار، ثم قال الرازي: وكل من أنصف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه، أي: أنه متعلق بما قبله لأن السورة تصير بذلك من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً لغرض واحد انتهى. ولما بين بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال تعالى: {أولئك} أي: البعداء البغضاء مثالهم مثال من {ينادون} أي: يناديهم من يريد نداءهم غير الله تعالى {من مكان بعيد} أي: هم كالمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى به. {ولقد آتينا} أي: على ما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي: التوراة {فاختلف} أي: وقع الاختلاف {فيه} وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل: إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحاب الهدى ورده بعضهم، فكذلك آتيناك الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك ورده آخرون وهم الذين يقولون قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه {ولولا كلمة} أي: إرادة {سبقت} في الأزل {من ربك} أي: المحسن إليك بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة {لقضي بينهم} أي: في الدنيا فيما اختلفوا فيه من إنصاف المظلوم من ظالمه قال تعالى: {بل الساعة موعدهم} (القمر: 46) {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} (فاطر: 45) {وإنهم لفي شك} أي: المكذبين محيط بهم {منه} أي: القضاء يوم الفصل {مريب} أي: موقع في الريب وهو التهمة والاضطراب بحيث لا يقدرون على التخلص من دائرته أصلاً. ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {من عمل صالحاً} أي: كائناً من كان {فلنفسه} أي: فنفع عمله لها لا لأحد يتعداها والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص فلذا عبر بها {ومن أساء} في عمله {فعليها} أي: على نفسه خاصة ليس عليك منه شيء فخفف عن نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 فنفع إيمانهم يعود إليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، والله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق به من الجزاء {وما ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق {بظلام} أي: بذي ظلم {للعبيد} أي: هذا الجنس فلا يتصور أن يقع ظلم لأحد منهم أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة. {إليه} أي: المحسن إليك لا إلى غيره {يرد علم الساعة} أي: لا سبيل إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله، وكذا العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين: أحدهما قوله تعالى: {وما تخرج من ثمرات} أي: في وقت من الأوقات، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بألف بعد الراء جمعاً، والباقون بغير ألف إفراداً وقوله تعالى: {من أكمامها} جمع كم وكمامة، قال البقاعي تبعاً للزمخشري: بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئاً من شأنه أن يخرج فهو كم، وقال الراغب: الكم ما يغطي البدن من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام وهذا يدل على أنه مضموم الكاف أو جعله مشتركاً بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القمص أنه بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان دون كم القميص جمعاً بين القولين. والمثال الثاني قوله تعالى: {وما تحمل من أنثى} حملاً ناقصاً أو تاماً، وأكد النفي بإعادة النافي ليشهد كل على حياله {ولا تضع} حملاً حياً أو ميتاً {إلا} حال كونه متلبساً {بعمله} ولا علم لأحد غيره بذلك، ومن ادعى علماً به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئاً، والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئاً، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علماً إلا الله تعالى. فإن قيل: قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشوف قولاً فيصيب فيه وكذلك الكهان والمنجمون؟ أجيب: بأن أصحاب الكشوف إذا قالوا قولاً فهو من إلهام الله تعالى واطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه، وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف قلما يصيب، وعلم الله تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشاركه فيه أحد جل ربنا وعلا {ويوم يناديهم} أي: المشركين بعد بعثهم من القبول للفصل بينهم في سائر الأمور {أين شركائي} أي: الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم {قالوا} أي: المشركون {آذناك} أي: أعلمناك {ما منا} وأكدوا النفي بإدخال الجار في المبتدأ {من شهيد} أي: يشهد أن لك شريكاً وذلك لما رأوا العذاب تبرؤوا من الأصنام وقيل: معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ، وقيل: هذا كلام الأصنام كأن الله تعالى يحييها وأنها تقول ما منا من شهيد أي: أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى ضلالتهم عنهم أنهم لا ينفعونهم فكأنهم ضلوا عنهم وهو معنى قوله تعالى: {وضل} أي: ذهب وغاب وخفي {عنهم ما كانوا} أي: دائماً {يدعون} في كل حين على وجه العبادة {من قبل} فهم لا يرونه فضلاً عن أنهم يجدون نفعه {وظنوا} أي: في ذلك الحال {ما لهم} وأبلغ في النفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 بإدخال الجار على المبتدأ المؤخر فقال: {من محيض} أي: مهرب وملجأ ومعدل، ولما بين تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله تعالى في الدنيا تبرؤوا عن تلك الشركاء في الآخرة، بين تعالى أن الإنسان في جميع الأوقات متغير الأحوال فإن أحس بخير وقدرة تعاظم وإن أحس ببلاء ومحنة ذلّ بقوله تعالى: {لا يسأم} أي: لا يمل ولا يعجز {الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناظر في إعطافه الذي لم يتأهل للمعارف الإلهية والطرق الشرعية {من دعاء الخير} أي: لا يزال يسأل ربه المال والصحة وغيرهما {وإن مسه الشر} أي: من فقر وشدة وغيرهما {فيؤوس} من فضل الله تعالى {قنوط} من رحمة الله تعالى، والمعنى: أن الإنسان في حال الإقبال لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيساً قانطاً، وهذه صفة الكافر لقوله تعالى: {لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف: 87) تنبيه: في قوله تعالى {يؤوس قنوط} مبالغة من وجهين؛ أحدهما: من طريق فعول، والثاني: من طريق التكرار واليأس من صفة القلب، والقنوط أن تظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهرة، ثم بين تعالى حال هذا الذي صار آيساً قانطاً بقوله تعالى: {ولئن} اللام لام القسم {أذقناه} أي: آتينا ذلك الإنسان {رحمة} أي: غنى وصحة {منا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {من بعد ضراء} أي: شدة وبلاء {مسته} فإنه يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة الموجبة للكفر والبعد من الله تعالى، الأول منها ما حكاه الله بقوله سبحانه: {ليقولن} بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك {هذا} الأمر العظيم {لي} أي: حقي مختص بي وصل إلي لأني استوجبته بعلمي وعملي ولا يعلم المسكين أن أحداً لا يستحق على الله تعالى شيئاً لأنه إن كان عارياً من الفضائل فكلامه ظاهر الفساد، وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي إنما حصلت بفضل الله وإحسانه. النوع الثاني: من كلامه الفاسد قوله: {وما أظن الساعة} أي: القيامة {قائمة} أي: ثابتاً قيامها فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله لكونه يفعل أفعال الشاك فيها، النوع الثالث: من كلامه الفاسد قوله {ولئن} اللام لام القسم {رجعت} أي: على سبيل الفرض أي: أن هذا الكافر يقول لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورددت {إلى ربي} أي: الذي أحسن إلي بهذا الخير الذي أنا فيه {إن لي عنده للحسنى} أي: الحالة الحسنى من الكرامة وهي الجنة، فكما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال تعالى شأنه: {فلننبئن} أي: فلنخبرن {الذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه العقول وصرائح النقول {بما عملوا} لا ندع منه كثيراً ولا قليلاً صغيراً ولا كبيراً فيرون عياناً ضد ما ظنوه من الدنيا من أن لهم الحسنى {وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلنا هباء منثوراً} (الفرقان: 23) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لنوقفهم على مساوي أعمالهم {ولنذيقهم} أي: بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية كمثاقيل الذر {من عذاب غليظ} أي: شديد لا يدع جهة من أجسامهم إلا أحاط بها. ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال: {وإذا أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {على الإنسان} أي: الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا {أعرض} أي: عن التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى {ونأى} أي: أبعد بعداً جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً {بجانبه} أي: ثنى عطفه متبختراً {وإذا مسه الشر} أي: هذا النوع قليله وكثيره {فذو دعاء} أي: في كشفه وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يفعله إلا أفراد خصهم الله بلطفه {عريض} أي: مديد العرض جداً وأما طوله فلا يسئل عنه، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة، تقول العرب أطال فلان الدعاء وأعرض أي: أكثر، ثم أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المعرضين {أرأيتم} أي: أخبروني {إن كان} أي: هذا القرآن {من عند الله} الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال {ثم كفرتم به} أي: من غير نظر واتباع دليل {من أضل} منكم هكذا كان الأصل ولكنه قال: {ممن هو في شقاق} أي: خلاف لأولياء الله تعالى {بعيد} أي: عن الحق تنبيها على أنهم صاروا كذلك ومن صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله عز وجل. {سنريهم آياتنا في الآفاق} قال ابن عباس: يعني منازل الأمم الخالية {وفي أنفسهم} أي: بالبلايا والأمراض، وقال قتادة: يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر، وقال مجاهد: في الآفاق ما يفتح الله تعالى من القرى على محمد صلى الله عليه وسلم وفي أنفسهم فتح مكة، وقال عطاء: في الآفاق يعني: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم في آفاق الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات والنبات والأشجار والأنهار وفي أنفسهم من لطائف الصنعة وبديع الحكمة في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كقوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 21) تنبيه: قال النووي في تهذيبه: قال أهل اللغة: الآفاق النواحي، الواحد أفق بضم الهمزة والفاء، وأفق بإسكان الفاء. ولما كان التقدير ولا نزال نكرر عليهم هذه الدلائل عطف عليه {حتى يتبين لهم} غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر {أنه} أي: القرآن {الحق} أي: الكامل في الحقبة الذي يطابق الواقع المنزل من الله تعالى بالبعث والحساب والعقاب فيعاقبون على كفرهم به وبالجائي به، وقيل: الضمير في أنه لدين الإسلام، وقيل: لمحمد صلى الله عليه وسلم {أولم يكف بربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان المعجز للأنس والجان شهادة بأن القرآن من عند الرحمن. تنبيه: الباء زائدة للتأكيد كأنه قيل: أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى وقوله تعالى: {أنه على كل شيء شهيد} بدل من ربك، والمعنى: أولم يكفهم في صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء ما وقد شهد لك فيه بالإعجاز لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته ونطقت به كلماته، ففيه أعظم بشارة بتمام الدين وظهوره على المعتدين. ولما لم يبق بعد هذا التعنت مقال ولا شبهة أصلاً لضال، قال تعالى منادياً على من جحد واستمر على عناده: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 {ألا إنهم} أي: هؤلاء الكفرة {في مرية} أي: جحد وجدال وشك وضلال عن البعث {من لقاء ربهم} أي: المحسن إليهم بأن خلقهم ورزقهم لإنكارهم البعث، ثم كرر كونه قادراً على البعث وغيره بقوله تعالى: {ألا إنه} أي: هذا المحسن إليهم {بكل شيء} أي: من الأشياء جملتها وتفصيلها كلياتها وجزئياتها أصولها وفروعها غيبتها وشهادتها ملكها وملكوتها {محيط} قدرة وعلماً بكثير الأشياء وقليلها كلياتها وجزئياتها فيجازيهم بكفرهم، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات» حديث موضوع. سورة الشورى مكية وهي ثلاث وخمسون آية وثمانمائة وست وستون كلمةوثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفاً {بسم الله} الذي أحاط بصفات الكمال {الرحمن} الذي عمت رحمته سائر عباده {الرحيم} الذي خص أولياءه بما ترضاه إلهيته من رحمته وقوله تعالى: {حم} {عسق} تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح وسئل الحسن بن الفضل: لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص؟ فقال: لأنها سورة أولها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ وعسق خبره، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل كهيعص والمص والمر عدت آية واحدة. وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف تهج لا غير. واختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلاً، وقيل: معناها حم أي: قضى ما هو كائن، روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ح حلمه م مجده ع علمه س سناؤه ق قدرته أقسم الله تعالى بها. وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح: ح: حرب قريش يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش، م: ملك يتحول من قوم إلى قوم، ع: عداوة لقريش يقصدهم سن سنين كسني يوسف تكون فيهم، ق: قدرة الله تعالى النافذة في خلقه. وروي عن ابن عباس أنه قال ليس من نبي صاحب كتاب إلا وأوحيت إليه حم عسق فلذلك قال تعالى: {كذلك} أي: مثل هذا الإيحاء العظيم الشأن {يوحى إليك} أي: ما دمت حياً لا يقطع ذلك عنك {وإلى} أي: وأوحى إلى {الذين من قبلك} أي: من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام ومن جملة ما أوحى إليهم أن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء وأخذ على كل منهم العهد باتباعك وأن يكونوا من أنصارك وأتباعك وقوله تعالى: {الله} أي: الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال فاعل الإيحاء. ولما كان نفوذ الأمر دائراً على العزة والحكمة قال تعالى: {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يصنع ما يصنعه في أتقن محاله فلذلك لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه ولا نقص ما أحكمه. تنبيه: ما تقرر من أن الله تعالى فاعل الإيحاء هو على قراءة كسر الحاء من يوحي وهي قراءة غير ابن كثير، وأما على قراءة ابن كثير بفتح الحاء فيجوز أن يرتفع بفعل مضمر كأنه قيل: من يوحيه فقيل الله ك {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال} (النور: 36 ـ 37) ويجوز أن يرتفع بالابتداء وما بعده خبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 والجملة قائمة مقام الفاعل وأن يكون العزيز الحكيم خبرين أو نعتين والجملة من قوله تعالى: {له ما في السموات} أي: من الذوات والمعاني {وما في الأرض} كذلك خبر أول أو ثان على حسب ما تقدم في العزيز الحكيم، قال الزمخشري: لم يقل تعالى أوحى إليك ولكن قال: يوحي إليك على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادة وكونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له، وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات وقوله تعالى: {ما في السموات وما في الأرض} يدل على كونه متصفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام وأن ما في السموات وما في الأرض خلقه وملكه. ولما كان العلو مستلزماً للقدرة قال تعالى: {وهو العلي} على كل شيء علو رتبة وعظمة ومكانة لا علو مكان وملابسة {العظيم} بالقدرة والقهر والاستعلاء وقوله تعالى: {تكاد السموات} قرأه نافع والكسائي بالياء التحتية، والباقون بالفوقية وقوله تعالى {يتفطرن} أي: يشققن قرأه شعبة وأبو عمرو بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففة، والباقون بعد الياء بتاء فوقية مفتوحة وفتح الطاء مشددة وقوله تعالى: {من فوقهن} في ضميره ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه عائد على السموات أي: كل واحدة منهن تنفطر فوق التي تليها من عظمة الله تعالى أو من قول المشركين: {اتخذ الله ولداً} (الكهف: 4) كما في سورة مريم أي: يبتدئ انفطارهن من هذه الجهة فمن: لابتداء الغاية متعلقة بما قبلها، الثاني: أنه يعود على الأرضين لتقدم ذكر الأرض، الثالث: أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين قاله الأخفش الصغير، وقال الزمخشري: كلمة الكفر أي: على التفسير الثاني إنما جاءت من الذين تحت السموات فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن أي: من الجهة التي جاءت منها الكلمة ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن أي: من الجهة التي فوقهن دون الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله عز وجل {يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم} (الحج: 19 ـ 20) فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة ا. هـ. ولما بين تعالى أن سبب كيدودة انفطارهن جلال العظمة التي منها كثرة الملائكة وشناعة الكفر، بين لها سبباً آخر وهو عظم قول الملائكة فقال تعالى: {والملائكة يسبحون} أي: يوقعون التنزيه لله تعالى متلبسين {بحمد ربهم} أي: بإثبات الكمال للمحسن إليهم تسبيحاً يليق بحالهم فلهم بذلك زجل وأصوات لا تحملها العقول ولا تثبت لها الجبال. تنبيه: عدل عن التأنيث ولم يقل يسبحن مراعاة للفظ التذكير وضمير الجمع، إشارة إلى قوة التسبيح وكثرة المسبحين، فإن قيل: قوله تعالى: {ويستغفرون لمن في الأرض} عام فيدخل فيه الكفار ولقد لعنهم الله تعالى فقال سبحانه: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} (البقرة: 161) فكيف يكونون لاعنين لهم ومستغفرين لهم؟ أجيب: بوجوه؛ الأول: أنه عام مخصوص بآية غافر {ويستغفرون للذين آمنوا} (غافر: 7) ، الثاني: أن قوله تعالى: {لمن في الأرض} لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صح ذلك، الثالث: يجوز أن يكون المراد بالاستغفار أن لا يعاجلهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 بالعقاب كما في قوله تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} إلى أن قال تعالى {إنه كان حليماً غفوراً} (الإسراء: 44) الرابع: يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، فإنا نقول اللهم اهد الكفار وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر، وهذا استغفار في الحقيقة وقوله تعالى: {ألا إن الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال {هو} أي: وحده {الغفور الرحيم} تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة لله تعالى، وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة.u {والذين اتخذوا من دونه} أي: غير الله تعالى {أولياء} أي: أنداداً وشركاء يعبدونهم كالأصنام {الله} أي: المحيط بصفات الكمال {حفيظ} أي: رقيب ومراع وشهيد {عليهم} أي: على أعمالهم ولا يغيب عنه شيء من أعمالهم فهو إن شاء أبقاهم على كفرهم وجازاهم عليه بما أعد للكافرين، وإن شاء تاب عليهم ومحا ذلك عيناً وأثراً ولم يعاقبهم، وإن شاء محاه عيناً وأبقى الأثر حتى يعاقبهم {وما أنت} يا أشرف الرسل {عليهم بوكيل} أي: حتى يلزمك أن تراعي جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم فتحفظها وتقسرهم على تركها ونحو ذلك مما يتولاه الوكيل بما يقوم فيه مقام الموكل سواء قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن أم قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وغير ذلك إذ ما عليك إلا البلاغ. {وكذلك} أي: ومثل ذلك الإيحاء {أوحينا} أي: بما لنا من العظمة {إليك قرآناً} أي: جامعاً لكل حكمة مع الفرق لكل ملتبس {عربياً} فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب {لتنذر} أي: به {أم القرى} أي: أهل مكة التي هي أم الأرض وأصلها منها دحيت، أو لشرفها أوقع الفعل عليها عداً لها عداد العقلاء أو غير ذلك إذ ما عليك إلا البلاغ، وقوله تعالى {ومن حولها} معطوف على أهل المقدر قبل أم القرى، والمفعول الثاني محذوف أي: العذاب والمراد بمن حولها: قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المدر والوبر، والإنذار: التخويف {وتنذر} أي: الناس. {يوم الجمع} أي: يوم القيامة يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرضين ويجمع الأرواح بالأجساد ويجمع بين العامل وعمله ويجمع بين الظالم والمظلوم {لا ريب} أي: لا شك {فيه} لأنه ركز في فطرة كل أحد وقوله تعالى: {فريق} يجوز فيه وجهان؛ أحدهما: أنه مبتدأ وساغ هذا في النكرة لأنه مقام تفصيل وخبره {في الجنة} أي: تفضلاً منه ورحمة، وهم الذين قبلوا الإنذار وبالغوا في الحذار، ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق، وساغ الابتداء بالنكرة حينئذ لشيئين: تقديم خبرها جاراً ومجروراً ووصفها بالجار بعدها، والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هم أي: المجموعون فريق، دل على ذلك قوله تعالى: {يوم الجمع} وقوله تعالى: {وفريق في السعير} أي: عدلاً منه فيه ما مر، وهم الذين خذلهم الله تعالى ووكلهم إلى أنفسهم، فإن قيل: يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين والجمع بين الصنفين محال؟ أجيب: بأنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين قال القشيري: كما أنهم في الدنيا فريقان فريق في راحات الطاعات وحلاوات العبادات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك فكذلك غداهم فريقان، فريق هم أهل اللقاء وفريق هم أهل البلاء والشقاء. ورى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله فقال: للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يده اليسرى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم، إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة، فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذن؟ فقال: اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيَّ: عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيَّ: عمل ثم قال {فريق في الجنة وفريق في السعير} عدل من الله تعالى» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده. {ولو شاء الله} أي: المحيط بجميع أوصاف الكمال {لجعلهم} أي: المجموعين {أمة واحدة} للثواب أو للعذاب، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء أن يكونوا فريقين مقسطين وظالمين ليظهر فضله وعدله وأنه إله جبار واحد قهار لا يبالي بأحد، وهو معنى قوله تعالى {ولكن يدخل من يشاء} إدخاله {في رحمته} بخلق الهداية في قلبه فتكون أفعالهم في مواضعها وهم المقسطون، ويدخل من يشاء في نقمته بخلق الضلالة في قلوبهم فيكونوا ظالمين فلا تكون أفعالهم في مواضعها، فالمقسطون ما لهم من عدو ولا نكير {والظالمون} أي: العريقون في الظلم الذين ساء ظلمهم وهم الكافرون فيدخلهم في لعنته {ما لهم من ولي} أي: يلي أمورهم فيجتهد في صلاحها فيدفع عنهم العذاب {ولا نصير} ينصرهم من الهوان فيمنعهم من النار، وعلى هذا التقدير: فالآية من الاحتباك وهو ظاهر ذكر الرحمة أولاً دليلاً على اللعنة ثانياً، والظلم وما معه ثانياً دليلاً على أضداده أولاً، وهذا تقدير لقوله تعالى: {الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} أي: أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان ولو شاء الله تعالى لفعله لأنه أقدر منك، لكنه تعالى جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً. ولما حكى الله تعالى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {لست عليهم بوكيل} أي: لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان، فإن الله تعالى لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الإنكار بقوله تعالى: {أم اتخذوا من دونه أولياء} كالأصنام وهذه أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال، وبهمزة الإنكار أو بالهمزة فقط أو ببل فقط أي: ليس المتخذون أولياء {فالله} أي: المختص بصفات الكمال {هو} وحده {الولي} قال ابن عباس: وليك يا محمد وولي من اتبعك، والفاء: جواب الشرط المقدر كأنه قال: إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي لا ولي سواه، وقيل: هي لمجرد العطف وجرى على هذا الجلال المحلي، وعلى الأول الزمخشري {وهو} أي: ومن شأن هذا الولي {يحيي الموتى} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 أي: يجدد إحياءها في كل وقت يشاؤه {وهو} وحده {على كل شيء قدير} فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء. ولما منع تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان، منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في المخاصمات والمنازعات بقوله تعالى: {وما اختلفتم} أي: أنتم والكفار {فيه من شيء} أي: من أمور الدنيا أو الدين {فحكمه إلى الله} أي: مفوض إلى الذي هو الولي لا غيره، يميز المحق من المبطل بالنصر والإثابة والمعاقبة، وقيل: ما اختلفتم فيه من تأويل المتشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله {ذلكم الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {ربي} أي: الذي لا مربي لي غيره في ماض ولا حال ولا استقبال {عليه} أي: وحده {توكلت} أسلمت جميع أمري {وإليه} لا إلى غيره {أنيب} أي: أرجع بالتوبة إذا قصرت في شيء من فروع شرعه وأرجع إلى كتابه إذا نابني أمر من الأمور فأعرف منه حكمة فافعلوا أنتم كذلك واجعلوه الحكم تفلحوا ولا تعدلوا عنه في شيء من الأشياء تهلكوا، وقوله تعالى: {فاطر} أي: مبدع {السموات والأرض} خبر آخر لذلكم أو مبتدأ خبره {جعل لكم} أي: بعد أن خلقكم من الأرض {من أنفسكم أزواجاً} حيث خلق حواء من ضلع آدم فيكون بالسكون إليها بقاء نوعكم {ومن} أي: وجعل لكم أي: لأجلكم من {الأنعام} التي هي أموالكم وجمالكم وبها أعظم أقواتكم {أزواجاً} أي: ذكوراً وإناثاً يكون بها أيضاً بقاء نوعها {يذرؤكم} بالمعجمة أي: يخلقكم ويكثركم من الذرء وهو: البث {فيه} أي: في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً ليكون بينهم توالد فإنه كالمنبع للبث والتكثير فالضمير للأناسي والأنعام بالتغليب، واختلف في الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} فجرى الجلال المحلي على أنها زائدة لأنه تعالى لا مثل له، وجرى غيره على أنها ليست زائدة لأنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى، وحاصله كما قال التفتازاني: إن قولنا ليس كذاته شيء وقولنا ليس كمثله شيء عبارتان كلاهما من معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته، الأولى صريحاً والثانية كناية مشتملة على مبالغة، وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل، ألا ترى أن قولهم مثل الأمير يفعل كذا ليس اعترافاً بوجود المثل له، فالمعنى هنا: أن مثل مثله تعالى منفي فكيف بمثله، وأيضاً مثل المثل مثل فيلزم من نفيه نفيهما، وقال البغوي: المثل صلة أي: ليس كهو شيء فأدخل المثل للتوكيد، كقوله تعالى {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} (البقرة: 137) وهذا كالتأويل الأول وقيل: إن المراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل، والمثل الصفة كقوله تعالى: {مثل الجنة} (الرعد: 35) فيكون المعنى: ليس كصفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره، وأما قوله تعالى: {وله المثل الأعلى} (الروم: 27) فمعناه أن له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ولا يشاركه فيه أحد {وهو} أي: والحال أنه هو لا غيره {السميع البصير} أي: الكامل في السمع والبصر بكل ما يسمع ويبصر، فإن قيل: هذا يفيد الحصر مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين؟ أجيب: بأن السمع والبصر لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال كما مر، والكمال في كل الصفات ليس إلا لله تعالى فهذا هو المراد من هذا الحصر. {له} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 وحده {مقاليد السموات والأرض} أي: خزائنهما ومفاتيح خزائنهما من الإمطار والإنبات وغيرهما، وقد ثبت أنه ابتدعهما وأن له جميع ما فيهما مما اتخذ من دونه ولياً وغيره، قال القشيري: والمفاتيح الخزائن وخزائنه هي مقدوراته ا. هـ. ولما حصر الأمر فيه دل عليه بقوله تعالى: {يبسط الرزق} أي: يوسعه {لمن يشاء} امتحاناً {ويقدر} أي: يضيقه لمن يشاء ابتلاء كما وسع على فارس والروم وضيق على العرب، وفاوت في الأفراد بين أفراد من وسع عليهم ومن ضيق عليهم، فدل ذلك قطعاً على أنه لا شريك له وأنه هو المتصرف وحده، فقطع بذلك أفكار الموفقين من عباده عن غيره ليقبلوا عليه ويتفرغوا له فإن عبادته هي المقاليد بالحقيقة: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} (نوح: 10) الآيات {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} (الطلاق: 11) {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 96) {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} (المائدة: 65) الآية، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنه بكل شيء عليم} أي: فلا فعل له إلا وهو جار على أتقن ما يكون من قوانين الحكمة فيفعله على ما ينبغي. ولما عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} ذكر تفصيل ذلك بقوله تعالى: {شرع لكم} أي: طرّق وسنّ طريقاً ظاهراً بيناً واضحاً لكم أيتها الأمة الخاتمة من الطرق الظاهرة المستقيمة {من الدين} وهو ما يعمل فيجازى عليه {ما} الذي {وصى به} توصية عظيمة بعد إعلامه بأنه شرعه {نوحاً} في الزمان الأقدم وهو أول أنبياء الشريعة، قال مجاهد: أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً {والذي أوحينا إليك} أي: من القرآن وشرائع الإسلام {وما وصينا} أي: بما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك المعجزات {به إبراهيم} الذي نجيناه من كيد نمروذ بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وياء بعدها {وموسى} الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء {وعيسى} الذي أنزلنا عليه الإنجيل هدى ونوراً وموعظة، وادخرناه في سمائنا لتأييد شريعة الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم ثم بين المشروع الموصى به والموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {أن أقيموا} أي: أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية {الدين} وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله تعالى، ومحله النصب على البدل من مفعول شرع أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب، وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به. ولما عظمه بالأمر بالاجتماع أتبعه بالتعظيم بالنهي عن الافتراق بقوله تعالى: {ولا تتفرقوا فيه} أي: ولا تختلفوا في هذا الأصل إما فروع الشرائع المختلفة فقال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} (المائدة: 48) وقال قتادة: الموصى به تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأمهات والبنات والأخوات، وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبياً إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإفراد لله تعالى بالطاعة فذلك دينه الذي شرعه، وقيل: هو التوحيد والبراءة من الشرك، وجرى على هذا الجلال المحلي والكل يرجع إليه {كبر} أي: عظم وشق {على المشركين} حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 ضاقت به صدورهم {ما تدعوهم إليه} أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم فإن تفرقتم كنتم تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود. ثم نبه تعالى على أن الأمور كلها بيده بقوله تعالى: {الله} الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر {يجتبي} أي: يختار {إليه} أي: إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه {من يشاء} اجتباءه {ويهدي إليه} بالتوفيق للطاعة {من ينيب} أي: من يقبل إلى طاعته. ولما بين تعالى أمر كل الأنبياء عليهم السلام والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كأن لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ أجاب بقوله تعالى: {وما تفرقوا} أي: المشركون من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: بالتوحيد أو بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أو بأن التفرق ضلال متوعد عليه {بغياً بينهم} أي: فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب ودعوا الناس إليه وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى، أي: وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله تعالى: {ولولا كلمة} أي: لا تبديل لها {سبقت} أي: في الأزل {من ربك} أي: المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم بتأخيرهم {إلى أجل مسمى} ضربه لآجالهم ثم يجمعهم في الآخرة {لقضي} على أيسر وجه وأسهله {بينهم} حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق، قال ابن عباس: والذين أريدوا بهذه الصفة هم اليهود والنصارى لقوله تعالى في آل عمران: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} (آل عمران: 19) وقوله تعالى في سورة لم يكن: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (البينة: 4) وكذلك في قوله تعالى: {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم} (الشورى: 14) أي: المتفرقين هم اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: هم هذه الأمة الذين أورثوا القرآن. ولما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات فورثوه كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} (فاطر: 32) فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازعة في ادعائه حال الوارث والموروث منه {لفي شك منه} أي: من كتاب لا يعلمونه كما هو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن فيقولون إنه سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك، وقيل: في شك من محمد صلى الله عليه وسلم وجرى على ذلك الجلال المحلي {مريب} أي: موقع في التهمة. {فلذلك} أي: التوحيد {فادع} يا أشرف الخلق والناس {واستقم} أي: على الدعوة {كما أمرت} أي: أمرك الله تعالى {ولا تتبع} أي: بعمل {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به {وقل} لجميع أهل الفرق وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق {آمنت بما أنزل الله} أي: الذي له العظمة الكاملة {من كتاب} أي: جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، روي أن رجلاً أتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما الإيمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 أو كيف الإيمان قال: الإيمان على أربع دعائم على الصبر واليقين والعدل والجهاد والصبر على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهادة والترقب فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصائب ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة وتأويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ومن تأول الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة عرف السنة ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين، والعدل على أربع شعب: على غامض الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وعلم الحكم فمن فهم جمع العلم ومن علم لم يضل في الحكم ومن علم عرف شرائع الحلم ومن حلم لم يفرط أمره وعاش في الناس، والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شد ظهره، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ومن شنئ الفاسقين غضب لله تعالى وغضب الله تعالى له، فقام الرجل وقبل رأسه. {وأمرت} أي: ممن له الأمر كله {لاعدل} أي: لأجل أن أعدل {بينكم} أيها المفترقون في الأديان من العرب والعجم من الأنس والجن، ثم علل ذلك بقوله {الله} أي: الذي له الملك كله {ربنا وربكم} أي: موجدنا ومتولي جميع أمورنا فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده. {لنا أعمالنا} خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا {ولكم أعمالكم} خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم فكل مجازى بعمله {لا حجة} أي: لا خصومة {بيننا وبينكم} وهذا قبل أن يؤمر بالجهاد كما قاله الجلال المحلي، وقال ابن الخازن: هذه الآية منسوخة بآية القتال وكذا قال البغوي، ولكن قال البيضاوي: وليس في الآية من يدل على متاركته رأساً حتى تكون منسوخة بآية القتال {الله} أي: الذي هو أحكم الحاكمين {يجمع بيننا} أي: في الميعاد لفصل القضاء {وإليه} أي: لا إلى غيره {المصير} أي: المرجع حساً ومعنىً، لتمام عزته وشمول عظمته. {والذين يحاجون في الله} أي: يوردون تشكيكاً في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال {من بعد ما استجيب له} أي: استجاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فأظهر دينه على الدين كله قال قتادة: هم اليهود قالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم وتشكيكهم، أو من بعد ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم الناس فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته. {حجتهم} أي: التي زعموها حجة {داحضة} أي: زائلة باطلة {عند ربهم} أي: المحسن إليهم بإضافة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم وقال الرازي: تلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا: ألستم تقولون أن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه؟ فنبوة موسى عليه السلام وحقية التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست متفقاً عليها فوجب الأخذ باليهودية، فبين تعالى فساد هذه الحجة، وذلك أن اليهود أجمعوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجل ظهور المعجزات على قوله وها هنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد صلى الله عليه وسلم واليهود قد شاهدوا تلك المعجزات فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 كان ظهور المعجزة يدل على الصدق فهنا يجب الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته بظهور المعجزات لأنه يكون تناقضاً.v تنبيه: والذين يحاجون مبتدأ وحجتهم مبتدأ ثان وداحضة خبر المبتدأ الثاني والثاني وخبره خبر الأول، وأعرب مكي حجتهم بدلاً من الموصول بدل اشتمال. ولما قرر تعالى هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة فقال: {وعليهم} أي: زيادة على قطع الإحسان {غضب} أي: عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذموم ومنه الطرد فهم مطرودون عن بابه مبعدون عن جنابه مهانون بحجابه {ولهم} مع ذلك {عذاب شديد} في الآخرة لا تصلون إلى حقيقة وصفه. {الله} أي: الذي له جميع الملك {الذي أنزل الكتاب} أي: جنس الكتاب {بالحق} أي: متلبساً على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل {والميزان} أي: الشرع الذي توزن به الحقوق ويسوي بين الناس أو العدل، قال مجاهد: سمي العدل ميزاناً لأن الميزان آلة للإنصاف والتسوية، وقال ابن عباس: أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس فيجب على العاقل أن يجتهد في النظر والاستدلال ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد. ولما كان صلى الله عليه وسلم يهددهم بيوم القيامة ولم يروا لذلك أثراً قالوا على سبيل السخرية: متى تقوم الساعة وليتها قامت حتى يظهر لنا الحق أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه؟ قال تعالى: {وما يدريك} أي: يا أكمل الخلق {لعل الساعة} أي: التي يستعجلون بها {قريب} وذكر قريب وإن كان صفة لمؤنث لأن الساعة في معنى الوقت أو البعث، أو على معنى النسب أي: ذات قرب، أو على حذف مضاف أي: مجيء الساعة، قال مكي: ولأن تأنيثها مجازي وهذا ممنوع إذ لا يجوز الشمس طالع ولا القدر فائر. تنبيه: لعل معلق للفعل عن العمل أي: ما بعده سد مسد المفعولين، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الساعة وعنده قوم من المشركين، وقالوا مستهزئين: متى الساعة تقوم؟ نزل قوله تعالى: {يستعجل بها} أي: يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها {الذين لا يؤمنون بها} أي: لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين ويظنون كذب القائل بها {والذين آمنوا} وإن كانوا في أول درجات الإيمان {مشفقون} أي: خائفون خوفاً عظيماً {منها} لأن الله تعالى هداهم بإيمانهم فصارت صدورهم معادن المعارف وقلوبهم منابع الأنوار، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار {ويعلمون أنها الحق} إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها لا يستعجلون بها، فالآية من الاحتباك، ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والإشفاق ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً. فائدة: روي: «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري في بعض أسفاره فناداه: يا محمد، فقال له صلى الله عليه وسلم نحواً من صوته: هاؤم فقال: متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم ويحك إنها كائنة فما أعددت لها، فقال: حب الله تعالى وحب رسوله، فقال: أنت مع من أحببت» . والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها ومن أحب الله تعالى ورسوله فعل ما أَمرا به واجتنب ما نهيا عنه، فهي المحبة الكاملة نسأل الله الكريم من فضله أن يوفقنا وأحبابنا لطاعته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 واجتناب معاصيه {إلا إن الذين يمارون} أي: يخاصمون ويجادلون {في الساعة} أي: القيامة وما تحتوي عليه {لفي ضلال} أي: ذهاب حائد عن الحق {بعيد} جداً عن الصواب فإن لها من الأدلة الظاهرة ما ألحقها بالمحسوسات، كما قال القائل لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. ولما أنزل الله عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، كان ذلك من لطف الله تعالى بعباده كما قال عز من قائل: {الله} أي: الذي له الأمر كله {لطيف} أي: بالغ في اللطف والعلم وإيقاع الإحسان {بعباده} وقال ابن عباس: حق بهم، وقال عكرمة: بارّ بهم وقال السدي: رفيق بهم، وقال القشيري: اللطيف: العالم بدقائق الأمور وغوامضها، وقال الرازي: هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي أما لطفه بالمؤمنين فواضح، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله تعالى: {يرزق من يشاء} أي: مهما شاء على سبيل من السعة والضيق أو التوسعة لا مانع له من شيء من ذلك، فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله تعالى أن يرزقه، قال جعفر الصادق: اللطف في الرزق من وجهين؛ أحدهما: أنه جعل رزقك من الطيبات والثاني: أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة {وهو القوي} أي: القادر على ما يشاء {العزيز} فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده. ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ويرغب في رزق الروح فقال تعالى على سبيل الاستئناف: {من كان} أي: من شريف أو دني {يريد} أي: بعمله {حرث الآخرة} أي: أعمالها والحرث في اللغة الكسب {نزد له} أي: بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها {في حرثه} قال مقاتل: بأن يعينه على الأعمال الصالحة ويضاعف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله تعالى من الزيادة، وقال الزمخشري: إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز {ومن كان} أي: من قوي أو ضعيف {يريد} أي: بعمله {حرث الدنيا} أي: أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي وتستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة {نؤته منها} أي: ما قسمناه له ولو تهاون به ولم يطلبه لآتاه، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الهاء، واختلس قالون كسرة الهاء، وعن هشام اختلاس الكسرة في الهاء والإشباع، والباقون بإشباع الكسرة {وما} أي: والحال أن طالب الدنيا بعمله ما {له في الآخرة من نصيب} لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وروى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكن في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» . أي: لأن هذا تهاون بالآخرة فلم يبنوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها فإنها ضرة الدنيا وضدها، فالدنيا بخساستها تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله، فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب وصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في الزائد الباقي أولى من صرفها لما يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 في التناقص والانقضاء. قال الرازي في اللوامع: أهل الإرادة على أصناف مريد الدنيا ومريد الآخرة ومريد الحق جل وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدنيا مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله تعالى كما قال تعالى: {يريدون وجهه} (الكهف: 28) فطرح الكونين والعزلة عن الخلق والخلاص من يد النفس انتهى. وحاصله: أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار بل امتثالاً لأجل الملك الأعلى لأنه أهل لذلك، مع اعترافه بأنه لن يقدر الله تعالى حق قدره. ولما بين تعالى أعمال الآخرة والدنيا أتبعه بيان ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال تعالى: {أم} أي: بل {لهم} أي: كفار مكة {شركاء} أي: على زعمهم وهم شياطينهم {شرعوا} أي: سنوا بالتزيين {لهم} أي: الكفار {من الدين} أي: الفاسد في العبادات والعادات {ما لم يأذن به الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، وقيل: شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء لله، ولما كانت سبباً لضلالهم جعلت شارعة لدين ضلالتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} (إبراهيم: 36) وقال ابن عباس: شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام {ولولا كلمة الفصل} أي: القضاء السابق بتأخير الجزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة {لقضي بينهم} أي: بين الذين امتثلوا أمره والتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت، ولكنه قد سبق القضاء في الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة فهي تجري على ما حد لها لا يتقدم شيء منها ولا يتاخر ولا يتبدل ولا يتغير وستنكشف لهم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق القضاء {وإن الظالمين} بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره {لهم عذاب أليم} أي: مؤلم بليغ إيلامه، ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب مبتدئاً بالأول منهما بقوله تعالى: {ترى} أي: في ذلك اليوم {الظالمين} أي: الواضعين الأشياء في غير مواضعها {مشفقين} أي: خائفين أشد الخوف كما هو الحال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر {مما كسبوا} أي: عملوا معتقدين أنه غاية ما ينفعهم {وهو} أي: جزاؤه ووباله الذي من جنسه حتى كأنه هو {واقع بهم} لا محالة سواء أشفقوا أم لم يشفقوا، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهي التي أذن الله تعالى فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه {في روضات الجنات} أي: في الدنيا بما يلذذهم به الله تعالى من لذائذ الأقوال والأفعال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال، وروضة الجنة أطيب بقعة فيها، وفيه تنبيه على أن عصاة المؤمنين من أهل الجنة لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنات وهي: البقاع الشريفة من الجنة فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله تعالى: {لهم ما يشاؤون عند ربهم} يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 مهيأة والعندية مجاز. تنبيه: عند ربهم يجوز أن يكون ظرفاً ليشاؤون قاله الحوفي، أو للاستقررار العامل في لهم قاله: الزمخشري: وقوله تعالى: {ذلك} أي: الخير العظيم الرتبة الجليل القدر {هو الفضل الكبير} أي: الذي يصغر ما لغيرهم في الدنيا يدل على أن الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الوجوب والاستحقاق وقوله تعالى: {ذلك} أي: الجزاء العظيم من الجنة ونعيمها مبتدأ خبره {الذي يبشر الله} أي: الملك الأعظم والعائد وهو به محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالإشارة ويجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد في قوله تعالى {عباده} مع الإضافة إلى ضميره سبحانه. ولما أشعر بصلاحهم بالإضافة نص عليه بقوله تعالى: {الذين آمنوا} أي: صدقوا بالغيب {وعملوا} تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات} قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة، والباقون بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة من بشره. ولما كان كأنه قيل: فما نطلب في هذه البشارة لأن الغالب أن المبشر وإن لم يسأل يعطى بشارته، كما وقع لكعب لما أذن الله تعالى بتوبته ركض راكض على فرس وسعى ساع على رجليه فأوفى على جبل سلع ونادى: يا كعب بن مالك أبشر فقد تاب الله عليك فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءه الذي سمع صوته خلع عليه ثوبيه وهو لا يملك يومئذ غيرهما واستعار له ثوبين قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين {لا أسألكم} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان {عليه} أي: البلاغ بشارة أو نذارة {أجراً} أي: وإن قل {إلا} أي: لكن أسألكم {المودة} أي: المحبة العظيمة الواسعة {في القربى} أي: مظروفة فيها بحيث تكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها لا يخرج شيء من محبتكم عنها. تنبيه: في الآية ثلاثة أقوال؛ أولها: قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، وكان له فيهم قرابة فقال الله عز وجل {قل لا أسألكم عليه أجراً} على ما أدعوكم إليه إلا أن تودوا القربى، أي: تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة والمعنى: أنكم قربى وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ولا تؤذوني، وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وغيرهما. ثانيها: روى الكلبي عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة» فقالت الأنصار: «إن هذا الرجل هداكم وهو ابن أخيكم وجاركم في بلدكم فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه بها فردها عليهم» ونزل قوله تعالى {قل لا أسألكم عليه} أي: على الإيمان أجراً إلا المودة في القربى أي: لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب، ثالثها: قال الحسن: معناه إلا أن توادوا الله تعالى وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح، فالقربى على القول الأول: القرابة التي بمعنى الرحم وعلى الثاني: بمعنى الأقارب وعلى الثالث: فعلى بمعنى القرب والتقرب والزلفى، فإن قيل: طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 لوجوه؛ أحدها: أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر فقال تعالى في قصة نوح: {وما أسألكم عليه من أجر} (الفرقان: 57) الآية، وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام، ورسولنا أفضل الأنبياء فأن لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى، ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنفي طلب الأجر فقال: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} و {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} (سبأ: 47) ثالثها: أن التبليغ كان واجباً عليه قال تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: 67) الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء. رابعها: أن النبوة أفضل من الحكمة وقال تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} (البقرة: 269) ووصف الدنيا بأنها متاع قليل قال تعالى {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: 77) فكيف يحسن بالعقل مقابلة أشرف الأنبياء بأخس الأشياء، خامسها: أن طلب الأجر يوجب التهمة وذلك ينافي القطع بصحة النبوة، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجراً البتة على التبليغ والرسالة وههنا قد ذكر ما يجري مجرى طلب الأجر وهو المودة في القربى؟ أجيب: بأنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ وأما قوله تعالى: {إلا المودة في القربى} فالجواب عنه من وجهين؛ الأول: أن هذا من باب قوله: *ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب* يعني: أني لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (التوبة: 71) وقال صلى الله عليه وسلم «المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً» . والآيات والأخبار في هذا كثيرة، وإذا كان حصول المودة بين المسلمين واجباً فحصولها في حق أشرف المرسلين أولى فقوله: {إلا المودة في القربى} تقديره: والمودة في القربى ليست أجراً، فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر البتة. الثاني: أن هذا استثناء منقطع كما مر تقديره في الآية وتم الكلام عند قوله {قل لا أسألكم عليه أجراً} ثم قال: {إلا المودة في القربى} أي: أذكركم قرابتي فيكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر واختلفوا في قرابته صلى الله عليه وسلم فقيل: هم فاطمة وعلي وأبناؤهما، وفيهم نزل {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب: 33) ، وروى زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني تارك فيكم كتاب الله وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» . قيل لزيد بن أرقم فمن أهل بيتي؟ فقال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. وروى ابن عمر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته وقيل: هم الذين تحرم عليهم الصدقة من أقاربه ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لم يفترقوا جاهلية ولا إسلاماً، وقيل: هذه الآية منسوخة وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل، قال البغوي: وهذا قول غير مرضي لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين. ولما كان التقدير فمن يقترف سيئة فعليه وزرها ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية عطف عليه قوله تعالى {ومن يقترف} أي: يكتسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج {حسنة} أي: ولو صغرت {نزد} بما لنا من العظمة {له فيها} أي: في الحسنة {حسناً} أي: بمضاعفة الثواب من الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدى به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء، قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل: المراد بها العموم في أي: حسنة كانت إلا أنها لما ذكرت عقب ذكر المودة في القربى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة {إن الله} أي: الذي لا يتعاظمه شيء {غفور} لكل ذنب تاب منه صاحبه وكان غير الشرك وإن لم يتب منه إن شاء فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحبيب {شكور} أي: فهو يجزي بالحسنة أضعافها وإن قلت والشكور في حق الله تعالى مجاز والمعنى: أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي أن يزيد عليه أنواعاً كثيراً من التفضيل. ثم ذكر الله تعالى الجواب عن طعن الكفرة في النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {أم} أي: بل {يقولون افترى} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {على الله} الذي أحاط بصفات الكمال فله العلم الشامل لمن يتقول عليه والقدرة التامة على عقابه {كذباً} حين زعم أن هذا القرآن من عنده وأنه أرسله بهذا الدين {فإن يشأ الله} أي: الذي له الإحاطة بالكمال {يختم} أي: يربط {على قلبك} بالصبر على أذاهم بهذا القول وغيره وقد فعل، وقال قتادة: يعني يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما آتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذباً لفعل به ما أخبر عنه في هذه الآية، أي: أنه لا يجترئ على افتراء الكذب إلا من كان في هذه الحالة، والمقصود من هذا الكلام: المبالغة في تقرير الاستبعاد ومثاله: أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين: ذلك لعل الله خذلني أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة منه وقوله تعالى {ويمح الله} أي: الذي له الأمر كله {الباطل} وهو قولهم افترى مستأنف غير داخل في جزاء الشرط لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً وسقطت الواو منه لفظاً لالتقاء الساكنين في الدرج وخطا حملاً للخط على اللفظ كما كتبوا سندع الزبانية عليه وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال: {ويحق} أي: يثبت على وجه لا يمكن زواله {الحق} أي: كل ما من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره {بكلماته} أي: التي لو كان البحر مداداً لها لنفذ وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام عليهم {إنه عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: ما هو فيها مما يعلمه صاحبها ومما لا يعلمه فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك ولتعلمن نبأه بعد حين، ولقد صدق الله تعالى فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه ومن أصدق من الله قيلاً، قال ابن عباس: لما نزل {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا: يريد أن يخلطنا على أقاربه من بعده فنزل جبريل عليه السلام فأخبره أنهم اتهموه فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال القوم: يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق فنزل: {وهو} أي: لا غيره {الذي يقبل التوبة عن عباده} بالتجاوز عما تابوا عنه سئل أبو الحسن البوشنجي عن التوبة فقال: إذا ذكرت الذنب فلا تجد له حلاوة في قلبك.d وروى جابر: أن أعرابياً دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 «اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر» فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله تعالى عنه: يا هذا إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين فقال يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية وإذابتها في الطاعة كما ربيتها في المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وقال سهل بن عبد الله: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وقال بعضهم: هي الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل. وعن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» . وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله جعل في الغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها» . وروى: «أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال الله تعالى تفضلاً منه ورحمة: {ويعفو عن السيئات} أي: التي كانت التوبة منها صغيرة كانت أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها إن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما يكون قبله وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان هو وراحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» {ويعلم} أي: والحال أنه يعلم كل وقت {ما تفعلون} فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتاء الخطاب إقبالاً على الناس عامة وهذا خطاب للمشركين، وقرأ الباقون بالغيبة نظراً إلى قوله تعالى عن عباده وقال تعالى بعد {ويزيدهم من فضله} . ولما رغب بالعفو زاد بالإكرام فقال تعالى: {ويستجيب} أي: يوجد بغاية العناية والطلب إجابة {الذين آمنوا} أي: دعاء الذين أقروا بالإيمان في كل ما دعوا به أو شفعوا عنده فيه لأنه لولا إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا، وعدي الفعل بنفسه ولم يقل: {ويستجيب للذين آمنوا} تنبيهاً على زيادة بره لهم ووصلهم به {وعملوا} تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} فيثيبهم النعيم المقيم {ويزيدهم} أي: مع ما دعوا به لما لم يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم {من فضله} أي: تفضلاً منه عليهم ويجوز أن يكون الموصول فاعلاً أي: يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} (الأنفال: 24) واستجاب كأجاب ومنه: *وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذلك مجيب* وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: معناه ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلاً منه، وروى أبو صالح عنه: «يشفعهم ويزيدهم من فضله» قال في إخوان: إخوانهم ثم أتبع المؤمنين بذكر ضدهم فقال تعالى {والكافرون} أي: العريقون في هذا الوصف القاطع الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان {لهم عذاب شديد} بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضيل ولا يجيب دعاءهم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، فالآية من الاحتباك ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً والعذاب ثانياً دليلاً على ضده أولاً. ولما قال تعالى أنه يجيب دعاء المؤمنين ورد سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى {ويستجيب الذين آمنوا} فأجاب تعالى عنه بقوله تعالى: {ولو} أي: وهو يقبل ويستجيب والحال أنه لو {بسط الرزق} لهم هكذا كان الأصل لكن قال: {لعباده} لئلا يظن خصوصية ذلك بالتائبين إذ لا فرق بين التائب وغيره {لبغوا} أي: طغوا {في الأرض} أي: لصاروا يريدون كل ما يشتهون فيكثر القتل والسلب والنهب ونحو ذلك من أنواع الفساد، قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية وذلك إنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وتمنيناها فنزلت، وذكر في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه: الأول: أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل امتنع كون البعض محتاجاً إلى البعض وذلك موجب خراب العالم وتعطيل المصالح، ثانيها: أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ ومن العشب ما يشبعهم قدموا على النهب والغارة، ثالثها: أن الإنسان متكبر بالطبع فإن وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس» {ولكن ينزل} أي: لعباده من الرزق، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {بقدر} أي: بتقدير لهم {ما يشاء} أي: ما اقتضته مشيأته {أنه} وقال تعالى: {بعباده} ولم يقل بهم لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم {خبير بصير} يعلم جميع ظواهر أمورهم وبواطنها فيقيم كل أحد فيما يصلح له من صلاح وفساد وعدل وبغي. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله عز وجل في حديث طويل وفيه يقول الله عز وجل: «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» ، و «أن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وذلك أني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» . وقرأ ما يشاء أنه نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء ولهم أيضاً إبدالها واو أو الباقون بتحقيقهما وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المد والقصر والروم والإشمام. {وهو} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 أي: لا غيره {الذي ينزل الغيث} أي: المطر الذي يغاث به الناس وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {من بعد ما قنطوا} أي: يئسوا من نزوله وعلموا أنه لا يقدر على إنزاله غيره ولا يقصد فيه سواء ليكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر وقال تعالى: {وينشر رحمته} أي: يبسط مطره كما قال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} (الأعراف: 57) وإن كان الأصل بنشره لأنه بين أنه غيث فقال رحمته بياناً وتعميماً، فينزل من السحاب المحمول بالريح من الماء ما لو اجتمع عليه الخلائق ما أطاقوا عمله، فتصبح الأرض ما بين غدران وأنهار ونبات نجم وأشجار وزهر وحب وثمار وغير ذلك من المنافع الصغار والكبار فلله ما أعلى هذه القدرة الباهرة والآية الظاهرة، فيخرج من الأرض التي هي من صلابتها تعجز عنها المعاول نجماً هو في لينه ألين من الحرير وفي لطافته ألطف من النسيم ومن سوق الأشجار التي تنثني فيها المناقير أغصاناً ألطف من ألسنة العصافير، فما أجلف من ينكر إخراجه الموتى من القبور أو يحيد عن ذلك بنوع من الغرور {وهو} أي: لا غيره {الولي} الذي لا أحد أقرب منه إلى عباده في شيء من الأشياء {الحميد} الذي يستحق مجامع الحمد مع أنه يحمد من يطيعه فيزيده من فضله ويصل حبله دائماً بحبله. {ومن آياته} أي: العظيمة على استحقاقه لجميع صفات الكمال {خلق السموات} التي تعلمون أنها متعددة لما ترون من أمور الكواكب {والأرض} أي: جنسها على ما هما عليه من الهيآت وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات وقوله تعالى: {وما بث} أي: فرق ونشر يجوز أن يكون مجرور المحل عطفاً على السموات أو مرفوعه عطفاً على خلق على حذف مضاف، أي: وخلق ما بث، قال أبو حيان: وفيه نظر لأنه يؤول إلى جره بالإضافة لخلق المقدر فلا يعدل عنه {فيهما} أي: في السموات والأرض {من دابة} أي: شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة والحركة من الأنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات على اختلاف ألوانهم وأصنافهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وأقطارهم ونواحيهم، فإن قيل: كيف يجوز إطلاق الدابة على الملائكة؟ أجيب: بوجوه أولها: ما مر من أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة والملائكة لهم الروح والحركة، ثانيها: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحداً منهم، ومنه قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن: 22) ثالثها: قال ابن عادل: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض. وروى العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش» الحديث. {وهو} أي: لا غيره {على جمعهم} أي: هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم للمحشر بعد تفريقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره {إذا} في وقت {يشاء قدير} أي: بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم يجمعهم في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينقذهم البصر ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة} أي: بلية وشدة {فبما كسبت أيديكم} أي: من الذنوب، وقرأ نافع وابن عامر بغير فاء والباقون بالفاء لأن ما شرطية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 أو مضمنة معناه وأما من أسقطها فقد استغنى بما في الباء من معنى السببية، فإن قيل: الكسب لا يكون باليد بل بالقدرة القائمة بها؟ أجيب: بأن المراد من لفظ اليد هنا القدرة وإذا كان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تبارك وتعالى عن الأعضاء، واختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام والقحط والغرق والمصائب هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أولاً، فمنهم من أنكر ذلك لوجوه أولها قوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر: 17) بين تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى: {مالك يوم الدين} (الفاتحة: 4) أي: يوم الجزاء وأجمعوا أن المراد منه يوم القيامة ثانيها: مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق فيمتنع أن تكون عقوبة على الذنوب بل حصول المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» . ثالثها: أن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محال، وقال آخرون: هذه المصائب قد تكون أجزية على ذنوب متقدمة لهذه الآية، ولما روى الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أصابكم من مصيبة الآية، قال صلى الله عليه وسلم وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله سبحانه وتعالى اكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فإنه أحلم من أن يعود بعد عفوه» وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى: بعد هذه الآية {أو يوبقهن بما كسبوا} وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك بسبب كسبهم. قيل لأبي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال: إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم وقرأ هذه الآية. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء بل ذلك لزيادة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن أعمالهم لم تبلغها فهي خير من الله تعالى لهم، ويحمل قوله تعالى: {فبما كسبت أيديكم} على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم {ويعفو عن كثير} أي: من الذنوب بفضله ورحمته فلا يعاقب عليها ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة قال الواحدي بعد أن روى حديث علي: وهذه أرجى آية في كتاب الله تعالى لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين؛ صنف: كفر عنهم بالمصائب، وصنف: عفا عنهم في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله تعالى مع المؤمنين وأما الكافر: فإنه لا تعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة. {وما أنتم بمعجزين} أي: فائتين ما قضى عليكم من المصائب {في الأرض وما لكم من دون الله} ولا في شيء أراده سبحانه منكم كائناً ما كان {من ولي} أي: يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال {ولا نصير} يدفع عنكم شيئاً يريده سبحانه بكم. {ومن آياته} أي: الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته {الجواري} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 السفن الجارية {في البحر كالأعلام} أي: كالجبال قالت الخنساء في مرثية أخيها صخر: *وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار* أي: جبل في رأسه نار شبهت به أخاها. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي هذا البيت قال: قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت في رأسه ناراً» . وقال مجاهد: الأعلام القصور وأحدها علم، وقال الخليل بن أحمد: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم. فإن قيل: الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها امتنع حذف الموصوف فلا تقول: مررت بماش لأن المشي عام وتقول: مررت بمهندس وكاتب والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {في البحر} قرينة دالة على الموصوف، فذلك حذف ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق فوليت العوامل من دون موصوفها، وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلاً لا وقفاً، وابن كثير وهشام بإثباتها وقفاً بخلاف عن هشام الباقون بحذفها وقفاً ووصلاً وأمال الجواري محضة الدوري عن الكسائي وفتح الباقون. {أن يشأ} أي: الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة ألفكم لها {يسكن الريح} الذي يسيرها وأنتم مقرون بأن أمرها ليس إلا بيده، وقرأ نافع بألف بعد الياء جمعاً والباقون بغير ألف إفراداً {فيظللن} أي: فيتسبب عن ذلك أنهن يظللن أي: يقمن ليلاً كان أو نهاراً {رواكد} أي: ثوابت لا تجري {على ظهره} أي: البحر {إن في ذلك} أي: ما ذكر في حال السفن في سيرها وركوبها بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه {لآيات} أي: على إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال {لكل صبارٍ} أي: على البلاء والشدة {شكور} أي: على نعمائه وهو المؤمن الكامل يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء فإن الإيمان نصفان؛ نصف: صبر، ونصف: شكر. {أو} أي: أو يشأ في كل وقت أراده {يوبقهن} أي: يهلكهن بعصف الريح بأهلهن {بما كسبوا} أي: أهلهن من الذنوب {ويعفو} أي: إن يشأ {عن كثير} من ذنوبهم فلا يعاقب فينجيهم بعوم أو حمل على خشبة أو غير ذلك، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيئة وقوله تعالى: {ويعلم} قرأه نافع وابن عامر برفع الميم مستأنفاً والباقون بالنصب معطوف على تعليل مقدر أي: ليغرقهم لينتقم منهم وليعلم {الذين يجادلون} أي: عند النجاة بالعفو {في آياتنا} أي: يكذبون القرآن، أي: علم ظهور للناس {ما لهم من محيص} أي: مهرب من العذاب وجملة النفي سدت مسد مفعولي يعلم أو النفي معلق عن العمل، وقوله تعالى: {فما أوتيتم} خطاب للمؤمنين وغيرهم {من شيء} أي: من أثاث الدنيا {فمتاع الحياة الدنيا} أي: القريبة الدنية لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله تعالى {وما} أي: والذي {عند الله} أي: الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من نعم الدارين {خير} أي: في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعه فسماه متاعاً تنبيها على قلته وحقارته، وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه وأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 الآخرة فهي خير {وأبقى} والباقي خير من الخسيس الفاني. ثم بين تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات الصفة الأولى قوله سبحانه وتعالى {للذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة {وعلى} أي: والحال إنهم على {ربهم} أي: الذي لم يروا إحساناً قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص {يتوكلون} أي: يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم منه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلاً لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي وهذا يرد على من زعم أن الطاعة توجب الثواب لأنه يتوكل على عمل نفسه لا على الله تعالى فلا يدخل تحت الآية الصفة الثانية قوله عز وجل: {والذين يجتنبون} أي: يكلفون أنفسهم أن يجانبوا {كبائر الإثم} أي: جنس الفعال الكبائر التي لا توجد إلا في ضمن أفرادها ويحصل بها دنس النفس فيوجب عقابها مع الجسم وعطف على كبائر قوله تعالى: {والفواحش} وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع، والكبائر كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة والفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وقال مقاتل: ما يوجب الحد وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة النساء، وقرأ حمزة والكسائي: بكسر الباء الموحدة قبل الياء الساكنة وهي للجنس فهي بمعنى قراءة الجمع، كما قرأ الباقون بفتح الموحدة وألف بعدها وبعد الألف همزة مكسورة والأولى أبلغ لشمولها المفردة، الصفة الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {وإذا ما غضبوا} أي: غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال تعالى: {هم يغفرون} أي: هم الأخصاء والأحقاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي: محواً للذنوب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر والتكبر لا يصلح لغير الإله، وفي الصحيح: «أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى» . وروى ابن حاتم عن إبراهيم النخعي قال: «كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا غفروا» ، الصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين استجابوا} أي: أوجدوا الإجابة لما لهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد {لربهم} أي: الداعي لهم إلى إجابة إحسانه إليهم، قال الرازي: المراد من هذا تمام الانقياد، فإن قيل: أليس أنه لما جعل الإيمان فيه شرطاً قد دخل في الإيمان إجابة الله تعالى؟ أجيب: بأنه يحمل هذا على الرضا بقضاء الله تعالى من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة، الصفة الخامسة: قوله سبحانه وتعالى: {وأقاموا} أي: أداموا {الصلاة} الواجبة {وأمرهم} أي: كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير {شورى بينهم} أي: يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين بما لهم من قوة الباطن ولا يعجلون في أمورهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، الصفة السادسة، قوله تعالى: {ومما رزقناهم} أي: أعطيناهم بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة {ينفقون} أي: يديمون الإنفاق في سبيل الله تعالى كرماً منهم، وإن قل ما بأيديهم اعتماداً على فضل الله تعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين. {والذين إذا أصابهم البغي} أي: وقع بهم وأثر فيهم وهو التمادي على الرمي بالشر {هم ينتصرون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 أي: ينتقمون ممن ظلمهم بمثل ظلمه، كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة قال مقاتل: يعني القصاص وهي الجراحات والدماء، وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله يقول: أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي، قال سفيان بن عيينة: سألت سفيان الثوري عن ذلك فقال: إن شتمك رجل فتشتمه أو يفعل كذا فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسأل هشام بن حجر عن ذلك فقال: الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك وتشتمه وقد تكفلت هذه الجمل بأمهات الفضائل الثلاث، العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم وبالنفقة إلى العفة وبالانتصار إلى الشجاعة حتى لا يظن أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث فإن من علم المماثلة كان عالماً، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ومن قسر نفسه على ذلك كان شجاعاً وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول: للعاجز، والثاني: للمتغلب المتكبر بدليل البغي، فإن قيل: هذه الآية مشكلة لوجهين؛ الأول: أنه لما ذكر قبله {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} ، كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو {الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} ، الثاني: أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن، قال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: 237) وقال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} (الفرقان: 72) وقال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199) أجيب: بأن العفو على قسمين؛ أحدهما: أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته، والثاني: أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني وقوة غيظه وغضبه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني، وحينئذ يزول التناقض روي: «أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم سبيها» . وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب ففي الانتصار بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة بقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى: {فمن عفا} أي: بإسقاط حقه كله أو بالنقص منه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة {وأصلح} أي: أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه {فأجره على الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم «ما زاد الله بعفو إلا عزاً» {إنه لا يحب الظالمين} أي: لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله فيترتب عليهم عقابه. {ولمن انتصر} أي: سعى في نصر نفسه بجهده {بعد ظلمه} أي: بعد ظلم الغير له وليس قاصداً التعدي عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان التعدي {فأولئك} أي: المنتصرون لأجل دفع الظالم عنهم {ما عليهم} وأكد بإثبات الجار فقال تعالى: {من سبيل} أي: عتاب ولا عقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار روى النسائي عن عائشة قالت: «ما علمت حتى دخلت على زينب وهي غضبى، فأقبلت علي فأعرضت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم دونك فانتصري، فأقبلت عليها حين رأيتها قد يبس ريقها في فمها ما ترد علي شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه» . واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مهدرة لأنه فعل مأذون فيه فيدخل تحت هذه الآية. {إنما السبيل} أي: الطريق السالك الذي لا منع منه أصلاً {على الذين يظلمون الناس} أي: يوقعون بهم ظلمهم تعمداً عدواناً {ويبغون} أي: يتجاوزون الحدود {في الأرض} بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعاً وعلماً وعملاً {بغير الحق} أي: الكامل لأن الفعل قد يكون بغياً وإن كانت مصحوباً بحق كالانتصار المقرون بالتعدي فيه {أولئك} أي: البعداء من الله تعالى {لهم عذاب أليم} أي: مؤلم يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما آلموا من ظلموه. {ولمن صبر} أي: عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى {وغفر} أي: صرح بإسقاط العقاب والعتاب بمحي عين الذنب وأثره {فإن ذلك} أي: الفعل الواقع منه البالغ في العلو حداً لا يوصف {لمن عزم الأمور} أي: معزوماتها بمعنى المطلوبات شرعاً. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد ظلم مظلمة فعفا لله إلا أعزه الله تعالى بها نصراً» . {ومن يضلل الله} أي: الذي له صفات الكمال بأن لم يوفقه {فما له من ولي} أي: يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله تعالى عنه {من بعده} أي: بعد إضلال الله تعالى له، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله تعالى وأن الهداية ليست في مقدر أحد سوى الله تعالى وقال تعالى: {وترى الظالمين} موضع وتراهم لبيان أن الضال لا يضع شيئاً في موضعه. ولما كان عذابهم حتماً عبر عنه بالماضي فقال: {لما رأوا العذاب} أي: يوم القيامة المعلوم مصير الظالم إليه {يقولون} أي: مكررين لما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل {هل إلى مرد} أي: إلى دار العمل {من سبيل} أي: طريق فيتمنون حينئذ الرجوع إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة. {وتراهم} أي: في ذلك اليوم والضمير في قوله تعالى: {يعرضون عليها} يعود على النار لدلالة العذاب عليها. ثم ذكر حالهم عند عرضهم على النار بقوله تعالى: {خاشعين} أي: خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم {من الذل} لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه {ينظرون} أي: يبتدئ نظرهم المكرر {من طرف} أي: تحريك الأجفان {خفي} أي: ضعيف النظر يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها وذلة في أنفسهم كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر (أن) يملأ عينه منه ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، ويصح أن تكون من بمعنى الباء أي: بطرف خفي ضعيف من الذل، فإن قيل: قد قال الله تعالى في صفة الكفار أنهم يحشرون عمياً فكيف قال تعالى هنا: {إنهم ينظرون من طرف خفي} ؟ أجيب: بأنهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يصيرون عمياً أو أن هذا في قوم وذاك في قوم آخرين، وقيل: ينظرون إلى النار بقلوبهم والنظر بالقلب خفي. ولما وصف تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال تعالى: {وقال} أي: في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعيير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع {الذين آمنوا} أي: أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها {إن الخاسرين} أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 الذين كملت خسارتهم {الذين خسروا أنفسهم} بما استغرقها من العذاب {وأهليهم} بمفارقتهم لهم، أما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان {يوم القيامة} أي: هو يوم فوت التدارك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء، وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا أو يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة وقوله تعالى: {ألا إن الظالمين} أي: الراسخين في هذا الوصف {في عذاب مقيم} أي: دائم يحتمل أن يكون من تمام كلام المؤمنين وأن يكون تصديقاً من الله تعالى لهم. {وما كان} أي: ما صح ووجد {لهم} وأغرق في النفي فقال تعالى: {من أولياء} أي: فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب أولى {ينصرونهم} أي: يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات {من دون الله} أي: الملك الأعظم، أي: لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم من العذاب {ومن يضلل الله} أي: يوجد إضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان أو بعدم التوفيق بعد البيان {فما له} بسبب إضلال من له جميع صفات الكمال وأغرق تعالى في النفي بقوله سبحانه: {من سبيل} أي: طريق إلى الحق في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة. ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال تعالى: {استجيبوا لربكم} أي: أجيبوه بالتوحيد والعبادة فإنه الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه {من قبل أن يأتي يوم} هو يوم القيامة {لا مرد له من الله} أي: الذي له جميع العظمة فإنه إذا أتى به لا يرده وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره ومتى عدم ذلك أنتج قوله تعالى: {ما لكم} وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من ملجأ} أي: تلجؤون إليه {يومئذ} أي: في ذلك اليوم وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال تعالى: {وما لكم من نكير} أي: إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائفكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم. {فإن أعرضوا} أي: عن الإجابة فيما دعوتهم إليه {فما أرسلناك} أي: بما لنا من العظمة {عليهم حفيظاً} أي: تقهرهم على امتثال ما أرسلناك به {إن عليك إلا البلاغ} لما أرسلناك به، وأما الهداية والإضلال فإلينا، وهذا كما قال الجلال المحلي: قبل الأمر بالجهاد {وإنا إذا أذقنا} أي: بالعظمة التي لا يمكن مخالفتها {الإنسان} أي: بما جبلناه عليه من النقص وعدم التمالك {منا رحمة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى أو نحو ذلك {فرح بها} أي: بتلك الرحمة وأفرد ضمير فرح نظراً للفظ الإنسان إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه، ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ونعمة الله تعالى عليهم، وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة القطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سميت ذوقاً، فبين تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره ووقع في العجب والكبر وظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقصى السعادات، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وجمع ضمير الإنسان في قوله تعالى: {وإن تصبهم} باعتبار معناه {سيئة} أي: شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط {بما قدمت أيديهم} أي: قدموه وعبر بالأيدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 لأن أكثر الأفعال بها {فإن الإنسان} أي: الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب سيئة تضره {كفور} أي: بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولم يتأمل سببها وتصدير الشرطية الأولى: بإذا، والثانية: بإن لأن إذاقته النعمة محققة من حيث إنها عادة مقضيّة بالذات بخلاف إصابة البلية وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضعه الضمير في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، فإن كان في نعمة أشر وبطر، وإن كان في نقمة أيس وقنط، فهذا حال الجنس من حيث هو ومن وفقه الله تعالى جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم «المؤمن إن أصابه سراء شكر فكان خيراً، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً» . ولما ذكر تعالى إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها السيئة أتبع ذلك بقوله تعالى: {لله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات} كلها على علوها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها {والأرض} جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها {يخلق} أي: على سبيل التجدد والاختيار والاستمرار {ما يشاء} وإن كان على غير اختيار العباد لئلا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له ذلك القدر إنعاماً من الله تعالى عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد الطاعة. ثم ذكر من أقسام تصرفه تعالى في العالم أنه يخص بعض الناس بالأولاد الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض محروم من الكل كما قال تعالى: {يهب} أي: يخلق {لمن يشاء} أولاداً {إناثاً} فقط ليس معهن ذكر {ويهب لمن يشاء الذكور} فقط ليس معهم أنثى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بتسهيل الهمزة الثانية كالياء وتبدل أيضاً واواً خالصة، والباقون بتحقيقهما وفي الابتداء الجميع بالتحقيق، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المد والتوسط والقصر ولهما أيضاً تسهيلها مع المد والقصر والروم والإشمام. {أو يزوجهم} أي: الأولاد فيجعلهم أزواجاً أي: صنفين حال كونهم {ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً} أي: لا يولد له. قال الرازي: وفي الآية سؤالات؛ الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً ثم قدم الذكور على الإناث ثانياً فما السبب أي: فما الحكمة في هذا التقديم والتأخير؟ الثاني: أنه نكر الإناث وعرف الذكور، وقال في الصنفين معاً: أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً؟ الثالث: أنه لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي: حاجة في عدم حصوله إلى قوله تعالى: {ويجعل من يشاء عقيماً} الرابع: هل المراد بهذا الحكم جمع معينون أو الحكم على الإنسان المطلق ثم قال: والجواب عن الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطى الذكر بعدها فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطى الذكر أولاً ثم أعطى الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً ثم ثنى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم، قيل: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، وأما تقديم ذكر الذكور على ذكر الإناث ثانياً فلأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل مقدم على المفضول، وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 الذكور فهو أن المقصود منه التنبيه على أن الذكر أفضل من الأنثى. وأما قوله تعالى: {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} فهو أن كل شيئين يقترن أحدهما بالآخر فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له: زوج والكناية في يزوجهم عائدة على الإناث والذكور، والمعنى: يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي: يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث وأما الجواب عن قوله تعالى: {عقيماً} فالعقيم: هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال: رجل عقيم وامرأة عقيم، وأصل العقم: القطع، ومنه قيل الملك عقيم لأنه تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق، وأما الجواب عن الرابع: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يهب لمن يشاء إناثاً يريد لوطاً وشعيباً عليهما السلام لم يكن لهما إلا البنات ويهب لمن يشاء الذكور يريد إبراهيم عليه السلام لم يكن له إلا الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يريد محمداً صلى الله عليه وسلم كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبد الله وإبراهيم ومن البنات أربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ويجعل من يشاء عقيماً يريد يحيى وعيسى عليهما السلام، وقال أكثر المفسرين: هذا على وجه التمثيل وإنما الحكم عام في كل الناس لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأشياء كيف شاء فلا معنى للتخصيص ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {إنه عليم} أي: بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها {قدير} أي: شامل القدرة على تكوين ما يشاء. ولما بين تعالى حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه فقال تعالى: {وما كان} أي: وما صح {لبشر} من الأقسام المذكورة وحل المصدر الذي هو اسم كان ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم الوجوه فقال تعالى: {أن يكلمه} وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره فقال تعالى: {الله} أي: يوجد الملك الأعظم الجامع بصفات الكمال في قلبه كلاماً {إلا} أن يوحي إليه {وحياً} أي: كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إما بمشافهة كما ورد في حديث المعراج، وإما بإلهام أو رؤية منام كما رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أن يذبح ولده، أو بغير ذلك سواء خلق الله تعالى في المتكلم قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام أم لا ومن الثاني قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى} (القصص: 7) {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل: 68) {وأوحى في كل سماء أمرها} (فصلت: 12) {أو} إلا {من وراء حجاب} أي: من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر كما وقع لموسى عليه السلام {أو يرسل رسولاً} من الملائكة إما جبريل عليه السلام أو غيره. تنبيه: ذكر المفسرون: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال: «لم ينظر موسى إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً} ، {فيوحي} أي: الرسول إلى المرسل إليه أن يكلمه {بإذنه} أي: الله تعالى {ما يشاء} أي: الله عز وجل، وقرأ نافع برفع اللام من يرسل وسكون الياء من يوحي والباقون بنصب اللام والياء أما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو يرسل، ثانيها: أنه عطف على وحياً على أنه حال لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال: إلا موحياً إليه أو مرسلاً، ثالثها: أن يعطف على ما يتعلق به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحياً في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل، والتقدير: إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً. وأما القراءة الثانية: ففيها ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب إذ تقديره أو يكلمه من وراء حجاب وهذا الفعل المقدر معطوف على وحياً، والمعنى: إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب أو إرسال رسول، ولا يجوز أن يعطف على أن يكلمه لفساد المعنى إذ يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً بل يفسد لفظاً ومعنى، وقال مكي: لأنه يلزم منه نفي الرسل ونفي المرسل إليهم، ثانيها: أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحياً ووحياً حال فيكون هذا أيضاً حالاً والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً، ثالثها: أنه معطوف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير: إلا بأن يوحي إليه أو بأن يرسل ذكره مكي وأبو البقاء {إنه} أي: هذا الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم {علي} أي: بالغ العلو جداً عن صفات المخلوقين {حكيم} يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بواسطة وتارة بغير واسطة إما عياناً وإما من وراء حجاب. {وكذلك} أي: ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل {أوحينا} بما لنا من العظمة {إليك} يا أفضل الرسل {روحاً} قال ابن عباس: نبوة وقال الحسن: رحمة وقال السدي: وحياً وقال الكلبي: كتاباً وقال الربيع: جبريل وقال مالك بن دينار: القرآن، وسمي الوحي روحاً؛ لأنه مدبر الروح كما أن الروح مدبر للبدن وزاد عظمته بقوله تعالى: {من أمرنا} أي: الذي نوحيه إليك. ثم بين تعالى حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قبل الوحي بقوله سبحانه: {ما كنت} أي: فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك {تدري} أي: تعرف قبل الوحي إليك {ما الكتاب} أي: القرآن {ولا الإيمان} أي: تفصيل الشرايع على ما جددناه لك بما أوحيناه إليك وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة قد كان مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته، فإنه كان يصلي ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه، ولا شك أن الشهادة له صلى الله عليه وسلم نفسه بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك وكذلك الملائكة، فصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة: 143) أي: صلاتكم، وقيل: هذا على حذف ومعناه: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد، وقيل: الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به، وقال بعضهم: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها: ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة. تنبيه: ما؛ الأولى نافية والثانية استفهامية والجملة الاستفهامية معلقة للدراية فهي في محل نصب لسدها مسد مفعولين والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من الكاف في إليك، وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع وفي المسألة خلاف للعلماء فقيل: كان يتعبد على دين إبراهيم عليه السلام وقيل: غيره والضمير في قوله تعالى {ولكن جعلناه نوراً} يعود إما لروحاً وإما للكتاب وإما لهما وهو أولى لأنهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 مقصود واحد فهو كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة: 62) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الإيمان وقال السدي: يعني القرآن {نهدي} على عظمتنا {به من نشاء} خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا {من عبادنا} بخلق الهداية في قلبه بالتوفيق فهذه لا يقدر عليها أحد غير الله تعالى، وأما الهداية بالتبيين والإرشاد فهي قوله تعالى: {وإنك} يا أفضل الخلق {لتهدي} أي: تبين وترشد وأكده لإنكارهم ذلك {إلى صراط} أي: طريق واضح جداً {مستقيم} أي: شديد التقوم وهو دين الإسلام وقوله تعالى: {صراط الله} أي: الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال وقرأ سراط في الموضعين قنبل بالسين وخلف: بالإشمام أي: بين الصاد والزاي والباقون بالصاد الخالصة. ثم وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه مالك لما في السموات والأرض بقوله تعالى: {الذي له ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً وعبيداً {ألا إلى الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال الذي تعالى عن مثل وند وهو الكبير المتعال لا إلى غيره {تصير} أي: على الدوام وإن كانت في الظاهر في ملك غيره بحيث يظن الجاهل أن ملكها مستقر له. قال أبو حيان: أخبر بالمضارع والمراد به الديمومة كقوله: زيد يعطي ويمنع أي: من شاء ذلك ولا يراد به حينئذ حقيقة المستقبل {الأمور} كلها من الخلق والأمر معنى وحساً كما كانت الأمور كلها مبتدأة منه وحده وفي ذلك وعد للمطيعين ووعيد للمجرمين فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب، وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون ويسترحمون له» حديث موضوع. سورة الزخرف مكية وهي تسع وتسعون آية وثمانمائةوثلاثة وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف {بسم الله} أي: الذي له مقاليد الأمور كلها فهو يعطي من يشاء وإن طال سؤله {الرحمن} الذي نال بره جميع خلقه على حسب منازلهم عنده {الرحيم} الذي يقرب إليه من يشاء زلفى وإن وصل في البعد إلى الحد الأقصى وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: {حم} والواو في قوله تعالى: {والكتاب} أي: القرآن {المبين} أي: مظهر طريق الهدى وما يحتاج إليه من الشريعة عاطفة إن جعلت حم قسماً وإلا كانت للقسم وقوله تعالى: {إنا جعلناه} أي: أوجدنا هذا الكتاب {قرآناً عربيا} أي: بلغة العرب جواب القسم وهذا عندهم من البلاغة وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحد كقول أبي تمام: وثناياك إنها إغريض أي: طلع وبرد، وقيل: كل أبيض طري ولآل توم وبرق وميض والتوم جمع تومة وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة، والوميض مصدر ومض أي: لمع لمعاً خفيفاً. تنبيه: احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه؛ الأول: أنها تدل على أن القرآن مجعول والمجعول هو المصنوع المخلوق، الثاني: أنه وصفه بكونه قرآناً وهو إنما سمي قرآناً لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعاً، الثالث: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 وصفه بكونه عربياً وإنما يكون عربياً لأن العرب اختصت بوضع ألفاظه في اصطلاحهم وذلك يدل على أنه مجعول والتقدير حم ورب الكتاب المبين، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم. وأجاب الرازي عن ذلك: بأن هذا الذي ذكرتموه حق لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة محدثة وذلك معلوم بالضرورة ومن الذي ينازعكم فيه {لعلكم} أي: يا أهل مكة {تعقلون} أي: لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من أن تفهموا معانيه وأحكامه وبديع وصفه ومعجز وضعه ونظامه فترجعوا عن كل ما أنتم عليه من المغالبة ولا بد أن يقع هذا التعقل فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق وقوله تعالى: {وإنه} أي: القرآن عطف على إنا أي: مثبت {في أم الكتاب} أي: أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ، وقال قتادة: أم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله، وقال ابن عباس: أول ما خلق الله تعالى القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} (البروج: 22) ، فإن قيل: ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب يستحيل عليه السهو والنسيان؟. أجيب: بأنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه، وقيل: المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} (آل عمران: 7) والمعنى: أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها واتفقوا في الابتداء بالهمزة على الضم وقوله تعالى: {لدينا} أي: عندنا بدل من الجار قبله {لعلي} أي: رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها {حكيم} أي: ذو حكمة بالغة أو محكم في أبواب البلاغة والفصاحة. {أفنضرب} أي: أنهملكم فنضرب أي: ننجي مجاوزين {عنكم الذكر} أي: القرآن وفي نصب قوله تعالى: {صفحاً} أوجه؛ أحدها: أنه مصدر من معنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه قال طرفة: *اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس* واضرب بفتح الباء أصله اضربن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت النون وحركت الباء بالفتح، والطارق ما يطرق بالليل والقونس: منبت شعر الناصية وهو عظمٌ نابت بين أذني الفرس، ثانيها: أنه منصوب على الحال أي: صافحين ثالثها أن يكون مفعولاً من أجله وقيل غير ذلك {أن} أي: أنفعل ذلك لأن {كنتم قوماً مسرفين} أي: مشركين لا نفعل ذلك وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق ومخرج المشكوك استجهالاً لهم وما قبلها دليل الجزاء، وقرأ الباقون بفتحها وذكر تعالى تأنيساً للنبي صلى الله عليه وسلم وتأسية وتعزية وتسلية قوله سبحانه وتعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 {وكم أرسلنا} أي: على ما لنا من العظمة {من نبي في الأولين} أي: في الأمم الماضية ثم حكى حالهم الماضية بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنه ما {يأتيهم} وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من نبي} أي: في أمة بعد أمة أو زمان بعد زمان {إلا كانوا} أي: خلقاً وطبعاً {به يستهزؤون} كما استهزأ قومك بك فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب تكذيبهم واستهزائهم لأن المصيبة إذا عمت خفت. تنبيه: كم خبرية مفعول مقدم ومن نبي تمييز وفي الأولين متعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة لنبي. {فأهلكنا} أي: فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنا أهلكنا {أشد منهم} أي: من قريش الذين يستهزؤون بك {بطشاً} أي: قوة وكان الأصل الإضمار ولكنه أظهر الضمير صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه صلى الله عليه وسلم تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم {ومضى} أي: سبق في آيات الله {مثل} أي: صفة {الأولين} في الإهلاك وفي لك وعد للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم مثل ما جرى على الأولين واللام في قوله تعالى: {ولئن} لام قسم {سألتهم} أي: سألت قومك {من خلق السموات} على علوها وسعتها {والأرض} على كثرة عجائبها وعظمها وقوله تعالى: {ليقولن} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين {خلقهن} الذي هو موصوف بأنه {العزيز} أي: الذي لا يغالب {العليم} بما كان وما يكون. تنبيه: هذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال فكان الجواب هنا الله كما غيره من الآيات، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية مكرراً للفعل تأكيداً لإغراقهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظم غلطهم. ولما تم الإخبار عنهم ابتدأ الأدلة على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى: {الذي جعل لكم} ولو كان ذلك قولهم لقالوا لنا: {الأرض مهاداً} أي: فراشاً قارة ثابتة كالمهد للصبي ولو شاء لجعلها مزلة لا ينبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال، فالانتفاع بها إنما حصل لكونها واقفة ساكنة فإنها لو كانت متحركة ما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهد موضع راحة الصبي فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات، وقرأ الكوفيون بفتح الميم وسكون الهاء والباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعد الهاء {وجعل لكم فيها سبلاً} أي: طرقاً تسلكونها وذلك أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات ليحصل الانتفاع ولو شاء لجعلها بحيث لا يسكن في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ثم ذكر الغاية في ذلك فقال تعالى: {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار وغيرها فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة أو لتهتدوا إلى الحق في الدين. {والذي نزل} أي: بحسب التدريج ولولا قدرته تعالى الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها {من السماء} أي: المحل العالي {ماء} أي: لزرعكم وثماركم وشرابكم بأنفسكم وأنعامكم {بقدر} أي: بقدر حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم {فأنشرنا} أي: أحيينا {به} أي: الماء {بلدة} أي: مكاناً يجتمع فيه للإقامة يعتنون بإحيائه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 يتعاونون على دوام إبقائه {ميتاً} أي: كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيا به، قال البقاعي: ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه. {كذلك} أي: مثل هذا الإخراج العظيم الذي شاهدتموه في النبات {تخرجون} من قبوركم أحياء، والمعنى: أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة، ووجه التشبيه: أنه جعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي انتشرت بعدما كانت ميتة، وقيل: بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر قال ابن عادل: وهذا ضعيف لأن ظاهر لفظ الإشارة الإعادة فقط دون هذه الزيادة. ثم شرع تعالى في إكمال ما تقتضيه الحال من الأوصاف فقال عز من قائل: {والذي خلق الأزواج} أي: الأصناف المتشاكلة التي لا يكمل شيء منها غاية الكمال إلا بالآخر على ما دبره سبحانه في نظم هذا الوجود {كلها} من النبات والحيوان وغير ذلك من سائر الأكوان لم يشاركه في شيء منها أحد وقال ابن عباس رضي الله عنه: الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى، وقال بعض المحققين: كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف، وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثة مسبوقة بالعدم، فأما الحق تعالى: فهو الفرد المنزه عن الضد والند والمقابل والمعاضد، فلهذا قال تعالى: {والذي خلق الأزواج كلها} فهو مخلوق فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية، قال الرازي: وأيضاً علماء الحساب يثبتون أن الفرد أفضل من الزوج من وجود الأول أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وحدتين، فالزوج محتاج إلى الفرد والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج، الثاني: أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد لا يقبل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة فكان الفرد أفضل من الزوج، ثم ذكر وجوهاً أخر تدل على أن الفرد أفضل من الزوج وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكنات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقل بنفسه الغني عما سواه {وجعل لكم من الفلك} أي: السفن العظام في البحر {والأنعام} كالإبل في البر {ما تركبون} وحذف العائد لفهم المعنى تغليباً للمتعدي بنفسه في الأنعام على المتعدي بواسطة في الفلك، والعائد مجرور في الأول أي: فيه منصوب في الثاني وذكر الضمير وجمع الظهور في قوله تعالى: {لتستووا على ظهوره} نظراً للفظ ما ومعناها: ولما أتم النعمة بخلق ما تدعو إليه الحاجة وجعله على وجه دال على ما له من الصفات، ذكر ما ينبغي أن تكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم، فقال دالاً على عظم قدر النعمة وبعد غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي {ثم تذوكرا} أي: بقلوبكم وصرف القول إلى وجه التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال تعالى: {نعمة ربكم} أي: الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 لكم وما تعرفونه من غيرها {إذا استويتم عليه} أي: على ما تركبونه وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي: جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيحمله ذلك على الإنقياد لطاعة الله تعالى وعلى الإشتغال بالشكر لنعم الله تعالى التي لا نهاية لها. ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال عز من قائل: {وتقولوا} أي: بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان {سبحان الذي سخر} أي: بعلمه الكامل وقدرته التامة {لنا هذا} أي: الذي ركبناه سفينة كانت أو دابة {وما} أي: والحال أنا ما {كنا له مقرنين} أي: مطيقين والمقرن المطيق للشيء الضابط له من أقرنه أي: أطاقه قال الواحدي: كان اشتقاقه من قولك صرت له قرناً ومعنى قرن فلان أي: مثله في الشدة، وقيل: ضابطين وقال أبو عبيدة: قرن لفلان أي: ضابط له والقرن الحبل، ومعنى الآية: ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نطيقهما فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته وحكمته. روى الزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون» . وروى أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح عن علي رضي الله عنه: أنه وضع رجله في الركاب وقال: «فقال بسم الله فلما استوى على الدابة، قال: الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذه الآية، ثم حمد ثلاثاً وكبر ثلاثاً ثم قال: لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل: مم تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ما فعلت فقلنا: ما يضحكك يا رسول الله قال: إن ربك يعجب من عبده إذا قال العبد لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» . وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابة فلما استقر عليها كبر ثلاثاً وحمد الله تعالى ثلاثاً وسبح الله ثلاثاً وهلل الله تعالى واحدة وضحك، ثم أقبل عليه فقال: ما من امرئ مسلم ركب دابة فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك» . ولما كان راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً لأن الدابة قد يحصل لها ما يوجب هلاك الراكب وكذا السفينة قد تنكسر فوجب على الراكب أن يذكر أمر الموت ويقول: {وإنا إلى ربنا} المحسن إلينا بالأقدار على هذه التنقلات على هذه المراكب لا إلى غيره {لمنقلبون} أي: لصائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلاباً لا إياب معه إلى هذه الدار، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي وأكد لأجل إنكارهم البعث. ولما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} بين أنهم مع إقرارهم بذلك جعلوا له من عباده جزءا كما قال تعالى: {وجعلوا له من عباده} الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 {جزأ} أي: ولداً هو لحصرهم في الأنثى أحد قسمي الأولاد، وكل ولد فهو جزء من والده قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني» ، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً وذلك لقولهم: الملائكة بنات الله فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم، وقرأ شعبة: بضم الزاي والباقون بسكونها وهما لغتان وإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي. ولما كان هذا في غاية الغلط من الكفر قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون كفراً {إن الإنسان} أي: هذا النوع الذي هو بعضه {لكفور مبين} أي: بين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر وقوله تعالى: {أم اتخذ} أي: أعالج هو نفسه فأخذ هو بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم {مما يخلق} أي: يجدد إبداعه في كل وقت {بنات} استفهام توبيخ وإنكار أي: فلم يقدر بعد التكلف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزأين إليكم ثم عطف على قوله تعالى اتخذ ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار {وأصفاكم} وهو السيد الكامل وأنتم عبيده أي: خصكم {بالبنين} اللازم من قولكم السابق ثم بين كون البنات أبغض إليهم بقوله تعالى: {وإذا} أي: جعلوا ذلك والحال أنه إذا {بشر} أي: من أي: مبشر كان {أحدهم} أي: أحد هؤلاء البعداء البغضاء {بما ضرب} أي: جعل {للرحمن} الذي لا نعمة على شيء من الخالق ألا وهي منه {مثلاً} أي: شبهاً بنسبة البنات إليه لأن الولد يشبه الوالد، والمعنى إذا أخبر أحدهم بالبنت تولد له {ظل} أي: صار {وجهه مسوداً} أي: شديد السواد لما يعتريه من الكآبة {وهو كظيم} أي: ممتلئ غماً فكيف تنسب البنات إليه تعالى، هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلاً عن أن يتفوه به وقوله تعالى: {أومن ينشأ} أي: على ما جرت به عوائدكم {في الحلية} يجوز في مَنْ وجهان؛ أحدهما: أن تكون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر أي: أو تجعلون من ينشأ في الحلية، والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ جزء أولد أو جعلوه له جزأ، والمعنى: أن التي تتزين في الحلية تكون ناقصة الذات لأنه لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين أي: يربي، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين، وإذا وقف همزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً ولهما أيضاً تسهيلها والروم والإشمام، ثم بين نقصان حالها بطريق آخر بقوله تعالى: {وهو} أي: والحال أنه وقدم في إفادة الاهتمام قوله تعالى: {في الخصام} أي: المجادلة إذا احتج إليها فيها {غير مبين} أي: مظهر حجته لضعفه عنها بالأنوثة، قال قتادة: في هذه الآية قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها، ثم بين تعالى جرأتهم على ما لا ينبغي لعاقل أن يتفوه بقوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم} متصفون بأشرف الأوصاف وهو أنهم {عباد الرحمن} أي: العام النعمة الذين ما عصوه طرفة عين {إناثاً} وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وخلقاً ذاتاً وصفة فهذا كفر ثالث كالكافرين قبله، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: بكسر العين وبعدها نون ساكنة ونصب الدال، والباقون بعد العين بباء موحدة مفتوحة وبعدها ألف ورفع الدال ثم قال تعالى تهكماً بهؤلاء القائلين ذلك وتوبيخاً لهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 وإنكاراً عليهم {أشهدوا} أي: أحضروا {خلقهم} أي: خلقي إياهم فشاهدوهم إناثاً فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة، وقرأ نافع بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة كالواو وسكون الشين، وأدخل قالون بينهما ألفاً ولم يدخل ورش والباقون بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين. {ستكتب} بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به {شهادتهم} أي: قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة فهو قول ركيك سخيف ضعيف كما أشار إليه التأنيث {ويسألون} عنها عند الرجوع إلينا، قال الكلبي ومقاتل: «لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما يدريكم أنهم إناث؟ قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال تعالى {ستكتب شهادتهم ويسألون} عنها في الآخرة هذا يدل على أن القول بغير دليل منكر وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم قال المحققون: هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه؛ أولها: إثبات الولد ثانيها: أن ذلك الولد بنت ثالثها: الحكم على الملائكة بالأنوثة. تنبيه: قال البقاعي: يجوز أن يكون في السين استعطاف التوبة قبل كتابة ما قالوا ولا علم لهم به فإنه قد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح الله أو يستغفر» . ثم نبه سبحانه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم فقال تعالى معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه: {وقالوا} أي: بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله تعالى {لو شاء الرحمن} أي: الذي له عموم الرحمة {ما عبدناهم} أي: الملائكة فعبادتنا إياهم بمشيئته فهو راض بها ولولا أنه راض بها لعجل لنا العقوبة، فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على الرضا بها وذلك باطل لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض، مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو غيره ولذلك جهلهم فقال تعالى: {ما لهم بذلك} أي: المقول من الرضا بعبادتها {من علم إن} أي: {هم إلا يخرصون} أي: يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضا الله تعالى بكفرهم فيترتب عليهم العقاب. ولما بين تعالى بطلان قولهم بالعقل أتبعه بطلان قولهم بالنقل فقال تعالى: {أم آتيناهم} أي: على ما لنا من العظمة {كتاباً} أي: جامعاً لما يريدون اعتقاده من أقوالهم هذه {من قبله} أي: القرآن أخبرناهم فيه أنا جعلنا الملائكة إناثاً وأنا لا نشاء إلا ما هو حق نرضاه ونأمر به {فهم به} أي: فتسبب عن هذا الإتيان أنهم به وحده {مستمسكون} أي: موجدون الاستمساك به فيأخذون بما فيه، لم يقع ذلك. ولما بين تعالى أنه لا دليل على صحة قولهم البتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه لا حامل لهم يحملهم عليه إلا التقليد بقوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا} أي: وهم أرجح منا عقولاً وأصح منا إفهاماً {على أمة} أي: طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم ثم أكدوا قطعاً الرجاء المخالف عن لفتهم عن ذلك فقالوا {وإنا على آثارهم} أي: خاصة لا غيرها {مهتدون} أي: متبعون فلم نأت بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 واقتفاء الآثار فلا اعتراض علينا بوجه هذا قولهم في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك ولو ظهر لأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أيَّ مخالفة ما هذا إلا قصور نظر ومحض عناد ثم أخبر تعالى أن غيرهم قال هذه المقالة بقوله سبحانه: {وكذلك} أي: ومثل هذه المقالة المتناهية في البشاعة فعلت الأمم الماضية مع إخوانك الأنبياء عليهم السلام ثم فسر ذلك بقوله تعالى: {ما أرسلنا} أي: مع ما لنا من العظمة {من قبلك} أي: في الأزمنة السالفة {في قرية} وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من نذير} وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء {إلا قال مترفوها} أي: أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف يكون خاصاً بالمترف وذلك موجب لقلة الهم وللراحة والبطالة {إنا وجدنا آباءنا} أي: وهم أعرف منا بالأمور {على أمة} أي: أمر جامع يستحق أن يقصد ويؤم ثم أكدوا كما أكد هؤلاء فقالوا: {وإنا على آثارهم} أي: لا على غيرها {مقتدون} أي: راكبون سنن طريقتهم لازمون لها ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم {قل} أي: يا أفضل الخلق لهؤلاء البعداء البغضاء {أولو} أي: أتبغون ذلك ولو {جئتم بأهدى} أي: بأمر أعظم في الهداية وأوضح في الدلالة {مما وجدتم} أي: أيها المقتدون بالآباء {عليه آباءكم} أي: كما تضمن قولكم أنكم تقتفون في اتباعكم بالآثار في أعظم الأشياء وهو الدين الذي الخسارة فيه خسارة للنفس وأنتم تخالفونهم في أمر نفس الدنيا إذا وجدتم طريقاً أهدى في التصرف فيها من طريقتهم ولو أمراً يسيراً، ويفتخر أحدكم بأنه أدرك من ذلك ما لم يدرك أبوه فحصل من المال أكثر مما حصل فيا له من نظر ما أقصره ومتجر ما أخسره، وقرأ ابن عامر وحفص: قال بصيغة الماضي أي: قال المنذر أو الرسول وهو النبي صلى الله عليه وسلم والباقون: قل بصيغة الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوه بأن {قالوا} مؤكدين رداً لما قطع به كل عاقل سمع هذا الكلام من أنهم يبادرون النظر في الدليل والرجوع إلى سواء السبيل {إنا بما أرسلتم به} أي: أنت ومن قبلك {كافرون} أي: ساترون لما ظهر من ذلك جهدنا حتى لا يظهر لأحد ولا يتبعكم فيه مخلوق وإن كان أهدى مما كان عليه آباؤنا فعند هذا لم يبق لهم عذر فلهذا قال تعالى: {فانتقمنا} أي: بما لنا من العظمة التي استحقوا بها {منهم} فأهلكناهم بعذاب الاستئصال ثم عظم أمر النقمة بالأمر بالنظر فيها في قوله: {فانظر} يا أفضل الرسل {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} لرسلنا فإنهم أهلكوا أجمعون ونجا المؤمنون أجمعون فليحذر من رد رسالتك من مثل ذلك، وهذا تهديد عظيم لكفار قريش. ثم بين تعالى وجهاً آخر يدل على فساد التقليد بقوله تعالى: {وإذ} أي: واذكر يا أفضل الخلق إذ {قال إبراهيم} أي: الذي هو أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم {لأبيه} من غير أن يقلده كما قلدتم أنتم آباءكم {وقومه} الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض {إنني براء} أي: بريء {مما تعبدون} أي: في الحال والاستقبال. {إلا الذي فطرني} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 أي: خلقني {فإنه سيهدين} أي: يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته. تنبيه: في هذا الاستثناء أوجه؛ أحدها: أنه استثناء منقطع لأنهم كانوا عبدة أصنام فقط، ثانيها: أنه متصل لأنه روي أنهم كانوا يشركون مع الباري غيره، ثالثها: أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون ما نكرة موصوفة قاله الزمخشري. قال أبو حيان: وإنما أخرجها في هذا الوجه عن كونها موصولة لأنه يرى أن إلا بمعنى غير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف، وعلى هذا يجوز أن تكون ما موصولة وإلا بمعنى غير صفة لها. {وجعلها} أي: إبراهيم {كملة} أي: التوحيد المفهومة من قوله إنني إلى سيهدين {باقية في عقبه} أي: ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى لأنه عليه السلام مجاب الدعوة وقال: {ومن ذريتي} (إبراهيم: 40) {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} (البقرة: 129) {لعلهم} أي: أهل مكة {يرجعون} عما هم عليه إلى دين أبيهم فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه قال الله تعالى: {بل متعت هؤلاء} أي: الذين بحضرتك من المشكرين وأعداء الدين {وآياتهم} أي: مددت لهم في الأعمار مع إسباغ النعم وسلامة الأبدان من البلايا والنقم ولم أعاجلهم بالعقوبة فأبطرتهم نعمتي، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل {حتى جاءهم الحق} أي: القرآن {ورسول مبين} أي: مظهر لهم الأحكام الشرعية وهو محمد صلى الله عليه وسلم {ولما جاءهم الحق} أي: الكامل في حقيقته بمطابقة الواقع إياها من غير إلباس ولا اشتباه وهو القرآن العظيم {قالوا} مكابرة وعناداً وحسداً من غير وقفة ولا تأمل {هذا} مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع فلا شيء أثبت منه وهو القرآن الكريم {سحر} أي: خيال لا حقيقة له {وإنا به كافرون} أي: عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع. ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من كفرهم بقوله تعالى: {وقالوا لولا} أي: هلا {نزل} يعني من المنزل الذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا: {هذا القرآن} أي: الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه جامع لكل خير {على رجل من القريتين} أي: مكة والطائف {عظيم} لأنهم قالوا: منصب الرسالة منصب شريف لا يليق إلا برجل شريف وصدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة، وهي: أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثير المال والجاه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فلا تليق رسالة الله تعالى به، وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال يعنون الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود بالطائف، قال قتادة، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة وعبد يا ليل الثقفي من الطائف، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. تنبيه: قوله تعالى: {من القريتين} فيه حذف مضاف قدره بعضهم من رجلي القريتين، وقيل: من إحدى القريتين، وقيل: المراد عروة بن مسعود الثقفي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما، ثم رد الله تعالى عليهم إعراضهم منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً ولا موقوفاً عليهم بل إلى الله تعالى وحده والله أعلم حيث يجعل رسالاته بقوله تعالى: {أهم} أي: أهؤلاء الجهلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 العجزة {يقسمون} أي: على التجدد والاستمرار {رحمت ربك} أي: إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه أنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم لإنقاذهم من الضلال وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم، ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً، ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر لا يحب شهواتهم ولا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك كما قال تعالى: {نحن قسمنا} بما لنا من العظمة {بينهم} أي: في الأمر الزائل الذي يعمهم ويجب تخصيص كل منهم لما لديه {معيشتهم} أي: التي يعدونها رحمة ويقصرون عليهم النعمة {في الحياة الدنيا} التي هي أدنى الأشياء عندنا وأشار بتأنيثها إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتفانوا على ذلك فلم يبق منهم أحد، فكيف يدخل في الوهم أن نجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود وبها سعادة الدارين {ورفعنا} أي: بما لنا من نفوذ الأمر {بعضهم} وإن كان ضعيف البدن قليل العقل {فوق بعض} وإن كان قوياً غزير العقل {درجات} في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظم حال الوجود، فإنه لابد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم ففاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم، ليقتسموا الصنائع والمعارف ويكون كل ميسراً لما خلق له وجانحاً لما هُيىء لتعاطيه فلم يقدر أحد من دني أو غني أن يعدو قدره ويرتقي فوق منزلته. ثم علل ذلك بما ثمرته عمارة الأرض بقوله تعالى: {ليتخذ} أي: بغاية جهده {بعضهم بعضاً سخرياً} أي: ليستخدم بعضهم بعضاً فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم؛ لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء، فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا، قال ابن الجوزي: فإذا كانت الأرزاق بقدر الله تعالى لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة وهذا هو المراد بقوله تعالى: صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى الوصف بالإحسان إظهار الشرف النبي صلى الله عليه وسلم {ورحمت ربك} أي: المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمي غيرها رحمة {خير مما يجمعون} من حطام الدنيا الفاني فإنه وإن تأتَّى فيه خير في استعماله في وجوه البر بشرطه فهو بالنسبة إلى النبوة وما قاربها مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش، وقيل: المراد بالرحمة: الجنة، وجرى عليه البغوي وتبعه الجلال المحلي وابن عادل، وجرى على الأول البيضاوي وتبعه البقاعي وهو الظاهر من الآية الكريمة. فائدة: اتفق القراء هنا على قراءة سخريا بضم السين ثم بين تعالى حقارة الدنيا وخستها التي يفتخرون بها بقوله تعالى: {ولولا أن يكون الناس} أي: أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم {أمة واحدة} أي: في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارهم وهممهم إلا من عصمه الله تعالى {لجعلنا} أي: في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضاً لها {لمن يكفر} وقوله تعالى: {بالرحمن} أي: العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها إلا بعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها الله تعالى من الرفق بالمؤمنين وقوله تعالى: {لبيوتهم} بدل من لمن بدل اشتمال بإعادة العامل واللامان للاختصاص {سقفاً من فضة} قال البقاعي: كأنه خصها أي: الفضة لإفادتها النور، وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء الموحدة والباقون بكسرها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسقفاً بفتح السين وسكون القاف على إرادة الجنس، والباقون بضمها جمعاً وقوله تعالى: {ومعارج} جمع معرج وهو السلم أي: من فضة أيضاً وسميت المصاعد من الدرج معارج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج {عليها} خاصة لتيسر أمرها لهم {يظهرون} أي: يعلون ويرتقون على ظهرها إلى المعالي. {ولبيوتهم أبواباً} أي: من فضة أيضاً وقوله تعالى {وسرراً} أي: من فضة جمع سرير ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله تعالى: {عليها يتكئون} ودل على ما هو أعظم من الفضة بقوله تعالى: {وزخرفاً} أي: ذهباً وزينة كاملة عامة. تنبيه: زخرفاً يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي: وجعلنا لهم زخرفاً، وجوز الزمخشري: أن ينتصب عطفاً على محل من فضة، كأنه قيل: سقفاً من فضة وذهب، فلما حذف الخافض انتصب أي: بعضها كذا وبعضها كذا، وقيل: الزخرف هو الذهب لقوله تعالى: {أو يكون لك بيت من زخرف} (الإسراء: 93) فيكون المعنى ويجعل لهم مع ذلك ذهباً كثيراً، وقيل: الزخرف الزينة لقوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت} (يونس: 24) فيكون المعنى نعطيهم زينة عظيمة في كل باب {وإن كل ذلك} أي: البعيد من الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا {لما متاع الحياة الدنيا} أي: التي اسمها دال على دناءتها يتمتع به فيها ثم يزول، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بتشديد الميم بعد اللام بمعنى إلا حكى سيبويه: (أنشدتك الله لما فعلت) بمعنى إلا، وتكون أن نافية أي: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وقرأ الباقون: بالتخفيف فتكون إن هي المخففة من الثقيلة أي: وإنه كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا. {والآخرة} أي: الجنة التي لا دار تعدلها بل لا دار في الحقيقة إلا هي {عند ربك} أي: المحسن إليك بأن جعلك أفضل الخلق {للمتقين} أي: الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم من الكفار، ولهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» وقال صلى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر قطرة ماء» . وروى المستورد بن شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أترى هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا: من هوانها ألقوها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» أخرجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 الترمذي وقال حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبده حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» . قال البقاعي: ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة والجبابرة من زخرفة الأبنية وتذهيب السقوف وغيرها من مبادي الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة في الكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول: الله، أوفي زمن الدجال لأن من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث أنه لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك سبحانه. فإن قيل: لم بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر فلِمَ لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير سبباً لاجتماع الناس على الإسلام؟ أجيب: بأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا وهذا الإيمان إيمان المنافقين فاقتضت الحكمة أن لا يجعل ذلك للمسلمين حتى أن كل من دخل في الإسلام يدخل لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى. {ومن يعش} أي: يعرض {عن ذكر الرحمن} أي: الذي عمت رحمته فلا رحمة على أحد إلا وهي منه تعالى كما فعل هؤلاء حين متعناهم وأباءهم حتى أبطرهم ذلك وهو شيء يسير جداً، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشا بصره وهو من ساء بصره بالليل والنهار {نقيض} أي: نسبب {له} عقاباً على إعراضه عن ذكر الله تعالى {شيطاناً} أي: شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً عليه محيطاً به مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل {فهو له قرين} أي: مشدود به لا يفارقه فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله تعالى، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يثيره إلى كل خير، فذكر الله تعالى حصن حصين من الشيطان الرجيم متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث» . {وأنهم} أي: القرناء {ليصدونهم} أي: العاشين {عن السبيل} أي: الطريق الذي من حاد عنه هلك لأنه لا طريق له في الحقيقة سواه {ويحسبون} أي: العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ {أنهم مهتدون} أي: غريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين. تنبيه: ذكر الإنسان والشيطان بلفظ الجمع لأن قوله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً} فهو له قرين يفيد: الجمع وإن كان اللفظ على الواحد، قال أبو حيان: الظاهر أن ضميري النصب في وأنهم ليصدونهم: عائدان على مَنْ من حيث معناها وأما لفظها أولاً فأفراد في له وله ثم راعى معناها فجمع في قوله تعالى: {وإنهم ليصدونهم} والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به: الجنس ولأن كل كافر معه قرينه، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بفتح السين والباقون بكسرها وقرأ: {حتى إذا جاءنا} نافع وابن عامر وأبو بكر: بمد الهمزة بعد الجيم على التثنية أي: جاء العاشي والشيطان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 والباقون بغير مد إفراد أي: جاء العاشي {قال} أي: العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل {يا ليت بيني وبينك} أي: أيها القرين {بعد المشرقين} أي: ما بين المشرق والمغرب على التغليب قاله ابن جرير وغيره، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام {فبئس القرين} والمخصوص بالذم محذوف أي: أنت لأنك الذي قد أضللتني وأوصلتني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصيرا إلى النار» وفي فاعل قوله تعالى: d {ولن ينفعكم اليوم} قولان أحدهما: أنه ملفوظ به وهو أنكم وما في حيزها والتقدير: ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب بالتأسي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصاب بمثله ومنه قول الخنساء: *ولولا كثرة الباكين حولي ... على موتاهم لقتلت نفسي* *وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي* والثاني: أنه مضمر فقدره بعضهم ضمير التمني المدلول عليه بقوله: {يا ليت بيني} أي: لن ينفعكم تمنيكم البعد وبعضهم اجتماعكم وبعضهم ظلمكم وجحدكم، وعبارة من عبر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ليس هذا منها والمعنى: ولن ينفعكم اليوم في الآخرة {إذ ظلمتم} أي: أشركتم في الدنيا {أنكم في العذاب مشتركون} أي: لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب كما كنتم تشتركون في الدنيا. تنبيه: استشكل المعربون هذه الآية ووجهه أن قوله تعالى: {اليوم} ظرف حالي وإذ ظرف ماضي وينفعكم مستقبل لاقترانه بلن التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظرفين وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع إلا بعد في ظرف حالي وماض هذا مما لا يجوز؟ أجيب: عن أعماله في الظرف الحالي على سبيل قربه منه لأن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك قال تعالى: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} (الجن: 9) وقال الشاعر: *سأسعى الآن إذ بلغت أباها ... وهو إقناعي وإلا فالمستقبل* يستحيل وقوعه في الحال عقلاً وأما قوله تعالى: {إذ} ففيها للناس أوجه كثيرة قال ابن جني: راجعت أبا علي فيها مراراً كثيرة فآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه، فإذ بدل من اليوم حتى كأنها مستقبلة أو كان اليوم ماض وإلى هذا نحا الزمخشري قال: وإذ بدل من اليوم، وحمل الزمخشري على معنى إذ تبين وصح ظلمكم ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره: *إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة* أي: تبين أني ولد كريمة. ولما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم بالصمم والعمى بقوله تعالى: {أفأنت} أي: وحدك من غير إرادة الله تعالى {تسمع الصم} وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 {أوتهدي العمي} الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية الخسارة روي أنه صلى الله عليه وسلم «كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وعناداً في الغي فنزلت» . أي: هم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي وقوله تعالى {ومن كان} أي: جبلة وطبعاً {في ضلال مبين} عطف على العمي باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى بين في نفسه أنه ضلال وأنه محيط بالضال، يظهر لكل أحد ذلك فهو بحيث لا يخفى على أحد فالمعنى: ليس شيء من ذلك إليك بل هو إلى الله تعالى القادر على كل شيء وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ فلا تتعب نفسك. {فإما نذهبن بك} أي: من بين أظهرهم بموت أو غيره وما مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة {فإنا منهم} أي: من الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لم تنفعهم مشاعرهم {منتقمون} أي: بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم. {أو نرينك} وأنت بينهم {الذي وعدناهم} أي: من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه {فإنا} أي: بما لنا من العظمة التي أنت أعلم الخلق بها {عليهم} أي: على عقابهم {مقتدرون} على كلا التقديرين، وأكد بأن لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته وكذا بالإتيان بنون العظمة وصيغة الافتعال. {فاستمسك} أي: اطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال من أحوال الإمساك {بالذي أوحى إليك} من حين نبوتك إلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره {إنك على صراط} أي: طريق واسع واضح جداً {مستقيم} أي: موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج. {وإنه} أي: الذي أوحى إليك في الدين والدنيا {لذكر} أي: لشرف عظيم جداً وموعظة وبيان {لك ولقومك} قريش خصوصاً لنزوله بلغتهم والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك قال: لقريش» . وروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» . وروى معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» . وقال مجاهد: القوم هم العرب فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل: ذكر لك بما أعطاك من الحكمة ولقومك من المؤمنين بما هداهم الله تعالى به {وسوف تسألون} أي: عن القرآن يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقال الكلبي: تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل، وقال مقاتل: يقال لمن كذب به لم كذبت؟ فيسأل سؤال توبيخ وقيل: يسألون هل عملتم بما دل عليه القرآن من التكاليف. وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى إلى السموات العلى بعث له آدم وولده من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 المرسلين عليهم السلام فأذن جبريل عليه السلام ثم أقام وقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل عليه السلام: {واسأل من أرسلنا} أي: على ما لنا من العظمة {من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن} أي: غيره {آلهة يعبدون} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت ولست شاكاً فيه. وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وأبي زيد: قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم فلم يسأل ولم يشك. وقال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم السلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول مجاهد وقتادة والسدي، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم على واحد من القولين لأن المراد من الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول من الله تعالى ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى. ولما طعن كفار قريش في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبكونه فقيراً معدماً عديم الجاه والمال بين الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد عليه فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بما ظهر من عظمتنا {موسى} أي: الذي كان يرى فرعون أنه أحق الناس بعظمته لأنه رباه وكفله {بآياتنا} التي قهر بها عظماء الخلق وبجابرتهم فدل ذلك على صحة دعواه {إلى فرعون} الذي ادعى أنه الرب الأعلى {وملائه} أي: القبط {فقال} أي: بسبب إرسالنا {إني رسول رب العالمين} أي: مالكهم ومدبرهم ومربيهم فقالوا له: ائت بآية فأتى بها. {فلما جاءهم بآياتنا} أي: بآيتي اليد والعصا اللتين شاهدوا فيهما عظمتنا ودلهم ذلك على قدرتنا على جميع الآيات {إذا هم} أي: بأجمعهم {منها يضحكون} أي: فاجؤا المجيء بها من غير توقف ولا تأمل بالضحك سخرية واستهزاء، قيل: إنه لما ألقى عصاه صارت ثعباناً فلما أخذه وصار عصا كما كانت ضحكوا. ولما أعرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا: {وما} أي: والحال إنا ما {نريهم} على ما لنا من الجلال والعلو وأغرق في النفي بإثبات الجار فقال تعالى: {من آية} أي: من آيات العذاب كالطوفان وهو ماء دخل بيوتهم ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيام والجراد وغير ذلك {الا هي أكبر} أي: في الرتبة {من أختها} أي: التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها {وأخذناهم} أي: أخذ قهر وغلبة {بالعذاب} أي: أنواع العذاب كالدم والقمل والضفادع والبرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهباً بالنار وموت الإبكار فكانت آيات على صدق موسى عليه السلام بما لها من الإعجاز، وعذاباً لهم في الدنيا موصولاً بعذاب الآخرة فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة {لعلهم يرجعون} أي: ليكون حالهم عندنا إذا نظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه. {و} لما عاينوا العذاب {قالوا} لموسى أي: قال فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له: {يا أيها الساحر} فنادوه بذلك في تلك الحالة لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً {ادع لنا ربك} أي: المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكراماً لك {بما} أي: بسبب ما {عهد عندك} أي: من كشف العذاب عنا إن آمنا {إننا لمهتدون} أي: مؤمنون. {فلما كشفنا} أي: على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 {عنهم العذاب} أي: الذي أنزلناه بهم {إذا هم ينكثون} أي: فاجؤا الكشف بتجدد النكث بإخلاف بعد إخلاف. {ونادى فرعون} أي: زيادة على نكثه {في قومه} أي: الذين هم في غاية القيام معه وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد والقريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع فيرجعون. ولما كان كأنه قيل: بم نادى أجاب بقوله: {قال} أي: خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوه من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ القلوب {يا قوم} مستعطفاً بإعلامهم أنهم لحمة واحدة ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذو قوة على ما يحاولنه مقرراً لهم على عذره في نكثه بقوله: {أليس لي} أي: وحدي {ملك مصر} أي: كله فلا اعتراض علي من بني إسرائيل ولا غيرهم {وهذه} أي: والحال أن هذه {الأنهار} أي: أنهار النيل قال البيضاوي: ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، وقال البقاعي: كأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ونحو ذلك من أموره فقال: {تجري من تحتي} أي: تحت قصري أو أمري أو بين يدي في جناني وزاد في التقرير بقوله: {أفلا تبصرون} أي: هذا الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه. {أم أنا خير} أي: مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء {من هذا} وكنى بإشارة القريب عن تحقيره ثم وصفه بما يبين مراده بقوله: {الذي هو معين} أي: ضعيف حقير ذليل لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوى يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً {ولا يكاد يبين} أي: لا يقرب من أن يعرب عن معنى من المعاني لما في لسانه من الحبسة، فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان ليستجلب القلوب وينعش الألباب فتكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله فقد كان موسى عليه السلام أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله تعالى الذي أرسله له وأمره إياه ولكن اللعين أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لاتباعه لأن موسى عليه السلام ما دعا بإزالة جميع حبسته بل بعقدة منها فإنه قال {واحلل عقدة من لسان يفقهوا قولي} (طه: 27 ـ 28) تنبيه: في أم من قوله أم أنا خير أقوال؛ أحدها: أنها منقطعة فتقدر ببل التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي للإنكار، والثاني: أنها بمعنى بل فقط كقوله: *بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح* أي: بل أنت، الثالث: أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى قال أبو البقاء: أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ وهي في المعنى متصلة معادلة إذ المعنى: أنا خير منه أم لا وأينا خير، قال ابن عادل: وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما معنيان مختلفان فإن الانقطاع يقتضي إضراباً إما إبطالاً وإما انتقالاً ثم إن فرعون اللعين ظن أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الإعراض الدنيوية والتحلي بحلي الملوك ولذا قال: {فلولا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 أي: فهلا {ألقي عليه} عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة {أساورة} وقرأ حفص بسكون السين ولا ألف بعدها كالأحمرة، والباقون بفتح السين وألف بعدها فأسورة جمع سوار كحمار وأحمرة وهو جمع قلة وأساور جمع أسوار بمعنى سوار يقال: سوار المرأة وإسوارها والأصل: أساوير بالياء فعوض من حرف المد تاء التأنيث كزنديق وزنادقة وبطريق وبطارقة، وقيل: بل هي جمع أسورة فهي جمع الجمع قاله الزجاج، والسوار ما يوضع في المعصم من الحلية {من ذهب} ليكون ذلك إمارة له على صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات، إذ كان من عادتهم أنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فطلب فرعون من موسى عليه السلام مثل عادتهم {أو جاء معه} أي: صحبته عندما جاء إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم {الملائكة} أي: هذا النوع وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله: {مقترنين} أي: يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه فأهلكه الله تعالى بها، إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله تعالى أهلكه الله به واستصغر موسى عليه السلام وعابه بالفقر والعي فسلطه الله تعالى عليه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه، أفاده القشيري. {فاستخف} أي: بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب {قومه} الذين لهم قوة عظيمة فحملهم بغروره على ما كانوا مهينين له من خفة الحلم {فأطاعوه} أي: بأن أقروا بملكه واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه السلام {أنهم كانوا} أي: بما في جبلاتهم من الشر {قوماً فاسقين} أي: غريقين في الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق. {فلما آسفونا} أي: أغضبونا في الإفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد فقال: قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول: {فلما آسفونا} أي: أغضبونا {انتقمنا منهم} أي: أوقعنا بهم على وجه المكافأة بما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج {فأغرقناهم أجمعين} أي: إهلاك نفس واحدة لم يلفت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم. تنبيه: ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى وذكر لفظ الانتقام كل واحد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى: إرادة العذاب ومعنى الانتقام: إرادة العقاب بجرم سابق وقال بعض المفسرين: معنى آسفونا: احزنوا أولياءنا. {فجعلناهم} أي: بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه {سلفاً} أي: متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة أو قدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 إلى النار} (القصص: 41) {ومثلاً} أي: حديثاً عجيب الشأن سائراً سير المثل {للآخرين} أي: الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر اقتدى به في الشر، وقرأ حمزة والكسائي: بضم السين واللام والباقون بفتحهما، فأما الأولى: فتحتمل ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جمع سليف كرغيف ورغف وسمع القاسم بن معن من العرب: سليف من الناس كالفريق منهم، والثاني: أنه جمع سالف كصابر وصبير، والثالث: أنها جمع سلف كاسد وأسد، وأما الثانية: فتحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون جمعاً لسالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فعل، والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة تقول سلف الرجل يسلف سلفاً أي: تقدم والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض وسلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف، وقال طفيل: سلفوا سلفاً فصد السبيل عليهم صروف المنايا والرجال تغلب واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً} فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام لما نزل قوله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} كما تقدم في سورة الأنبياء والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إذا قومك} أي: من قريش {منه} أي: من هذا المثل {يصدون} أي: يرفع لهم ضجيج فرحاً بسبب ما رأوا من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فإن العادات قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقال قتادة: يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهاً كما عبدت النصارى عيسى. {وقالوا آلهتنا} أي: التي نعبدها من الأصنام {خير أم هو} قال قتادة: يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا، وقال السدي وابن زيد: يعنون عيسى عليه السلام قالوا: توهم محمد أن كل ما نعبد من دون الله فهو في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى: {ما ضربوه} أي: المثل {لك إلا جدلا} أي: خصومة بالباطل لعلمهم أن لفظ ما لغير العاقل فلا يتناول من ذكروه {بل هم قوم} أي: أصحاب قوة على القيام فيما يحاولونه {خصمون} أي: شديدُ الخصام. روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال» . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يصدون بكسر الصاد، والباقون بضمها وهما بمعنى واحد يقال صد يصد ويصد كعكف يعكف ويعكف وعرش يعرش ويعرش، وقيل: الضم من الصدود وهو الإعراض، وقرأ الكوفيون: آلهتنا بتحقيق الهمزتين، والباقون بتسهيل الثانية واتفقوا على إبدال الثانية ألفاً، ثم إنه تعالى بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هو} أي: عيسى عليه السلام {إلا عبد} أي: وليس هو بإله {أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {عليه} أي: بالنبوة والإقدار على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 الخوارق {وجعلناه} أي: بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته {مثلاً} أي: أمراً عجيباً كالمثل لغرابته من أنثى فقط بلا واسطة ذكر كما خلقنا آدم من غير ذكر وأنثى وشرفناه بالنبوة {لبني إسرائيل} الذين هم أعرف الناس به، بعضهم بالمشاهدة، وبعضهم بالنقل القريب المتواتر فيعرفون به قدرة الله تعالى على ما يشاء حيث خلقه من غير أبٍ. {ولو نشاء} أي: على ما لنا من العظمة {لجعلنا} ما هو أغرب مما صنعناه من أمر عيسى عليه السلام {منكم} أي: جعلا مبتدأ منكم إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه السلام من أنثى من غير ذكر، وجعلنا آدم عليه السلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر، وإما بالبدلية {ملائكة في الأرض يخلفون} أي: يخلفونكم في الأرض والمعنى: أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقها إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى. {وإنه} أي: عيسى عليه السلام {لعلم للساعة} أي: نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي تعم الخلائق كلها بالموت فنزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها قال صلى الله عليه وسلم «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمنه الملل كلها إلا الإسلام» . وروي: «أنه ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها: أنيق وبيده حربة وعليه مخصرتان وشعر رأسه دهين يقتل الدجال ويأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر، وروي في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» . وقال الحسن وجماعة. وإنه أي: القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها ويخبركم أحوالها وأهوالها {فلا تمترن بها} حذف منه نون الرفع للجزم وواو الضمير لالتقاء الساكنين من المرية وهي الشك أي: لا تشكن فيها وقال ابن عباس: لا تكذبوا بها {واتبعوني} أي: أوجدوا تبعكم لي {هذا} أي: كل ما أمرتكم به من هذا أو غيره {صراط} أي: طريق واضح {مستقيم} أي: لا عوج له، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بغير ياء وصلاً وقفاً. {ولا يصدنكم الشيطان} أي: عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي {إنه لكم} أي: عامة وأكد الخبر لأن أفعال التابعين له أفعال من ينكر عداوته {عدو مبين} أي: واضح العداوة في نفسه مناد بها وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم آدم عليه السلام حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب عداوة ناشئة عن الحسد فهي لا تنفك أبداً. {ولما جاء عيسى} أي: إلى بني إسرائيل {بالبينات} أي: المعجزات أي: بآيات الإنجيل وبالشرائع الواضحات {قال} منبهاً لهم {قد جئتكم} بما يدلكم قطعاً على أني آية من عند الله وكلمة منه {بالحكمة} أي: الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه، ولا يدفع بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال {ولأبين لكم} أي: بياناً واضحاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 {بعض الذي تختلفون} أي: الآن {فيه} ولا تزالون تجددون الخلاف بسببه، فإن قيل: لِمَ لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه؟. أجيب: بأنه بين لهم كل ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمر دنياكم» . ويحتمل أن يكون المراد أنه يبين لهم بعض المتشابه وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم: ما ليس فيه التباس، والمتشابه: ما يكون ملتبساً وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب، فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم أو يعجز فيقول: الله أعلم بمراده {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (آل عمران: 8) ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره كأهل الإلحاد الجوامد المفتونين أو يؤوله بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن. ولما بين لهم الأصول والفروع قال: {فاتقوا الله} أي: خافوا من له الملك الأعظم من الكفر والإعراض عن دينه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجه إلا بإذنه {وأطيعون} أي: فيما أبلغه عنه إليكم من التكاليف فطاعتي لأمره بما يرضيه هو ثمرة التقوى وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه. {إن الله} أي: الذي اختص بالجلال والجمال فكان أهلاً لأن يُتقى {هو} أي: وحده {ربي وربكم} أي: المحسن إلي وإليكم {فاعبدوه} أي: بما أمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباعي بما أظهره على يدي فصار هو الآمر لكم لا أنا {هذا} أي: الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه {صراط} أي: طريق واسع جداً واضح {مستقيم} لا عوج فيه. ولما كان الطريق الواضح القويم موجباً للاجتماع عليه والوفاق عند سلوكه بين تعالى أنهم اختلفوا فيه بقوله تعالى: {فاختلف الأحزاب} أي: الفرق المتحزبة {من بينهم} أي: اختلافاً ناشئاً ابتداء من بني إسرائيل في عيسى أهو الله؟ أو ابن الله؟ أو ثالث ثلاثة؟ وقوله تعالى: {فويل} كلمة عذاب {للذين ظلموا} أي: وضعوا الشيء في غير موضعه بما قالوه في عيسى عليه السلام {من عذاب يوم أليم} أي: مؤلم وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بعذابه. {هل ينظرون} أي: هل ينظر كفار مكة أو الذين ظلموا {إلا الساعة} أي: ساعة الموت العام والبعث والقيامة فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه وقوله تعالى: {أن تأتيهم} بدل من الساعة، فإن قيل: قوله تعالى: {بغتة} أي: فجأة يفيد قوله تعالى: {وهم لا يشعرون} أي: بوقت مجيئها قبله؟ أجيب: بأنه يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه. {الأخلاء} أي: الأحباء في الدنيا على المعصية وقوله تعالى: {يومئذ} أي: يوم القيامة، متعلق بقوله تعالى: {بعضهم لبعض عدو} أي: يتعادون في ذلك اليوم لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتحابون له سبباً للعذاب {إلا المتقين} أي: المتحابين في الله على طاعة الله تعالى وهم الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة. روى أبو ثور عن مَعْمَر عن قَتَادة عن أبي إسحاق أن علياً قال في الآية: خليلان مؤمنان وخليلان كافران فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلاناً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك يأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما فيقول: لِيثنين أحدكم على صاحبه فيقول: نِعم الأخ ونِعم الخليل ونِعم الصاحب، قال: ويموت أحد الكافرينِ فيقول: يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فبئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. ثم بين تعالى ما يتلقى به المؤمنين الذين قد توادوا فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال بقوله تعالى: {يا عباد} فأضافهم إلى نفسه إضافة تشريفٍ لأن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين، وفيه أنواع كثيرة توجب المدح أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وهذا تشريف عظيم بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} والثاني قوله: {لا خوف} أي: بوجه من الوجوه {عليكم اليوم} أي: في يوم الآخرة مما يحويه من الأهوال والأمور الشداد والزلزال، وثالثها: قوله تعالى: {ولا أنتم تحزنون} أي: لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به، وقرأ شعبة بفتح الياء في الوصل وسكنها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً وقوله تعالى: {الذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة يجوز أن يكون نعتاً لعبادي أو بدلاً منه أو عطف بيان له أو مقطوعاً منصوباً بفعلٍ أي: أعني الذين آمنوا أو مرفوعاً وخبره مضمر تقديره يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقول الذين آمنوا {بآياتنا} الظاهرة عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثانياً {وكانوا} أي: دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق {مسملين} أي: منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد فبذلك يعدلون إلى حقيقة التقوى فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم: {ادخلوا الجنة} ولما كان السرور لا يكمل إلا بالرفيق السار قال تعالى: {أنتم وأزواجكم} أي: نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله تعالى وكانوا مسلمين {تحبرون} أي: تسرون وتنعمون والحبرة: المبالغة في الإكرام على أحسن الوجوه وقوله تعالى: {يطاف} قبله محذوف أي: يدخلون يطاف {عليهم} أي: المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكاً {بصحاف من ذهب} فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم، والصحاف جمع صَحْفَة كجفنة وجفان، قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف، قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المِئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 عن أذى أو نحو ذلك: وقيل: هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له، وقيل: إنه لا خرطوم له، وقيل: إنه لا عروة له ولا خرطوم معاً قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي: *متكئاً تصفق أبوابه ... يطوف عليه العبد بالكوب* ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال {وفيها} أي: الجنة {ما تشتهي الأنفس} من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا {وتلذ الأعين} أي: من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق. روي أن رجلاً قال: «يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل فقال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال: يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» وقرأ نافع وابن عامر وحفص بهاء بعد الياء بإثبات العائد على الموصول كقوله تعالى: {الذي يتخبطه الشيطان من المس} والباقون بغيرها بعد الياء كقوله تعالى: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} وهذه القراءة مشبهة بقوله تعالى: {وما عملته أيديهم} وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها، وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وهم فسبق قلمه فكتب الهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام مثبوتة في غيرها فعكس. ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وأكد {وأنتم فيها خالدون} لبقائها وبقاء كل ما فيها فلا كلفة عليهم أصلاً من خوف من زوال ولا خوف من فوات. ثم أشار إلى فخامتها بأداة البعد فقال تعالى: {وتلك الجنة} أي: العالية المقام {التي أورثتموها} شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، وقرأ أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي بإدغام الثاء المثلثة في المثناة وأظهرها الباقون {بما} أي: بسبب ما {كنتم تعملون} أي: مواظبين على ذلك لا تفترون لأن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها فالمنة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم. ولما ذكر سبحانه الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال: {لكم فيها فاكهة} أي: ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً {كثيرة} ودل على الكثرة وعلى دوام النعمة بقصد التفكه لكل شيء فيها بقوله تعالى: {منها} أي: لا من غيرها مما يلحظ فيه القوت {تأكلون} فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع لا يؤخذ منها شيء إلا خلف مكانه مثله في الحال، ورد في الحديث: «أنه لا ينزع رجل ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها» . تنبيه: لما بعث الله تعالى نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام إلى العرب وكانت في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة ذكر الله تعالى هذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم وتقوية لدواعيهم ومِنْ في قوله تعالى {منها تأكلون} تبعيضية أو ابتدائية وقدم الجار لأجل الفاصلة. ولما ذكر سبحانه الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن فقال تعالى: {إن المجرمين} أي: الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل {في عذاب جهنم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 أي: النار التي من شأنها إلقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى {خالدون} لأن اجتراءهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا. {لا يفتر عنهم} أي: لا يقصد إضعافه بنوع من الضعف فنفي التفتر نفي للفتور من غير عكس، قال البيضاوي: وهو من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلاً والتركيب للضعف {وهم فيه} أي: العذاب {مبلسون} أي: ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج، وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يقفل عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى. {وما ظلمناهم} نوعاً من الظلم {ولكن كانوا} جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً {هم الظالمين} لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك ما بقوا والأعمال بالنيات. ولما كان مفهوم الإبلاس السكوت بين تعالى أنهم ليسوا ساكتين دائماً بقوله تعالى: {ونادوا} ثم بين أن المنادي خازن النار بقوله تعالى: مؤكداً البعد بأداته {يا مالك ليقض علينا} أي: سل سؤالاً حتماً أن يقضي القضاء الذي لا قضاء مثله وهو الموت على كل واحد منا وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا: {ربك} أي: المحسن إليك فلم يروا للَّه تعالى عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة ولا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه، ولذلك جعل النار دركات كما جعل الجنة درجات فأجاب مالك عليه السلام بأن {قال} مؤكداً قطعاً لأطماعهم لأن كلامهم هذا هو بحيث يفهم الرجاء وإعلاماً بأن رحمة الله التي موضع الرجاء خاصة بغيرهم {إنّكم ماكثون} أي: دائماً أبداً لا خلاص لكم بموت ولا غيره وليس في القرآن متى أجابهم هل أجابهم في الحال أو بعد مدة لكن. روى ابن عباس: أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون: ليقض علينا ربك أي: ليمتنا ربك فنستريح، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة إنكم ماكثون أي: مقيمون في العذاب. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: يجيبهم بعد أربعين، وعن غيره مائة سنة واختلفوا في أن قولهم: {يا مالك ليقض علينا ربك} على أي وجه طلبوه فقال بعضهم: على التمني وقال آخرون: على وجه الاستغاثة وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العذاب. ثم إنه تعالى ذكر ما هو كالعلة لذلك الجواب بقوله تعالى: {لقد جئناكم} أي: في هذه السورة خصوصاً وفي جميع القرآن عموماً {بالحق} على لسان الرسل وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الجيم، والباقون بالإدغام {ولكن أكثركم للحق كارهون} لما فيه من المنع من الشهوات فلذلك أنتم تقولون إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط لا لأجل أن في حقيّته نوعاً من الخفاء، فإن قيل: كيف قال: ونادوا يا مالك بعد أن وصفهم بالإبلاس؟ أجيب: بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم، روى أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكاً فيدعون {يا مالك ليقض علينا ربك} . ولما ذكر تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال تعالى: {أم أبرموا} أي: أحكم كفار مكة {أمراً} أي: في المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم {فإنا مبرمون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 أي: محكمون أمراً في مجازاتهم أي: مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون} (الطور: 42) قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر في دار الندوة. تنبيه: أم منقطعة والإبرام: الإتقان وأصله في الفتل يقال أبرم الحبل، أي: أتقن فتله وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل قال زهير: *لعمري لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم* {أم يحسبون أنا} أي: على ما لنا من العظمة المقتضية لجميع صفات الكمال {لا نسمع سرهم} أي: كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يغضبنا، والسر ما حدث به الشخص نفسه أو غيره في مكان خال. ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعلم ما في الضمائر وهي مما يعلم حقق أن المراد به حقيقته بقوله تعالى: {ونجواهم} أي: تناجيهم في كلامهم المرتفع فيما بينهم حتى كأنه على نجوة أي: مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع {بلى} نسمع الصنفين كليهما على حد سواء {ورسلنا} وهم الحفظة من الملائكة على الجميع السلام على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا {لديهم} أي: عندهم، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {يكتبون} أي: يجددون الكتابة كل ما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة يجتنب ما يخاف عاقبته، وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر عن الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق. ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعائهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون} أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {قل} أي: لهؤلاء البعداء البغضاء {إن كان للرحمن} أي: العام الرحمة {ولد} أي: على زعمكم والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة وغيرهم {فأنا} أي: في الرتبة، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بغير مد {أول العابدين} للرحمن العبادة التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة أي: فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره، ولم يشأ لي الرحمن أن أعبد الولد ولا غيره، أو يكون المعنى: أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات بما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيرهما، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمته فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاءه لي ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له فبطلت شبهتكم بمثلها بل بأقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى. وقال الزمخشري: إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها، ثم قال: وقد تمحل الناس بما أخرجوه من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه، وقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقال ابن عباس: إن أن نافية أي: ما كان له ولد فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً ولو كان له ولد إله لعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده، وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال: إن الملائكة بنات الله تعالى فنزلت فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال: {سبحان رب} أي: مبدع ومالك {السموات والأرض} أي: اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية. ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له، ولم يعد العطف لأن العرش من السموات {رب العرش} أي: المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السموات والأرض {عما يصفون} أي: يقولون من الكذب من أن له ولداً أو شريكاً وذلك أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكل ما كان كذلك فهو لا يقبل التجزي بوجه من الوجوه، والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله وهذا إنما يعقل فيمن تكون ذاته قابلة للتجزي والتبعيض، وإذا كان ذلك محالاً في حق إله العالم امتنع إثبات الولد. ولما ذكر تعالى هذا البرهان القاطع قال تعالى مسبباً عن ذلك: {فذرهم} أي: اتركهم على أسوأ أحوالهم {يخوضوا} أي: يفعلوا في باطلهم فعل الخائض في الماء {ويلعبوا} أي: يفعلوا فعل اللاعب في دنياهم {حتى يلاقوا} أي: يفعلوا بتصرم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا {يومهم الذي يوعدون} أي: بوعد لا خلف فيه وهو يوم القيامة فيظهر فيه وعيدهم والمقصود منه التهديد لأنه تعالى ذكر الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا فلم يلتفتوا إليها لأجل استغراقهم في طلب المال والجاه والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود به ثم زاد في التنزيه فقال تعالى: {وهو الذي في السماء إله} أي: معبود لا شريك له {وفي الأرض إله} تتوجه الرغبات إليه في جميع الأحوال وتخلص إليه في جميع أوقات الاضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في هذا الاستحقاق فعبادة غيره باطلة، وقرأ قالون والبزي بتسهيلها مع المد والقصر، وقرأ أبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 الثانية وإبدالها أيضاً ألفاً وقرأ الباقون بتحقيقهما. تنبيه: كل من الظرفين متعلق بما بعده لأن إله بمعنى معبود أي: معبود في السماء ومعبود في الأرض وحينئذ يقال: الصلة لا تكون إلا جملة أو ما في تقديرها وهو الظرف وعديله ولا شيء منهما هنا؟ أجيب: بأن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه وذلك المحذوف هو العائد تقديره وهو الذي هو في السماء إله وهو في الأرض إله، وإنما حذف لطول الصلة بالمعمول فإن الجار متعلق بإله ومثله ما أنا بالذي قائل لك سوأ {وهو الحكيم} أي: البليغ الحكمة في تدبير خلقه {العليم} أي: البالغ في علمه بمصالحهم. {وتبارك} أي: وثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال له مع اليمن والبركة وكل كمال فلا شبيه له حتى يدعى أنه ولد له أو شريك. ثم وصفه تعالى بما يبين تباركيته واختصاصه بالألوهية فقال عز من قائل: {الذي له ملك السموات} أي: كلها {والأرض} كذلك {وما بينهما} أي: وما بين كل اثنين منهما، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار {وعنده} أي: وحده {علم الساعة} أي: العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها {وإليه} أي: وحده لا إلى غيره {ترجعون} بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الالتفات للتهديد. {ولا يملك} أي: بوجه من الوجوه في وقت ما {الذين يدعون} أي: يعبدون أي: الكفار {من دونه} أي: الله تعالى {الشفاعة} كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وقوله تعالى {إلا من شهد بالحق} أي: قال: لا إله إلا الله، فيه قولان؛ أحدهما: أنه متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله والمعنى: لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد إلا من شهد بالحق {وهم يعلمون} أي: بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وهم عيسى ومريم وعزير والملائكة فإنهم يملكون أن يشفعوا للمؤمنين بتمليك الله تعالى إياهم لها، والثاني: هو منقطع إن خص بالأصنام. {ولئن سألتهم} أي: الكفار مع ادعائهم الشريك {من خلقهم} أي: العابدين والمعبودين معاً {ليقولون الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال لتعذر المكابرة من فرط ظهوره {فأنى} أي: فكيف وأي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر {يؤفكون} أي: يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا في الخلق. وقرأ: {وقيله} أي: قول محمد صلى الله عليه وسلم عاصم وحمزة بخفض اللام والهاء على معنى وعنده علم الساعة وعلم قبله، والباقون بنصب اللام ورفع الهاء على المصدر بفعله المقدر أي: وقال {يا رب إن هؤلاء قوم} أي: أقوياء على الباطل ولم يضفهم إلى نفسه بأن يقول قومي ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما شأنه من حالهم {لا يؤمنون} أي: لا يتجدد منهم هذا الفعل أصلاً. {فاصفح} أي: اعف عفو من أعرض {عنهم} صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ {وقل} أي: لهم {سلام} أي: شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم، قال ابن عباس: وهذا منسوخ بآية السيف، وقال الرازي: وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل لأن الأمر لا يقيد بالفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ فأي حاجة إلى التزام النسخ، وأيضاً فاللفظ المطلق قد يتقيد بحسب العرف فإذا كان كذلك فلا حاجة إلى التزام النسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 وجرى على النسخ الجلال المحلي فقال: وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم وقوله تعالى: {فسوف يعلمون} فيه تهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وقرأ نافع وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لما تقدم وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون» حديث موضوع. سورة الدخان مكية وقيل: إلا قوله تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلاً} الآيةوهي ست أو سبع أو تسع وخمسون آية وثلاثمئةوست وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفاً {بسم الله} الملك الجبار الواحد القهار. {الرحمن} الذي عم بنعمته سائر مخلوقاته {الرحيم} بأهل وداده وقوله تعالى: {حم} قرأه ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وقرأه ورش وأبو عمرو بالإمالة بين بين والباقون بالفتح وتقدمت الإشارة إلى شيء من أسرار أخواتها وقوله تعالى: {والكتاب المبين} فيه احتمالان؛ الأول: أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين كقولك: هذا زيد والله، الثاني: أن يكون التقدير حم والكتاب المبين. {إنا أنزلناه} فيكون في ذلك تقدير قسمين على شيء واحد ويجوز أن يكون {إنا أنزلناه} جواب القسم وأن يكون اعتراضاً والجواب قوله تعالى: {إنا كنا منذرين} واختاره ابن عطية، وقيل: {إنا كنا} مستأنف و {فيها يفرق} يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون صفة ليلة وما بينهما اعتراض. تنبيه: يجوز أن يكون المراد بالكتاب هنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} (الحديد: 25) ويجوز أن يكون المراد به اللوح المحفوظ قال الله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (الرعد: 39) وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} (الزخرف: 4) ويجوز أن يكون المراد به القرآن واقتصر على ذلك البيضاوي وتبعه الجلال المحلي، وعلى هذا فقد أقسم بالقرآن أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل له إليه حاجة: أتشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك وجاء في الحديث: «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك» . والمبين: هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبيناً وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى لأن الإبانة حصلت به كقوله تعالى: {أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} (الروم: 35) فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة فكأنه ذو لسان ينطق مبالغة في وصفه. واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {في ليلة مباركة} فقال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين: هي ليلة القدر: وقال عكرمة وطائفة: إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان، واحتج الأولون بوجوه؛ الأول: قوله تعالى {إنا أنزلنا في ليلة القدر} (القدر: 4) فقوله تعالى {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} يجب أن تكون هي تلك الليلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض، ثانيها: قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة: 185) فقوله تعالى ههنا {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} يجب أن تكون هذه الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر، ثالثها: قوله تعالى في صفة ليلة القدر: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} (القدر: 4) وقال تعالى ههنا. {فيها يفرق كل أمر حكيم} وقال ههنا {رحمة من ربك} وقال تعالى في ليلة القدر {سلام هي} (القدر: 5) وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى، رابعها: نقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، والليلة المباركة هي: ليلة القدر، خامسها: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم، ومعلوم أن قدرها وشرفها ليس بسبب نفس الزمان لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها شعباً في الدين هو القرآن لأنه ثبت به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته: {ومهيمناً عليه} (المائدة: 48) وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة وهذه أدلة ظاهرة واضحة، واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بوجوه؛ أولها: أن لها أربعة أسماء الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة، وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة. وقيل في تسميتها: ليلة البراءة والصك أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة وكذلك الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، ثانيها: أنها مختصة بخمس خصال الأولى: قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} والثانية: فضيلة العبادة فيها، روى الزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك: ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان» . ثالثها: نزول الرحمة قال صلى الله عليه وسلم «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب» . رابعها: حصول المغفرة فيها قال صلى الله عليه وسلم «إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا الكاهن والساحر ومدمن الخمر وعاق والديه والمصر على الزنا» . خامسها: أنه تعالى أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة تمام الشفاعة في أمته، قال الزمخشري: وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع إلا من شرد عن الله شرود البعير. وروي أن عطية الحروري سأل ابن عباس عن قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر: 1) كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور فقال ابن عباس: يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع في نفسك هذا ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 تحرجوا به لهلكت، نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً، وقال قتادة وابن زيد: أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً في عشرين سنة وقوله تعالى {إنا} أي: على ما لنا من العظمة {كنا} أي: دائماً لعبادنا {منذرين} أي: مخوفين استئناف بين به المقتضى للإنزال وكذلك قوله تعالى: {فيها} أي: الليلة المباركة سواء قلنا إنها ليلة القدر أو ليلة النصف {يفرق} أي: ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة {كل أمر حكيم} أي: محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحي به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً، قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان، وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل عمل وأجل وخلق ورزق وما يكون في تلك السنة، وقال عكرمة: ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وتنسخ الأحياء من الأموات فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد قال صلى الله عليه وسلم «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح النساء ويولد له وقد خرج اسمه في ديوان الموتى» . وعن ابن عباس: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدور، وروي: أن الله تعالى أنزل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر فدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال، قال ابن عادل: إلى إسرافيل وقال الزمخشري: إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت، قال الزمخشري: وعن بعضهم يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته وقوله تعالى: {أمراً} أي: فرقاً حال من فاعل أنزلناه ومن مفعوله أي: أنزلناه آمرين أو مأموراً به كائناً {من عندنا} على مقتضى حكمتنا وقوله تعالى: {إنا كنا} أي: أزلاً وأبداً {مرسلين} جواب ثالث أو مستأنف أو بدل من قوله تعالى: {إنا كنا منذرين} أي: لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس فلا يكون لأحد على الله تعالى حجة، قال البقاعي: وهذا الكلام المنتظم والقول الملتئم بعضه ببعض المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم ينزل صحيفة ولا كتاباً إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها، وكذلك قوله تعالى في سورة القدر: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} (القدر: 4) فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمر الحكيم ثم بين تعالى حال الرسالات بقوله تعالى: {رحمة} وعدل لأجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله: {منا} إلى قوله تعالى {من ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك فإن رسالاتهم كانت لب الأنوار في العبادات وتمهيد الشرائع في البلاد حتى استنارت القلوب واطمأنت النفوس بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق وقال ابن عباس: معنى رحمة من ربك أي: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل، وقال الزجاج: أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة {إنه هو} أي: وحده {السميع العليم} أي: أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم أو لم يذكروها فإن ذكروها فإنه سميع وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها. {رب} أي: مالك ومنشئ ومدبر {السموات} أي: جميع الأجرام العالية {والأرض وما بينهما} مما تشاهدون من هذا الفضاء وما فيه من الهواء وغيره مما تعلمون من أكساب العباد وغيرها مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بخفض الباء الموحدة على البدل أو البيان أو النعت، والباقون برفعها على إضمار مبتدأ أو على أنه مبتدأ خبره لا إله إلا هو، والمقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة، فإن قيل: ما معنى الشرط الذي هو قوله تعالى {إن كنتم موقنين} ؟ أجيب: بأنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم: إن كنتم يا أهل مكة موقنين بأنه تعالى رب السموات والأرض فأيقنوا بأن محمداً عبده ورسوله. ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته أنتج ذلك قوله تعالى: {لا إله إلا هو} أي: وإلا لنازعه في أمرهما منازع، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة وإلا لدفع عنه من يمكن نزاعه وخلافه إياه فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإنجاء لكل من يوافقهم على ممر الزمان وتطاول الدهر ومر الحدثان على نظام مستمر وحال ثابت مستقر. ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره ثبت قوله تعالى: {يحيي ويميت} لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير وهو تنبيه على تمام دلائل التوحيد لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه ويحال شيء من الأمر عليه فهما جملتان الأولى: نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية، مثبتة لما نفوه من البعث {ربكم} أي: الذي أفاض عليكم ما تشاهدونه من النعم في الأرواح وغيرها {ورب آبائكم الأولين} أي: الذي أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون فلم يقدر أحد منهم على ممانعة، ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة. {بل هم} أي: بضمائرهم {في شك} أي: من البعث {يلعبون} أي: يفعلون دائماً فعل التارك لما هو فيه من أخذ الجد الذي لا مرية فيه إلى اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه استهزاء بك يا أشرف الرسل فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» قال تعالى: {فارتقب} أي: انتظر بكل جهد عالياً عليهم ناظراً لأحوالهم نظر من هو حارس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 لها {يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي: ظاهر. {يغشى الناس} أي: المهددين بهذا فقالوا عند إتيانه {هذا عذاب اليم} أي: يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه كما كنتم تؤلمون من يدعوكم إلى الله تعالى، واختلف في هذا الدخان فروى أبو الصفاء عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة قال: يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام ففزعنا، فأتينا ابن مسعود وكان متكئاً فغضب فجلس فقال: من علم فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: لا أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} فإن قريشاً أبطأوا عن الإسلام فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله تعالى لهم فقرأ {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} إلى قوله تعالى {عائدون} وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخاناً. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين الأول: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض فبسبب انقطاع المطر يرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ويقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، ولهذا يقال للسنة المجدبة الغبراء، الثاني: أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان والسبب فيه: أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. ونقل عن علي بن أبي طالب: أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، ويروى أيضاً عن ابن عباس في المشهور عنه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كالزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار» . وقال صلى الله عليه وسلم «باكروا بالأعمال ستاً وذكر منها طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة» رواه الحسن. واحتج الأولون بأنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: {ربنا اكشف عنا العذاب} ثم عللوا بما علموا أنه الموجب للكشف فقالوا مؤكدين {إنا مؤمنون} أي: عريقون في وصف الإيمان فإذا حمل على القحط الذي وقع بمكة استقام، فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مشى إليه أبو سفيان فناشده الله والرحم وواعده إن دعا لهم وأزال عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزالها الله عنهم رجعوا إلى شركهم، أما إذا حمل على أن المراد منه: ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} ولم يصح أيضاً أن يقال: {إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون} قال البقاعي: ويصح أن يراد به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 طلوع الشمس من مغربها، روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها» ثم قرأ الآية. {أنى} أي: كيف ومن أين {لهم الذكرى} أي: هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم، وقرأ حمزة والكسائي أنى بالإمالة محضة، وقرأ أبو عمرو بالإمالة بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح وأمال الذكرى محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وأمال ورش بين بين، والباقون بالفتح وكذلك الكبري {وقد} أي: والحال أنه قد {جاءهم} ما هو أعظم من ذلك وأدخل في وجوب الطاعة {رسول مبين} أي: ظاهر غاية الظهور، وموضح غاية الإيضاح، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأظهر دال قد نافع وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون. {ثم تولوا عنه} أي: أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ {وقالوا} أي: زيادة على إساءتهم بالتولي {معلم} أي: علمه غيره القرآن من البشر، قال بعضهم: علمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وقال آخرون: إنه {مجنون} أي: يلقي الجن إليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي. {إنا} أي: على ما لنا من العظمة {كاشفو العذاب} أي: بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه دعا فرفع عنهم القحط {قليلاً} أي: زمناً يسيراً، قيل: إلى يوم بدر، وقيل: ما بقي من أعمارهم {إنكم عائدون} أي: ثابت عودكم عقب كشفنا عنكم إلى الكفران لما في جبلاتكم من العوج وطبائعكم من المبادرة إلى الزلل، فإيمانكم هذا الذي أخبرتم برسوخه عرض زائل وخيال باطل وقوله تعالى: {يوم نبطش} أي: بما لنا من العظمة {البطشة الكبرى} أي: يوم بدر منصوب باذكر أو بدل من يوم تأتي، والبطش: الأخذ بقوة {إنا منتقمون} أي: منهم في ذلك اليوم وهو قول ابن عباس وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس: أنه يوم القيامة. {ولقد فتنا} أي: اختبرنا بما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الحال بالإبلاء والتمكين ثم الإرسال {قبلهم} أي: هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم {قوم فرعون} أي: مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط به من الدنيا وسيأتي التصريح به في آخر القصة {وجاءهم} أي: فرعون وقومه زيادة في فتنتهم {رسول كريم} هو موسى عليه السلام قال الكلبي: كريم على ربه بمعنى أنه تعالى أعطاه أنواعاً كثيرة من الإكرام، وقال مقاتل: حسن الخلق، وقال الفراء: يقال فلان كريم قومه، قيل: ما بعث نبي إلا من أشراف قومه وأكرمهم ثم فسر ما بلغهم من الرسالة بقوله: {أن أدوا إلي} ما أدعوكم إليه من الإيمان أي: أظهروا طاعتكم بالإيمان لي يا {عباد الله} أو أطلقوا بني إسرائيل ولا تعذبوهم وأرسلوهم معي كقوله {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم} (طه: 47) {إني لكم} أي: خاصة بسبب ذلك {رسول} أي: من عند الله الذي لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه {أمين} أي: بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك وقوله عليه السلام: {وأن لا تعلوا} معطوف على أنّ الأولى وأَنْ هذه مقطوعة في الرسم، والمعنى لا تتكبروا {على الله} تعالى بإهانة وحيه ورسوله {إني آتيكم بسلطان} أي: برهان {مبين} أي: بين على رسالتي فتوعدوه حين قال لهم ذلك بالرجم فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 {وإني عذت} أي: اعتصمت وامتنعت {بربي} الذي رباني على ما اقتضاه لطفه وإحسانه إلي {وربكم} الذي أعاذني من تكبركم وقوة مكَّنتكم {أن ترجمون} أي: أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي فإني قلت: إني أخاف أن يقتلون فقال تعالى {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا} (القصص: 35) فمن أعظم آياتي أن لا تصلوا مع قوتكم وكثرتكم إلى قتلي مع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني، وقال ابن عباس: أن ترجمون بالقول وهو الشتم وتقولوا: هو ساحر، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء، والباقون بالإظهار، وقرأ ورش بإثبات الياء بعد النون في ترجمون في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً وصلاً وكذلك فاعتزلون الآتي. ولما كان التقدير فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم عطف عليه قوله تعالى: {وإن لم تؤمنوا لي} أي: تصدقوا لأجل ما أخبرتكم به {فاعتزلون} أي: كونوا بمعزل مني لا عليّ ولا ليّ فلا تتعرضوا إلي بسوء فإنه ليس جزاء دعائكم إلى ما فيه فَلا حُكم، والفاء في قوله تعالى: {فدعا} تدل على أنه متصل بمحذوف قبله وتأويله أنهم كفروا ولم يرضوا فدعا موسى عليه السلام {ربه} الذي أحسن إليه سياسته وسياسة قومه ثم فسر ما دعا بقوله: {أن هؤلاء} أي: الحقيرين الأذلين الأرذلين {قوم} لهم قوة على القيام فيما يحاولونه {مجرمون} أي: موصوفون بالعراقة في قطع ما أمرت به أن يوصل، فإن قيل: الكفر أعظم حالاً من الجرم فما السبب في أنه جعل الكفار مجرمين حين أراد المبالغة في ذمهم؟ أجيب: بأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه والفاسق في دينه، أخس الناس. ثم تسبب عن دعائه لأنه ممن يستجاب دعاؤه قوله تعالى: {فأسر بعبادي} أي: بني إسرائيل الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي وقوله تعالى: {ليلاً} نصب على الظرفية، والإسراء: سير الليل، فذكر الليل تأكيد بغير اللفظ وإنما أمره بالسير بالليل لأنه أوقع بالقبط موت الإبكار ليلاً فأمر موسى أن يخرج بقومه في ذلك الوقت خوفاً من أن يموتوا مع القبط. ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت منعوهم الخروج وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصول إلى البحر فقتلوهم، علل هذا الأمر بقوله مؤكداً له لأن حال القبط عندما أمرهم بالخروج كان حال من لا يتهيأ له الخروج في قوله: {إنكم متبعون} أي: مطلوبون بغاية الجهد من عدوكم فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسبب وقوع الموت الناشئ فيهم، فإن القلوب بيد الله تعالى فهو ينسي قلب فرعون بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم، فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بكم فلم أكلفكم بمباشرة شيء من أمرهم، وقرأ نافع وابن كثير فاسر بوصل الهمزة بعد الفاء، والباقون بقطعها، قال الزمخشري: وفيه وجهان إضمار القول بعد الفاء أي: فقال اسر بعبادي، وجواب شرط مقدر كأنه قال: إن كان الأمر كما تقول: فأسر بعبادي، قال أبو حيان: وكثيراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 ما يدعى حذف الشرط ولا يجوز إلا لدليل واضح كأن يتقدمه الأمر أو ما أشبهه يقال: سرى وأسرى لغتان. ولما أمر بالإسراء أمر بما يفعل فيه فقال تعالى: {واترك البحر} أي: إذا سريت بهم وتبعك العدو ووصلت بعد إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجيتم {رهواً} بعد خروجكم منه بأجمعكم وفي الرهو وجهان أحدهما: أنه الساكن أي: اتركه ساكناً قال الأعشى: *يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل* أي: مشياً ساكناً على هينه قاراً على حاله بحيث يبقى المرتفع من مائه مرتفعاً، والمنخفض منخفضاً كالجدار، وطريقه الذي سرتم به يابساً ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها لأن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمر أن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، والثاني: أن الرهو الفجوة الواسعة وعن بعض العرب أنه رأى جملاً فالجاً فقال: سبحان الله رهو بين سنامين أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً {إنهم جند مغرقون} أي: متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلو في الأمور. ولما أخبر تعالى عن غرقهم أخبر عن متخلفهم بقوله تعالى: {كم تركوا} أي: كثيراً ترك الذين سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا {من جنات} أي: بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يستر الهموم ودل على كرم الأرض بقوله تعالى: {وعيون} {وزروع} أي: ما هو دون الأشجار، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها ثم أخبر عن منازلهم بقوله تعالى: {ومقام كريم} أي: مجلس شريف هو أهل لأن يقوم الإنسان فيه لأنه في النهاية فيما يرضيه. {ونعمة} وهي اسم للتنعم بمعنى الترفيه والعيش اللين الرغد {كانوا فيها} أي: دائماً {فاكهين} أي: فعلهم في عيشهم فعل المتفكه المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه وقوله تعالى: {كذلك} خبر لمبتدأ مضمر أي: الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه فلا يغتر أحد بما ابتليناه من النعم لئلا نصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم وقوله تعالى: {وأورثناها} أي: تلك الأمور العظيمة عطف على تركوا {قوماً} أي: ناساً ذوي قوة في القيام على ما يحاولونه وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقهم بقوله تعالى: {آخرين} ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل وقيل: غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر بل سكنوا الأرض المقدسة. ولما سكن القوم الآخرون بمصر ورثوا كنوزها وأموالها ونعمها ومقامها الكريم وقوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم لهوانهم، وإذا لم تبك المساكن فما ظنك بالساكن الذي هو فيها تقول العرب: إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس قال الفرزدق: *فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمر* وقالت الخارجية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 *أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف* وقال جرير: *لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع* وذلك على سبيل التخييل والتمثيل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء، عليه قال الزمخشري: وكذلك ما يروى عن ابن عباس من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} تهكماً بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله فإذا مات وفقداه بكيا عليه وتلا هذه الآية» . وقال علي رضي الله عنه: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين يعني فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض. وقال عطاء: بكاء السماء حمرة أطرافها، وقال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما: بكت عليه السماء وبكاؤها حمرتها، وقرأ أبو عمرو عليهم في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضمهما، والباقون: بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف فحمزة بضم الهاء والباقون بالكسر {وما كانوا منظرين} أي: لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير. ولما كان إنقاذ بني إسرائيل من القبط أمراً باهراً لا يكاد يصدق فضلاً عن أن يكون بإهلاك أعدائهم، أكد سبحانه الأخبار بذلك إشارة إلى ما يحق له من العظمة تنبيها على أنه قادر أن يفعل بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كذلك وإن كانت قريش يرون ذلك محالاً وأنهم في قبضتهم فقال تعالى: {ولقد نجينا} أي: بما لنا من العظمة تنجية عظيمة {بني إسرائيل} بعبدنا المخلص لنا {من العذاب المهين} أي: من استعباد فرعون وقتله أبناءهم وقوله تعالى: {من فرعون} بدل من العذاب على حذف المضاف، أو جعله عذاباً لإفراطه في التعذيب، أو حال من المهين أي: واقعاً من جهته {إنه كان عالياً} أي: في جبلته العراقة في العلو {من المسرفين} أي: العريقين في مجاوزة الحدود. {ولقد اخترناهم} أي: بني إسرائيل بما لنا من العظمة {على علم} أي: عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويجوز أن يكون المعنى مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال. ثم بين المفضل عليه بعد أن بين المفضل بقوله تعالى: {على العالمين} أي: الموجودين في زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب وأرسلنا إليهم من الرسل، وقيل: على الناس جميعاً لكثرة الأنبياء منهم، وقيل: عام دخله التخصص ثم بين آثار الاختيار بقوله تعالى: {وآتيناهم} أي: على ما لنا من العظمة {من الآيات} أي: العلامات الدالة على عظمتنا واختيارنا لهم من حين أتى موسى عبدنا عليه السلام فرعون إلى أن فارقهم بالوفاة وبعد وفاته على أيدي الأنبياء المقررين للشريعة عليهم السلام {ما فيه بلاء} أي: اختبار مثله يميل من ينظره أو يسمعه إلى غير ما كان عليه، وذلك بفرق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 والسلوى وغير ذلك مما رأوه من الآيات التسع {مبين} أي: بين في نفسه موضح لغيره. {إن هؤلاء} إشارة إلى كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار على مثل ما حل بهم {ليقولون} أي: بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الإنكار. {أن} أي: ما {هي} وقولهم {إلا موتتنا} على حذف مضاف أي: ما الحياة إلا حياة موتتنا {الأولى} التي كانت قبل نفخ الروح كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الجاثية {إن هي إلا حياتنا الدنيا} (الأنعام: 29) وقال الجلال المحلي: إن هي ما الموتة التي بعدها الحياة إلا موتتنا الأولى أي: وهم نطف، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {وما نحن بمنشرين} أي: بمبعوثين بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت، يقال: نشره وأنشره أحياه ثم احتجوا على نفي الحشر والنشر بقولهم: {فأتوا} أي: أيها الزاعمون أنا نبعث بعد الموت {بآبائنا} أي: لكوننا نعرفهم ونعرف وفور عقولهم {إن كنتم صادقين} أي: ثابتاً صدقكم في أنا نبعث يوم القيامة أحياء بعد الموت ثم خوفهم الله تعالى بمثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى: {أهم خير} أي: في الدين والدنيا {أم قوم تُبّع} أي: ليسوا خيراً منهم فهو استفهام على سبيل الإنكار، قال أبو عبيدة: ملوك اليمن كل واحد منهم يسمى تبعاً لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه، وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم في ملوك الحرب، وقال قتادة: هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي بذلك: لكثرة أتباعه وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه، ولذلك ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم» . وعنه صلى الله عليه وسلم «ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً» . وذكر عكرمة عن ابن عباس: أنه كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق وحبر الحبر وبنى قصر سمرقند، وملك بقومه الأرض طولها والعرض وكان أقرب المملكين إلى قريش زماناً ومكاناً، وكان له بمكة المشرفة ما ليس لغيره من الآثار، قال الرازي في اللوامع: هو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق. قال البغوي بعد أن ذكر قصته مع الأنصار: لما قتل ابنه غيلة في المدينة الشريفة وما وعظ به اليهود في الكف عن خراب المدينة لأنها مهاجر نبي من قريش إنه صدقهم واتبع دينهم وذلك قبل نسخه. وعن الرياشي آمن تبع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة عام، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع} مع أنه لا خير في الفريقين؟ أجيب: بأن معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله تعالى: {أكفاركم خير من أولئكم} (القمر: 43) بعد ذكر آل فرعون ويجوز في قوله تعالى: {والذين من قبلهم} أي: مشاهير الأمم كمدين وأصحاب الأيكة والرس وثمود وعاد، ثلاثةُ أوجه؛ أحدها: أن يكون معطوفاً على قوم تبع، ثانيها: أن يكون مبتدأ وخبره {أهلكناهم} أي: بعظمتنا وإن كانوا أصحاب مكنة وقوة، وأما على الأول {فأهلكناهم} إما مستأنف، وإما حال من الضمير المستكن في الصلة، ثالثها: أن يكون منصوباً بفعل مقدر يفسره أهلكناهم ولا محل لأهلكناهم حينئذ {إنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 كانوا} أي: جبلة وطبعاً {مجرمين} أي: عريقين في الإجرام فليحذر هؤلاء إن ارتكبوا مثل أفعالهم من مثل حالهم. ولما أنكر تعالى على كفار مكة قولهم، ووصفهم بأنهم أضعف ممن كان قبلهم، ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث والقيامة فقال تعالى: {وما خلقنا السموات} أي: على عظمها واتساع كل واحدة منها واحتوائها لما تحتها وجمعها لأن العمل كلما زاد كان أبعد عن العبث. ولما كان الدليل على تطابق الأرض دليلاً دقيقاً وحدها بقوله تعالى: {والأرض} أي: على ما فيها من المنافع {وما بينهما} أي: النوعين وبين كل واحدة منهما وما يليها {لاعبين} أي: على ما لنا من العظمة التي يدرك من له أدنى عقل تعاليها عن اللعب لأنه لا يفعله إلا ناقص، ولو تركنا الناس يبغي بعضهم على بعض كما تشاهدون ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً بل اللعب أخف منه، ولم نكن على ذلك التقدير مستحقين للصفة القدسية وقد تقدم تقرير هذا الدليل في أول سورة يونس وفي آخر سورة المؤمنين عند قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} (المؤمنون: 115) وفي ص عند قوله تعالى {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} (ص: 28) . {ما خلقناهما} أي: السموات والأرض مع ما بينهما وقوله تعالى: {إلا بالحق} حال إما من الفاعل وهو الظاهر، وإما من المفعول أي: إلا محقين في ذلك يستدل به على وحدانيتنا وقدرتنا وغير ذلك، أو متلبسين بالحق {ولكن أكثرهم} أي: هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم وهم يقولون: {إن هي إلا موتتنا الأولى} وكذا من نحا نحوهم {لا يعلمون} أي: إنا خلقنا الخلق بسبب إقامته الحق عليهم فهم لأجل ذلك يجترؤون على المعاصي ويفسدون في الأرض لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، ولو تذكروا ما ذكرناه في جبلاتهم لعلموا علماً ظاهراً أنه الحق الذي لا معدل عنه، كما يتولى حكامهم المناصب لأجل إظهار الحكم بين رعاياهم ويشترطون الحكم بالحق ويؤكدون على أنفسهم أنهم لا يتجاوزونه. ولما ذكر الدليل على إثبات البعث والقيامة ذكر عقبه يوم الفصل فقال تعالى: {إن يوم الفصل} أي: يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين العباد، قال الحسن: سمي بذلك؛ لأن الله تعالى يفصل فيه بين أهل الجنة والنار، وقيل: يفصل فيه بين المؤمن وما يكرهه وبين الكافر وما يريده {ميقاتهم} أي: وقت موعدهم الذي ضرب لهم في الأزل وأنزلت فيه الكتب على ألسنة الرسل {أجمعين} لا يتخلف عنه أحد ممن مات من الجن والأنس والملائكة وجميع الحيوانات وقوله تعالى: {يوم لا يغني} أي: بوجه من الوجوه بدل من يوم الفصل، أو منصوب بإضمار أعني، أو صفة لميقاتهم، ولا يجوز أن ينتصب بالفصل نفسه لما يلزم من الفصل بينهما بأجنبي وهو ميقاتهم {مولى} أي: من قرابة أو غيرها {عن مولى} بقرابة أو غيرها أي: لا يدفع عنه {شيئاً} من الأشياء كثر أو قل {ولا هم} أي: القسمان {ينصرون} أي: ليس لهم ناصر يمنعهم من عذاب الله تعالى. تنبيه: المولى إما في الدين، أو في النسب، أو العتق، وكل هؤلاء لا يسمون بالمولى فلما لم تحصل النصرة منهم فأن لا تحصل ممن سواهم أولى، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} إلى قوله تعالى {ولا هم ينصرون} (البقرة: 48) وقال الواحدي: المراد بقوله تعالى: {مولى عن مولى} الكفار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 لأنه ذكر بعده المؤمن فقال تعالى: {إلا من رحم الله} أي: أراد إكرامه الملك الأعظم وهم المؤمنون يشفع بعضهم لبعض بإذن الله تعالى في الشفاعة لأحدهم فيكرم الشافع فيه وقال ابن عباس: يريد المؤمن فإنه يشفع له الأنبياء والملائكة. تنبيه: يجوز في {إلا من رحم الله} أوجه؛ أحدها: وهو قول الكسائي أنه منقطع، ثانيها: أنه متصل تقديره لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم كما مر، ثالثها: أن يكون مرفوعاً على البدلية من مولى الأول ويكون يغني بمعنى ينفع قاله الحوفي، رابعها: أنه مرفوع المحل أيضاً على البدل من واو ينصرون أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله {إنه} أي: وحده {هو العزيز} أي: المنيع الذي لا يقدح في عزته عفو ولا عقاب بل ذلك دليل على عزته فإنه يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير مبالاة بأحد {الرحيم} أي: الذي لا يمنع عزته أن يكرم من شاء. ولما وصف تعالى اليوم ذكر بعده وعيد الكفار فقال سبحانه: {إن شجرت الزقوم} هي من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم وقد مر الكلام عليها في الصافات، ورسمت بالتاء المجرورة فوقف عليها بالهاء أبو عمرو وابن كثير والكسائي، ووقف الباقون بالتاء على الرسم. {طعام الأثيم} أي: المبالغ في اكتساب الآثام حتى صارت به إلى الكفر قال أكثر المفسرين: هو أبو جهل. {كالمهل} أي: وهو ما يمهل في النار حتى يذوب من ذهب أو فضة وكل ما في معناهما من المنطبعات سواء كان من صفر أو حديد أو رصاص، وقيل: هو عكر القطران، وقيل: عكر الزيت وقرأ {يغلي في البطون} أي: من شدة الحر ابن كثير وحفص بالياء التحتية على أن الفاعل ضمير يعود على طعام، وجوز أبو البقاء أن يعود على الزقوم، وقيل: يعود على المهل نفسه والباقون بالتاء الفوقية على أن الفاعل ضمير الشجر. {كغلي} أي: مثل غلي {الحميم} أي: الماء الذي تناهى حره بما يوقد تحته، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه» ويقال للزبانية: {خذوه} أي: هذا الأثيم أخذ قهر فلا تدعوه يملك من أمره شيئاً {فاعتلوه} أي: جروه بقهر بغلظة وعنف وسرعة إلى العذاب والإهانة بحيث يكون كأنه محمول، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بضم التاء والباقون بكسرها وهما لغتان في مضارع عتل، قال البقاعي: وقراءة الضم أدل على تناهي الغلظة والشدة من قراءة الكسر {إلى سواء} أي: وسط {الجحيم} أي: النار التي هي غاية في الاضطرام والتوقد وهو موضع خروج الشجرة التي هي طعامه. {ثم صبوا فوق رأسه} أي: ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسده {من عذاب الحميم} أي: من الحميم الذي لا يفارقه العذاب فهو أبلغ مما في آية {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} (الحج: 19) ويقال له توبيخاً وتقريعاً: {ذق} أي: العذاب {إنك} وأكد بقوله: {أنت} أي: وحدك دون هؤلاء الذين يخبرون بحقارتك {العزيز الكريم} بزعمك وقولك: ما بين جبليها أعز وأكرم مني، وقرأ الكسائي بفتح الهزة بعد القاف على معنى العلة أي: لأنك، وقيل: تقديره ذق عذاب الحميم إنك أنت العزيز، والباقون بالكسر على الاستئناف المفيد للعلة فتتحد القراءتان معنى، وهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 الكلام الذي على سبيل التهكم أغيظ للمستهزأ به ومثله قول جرير لشاعر سمى نفسه زهرة اليمن: *ألم يكن في رسوم قد رسمت بها ... من كان موعظة يا زهرة اليمن* وكان هذا الشاعر قد قال: *أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأعز وأني زهرة اليمن* ويقال لهم: {إن هذا} أي: الذي ترون من العذاب {ما كنتم به} أي: جبلة وطبعاً {تمترون} أي: تعالجون أنفسكم وتحملونها على الشك فيه وتردونها عما لها من الفطرة الأولى من التصديق بالممكن لاسيما من جرب صدقه وظهرت خوارق العادات على يده بحيث كنتم لشدة ردكم له كأنكم تخصونه بالشك. ولما ذكر سبحانه وتعالى وعيد الكفار أردفه بآيات الوعد فقال: {إن المتقين} أي: العريقين في هذا الوصف {في مقام} أي: موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه {أمين} أي: يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم أي: في مجلس أمين، والباقون بضمها على المصدر أي: في إقامة وقوله تعالى: {في جنات} أي: بساتين تقصر العقول عن إدراك كل وصفها، بدل من قوله تعالى في مقام أمين أو خبر ثان وقرأ {وعيون} ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين، والباقون بضمها. ولما كان لا يتم العيش إلا بكسوة البدن أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {يلبسون} ودل على الكثرة جداً بقوله تعالى: {من سندس} وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً {وإستبرق} هو ما غلظ منه يعمل بطائن، وسمي بذلك: لشدة بريقه وقوله تعالى: {متقابلين} أي: في مجلسهم ليستأنس بعضهم ببعض حال وقوله: {يلبسون} حال من الضمير المستكن في الجار أو خبر ثان فيتعلق الجار به أو مستأنف، فإن قيل: الجلوس على هذه الهيئة موحش لأن كل واحد منهم يصير مطلعاً على ما يفعل الآخر وأيضاً فقليل الثواب إذا طلع على كثيره ينغص عليه؟ أجيب: بأن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا وقد قال تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل} (الأعراف: 43) وقوله تعالى: {كذلك} يجوز فيه وجهان؛ أحدهما: النصب نعتاً لمصدر أي: نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي: مثل ذلك الفعل، ثانيهما: الرفع على خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر كذلك. ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال تعالى: {وزوجناهم} أي: قرناهم كما تقرن الأزواج وليس المراد به العقد لأن فائدة العقد الحل والجنة ليست بدار تكليف من تحليل أو تحريم {بحور} أي: جوار بيض حسان نقيات الثياب {عين} أي: واسعات الأعين قال البيضاوي: واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرهن. ولما كان الشخص في الدنيا يخشى كلف النفقات وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال تعالى: {يدعون} أي: يطلبون طلباً هو غاية المسرة {فيها} أي: الجنة أي: يؤتون {بكل فاكهة} أي: لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف لبعد مكان ولا فقدان ولا غير ذلك من الشأن، وفي ذلك إيذان بأنه مع سعته ليس فيه شيء لإقامة البنية وإنما هو للتفكه والتلذذ حال كونهم مع ذلك {آمنين} في غاية الأمن من كل مخوف. {لا يذوقون فيها} أي: الجنة {الموت} لأنها دار خلود لا دار فناء وقوله تعالى {إلا الموتة الأولى} فيه أوجه؛ أحدها: أنه استثناء منقطع أي: لكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 الموتة الأولى قد ذاقوها، ثانيها: أنه متصل وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يصير بلطف الله كأنه في الجنة لاتصاله بأسبابها ومشاهدته إياها وما يعطاه من نعيمها فكأنه مات فيها، ثالثها: أن إلا بمعنى سوى أي: سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا كما في قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} (النساء: 22) أي: سوى ما قد سلف، رابعها: أن إلا بمعنى بعد، أي: لا يذوقون فيها الموت بعد الموتة الأولى في الدنيا واختاره الطبري لكن نوزع بأن إلا بمعنى بعد لم يثبت وقد يجاب: بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، خامسها: قال الزمخشري: أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله: {إلا الموتة الأولى} موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، سادسها: المراد بالمتقين أعم من الراسخين وغيرهم وإن ضمير فيها يرجع للآخرة، فالعاصي إذا أراد الله تعالى تعذيبه بالنار يذيقه فيها موتة أخرى كما جاء في الأحاديث الصحيحة فيكون على المجموع، سابعها: أن الموتة الأولى في الجنة المجازية فلا يكون ذلك بالمحال وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا. قال بعض العلماء: الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن التقي فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياه فيها وقربه منه ونظره إليه وذكره له وعبادته إياه وشغله به وهو معه أينما كان، فإن قيل: أهل النار لا يذوقون الموت أبداً فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه؟ أجيب: بأن البشارة ما وقعت بدوام الحياة فقط بل مع حصول تلك الخيرات والسعادات فافترفا {ووقاهم} أي: المتقين {عذاب الجحيم} أي: التي تقدم أنها لكل كفار أثيم وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله تعالى من أراد منهم النار فيعذب كلاً منهم على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله تعالى في الشفاعة فيهم، فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم من ماء الحياة، ثم يدخلهم الله تعالى الجنة. روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل ناس في النار حتى إذا صاروا فحماً أدخلوا الجنة فيقول أهل الجنة: من هؤلاء فيقال: هؤلاء الجهنميون» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة» ، فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة. وقوله تعالى: {فضلاً} مفعول لأجله أي: فعل ذلك بهم لأجل الفضل، وجعله أبو البقاء: منصوباً بمقدر أي: تفضلنا بذلك فضلاً أي: تفضلاً. تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله تعالى فضلاً وإحساناً وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بفضل الله تعالى {من ربك} أي: المحسن إليك بكمال إحسانه إلى أتباعك إحساناً يليق بك، قال الرازي في اللوامع: أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع الأحوال. ولما عظمه الله تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه صلى الله عليه وسلم زاد تعظيمه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى: {ذلك} أي: الفضل العظيم الواسع {هو} أي: خاصة {الفوز} أي: الظفر بجميع المطالب {العظيم} لأنه خلاص عن المكاره ولم يدع جهة من الشرف إلا ملأها، وهذا يدل على أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق لأنه تعالى وصفه بكونه فوزاً عظيماً، وأيضاً فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى من إعطاء تلك الأجرة. ولما بيّن تعالى الدليل وشرح الوعد والوعيد قال تعالى: {فإنما يسرناه} أي: سهلنا القرآن سهولة كبيرة {بلسانك} أي: هذا العربي المبين وهم عرب سجيتهم الفصاحة {لعلهم يتذكرون} أي: يفهمونه فيتعظون به وإن لم يتعظوا ولم يؤمنوا به. {فارتقب} أي: فانتظر ما يحل بهم {إنهم مرتقبون} أي: منتظرون ما يحل بك فمفعولا الارتقاب محذوفان أي: فارتقب النصر من ربك إنهم مرتقبون بك ما يتمنونه من الدوائر والغوائل ولن يضرك ذلك، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفوراً له» . رواه الترمذي وزاد الزمخشري: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ورواه البغوي عن أبي هريرة. قال ابن عادل: قال أبو أمامة رضي الله تعالى عنه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة» والله تعالى أعلم بالصواب. سورة الجاثية مكية إلا {قل للذين آمنوا يغفروا} الآية هي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفاً {بسم الله} الذي تفرد بتمام العز والكبرياء {الرحمن} الذي أحكم رحمته بالبيان العام للسعداء والأشقياء {الرحيم} الذي خص بملابسة طاعته الأولياء وتقدم الكلام على قوله تعالى: {حم} ثم إن جعلتها اسماً مبتدأ مخبراً عنه بقوله تعالى: {تنزيل الكتاب} أي: الجامع لكل خير لم يكن بد من حذف مضاف تقديره، تنزيل حم تنزيل الكتاب. وقوله تعالى: {من الله} أي: المحيط بصفات الكمال صلة للتنزيل، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان تنزيل الكتاب مبتدأ والظرف خبراً {العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه. ولما كانت الحواميم كما روى أبو عبيدة في كتاب الفضائل عن ابن عباس لبيان القرآن حذف ما ذكر في البقرة من قوله تعالى {خلق} ليكون ما هنا أشمل فقال تعالى: {إن في السموات} أي: ذواتها بما لها من الدلالة على صانعها وخلقها على ما فيها من العبر بما فيها من المنافع وعظيم الصنعة وما لها من الشفوف الدال على تعددها بما فيها من الكواكب {والأرض} كذلك وبما حوت من المعادن والمعاش {لآيات} أي: دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار فإن من المعلوم أنه لا بد لكل ذلك من صانع متصف بذلك وقال تعالى {للمؤمنين} لأنهم برسوخهم في هذا الوصف الشريف أهل للنظر لأن ربهم يهديهم بإيمانهم، فشواهد الربوبية لهم منهما لائحة وأدلة الإلهية فيهما واضحة. ولما ذكر سبحانه وتعالى النظر في آيات الآفاق أتبعها آيات الأنفس بقوله تعالى: {وفي خلقكم} أي: خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن صار إنساناً المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار {وما} أي: وخلق ما {يبث} أي: ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية على سبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 التجدد والاستمرار {من دابة} مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزيئات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والطبائع والمنافع وغير ذلك {آيات} دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته. وقرأ حمزة والكسائي آيات بكسر التاء حملاً على اسم إن، والباقون بالرفع حملاً على محل إن واسمها، ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف قال تعالى {لقوم} أي: فيهم أهلية القيام بما يحاولونه {يوقنون} أي: يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان فلا يخالجهم شك في وحدانيته. {واختلاف الليل والنهار} بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره {وما أنزل الله} أي: الذي تمت عظمته فنفذت كلمته {من السماء من رزق} أي: مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق {فأحيا به} أي: بسببه {الأرض} أي: الصالحة للحياة ولذلك قال تعالى {بعد موتها} أي: يبسها وتهشيم ما كان فيها من النبات {وتصريف} أي: تحويل {الرياح} باختلاف جهاتها وأحوالها. وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد، والباقون بالجمع وقوله تعالى {آيات} فيه القراءتان المتقدمتان، أما الرفع فظاهر وأما الكسر ففيه وجهان؛ أحدهما: أنها معطوفة على اسم إن والخبر قوله {وفي خلقكم} كأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات، والثاني: أن تكون كررت تأكيداً لآيات الأولى ويكون {في خلقكم} معطوفاً على {في السموات} كرر معه حرف الجر توكيداً، ونظيره أن تقول: إن في بيتك زيداً وفي السوق زيداً فزيداً الثاني تأكيد للأول كأنك قلت: إن زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطف على معمولي عاملين ألبتة. ولما كانت هذه الآية أوضح دلالة من بقيتها على البعث قال تعالى فيها {لقوم يعقلون} الدليل فيؤمنون وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفاً فقال: إن المنصفين إذا نظروا في السموات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم. ولما ذكر هذه الآيات العظيمات قال تعالى مشيراً إلى علو رتبتها بأداة البعد: {تلك} أي: الآيات المذكورة {آيات الله} أي: حجج المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجل منها الدالة على وحدانيته {نتلوها} أي: نقصها {عليك} سواء أكانت مرئية أو مسموعة ملتبسة {بالحق} أي: الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله ليس بسحر ولا كذب {فبأي حديث} أي: خبر عظيم صادق يتجدد علمه به يستحق أن يتحدث به واستغرق كل حديث فقال تعالى {بعد الله} أي: حديث الملك الأعظم وهو القرآن {وآياته} أي: حججه {يؤمنون} أي: كفار مكة أي: لا يؤمنون، وقرأ ابن عامر وشعبة والكسائي بتاء الخطاب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {نتلوها عليك بالحق} ، والباقون بياء الغيبة ردوه على قوله تعالى {وفي خلقكم} وهو أقوى تبكيتاً. ولما بين الآيات للكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها بعد ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون؟ أتبعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 بوعيد عظيم لهم فقال تعالى: {ويل لكل أفاك} أي: مبالغ في صرف الحق عن وجهه {أثيم} أي: مبالغ في اكتساب الإثم وهو أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار، قال المفسرون: يعني النضر ابن الحارث والآية عامة فيمن كان موصوفاً بهذه الصفة وفسر هذا بقوله تعالى: {يسمع آيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها {تتلى عليه} بجميع ما فيها وهي القرآن من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز وهي القرآن العظيم، فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق، وقرأ حمزة والكسائي بإمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {ثم يصر} أي: يدوم دواماً عظيماً على قبح ما هو فيه حال كونه {مستكبراً} أي: طالباً للكبر عن الإذعان وموجداً له {كأن} أي: كأنه {لم يسمعها} أي: حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء {فبشره} أي: على هذا الفعل الخبيث {بعذاب أليم} أي: مؤلم، والبشارة على الأصل أو التهكم، وقرأ ابن كثير وحفص {أليم} بالرفع والباقون بالجر. {وإذا علم} أي: بلغه {من آياتنا} أي: القرآن {شيئاً} وعلم أنه من آياتنا {اتخذها هزواً} أي: مهزواً بها. تنبيه: في الضمير المؤنث وجهان؛ أحدهما: أنه عائد على {آياتنا} يعني القرآن، والثاني: أنه يعود على {شيئاً} وإن كان مذكراً لأنه بمعنى الآية كقول أبي العالية: *نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها* لأنه أراد بشيء جاريةً يقال لها: عنبة، والمعنى: اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال: {اتخذها} للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد وقوله تعالى {أولئك لهم عذاب مهين} أي: ذو إهانة إشارة إلى معنى {كل أفاك أثيم} (الشعراء: 222) ليدخل فيه جميع الأفاكين، فحمل أولاً على لفظها فأفراد ثم على معناها فجمع كقوله تعالى {كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم: 32) ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب فقال: {من ورائهم} أي: أمامهم لأنهم في الدنيا {جهنم} قال الزمخشري: والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام قال: *أليس ورائي إن تراخت منيتي ... أدبّ مع الولدان أزحف كالنسر* ومنه قوله تعالى {من ورائهم} أي: من قدامهم ا. هـ ثم بين تعالى أن ما سلكوه في الدنيا لا ينفعهم بقوله تعالى: {ولا يغني} أي: ولا يدفع {عنهم ما كسبوا} من الأموال في رحلهم ومتاجرهم والأولاد {شيئاً} من الإغناء. وقوله تعالى: {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} أي: من الأوثان عطف على {ما كسبوا} و {ما} فيهما إما مصدرية، أو بمعنى الذي أي: لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه {ولهم عذاب عظيم} أي: لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولاعضواً من أعضائهم إلا ملأه، فإن قيل: قال تعالى في الأول {مهين} وفي الثاني {عظيم} فما الفرق بينهما؟ أجيب: بأن كون العذاب مهيناً يدل على حصول العذاب مع الإهانة، وكونه عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضرر وقوله تعالى: {هذا هدى} إشارة إلى القرآن يدل عليه قوله تعالى {والذين كفروا بآيات ربهم} هي القرآن أي: هذا القرآن كامل في الهداية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 كما تقول: زيد رجل أي: كامل في الرجولية وأيما رجل {لهم عذاب} كائن {من رجز} أي: شديد العذاب {أليم} أي: بليغ الإيلام. ولما ذكر تعالى ذكر الربوبية ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم: {الله} أي: الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال {الذي سخر} أي: وحده من غير حول منكم ولا قوة في ذلك بوجه من الوجوه {لكم البحر} أيها الناس بركم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير فيه من الرقة والليونة {لتجري الفلك} أي: السفن {فيه بأمره} أي: بإذنه ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها، ففي ذلك دلالة ظاهرة على وحدانيته لأن جريان الفلك على وجه الماء لا يحصل إلا بثلاثة أشياء؛ أحدها: الرياح التي توافق المراد، وثانيها: خلق وجه الماء على الملامسة التي تجري عليها الفلك، وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغرق فيه، وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر {ولتبتغوا} أي: تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص على اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك {من فضله} لم يصنع شيئاً منه سواه {ولعلكم تشكرون} نعمه على ذلك. {وسخر لكم ما في السموات} من شمس وقمر ونجم بها وغير ذلك بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه {وما في الأرض} من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره ولو شاء لجعله كما في السماء لا وصول لكم إليه وقوله تعالى {جميعاً} توكيد لما دل عليه معنى ما من العموم وقيل: حال من {ما في السموات وما في الأرض} وقوله تعالى {منه} حال أي: سخرها كائنة منه تعالى لا صنع لأحد غيره في شيء من ذلك، قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه، وقال الزجاج: كل ذلك تفضل منه وإحسان، وقال بعض العارفين: سخر لك الكل لئلا يسخرك لشيء منها فتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من تسخيره لنا كل شيء في الكون {لآيات} أي: دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا {لقوم} أي: ناس فيهم أهلية القيام بما يجعل إليهم {يتفكرون} فيعلمون أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً واختلف في سبب نزل قوله تعالى: {قل} أي: يا أفضل الخلق {للذين آمنوا} ادعوا التصديق بكل ما جاءهم عن الله تعالى {يغفروا} أي: يستروا ستراً بالغاً {للذين لا يرجون أيام الله} أي: مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفة الكمال، فقال ابن عباس: «نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر: قعد على طرف البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر رضي الله عنه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وقال مقاتل: إن رجلاً من بني غفار شتم عمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 بمكة فهم عمر أن يبطش به، فنزلت بالغفر والتجاوز، وروى ميمون بن مهران: «أن فتحاص اليهودي لما نزل قوله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضااًحسناً} (البقرة: 245) قال: احتاج رب محمد فسمع ذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فرده» . وقال القرطبي والسدي: «نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت» . ثم نسختها آية القتال، قال الرازي: وإنما قالوا بالنسخ لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يقتلوا ولا يقاتلوا، فلما أمر الله تعالى بالمقاتلة كان نسخاً والأقرب أن يقال إنه محمول على ترك المنازعة وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية، وقال ابن عباس: لا يرجون أيام الله أي: ثوابه ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الماضية وتقدم تفسير أيام الله عند قوله تعالى {وذكرهم بأيام الله} (إبراهيم: 5) وقوله تعالى {ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون} علة للأمر، والقوم: هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع أو لكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون لنجزي نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية أي: ليجزي الله سبحانه وتعالى. ولما رغب سبحانه وتعالى ورهب وقرر أنه لا بد من الجزاء زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال تعالى شارحاً للجزاء: {من عمل صالحاً} قل أو جل {فلنفسه} أي: خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا والآخرة وهو مَثَل ضربه الله تعالى للذين يغفرون {ومن أساء} كذلك {فعليها} خاصة إساءته كذلك، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين، وذلك في غاية الظهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولا سيما إذا كان حكيماً، وإن كانت نقائص النفوس غطت على كثير من العقول ذلك {ثم} أي: بعد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ {إلى ربكم} أي: الملك المالك لكم لا إلى غيره {ترجعون} أي: تصيرون فيجازي المصلح والمسيء. {ولقد آتينا} أي: على ما لنا من العظمة {بني إسرائيل الكتاب} أي: الجامع للخيرات وهو يعم التوراة والإنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم عليهم السلام {والحكم} أي: العلم والعمل الثابتين ثبات الأحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل وللعمل من الإتقان بالعلم {والنبوة} التي تدرك بها الخيرات العظيمة التي لا يمكن إبلاغ الخلق إليها بلوغ اكتساب منهم فأكثرنا فيهم من الأنبياء عليهم السلام. {ورزقناهم} بما لنا من العظمة لإقامة أبدانهم {من الطيبات} أي: الحلالات من المن والسلوى وغيرهما {وفضلناهم} أي: بما لنا من العزة {على العالمين} قال أكثر المفسرين: علامي زمانهم، وقال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم، أي: لما آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء مما لم يفعله بغيرهم ممن سبق وكل ذلك فضيلة ظاهرة. {وآتيناهم} مع ذلك {بينات من الأمر} أي: الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما قال تعالى {فما اختلفوا} أي: أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: الذي من شأنه الجمع على المعلوم فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق {بغياً} أي: للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرياسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس {بينهم} أي: واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل، ولذلك استأنف قوله تعالى الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أمرهم مؤكداً لأجل إنكارهم {إن ربك} أي: المحسن إليك {يقضي بينهم} أي: بإحصاء الأعمال والجزاء عليها {يوم القيامة} أي: الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك {فيما كانوا} أي: لما هو لهم كالجبلة {فيه يختلفون} بغاية الجهد، والمعنى: أنه لا ينبغي للمبطل أن يفرح بنعم الدنيا فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه وذلك كالزجر لهم. ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق فقال تعالى: {ثم} أي: بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم {جعلناك} أي: بما لنا من العزة والقدرة {على شريعة} أي: طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدأة {من الأمر} أي: أمر الدين الذي هو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح {فاتبعها} أي: اتبع بغاية جهدك شريعتك الثابتة بالحجج {ولا تتبع أهواء} أي: آراء {الذين لا يعلمون} أي: لا علم لهم أو لهم علم لكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم، قال الكلبي: «إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية» . ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله تعالى مؤكداً: {إنهم} وأكد النفي فقال عز من قائل {لن يغنوا عنك} أي: لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدأ {من الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {شيئاً} أي: من إغناء أي: إن اتبعتهم، كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم {وإن الظالمين} أي: الغريقين في هذا الوصف وهم الكفرة، وكان الأصل: وإنهم ولكنه تعالى أظهر للإعلام بوصفهم {بعضهم أولياء بعض} إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالوهم باتباع أهوائهم {والله} أي: الذي له صفات الكمال {وليّ المتقين} أي: الذين همهم الأعظم الاتصاف باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله تعالى، والمعنى: أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله سبحانه وليهم وناصرهم. {هذا} أي: الوحي المنزل وهو القرآن {بصائر} أي: معالم {للناس} أي: في الحدود والأحكام فيبصروا بها ما ينفعهم وما يضرهم {وهدى} أي: قائد إلى كل خير مانع من كل زيغ {ورحمة} أي: كرامة وفوز ونعمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 {لقوم يوقنون} أي: ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له وقوله تعالى: {أم حسب} منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها أو بالهمزة وحدها ومعنى الهمزة فيها: إنكار الحسبان {الذين اجترحوا} أي: اكتسبوا ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي: كاسبهم وقال تعالى {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام: 60) {السيئات} أي: الكفر والمعاصي {أن نجعلهم} أي: بما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة {كالذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإقرارهم {الصالحات} أي: بأن نتركهم بغير حساب للفصل بين المحسن والمسيء. ولما كانت المماثلة مجملة بينها استئنافاً بقوله تعالى: {سواء} أي: مستو استواء عظيماً {محياهم ومماتهم} أي: حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سواء بالنصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما كالذين آمنوا، ويكون المفعول الثاني للجعل كالذين آمنوا أي: أحسبوا أن نجعلهم مثلهم في حال استواء محياهم ومماتهم ليس الأمر كذلك، وقرأه الباقون بالرفع على أنه خبر ومحياهم ومماتهم مبتدأ ومعطوف والجملة بدل من الكاف والضميران للكفار، والمعنى: أحسبوا أن نجعلهم في الآخرة في خير كالمؤمنين أي: في رغد من العيش مساوٍ لعيشهم في الدنيا حيث قالوا للمؤمنين: لئن بعثنا لنعطي من الخير مثل ما تعطون، قال تعالى على وفق إنكاره بالهمزة {ساء ما يحكمون} أي: ليس الأمر كذلك فهم في الآخرة في العذاب على خلاف عيشهم في الدنيا والمؤمنون في الآخرة في الثواب بأعمالهم الصالحات في الدنيا من الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك، وما مصدرية أي: بئس حكماً حكمهم هذا. ولما بين تعالى أن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة ذلك فقال تعالى: {وخلق الله} أي: الذي له جميع أوصاف الكمال {السموات والأرض} وقوله تعالى {بالحق} متعلق بخلق وقوله تعالى {ولتجزى} أي: بأيسر أمر {كل نفس} أي: منكم ومن غيركم معطوف على بالحق في المعنى لأن كلاً منهما سبب فعطف العلة على مثلها أو أنه معطوف على معلل محذوف والتقدير: خلق هذا العالم إظهاراً للعدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت بين الدرجات والدركات من المحقين والمبطلين {بما} أي: بسبب ما {كسبت} من خير أو شر {وهم} أي: والحال أنهم {لا يظلمون} أي: لا يوجد من موجد ما في وقت من الأوقات جزاء لهم في غير موضعه هذا على ما جرت به عوائدكم في العدل والفضل، ولو وجد منه سبحانه وتعالى غير ذلك لم يكن ظلماً منه لأنه المالك المطلق والملك الأعظم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه كلهم لكان غير ظالم في نفس الأمر، فهذا الخطاب إنما هو على ما يتعارفونه من إقامة الحجة بمخالفة الأمر ثم عاد سبحانه وتعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طرائقهم فقال: {أفرأيت} أي: أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس {من اتخذ} أي: بغاية جهده {إلهه هواه} أي: ما يهواه من حجر بعد حجر يراه أحسن، روي عن أبي رجاء العطاردي وهو ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. قال الأصفهاني: سئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه فنظمه من قال: *نون الهوان من الهوى مسروقة ... فأسير كل هوى أسير هوان* وقال آخر أيضاً: *إن الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا* {وأضله الله} أي: بما له من الإحاطة {على علم} منه تعالى أي: عالماً بأنه من أهل الضلالة قبل خلقه {وختم} زيادة على الإضلال الخاص {على سمعه} فلا فهم له في الآيات المسموعة {وقلبه} أي: فهو لا يعي ما فى حقه وعيه {وجعل على بصره غشاوة} أي: ظلمة فلا يبصر الهوى ويقدر هنا المفعول الثاني لرأيت أي: أيهتدي، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الغين وسكون الشين، والباقون بكسر الغين وفتح الشين وألف بعد الشين وإذا صار بهذه المثابة {فمن يهديه} وأشار تعالى إلى قدرته عليه بقوله سبحانه وتعالى {من بعد الله} أي: إن أراد الله إضلاله الذي له الإحاطة بكل شيء أي: لا يهتدي {أفلا تذكرون} أي: ألم يكن لكم نوع تذكر فتتعظوا وفيه إدغام إحدى التاءين في الذال. {وقالوا} أي: في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه تعالى قادر على كل شيء {ما هي} أي: الحياة {إلا حياتنا} أي: أيها الناس {الدنيا} أي: هذه التي نحن فيها {نموت ونحيا} ، فإن قيل: الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكروا القيامة كان يجب أن يقولوا: نحيا ونموت فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟ أجيب: من وجوه أولها: أن المراد بقولهم نموت أي: حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقولهم ونحيا ما حصل بعد ذلك في الدنيا، ثانيها: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا، ثالثها: قال الزجاج: الواو للاجتماع والمعنى: يموت بعض ونحيا بعض، رابعها: قال الرازي: إنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال {إن هي إلا حياتنا الدنيا} ثم قال بعده {نموت ونحيا} يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لا يطرأ عليه الموت بعد ذلك وهو في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد، وقال البيضاوي: يحتمل أنهم أرادوا به التناسخ أي: وهو أن روح الشخص إذا خرجت تنتقل إلى شخص آخر فيحيا بعد أن لم يكن فإنه عقيدة أكثر عبدة الأصنام {وما يهلكنا} أي: بعد الحياة {إلا الدهر} أي: مر الزمان الطويل بغلبته علينا وطول العمر واختلاف الليل والنهار من دهره إذا غلبه {وما} أي: قالوه والحال أنه ما {لهم بذلك} أي: المقول البعيد من الصواب وهو أنه لا حياة بعد هذه وأن الإهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه وأغرق في النفي فقال تعالى {من علم} أي: كثير ولا قليل {إن} أي: ما {هم إلا يظنون} أي: بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف وأنه لم يرجع أحد من الموتى هذا ظنهم الفاسد. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما» . وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يسب أحدكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 الدهر فإن الدهر هو الله تعالى ولا يقولن للعنب الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم» . ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبُّه عند النوازل لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله تعالى عنهم فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان يرجع سبهم إلى الله تعالى إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهوا عن سبه.u {وإذا تتلى} أي: تتابع بالقراءة من أي تال كان {عليهم آياتنا} أي: على ما لها من العظمة في نفسها وبالإضافة إلينا حال كونها {بينات} أي: في غاية المكنة في الدلالة على البعث فلا عذر لهم في ردها {ما كان} أي: بوجه من وجوه الكون {حجتهم} أي: قولهم الذي ساقوه مساق الحجة {إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا} أي: أحياء {إن كنتم صادقين} أي: في أنا نبعث فهو لا يستحق أن يسمى شبهة فسمي حجة بزعمهم أو لأن من كانت حجته هذه فليست له ألبتة حجة كقوله: *تحية بينهم ضرب وجيع* ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله تعالى: {قل الله} أي: المحيط علماً وقدرة {يحييكم} أي: حين كنتم نطفاً {ثم يميتكم} أي: بأن يخرج أرواحكم من أجسادكم فتكونون كما كنتم قبل الإحياء كما تشاهدون {ثم يجمعكم} أي: بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد منتهين {إلى يوم القيامة} أي: القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق {لا ريب} أي: لا شك بوجه من الوجوه {فيه} بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً {ولكن أكثر الناس} أي: وهم القائلون ما ذكر {لا يعلمون} أي: لا يتجدد لهم علم لما لهم من النفوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل فهم واقفون مع المحسوسات لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور وقوله تعالى: {ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات} أي: كلها {والأرض} أي: التي ابتدأكم منها تعميم للقدرة بعد تخصيصها {ويوم تقوم الساعة} أي: توجد وتتحقق تحقق القائم الذي هو على كمال تمكنه وتمام أمره الناهض بأعباء ما يريد ثم كرر للتأكيد والتهويل قوله تعالى {يومئذ} أي: يوم تقوم يخسرون هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى للتعميم والتعليق بالوصف {يخسر المبطلون} أي: الداخلون في الباطل الغريقون في الاتّصاف به الذين كانوا لا يرضون بقضائي. تنبيه: الحياة والعقل والصحة كأنها رأس مال والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجري مَجرى تصرف التاجر في ماله لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في تصرفاتهم بالكفر والأباطيل فلم يجدوا في ذلك اليوم إلا الحرمان والخذلان ودخول النار وذلك في الحقيقة نهاية الخسران. {وترى} أي: في ذلك اليوم {كل أمة} أي: أهل دين {جاثية} أي: مجتمعة لا يخالطها غيرها وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً لما لعلها تؤمر به جلسة المخاصم بين يدي الحاكم تنتظر القضاء الحاتم والأمر الجازم اللازم لشدة ما يظهر لها من هول ذلك اليوم {كل أمة} من الجاثين {تدعى إلى كتابها} أي: الذي أنزل عليها وتعبدها الله تعالى به والذي نسخته الحفظة عليهم السلام من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا ومن خالفه هلك ويقال لهم حالة الدعاء {اليوم تجزون} أي: على وفق الحكمة بأيسر أمر {ما} أي: عين الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 {كنتم} بما هو لكم كالجبلات {تعملون} أي: مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر، فإن قيل: الجثو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة؟ أجيب: بأن الجاثي الآمن يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً. {هذا كتابنا} أي: الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام {ينطق} أي: يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق {عليكم بالحق} أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم وذلك بأن يقول: من عمل كذا فهو عاص، ومن عمل كذا فهو مطيع فينطبق ذلك على ما عملتموه سواء بسواء من غير زيادة ولا نقصان، وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ. ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق وكانوا كأنهم يقولون ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان؟ قال تعالى مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك {إنا} أي: على ما لنا من العظمة المغنية عن الكتابة {كنا} على الدوام {نستنسخ ما كنتم} طبعاً لكم وخلقاً {تعملون} قولاً وفعلاً ونية أي: نأمر الملائكة عليهم السلام بكتبها وإثباتها عليكم، وقيل: نستنسخ أي: نأخذ نسخه وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله تعالى منه ما كان له من ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب، والاستنساخ من اللوح المحفوظ، تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ من كتاب كتاب، وقال الضحاك: نستنسخ أي: نثبت، وقال السدي: نكتب، وقال الحسن: نحفظ. ثم بين تعالى أحوال المطيعين بقوله تعالى: {فأما الذين آمنوا} أي: من الأمم الجاثية {وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي: الطاعات فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه {فيدخلهم} أي: في ذلك اليوم {ربهم} أي: المحسن إليهم بالتوفيق بالإيمان {في رحمته} التي من جملتها الجنة والنظر إلى وجهه الكريم الذي هو الغاية القصوى وتقول لهم الملائكة تشريفاً: سلام أيها المؤمنون ودل على عظمة الرحمة بقوله تعالى: {ذلك} أي: الإحسان العالي المنزلة {هو} أي: لا غيره {الفوز المبين} أي: الظاهر الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره لأنّه لا يشوبه كدر أصلاً ولا نقص بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا فإنها مع كونها كانت فوزاً كانت خفية جداً على غير الموقنين. ثم بين تعالى أحوال الفريق الآخر بقوله تعالى: {وأما الذين كفروا} أي: ستروا ما أمر الله تعالى به {أفلم} أي: فيقال لهم ألم {تكن} تأتيكم رسلي فلم تكن {آياتي} على ما لها من عظمة إضافتها إلي وأعظمها القرآن {تتلى} أي: تواصل قراءتها من أي تال كان فكيف إذا كانت بواسطة الرسل تلاوة مستعلية {عليكم} لا تقدرون على دفع شيء منها. تنبيه: حذف المقول المعطوف عليه كما تقرر اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة {فاستكبرتم} أي: فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع إن طلبتم الكبر لأنفسكم أوجدتموه على رسلي وآياتي {وكنتم قوماً} أي: ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه {مجرمين} أي: غريقين في قطع ما يستحق الوصل وذلك هو الخسران المبين. {وإذا} أي: وكنتم إذا {قيل} أي: من أي قائل كان ولو على سبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 التأكيد {إن وعد الله} أي: الذي كل أحد يعلم أنه محيط بصفات الكمال {حق} أي: ثابت لا محيد عنه مطابق للواقع من البعث وغيره لأن أقل الملوك لا يرضى بأن يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى فكيف إذا كان الإخلاف فيه متناقضاً للحكم وقرأ {والساعة} حمزة بالنصب عطفاً على وعد الله، والباقون برفعها وفيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: الابتداء وما بعدها من الجملة المنفية وهو قوله تعالى {لا ريب} أي: لا شك {فيها} خبرها، ثانيها: العطف على محل اسم إن لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء، ثالثها: أنه عطف على محل إن واسمها معاً لأن بعضهم كالفارسي والزمخشري يرون أن لأن واسمها موضعاً وهو الرفع بالابتداء {قلتم} أي: راضين لأنفسكم بحضيض الجهل {ما ندري} أي: الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه {ما الساعة} أي: لا نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا به من أحوالها. تنبيه: الساعة هنا مرفوعة باتفاق {إن} أي: ما {نظن} أي: نعتقد ما تخبروننا به عنها {إلا ظناً} وأما وصوله إلى درجة العمل فلا {وما نحن} وأكدوا النفي فقالوا {بمستيقنين} أي: بموجود عندنا اليقين في أمرها، قال الرازي: القوم كانوا في هذه المسألة على قولين: منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا} ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم السلام ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته صاروا شاكين فيه وهم المذكورون في هذه الآية، ويدل على ذلك أنه حكى تعالى مذهب أولئك القاطعين ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول. ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشدة الغضب عليهم فقال تعالى: {وبدا} أي: ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال والزلازل والأهوال وظهر {لهم} غاية الظهور {سيئات ما عملوا} في الدنيا فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك {وحاق} أي: أحاط {بهم} على حال القهر والغلبة قال أبو حيان: ولا يستعمل إلا في المكروه {ما كانوا} جبلة وطبعاً {به يستهزئون} أي: يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك، وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا إن نظن إلا ظناً إنما ذكروه استهزاء وسخرية فصار هذا الفريق أشر من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء، وقرأ حمزة في الوقف بتسهيل الهمزة بعد الزاي كالواو وله أيضاً إبدالها ياء ونقل عنه أيضاً غير ذلك. {وقيل} أي: لهم على أفظع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له فكأنه بلسان كل قائل {اليوم ننساكم} أي: نترككم في العذاب {كما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي: كما تركتم الإيمان والعمل للقائه، وقيل: نجعلكم منزلة الشيء المنسي غير المبالى به كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه {ومأواكم النار} ليس لكم براح عنها {وما لكم من ناصرين} ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب ثلاثة أشياء: قطع الرحمة عنهم، وتصيير مأواهم النار، وعدم الأنصار؛ لأنهم أتوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 بثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة وهي: الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به والسخرية، والاستغراق في حب الدنيا. وهو المراد بقوله تعالى: {ذلكم} أي: العذاب العظيم {بأنكم اتخذتم} أي: بتكليف منكم لأنفسكم {آيات الله} أي: الملك الأعظم {هزواً} أي: استهزاء بها ولم تتفكروا فيها، وقرأ {اتخذتم} ابن كثير وحفص بإظهار الذال عند التاء والباقون بالإدغام {وغرتكم الحياة الدنيا} الدنيئة لضعف عقولكم فآثرتموها لكونها حاضرة وأنتم كلابها فقلتم: لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالآخرة {فاليوم} أي: بعد إيوائهم فيها {لا يخرجون منها} أي: النار لأن الله تعالى لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء {ولا هم يستعتبون} أي: لا يطلب من طالب ما منهم الإعتاب وهو الاعتذار لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة. ولما تم الكلام في المباحث الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال عز من قائل: {فلله} أي: الذي له الأمر كله {الحمد} أي: الإحاطة بجميع صفات الكمال {رب السموات} أي: ذوات العلو والاتساع والبركات {ورب الأرض} أي: ذات القبول للواردات {رب العالمين} أي: خالق ما ذكر إذ الكلُّ نعمة منه دال على كمال قدرته فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرضين وخالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين. ولما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفء له عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا يرضونها لأنفسهم فقال تعالى: {وله} أي: وحده {الكبرياء} أي: الكبر الأعظم الذي لا نهاية له {في السموات} كلها {والأرض} جميعاً اللتين فيهما آيات الموقنين روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار» . وفي رواية عذبته وفي رواية قصمته {وهو} وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات وفواصل وغايات بعد أن حرر معانيه وتنزيله فصار معجزاً في نظمه ومعناه وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب» حديث موضوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 سورة الأحقاف مكية إلا قوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله} الآية وإلا {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} الآية وإلا {ووصينا الإنسان بوالديه} الثلاث آيات، وهي خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً. {بسم الله} الذي لا يذل من والى ولا يعز من عادى. {الرحمن} الذي سبقت رحمته غضبه {الرحيم} الذي خص حزبه بعمل الأبرار للفوز في دار القرار، وتقدّم الكلام على قوله تعالى: {حم} مراراً، وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وقرأ ورش وأبو عمرو بإمالتها بين بين وفتحها الباقون. وقيل: المراد بحم حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي النهاية في الصواب والسداد أحكمها الذي أحاطت قدرته فهو لا يخلف الميعاد. وقوله تعالى: {تنزيل الكتاب} أي الجامع لجميع الخيرات بالتدريج على حسب المصالح {من الله} أي الجبار المتكبر المختص بصفات الكمال {العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه لأنه لم يفعل شيئاً إلا في أوفق محاله وأنه الخالق للخير والشرّ وأنه يعز أولياءه ويذل أعداءه. {ما خلقنا} أي؛ على مالنا من العظمة الموجبة للتفرّد بالكبرياء {السموات والأرض} على ما فيهما من الآيات {وما بينهما إلا} خلقاً ملتبساً {بالحق} أي: الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرّف المطلق ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا {وأجل} أي وبتقدير أجل {مسمى} ينتهي إليه وهو يوم القيامة. {والذين كفروا عما أنذروا} أي: خوفوا به من القرآن من هول ذلك اليوم الذي لا بدّ لكل خلق من انتهائه إليه {معرضون} أي لا يؤمنون به ولا يهتمون للاستعداد له. ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء المعرّضين أنفسهم لغاية الخطوب منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 {أرأيتم} أي: أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمّل وروية باطنة. {ما تدعون} أي: تعبدون ثم نبه على سفولهم بقوله تعالى: {من دون الله} أي: المالك الأعظم الذي كل شيء دونه فلا كفء له مفعول أوّل وقوله تعالى: {أروني} أي: أخبروني تأكيد وقوله: {ماذا خلقوا} مفعول ثان وقوله تعالى: {من الأرض} بيان لما أي: ليصح ادّعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزء. {أم لهم} أي: الذين تدعونهم {شرك} أي مشاركة {في} خلق. {السموات} أي: بنوع من أنواع الشركة مع الله تعالى و {أم} بمعنى همزة الإنكار ولما كان الدليل أحد شيئين سمع وعقل قال تعالى: {ائتوني بكتاب} أي: منزل على دعواكم في هذه الأصنام: أنها خلقت شيئاً أو أنها تستحق أن تعبد. تنبيه أبدل ورش والسوسيّ الهمزة من {ائتوني} في الوصل {ياء} وحققها الباقون. وأما الابتداء بها، فجميع القرّاء أبدلوها ياء بعد الابتداء بهمزة الوصل مكسورة. {من قبل هذا} أي: القرآن الذي أنزل علي كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوّة، فإنها كلها شاهدة بالوحدانية لو أتى بها آت لشهدت عليه. ولما ذكر تعالى الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به وهو: النقل القاطع، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه فقال: {أو أثارة} أي: بقية {من علم} يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام: أنها تقرّبكم إلى الله تعالى: وقال المبرد: {أثارة} ما يؤثر من علم كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان. ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار. يقال: جاء في الأثر كذا وكذا. وقال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال؛ الأوّل: الأثارة واشتقاقها من: أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار. والثاني: من الأثر الذي هو الرواية. والثالث: من الأثر بمعنى العلامة. وقال الكلبي في تفسير الأثارة: أي بقية من علم يؤثر عن الأوّلين أي: يسند إليهم وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء قال الرازي: وههنا قول آخر: أو أثارة من علم هو علم الخط الذي يخط في الرمل، والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كان نبيّ من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه» فعلى هذا الوجه معنى الآية {أئتوني بعلم من قبل هذا} الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وأقوالهم ودلائلهم. ثم أشار إلى تقريعهم بالكذب إذ لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله: {إن كنتم صادقين} أي: عريقين في الصدق على ما تدّعون لأنفسكم. ولما أبطل سبحانه قولهم في الأصنام بعدم قدرتها أتبعه إبطاله بعدم علمها بقوله تعالى: {ومن أضلّ} وهو استفهام بمعنى النفي أي: لا أحد أضل {ممن يدعو} أي: يعبد ما لا قدرة له ولا علم. ومن انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل. وأرشد إلى سفولها بقوله عز وجل. {من دون الله} أي: من أدنى رتبة من رتب الذي له صفات الكمال فهو يعلم كل شيء. ويقدر على كل شيء فهو بحيث يجيب الدعاء، ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء، ويدبر عبده لما يعلم من سرّه وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به، ويريد العبد في كثير من الأشياء ما لو وكل فيه إلى نفسه، وأجيب إلى طلبته، كان فيه حتفه فيدبره سبحانه بما تشتدّ كراهته له، فيكشف الحال على أنه لم يكن له فرج إلا فيه. {من لا يستجيب له} أي: لا توجد الإجابة، ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها، لأنه لا أهلية له لذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 والمعنى: أنه لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجدل، ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ولا تجيب لا في الحال، ولا في المآل {إلى يوم القيامة} وإنما جعل ذلك غاية؛ لأنّ يوم القيامة قد قيل: إن الله تعالى يحييها ويخاطب من يعبدها. فلذلك جعله الله تعالى حدّاً وقيل المراد عبدة الملائكة وعيسى وأنهم يوم القيامة يظهرون عبادة هؤلاء العابدين. {وهم عن دعائهم} أي: دعاء المشركين إياهم. {غافلون} أي: لهم هذا الوصف لا ينفكون عنه لا يعلمون من يدعوهم ومن لا يدعوهم وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعمّ من الأصنام وغيرها مما عبدوه من عقلاء الإنس وغيرهم ولما غيّا سبحانه بيوم القيامة فأفهم أنهم يستجيبون لهم فيه، بيّن ما يحاورونهم به إذ ذاك. فقال تعالى: {وإذا حشر} أي: جمع بكره على أيسر وجه وأسهل أمر. {الناس} أي: يوم القيامة {كانوا} أي: المدعوّون {لهم} أي: الداعين {أعداء} ويعطيهم الله تعالى قوّة الكلام فيخاطبونهم بكل ما يخاطب به العدوّ عدوّه {وكانوا} أي: المعبودون {بعبادتهم} أي: الداعين وهم المشركون إياهم. {كافرين} أي: جاحدين لأنهم كانوا عنها غافلين، كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} (يونس: 28) ثم بين تعالى أنهم في نهاية الغباوة بإنكار ما لا شيء أبين منه. بقوله سبحانه: {وإذا تتلى} أي: تقرأ من أي قارئ كان على وجه المتابعة {عليهم} أي: هؤلاء البعداء البغضاء {آياتنا} التي لا أعظم منها في أنفسها بإضافتها إلينا وهي القرآن وقوله تعالى: {بينات} أي: ظاهرات حال قالوا هكذا كان الأصل. ولكنه تعالى بين الوصف الحامل لهم على القول فقال عز وجل: {قال الذين كفروا} أي: ستروا تلك الأنوار التي أبرزتها تلك التلاوة لها هكذا كان الأصل ولكن قال تعالى {للحق} أي: لأجله {لما} أي: حين {جاءهم} أي: من غير نظر وتأمّل {هذا} أي: الذي يتلى {سحر} أي: خيال لا حقيقة له {مبين} أي: ظاهر في أنه خيال باطل. وقوله تعالى: {أم يقولون افتراه} إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحراً إلى ذكر ما هو أشنع وإنكار له وتعجب، ثم بين تعالى بطلان شبهتهم بقوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف الخلق {إن افتريته} أي: تعمدت كذبه على زعمكم وأنا إنما أريد به نصيحتكم فالذي أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً وذلك هو معنى قوله: {فلا تملكون} أي: أيها المنصوحون بوجه من الوجوه ولا في وقت من الأوقات. {لي من الله} أي: المتكبر الحليم {شيئاً} من الأشياء لما يردّ عني انتقامه لأنّ الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب فكيف من يتعمد الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة وملازمته مساءً وصباحاً فأيّ حامل لي حينئذ على افترائه؟ ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله: {هو} أي: الله سبحانه {أعلم} أي: منكم ومن كل أحد {بما تفيضون فيه} أي: بما تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه بأنه سحر. {كفى به شهيداً} أي: شاهداً بليغ الشهادة لأنه أعلم بجميع أحوالنا. {بيني وبينكم} أي أن القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ولكم بالكذب، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر على ما تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين، وأنتم عرب مثلي، بل وأنا أمّي وفيكم أنتم الكتبة، والذين خالطوا العلماء، وسمعوا أحاديث الأمم، وضربوا بعد بلاد العرب في بلاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 العجم، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون {وهو} أي: وحده {الغفور} أي: الذي من شأنه أن يمحو الذنوب أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {الرحيم} أي الذي يكرم بعد المغفرة ويتفضل بالتوفيق لما يرضيه قال الزجاج: هذا دعاء إلى التوبة ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيم به ولما حكى تعالى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم: إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله تعالى على سبيل الفرية حكى عنهم شبهة أخرى وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك. بقوله عز وجل: {قل} أي: لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء {ما كنت} أي: كونا مّا {بدعاً} أي: منشأ مبتدعاً محدثاً مخترعاً، بحيث أكون أجنبياً منقطعاً {من الرسل} أي: لم يتقدّم لي منهم مثال في أصل ما جئت به وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدّمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به، ودعوا إليه كما دعوت إليه، وصدّقهم الله تعالى بمثل ما صدّقني به. فثبت بذلك رسالتهم وسعد بهم من صدّقهم من قومهم وشقي من كذبهم فانظروا إلى آثارهم واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم. {تنبيه} البدع والبديع من كل شيء: المبدأ والبدعة؛ ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله. وفي الحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» قال البقاعي معناه والله أعلم: أنه يبتدع ما يخالف السنة إذا كانت البدعة ضدّ السنة فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه ضالاً مشركاً وكان وما أحدث في النار. ولم يدخل تحت هذا ما يخترعه الإنسان من أفعال البّر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكر. ا. هـ. وقال ابن عبد السلام: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة: قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة؛ فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، كالاشتغال بعلم النحو، أو في قواعد التحريم فمحّرمة، كمذهب القدرية والمجسمة والرافضة، قال: والردّ على هؤلاء من البدع الواجبة، أوفى قواعد المندوب، فمندوبة كبناء الربط والمدارس، وكل إحسان لم يحدث في العصر الأوّل كصلاة التراويح، أو في قواعد المكروه فمكروهة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف أو في قواعد المباح فمباحة، كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس. وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعيّ رضى الله تعالى عنه أنه قال: المحدثات ضربان؛ أحدهما: ما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو بدعة وضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير فهو غير مذموم. واختلف في تفسير قوله تعالى عن قوله عليه الصلاة والسلام: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} على وجهين؛ أحدهما: أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني: أن يحمل على أحوال الآخرة. أما الأوّل؛ ففيه وجوه. أحدها: أنّ معناه لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم، ومن الغالب منا ومن المغلوب. ثانيها: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة: رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشرّوا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ما بهم من أذى المشركين. ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت متى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} هو شيء رأيته في المنام. {إن} أي: ما {أتبع} أي: بغاية جهدي وجدّي {إلاما} أي: الذي {يوحى} أي: يجدّد لقاؤه ممن لا يوحى بحق سواه {إلي} على سبيل التدريج لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري. ثالثها: قال الضحاك: لا أدري ما تؤمرون به ولا ما أومر به من التكاليف والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان. {وما أنا} أي: بإخباري لكم عما يوحى إليّ {إلا نذير مبين} أي: بيّن الإنذار رابعها: كأنه يقول: ما أدري ما يفعل بي في الدنيا؛ أموت، أو أقتل كما قتل الأنبياء قبلي؟ ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون؛ أترمون بالحجارة من السماء، أو يخسف بكم، أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم؟ قال السدّي: ثم أخبره الله تعالى أنه يظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} (التوبة: 23) وقال في أمّته {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (الأنفال: 33) فأخبره الله تعالى بما يصنع به وبأمّته. وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت هذه الآية، فرح المشركون والمنافقون واليهود. وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا؟ فأنزل الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} إلى قوله تعالى: {وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً} (الفتح: 5) فقالت الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} (سورة الفتح، آية: 5) الآية وأنزل: {وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً} (الأحزاب: 47) فبين لهم ما يفعل به وبهم وبهذا قال أنس والحسن وعكرمة. وقالوا إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه، لأنه إنما أخبر به عام الحديبية فنسخ ذلك. قال الرازي: وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول من وجهين؛ أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر، وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أو لا ثانيهما: أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال تعالى في حقهم {إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (الأحقاف: 13) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثبت ضعف هذا القول. {قل} يا أفضل الخلق لهؤلاء المصرّين على التكذيب {أرأيتم} أي: أخبروني {إن كان} أي: هذا الذي أتيتكم به وهو القرآن {من عند الله} أي: الملك الأعظم. {وكفرتم به} أي: أيها المشركون {وشهد شاهد} واحد أو أكثر {من بني إسرائيل} أي: الذي جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم {على مثله} أي: مثل ما في القرآن من أنّ من وحد فقد آمن ومن أشرك فقد كفر وأن الله تعالى أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم فتطابقت عليه كتبهم وتضافرت به رسلهم، وتواترت على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام {فآمن} أي: هذا الذي شهد هذه الشهادة {واستكبرتم} أي: أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرياسة والفخر، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة فضللتم، فوضعتم الشيء في غير موضعه، فانسدّ عليكم باب الهداية. واختلف في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو عبد الله بن سلام شهد بنبوّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به، واستكبرت اليهود فلم يؤمنوا به. كما روى أنس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كذاب، وتأمّله فتحقق أنه النبيّ المنتظر، فقال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبي: «ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال صلى الله عليه وسلم أخبرني بهنّ جبريل آنفاً قال: جبريل؟ قال: نعم قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ {من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} (سورة البقرة، آية: 97) ثم قال: أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإذا سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك لرسول الله حقاً. ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال أفرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرّنا وابن شرّنا، وانتقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله. قال سعد بن أبي وقاص: «ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام؟ وفيه نزلت هذه الآية {وشهد شاهد من بني إسرائيل} (الأحقاف: 10) وقيل: الشاهد هو موسى بن عمران قال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأنّ ال {حم} نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة؟ وإنما نزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بالمدينة وأجاب الكلبي: بأنّ السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية، وأن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين. وقيل المراد بالشاهد موسى، ومثل القرآن هو التوراة. فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان فكل واحد يصدّق الآخر: لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن مصدّق للتوراة. وجواب الشرط: ألستم ظالمين دل عليه قوله تعالى: {إن الله} أي: الملك الأعظم ذا العزة والحكمة {لا يهدي القوم} أي: الذين لهم قوّة على القيام بما يريدون {الظالمين} أي: الذين من شأنهم وضع الأمور في غير مواضعها فلأجل ذلك لا يهديكم، إذ لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه هلاككم. {س46ش11/ش14 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا? لِلَّذِينَءَامَنُوا? لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ? وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا? بِهِ? فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ? كِتَابُ مُوسَى? إِمَامًا وَرَحْمَةً? وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا? وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا? رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا? فَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَحْزَنُونَ * أُو?لَا??ـ?ِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءَ? بِمَا كَانُوا? يَعْمَلُونَ} {وقال الذين كفروا} أي: تعمدوا تغطية الحق {للذين} أي: لأجل إيمان الذين {آمنوا} أي سبقوهم إلى الإيمان {لو كان} أي: إيمانهم بالقرآن {خيراً} أي: من جملة الخيور {ما سبقونا إليه} ونحن أشرف منهم، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأعلم بتحصيل العز والسؤدد الذي هو مناط الخير. كما لم يسبقونا إلى شيء من هذه الخيرات التي نحن فائزون بها وهم صفر منها لكن ليس بخير، فلهذا سبقونا إليه {وإذ} أي: فحين {لم يهتدوا به} أي: بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان {فسيقولون هذا} أي: القرآن الذي سبقتم إليه {إفك} أي: شيء مصروف عن وجهه إلى قفاه {قديم} أي: أفك غيره وعثر هو عليه فأتى به ونسبه إلى الله تعالى كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 قالوا أساطير الأولين {ومن} أي: قالوا ذلك، والحال أنه كان في بعض الزمن الذي من {قبله} أي: القرآن {كتاب موسى} كليم الله تعالى، حال كون كتابه وهو التوراة {إماما} أي: يستحق أن يؤمّه كل من سمع به {ورحمة} لما فيه من نعم الدلائل على الله تعالى، والبيان الشافي، وفي الكلام محذوف، تقديره: وتقدّمه كتاب موسى إماماً ورحمة ولم يهتدوا به كما قال تعالى في الآية الأولى {وإذ لم يهتدوا به} .k {وهذا} أي: القرآن {كتاب} أي: جامع لجميع الخيرات {مصدّق} أي: لكتاب موسى عليه السلام، وغيره من الكتب التي تصح نسبتها إلى الله تعالى في أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله تعالى وقوله تعالى: {لساناً} حال من الضمير في مصدّق. وقوله: {عربياً} صفة ل {لساناً} وهو المسوّغ لوقوع هذا الجامد حالاً أي: في أعلى طبقات اللسان العربي، مع كونه أسهل الكتب تناولاً، وأبعدها عن التكلف، ليس هو بحيث يمنعه علوّه بفخامة الألفاظ، وجلالة المعاني، ودقة الإشارة عن سهولة الفهم، وقرب التناول. وقوله تعالى: {لينذر} أي: الكتاب بحسن بيانه، وعظم شأنه {الذي ظلموا} أي: سواء كانوا عريقين في الظلم، أم لا وقرأ نافع وابن عامر: بالتاء خطاباً أي: أيها الرسول. والباقون: بالياء غيبة بخلاف عن البزي. {وبشرى} أي: كاملة {للمحسنين} أي: المؤمنين، بأنّ لهم الجنة ولما قرّر دلائل التوحيد والنبوّة، وذكر شبهات المتكبرين وأجاب عنها ذكر بعد ذلك طريقة المحقين. فقال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا} أي: خالقنا ومولانا والمحسن إلينا {الله} وحده {ثم استقاموا} أي: جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الأمور التي هي منتهى العلم، و {ثم} للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد {فلا خوف عليهم} أي: من لحوق مكروه {ولاهم يحزنون} أي: على فوات محبوب، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط. {أولئك} أي: العالون الدرجات {أصحاب الجنة خالدين فيها} خلوداً لا آخر له جوزوا بذلك {جزاءً بما} أي: بسبب ما {كانوا} طبعاً وخلقاً {يعملون} أي: على سبيل التجديد المستمر. ولما كان رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما كما ورد به الحديث حث عليه بقوله تعالى: {ووصينا} أي: بما لنا من العظمة {الإنسان} أي: هذا النوع الذي أنس بنفسه {بوالديه} وقرأ: {حسناً} نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الحاء وسكون السين. وقرأ الكوفيون بسكون الحاء وقبلها همزة مكسورة وفتح السين وبعدها ألف، فهو منصوب على المصدر بفعل مقدّر، أي: وصيناه أن يحسن إليهما إحساناً، ومثله حسناً. وقرأ: {حملته أمّه كرهاً} أي: على مشقة {ووضعته كرهاً} أي: بمشقة الكوفيون وابن ذكوان بضم الكاف فيهما، والباقون بالفتح، وهما لغتان بمعنى واحد. مثل الضعف والضعف، وقيل: المضموم اسم، والمفتوح مصدر. وليس المراد ابتداء الحمل. فإنّ ذلك لا يكون بمشقة لقوله تعالى: {فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمّرت به فلما أثقلت} (سورة الأعراف، آية: 189) فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً. تنبيه: دلت الآية على أنّ حق الأم أعظم لأنه تعالى قال: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} فذكرهما معاً ثم خص الأم بالذكر فقال: {حملته أمّه كرهاً ووضعته كرهاً} وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأنّ وصول المشاق إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة. في هذا الباب. {وحمله وفصاله} أي: من الرضاع {ثلاثون شهراً} كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد، ومبالغة في الوصية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 بها. وفي ذلك دلالة على أنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، وقال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين} (البقرة: 233) فإذا أسقطنا الحولين الكاملين، وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر. روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعت أحد وعشرين شهراً. وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً وروي عن أبي بكر أنّ امرأة دفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها، فقال عمر: لا رجم عليها، وذكر الطريق المتقدمة وعن عثمان نحوه، وأنه همّ بذلك، فقرأ ابن عباس رضي الله عنهما عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه، واختلف الأئمة في ذلك: فعند الشافعي أربع سنين. وقوله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده} لا بد فيه من جملة محذوفة. تكون حتى غاية لها، أي: عاش واستمّرت حياته حتى إذا بلغ أشده قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: الأشد ثماني عشرة سنة، وقيل: نهاية قوّته وغاية شبابه واستوائه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة فذلك قوله تعالى: {وبلغ أربعين سنة} وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقيل: نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو وأمّه أم الخير بنت صخر بن عمرو وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الآية في أبي بكر الصدّيق أسلم أبواه جميعاً ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله تعالى بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر يصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام، فلما بلغ أربعين سنة، وتنبأ النبيّ صلى الله عليه وسلم آمن به ثم آمن أبواه، ثم ابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن أبو عتيق ثم إنّ أبا بكر دعا ربه بأن {قال رب أوزعني} أي: ألهمني، وقرأ ورش والبزي: بفتح الياء في الوصل، والباقون بسكونها {أن أشكر نعمتك التي أنعمت} أي: بها {علي} أي: وعلى أولادي {وعلى والديّ} وهي: التوحيد. وأكثر المفسرين: على أنّ الأشد ثلاث وثلاثون. قال الرازي: مراتب الحيوان ثلاثة؛ لأنّ بدن الحيوان لا يكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية والرطوبة الغريزية زائدة في أوّل العمر ناقصة في آخره. والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدّتين، فثبت أنّ مدّة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام فأوّلها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية. وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذواتها وزيادتها في الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشء والثانية وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان. وهذا هو سن الوقوف، وهو حين الشباب. والمرتبة الثالثة: أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول: هو النقصان الخفي، وهو سن الكهولة. والثاني: هو النقصان الظاهر، وهو سن الشيخوخة. قال المفسرون: لم يبعث نبيّ قط إلا بعد الأربعين سنة. قال الرازي: وهذا يشكل بعيسى عليه السلام فإنه تعالى جعله نبياً من أوّل عمره، إلا أنه يجب أن يقال: الأغلب أنه ما جاء الوحي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 إلا بعد الأربعين، وهكذا كان الأمر في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ثم إنّ أبا بكر دعا أيضاً فقال: {وأن أعمل صالحاً ترضاه} قال ابن عباس: أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله تعالى، منهم بلال ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ودعا أيضاً فقال: {وأصلح لي في ذرّيتي} فأجاب الله تعالى دعاءه، فلم يكن له ولد إلا آمن فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً وأدرك أبواه وابنه عبد الرحمن وابن ابنه أبو عتيق النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنون. ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة. تنبيه أصلح يتعدى بنفسه لقوله تعالى: {وأصلحنا له زوجه} (الأنبياء: 90) وإنما تعدى بفي لتضمنه معنى ألطف بي في ذرّيتي، أو لأنه جعل الذرّية ظرفاً للإصلاح والمعنى: هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم. {إني تبت} أي: رجعت {إليك} عن كل ما يقدح في الإقبال عليك. وأكده إعلاماً بأنّ حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع: فينكر إخباره به وكذا قوله: {وإني من المسلمين} أي: الذين أسلموا بظواهرهم وبواطنهم فانقادوا أتمّ انقياد. {أولئك} أي: العالون الرتبة، القائلون هذا القول أبو بكر، وغيره. {الذين يتقبل} بأسهل وجه {عنهم} وأشار بصيغة التفعل إلى أنه يعمل في قبوله عمل المعتني، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله وقوله تعالى: {أحسن ما عملوا} أي: أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا. فإن قيل: كيف قال الله تعالى {أحسن} والله تعالى يتقبل الأحسن وما دونه؟. أجيب بوجهين أحدهما: أنّ المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} (الزمر: 55) وكقوله: الناقص والأشج أعدلا بني مروان. أي: عادلا بني مروان. ثانيهما: أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. والأحسن ما يغاير ذلك، وهو المندوب، أو الواجب. ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً، نبه على ذلك بقوله تعالى: {ويتجاوز} أي بوعد لا خلف فيه {عن سيئاتهم} أي: فلا يعاقبهم عليها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: بنون مفتوحة قبل الفوقية من {يتقبل} ونصب {أحسن} ، ونون مفتوحة قبل الفوقية من {يتجاوز} والباقون بياء مضمومة قبل الفوقية من {يتقبل} ، و {يتجاوز} ورفع {أحسن} وقوله تعالى: {في أصحاب الجنة} في محل الحال أي: كائنين في جملة أصحاب الجنة. كقولك أكرمني الأمير في أصحابه أي: في جملتهم. وقيل: خبر مبتدأ مضمر أي: هم في أصحاب الجنة وقوله تعالى: {وعد الصدق} مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنّ قوله تعالى: {أولئك الذين يتقبل عنهم} في معنى الوعد. فيكون قوله تعالى: {يتقبل} ، و {يتجاوز} وعداً من الله تعالى لهم بالتقبل والتجاوز. والمعنى يعامل من صفته ما قدّمنا بهذا الجزاء. وذلك وعد من الله تعالى صدق، لكونه مطابقاً للواقع {الذي كانوا يوعدون} أي: يقع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام حين أخبروا بقوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات} (التوبة: 72) ولما وصف تعالى الولد البار بوالديه وصف الولد العاق لهما. بقوله تعالى: والمراد به الجنس. وقال ابن عباس والسدي: نزلت في عبد الله بن أبيّ. وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه؛ كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وهو {قوله أف لكما} وقال الحسن وقتادة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 إنها نزلت في كل كافر عاق لوالديه وعلى ثبوت أنها نزلت فيمن تقدم، لا ينافي أن المراد الجنس، فإنّ خصوص السبب لا يوجب التخصيص وفي {أف} قراءات ذكرت في سورة بني إسرائيل {أتعدانني} أي: على سبيل الاستمرار والتجديد في كل وقت وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية وفتح الياء نافع وابن كثير وسكنها الباقون. {أن أخرج} أي: من مخرج يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً يحييني كما كنت أوّل مرّة {وقد} أي: والحال أنه قد {خلت} أي: مضت على سنن الموتى {القرون} أي: الأمم الكثيرة مع صلابتهم {من قبلي} أي: قرناً بعد قرن، وتطاولت الأزمان، ولم يخرج منهم أحد من القبور {وهما} أي: والحال أنهما كلما قال لهما ذلك {يستغيثان الله} أي: يطلبان بدعائهما من له جميع صفات الكمال أن يغيثهما بإلهامه قبول كلامهما ويقولان إن لم ترجع {ويلك} أي: هلاكك بمعنى: هلكت {آمن} أي: أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره، وهو الذي ينقذ من كل هلكة، ويوجب كل فوز، بالتصديق بالبعث وبكل ما جاء عن الله تعالى. ثم علّلا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره بقولهما: {إنّ وعد الله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال حق أي: ثابت أعظم ثبات؛ لأنه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الأخلاق الذي لا يرضاه لنفسه أقل الملوك. فكيف بملك الملوك؟ {فيقول} مسبباً عن قولهما ومعقباً له {ما هذا} أي: الذي تذكرانه من البعث {إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأوّلين} التي كتبوها. {أولئك} أي البعداء من العقل والمروءة وكل خير. {الذين حق} أي: ثبت ووجب {عليهم القول} أي: الكامل في بابه، بأنهم أسفل السافلين. وهذا كما قال البيضاوي يردّ على من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جبّ عنه إن كان لإسلامه وقال البقاعي: وهذا يكذب من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة فحقت له الجنة، ولما أثبت لهم هذه الشنعة بين كثرة من شاركهم فيها بقوله تعالى: {في} أي: كائنين في {أمم} أي: خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس، ويتبع بعضهم بعضاً {قد خلت} أي: تلك الأمم {من قبلهم} وكانوا قدوتهم وأدخل الجار؛ لأنّ المحكوم عليه بعض السالفين {من الجنّ} لأنّ العرب كانت تستعظمهم، وتستجير بهم وذلك لأنهم يتظاهرون لهم، ويؤذونهم ولم يقطع أذاهم لهم، وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن: فإنه أحرقهم بأنواره، وجلاهم عن تلك البلاد بتجلي آثاره {وإلانس} ولا نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم وقوله تعالى {إنهم} أي: كلهم {كانوا} أي: جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه {خاسرين} أي عريقين في هذا الوصف تعليل للحكم على الاستئناف. {ولكل درجات مما عملوا} قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقال مقاتل: ولكل واحد من الفريقين يعنى البارّ بوالديه والعاق لهما درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية. فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات على أهل النار وقد روي «الجنة درجات والنار دركات» أجيب من وجوه أحدها: أنّ ذلك على جهة التغليب وثانيها: قال ابن زيد: درج أهل الجنة تذهب علواً، ودرج أهل النار تذهب هبوطاً وثالثها: المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات، ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات. وقوله تعالى: {وليوفيهم أعمالهم} أي: جزاءها معلله محذوف، تقديره: جازاهم بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وهشام، وعاصم: بالياء التحتية أي: الله والباقون بالنون أي نحن وقوله تعالى: {وهم لا يظلمون} أي: شيئاً بنقص للمؤمنين ولا بزيادة للكافرين (والواو) إمّا استئناف وإمّا حال مؤكدة. {ويوم} أي: واذكر يا أفضل الخلق لهؤلاء يوم يعرضون هكذا كان الأصل. ولكنه تعالى أظهر الوصف الذي أوجب لهم الخزي بقوله تعالى: {يعرض الذين كفروا على النار} أي: يصلون لهيبها ويقلبون فيها، كما يعرض اللحم الذي يشوى وقيل: تعرض عليهم النار ليروا أهوالها، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع؛ لأنهم لم يذكروه تعالى حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها عند مخالفة أمره سبحانه وتعالى. {أذهبتم طيباتكم} أي: لذاتكم باتباعكم الشهوات. وقرأ ابن كثير وابن عامر قبل الدال: بهمزتين مفتوحتين الأولى: محققة بلا خلاف. والثانية: مسهلة بخلاف عن هشام وأدخل هشام بينهما ألفاً ولم يدخل ابن كثير وابن ذكوان والباقون بهمزة واحدة محققة. {في حياتكم الدنيا} أي: القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها {واستمتعتم} أي: طلبتم وأوجدتم انتفاعكم {بها} وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم. والمعنى: أن ما قدّر لكم من الطيبات والدرجات فقد استوفيتموه في الدنيا فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها وعن عمر رضي الله عنه «لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي» قال الواحدي: إنّ الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل لأنّ هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع لأنها وردت في حق الكافر وإنما وبخ الله تعالى الكافر لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤدّ شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ويدل على ذلك قوله تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (الأعراف: 32) نعم لا ينكر أنّ الاحتراز عن التنعم أولى لأنّ النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربما حمل الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي. روى عمر قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على رمال حصير، قد أثر الرمال بجنبه فقلت: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يوسع على أمتك، فإنّ فارس والروم قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله تعالى. فقال صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنها أنها قالت: «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً وما هو إلا الماء والتمر» «وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم الشعير» والأحاديث في هذا كثيرة ولما كانت الاستهانة بالأوامر والنواهي استهانة بيوم الجزاء سبب عنه قوله تعالى: {فاليوم تجزون} أي: على إعراضكم عنا {عذاب الهون} أي: الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلّ وخزي {بما كنتم} أي: جبلة وطبعاً {تستكبرون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 أي: تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار {في الأرض} التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب أحق شيء بالتواضع والذل والهوان {بغير الحق} أي: الأمر الذي يطابقه الواقع، وهو أوامرنا ونواهينا {وبما كنتم} أي: على الاستمرار {تفسقون} أي: بسبب الاستكبار الباطل، والفسوق عن طاعة الله تعالى. تنبيه: دلت الآية على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأنّ الله تعالى علل عذابهم بأمرين؛ أولهما: الكفر. وثانيهما: الفسق وهذا الفسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر، لأنّ العطف يوجب المغايرة فثبت أنّ فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات. ولما كان قوم عاد أكثر أموالاً وقوة وجاهاً من أهل مكة، ذكر تعالى قصتهم ليعتبروا، فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا. فقال عز من قائل: {واذكر} يا أشرف الرسل، لهؤلاء الذين لا يتعظون {أخا عاد} وهو أخوك هود عليه السلام، الذي كان بين قوم أشدّ من قومك، ولم يخف عاقبتهم وأمرهم ونهاهم ونجيناه منهم فهو لك قدوة، وفيه أسوة، ولقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة. وقوله تعالى: {إذ أنذر} بدل اشتمال من {أخا} {قومه} أي: الذين لهم قوة على القيام فيما يحاولونه. {بالأحقاف} قال ابن عباس: واديين عمان ومهرة، وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له: مهرة إليها تنسب الإبل المهرية. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم. وكانوا من قبيلة إرم قال قتادة: ذكر لنا: أن عاداً كانوا حياً من اليمن، كانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر. {وقد} أي: والحال أنّه قد {خلت النذر} أي: مرّت ومضت الرسل الكثيرون {من بين يديه} أي: قبل هود، كنوح وشيث وآدم عليهم السلام {ومن خلفه} أي: بعده والمعنى؛ أنّ الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، والجملة حال، أو اعتراض. ولما أشار إلى كثرة الرسل، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء، فقال مفسراً للإنذار معبراً بالنهي {أن لا تعبدوا} أي: أيها العباد المنذرون، بوجه من الوجوه شيئاً من الأشياء {إلا الله} أي: الملك الذي لا ملك غيره، ولا خالق سواه، ولا منعم إلا هو فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم والملك لا يقرّ على مثل هذا {إني أخاف عليكم} لكونكم قومي، وأعز الناس عليّ {عذاب يوم عظيم} أي لا يدع جهة إلا ملأها عذابه إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك. {قالوا} له في جوابه منكرين عليه {أجئتنا} أي: يا هود، {لتأفكنا} أي: لتصرفنا عن وجه أمرنا إلى قفاه {عن آلهتنا} فلا نعبدها، ولا نعتد بها {فأتنا بما تعدنا} من العذاب؛ سموا الوعيد وعداً {إن كنت} أي: يقال عنك كوناً ثابتاً {من الصادقين} في أنك رسول من الله، وأنه يأتينا بما تخافه علينا من العذاب إن أصررنا.I {قال} أي هود مكذباً لهم في نسبتهم إليه ادعاء شيء من ذلك: {إنما العلم} أي: المحيط بكل شيء، عذابكم وغيره. {عند الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال، فهو ينزل علم ما توعدون به على من يشاء إن شاء. ولا علم لي إلى الآن، ولا لكم بشيء من ذلك ولا قدرة، {وأبلغكم} أي: في الحال والاستقبال وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة وتخفيف اللام والباقون: بفتح الموحدة وتشديد اللام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 {ما أرسلت به} ممن لا مرسل في الحقيقة غيره، سواء أكان وعداً أم وعيداً أم غير ذلك. ولم يذكر الغاية؛ لأنّ ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم {ولكني أراكم} أي: أعلمكم علماً كالرؤية. وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو: بفتح الياء والباقون: بسكونها. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين وأمالها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي محضة. والباقون بالفتح. {قوماً تجهلون} أي: باستعجال العذاب. فإنّ الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا مقترحين. {فلما رأوه} أي: العذاب الذي توعدهم به {عارضا} أي: سحاباً أسود بارزاً في الأفق، ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر، حال كونه قاصداً إليهم. {مستقبل أوديتهم} أي: طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك. {قالوا} على عادة جهلهم، مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل، لأنّ جهلهم به استمّر حتى كاد أن يواقعهم. {هذا عارض} أي: سحاب معترض في عرض السماء. أي: ناحيتها. {ممطرنا} قال المفسرون: كان حبس عنهم المطر أياماً فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى {بل هو} أي: هذا العارض الذي ترونه {ما استعجلتم به} أي: طلبتم العجلة في إتيانه وقوله تعالى: {ريح} بدل من {ما} {فيها عذاب أليم} أي: شديد الإيلام وروي أنها كانت تحمل الفسطاط فترفعه في الجوّ، وتحمل الظعينة في الجوّ، فترفعها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، ثم تقذف بهم. ثم وصف تلك الريح. بقوله تعالى: {تدمر} أي: تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً. {كل شيء} أي: أتت عليه من الحيوان والناس وغيرهما، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه السلام ومن آمن به، فسلامته أمر خارق للعادة. كما أنّ أمرها في إهلاك كل ما مرّت عليه أمر خارق للعادة. {بأمر ربها} أي: المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام من أعدائه. فإن قيل: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب: بأنّ فائدة ذلك: الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها، مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه، وأكابر جنوده. وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرانات. قيل: إنّ أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار. وروي: أنّ أوّل ما عرفوا به أنه عذاب أليم: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، وحملتهم، فرمت بهم في البحر. وروي: أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحاً طيبة هادئة، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض. وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة، ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 من هذا الوجه «قال صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى خازن الريح أن يرسل على عاد إلا مقدار الخاتم وذلك القدر أهلكهم بكليتهم» كما قال تعالى: {فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم} أي: فجاءتهم الريح فدمّرتهم، فأصبحوا بحيث لو خضت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم. وقرأ عاصم وحمزة: بالياء التحتية المضمومة ورفع النون من مساكنهم، لقيامه مقام الفاعل. والباقون: بالتاء الفوقية مفتوحة مبنياً للفاعل، ونصب مساكنهم مفعولاً به. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين، وأبو عمرو وحمزة والكسائي محضة. وكذلك من {القرى} {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الهائل؛ في أصله، أو جنسه، أو نوعه، أو شخصه من الإهلاك. {نجزي} بعظمتنا دائماً إذا شئنا {القوم المجرمين} أي: العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع «وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح فزع وقال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، وإذا رأى مخيلة أي: سحابة. قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فنقول له: يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول: إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: هذا عارض ممطرنا فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا» فإن قيل قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: 33) فكيف يحصل التخويف أجيب بأنّ ذلك كان قبل نزول الآية ثم أخبر الله تعالى عن مكنة عاد بقوله سبحانه: {ولقد مكناهم} أي: تمكيناً تظهر به عظمتنا {فيما} أي: في الذي {إن} نافية أي: ما {مكناكم} يا أهل مكة {فيه} من قوّة الأبدان، وطول الأعمار، وكثرة الأموال، وغيرها. ثم إنّهم مع ذلك ما نجوا من عذاب الله تعالى. فكيف يكون حالكم؟. تنبيه: قال البقاعي: وجعل النافي إن؛ لأنها أبلغ من {ما} لأن ما تنفى تمام الفوت، لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك. وإن تنفي أدنى مظاهر مدخولها، فكيف بما وراء من تمامه؟ لأنّ الهمزة أوّل مظهر لفوت الألف، والنون لمطلق الإظهار. هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ، وصونه عن ثقل التكرار، إلى غير ذلك من بديع الأسرار ا. هـ. وقال الزمخشريّ: إن نافية أي: فيما ما مكناكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ، لما في مجامعة ما بمثلها من التكرار المستبشع، ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ولقد أغث أبو الطيب في قوله: *لعمرك ما ما بان منك لضارب وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال: لعمرك ما إن بان منك لضارب. وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش رحمه الله تعالى: *يرجى المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب وتؤوّل بأنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه والوجه هو الأوّل {وجعلنا لهم} أي على ما اقتضته عظمتنا {سمعاً} وأفرده لقلة التفاوت فيه {وأبصاراً} وجمعه لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار، وكذا في قوله تعالى: {وأفئدة} أي: فتحنا عليهم أبواب النعم، وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل. وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض وأعطيناهم أفئدة، أي: قلوباً فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 الدنيا ولذاتها. فلا جرم قال تعالى: {فما أغنى عنهم} في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان هود عليه السلام ثم النقمة بيد الريح {سمعهم} وأكد النفي بتكرير النافي بقوله تعالى: {ولا أبصارهم} وكذا في قوله تعالى: {ولا أفئدتهم} أردنا إهلاكهم، وأكد بإثبات الجار بقوله تعالى: {من شيء} أي: من الأشياء وإن قل وقال الجلال المحلي إنّ {من} زائدة وقوله تعالى: {إذ} معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل. أي: لأنهم {كانوا} أي: طبعاً وخلقاً {يجحدون} أي: يكرّرون على ممر الزمان الجحد {بآيات الله} أي: الإنكار لما يعرب عن دلائل الملك الأعظم {وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزئون} لأنهم؛ كانوا يطلبون نزول العذاب على سبيل الاستهزاء ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم أتبعهم من كان مشاركاً لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك فقال تعالى: {ولقد أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {ما حولكم} يا أهل مكة {من القرى} كحجر ثمود وعاد وأرض سدوم وسبأ ومدين والأيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس، وغيرهم ممن فيهم معتبر {وصرّفنا} أي: بينا {الآيات} أي: الحجج البينات {لعلهم} أي: الكفار {يرجعون} أي: ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات، حال من يرجع عن الغيّ الذي كان يرتكبه، لتقليد أو شبهة كشفتها الآيات وفضحتها الدلالات؛ فلم يرجعوا فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكهم. {فلولا} أي: فهلا ولم لا {نصرهم الذين} أي: نصر هؤلاء المهلكين الذين {اتخذوا} أي: اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل حتى أخذوا. {من دون الله} أي: الملك الذي هو أعظم من كل عظيم {قرباناً} أي: متقرباً بهم إلى الله تعالى: {آلهة} معه وهم الأصنام ومفعول اتخذوا الأوّل ضمير محذوف يعود على الموصول أي: هم، وقرباناً المفعول الثاني، وآلهة بدل منه {بل ضلوا} أي: غابوا {عنهم} وقت نزول النقمة. وقرأ الكسائي بإدغام اللام في الضاد، والباقون بالإظهار {وذلك} أي: اتخاذهم الأصنام آلهة قرباناً {إفكهم} أي: كذبهم {وما كانوا} أي: على وجه الدوام لكونه في طباعهم {يفترون} أي: يتعمدون كذبه، لأنّ إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا كذلك، لأنّ من نظر فيها مجرداً نفسه عن الهوى اهتدى. {وإذ} أي: واذكر إذ {صرفنا} أي: أملنا {إليك نفراً} وهو اسم يطلق على ما دون العشرة وسيأتي في ذلك خلاف {من الجنّ} أي جنّ نصيبين اليمن، أو جنّ نينوى {يستمعون القرآن} أي: يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس، وأنت في صلاة الفجر في نخلة، تصلي بأصحابك {فلما حضروه} أي: صاروا بحيث يستمعونه {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض، ورضي الآخرون {أنصتوا} أي: اسكتوا، وميلوا بكلياتكم، واستمعوا. حفظاً للأدب على بساط الخدمة وفيه تأدب مع العلم في تعلمه. قال القشيري: فأهّل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار. تنبيه: ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين: أحدهما «قال سعيد بن جبير: كان الجنّ تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب، وكان قد اتفق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن، فمرّ به نفر من أشرار جنّ نصيبين، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، فسمعوا القرآن فعرفوا أن ذلك هو السبب» . والقول الثاني أنّ الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله تعالى إليه نفراً من الجنّ يستمعون منه القرآن وينذرون قومهم روي أن الجنّ كانوا يهوداً لأنّ في الجنّ مللاً كما في الإنس من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، والمجوس وأطبق المحققون على أنّ الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجنّ ثواب قال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب يلبثون في أبواب الجنة ويزدحمون على أبوابها. «وروى الطبراني عن ابن عباس أن أولئك الجنّ كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم» «وعن زرّ ابن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة» «وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى» وروي في الحديث: «أنّ الجنّ ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون ويظعنون» واختلفت الروايات هل كان عبد الله بن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ أو لا؟ وروى عن أنس قال كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لمشية جني، ثم أتى فسلم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم إنها لنغمة جنيّ فقال الشّيخ: أجل يا رسول الله. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم من أيّ الجنّ أنت؟ فقال يا رسول الله، أنا هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين. قال: أجل يا رسول الله، قال: كم أتى عليك من العمر؟ قال: أكلت عمر الدنيا إلا القليل، كنت حين قُتل هابيل غلاماً ابن أعوام، فكنت أتشرف على الآكام، وأصطاد الهام، وأورّش بين الأنام. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بئس العمل. فقال: يا رسول الله، دعني من العتب فإني ممن آمن مع نوح عليه السلام وعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال: والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت هوداً فعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت إبراهيم، وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رمي به في المنجنيق، وكنت معه في النار إذ ألقي فيها وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره. ولقيت موسى بن عمران بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى بن مريم عليهما السلام. فقال لي: إن لقيت محمداً فاقرأ عليه السلام. قال أنس: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه السلام وعليك يا هام ما حاجتك؟ قال: إنّ موسى علمني التوراة، وإنّ عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن قال أنس: فعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم سورة الواقعة عم يتساءلون وإذا الشمس كوّرت وقل يا أيها الكافرون وسورة الإخلاص والمعّوذتين. {فلما قضي} أي: فرغ من قراءته {ولوا} أي: رجعوا {إلى قومهم} الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه {منذرين} أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس جعلهم رسول الله صلى الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 عليه وسلم رسلاً إلى قومهم. ولما كان كأنه قيل ما قالوا لهم في إنذارهم؟ قيل: {قالوا يا قومنا} مترققين لهم، ومترفقين بهم بذكر ما يدل على أنهم منهم، يهمهم ما يهمهم {إنا سمعنا} أي: ما بيننا وبين القارىء واسطة. وأشاروا إلى أنه لم ينزل بعد التوراة شيء جامع لجميع ما يراد منه، مغن عن جميع الكتب غير هذا. وبذلك عرفوا أنه ناسخ لجميع الشرائع بقولهم: {كتاباً} أي: ذكراً جامعاً، لا كما نزل بعد التوراة على بني إسرائيل {أنزل} أي: ممن لا منزل غيره، وهو ملك الملوك لأنّ عليه من رونق الكتب الإلهية ما يوجب القطع لسامعه بأنه منها، فكيف إذا انضم إلى ذلك الإعجاز؟ وعلموا قطعاً بعربيته أنه عربي، وبأنهم كانوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ويسمعون قراءة الناس لما يحدثونه من الحكم والخطب والكهانة والرسائل والأشعار، وأنه مباين لجميع ذلك {من بعد موسى} فلم يقتدوا بما أنزل بين هذا الكتاب وبين التوراة، من الإنجيل وما قبله، لأنه لا يساوي التوراة في الجمع، وروي عن عطاء والحسن: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهوداً. «وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ الجنّ ما سمعوا أمر عيسى، فلذلك قالوا من بعد موسى» ولما أخبروا بأنه منزل، أتبعوه ما يشهد له بالصحة بقولهم: {مصدقاً لما بين يديه} أي: من جميع كتب بني إسرائيل الإنجيل وما قبله، ثم بينوا تصديقه بقولهم: {يهدي إلى الحق} الأمر الثابت الذي يطابق الواقع، فلا يقدر أحد على إزالة شيء مما يخبر به الكامل في جميع ذلك {وإلى طريق} موصل إلى المقصود {مستقيم} لا عوج فيه {يا قومنا} الذين لهم قوة العلم والعمل {أجيبوا داعي الله} أي: الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال. فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره وفي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن، كما كان مبعوثاً إلى الإنس {وآمنوا به} أي: أوقعوا التصديق بسبب الداعي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم لا بسبب آخر فإن المفعول معه مفعول مع الله تعالى. فإن قيل قوله تعالى: {أجيبوا داعي الله} أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال وآمنوا به؟ أجيب بأنه إنما ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهمّ الأقسام وأشرفها وقد جرت العادة في القرآن العظيم بأن يذكر اللفظ العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله تعالى {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) وقوله تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} (الأحزاب: 7) ولما أمر تعالى بالإيمان ذكر فائدته بقوله تعالى: {يغفر لكم} أي: الله تعالى {من ذنوبكم} أي: بعضها من الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها، مما أشار إليه قوله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى: 30) وأما المظالم فلا تغفر إلا برضا أربابها، وقيل: {من} زائدة والتقدير: يغفر لكم ذنوبكم، وقيل: بل فائدته أن كلمة {من} هنا لابتداء الغاية، والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل {ويجركم} أي: يمنعكم منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه. {من عذاب أليم} «قال ابن عباس: فاستجاب لله تعالى لهم من قومهم نحو سبعين رجلاً من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وأمرهم ونهاهم» . تنبيه: اختلفوا في أن الجنّ هل لهم ثواب أو لا فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، ويقال لهم: كونوا تراباً، مثل البهائم واحتجوا على ذلك بقوله تعالى {ويجركم من عذاب أليم} وهو قول أبي حنيفة. والصحيح أنّ حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وتقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً نحو ذلك قال الضحّاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، لأنّ كل دليل دلّ على أنّ البشر يستحقون الثواب فهو بعينه قائم في حق الجن، والفرق بينهما بعيد جداً وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنهم يدخلون الجنة، فقيل: هل يصيبون من نعيمها قال يلهمهم الله تعالى تسبيحه وذكره فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة وقال أرطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب هل للجنّ ثواب؟ قال: نعم وقرأ {لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ} (الرحمن: 56) وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها» ولما أفهم كلامهم أنهم إن لم يجيبوا ينتقم منهم بالعذاب الأليم، أتبعوه ما هو أغلظ إنذاراً منه. فقالوا {ومن لا يجب} أي: لا يتجدد منه أن يجيب {داعي الله} أي: الملك الذي لا كفء له {فليس بمعجز} أي: لا يعجز الله عز وجلّ بالهرب منه {في الأرض} فيفوته فإنه أيّ مكان سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به {وليس له من دونه} أي: الله تعالى الذي لا مجير عليه {أولياء} يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء {أولئك} البعيدون من كل خير {في ضلال مبين} ظاهر في نفسه أنه ضلال مظهر لكل أحد قبح إحاطته بهم. تنبيه: ههنّا همزتان مضمومتان من كلمتين ولا نظير لهما في القرآن العظيم قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى كالواو مع المدّ والقصر وسهل الثانية ورش وقنبل بعد تحقيق الأولى ولهما أيضاً إبدال الثانية ألفاً وأسقط الأولى أبو عمرو مع المدّ والقصر والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ. {أولم يروا} أي: يعلموا علماً هو في الوضوح كالرؤية {أن الله} ودل على ما دلّ عليه هذا الاسم الأعظم بقوله تعالى: {الذي خلق السموات} على ما احتوت عليه بما يعجز الوصف من العبر {والأرض} على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان والخبر {ولم يعي} أي: ولم يتعب ولم يعجز {بخلقهنّ} أي: بسبب من الأسباب. فإنه لو حصل له شيء من ذلك أدّى إلى نقصان فيهما، أو في إحداهما. وأكد الإنكار المتضمن للنفي بزيادة الجارّ في خبر إن فقال: {بقادر} أي: قدرة عظيمة {على أن يحيي} أي: على سبيل التجديد مستمرّاً {الموتى} والأمر فيهم لكونه إعادة وكونه جزءاً يسيراً مما ذكر، اختراعه أصغر شأناً وأسهل صنعاً وأجاب بقوله تعالى {بلى} لأنّ هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي. أي: قد علموا أنه قادر على ذلك علماً هو في إيقانه كالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك، وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم، ولكنهم عن ذلك غافلون لأنهم عنه معرضون. وقوله تعالى: {إنه على كل شيء قدير} تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود. كأنه لما صدر السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد. ولما أثبت البعث بما أقام من الدلائل، ذكر بعض ما يحصل في يومه من الأهوال. بقوله تعالى: {ويوم} أي: واذكر يوم {يعرض} أي: بأيسر أمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 من أوامرنا {الذين كفروا} أي: ستروا بغفلتهم وتماديهم الأدلة الظاهرة {على النار} عرض الجند على الملك، فيسمعون من تغيظها وزفيرها ما لو قدّر أن أحداً يموت في ذلك اليوم لماتوا من معاينته، وهائل رؤيته ثم يقال لهم {أليس هذا} أي: الأمر الذي كنتم به توعدون، ولرسلنا في إخبارهم به تكذبون {بالحق} أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، أم هو خيال وسحر {قالوا} أي: مصدّقين حيث لا ينفعهم التصديق {بلى} وما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه بقولهم: {وربنا} أي إنه لحق هو أثبت الأشياء، وليس فيه شيء مما يقارب السحر. تنبيه: المقصود من هذا الاستفهام التحكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. {قال فذوقوا العذاب} أي: باشروه مباشرة الذائق باللسان. ومعنى الأمر؛ الإهانة بهم والتوبيخ لهم ثم صرّح بالسبب فقال تعالى: {بما كنتم} أي: خلقاً مستمرّاً {تكفرون} في دار العمل. ولما قرّر تعالى المطالب الثلاثة؛ وهي التوحيد، والنبوّة، والمعاد. وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنّ الكفار كانوا يؤذونه ويوحشون صدره. فقال تعالى: {فاصبر} أي: على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة، وعلى أذى قومك قال القشيري: الصبر، هو الوثوق بحكم الله تعالى والثبات من غير بث ولا استكراه {كما صبر أولو العزم} أي: الثبات والجدّ في الأمور. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أولو الحزم وقوله تعالى: {من الرسل} يجوز فيه أن تكون {من} تبعيضية وعلى هذا فالرسل: أولو عزم وغير أولي عزم ويجوز أن تكون للبيان، وعليه جرى الجلال المحلي فكلهم على هذا أولو عزم. قال ابن زيد كل الرسل كانوا أولي عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال: اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز. وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعلة كانت فيه. ألا ترى أنه قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم {ولا تكن كصحاب الحوت} (القلم: 48) وقال قوم: هم نجباء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام: 90) وقال الكلبيّ هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله تعالى وقيل: هم ستة؛ نوح وهود وصالح ولوط. وشعيب وموسى. وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل: هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده، وذهاب بصره ويوسف صبر في الجب والسجن، وأيوب صبر على الضرّ. وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة ونظمهم بعضهم في بيت فقال: *محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم* قال البغوي: ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} (الأحزاب: 7) وفي قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} (الشورى: 13) الآية. وعن مسروق قال «قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 إلا الصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها. ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم قال تعالى {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} وإني والله لا بدّ لي من طاعته والله لأصبرنّ كما صبروا ولأجهدنّ، ولا قوّة إلا بالله، ولما أمره الله تعالى بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل. فقال عز من قائل: {ولا تستعجل لهم} أي: لا تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. فإنه نازل بهم في وقته لا محالة. قيل: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه، وأحب أن ينزل الله تعالى العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أنّ ذلك العذاب إذا نزل بهم يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال تعالى: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} أي: من العذاب بهم في الآخرة {لم يلبثوا} أي: في الدنيا {إلا ساعة من نهار} استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا، ولأنّ ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن قال الشاعر: *كأنّ شيئاً لم يكن إذا مضى ... كأنّ شيئاً لم يكن إذا أتى* تنبيه: تم الكلام ههنا وقوله تعالى {بلاغ} خبر مبتدأ محذوف قدره بعضهم: تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله تعالى {إلا ساعة من نهار} وبعضهم: هذا أي القرآن بلاغ أي تبليغ من الله تعالى إليكم وجرى عليه الجلال المحلي. {فهل} أي: لا {يهلك} أي: بالعذاب إذا نزل {إلا القوم} أي: الذين هم أهل القيام بما يحاولونه من اللدد، {الفاسقون} أي: العريقون في إدامة الخروج عن الانقياد والطاعة، وهم الكافرون. قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع فضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية. وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري: من أنه صلى الله عليه وسلم قال من قرأ سورة الأحقاف كتب الله له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا. حديث موضوع. سورة محمد صلى الله عليه وسلم. مكية وتسمى القتال والذين كفروا وهي: ثمان وثلاثون آية، وخمسمائةوتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلثمائة وتسعة وأربعون حرفاً {بسم الله} الملك الأعظم الذي أقام جنده للذب عن حماه {الرحمن} الذي عمت رحمته تارة بالبرهان، وتارة بالسيف واللسان {الرحيم} الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان. واختلف في قوله تعالى: {الذين كفروا} من هم؟ فقيل: هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحارث ابنا هشام، وعقبة، وشيبة ابنا ربيعة، وغيرهم، وقيل: كفار قريش وقيل: أهل الكتاب وقيل: كل كافر لأنهم ستروا أنوار الأدلة وضلوا على علم {وصدّوا} أي: امتنعوا بأنفسهم، ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر، {عن سبيل الله} أي: الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم، {أضلّ} أي: أبطل إبطالاً عظيماً يزيل العين والأثر، {أعمالهم} كإطعام الطعام، وصلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 الأرحام، وفك الأسارى، وحفظ الجوار، وغير ذلك. فلا يرون لها في الآخرة ثواباً ويجزي عليها في الدنيا من فضله تعالى. تنبيه: أوّل هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة. ولما ذكر تعالى أهل الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم، ذكر أضدادهم كذلك؛ ليعمّ من كان منهم من جميع الفرق. بقوله تعالى: {والذي آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان باللسان {وعملوا} تصديقاً لدعواهم {الصالحات} أي: الأعمال الكاملة في الصلاح، بتأسيسها على الإيمان. ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد صلى الله عليه وسلم خصهم بقوله تعالى: {وآمنوا} أي: مع ذلك {بما نزل} أي: ممن لا منزل إلا هو، منجماً مفرقاً ليجدّدوا بعد الإيمان به إجمالاً الإيمان بكل نجم منه {على محمد} النبيّ الأميّ العربيّ القرشيّ المكيّ المدنيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وهو} أي: هذا الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم موصوف بأنه {الحق} أي: الكامل في الحقيقة ينسخ ولا ينسخ كائناً {من ربهم} أي: المحسن إليهم بإرساله أما إحسانه إلى أمّته فواضح وأمّا سائر الأمم فبكونه هو الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة، وأمّته هي الشاهدة لهم جملة معترضة وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ {وهو} بسكون الهاء والباقون بضمّها {كفر عنهم سيئاتهم} أي: ستر أعمالهم السيئة بالإيمان، وعملهم الصالح {وأصلح بالهم} أي: حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد. {ذلك} أي: الأمر العظيم الذي ذكر هنا من جزاء الطائفتين. {بأن} أي: بسبب أن {الذين كفروا} أي: ستروا مرائي عقولهم {اتبعوا} أي: بغاية جهدهم ومعالجتهم {الباطل} من العمل الذي لا حقيقة له في الخارج تطابقه وذلك هو الابتداع والميل مع الهوى فضلوا {وأن الذين آمنوا} أي: ولو كانوا في أقل درجات الإيمان {اتبعوا} أي بغاية جهدهم {الحق} أي الذي له واقع يطابقه وذلك هو الحكمة وهو العلم بموافقة العمل وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه {من ربهم} أي: الذي أحسن إليهم بإيجادهم وما سببه من حسن اعتقادهم فاهتدوا {كذلك} أي: مثل هذا الضرب العظيم الشأن {يضرب الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {للناس} أي: كل من فيه قوّة الاضطراب والحركة {أمثالهم} أي: أمثال أنفسهم، أو أمثال الفريقين المتقدّمين، أو أمثال جميع الأشياء التي يحتاجون إلى بيان أمثالها، مبيناً لها مثل هذا البيان، ليأخذ كل أحد من ذلك جزاء حاله، فقد علم من هذا المثل أنّ من اتبع الباطل أضلّ الله تعالى عمله، ووفر سيئاته، وأفسد باله ومن اتبع الحق عمل به ضد ذلك كائناً من كان. وهو غاية الحث على طلب العلم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بها. ولما بين تعالى أنّ الذين كفروا أضلّ أعمالهم، وأن اعتبار الإنسان بالعمل، ومن لا عمل له فهو همج إعدامه خير من وجوده سبب عنه. قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا} أيها المؤمنون في المحاربة، وقوله تعالى: {فضرب الرقاب} أصله: فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، ضماً إلى التأكيد الاختصار والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء، لأنّ المؤمن هنا ليس بدافع إنما هو رافع، وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أولاً أن يقصد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 مقتله بل يتدرج ويضرب غير المقتل، فإن اندفع فذاك، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود رفعهم من وجه الأرض؛ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم، بخلاف دفع الصائل. فالرقبة أظهر المقاتل وقطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة ظاهرة في الحرب، ففي ضربها حز العنق، وهو مستلزم للموت، بخلاف سائر المواضع، ولا سيما في الحرب وفي قوله تعالى: {لقيتم} ما ينبىء عن مخالفتهم الصائل؛ لأن قوله تعالى {لقيتم} يدل على أنّ القصد من جانبهم، بخلاف قولنا: لقيكم ولذلك؛ قال تعالى في غير هذا الموضع {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: 191) {حتى إذا أثخنتموهم} أي: أكثرتم فيهم القتل، وهذه غاية الأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل. {فشدّوا} أي: فأمسكوا عن القتل وأسروهم {الوثاق} أي: ما يوثق به الأسرى وقوله تعالى: {فإما مناً بعد} أي: في جميع أزمان ما بعد الأسر {وإما فداء} فيه وجهان أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره، لأنّ المصدر متى سيق تفصيلاً لعاقبة جملة، وجب نصبه بإضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير: فإما أن تمنوا مناً أي: بإطلاقهم من غير شيء، وإما أن تفدوا فداء أي: تفادوهم بمال أو أسرى مسلمين ومثل هذا قول القائل: *لأحمدنّ فإما درء واقعة ... تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل* والثاني: قاله أبو البقاء أنهما مفعولان بهما لعامل مقدّر تقديره: أولوهم مَنَّاً، واقبلوا منهم فداء قال أبو حيان: وليس بإعراب نحوي وقوله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} أي: أثقالها من السلاح وغيره بأن يسلم الكافر، أو يدخل في العهد، مجاز وقيل: هو من مجاز الحذف أي: أهل الحرب وهو غاية للقتل والأسر. والمعنى أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى تدخل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى عليه السلام وجاء في الحديث: «الجهاد حاضر منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال» وقال الفراء حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم. تنبيه: اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى {فإمّا تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم} (الأنفال: 57) وبقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: 5) وإليه ذهب قتادة والضحاك والسدّي وابن جريج وهو قول الأوزاعي، وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز المّن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء وذهب آخرون إلى أنّ الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يسترقهم أو يمنّ عليهم فيطلقهم بغير عوض. أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر، وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قال ابن عباس رضى الله عنهما لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى {فإما مناً بعدوا ما فداء} وهذا هو الأصح والاختيار لأنه عمل به صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا ذم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد فقال له صلى الله عليه وسلم ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى إذا كان بعد الغد، قال: ما عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك؟. قال: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. فلمّا قدم مكة، قال له قائل: صبوت قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف. قوله تعالى: {ذلك} يجوز أن يكون خبر مبتدإ مضمر، أي: الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار افعلوا قال الرازي: ويحتمل أن يقال: ذلك واجب. أو مقدّم كما يقول القائل إن فعلت فذاك. أي: فذاك مقصود ومطلوب، قال المفسرون: ومعناه ذلك الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار. {ولو يشاء الله} أي: الملك الأعظم الذي له جميع الكمال {لاتنصر منهم} أي: بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً، فيهلكهم بأن لا يبقي منهم أحداً وكفاكم أمرهم بغير قتال. {ولكن} أمركم بذلك {ليبلو} أي يختبر {بعضكم ببعض} أي يفعل في ذلك فعل المختبر، ليرتب عليه الجزاء فيصير من قتل من المؤمنين إلى الجنة ومن قتل من الكافرين إلى النار. فإن قيل: فما فائدة الابتلاء مع حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله تعالى عالماً بجميع الأشياء فأي فائدة فيه؟ أجيب: بأن هذا السؤال كقول القائل: لم عاقب الكافر وهو مستغن؟ ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضرّ؟ وجوابه: {لا يسئل عما يفعل} (الأنبياء: 23) . ونزل يوم أحد لما فشا في المسلمين القتل والجراحات {والذين قتلوا في سبيل الله} أي: لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال {فلن يضلّ} أي: لا يضيع ولا يبطل {أعمالهم} وقرأ أبو عمرو وحفص: بضم القاف وكسر التاء مبنياً للمفعول على معنى أنه أصاب القتل بعضهم كقوله تعالى {قاتل معه ربيون} (آل عمران: 146) والباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما أي جاهدوا. {سيهديهم} أي أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات بوعد لا خلف فيه {ويصلح بالهم} أي يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم {ويدخلهم الجنة} أي: الكاملة في النعيم {عرفها} أي: أعلمها، وبينها {لهم} أي: بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة قال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا، يستدلون عليها وعن مقاتل: أنّ الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى وعن ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 عباس رضي الله عنهما: عرفها لهم: طيبها مشتق من العرف وهو الريح الطيبة يقال طعام معرف أي: مطيب. {يأيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بذلك {إن تنصروا الله} أي: دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم {ينصركم} أي: على عدوّكم فإنه الناصر لا غيره، من عدد أو عدد. ويثبت أقدامكم أي في القيام بحقوق الإسلام والمجاهده مع الكفار ولما بين تعالى ما لأهل الإيمان بين ما لأهل الكفران بقوله تعالى: {والذين كفروا} وهو مبتدأ أي: ستروا ما دل عليه العقل، وقادت إليه الفطرة الأولى، وخبره تعسوا يدل عليه قوله تعالى: {فتعساً لهم} أي: هلاكاً لهم وخيبة من الله تعالى، وقال ابن عباس: أي بعداً لهم وقيل التعس الجرّ على الوجه، والنكس: الجرّ على الرأس وقوله تعالى: {وأضل أعمالهم} عطف على تعسوا أي: أبطلها وإن كانت ظاهرة الإتقان؛ لأجل تضييع الأساس وهو الإيمان. وقوله تعالى: {ذلك} يجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجار بعده، أو خبر مبتدأ مضمر. أي: الأمر ذلك {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كرهوا ما أنزل الله} أي: الملك الأعظم الذي لا نعمة إلا منه من القرآن وما أنزل الله تعالى فيه من التكاليف والأحكام لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذّ فشق عليهم ذلك، وتعاظمهم والذي أنزله من القرآن وغيره هو روح الوجود الذي لا بقاء بدونه فلما كرهوا الروح الأعظم بطلت أرواحهم فتبعتها أشباحهم وهو معنى قوله تعالى مسبباً بياناً لمعنى إضلال أعمالهم {فأحبط} أي: أبطل إبطالاً لاصلاح معه {أعمالهم} بسبب: أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح لكونها واقعة على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له، ولا يقبل من العمل إلا ما حدّه ورسمه ثم خوّف الكفار بقوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض} أي: التي فيها آثار الوقائع {فينظروا كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الذين من قبلهم دمّر الله} أي: أوقع الملك الأعظم الهلاك {عليهم} بما عم أهاليهم وأموالهم، وكل من رضي أفعالهم أو مقالهم. وعدل عن أن يقول {ولهؤلاء} إلى قوله تعالى {وللكافرين} تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العراقة في الكفر {أمثالها} أي: أمثال عاقبة من قبلهم. {ذلك} أي: الأمر العظيم وهو نصر المؤمنين وقهر الكافرين، {بأن الله} أي: بسبب أنّ الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال {مولى} أي: ولي وناصر {الذين آمنوا} فهو يفعل معهم بما له من الجلال والجمال ما يفعل القريب بقريبه الحبيب له قال القشيري: ويصح أن يقال: أرجى آية في القرآن هذه الآية؛ لأن الله تعالى لم يقل إنه هادي العباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد بل علق ذلك بالإيمان {وأنّ الكافرين} أي: العريقين في هذا الوصف.l {لا مولى لهم} فيدفع العذاب عنهم وهذا لا يخالف قوله تعالى {وردّوا إلى الله مولاهم الحق} (سورة يونس، آية: 30) فإنّ المولى فيه بمعنى المالك ثم ذكر سبحانه وتعالى ما للفريقين بقوله تعالى: {إنّ الله} أي الذي له جميع الصفّات {يدخل الذين آمنوا} أي: أوقعوا التصديق {وعملوا} تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه {الصالحات} أي: الطاعات {جنات} أي: بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها {تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها {الأنهار} فهي دائمة النموّ والبهجة والنضارة والثمرة {والذين كفروا يتمتعون} أي: في الدنيا بالملاذ، كما تتمتع الأنعام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 ناسين ما أمر الله تعالى به معرضين عن كتابه. {ويأكلون} على سبيل الاستمرار {كما تأكل الأنعام} أي: أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف الأكل من غير تمييز الحرام من غيره، إذ ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، لا يلتفتون إلى الآخرة؛ لأنّ الله تعالى أعطاهم الدنيا، ووسع عليهم فيها، وفرغهم لها حتى شغلتهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة كما قال تعالى: {والنار مثوى لهم} أي: منزل ومقام ومصير ولما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى {أفلم يسيروا في الأرض} ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مثلاً تسلية له. فقال تعالى: {وكأين} أي: وكم {من قرية} أريد أهلها أي: كذبت رسولها {هي أشد قوة} وأكثر عدداً {من قريتك} مكة أي: أهلها وقوله تعالى: {التي أخرجتك} روعي فيه لفظ قرية وقوله تعالى: {أهلكناهم} أي: بأنواع العذاب روعي فيه معنى قرية الأول {فلا ناصر لهم} يدفع عنهم الهلاك. كذلك نفعل بهم فاصبر كما صبر رسلهم قال ابن عباس: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال أنت أحب أرض الله إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» فأنزل الله تعالى هذه. {أفمن كان} أي: في جميع أحواله {على بينة} أي: حجة ظاهرة البيان في أنها حق {من ربه} أي: المربي والمدبر له المحسن إليه وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون {كمن زين له} بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه {سوء عمله} فرآه حسناً وهم: أبو جهل والكفار {واتبعوا أهواءهم} في ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل ولما تكرّر ذكر الجنة في هذه السورة بين صفتها. بقوله تعالى: {مثل} أي: صفة {الجنة} أي: البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها {التي وعد المتقون} أي: الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن فعل لم يدلّ عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين. تنبيه: اختلف في إعراب هذه الآية على أوجه: أحدها: أن {مثل} مبتدأ وخبره مقدّر. قدره النضر بن شميل: مثل الجنة ما تسمعون. فما تسمعون خبره و {فيها أنهار} مفسر له. وقدّره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة. والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل. ثانيها: أن {مثل} زائدة تقديره: الجنة التي وعد المتقون {فيها أنهار} ونظير زيادة {مثل} هنا زيادة اسم في قول القائل: *إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ثالثها: أنّ مثل الجنة مبتدأ، والخبر: قوله تعالى {كمن هو خالد في النار} فقدّره ابن عطية: أمثل أهل الجنة كمن هو خالد فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح وقدّره الزمخشريّ: أمثّل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. والجملة من قوله تعالى {فيها أنهار} حال من الجنة أي: مستقرّة فيها أنهار {من ماء} ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم، مع اتحاد الأرض ببساطها، وشدّة اتصالها، للدلالة على أنّ فاعل ذلك قادر مختار وقد يكون آسناً أي: متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقته، أو من عارض عرض له من منبعه، أو مجراه قال تعالى: {غير آسن} أي: ثابت له في وقت ما شيء من الطعم، أو اللون، أو الريح بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه بخلاف ماء الدنيا فيتغير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 لعارض وقرأ ابن كثير: بقصر الهمزة والباقون: بمدّها وهما لغتان {وأنهار من لبن} ولما كان التغير غير محمود قال تعالى: {لم يتغير طعمه} أي: بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع وهذا يفهم: أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة، كما كان في الدنيا متنوعاً {وأنهار من خمر} ولما كان الخمر يكره طعمها وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وإنه متى تغير طعمها زال اسمها عرّف أنّ كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن، غير متعرّض لطعم فقال تعالى: {لذة} أي: لذيذة {للشاربين} في طيب الطعم، وحسن العاقبة بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب {وأنهار من عسل} ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً، لخروجه من بطون النحل بالشمع، وغيره من القذى قال تعالى: {مصفى} أي: هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له في وقت ما. تنبيه: قال أبو حيان في حكمة ترتيب هذه الأنهار: إنه بدأ بالماء الذي لا تستغني عنه المشروبات، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أوقات العرب، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ والمطعم، تشوّقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل لأنّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب، ا. هـ. فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: {لذة للشاربين} ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل مصفى للناظرين. أجاب الرازي: بأنّ اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص، ويعافه الآخر. فقال: لذة للشاربين بأسرهم، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا فقال: لذة أي: لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم. وأمّا الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس، فإنّ الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنّ له طعماً واحداً. وكذلك اللبن فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة. فائدة: روي عن كعب الأحبار أنه قال: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ونهر الفرات نهر لبنهم ونهر مصر نهر خمرهم ونهر سيحان وجيجان نهر عسلهم وهذه الأنهار الأربعة، تخرج من نهر الكوثر وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر: إن كعب الأحبار سئل هل تجد لهذا النيل في كتاب الله عز وجلّ خبراً فقال أي: والذي فلق البحر لموسى إني أجده في كتاب الله تعالى أنّ الله عز وجلّ يوحي إليه في كل عام مرتين يوحى إليه عند جريه أنّ الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله تعالى له ثم يوحى إليه بعد ذلك يا نيل غر حميداً وعن كعب أيضاً أنه قال: أربعة أنهر من الجنة، وضعها الله تعالى في الدنيا فالنيل: نهر العسل في الجنة، والفرات: نهر الخمر في الجنة، وسيحان: نهر الماء في الجنة، وجيجان: نهر اللبن في الجنة» وعنه أيضاً أنه قال: النيل في الآخرة لبناً، أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجلّ، وجيجان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل وأصل هذا كله ما في الصحيح في وصف الجنة عن أبي هريرة «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال سيحان وجيجان والنيل والفرات من أنهار الجنة» ولما كانت الثمار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 ألذ مستطاب بعد منافع الشراب قال تعالى: {ولهم فيها} وقوله تعالى: {من كل الثمرات} فيه وجهان أحدهما: أنّ هذا الجار صفه لمقدر، ذلك المقدر مبتدأ، وخبره الجار قبله، وهو لهم وفيها متعلق بما تعلق به والتقدير ولهم فيها زوجان من كل الثمرات كأنه انتزعه من قوله تعالى {فيهما من كل فاكهة زوجان} وقدّره بعضهم صنف والأوّل كما قال ابن عادل أليق ثانيهما أن {من} مزيدة في المبتدأ. {ومغفرة من ربهم} فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر، بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطاً عليهم وقوله تعالى: {كمن هو خالد في النار} خبر مبتدأ مقدّر أي: أمن هو في هذا النعيم، كمن هو مقيم إقامة لا انقطاع معها في النار التي لا ينطفئ لهيبها، ولا ينفك أسيرها، ووحده لأنّ الخلود يعم من فيها على حدّ سواء، {وسقوا} أي: عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة {ماء حميماً} هو في غاية الحرارة {فقطع أمعاءهم} أي: مصارينهم، فخرجت من أدبارهم وهو جمع مع بالقصر وألفه عن ياء لقولهم معيان. {ومنهم من يستمع إليك} أي: في خطب الجمعة، وهم المنافقون والضمير في قوله تعالى {ومنهم} يحتمل أن يعود إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة {ومن الناس من يقول آمنا بالله} (البقرة: 81) بعد ذكر الكفار ويحتمل أن يعود إلى أهل مكة؛ لأنّ ذكرهم سبق في قوله تعالى {هي أشدّ قوة من قريتك التي أخرجتك} ويحتمل أن يرجع إلى معنى قوله تعالى {هو خالد في النار وسقوا ماء حميما} أي: ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك {حتى إذا} أي: واستمر جهلهم لأنفسهم في الإصغاء حتى إذا {خرجوا} أي: المستمعون والسامعون {من عندك قالوا} أي: الفريقان تعامياً واستهزاءً. {للذين أوتوا العلم} بسبب تهيئة الله تعالى لهم من صفاء الأفهام بتجردهم عن النفوس والحظوظ، وانقيادهم لما تدعو إليه الفطرة الأولى. منهم ابن مسعود وابن عباس {ماذا قال} أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم {آنفا} أي: قبل افتراقنا وخروجنا عنه روى مقاتل: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد آنفاً» أي الساعة، أي: لا ترجع إليه وقرأ البزي بقصر الهمزة بخلاف عنه والباقون بالمدّ وهما لغتان بمعنى واحد وهما اسما فاعل كحاذر وحذر، {أولئك} أي: البعداء من كل خير {الذين طبع الله} أي: الملك الأعظم {على قلوبهم} أي: بالكفر فلم يفهموا فهم انتفاع؛ لأنّ مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك {واتبعوا} أي: بغاية جهدهم {أهواءهم} أي: في الكفر والنفاق، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام، ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية {مثل الجنة} بأنهم {زين لهم سوء عملهم} ثم ذكر تعالى أضداد هؤلاء. بقوله سبحانه: {والذين اهتدوا} أي: اجتهدوا باستماعهم منك في الإيمان، والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات وهم المؤمنون {زادهم} أي: الله الذي طبع على قلوب الكفرة، {هدى} بأن شرح صدورهم، ونورها بأنوار المشاهدات، فصارت أوعية للحكمة {وآتاهم تقواهم} أي: ألهمهم ما يتقون به النار، قال ابن برحان: التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام. {فهل} أي: ما {ينظرون} أي: ينتظرون وجودها إشارة إلى شدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 قربها. {إلا الساعة} وقوله تعالى: {أن تأتيهم} أي: الكافرين بدل اشتمال من الساعة أي: ليس الأمر إلا أن تأتيهم {بغتة} أي: فجأة من غير شعور بها، ولا استعداد لها. وقوله تعالى: {فقد جاء أشراطها} جمع شرط بسكون الراء وفتحها قال أبو الأسود: *فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراطاً وله تبدو* والأشراط: العلامات ومنه أشراط الساعة وأشرط الرجل نفسه أي ألزمها أموراً قال أوس: *فأشرط فيها نفسه وهو يقسم ... فألقى بأسباب له وتوكلا* والشرط: القطع أيضاً، مصدر شرط الجلد يشرطه شرطاً قال السهيلي عن ابن سعد عن أنس قال «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام بعثت والساعة كهاتين» وعن أنس قال: «لأحدّثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الربا، ويشرب الخمر، وتقل الرجال، وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» وعن أبي هريرة قال: «بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم: لم يسمع حتى إذا قضى حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة فقيل: كيف إضاعتها قال: إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة» . ومن أشراطها انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها، وغير ذلك وما بعد مقدّمات الشيء إلا حضوره. {فأنى} أي: فكيف وأين {لهم} أي التذكر والاتعاظ والتوبة {إذا جاءتهم ذكراهم} أي: الساعة لا تنفعهم. نظيره قوله تعالى {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} ولما علم بذلك أنّ الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل، أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها، سبب عنه أمر أعظم الخلق تكويناً ليكون لغيره تكليفاً فقال: {فاعلم أنه} أي: الشأن العظيم {لا إله} أي: لا معبود بحق {إلا الله} أي: إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، فإنه النافع يوم القيامة وقيل: الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقال الحسن بن الفضل: فازدد علماً إلى علمك وقال أبو العالية وابن عيينة معناه إذا جاءتهم الساعة، فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله، {واستغفر لذنبك} أي: لأجله، أمر بذلك مع عصمته لتستن به أمته وقد فعله قال صلى الله عليه وسلم «إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» وقيل: معنى قوله {لذنبك} أي: لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات الذين ليسوا من أمتك بأهل بيت وقيل: المراد النبيّ، والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتنا دون ذلك قال صلى الله عليه وسلم «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» وقيل: هو كل مقام عال ارتفع منه إلى أعلى منه. وقوله تعالى: {وللمؤمنين والمؤمنات} فيه إكرام من الله تعالى لهذه الأمّة؛ حيث أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم {والله} المحيط بجميع صفات الكمال {يعلم متقلبكم} أي: تصرّفكم لأشغالكم بالنهار، ومكانه وزمانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 {ومثواكم} أي: مأواكم إلى مضاجعكم بالليل أي: هو عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها فاحذروه، والخطاب للمؤمنين وغيرهم، وقيل: يعلم متقلبكم في أعمالكم، ومثواكم في الجنة والنار، ومثله حقيق بأن يخشى ويتقى وأن يستغفر ويسترحم، وعن سفيان ابن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} فأمر بالعمل بعد العلم وقال: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو} (الحديد: 20) الآية. {ويقول الذين آمنوا} طلباً للجهاد. {لولا} أي: هلا، ولا التفات إلى قول بعضهم أن لا زائدة والأصل لو {نزلت سورة} أي سورة كانت، نسرّ بسماعها، ونتعبد بتلاوتها، ونعمل بما فيها {فإذا أنزلت سورة} أي: قطعة من القرآن، تكامل نزولها كلها تدريجاً، أو جملة وزادت على مطلوبهم في الحسن بأنها {محكمة} أي: مبينة، لا يلتبس شيء منها بنوع إجمال، ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل زمان ومكان وقال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة. وهي أشدّ القرآن على المنافقين {وذكر فيها القتال} أي: الأمر به {رأيت الذين في قلوبهم مرض} أي: شك وهم المنافقون. {ينظرون إليك} شرراً بتحديق شديد، كراهية منهم للجهاد، وجبنا منهم عن لقاء العدوّ {نظر المغشيّ} والأصل نظراً مثل نظر المغشي {عليه من الموت} الذي هو: نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه، بل شاخص لا يطرف كراهية القتال؛ من الجبن والخوف. والمعنى: أنّ المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها وأمّا المنافق، فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ذلك فحصل التباين بين الفريقين في العلم والعمل وقوله تعالى {فأولى لهم} وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه الدعاء عليه بأن يليهم المكروه. وقوله تعالى: {طاعة وقول معروف} مستأنف، أي: طاعة ومعروف خير لهم وأمثل، أي: لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً لكان أمثل وأحسن، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بدليل قوله تعالى: {وقول معروف} فإنه موصوف فكأنه تعالى قال: طاعة مخلصة وقول معروف خير، وقيل: يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية، أي: أمرنا طاعة أو منا طاعة وقول معروف حسن، وقيل: متصل بما قبله واللام في قوله تعالى {لهم} بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله، وقوله: معروف بالإجابة أولى بهم، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. ثم سبب عنهما قوله تعالى مسنداً إلى الأمر ما هو لأهله تأكيداً لمضمون الكلام: {فإذا عزم الأمر} ، أي: فإذا أمر بالقتال الذي ذكر في أوّل السورة وغيره من الأوامر أمراً مجزوماً به مقروحاً عليه {فلو صدقوا الله} أي: الملك الأعظم في قولهم الذي قالوه في طلب التنزيل {لكان} أي: صدقهم له {خيراً لهم} أي: من تعللهم، وجملة لو جواب إذا، نحو: إذا جاءني طعام فلو جئتني لأطعمتك، وقيل: محذوف، وتقديره: فاصدق كذا قدّره أبو البقاء وعزم الأمر على سبيل المجاز، كقوله: قد جدّت الحرب فجدوا، أو يكون على حذف مضاف أي عزم أهل الأمر. وقوله تعالى: {فهل عسيتم} فيه التفات عن الغيبة، أي: لعلكم {إن توليتم} أي: أعرضتم عن الإيمان والجهاد {أن تفسدوا} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 توقعوا الإفساد العظيم الذي يستمر تجدّده {في الأرض} بالمعصية والبغي وسفك الدماء الذي يسخط الله تعالى، ويغضبه أشدّ غضب على فاعله، وتكونوا في غاية الجراءة عليه وترجعوا إلى الفرقة بعدما جمعكم الله بالإسلام. وقرأ نافع بكسر السين والباقون بفتحها {وتقطعوا} أي: تقطيعاً كثيراً {أرحامكم} أي: تعودوا إلى أمر الجاهلية في الإغارة من بعض على بعض وغير ذلك، قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن، وقال بعضهم: هو من الولاية. قال الفراء: يقول فهل عسيتم إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم نزلت في بني أمية وبني هاشم. {أولئك} أي: المفسدون {الذين لعنهم الله} أي: طردهم أشدّ الطرد الملك الأعظم لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم، ثم سبب عن لعنهم قوله تعالى {فأصمهم} أي: عن الانتفاع بما سمعوه {وأعمى أبصارهم} أي عن الانتفاع بما يبصرون فليس سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار، فلا سماع ولا إبصار. {أفلا يتدبرون} بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل خير {القرآن} أي: يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير، الفارق بين الحق والباطل، حتى لا يجسروا على المعاصي فإن قيل قال تعالى: {فأصمهم وأعمى أبصارهم} فكيف يمكنهم التدبر في القرآن؟ وهو كقول القائل للأعمى: أبصر وللأصم اسمع، أجيب بثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض؛ الأول: تكليف ما لا يطاق جائز. والله تعالى أمر من علم منه بأنه لا يؤمن أن يؤمن فلذلك جاز أن يصمهم، ويعميهم، ويذمهم على ترك التدبر. الثاني: أن قوله {أفلا يتدبرون القرآن} المراد منه الناس. الثالث: أن يقال أنّ هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدّمة، كأنه تعالى قال {أولئك الذين لعنهم الله} أي: أبعدهم عنه، أو عن الصدق، أو الخير، أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يبصرون طريقة الإسلام فإذا هم بين أمرين: إمّا لا يتدبرون القرآن، فيبعدون عنه لأنّ الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق، والقرآن منها هو الصنف الأعلى بل النوع الأشرف. وإمّا يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعدين {أم} أي: بل {على قلوب} أي: من قلوب الفاعلين لذلك {أقفالها} فلا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً، ولا تزداد إلا غباوة وعناداً لأنها لا تقدر على التدبير قال القشيري: فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب. والباب إذا كان مغلقاً فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه فلا كفرهم يخرج، ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل. ا. هـ فإن قيل ما الفائدة في تنكير القلوب. أجاب الزمخشري بقوله: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً، لأنّ النكرة بالوصف أولى من المعرفة كأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة الثاني: أن تكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأنّ النكرة لا تعم تقول: جاءني رجال فيفهم البعض، وجاءني الرجال فيفهم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب، وذلك لأنّ القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأنّ القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة، فكأنه لا يعرف قلباً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي: هذا ليس بإنسان فكذلك يقال: هذا ليس بقلب، هذا حجر، وإذا علم هذا، فالتعريف إمّا بالألف واللام، وإما بالإضافة بأن يقال على قلوبهم أقفالها، وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم. فإن قيل قد قال تعالى {ختم الله على قلوبهم} (البقرة: 7) وقال تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم} (الزمر: 22) أجيب بأنّ الأقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {أقفالها} بالإضافة؟ ولم يقل أقفال كما قال: {قلوب} . أجيب بأنّ الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم، وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها، أو يقال: أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد ولما أخبر تعالى بأقفال قلوبهم بين منشأ ذلك. فقال تعالى: {إنّ الذين ارتدوا} أي: من أهل الكتاب وغيرهم {على أدبارهم} أي: رجعوا كفارا {من بعدما تبين} أي: غاية البيان {لهم الهدى} أي: بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين {الشيطان سوّل لهم} أي: زين وسهل لهم اقتراف الكبائر {وأملى} أي: ومدّ الشيطان {لهم} في الآمال والأماني بإرادته تعالى فهو المضل لهم وقرأ أبو عمرو: بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء والباقون: بفتح الهمزة واللام وسكون الألف المنقلبة وأمالها حمزة والكسائي محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح قال في الكشاف: فإن قلت: من هؤلاء؟ قلت: اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما تبين لهم الهدى وهو نعته في التوراة وقيل: هم المنافقون. {ذلك} أي: إضلالهم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قالوا} أي: المنافقون {للذين كرهوا} أي: وهم المشركون {ما} أي: جميع ما {نزل الله} أي: الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع، تنزيلاً في إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها، مع السهولة في النطق، والعذوبة في السمع، والملاءمة للطبع {سنطيعكم في بعض الأمر} أي: أمر المعاونة على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيط الناس عن الجهاد معه قالوا ذلك سراً، فأظهره الله تعالى، {والله} أي: قالوا ذلك والحال أن الملك الأعظم المحيط بكل شيء علما وقدرة {يعلم} أي: على ممر الأوقات {أسرارهم} أي: كلها؛ هذا الذي أفشاه عليهم، وغيره مما في ضمائرهم مما لم يبرز على ألسنتهم ولعلهم لم يعلموه فضلاً عن أقوالهم التي تحدثت بها أنفسهم فبان بذلك أنه لا أديان لهم ولا عقول ولا مروءات. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر الهمزة مصدراً والباقون بفتحها جمع سر. {فكيف} أي: حالهم {إذا توفتهم الملائكة} أي: قبضت رسلنا، وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة وقوله تعالى: {يضربون وجوههم وأدبارهم} تصوير لتوفيهم بما يخافون منه ويجبنون عن القتال له وعن ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره. وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى التوفي الموصوف {بأنهم} أي: بسبب أنهم {اتبعوا} أي: عالجوا فطرتهم الأولى في أن اتبعوا {ما أسخط الله} أي: الملك الأعظم، وهو الكفر وكتمان نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيان الأمر {وكرهوا} بالإشراك {رضوانه} بكراهتهم أعظم أسباب رضاه وهو الإيمان، فهم لما دونه بالقعود عن الطاعات أكره؛ لأنّ ذلك ظاهر غاية الظهور في أنّ فاعله غير معذور في ترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 النظر فيه. {فأحبط} أي: فلذلك تسبب عنه أنه أفسد. {أعمالهم} أي: الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق؛ من القرى والأخذ بيد الضعيف والتصدّق والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق. {أم حسب الذين} وكان الأصل أم حسبوا لضعف عقولهم كما أفهمه التعبير بالحسبان ولكنه عبر تعالى بما دلّ على الآفة التي أدّتهم إلى ذلك بقوله تعالى: {في قلوبهم} أي: التي إذا أفسدت فسد جميع أجسادهم {مرض} أي: آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات كما دل عليه التأكيد في قوله تعالى: {أن لن يخرج الله} أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التجديد والاستمرار وقوله تعالى: {أضغانهم} جمع ضغن، وهي الأحقاد أي أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى تعرفوا نفاقهم وكانت صدورهم تغلي حنقاً عليهم. {ولو نشاء لأريناكهم} من رؤية البصر وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أريناك إياهم جاز وقال الرازي الإراءة هنا بمعنى التعريف وقوله تعالى {فلعرفتهم} عطف على جواب لو {بسيماهم} أي: بسبب علاماتهم التي نجعلها غالبة عليهم عالية لهم في إظهار ضمائرهم غلبة لا يقدرون على مدافعتها بوجه ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن وقوله تعالى {ولتعرفنهم} جواب قسم محذوف {في لحن القول} أي: الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه وما يدل عليه ويلوح عليه من ميله عن حقائقه إلى عواقبه، وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك قال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. وعن ابن عباس: لحن القول هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا وقيل اللحن أن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الانحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال: *ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يعرفه ذوو الألباب* وقيل للمخطىء: لاحن، لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال أبو حيان: كانوا اصطلحوا على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح {والله} أي: بما له من الكمال {يعلم أعمالكم} كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدّد بحسب تجدّدها مستمرّاً باستمرار ذلك. {ولنبلونكم} أي: نعاملكم معاملة المبتلى، بأن نخالطكم بما لنا من العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس والنواهي الكريهة إليها. {حتى نعلم} أي: بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا نعلمه علماً غيبياً، فنستخرج من سرائركم ما جبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد منكم بل ولا تعلمونه حق علمه {المجاهدين منكم} في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك {والصابرين} أي: على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد قال القشيري: فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال فيظهر المخلص ويفتضح المماذق وينكشف المنافق ا. هـ. وعن الفضيل: أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا {ونبلو أخباركم} أي: نخالطها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 بأن: نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحاً وقبيحها حسنا ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان، فإنّ العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أنّ ذلك إحسان من الله تعالى إليه فيستحي منه ويرجع، وإذا سمى حسنه باسم القبيح وأشهر به علم أنّ ذلك لطف من الله تعالى به لكي لا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه، والعامل للشيطان يزداد في القبائح، لأنّ شهرته عند الناس محط نظره ويرجع عن الحسن لأنه لم يوصله إلى ما أراد به من ثناء الناس عليه بالخير. {إنّ الذين كفروا} أي: غطوا ما دلتهم عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لا سيما بعد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بواضح المعجزات {وصدّوا} أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم {وشاقوا الرسول} أي: الكامل في الرسالة المعروف غاية المعرفة. {من بعد ما تبين} أي: غاية البيان بالمعجز {لهم الهدى} بحيث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج ما أظهره الرسول من الآيات الظاهرة وهم قريظة والنضير والمطعمون يوم بدر {لن يضروا الله} أي ملك الملوك {شيئاً} بما هم عليه من الكفر والصدّ أو لن يضرّوا رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته {وسيحبط} أي: يفسد فيبطل بوعد لا خلف فيه {أعمالهم} من المحاسن لبنائها على غير أساس. {يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بألسنتهم {أطيعوا الله} أي: الملك الأعظم تصديقاً لدعواكم طاعة لشدّة الاجتهاد فيها أنها خالصة، وعظم الرسول صلى الله عليه وسلم بإفراده فقال تعالى: {وأطيعوا الرسول} لأنّ طاعته من طاعة الذي أرسله، فإذا فعلتم ذلك حصنتم أنفسكم وأعمالكم، فتكون صحيحة ببنائها على الطاعة بتصحيح النيات وتصفيتها مع الإحسان للصورة في الظاهر، ليستكمل العمل صورة وروحاً {ولا تبطلوا أعمالكم} قال عطاء بالشك والنفاق. وقال الكلبي: بالرياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرّ مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت هذه الآية» فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد. قال تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة: 264) وعن حذيفة فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم. وعن ابن عمر: كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً حتى {نزل ولا تبطلوا أعمالكم} فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نزل {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) فكففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها. وعن قتادة: رحم الله عبداً لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. وعن ابن عباس: لا تبطلوا بالرياء والسمعة أعمالكم. وعنه أيضاً: بالشك والنفاق. وقيل بالعجب، فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. {إن الذين كفروا} أي: أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دل عليه العقل من آيات الله المرئية والمسموعة {وصدّوا عن سبيل الله} أي: الملك الأعلى عن الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراد بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم {ثم ماتوا} بعد المدّ لهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم {وهم} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 والحال أنهم {كفار فلن يغفر الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال الذي يمنع من تسوية المسيء بالمحسن {لهم} فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم، بل يفضح سرائرهم ويردّهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه، لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة فلم يبق لهم ما يغفر لهم تسببه، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أنّ إحباط العمل في المرتدّ مشروط بالموت على الكفر قيل: نزلت في أصحاب القليب قال الزمخشريّ: والظاهر العموم ثم رغب تعالى في لزوم الجهاد محذراً من تركه بقوله تعالى: {فلا تهنوا} أي: تضعفوا ضعفاً يؤدّي بكم إلى الهوان والذلّ {وتدعوا} أعداءكم {إلى السلم} أي: المسالمة وهي الصلح {وأنتم} أي: والحال أنكم {الأعلون} أي: الظاهرون الغالبون قال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات. وأصل الأعلون الأعليون فأعلّ وقرأ حمزة وشعبة بكسر السين والباقون بفتحها ثم عطف على الحال قوله تعالى {والله} أي: الملك الأعظم الذي لا يعجزه شيء ولا كفء له {معكم} أي: بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكريم إذا كان مع عبده ومن علم أنه سيده وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً {ولن يتركم} أي: ينقصكم {أعمالكم} أي: ثوابها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم، لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم. {إنما الحياة} وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله: {الدنيا} أي: الاشتغال بها {لعب} أي: أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ما يسرع اضمحلاله فيبطل من غير ثمرة {ولهو} أي: مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغناء {وإن تؤمنوا وتتقوا} أي: تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية من جهاد أعدائه، وذلك من أعمال الآخرة {يؤتكم} أي: الله سبحانه الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة {أجوركم} أي: ثواب كل أعمالكم ببنائها على الأساس، ولأنه غنيّ لا ينقصه الإعطاء {ولا يسألكم} أي: الله في الدنيا {أموالكم} أي: لنفسه ولا كلها لغيره، بل يقتصر على جزء يسير مما تفضل به عليكم كربع العشر وعشره. {إن يسألكموها} أي: كلها {فيحفكم} أي: يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك، فالإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه استأصله {تبخلوا} فلا تعطوا شيئاً {ويخرج أضغانكم} أي: ما تضغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى أو الرسول أو السؤال، أو البخل، واقتصر عليه الجلال المحلي، قال قتادة: علم الله تعالى أنّ في مسألة الأموال خروج الأضغان يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير. {هاأنتم} وحقر أمرهم بقوله تعالى: {هؤلاء} أي: أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، وقوله تعالى {تدعون لتنفقوا في سبيل الله} أي: الملك الأعظم الذي يرجى خيره ولا يخشى غيره استئناف مقرّر لذلك أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرها {فمنكم من يبخل} أي: ناس يبخلون، وحذف القسم الآخر وهو ومنكم من يجود، لأنّ المراد الاستدلال على ما قبله من البخل ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه لينفع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله تعالى: {ومن} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 والحال أنه من {يبحل} بذلك {فإنما يبخل} بماله بخلا ضارّاً {عن نفسه} فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدّي فإنه إمساك عمن يستحق {والله} أي: الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {الغني} وحده عن نفقتكم {وأنتم} أيها المكلفون خاصة {الفقراء} لاحتياجكم في جميع أحوالكم إليه {وإن تتولوا} عطف على {وإن تؤمنوا وتتقوا} {يستبدل قوماً غيركم} أي: يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى {ثم لا يكونوا أمثالكم} في التولي عنه والزهد في الإيمان كقوله تعالى {ويأت بخلق جديد} قيل: هم الملائكة. وقيل الأنصار وعن ابن عباس: كندة والنخع وعن الحسن: العجم وعن عكرمة: فارس والروم «وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس» رواه الترمذي والحاكم وصححاه وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة محمد كان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنة» حديث موضوع. سورة الفتح مكية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمةوألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا {بسم الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلما {الرحمن} الذي عم خلقه بنعمه {الرحيم} الذي خص أهل وداده بمزيد فضله روى زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه. ثم سأله فلم يجبه قال عمر فحركت بعيري حتى تقدّمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ» . {إنا فتحنا لك} أي: بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال {فتحناً مبينا} أي: لا لبس فيه على أحد. واختلفوا في هذا الفتح فروى عن أنس أنه فتح مكة. وقال مجاهد: فتح خيبر. والأكثرون على أنه صلح الحديبية. قال أنس: نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم إنا فتحنا لك إلى آخر الآية عند مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطوا الحزن والكآبة فقال: «نزلت علي آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها» فلما تلاها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم هنيأً مريئاً قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنان جنّات تجري من تحتها الأنهار} حتى ختم الآية. وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف واللسان. وقيل: الفتح الحكم لقوله تعالى {فافتح بيننا وبين قومنا بالحق} (سورة الأعراف، آية: 89) وقوله تعالى {ثم يفتح بيننا بالحق} (سورة سبأ، آية: 26) فمن قال هو فتح مكة قال لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه أحدها أنه تعالى لما قال {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله} إلى أن قال {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} بين تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم. ثانيها: لما قال تعالى: {والله معكم} (محمد: 35) وقال تعالى {وأنتم الأعلون} (محمد: 35) بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون. ثالثها لما قال تعالى {فلا تنهوا وتدعوا إلى السلم} (محمد: 35) وكان معناه لا تسألوا الصلح بل اصبروا فإنكم تسألوا الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت. فكيف قال تعالى: {فتحنا} بلفظ الماضي أجيب من وجهين: أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا. ثانيهما: ما قدّره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر واقع لا دافع له. وأمّا حجة قول الأكثرين على أنه صلح الحديبية فلما روى البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناء فتوضأ ثم تمضمض ودعا وصبه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه» وقيل: جاش حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقال الشعبي في قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال فتح الحديبية غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر واطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري: ولم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية. وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر سواد الإسلام. وقال البغوى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} أي: قضينا لك قضاءً مبيناً. وقال الضحاك: أي بغير مال وكان الصلح من الفتح. واختلف قول المفسرين في معنى اللام في قوله تعالى: {ليغفر لك الله} أي: الملك الأعظم. فقال البيضاوي: علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة وقال البغوي: قيل: اللام لام كي معناه {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح. وقال الجلال المحلي: اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب. وقال بعضهم: إنها لام القسم. والأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبيهاً بلام كي وحذفت النون وردّ هذا: بأنّ اللام لا تكسر وبأنها لا تنصب المضارع، قال ابن عادل: وقد يقال إنّ هذا ليس بنصب، وإنما هو بقاء الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها ولكنه قول مردود. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض الآجل والعاجل ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للمغفرة والثواب ا. هـ قال ابن عادل: وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإنّ اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلل بها فكان ينبغي أن يقول: كيف جعل فتح مكة معللاً بالمغفرة ثم يقول لم يجعل معللاً ا. هـ وقيل غير ذلك والأسلم ما اقتصر عليه الجلال المحلي واختلف أيضاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 في الذنب في قوله تعالى: {ما تقدّم من ذنبك} فقال البقاعي: أيّ الذي تقدّم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو ما تنتقل عنه من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً. وكذا قوله تعالى: {وما تأخر} وقال الرازي: المغفرة المعتبرة لها درجات كما أن الذنوب لها درجات حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقال عطاء الخراساني: {ما تقدّم من ذنبك} يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك وما تأخر ذنوب أمّتك بدعوتك. وقال سفيان الثوري: {ما تقدّم} ما عملت في الجاهلية {وما تأخر} كل شيء لم تعمله. قال البغوي: ويذكر مثل ذلك على سبيل التأكيد، كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره. وقيل: ما تقدّم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد. وقيل: المراد به ترك الأفضل. وقيل: الصغائر على طريق من جوّز الصغائر على الأنبياء وقيل المراد بالمغفرة: العصمة ومعنى قوله تعالى: {وما تأخر} قيل: إنه وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يذنب بعد النبوّة. وقيل: ما تقدم على الفتح وما تأخر عنه وقيل: المراد ذنب المؤمنين. وقيل: غير ذلك. والأولى في ذلك: هو الأوّل واختلف أيضاً في النعمة في قوله تعالى {ويتم نعمته عليك} فقال البقاعي: بنقلتك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل. وقال البيضاوي: بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوّة. وقال الجلال المحلي: بالفتح المذكور. وقيل: إن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج وهو آخر التكاليف والتكليف نعمة. وقيل: بإجلاء الأرض لك عن معانديك فإنّ من يوم الفتح لم يبق للنبيّ صلى الله عليه وسلم عدو فإنّ بعضهم قتل يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل ويتمّ نعمته عليك في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فباستجابة دعائك في طلب الفتح. وفي الآخرة بقبول شفاعتك. وقيل غير ذلك والأوّل أولى واختلف أيضاً في معنى الهداية في قوله تعالى: {ويهديك صراطاً} أي: طريقاً {مستقيماً} أي: واضحاً جلياً. فقال البقاعي: أي بهداية جميع قومك. ولما كانت هدايتهم من هدايته أضافها سبحانه إليه إعلاماً له أنها هداية تليق بجنابه الشريف سروراً له وقال البيضاوي: في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة. وقيل: يهدي بك. وقيل: يديمك على الصراط المستقيم. وقيل: جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده العاجلة والآجلة. وقيل: المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم. {وينصرك الله} أي: على ملوك الأمم نصراً يليق إسناده إلى اسمه المحيط بسائر العظم {نصراً عزيزاً} أي: يغلب المنصور به كل من ناوأه ولا يغلبه شيء مع دوامه فلا ذّل بعده لأنّ الأمّة التي تتصف به لا يظهر عليها أحد والدين الذي قضاه لأجله لا ينسخه شيء، فإن قيل: إنّ الله تعالى وصف النصر بكونه عزيزاً والعزيز من له النصر أجيب من وجهين: أحدهما: قال الزمخشري: إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة: الأوّل: معناه نصراً ذا عزة كقولك في عيشة راضية أي ذات رضا ثانيها: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له: كلام صادق. كما يقال له متكلم صادق. ثالثها: المراد نصراً عزيزاً صاحبه. الوجه الثاني: أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشري إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 قلنا العزة في الغلبة والعزيز الغالب، وأما إذا قلنا العزيز هو النفيس القليل النظير أو المحتاج إليه القليل الوجود يقال عز الشيء في سوق كذا أي قل وجوده مع أنه محتاج إليه فالنصر كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله تعالى من الكفار المقيمين فيه من غير عدد ولا عدد. {هو} أي: وحده {الذي أنزل} أي: في يوم الحديبية وغيره {السكينة} أي: الثبات على الدين والطمأنينة {في قلوب المؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب من صدّ الكفار ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا حتى عمر مع أنه فاروق ومع وصفه في الكتب السالفة بأنه قرن من حديد فما الظنّ بغيره، وكان عند الصديق من القدم الثابت والأصل الراسخ ما علم به أنه لم يسابق ثم ثبتهم الله تعالى أجمعين. وقال الرازي: السكينة الثقة بوعد الله والصبر على حكم الله. وقيل: السكينة ههنا معنى يجمع فوزاً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين. وأثر هذه السكينة غير السكينة المذكورة في قوله تعالى: {يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} (البقرة: 248) ويحتمل أن تكون هي تلك لأنّ المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلب {ليزدادوا} أي بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: إنه لا بدّ أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت {إيماناً} عند التصديق بالغيب {مع إيمانهم} الثابت من قبل هذه الواقعة أو بشرائع الدين مع إيمانهم بالله واليوم الآخر وقال القشيري: بطلوع أقمار عين اليقين على نجوم علم اليقين ثم بطلوع شمس حق اليقين على بدر عين اليقين. وقال ابن عباس: بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوا زادهم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم الجهاد، حتى أكمل لهم دينهم فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم. وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم وقيل: ازدادوا إيماناً استدلالاً مع إيمانهم الفطري. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في حق الكفار {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} (آل عمران: 178) ولم يقل مع كفرهم، وقال في حق المؤمنين {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} ؟ أجيب بأنّ كفر الكافر عنادي وليس في الوجود كفر فطري ولا في الإمكان كفر غير عنادي لينضم إلى الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عناداً وكذلك الكفر بالفروع، لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول، لأنّ من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد. ولهذا قال تعالى {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} . {ولله} أي: الملك الأعظم الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين {جنود السموات والأرض} فهو قادر على إهلاك عدوّه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأيديهم فيكون لهم الثواب وجنود السموات والأرض الملائكة. وقيل: جنود السموات الملائكة وجنود الأرض الجنّ والحيوانات. وقيل: الأسباب السماوية والأرضية {وكان الله} أي: الملك الأعظم أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بالذوات والمعاني {حكيماً} في إتقان ما يصنع. وقوله تعالى: {ليدخل} متعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 بمحذوف أي: أمر بالجهاد ليدخل {المؤمنين والمؤمنات} الذين جبلتهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد المجاهدين، ولو سلط على الكفار جنوده من أوّل الأمر فأهلكوهم أو دمّر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية {جنات} أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك {تجري من تحتها الأنهار} فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك؛ لأنّ الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها {خالدين فيها} أي لا إلى آخر، فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون: 1) وقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} (البقرة: 223) أجيب بأنه في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالخير الموعود به مع مشاركة المؤمنات لهم ذكرهنّ الله تعالى صريحاً وفي المواضع التي فيها ما لا يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين كقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} ولما كان ههنا قوله تعالى: {ليدخل المؤمنين} متعلقاً بالأمر بالقتال والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها فصرح الله تعالى بذكرهنّ {ويكفر} أي يستر ستراً بليغاً {عنهم سيئاتهم} فلا يظهرها، فإن قيل: تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعده أجيب بأنّ الواو لا تقتضي الترتيب بأنّ تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الادخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة {وكان ذلك} أي: الإدخال والتكفير {عند الله} أي: الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام {فوزاً عظيماً} لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع ودفع ضر. تنبيه: {عند} متعلق بمحذوف على أنه حال من {فوزاً} ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدوّ وكان العدوّ الكاتم أشدّ من المجاهر المراغم. قال تعالى: {ويعذب المنافقين} المخفين للكفر المظهرين الإيمان أي: فيزيل كل ما لهم من العذوبة {والمنافقات} لما غاظهم من ازدياد الإيمان {والمشركين والمشركات} أي: المظهرين الكفر للمؤمنين وقدّم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع؛ لأنهم كانوا أشدّ على المؤمنين من الكفار المجاهرين؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه إيمانه وكان يفشي أسراره وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك» ولهذا قال الشاعر: *احذر عدوّك مرّة ... واحذر صديقك ألف مرّة* *فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أخبر بالمضرّة* وقوله تعالى: {الظانين بالله} أي: المحيط بصفات الكمال صفة للفريقين وأما قوله تعالى {ظنّ السوء} فقال أكثر المفسرين: هو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين {عليهم دائرة السوء} أي: دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يتخطاهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بضم السين والباقون بالفتح. وهما لغتان كالكره والكره والضعف والضعف من ساء إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كل شيء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 وأمّا السوء فجار مجرى الشرّ الذي هو نقيض الخير {وغضب الله} أي: الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه {عليهم} وهو أنه تعالى يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به {ولعنهم} أي: طردهم طرداً أنزلوا به أسفل السافلين فبعدوا به عن كل خير {وأعد} أي: هيأ {لهم} الآن {جهنم} تلقاهم بالعبوسة والتغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب والحرّ والبرد والإحراق وغير ذلك من أنواع المشاق {وساءت} أي: جهنم {مصيراً} أي: مرجعاً. وقوله تعالى: {ولله} أي: الملك الأعظم {جنود السموات والأرض} تقدم تفسيره. وفائدة الإعادة التأكيد وجنود السموات والأرض منهم من هو للرحمة، ومنهم من هو للعذاب وقدّم ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين ملائكة الرحمة فتبشرهم على الصراط وعند الميزان، فإذا دخلوا الجنة أفضوا إلى جوار الله تعالى ورحمته والقرب منه فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء وأخرّ ذكر جنود السموات والأرض بعد ذكر تعذيب الكفار والمنافقين ليكون معهم جنود السخط فلا يفارقونهم أبداً كما قال تعالى {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم} (التحريم: 6) فإن قيل: قال الله تعالى {وكان الله عليماً حكيماً} (النساء: 17) وقال هنا {وكان الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه أزلاً وأبداً {عزيزاً} أي: يغلب ولا يغلب {حكيماً} أي: يضع الشيء في أحكم مواضعه فلا يستطاع نقض شيء مما ينسب إليه أجيب: بأنه لما كان في جنود السموات والأرض من هو للرحمة ومن هو للعذاب وعلم الله تعالى ضعف المؤمنين ناسب أن تكون خاتمة الآية الثانية {وكان الله عزيزاً حكيماً} . {إنا} أي: بما لنا من العز والحكمة {أرسلناك} أي: بما لنا من العظمة إلى الخلق كافة {شاهداً} على أفعالهم من كفر وإيمان وطاعة وعصيان من كان بحضرتك فبنفسك ومن كان بعد موتك أو غائباً عنك فبكتابك مع ما أيدناك به من الحفظة من الملائكة الكرام {ومبشراً} أي: لمن أطاع بأنواع البشائر {ونذيراً} أي مخوّفاً لمن خالفك وعصى أمرك بالنار. ثم بين تعالى فائدة الإرسال. بقوله سبحانه: {ليؤمنوا بالله} أي: لا يسوغ لأحد من خلقه. والكل خلقه التوجه إلى غيره {ورسوله} أي: الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وخلقاً إلى جميع خلقه {ويعزروه} أي يعينوه وينصرونه والتعزير نصر مع تعظيم {ويوقروه} أي: يعظموه والتوقير التعظيم والتبجيل {ويسبحوه} من التسبيح الذي هو التنزيه عن جميع النقائص أو من السبحة وهي الصلاة. قال الزمخشري: والضمائر لله عز وجلّ: والمراد بتعزير الله تعزير دينه ورسوله ومن فرّق الضمائر فقد أبعد. وقال غيره: الكنايات في قوله {ويعزروه ويوقروه} راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها تم الكلام فالوقف على {ويوقروه} وقف تامّ ثم يبتدئ بقوله تعالى: {ويسبحوه} {بكرةً وأصيلاً} أي غدوةً وعشياً أي دائماً وعن ابن عباس صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر على أنّ الكناية في {ويسبحوه} راجعة إلى الله عز وجلّ وقال البقاعي: الأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى لأنّ من سعى في قمع الكفار فقد فعل فعل المعزر الموقر، فيكون إما عائداً على المذكور وإمّا أن يكون جعل الأسمين واحداً إشارة إلى اتحاد المسميين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 في الأمر فلما اتحد أمرهما وحد الضمير إشارة إلى ذلك ا. هـ فعنده أنه يصح رجوع الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه فسر {ويسبحوه} بقوله ينزهوه عن كل وخيمة باختلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء في الأربعة على الغيبة رجوعاً إلى قوله تعالى {ليدخل المؤمنين والمؤمنات} والباقون بالتاء على الخطاب ولما بين تعالى أنه مرسل ذكر أنّ من بايع رسوله فقد بايعه. فقال تعالى: {إنّ الذين يبايعونك} يا أشرف الرسل بالحديبية على أن لا يفروا {إنما يبايعون الله} أي: الملك الأعظم لأنّ عملك كله من قول أو فعل له تعالى وما ينطق عن الهوى وسميت مبايعة لأنهم باعوا أنفسهم فيها من الله تعالى بالجنة قال الله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة} (التوبة: 111) الآية «وروى يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع على أيّ شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال: على الموت» وعن معقل بن يسار قال: «لقد رأيتني يوم الشجرة والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة قال: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ» قال أبو عيسى: معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت. أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا: لا نفر. وقوله تعالى: {يد الله} أي: المتردّي بالكبرياء {فوق أيديهم} أي: في المبايعة يحتمل وجوهاً وذلك أنّ اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد وإمّا أن تكون بمعنيين فإن كانت بمعنى واحد ففيه وجهان: أحدهما قال الكلبي: نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: {بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات: 17) ثانيهما: قال ابن عباس ومجاهد: يد الله بالوفاء بما وعدهم من النصر والخير أقوى وأعلى من نصرتهم إياه. يقال: اليد لفلان أي الغلبة والقوة. وإن كانت بمعنيين ففي حق الله تعالى بمعنى الحفظ. وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة. قال السدّي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ويد الله تعالى فوق أيديهم في المبايعة وذلك أنّ المتبايعين إذا مدّ أحدهما يده إلى الآخر في البيع وبينهما ثالث يضع يده على أيديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سبباً لحفظ البيعة فقال تعالى: {يد الله فوق أيديهم} يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين. قال البقاعي: فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد وعلى من تبعهم على ذلك من الذين شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وسائر الأئمة الأعلام ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين وناهيك به من ضلال مبين ا. هـ وقد مرّ أنّ التأويل في الآيات المتشابهات مذهب الخلف، ومذهب السلف السكوت عن التأويل وإمرار الصفات على ما جاءت وتفسيرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل. {فمن نكث} أي: نقض البيعة في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء والحبل البالي الذي ينقض {فإنما ينكث} أي: يرجع وبال نقضه {على نفسه} أي: فلا يضرّ إلا هي {ومن أوفى} أي: فعل الإتمام والإكثار والإطالة {بما عاهد} وقدم الظرف في قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 {عليه الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعات وغيرها اهتماماً به. وقرأ حفص بضم الهاء قبل الاسم الجليل والباقون بكسر الهاء والترقيق {فسيؤتيه} بوعد مؤكد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} لا تسع عقولكم شرح وصفه. قال ابن عادل: والمراد به الجنة وقرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتية والباقون بالنون. ولما ذكر تعالى أهل بيعة الرضوان وأضافهم إلى حضرة الرحمن ذكر من غاب عن ذلك الجناب وأبطأ عن حضرة تلك العمرة. بقوله تعالى: {سيقول} أي: بوعد لا خلف فيه {لك} أي: لأنهم يعلمون شدّة رحمتك ورفقك وشفقتك على عباد الله فهم يطمعون في قبولك من فاسد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين {المخلفون} أي: الذين خلفهم الله تعالى عنك فلم يرضهم لصحبتك في هذه العمرة فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان لأنه لا فائدة فيه فلا يعبأ به. وقال تعالى: {من الأعراب} ليخرج من تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم ممن كان حاضراً معه صلى الله عليه وسلم بالقلب. قال ابن عادل وابن عباس ومجاهد: يعني بالأعراب أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب والبوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً فتثاقل كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلوا بالشغل فأنزل الله تعالى فيهم {سيقول لك المخلفون} » أي: الذي خلفهم الله تعالى من الأعراب عن صحبتك إذا رجعت إليهم من عمرتك وعاتبتهم على التخلف {شغلتنا} أي: عن إجابتك في هذه العمرة {أموالنا وأهلونا} أي: النساء والذراري فأنا لو تركناهم لضاعوا لأنه لم يكن لنا من يقوم بهم وأنت قد نهيت عن ضياع المال والتفريط في العيال ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم {فاستغفر} أي اطلب المغفرة {لنا} من الله تعالى إن كنا أخطأنا وقصرنا فكذبهم الله تعالى في اعتذارهم بقوله سبحانه وتعالى {ويقولون بألسنتهم} أي: في الشغل والاستغفار وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفياً للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله تعالى: {ما ليس في قلوبهم} لأنهم لم يكن لهم شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار فإنهم لا يبالون استغفر لهم الرسول أم لا {قل} يا أشرف الرسل لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا تخفى عليه خافية إشارة إلى أنّ العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عواقبه {فمن يملك لكم} أي: أيها المخادعون {من الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفء له {شيأ} يمنعكم {إن أراد بكم ضرّاً} أي: نوعاً من أنواع الضرّ عظيماً أو حقيراً فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظها فلم ينفعها حضوركم وأهلككم أنتم. وقرأ حمزة والكسائي: بضم الضاد والباقون بفتحها {أو أراد بكم نفعاً} يحفظهما به في غيبتكم فلا يضرّهم بعدكم عنهم ويحفظكم في أنفسكم {بل كان الله} أي: المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرةً وعلماً {بما تعملون} أي أيها الجهلة {خبيراً} يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها. {س48ش12/ش15 بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى? أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَالِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمَ?ابُورًا * وَمَن لَّمْ يُؤْمِن? بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَا?رْضِ? يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ? وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ? يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا? كَلَامَ اللَّهِ? قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ? فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا? بَلْ كَانُوا? يَفْقَهُونَ إِs قَلِي?} {بل ظننتم} أي: فأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة ليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 لكم نفوذ إلى البواطن. وقرأ الكسائي: بإدغام اللام في الظاء والباقون بالإظهار وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم بقوله تعالى {أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً} أي: ظننتم أنّ العدوّ يستأصلهم ولا يرجعون لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم ما هم في قريش إلا أكلة رأس، فإن قيل: ما الفرق بين حرفي الإضراب أجيب: بأنّ الإضراب الأول إضراب معناه ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوه وإثبات الحسد والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين أي وصفهم بما هو أعمّ منه وهو الجهل وقلة الفقه {وزين ذلك} أي: الأمر القبيح الذي هو خراب الدنيا {في قلوبكم} حتى قلتموه {وظننتم} أي: بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرّع عنه {ظنّ السوء} أي: الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به وقوله تعالى: {وكنتم قوماً بوراً} جمع بائر أي هالكين عند الله تعالى بهذا الظنّ وهذا بالنظر إلى الجمع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير وثبتوا ولم يرتدّوا. {ومن لم يؤمن} أي: منكم ومن غيركم {بالله} أي: الذي لا موجود على الحقيقة سواه {ورسوله} أي: الذي أرسله لإظهار دينه {فإنا} على مالنا من العظمة {اعتدنا} أي: له هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى معلللاً للحكم بالوصف {للكافرين} إيذاناً بأنه لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر وأعدّ له {سعيراً} أي: ناراً شديدة. {ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات والأرض} أي: من الجنود وغيرها يدبر ذلك كله كيف يشاء {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} أي: لا اعتراض لأحد عليه لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافئه أحد وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة وعلم من هذا أنّ منهم من يرتدّ فيعذبه ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يسئل عما يفعل وملكه تامّ فتصرفه فيه عدل كيف كان {وكان الله} أي: المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً لم يتجدّد له شيء لم يكن {غفوراً} أي: لذنوب المسيئين {رحيماً} أي: مكرماً ما بعد الستر بما لا تسعه العقول وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام. {سيقول} أي: بوعد لا خلف فيه {المخلفون} أي: الذين تخلفوا عن الحديبية {إذا انطلقتم} أي: سرتم أيها المؤمنون {إلى مغانم لتأخذوها} أي: مغانم خيبر. وذلك أنّ المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من المغانم شيئاً وعدهم الله تعالى فتح خيبر وجعل غنائمها لم شهد الحديبية خاصة عوضاً عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئاً {ذرونا} أي: على أيّ حالة شئتم من الأحوال الدنيئة {نتبعكم} أي: إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المخلفين عن الحديبية حيث قالوا شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في الغنيمة وهنا قالوا ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة {يريدون} أن بذهابهم معكم {أن يبدّلوا كلام الله} أي: يريدون أن يغيروا مواعيد الملك الأعظم لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة وهذا قول جمهور المفسرين. وقال مقاتل: يعني أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن لا يسير معه منهم أحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 إلى خيبر. وقال ابن زيد: هو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما تخلف القوم أطلعه الله تعالى على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم {فإذا استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً} (التوبة: 83) وقرأ حمزة والكسائي: بكسر اللام بعد الكاف ولا ألف بعد اللام والباقون بفتح اللام وألف بعدها {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء المبعدين إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك فإنّ غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهمّ قولاً مؤكداً {لن تتبعونا} أي: وإن اجتهدتم في ذلك وساقه مساقه النفي وإن كان المراد به النهي مع كونه آكد ليكون علماً من أعلام النبوّة وهو أزجر وأدل على استهانتهم {كذلكم} أي مثل هذا القول البديع الشأن العالي الرتبة {قال الله} أي: الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا {من قبل} أي: من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية سبب عن قوله لهم ذلك قوله تعالى تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم {فسيقولون} ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله تعالى {بل} إنما قلتم ذلك لأنكم {تحسدوننا} فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء وقرأ هشام وحمزة والكسائي بإدغام اللام في التاء والباقون بالإظهار. {بل كانوا} أي: جبلة وطبعاً {لا يفقهون} أي: لا يفهمون فهم الحاذق الماهر {إلا قليلاً} أي: في أمر دنياهم ومن ذلك اقرارهم باللسان لأجلها، وأمّا أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً. {قل} أي: يا أشرف الرسل {للمخلفين} وزاد في ذمّهم بنسبتهم إلى الجلافة بقوله تعالى {من الأعراب} أي: أهل غلظ الأكباد {ستدعون} بوعد لا خلف فيه {إلى قوم أولي} أي: أصحاب {بأس شديد} أي: شدّة في الحرب وشجاعة قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس. وقال كعب: الروم. وقال الحسن: فارس والروم. وقال: سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة: هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد قال ابن الخازن: وأقوى هذه الأقوال قول من قال أنهم هوازن وثقيف، لأنّ الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده قول من قال أنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وقوله تعالى {تقاتلونهم أو يسلمون} فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما المقاتلة منكم وإمّا الإسلام منهم فإن لم يسلموا كان القتال لا غير وإن أسلموا لم يكن قتال لأنّ الغرض ليس إلا إعلاء كلمة الله تعالى {فإن تطيعوا} أي: توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك {يؤتكم الله} أي: الذي له الإحاطة {أجراً حسناً} دنيا وهو الغنيمة وأخرى وهي الجنة {وإن تتولوا} أي تعرضوا عن الجهاد {كما توليتم من قبل} أي عام الحديبية {يعذبكم} أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {عذاباً أليماً} لأجل تكرّر ذلك منكم فلما أنزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة كيف بنا يا رسول الله فأنزل الله عز وجلّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 {ليس على الأعمى} أي: في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الهدى {حرج} أي: ميل بثقل الإثم لأنه لا يمكنه الإقدام على العدوّ والطلب ولا يمكنه الاحتراز منه ولا الهرب {ولا على الأعرج} وإن كان نقصه أدنى من نقص الأعمى {حرج} وفي معنى الأعرج الزمن المقعد والأقطع {ولا على المريض} أي: بأي مرض كان يمنعه {حرج} وفي معناه صاحب السعال الشديد والطحال الكبير والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة، ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر كتمريض المريض الذي ليس له من يقوم مقامه عليه. تنبيه: جعل تعالى كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم وقدم الأعمى على الأعرج لأنّ عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج وقدم الأعرج على المريض لأنّ عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قرب. {ومن يطع الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً. المانع منها من يشاء وإن كان قوياً {ورسوله} من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه بأيّ طاعة كانت {يدخله} أي: الله الملك الأعظم جزاء له {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: من أيّ موضع أردت أجريت نهراً {ومن يتولّ} أي يعرض عن الطاعة ويستمّر على الكفر والنفاق {يعذبه} أي على توليه في الدارين أو إحداهما {عذاباً أليماً} أي مؤلماً وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون فيهما والباقون بالياء التحتية ولما بين تعالى حال المخلفين بعد قوله تعالى {إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} عاد إلى حال بيان المبايعين. بقوله تعالى: {لقد رضي الله} أي: الذي له الجلال والكمال {عن المؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان أي فعل بهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدّر لهم من الثواب وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعدّ لهم في الآخرة فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة وقوله تعالى {إذ} أي: حين {يبايعونك} منصوب برضى واللام في قوله تعالى {تحت الشجرة} للعهد الذهني وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية ولأجل هذا الرضا سميت بيعة الرضوان وقصتها «أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام حين نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة فهموا به فمنعه الأحابيش واحدها حبوش وهو الفوج من قبائل شتى فلما رجع دعا عمر ليبعثه فقال: إني أخافهم على نفسي لما أعرف من عدواتي إياهم وما بمكة عدوي يمنعني ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته فوقروه وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال ما أفعل قبل أن يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبس عندهم فأرجف أنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة» روى البغوي من طريق الثعلبي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وقال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. وروي أنّ عمر مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت فجعل بعضهم يقول ههنا وبعضهم يقول ههنا فلما كثر اختلافهم قال سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال: «قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت اليوم مبصراً لأريتكم مكان الشجرة» . وقيل: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها قال عبد الله بن المغفل: وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه فرفعت الغصن عن ظهره وبايعوه على الموت دونه على أن يفرّوا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم خير أهل الأرض» وكان عدد المبايعين ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين. وروى سالم عن جابر قال: كنا خمس عشرة مائة. وقال عبد الله بن أبي أوفى: كنا أصحاب الشجرة ألفاً وثلاثمائة. ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم سبب عنه قوله تعالى {فعلم} أي: بما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي: من الصدق والوفاء فيما بايعوا عليه {فأنزل السكينة} أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح {عليهم} أو بالتشجيع وسكون النفس في كل حالة ترضي الله ورسوله فلم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود {وأثابهم} أي: أعطاهم جزاء لهم على ما وهبوه من الطاعة {فتحاً قريباً} هو فتح خيبر عقب انصرافهم. وعن الحسن: فتح هجر، ونبه تعالى بصيغة منتهى الجموع في قوله تعالى. {ومغانم} على أنها عظيمة ثم صرّح بذلك بقوله تعالى {كثيرة تأخذونها} وهي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم {وكان الله} أي: الذي لا كفء له {عزيزاً} يغلب ولا يغلب {حكيماً} أي: يقضي ما يريد فلا ينقض فحكم لكم بالغنائم ولإعدائكم بالهلاك على أيديكم ليثيبكم عليه. {وعدكم الله} أي: الملك الأعظم {مغانم} وحقق معناها بقوله تعالى: {كثيرة تأخذونها} أي: فيما يأتي من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر. وليس المغانم كل الثواب بل الجنة والنظر إلى وجهه الكريم قدّامهم. وإنما هي كعاجلة عجل بها ولهذا قال تعالى: {فعجل لكم} أي: من الغنائم {هذه} أي: مغانم خيبر {وكف أيدي الناس عنكم} «وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة فكف الله تعالى أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم فنكصوا» وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح. وقوله تعالى: {ولتكون} أي: هذه المعجلة عطف على مقدّر أي لتشكروه ولتكون {آية} أي: علامة في غاية الوضوح {للمؤمنين} أي: أنهم من الله تعالى بمكان أو صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعدهم فتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية أو وعدهم الغنم أو عنواناً لفتح مكة. {ويهديكم صراطاً} أي: طريقاً {مستقيماً} أي: يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية وفتح خيبر. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرّم ثم خرج في سنة سبع إلى خيبر» روى أنس بن مالك «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 يغزو بنا حتى يصبح ينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبنا وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله محمد والخميس أي الجيش فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» وروى إياس بن سلمة قال: حدّثني أبي قال: «خرجنا إلى خبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعل عمي عامر يرنجز بالقوم ثم قال: *تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّينا ولا صلينا* *ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا* * ... وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا، قال: أنا عامر فقال: غفر لك ربك وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد إلا استشهد قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبيّ الله لولا متعتنا بعامر قال فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: *قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب* * ... إذا الحروب أقبلت تلتهب قال: فبرز له عامر بن عثمان فقال: *قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مقامر* فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فرجع سيف عامر على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال ذلك قلت ناس من أصحابك قال: من قال ذلك بل له أجره مرتين ثم أرسلني إلى عليّ وهو أرمد فقال: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرئ وأعطاه الراية وخرج مرحب وقال: *أنا الذي سمتني أمي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرّب* فقال علي كرّم الله تعالى وجهه: *أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة* * ... أكيلكم بالسيف كيل السندرة* قال: فضرب رأس مرحب فقتله. ثم كان الفتح على يديه» ومعنى أكيلكم بالسيف كيل السندره أي: أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسندرة مكيال واسع. قيل: يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي. والسندرة أيضاً العجلة والنون زائدة قال ابن الأثير وذكرها الجوهري في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها. وروي فتح خيبر من طرق أخر في بعضها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض. وقوله تعالى: {وأخرى} صفة مغانم مقدّراً مبتدأ وقيل: هي مبتدأ والخبر {لم تقدروا عليها} وهي كما قال ابن عباس: فارس والروم وما كانت العرب تقدر تقاتل فارس والروم بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليهما بالإسلام. وقال الضحاك: هي خيبر وعدها الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة: هي مكة. وقال عكرمة: حنين. وقال البقاعي: هي والله أعلم غنائم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها. {قد أحاط الله} أي: المحيط بكل شيء قدرةً وعلماً {بها} أي: علم أنها ستكون لكم {وكان الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً {على كل شيء} منها ومن غيرها {قديراً} أي: بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم. {ولو قاتلكم الذين كفروا} وهم أهل مكة ومن وافقهم وكانوا قد اجتمعوا وجمعوا الأحابيش ومن أطاعهم وقدّموا خالد بن الوليد طليعة لهم إلى كراع الغميم ولم يكن أسلم بعد {لولوا} أي: بغاية جهدهم {الأدبار} منهزمين {ثم} أي: بعد طول الزمان وكثرة الأعوان {لا يجدون} أي: في وقت من الأوقات {ولياً} أي: من يفعل معهم فعل القريب من الشفقة {ولا نصيراً} ينصرهم ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعهم {وإنّ جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 173) قال تعالى: {سنة الله} أي: سنّ المحيط بكل شيء علماً غلبة أنبيائه وأتباعهم {التي قد خلت من قبل} أي: فيمن مضى من الأمم. كما قال تعالى: {لأغلبنّ أنا ورسلي} (المجادلة: 21) {ولن تجد} أيها السامع {لسنة الله} أي: الذي لا يخلف قوله، لأنه محيط بجميع صفات الكمال {تبديلاً} أي: تغييراً من مغيّر ما يغيرها بما يكون بدلها ثم عطف على ما تقديره هو الذي سنّ هذه السنة العامة. قوله تعالى: {وهو الذي كف} أي: وحده {أيديهم} أي: الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم. فإنّ الكف مشروع لكل أحد {عنكم وأيديكم} أيها المؤمنون {عنهم ببطن مكة} أي: بالحديبية وقيل التنعيم. وقيل وادي مكة. وقيل: داخل مكة {من بعد أن أظفركم} أي: أظهركم {عليهم} وهذا تبيين لما تقدّم من قوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} (الفتح: 22) بتقدير أنه كما كف أيديهم عنكم بالفرار وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم روى ثابت عن أنس بن مالك «أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سلماً فاستحياهم فنزلت هذه الآية» . وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله أبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أماناً قالوا: اللهم لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وعن ابن عباس أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت وقيل: إن ذلك كان يوم فتح مكة وبه استشهد أبو حنيفة على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً {وكان الله} أي: المحيط بالجلال والإكرام أزلاً وأبداً وقرأ {بما يعملون} أبو عمرو: بالياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 التحتية أي الكفار. والباقون بالتاء الفوقية، أي: أنتم {بصيرا} أي: محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره ولما كان ما مضى من وصف الكفار يشمل كفار مكة وغيرهم عينهم بسبب كفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن البيت الحرام. بقوله تعالى: {هم} أي: أهل مكة ومن لاقهم {الذين كفروا} أي: أوغلوا في هذا الوصف ببواطنهم وظواهرهم {وصدّوكم} زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية {عن المسجد الحرام} أي: منعوكم الوصول إلى مكة ونفس المسجد والكعبة للإحلال مما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة. روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم كل منهما يصدق حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الإشطاط قريباً من عسفان أتاه عتبة الخزاعي. وقال: إنّ قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت الحرام. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أيها الناس أترون أني أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن لجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر يا رسول الله إنما جئت عامداً لهذا البيت لا نريد قتال أحد ولا حرباً فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال امضوا على اسم الله فنفروا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ خالداً بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بغبرة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته. فقال الناس: حل حل فألحت فقالوا: خلأت أي حرنت القصواء. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً فلم تلبث الناس أن نزحوه وشكا الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم العطش فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل في البئر فغرزه في جوفه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي نزلا مع جمع أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدّة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن أبوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 فو الذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري. هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فقال بديل: سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: أي قوم ألستم بالوالد. قالوا: بلى قال: أولست بالولد. قالوا بلى. فقال فهل تتهموني قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال: فإنّ هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت أحداً من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فو الله إني أرى وجوهاً وأشواباً من الناس خليقاً أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر الصدّيق: امصص بظر اللات والعزى أنحن نفر عنه وندعه. فقال: من ذا. قالوا: أبو بكر فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه وقال: من هذا قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك. وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمّا الإسلام فهدم ما قبله وأمّا المال فلست منه في شيء ثم إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فو الله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن أي ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله إن أي ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم وما يجدون النظر إليه تعظيماً له وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثوها له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدّوا عن البيت. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صدّه. الهدي في قلائده قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محله. قالوا له: اجلس فإنما أنت رجل أعرابيّ لا علم لك فغضب الحليس عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظماً له والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا: مه كف عنايا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل يقال له مكرز بن حفص. فقال: دعوني آته فقالوا له ائته فلما أشرف عليهم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاءه سهيل بن عمر. وقال عكرمة: لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد سهل لكم من أمركم قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات نكتب بيننا وبينك كتاباً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أمّا الرحمن فلا أدري من هو ولكن اكتب باسمك اللهمّ كما كنت تكتب فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلي: اكتب باسمك اللهمّ. ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري: وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» . فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن الناس فيه ويكف بعضهم عن بعض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل: والله لا تتحدّث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذاك من العام المقبل. فكتب فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً. وروى ابن إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله قال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي: امح رسول الله فقال: والله لا أمحوك أبداً فقال فأرينه فأراه إياه فمحاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده. وفي رواية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله قال البراء: صالح على ثلاثة أشياء على أنّ من أتى من المشركين يردّه إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه على أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه. وروى في صلح الحديبية طرق أخر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض. وقوله تعالى {والهدي} معطوف على كم من صدوكم أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين. وقوله تعالى: {معكوفاً} أي: محبوساً حال وقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 {أن يبلغ محله} أي: مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم بدل اشتمال {ولولا رجال} أي: مقيمون بين أظهر الكفار بمكة {مؤمنون} أي: غريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية {ونساء مؤمنات} أي: كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأنّ الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أنّ ذلك شامل لمن جبله الله تعالى على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت كافراً {لم تعلموهم} أي: لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوّة التمييز منهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب ثم أبدل من الرجال والنساء قوله تعالى: {أن تطؤهم} أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحو ذلك. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أشدد وطأتك على مضر» {فتصيبكم} أي: فيتسبب عن هذا الوطء أن تصيبكم {منهم} أي: من جهتهم وبسببهم {معرّة} أي: مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتغيير الكفار بذلك والإثم بالتقصير في البحث مفعلة من عرّه إذا عراه ما يكرهه وقوله تعالى: {بغير علم} متعلق بأن تطؤوهم أي: غير عالمين بهم وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه. والمعنى ولولا كراهة أن تهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكافرين جاهلين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم. فإن قيل: أي: معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون، أجيب: بأنهم يصيبهم وجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. وقوله تعالى: {ليدخل الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال متعلق بمقدّر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله. قال البغوي: اللام في {ليدخل} متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله {في رحمته} أي: في إكرامه وإنعامه {من يشاء} بعد الصلح قبل أن يدخولها من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه. وقوله تعالى: {لو تزيلوا} يجوز أن يعود على المؤمنين فقط أو على الكافرين أو على الفريقين والمعنى لو تميز هؤلاء من هؤلاء {لعذبنا} أي: بأيديكم بتسليطنا لكم عليهم بالقتل والسبي {الذين كفروا} أي: أوقعوا ستر الإيمان {منهم} أي: أهل مكة {عذاباً أليماً} أي شديد الإيجاع. قال قتادة: في الآية أنّ الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكافرين كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بين وقته وفيه بيان العلة. فقال تعالى: {إذ} أي: حين {جعل الذين كفروا} أي: ستروا ما تراءى من الحق في مرائي عقولهم وقوله تعالى: {في قلوبهم} أي: في قلوب أنفسهم يجوز أن يتعلق بجعل على أنها بمعنى ألقى فتتعدّى لواحد أي إذ ألقى الكافرون في قلوبهم الحمية وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان قدّم على أنها بمعنى صير {الحمية} أي: المنع الشديد والإباء الذي هو في شدّة حرّه ونفوذه في أشدّ الأجسام كالسمّ والنار وأنشدوا: *إلا إنني منهم وعرضي عرضهم ... كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما* وقرأ أبو عمر وفي الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي: بضم الهاء والميم والباقون: بكسر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 الهاء وضم الميم وأظهر الذال عند الجيم نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون وقوله تعالى: {حمية الجاهلية} بدل من الحمية قبلها ووزنها فعلية وهي مصدر يقال حميت من كذا حمية وحمية الجاهلية: هي التي مدارها مطلق المنع سواء كان بحق أم باطل فتمنع من الإذعان للحق ومبتاها على التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرّفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء. قال مقاتل: قال أهل مكة قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخول علينا فتتحدّث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم. {فأنزل الله} أي: الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم {سكينته} أي: الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدوّ والنصر عليه انزالاً كافياً {على رسوله} الذي عظمته من عظمته ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه {وعلى المؤمنين} أي: الغريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره وحماهم من همزات الشياطين ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية فيقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع {وألزمهم} أي: المؤمنين إلزام إكرام وتشريف لا إلزام إهانة وتعنيف {كلمة التقوى} فإنها السبب الأقوى وهي كل قول أو فعل ناشىء عن التقوى وأعلاه كلمة الإخلاص المتقدّمة في القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق ولا بدّ من قول محمد رسول الله وإلا لم يتم إسلامه وعن الحسن: كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد. ومعنى إضافتها إلى التقوى إنها سبب التقوى وأساسها، وقيل: كلمة أهل التقوى وقيل هي بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله {وكانوا} أي: جبلة وطبعاً {أحق بها} أي: كلمة التقوى من الكفار {وأهلها} أي: وكانوا أهلها في علم الله تعالى لأنّ الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير {وكان الله} أي: المحيط علماً وقدرةً {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً} أي: محيط العلم وروي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام في المدينة عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون ويقصرون فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا معه وصدّهم الكفار بالحديبية رجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين فأنزل الله» . قوله تعالى: {لقد صدق الله} أي: الذي لا كفؤ له المحيط بجميع صفات الكمال {رسوله} الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الأخبار عما لا يكون أنه يكون فيكف إذا كان المخبر رسوله {الرؤيا} التي هي من الوحي أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوّاً كبيراً. فحذف الجار وأوصل الفعل. كقوله تعالى: {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب: 23) وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري «قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم: ما بال الناس قالوا: أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فخرجنا نرجف فوجدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته على كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده» ففيه دليل على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 المراد بالفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال جل ذكره {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق وقوله تعالى {بالحق} فيه أربعة أوجه. أحدها: أنه يتعلق بصدق. ثانيها: أن يكون صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً بالحق أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض. ثالثها: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق. رابعها: له قسم وجوابه {لتدخلن} أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره {المسجد} أي: الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلا بدخول الحرم {الحرام} أي: الذي أجاره من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم. قال الزمخشري: وعلى تقديره قسماً إمّا أن يكون قسماً بالله تعالى فإنّ الحق من أسمائه تعالى وأمّا أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل. فإن قيل: ما وجه دخول {إن شاء الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال أجيب بأوجه أحدها: أنه تعالى ذكره تعليماً لعباده الأدب لأن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدبين بآداب الله ومقتدين بسنته لقوله تعالى {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23 ـ 24) ثانيها: أن يريد لتدخلنّ جميعاً إن شاء الله. ولم يمت منكم أحد. ثالثها: أن ذلك كان على لسان ملك فأدخل الملك إن شاء الله. رابعها: إنها حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقص عليهم. وقال أبو عبيدة: أن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. كقوله تعالى {إن كنتم تعلمون} (الجمعة: 9) خامسها: إنها للتبرّك وقيل هي متعلقة بآمنين فالاستثناء مواقع على الأمن لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك كقوله صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة وإنا إن شاء الله بكم لاحقون فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت. وقوله تعالى: {آمنين} حال من فاعل لتدخلن وكذا {محلقين رؤوسكم} أي: كلها {ومقصرين} أي: بعضها أي منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين لا تخشون إلا الله تعالى وفيه إشارة إلى أنهم يتمون الحج من أوّله إلى آخره فقوله {لتدخلن} فيه إشارة إلى الأوّل وقوله {محلقّين} {ومقصرين} إشارة إلى الآخر فإن قيل محلقين حال الداخلين والداخل لا يكون إلا محرماً والمحرم لا يكون محلقاً أجيب بأنّ قوله آمنين معناه متمكنين من أن تتموا الحج محلقين ومقصرين وأشار بصيغة التفعيل إلى الكثرة فيهما غير أن التقديم يفهم أنّ الأول أكثر. وقوله تعالى: {لا تخافون} أي: لا يتجدّد لكم خوف بعد ذلك يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً ثالثة أمّا من فاعل لتدخلنّ أو من ضمير آمنين أو محلقين أو مقصرين فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلنّ فهي حال للتوكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدّرة إلا قوله {لا تخافون} إذا جعل حالاً فإنها مقدّرة أيضاً فإن قيل: قوله تعالى: {لا تخافون} معناه غير خائفين وذلك يحصل بقوله تعالى: {آمنين} أجيب: بأنّ فيه كمال الأمن لأنّ بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم. فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم من الإحرام {فعلم} أي: الله في الصلح من المصلحة {ما لم تعلموا} من المصالح فإنّ الصلاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 كان في الصلح وإنّ دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهو قوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} (الفتح: 25) الآية. فإن قيل: الفاء في قوله تعالى: {فعلم} فاء التعقيب فقوله تعالى: {فعلم} وقع عقب ماذا أجيب: بأنه إن كان المراد من {فعلم} وقت الدخول فهو عقب صدق وإن كان المراد فعلم المصلحة فالمراد علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب والتقدير لما حصلت المصلحة في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجدّدة {فجعل} أي: بسبب إحاطة علمه {من دون} أي: أدنى رتبة من {ذلك} أي: الدخول العظيم في هذا العام {فتحاً قريباً} يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض الموجب لإسلام ناس كثيرة تتقوون بهم فتكون تلك الكثرة والقوّة بسبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال فقتل القتلى ترفقاً بأهل حرم الله إكراماً لهذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم u وقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله} أي: الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه {بالهدى} أي: الكامل الذي يقتضي أن يهتدي به أكثر الناس تأكيداً لبيان صدق الله تعالى للرّؤيا لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي لا يريه ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سبباً للضلال. فإن قيل: الرؤيا للواقع قد تقع لغير المرسل أجيب: بأنّ ذلك قليل لا يقع لكل أحد تنبيه الهدي يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى: {أنزل فيه القرآن هدى للناس} (البقرة: 185) وعلى هذا قوله تعالى: {ودين الحق} هو ما فيه من الأصول والفروع ويحتمل أن يكون الهدي هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة فيكون قوله تعالى {ودين الحق} إشارة إلى ما شرع والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء} وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هدى تنبيه دين الحق يحتمل أن يكون المراد دين الله لأنّ الحق من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يكون الحق نقيض الباطل فكأنه قال ودين الأمر الحق {ليظهره} أي: دينه {على الدين كله} أي: جميع باقي الأديان {وكفى بالله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {شهيداً} أي: على أنك مرسل بما ذكر كما قال تعالى. {محمد رسول الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له فهو الرسول الذي لا رسول يساويه فإنه رسول إلى جميع الخلق من أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدّمه بالقوّة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا به إن أدركوه وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم وأشار بذكر هذا الاسم بخصوصه في سورة الفتح إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الخاتم بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج واستنبط بعض العلماء من محمد ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً فقال فيه ثلاث ميمات وإذا بسطت كل منهما قلت فيه م ي م وعدّتها بحساب الجمل الكبير تسعون فيحصل منها مائتان وسبعون وإذا بسطت الحاء والدال قلت دال بخمسة وثلاثين، وحاء بتسعة فالجملة ما ذكر والاسم واحد فتم عدد الرسل كما قيل أنهم ثلاثمائة وخمسة عشر وقد تقدّم الكلام على أولي العزم منهم في سورة الأحقاف. تنبيه: يجوز أن يكون محمد خبر مبتدأ مضمر لأنه لما تقدّم هو الذي أرسل رسوله دل على ذلك المقدّر أي هو أي الرسول بالهدى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 محمد. ورسول الله بدل أو بيان أو نعت وأن يكون محمد مبتدأ وخبره رسول الله وقيل غير ذلك. ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى {والذين معه} أي: بمعية الصحبة من الصحابة وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان {أشدّاء} أي: غلاظ {على الكفار} منهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته لأنّ الله تعالى أمرهم بالغلظة عليهم لا يرحمونهم {رحماء بينهم} أي: متعاطفون متوادّون كالوالد مع الولد. كما قال تعالى {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: 54) وعن الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه، ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التذلل وهذا التعطف فيشددوا على من ليس من دينهم ويتحاموه ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام متعطفين بالبر والصلة والمعونة وكف الأذى والاحتمال منهم. تنبيه: والذين معه مبتدأ خبره أشدّاء على الكفار ورحماء بينهم خبر ثان وقيل غير ذلك. ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله سبحانه وتعالى {تراهم} أي: أيها الناظر لهم {ركعاً سجداً} أي: دائمين الخشوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملكية على صفاتهم الحيوانية فكانت الصلاة آمرة بالخير مصينة عن كل نقص وضير. ثم أشار إلى إخلاصهم بقوله تعالى {يبتغون} أي: يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم {فضلاً} أي: زيادة من الخير {من الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال من الجلال والجمال الذي أعطاهم ملكة العظمة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرأفة على أوليائه {ورضواناً} أي: رضاً منه عظيماً بما نالهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره ولا محسن سواه. ثم بين كثرة صلاتهم. بقوله تعالى: {سيماهم} أي: علامتهم التي لا تفارقهم {في وجوههم} ثم بين تعالى العلامة بقوله {من أثر السجود} وهو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى {يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه} (آل عمران: 106) رواه عطية العوفيّ عن ابن عباس. وعن أنس هو استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال مجاهد هو السمت الحسن والخشوع والتواضع والمعنى أنّ السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك: هو صفرة الوجه. وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال عكرمة: هو أثر التراب على الجباه. قال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الثياب. وقال عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لأنّ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. قال بعضهم: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. قال البقاعي: ولا يظن أنّ من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإنّ ذلك من سيما الخوارج. وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثقات ومنه حديث أبي الدرداء أنه رأى رجلاً بين عينيه مثل ثغنة البعير فقال: لو لم يكن هذا كان خيراً يعني كان على جبهته أثر السجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وإنما كرهها خوفاً من الرياء عليه. وعن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود» وعن بعض المتقدّمين: كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير فلا ندري أثقلت الرؤوس أم خشنت الأرض. وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق ثم أشار تعالى إلى علو مرتبة ذلك الوصف بقوله سبحانه: {ذلك} أي: هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال {مثلهم} أي: صفتهم {في التوراة} وههنا تم الكلام فإن مثلهم: مبتدأ وخبره في التوراة وقوله تعالى: {ومثلهم في الإنجيل} أي: الذي نسخ الله تعالى به بعض أحكام التوراة مبتدأ وخبره {كزرع} أي: مثل زرع {أخرج شطأه} أي: فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ وهل يختص ذلك بالحنطة فقط أو بها وبالشعير أو لا يختص خلاف مشهور قال الشاعر: *أخرج الشطأ على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر وقرأ ابن كثير وابن ذكوان: بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنهر والنهر وأدغم أبو عمرو الجيم في الشين بخلاف عنه ثم سبب عن هذا الإخراج قوله تعالى: {فآزره} أي: قواه وأعانه. وقرأ ابن ذكوان: بقصر الهمزة بعد الفاء والباقون بالمدّ. {فاستغلظ} أي: فطلب المذكور من الزرع والشطء الغلظ وأوجده فتسبب عن ذلك اعتداله {فاستوى} أي: قوى واستقام وقوله تعالى: {على سوقه} متعلق باستوى ويجوز أن يكون حالاً أي كائناً على سوقه أي قائماً عليها، هذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون. قال قتادة: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقيل: الزرع محمد صلى الله عليه وسلم والشطء: أصحابه والمؤمنون. وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه أبو بكر الصدّيق. أشدّاء على الكفار: عمر بن الخطاب. رحماء بينهم: عثمان بن عفان. تراهم ركعاً سجداً: علي بن أبي طالب يبتغون فضلاً من الله العشرة المبشرون بالجنة كمثل زرع محمد صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه أبو بكر فآزره عمر، فاستغلظ عثمان يعني استغلظ عثمان بالإسلام، فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب رضى الله عنه استقام الإسلام بسيفه. {يعجب الزرّاع} قال: المؤمنون {ليغيظ بهم الكفار} قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم: لا يعبد الله سراً بعد اليوم روى أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أرحم أمّتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبيّ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل، ولكل أمّة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح» وفي رواية أخرى وأقضاهم علي وروى بريدة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة» . تنبيه: يعجب حال أي معجباً وهنا تم الكلام. وقوله تعالى {ليغيظ بهم الكفار} فيه أوجه: أحدها: أنه متعلق بمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم وقوّتهم. قال الزمخشري: أي شبههم الله تعالى بذلك ليغيظ. ثانيها: أنه متعلق بما دل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 عليه قوله تعالى {أشدّاء} متعلق على الكفار الخ أي: جعلهم بهذه الصفات ليغيظ. ثالثها: أنه متعلق بقوله تعالى: {وعد الله} أي: الملك الأعظم {الذين آمنوا} لأنّ الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا وما أعدّ الله لهم في الآخرة غاظهم ذلك. وقوله تعالى: {وعملوا الصالحات} فيه إشارة إلى تصديق دعواهم ومن في قوله تعالى: {منهم} للبيان لا للتبعيض لأنهم كلهم كذلك فهي كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عما يجب لله تعالى من العبادة. أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {مغفرة} أي: لما يقع منهم من الذنوب والهفوات {وأجراً عظيماً} بعد ذلك الستر وهو الجنة. وهما أيضاً لمن بعدهم ممن يأتي. فائدة قد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلوّ نصرهم رضى الله عنهم وحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه. قال: وهذا آخر القسم الأوّل من القرآن، وهو المطوّل وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وحاصلهما: الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً. كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما: نصره له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطناً وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة» حديث موضوع. وقال ابن عادل: روى أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} في التطوّع حفظ في ذلك العام ولم أره لغيره ا. هـ. سورة الحجرات مدنية وهي: ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمةوألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفاً {بسم الله} الجبار المتكبر الذي أعز رسوله صلى الله عليه وسلم {الرحمن} الذي من عموم رحمته الآداب للتوصل إلى حسن المآب {الرحيم} الذي خص أولي الألباب بالإقبال على ما يوجب لهم دار الثواب. ولما نوّه سبحانه في القتال بذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم وصرّح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به وملأ سورة الفتح بتعظيمه وختمها باسمه ومدح أتباعه لأجله افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {لا تقدّموا} من قدم بمعنى تقدّم أي لا تتقدّموا وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه، فيذهب الوهم كل مذهب ويجوز أن يكون حذفه من غير قصد إليه أصلاً بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل {بين يدي الله} أي: الملك الأعظم الذي لا يطاق انتقامه {ورسوله} أي: الذي عظمته ظاهرة جدّاً لا نهاية له، لأنّ عظمته من عظمته، ولذلك قرن اسمه باسمه واختلف في سبب نزول ذلك. فقال الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة. أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك «أن أناساً ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وقال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 النسك في شيء» . وعن مسروق عن عائشة رضى الله عنها: أنه في النهي عن صوم يوم الشك. أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وعن ابن الزبير: «أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة وقال عمر بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية» . قال ابن الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وعن ابن أبي مليكة: نزل {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} وهذا أنسب. وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين أي لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله. قال الرازي: والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات وتقدّم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة. تنبيه: معنى بين يدي الله ورسوله أي: بحضرتهما لأنّ ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وحقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً. كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة هنا على ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً. وقيل: المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعالى تعظيم له وإشعار بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله {واتقوا الله} اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإنّ التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره أو تقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه {إن الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال {سميع} لأقوالكم {عليم} بأعمالكم. ونزل فيمن رفع صوته عند النبيّ عليه الصلاة والسلام. {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} أي: في شيء من الأشياء عند النطق إذا نطقتم {فوق صوت النبيّ} إذا نطق. تنبيه: في إعادة النداء فوائد: منها أنّ في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه: {يا بنيّ لا تشرك بالله} (لقمان: 13) ، {يا بنيّ إنها إن تك} (لقمان: 16) ، {يا بنيّ أقم الصلاة} (لقمان: 17) ، لأنّ النداء تنبيه للمنادي ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً فإن من الجائز أن يقول القائل: يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو. فإذا أعاد مرة أخرى وقال: يا زيد قل يا زيد قل كذا وقل كذا يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيداً للأوّل كقولك: يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق وأنه لا يحسن أن يقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين {ولا تجهروا له بالقول} أي: إذا كلمتموه سواء كان ذلك مثل صوته أو أخفض من صوته، فإنّ ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء {كجهر بعضكم لبعض} أي: ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين غيره. فإن قيل: ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا؟. أجيب: بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى: {أن} أي: كراهة أن {تحبط} أي: تفسد فتسقط {أعمالكم} التي هي الأعمال بالحقيقة، وهي الحسنات كلها {وأنتم لا تشعرون} أي: بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا أجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر، روى أنس بن مالك قال: «لما نزل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت: نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد لنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال بل هو من أهل الجنة» . وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال: وما يبكيك يا ثابت. قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش. فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال: اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت فقال: أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة. فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل. {إنّ الذين يغضون} أي: يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين {أصواتهم} تخشعاً وتخضعاً ورعايةً للأدب وتوقيراً {عند رسول الله} أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب {أولئك} أي عالو الرتبة {الذين امتحن الله} أي: فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر {قلوبهم للتقوى} أي: اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. {لهم مغفرة} أي: لهفواتهم وزلاتهم {وأجر عظيم} لغضهم وسائر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 طاعاتهم. والتنكير للتعظيم. قال أنس: فكنا أي بعد نزول هذه الآية في حق ثابت ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان في يوم حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الإنكسار فانهزمت طائفة منهم فقال: أفّ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له: اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستنّ في طوله، وقد وضع على درعي ثوبه فائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن عليّ ديناً حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤية فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. واختلف في سبب نزول قوله عز وجل: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} فقال ابن عباس رضى الله عنهما: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني النضير وأمر عليهم عتبة بن حصن الغزاوي فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عتبة وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً في أهله، فلما رأتهم الذراري اجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم.l فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا. فنزل جبريل عليه السلام فقال إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد وهو الأعور بن بسامة فرضوا به فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم» فأنزل الله تعالى {إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات} جمع حجرة وهي ما تحجره من الأرض بحائط ونحوه. كان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء {أكثرهم} أي: المنادي والراضى دون الساكت لعذر {لا يعقلون} أي: محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، فلم يصبروا بل فعلوا معه صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعضهم ببعض. {ولو أنهم} أي: المنادي والراضي {صبروا} أي: حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، وهو حبس فيه شدّة وصبر. {حتى تخرج إليهم} من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق {لكان} أي: الصبر {خيراً لهم} أي: من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة. ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة. قال أبو عثمان: الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى ا. هـ فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم صلى الله عليه وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 وأطلقهم بلا فداء. {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {غفور} أي: ستور ذنب من تاب من جهله {رحيم} أي: يعاملهم معاملة الراحم، فيسبغ عليهم نعمه. وقال قتادة: «نزلت في ناس من أعراب تميم جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين. فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبيّ صلى الله عليه وسلم قم فأجبه فأجابه. وقام شاعر فذكر أبياتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: أجبه فأجابه. فقام الأقرع بن حابس فقال: إنّ محمداً المولى تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يضرّك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهيم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ} الآيات الأربع إلى قوله تعالى: {غفور رحيم} وقال زيد بن أرقم جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكاً نعش في جناحه. فجاؤوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد. فأنزل الله تعالى {إنّ الذين ينادونك} الآية وقيل: المراد بأكثرهم كلهم. لأنّ العرب تذكر الأكثر وتريد الكل احتراز عن الكذب واحتياطاً في الكلام. لأنّ الكل ما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل. ثم إنّ الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة، وهي أنّ الله تعالى يقول مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضاي بذلك منكم. تنبيه: جعل الزمخشري أنهم من ولو أنهم فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم وجعل اسم كان ضميراً عائداً على هذا الفاعل. ولكن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم كان ضميراً عائداً على صبرهم المفهوم وجرى على الأوّل البيضاوي، وعلى الثاني الجلال المحلى واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم} أي: في وقت من الأوقات {فاسق} أي: خارج من ربقة الديانة {بنبأ} أي: خبر يعظم خطبه فيثير شرّاً {فتبينوا} صدقه من كذبه. فقال أكثر المفسرين: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان لأمه. «وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد الوقعة والياً ومصدقاً أي يأخذ منهم الصدقة وكان بينه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكره وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار. ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر» فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} {أن تصيبوا} أي: بأذى {قوماً} أي: هم مع قوّتهم النافعة لأهل الإسلام برآء مما نسب إليهم {بجهالة} أي: مع الجهل بحال استحقاقهم لذلك {فتصبحوا} أي: فتصيروا ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته {على ما فعلتم} أي: من إصابتهم {نادمين} أي: غريقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله تعالى في نفوسكم من أمور ترجف القلوب. وقال الرازي: هذا ضعيف لأنّ الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قال وردت الآية لبيان ذلك حسب غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية مما يصدق ذلك ويؤيده أنّ إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقاً فكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان كقوله تعالى: {إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين} (المنافقون: 6) وقوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} (الكهف: 50) وقوله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} الآية إلى غير ذلك ا. هـ وقال ابن الخازن في تفسيره: وقيل هو عام نزلت لبيان التثبيت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهذا أولى من حكم الآية على رجل بعينه. تنبيه: قوله تعالى: {أن تصيبوا} مفعول له كقوله تعالى: {أن تحبط} (الحجرات: 2) قال الرازي: معناه على مذهب الكوفيين لئلا تصيبوا وعلى مذهب البصريين كراهة أن تصيبوا وقرأ حمزة والكسائي: بعد التاء المثناة بثاء مثلثة وبعد الباء الموحدة بتاء مثناة فوق من التثبت أي: فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. والباقون بعد التاء المثناة بباء موحدة وبعدها ياء تحتية وبعدها نون من البيان. {واعلموا} أي: أيتها الأمة {أن فيكم} أي: على وجه الاختصاص بكم ويا له من شرف {رسول الله} أي: الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام فلا تقولوا الباطل فإنّ الله يخبره بالحال {لو يطيعكم} وهو لا يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم {في كثير من الأمر} أي: الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم، وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطواع لغيره التابع له فينقلب حينئذ الحال ويصير المتبوع تابعاً، والمطاع طائعاً، {لعنتم} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 لأثمتم دونه وهلكتم. لأنّ من أراد أن يكون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم تابعاً لأمره فقد زين له الشيطان الكفران وقوله تعالى: {ولكن الله} أي: الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد {حبب إليكم الإيمان وزينه} أي: حسنه {في قلوبكم} فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته استدراك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لبيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإيمان وكرهتهم للكفر كما قال تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} حملهم على ذلك ما سمعوا قول الوليد أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إخماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل. قال الرازي: هذه الأمور الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل المزين وهو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان فقوله تعالى {كرّه إليكم الكفر} وهو التكذيب وهو في مقابلة التصديق بالجنان وأمّا الفسوق فقيل هو الكذب كما قاله ابن عباس قال تعالى {إن جاءكم فاسق بنبأ} فسمى الكاذب فاسقاً وقال البيضاوي: الكفر تغطية نعم الله بالجحود والفسوق الخروج عن القصد والعصيان الامتناع عن الانقياد. وقال بعضهم: الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة {أولئك} أي: الذين أعلى الله تعالى مقاديرهم {هم الراشدون} أي: الكاملون في الرشد الثابتون الاستقامة وعلى دينهم وفي تفسير الأصفهاني الرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه. وقوله تعالى: {فضلاً} مصدر منصوب بفعله المقدّر أي فضل وقيل: تعليل لكرّه أو حبب، وما بينهما اعتراض فهو امتنان عظيم ودرجة عالية {من الله} أي: الملك الأعظم الذي بيده كل شيء {ونعمة} أي: وعيشاً حسناً ناعماً وكرامة {والله} أي: المحيط بصفات الكمال {عليم} أي: محيط العلم يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل. {حكيم} أي: بالغ الحكمة، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها فكذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته ونزل في قضية. {وإن طائفتان من المؤمنين} الآية وهي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ركب حماراً ومرّ علي ابن أبيّ فبال الحمار فسدّ ابن أبيّ أنفه فقال ابن رواحة لبول حماره: أطيب ريحاً من مسكك فكان بين قومهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف. وعن أنس قال: «قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبيّ فانطلق إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه وهو بأرض سبخة فلما أتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم» . ويروى أنهما لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وعن قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف. وعن سفيان عن السدي قال: كانت امرأة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 من الأنصار يقال لها أمّ زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت. وجمع تعالى قوله سبحانه: {اقتتلوا} نظراً للمعنى لأنّ كل طائفة جماعة وثنى الضمير في قوله تعالى: {فأصلحوا} أي: أوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح {بينهما} نظراً للفظ أي: أصلحوا بينهما بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى {فإن بغت} أي: أوقعت الإرادات السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير {إحداهما} أي: الطائفتين {على الأخرى} فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق {فقاتلوا} أي: اطلبوا وأوجدوا مقاتلة {التي تبغي} أي توقع الإرادة السيئة وتصرّ عليها وأديموا القتال لها {حتى تفيء} أي: ترجع عما صارت إليه من حرّ القطيعة الذي كأنه حرّ الشمس حتى نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البرد والخير الذي هو كالظل الذي نسخته الشمس. وهو معنى قوله تعالى: {إلى أمر الله} أي: التزام ما أمر به الملك الذي لا يهمل الظالم بل لا بدّ من أن يقاصصه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء والباقون بتحقيقهما {فإن فاءت} أي: رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل {فأصلحوا} أي: أوقعوا الإصلاح {بينهما بالعدل} أي: بالإنصاف ولا يحملنكم القتال على الحقد على المقاتلين فتحيفوا {وأقسطوا} أي: وأزيلوا القسط بالفتح وهو الجور، بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل الذي لا جور فيه في ذلك، وفي جميع أموركم ثم علله ترغيباً فيه بقوله تعالى مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به ورداً على من لعله يقول أنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده الأضعف {إن الله} أي: الذي بيده النصر والخذلان {يحب المقسطين} أي: يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب. {إنما المؤمنون} أي: كلهم وإن تباعدت أنسابهم وبلادهم {إخوة} أي: في الدين لانتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان ولما كانت الأخوة داعية ولا بدّ إلى الإصلاح تسبب عنها قوله تعالى: {فأصلحوابين أخويكم} كما تصلحون بين أخويكم من النسب ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمور مبالغة في التقرير والتحضيض وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهما الشقاق. وعن أبي عثمان الحيري: أنّ أخوة الدين أثبت من أخوة النسب فإنّ أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب {واتقوا الله} أي: الملك الأعظم في مخالفة حكمه والإهمال فيه {لعلكم ترحمون} أي: لتكونوا إذا فعلتم ذلك على رجاء عند أنفسكم أن يكرمكم الذي لا قادر على الإكرام في الحقيقة غيره بأنواع الكرامات كما رحمتم إخوانكم بإكرامكم عن إفساد ذات البين. وعن الزهري عن سالم عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» . تنبيه: في هاتين الآيتين دليل على أنّ البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنّ الله تعالى سماهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين يدل عليه ما روى عن عليّ بن أبي طالب سئل وهو القدوة في قتال أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 البغي عن أهل الجمل وصفين أمشركون. فقال: لا من الشرك فرّوا فقيل: أمنافقون هم فقال: لا إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما حالهم قال: إخواننا بغوا علينا. والباغي في الشرع هو الخارج عن الإمام العدل بتأويل محتمل وشوكة لهم ومطاع تحصل به قوّة الشوكة، وإن لم يكن لهم إمام والحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام أميناً فطناً ناصحاً ينصحهم ما ينقمون فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها وإن أصروا نصحهم ثم أعلمهم بالقتال، فإن استمهلوا اجتهد وفعل ما رآه صواباً. والحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت عائلتهم ولا يستعمل في قتال إلا لضرورة ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق إلا لضرورة، ولو أقاموا حدّ أو أخذوا زكاة وجزية وخراجاً وفرّقوا أسهم المرتزقة على جندهم صح ما فعلوه، وما أتلفه باغ على عادل وعكسه إن كان بسبب قتال فلا ضمان على واحد منهما، وإلا فعلى المتلف الضمان. قال ابن سهل: كانت في تلك الفتنة دماء يغرق في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالاً أتلفه ولو أظهر قوم رأي الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذي كبيرة ولم يقاتلوا فلا نتعرّض لهم. روي أنّ علياً سمع رجلاً يقول في ناحية المسجد. لا حكم إلا لله تعالى. فقال عليّ رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاثة لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دام أيديكم مع أيدينا ولا نبدئكم بقتال فإن قاتلوا فحكمهم حكم قطاع الطريق، وتفريعات أحكام البغاة مذكورة في الفقه. وفي هذا القدر كفاية. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: أوقعوا الإقرار بالتصديق {لا يسخر} أي: لا يهزأ والسخرية: هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته {قوم} أي: ناس فيهم قوة المحاولة وهم الرجال وفي التعبير بذلك تنبيه على قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده من النقائص منكراً لما أعطاه الله تعالى من القوّة {من قوم} أي: من رجال، فإنّ ذلك يوجب الشرّ لأنّ أضعف الناس إذا استهزئ به قوي لما يثور عنده من حظ النفس. فقال ابن عباس: «نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنه وقر أي ثقل فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضنّ أي بخل كل رجل منهم بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً قام قائماً فلما فرغ ثابت من صلاته أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول تفسحوا تفسحوا فجعلوا يتفسحون حتى انتهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح فقال الرجل: قد أصبت مجلساً فاجلس. فجلس ثابت خلفه مغضباً فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال: من هذا. فقال له: أنا فلان فقال له ثابت: ابن فلانة ذكر أمّاً له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه فاستحيا فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وقال الضحاك نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 بفقراء أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخبيب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم. ومعنى الآية: لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم ثم علل النهي بقوله تعالى: {عسى} أي: لأنه جدير وخليق لهم {أن يكونوا} أي: المستهزأ بهم {خيراً منهم} فينقلب الأمر عليهم وتكون لهم سوء العاقبة. قال ابن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أحوّل كلباً وقال القشيري: ما استصغر أحد أحداً إلا سلط عليه ولا ينبغي أن يغتر بظاهر أحوال الناس، فإنّ في الزوايا خبايا. والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة وكذا في الخبر كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره. {ولا} يسخر {نساء من نساء} ثم علل النهي بقوله تعالى: {عسى} أي: ينبغي أن يخفن من {أن يكن} أي: المسخور بهنّ {خيراً منهنّ} أي الساخرات. روي أنها نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم عيرن أمّ سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قال لها النساء يهودية بنت يهوديين. تنبيهان: أحدهما: قال الرازي: القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم. والقائم بالأمور هم الرجال وعلى هذا ففي أفراد الرجال والنساء. فائدة: وهي أنّ عدم الالتفات والاستحقار أن يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال لأنّ المرأة في نفسها ضعيفة، قال صلى الله عليه وسلم «النساء لحم على وضم» فالمرأة لا يوجد منها استحقار لرجل لأنها مضطرّة إليه في رفع حوائجها، وأمّا الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهنّ ذلك. الثاني: في حكمه قوله تعالى: {عسى أن يكونوا خيراً منهم} هي أنهم إذا وجدوا منهم التكبر المقتضى إلى إحباط العمل جعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم، وقال: أنا خير منه فصار هو خيراً منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى {يكونوا} أي يصيروا فإنّ من استحقر إنساناً لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويقوى الضعيف {ولاتلمزوا} أي تعيبوا على وجه الظهور الخفية {أنفسكم} بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها فكيف إذا كان على وجه فإنّكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة أو يعمل الإنسان ما يعاب به فيكون الإنسان قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن يبحث عن عيوبه فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه {ولا تنابزوا بالألقاب} أي: ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء فإنّ النبز يختص بلقب السوء.k واختلف في هذا اللقب فقال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. وقال الحسن: كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقال عطاء: هو أن يقول الرجل لأخيه يا حمار يا خنزير وعن ابن عباس: التنابز بالألقاب: هو أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله والحاصل أنه يحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لا يعرفه إلا به وأمّا ألقاب المدح فنعما هي فقد لقب الصديق بعتيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بن الوليد بسيف الله، ومازالت الألقاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 الحسنة في الجاهلية والإسلام. قال الزمخشري: إلا ما أحدثه الناس في زماننا من التوسع حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب أنّ العذر مبسوط فما أقول لمن ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين لعمري والله إنها الغصة التي لا تساغ. ومعنى اللقب: اسم زائد على الاسم يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به الشهرة فما كان مكروهاً نهى عنه، ويسنّ أن يكنى أهل الفضل الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد وأمّا التكني بأبي القاسم فهو حرام. وقيل: إنما يحرم في زمانه صلى الله عليه وسلم فقط وقيل: إنما يحرم على من اسمه محمد ولا يكنى كافر ولا فاسق ولا مبتدع لأنّ الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها بل أمرنا بالإغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو تعريفه كما قيل به في قوله تعالى: {تبت يد أبي لهب} (المسد: 1) واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير. ويسنّ أن يكنى من له أولاد بأكبر أولاده ويسنّ لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه والأدب أن لا يكني الشخص نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم. تنبيه: ذكر في الآية ثلاثة أمور مرتبة بعضها دون بعض كما علم من تقريرها {بئس الاسم} أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز. وقوله تعالى: {الفسوق} أي: الخروج من ربقة الدين {بعد الإيمان} بدل من الاسم لإفادة أنه فسق لتكرّره عادة. وروي أنّ الآية «نزلت في صفية بنت حيي أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال: هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم {ومن لم يتب} أي: يرجع عما نهى الله عنه فخفف على نفسه ما كان شدّد عليها {فأولئك} أي: البعداء من الله تعالى {هم الظالمون} أي الغريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها. وأدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء. واختلف عن خلاد والباقون بالإظهار. {يا أيها الذين آمنوا} أي: اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أوّل مراتبه {اجتنبوا} أي: كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم {كثيراً من الظنّ} أي: في الناس وغيرهم واحتاطوا في كل ظنّ ولا تتمادوا معه حتى تجزموا بسببه. تنبيه: أفهم ذلك أنّ من الظنّ ما لا يجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع وكما في ظنّ الخير في الله تعالى: ففي الحديث «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظنّ بي إلا خيراً» بل قد يجب كما في قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً} (النور: 12) وقيل: نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدّم لهما إلى المنزل فيهيء لهما طعامهما وشرابهما فضمّ سلمان الفارسيّ إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدّم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيء لهما فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئاً، قال: لا غلبتني عينايّ، قالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله فأتاه فقال: ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 فأخبرهما فقالا: كان عند أسامة ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رجع قالا له: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً. قال ظلتم تأكلون لحم أسامة وسلمان فأنزل الله عز وجلّ {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن} . وقوله تعالى: {إن بعض الظنّ إثم} تعليل مستأنف للأمر قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه وجعل الزمخشري همزه بدلاً من واو قال: لأنه يتم الأعمال أي يكسرها قال ابن عادل: وهذا غيره مسلم بل تلك مادّة أخرى. قال سفيان الثوري: الظنّ ظنان: أحدهما: إثم وهو أن يظنّ ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظنّ ولا يتكلم به. وقوله تعالى {ولا تجسسوا} حذف منه إحدى التاءين أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعائبهم بالبحث عنها قال صلى الله عليه وسلم «لا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً» وقال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك. وقيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً فقال: إنا نهينا عن التجسس وإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به. تنبيه: قرأ ولا تنابزوا ولا تجسسوا ولتعارفوا البزي في الوصل بتشديد التاء والباقون بغير تشديد ولما كانت الغيبة أعمّ من التجسس قال: {ولا يغتب} أي: ولا يتعمد أن يذكر {بعضكم بعضاً} أي: في غيبته بما يكره. قال القشيري: وليس تحصل الغيبة للخلق إلا من الغيبة عن الحق وقال أبو حيان: قال ابن عباس: الغيبة إدام كلاب الناس. وعن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقوله قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا لا نأكل حتى يطعم ولا نرحل حتى يرحل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اغتبتموه فقالوا: إنما حدّثنا بما فيه قال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه» وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن فإنّ تمزيق عرض الإنسان كتمزيق أديمه ولحمه كما قال تعالى: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه} وقرأ {ميتاً} نافع بتشديد الياء والباقون بالسكون. ولما كان الجواب قطعاً لا يحب أحد ذلك أشار إليه بما سببه من قوله تعالى: {فكرهتموه} أي: بسبب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرّمة عقلاً لأنّ داعي العقل بصير عالم وداعي الطبع أعمى جاهل. تنبيه: في هذا التشبيه إشارة إلى أنّ عرض الإنسان كدمه ولحمه لأنّ الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم وهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 من باب القياس الظاهر لأنّ عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأنّ ذلك أشدّ ألماً وقوله تعالى لحم أخيه آكد في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ وفي قوله تعالى: {ميتاً} إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال: إنّ الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأمّا الاغتياب فلا اطلاع عليه فلا يؤلم، فيقال لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح كما أنه لو اطلع عليه لتألم فإنّ الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى لطيف وهو أنّ الاغتياب أكل لحم الآدمي ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطرّ بقدر الحاجة والمضطرّ إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب إذا وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب. قال مجاهد: لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا: لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً. قال الزجاج: تأويله أنّ ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك. قال الرازي: وفي ضمير فكرهتموه وجوه: أظهرها: أن يعود إلى الأكل. وثانيها: أن يعود إلى اللحم أي: فكرهتم اللحم. وثالثها: أن يعود إلى الميت في قوله تعالى ميتاً تقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله ميتاً ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة تستطاب نادراً ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً. فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة وذلك يحقق الكراهة ويوجب النفرة إلى حدّ لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذاً كراهية شديدة. وكذلك حال الغيبة. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» وقال ميمون بن سنان: بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي كل هذا قلت يا عبد الله ولم آكل هذا قال إنك اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شرّاً قال ولكن سمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحد ولا يدع أحداً يغتاب عنده. وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بطاعته معطوف على ما تقدّم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله {إن الله} أي: الملك الأعظم {توّاب} أي: مكرّر للتوبة وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرّر الذنب فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت {رحيم} يزيده على ذلك بأن يكرمه غاية الإكرام. تنبيه: ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} وقال ههنا {إنّ الله تواب رحيم} لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى: {اجتنبوا كثيراً} فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر. وقوله تعالى: {يا أيها الناس} أي: كافة المؤمن وغيره {إنا} أي: على مالنا من العظمة {خلقناكم} أي: أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 {من ذكر وأنثى} الآية مبين ومقرّر لما تقدّم، لأنّ السخرية من الغير وغيبته إن كان ذلك بسبب غير الدين والإيمان فلا يجوز لأنّ الناس بعمومهم كافرهم ومؤمنهم يشتركون فيما يفتخر به المفتخر، لأنّ التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً والمؤمن فقيراً وبالعكس. وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى وعبداً أسود وبالعكس، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون ومتقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى. كما قال تعالى: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} فقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} أي آدم وحوّاء فأنتم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة. قال ابن عباس: «نزلت في ثابت بن قيس. وقوله للرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم من الذاكر فلانة. قال ثابت: أنا يا رسول الله فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت قال: رأيت أبيض وأحمر وأسود. قال: فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى» فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس} (المجادلة: 11) الآية وقال قتادة: «لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد أغبر من هذا الغراب الأسود مؤذناً. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئاً يغيره وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره به رب العالمين رب السموات فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالوه فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى في هذه الآية» وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. تنبيه: الحكمة في اختيار النسب مع أنّ غيره من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لأنّ النسب أعلاها لأنّ المال قد يحصل للفقير فيبطل افختار الغني المفتخر به عليه والسمن والحسن وغير ذلك لا يدوم. والنسب ثابت مستمر غير مقدوراً التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله تعالى للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى فإن قيل: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى: {إنا خلقناكم} أجيب: بأنّ فائدته أنّ كل شيء يترجح على غيره فأمّا أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده. وأمّا أن يترجح عليه بأمر قبله فالذي بعده كالحسن والقوّة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء. وأمّا الذي قبله فأما راجع إلى أصله الذي وجد فيه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك هذا من نحاس وهذا من فضة، والثاني كقولك هذا عمل فلان وهذا عمل فلان. فقال تعالى: لا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله تعالى فإن كان عناكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى. ولما كان تفصيلهم إلى فرق كل منها يعرف به أمراً باهراً عبر فيه بنون العظمة فقال تعالى: {وجعلناكم} أي بعظمتنا {شعوباً} جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات الإنسان مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج {وقبائل} أي: تحت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 الشعوب وذلك أنّ طبقات النسل التي عليها العرب سبعة الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة وكل واحد يدخل فيما قبله فالقبائل تحت الشعوب والعمائر تحت القبائل والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصيّ بطن وعبد مناف فخذ وهاشم فصيلة والعباس عشيرة. قال البغوي: وليس بعد العشيرة حي يوصف ا. هـ. وسمى الشعب شعباً لتشعب القبائل منه واجتماعهم به كتشعب أغصان الشجرة والشعب من الأضداد يقال شعب أي: جمع ومنه شعب القدح وشعب أي: فرّق والقبائل واحدها قبيلة سميت بذلك لتقابلها شبهت بقبائل الرأس وهي قطع متقابلة. وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني اسرائيل وقيل: الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب والنسبة إلى الشعب شعوبية بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب والعمائر واحدتها: عمارة بفتح العين والبطون واحدتها: بطن. والفصائل: واحدتها فصيلة. والعشائر: واحدتها: عشيرة. وقال أبو روق الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم. ثم ذكر تعالى علة الشعب بقوله تعالى: {لتعارفوا} أي: ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له لا لتفاخروا {إن أكرمكم} أي المتفاخرون {عند الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أخبركم بكرمه ولا كمال لأحد سواه {أتقاكم} أي: أرفعكم منزلة عند الله أتقاكم. قال قتادة: في هذه الآية أكرم الكرم التقوى وألام الؤم الفجر وقال عليه الصلاة والسلام «الحسب المال والكرم التقوى» وقال ابن عباس «كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى» وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه وهو عصا محنية الرأس فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها الناس رجل تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» وعن أبي هريرة قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أكرم. قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبيّ الله بن نبيّ الله بن نبيّ الله بن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا: نعم. قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» بضم القاف على المشهور وحكى كسره ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع. وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» قال الرازي في المراد بالآية: وجهان: الأول أنّ التقوى تفيد الإكرام. الثاني: أنّ الإكرام يورث التقوى كما يقال المخلصون على خطر والأول أشهر، والثاني أظهر فإن قيل: التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله صلى الله عليه وسلم «لفقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» أجيب: بأنّ التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) فلا تقوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 إلا للعالم فالتقي العالم أثمر علمه، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمر لها، لكن الشجرة المثمرة أشرف من التي لا تثمر، بل هي حطب. قال الحسن البصري: إنما الفقيه العامل بعلمه أي وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» ومن قوله عز من قائل {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9) فإن قيل: خطاب الناس بقوله تعالى {أكرمكم} يقتضي اشتراك الكل في الإكرام ولا كرامة لكافر فإنه أضلّ من الأنعام أجيب بأنّ ذلك غير لازم مع أنه حاصل لدليل قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (الإسراء: 70) لأنّ كل من خلق فقد اعترف بربه ثم من استمرّ عليه وزاد زيد في كرامته ومن رجع عنه أزيل عنه أكثر الكرامة {إن الله} أي: المحيط بكل شيء علماً وقدرة {عليم} أي: بالغ العلم بظواهركم يعلم أنسابكم {خبير} أي: محيط العلم ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فجعلوا التقوى رداءكم ولما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصله الإيمان والإتقاء من الشرك. {قالت الأعراب} أي: أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء {آمنا} أي: بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر {قل} يا أشرف الخلق تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب {لم تؤمنوا} أي: لم تصدّق قلوبكم لأنكم لو آمنتم لم تمنوا لأنّ الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان فله ولرسوله الذي كان ذلك على يديه المنّ والفضل {ولكن قولوا أسلمنا} أي: أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة وأمنا من أن نكون حرباً للمؤمنين وعوناً للمشركين، فأخبر الله تعالى أنّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص فالإسلام هو الدخول في السلم كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وأصاف إذا دخل في الصيف وأربع إذا دخل في الربيع فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عز وجل لإبراهيم {أسلم قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة: 131) ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله تعالى: {ولكن قولوا أسلمنا} {ولما يدخل الإيمان} أي: المعرفة التامّة لم تدخل إلى هذا الوقت {في قلوبكم} فلا يعدّ إقرار اللسان إيماناً إلا لمواطأة القلب قال ابن برجان: فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين. وعن سعد بن أبي وقاص «قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم لم يعطه وهو أعجبهم إليّ فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته. فقلت: مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً. فقال صلى الله عليه وسلم أو مسلماً ذكر ذلك سعد ثلاثاً وأجابه بمثل ذلك ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه» . وقال الرازي: المسلم والمؤمن واحد عند أهل السنة. فنقول الفرق بين العام والخاص: أنّ الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعمّ لكن العامّ في صورة الخاص متحد مع الخاص، ولا يكون أمراً آخر غيره. مثاله الحيوان في صورة الإنسان أمر لا ينفك عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الإنسان فلا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيواناً ولا يكون إنساناً فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود، وكذلك المؤمن والمسلم، وسيأتي زيادة على ذلك في الذاريات إن شاء الله تعالى. وقال الرازي: في الآية إشارة إلى بيان حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ضعيفاً فيقال لهم: لم تؤمنوا لأنّ الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبهم وسيدخل بإطلاعهم على محاسن الإسلام انتهى. بل الإيمان دخل في قلوبهم ولكن لم يتألفوا بأهل الإسلام؟. تنبيه: التعبير بلما يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب لا نفي مطلق الدخول بدليل إنما المؤمنون دون إنما الذين آمنوا {وإن تطيعوا الله} أي: الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته {ورسوله} أي: الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهر فتؤمن قلوبكم {لا يلتكم} أي: لا ينقصكم {من أعمالكم شيئاً} بل يعطيكم ما يليق به من الجزاء لأنّ من حمل إلى ملك فاكهة طيبة قدر ثمنها في السوق ردهم فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل فهو يعطي ما تتوقعون بأعمالكم وزيادة من غير نقص فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدلّ عليه من الأقوال والأفعال. وقرأ الدوري: عن أبي عمرو بعد الياء التحتية بهمزة ساكنة وأبدلها السوسي ألفاً والباقون بغير همز ولا ألف. ولما كان الإنسان مبنياً على النقص وإن اجتهد غاية اجتهاده قال الله تعالى: {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ولغيره إن شاء فلا عتاب ولا عقاب {رحيم} أي: يزيد على الستر عظيم الإكرام ثم بين تعالى لهم حقيقة الإيمان بقوله تعالى: {إنما المؤمنون} أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب. قال القشيري: والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النفوس والنفوس لا تموت ولكنها تعيش {الذين آمنوا} أي: صدّقوا معترفين {بالله} معتقدين بجميع ماله من صفات الكمال {ورسوله} شاهدين برسالته وهذا الإثبات هنا يدل على أن المنفي فيما قبل الكمال المطلق وإلا لقال تعالى إنما الذين آمنوا {ثم لم يرتابوا} أي: لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأنّ الإيمان إيقان. تنبيه: ثم للتراخي في الحكاية كأنه يقول آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما نقل النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحشر والنشر {وجاهدوا} أي: أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفوس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان {بأموالهم} وذلك هو النية وقوله تعالى: {وأنفسهم} أعمّ من النية وغيرها وذلك هو الشجاعة قدم الأموال لقلتها عند العرب {في سبيل الله} أي: طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون شغلتنا أموالنا وأهلونا. قال القشيري: جعل الله تعالى الإيمان مشروطاً بخصال ذكرها وذكر بلفظ إنما وهي للتحقيق يقتضي الطرد والعكس فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه قوله: {أولئك} أي: العالو الرتبة {هم الصادقون} أي: في قولهم وفعلهم أنهم مؤمنون. ولما نزل هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله أنهم مؤمنون صادقون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 وعلم الله منهم غير ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم ومبكتاً {أتعلمون الله} أي: أتخبرون أخباراً عظيماً الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً {بدينكم} أي بقولكم آمنا {والله} أي: والحال أن الملك المحيط بكل شيء {يعلم ما في السموات} كلها على عظمتها وكثرة ما فيها {وما في الأرض} كذلك {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {بكل شيء} أي مما ذكر ومما لم يذكر {عليم} أي: لا تخفي عليه خافية وهو تجهيل لهم وتوبيخ {يمنون عليك} أي: يذكرون ذكر من اصطنع صنيعة وأسدى إليك نعمة {أن أسلموا} أي: من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال منهم ولما كان المنّ هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: في جواب قولهم هذا {لا تمنوا عليّ إسلامكم} لو فرض أنكم كنتم متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع اذعان الباطن أي لا تذكروا الامتنان أصلاً لأنّ الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله تعالى فلا ينبغي عدّه صنيعة على أحد فإنّ ذلك يفسده {بل الله} أي: الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه {يمن عليكم} أي: بذكر أنه أسدى إليكم نعمة {أن} أي: بأن {هداكم للإيمان} أي: فهو المانّ عليكم لا أنتم عليه وعلي. فإن قيل: كيف منّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا. أجيب بأوجه: أحدها: أنه تعالى لم يقل بل الله يمنّ عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أن هداكم للإيمان ثانيها: أنه تعالى منّ عليهم بما زعموا فكأنه تعالى قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار. فقال تعالى {هداكم} في زعمكم ولهذا قال تعالى: {إن كنتم صادقين} أي: في قولكم آمنا فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله تعالى وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم. قال القشيري: من لاحظ شيئاً من أحواله فإن رآها من نفسه كان مشركاً وإن رآها لنفسه كان مكراً فكيف يمنّ العبد بما هو شرك أو مكر والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة هذا لعمري فضيحة والمنة تكدّر الصنيعة إذا كانت من المخلوقين وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله تعالى. {إن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يعلم غيب السموات} أي: ما غاب فيها كلها {والأرض} كذلك ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله تعالى: {والله} أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون {بصير} أي: عالم أتم العلم {بما تعملون} أي: من ظاهر إسلامكم في الماضي والحاضر والآتي سواء أكان ظاهراً أم باطناً سواء أكان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مفروزاً في جبلاتكم وهو خفيّ عنكم. وقرأ ابن كثير: بالياء التحتية على الغيبة نظراً لقوله تعالى: {يمنون} وما بعده والباقون بالفوقية على الخطاب نظراً إلى قوله تعالى: {لا تمنوا عليّ إسلامكم} إلى آخره وفي هذه الآية إشارة إلى أنه يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» حديث موضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 سورة ق مكية إلا قوله تعالى {ولقد خلقنا السموات والأرض} الآيةمدنية، وهي خمس وأربعون آية وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمةوألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفاً {بسم الله} أي: الذي أحاط علمه بجيمع خلقه العاكف منهم والبادي {الرحمن} أي الذي عمّ خلقه برحمته حين أرسل إليهم بشرائعه أصدق العباد {الرحيم} أي: الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرشاد واختلف في تفسير قوله عز من قائل: {ق} فقال ابن عباس: هو قسم. وقيل: هو اسم للسورة. وقيل: اسم من أسماء القرآن. وقال القرطبي: هو مفتاح اسمه قدير وقادر وقاهر وقريب وقابض. وقال عكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ومنه خضرة السماء والسماء مغيبة عليه وعليه كنفاها ويقال هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة قيل: متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كنفاها. قال الرازي: وهذا القول ضعيف لوجوه: أحدها: أنّ أكثر القرّاء يقف عليها ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأنّ من قال ذلك قال: إنّ الله تعالى أقسم به. ثانيها: أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب عين جارية ويكتب {أليس الله بكاف عبده} (الزمر: 36) وفي جميع المصاحف تكتب حرف ق. ثالثها: أنّ الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في ص ون وحم وهي حروف لا كلمات فكذلك في ق فإن قيل: هو منقول عن ابن عباس نقول: المنقول عنه أنّ القاف اسم جبل، وأمّا أنّ المراد ههنا ذلك فلا ا. هـ. وقيل: معناه قضى الأمر وقضى ما هو كائن كما قالوا في {حم} وفي {ص} صدق الله. قال الرازي: وقد ذكرنا أنّ الحروف تنبيهات قدّمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الإسماع فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق وذكرنا أيضاً أنّ العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ظاهرة ووجد في الجارحية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعقل معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر وصفات الله تعالى وصدق الرسل ووجد فيها ما لم يعقل ولا يمكن التصديق به لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر. والميزان الذي توزن به الأعمال. فكذلك ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية فيها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلاً منه وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كل حروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد للأمر لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولك: ربنا اغفر لنا وارحمنا بل يكون النطق به تعبداً محضاً. ويؤيد هذا وجه آخر: وهو أنّ هذه الحروف مقسم بها لأنّ الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفاً لهما فإذا أقسم بالحروف التي هل أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى، وإذا عرفت هذا فنقول القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى: {والعصر} (العصر: 1) وقوله تعالى: {والنجم} (النجم: 1) بحرف واحد كما في قوله تعالى: {ص} و {ن} ووقع بأمرين كما في قوله تعالى: {والضحى} (الضحى: 1) {والليل} (الليل: 1) وفي قوله تعالى: {والسماء والطارق} (الطارق: 1) بحرفين كما قال في قوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 {طه} (طه: 1) و {طس} (النمل: 1) و {حم} (غافر: 1) ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى: {والصافات، فالزاجرات، فالتاليات} (الصافات: 1 ـ 3) وقوله تعالى: {والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود} (البروج: 1 ـ 3) بثلاثة أحرف كما في قوله تعالى: {ألم} (البقرة: 1) و {طسم} (الشعراء: 1) {الر} (يونس: 1) ووقع بأربعة أمور كما في قوله تعالى: {والذاريات فالحاملات فالجاريات فالمقسمات} (الذاريات: 4) وفي قوله تعالى: {والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين} (التين: 1 ـ 3) وبأربعة أحرف كما في قوله تعالى: {المص} (الأعراف: 1) و {المر} (الرعد: 1) ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى: {والطور وكتاب مسطور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور} (الطور: 1 ـ 6) وفي قوله تعالى: {والمرسلات فالعاصفات والناشرات فالفارقات فالملقيات} (المرسلات: 1 ـ 5) وفي النازعات وفي الفجر وبخمسة أحرف كما في قوله تعالى: {كهيعص} (مريم: 1) و {حم عسق} (الشورى: 1 ـ 2) ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي {والشمس وضحاها} (الشمس: 1) ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال: {والطور والنجم والشمس} وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل وحم وق لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً به فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحرف وغيره ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخل بالنظم. وقوله تعالى: {والقرآن} أي: الكتاب الجامع الفارق {المجيد} أي: الذي له العلوّ والشرف والكرم والعظمة على كل كلام قسم وفي جوابه أوجه. أحدها: قوله تعالى {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} ثانيها {ما يبدل القول لديّ} ثالثها: {ما يلفظ من قول} رابعها {إنّ في ذلك لذكرى} خامسها {بل عجبوا} وهو قول كوفيّ قالوا لأنّ معناه قد عجبوا. سادسها: أنه محذوف قدّره الزجاج والمبرد والأخفش لتبعثنّ وغيرهم لقد جاءكم منذر وقدره الجلال المحلي بقوله ما آمن كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم تنبيه: جوابات القسم سبعة أنّ المشدّدة كقوله تعالى: {والعصر إنّ الإنسان لفي خسر} (العصر: 1 ـ 2) وما النافية كقوله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودّعك ربك} (الضحى: 1 ـ 3) واللام المفتوحة كقوله تعالى: {فو ربك لنسألنهم أجمعين} (الحجر: 92) وإن الخفيفة كقوله تعالى {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} (الشعراء: 97) ولا النافية كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} (النحل: 38) وقد كقوله تعالى {والشمس وضحاها} (الشمس: 1) {قد أفلح من زكاها} (الشمس: 9) وبل كقوله تعالى {والقرآن المجيد} بل أي أنّ تكذيبهم ليس لإنكار شيء من مجدك ولا إنكار صدقك. {بل} لأنهم {عجبوا} أي: الكفار وأضمرهم قبل الذكر إشارة إلى أنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة انصرف إليهم العجب تغير النفس لأمر خارج عن العادة {إن جاءهم منذر منهم} أي: رسول من أنفسهم يخوّفهم بالنار بعد البعث واقتصر على الإنذار لأنّ المقام لتخويف من قدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو منّ عليه بإسلام أو غيره ولتخويف من أنكر البعث والعجب منهم هو العجب لأنّ العادة عندهم وعند جميع الناس أنه إذا كان لنذير منهم لم يداخلهم في إنذاره شك بوجه من الوجوه وهؤلاء خالفوا عادة الناس في تعجبهم من كون النذير وهو أحدهم خص بالرسالة دونهم ولم يدركوا وجه الخصوصية لكونه مثلهم فلذلك أنكروا رسالته وفضل كتابه بألسنتهم تعانداً وحسداً لأنهم كانوا معترفين بخصائصه التي رفعه الله تعالى بها عليهم قبل الرسالة فحطهم عجبهم ذلك إلى الحضيض من دركات السفه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وخفة الأحلام، لأنهم عجبوا أن كان الرسول بشراً وأوجبوا أن يكون الإله حجراً، وعجبوا أن يعادوا من تراب لم يكن له أصل في الحياة ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فقال} أي: بسبب إنذاره بالبعث {الكافرون} وصرح به في موضع الإضمار إيذاناً بأنهم لم يخف عليهم شيء من أمره ولكنهم ستروا تعدّياً برأي عقولهم الدالة على جميع أمره دلالة ظاهرة وعبر بما دل على النذارة لأنها المقصود الأعظم من هذه السورة وجميع سياق الحجرات ظاهر فيها {هذا} أي كون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا وكون ما أنذر به هو البعث بعد الموت {شيء عجيب} أي: بليغ في الخروج عن عادة أشكاله وقد كذبوا في ذلك أما من جهة النذير فإن أكثر الرسل من الطوائف الذين أرسلوا إليهم وقليل منهم من كان غريباً ممن أرسل إليه وأمّا من جهة البعث فإن أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه وإحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك مما هو ظاهر جداً. ولما كان المتعجب منه مجملاً أوضحه بقوله تعالى حكاية عنهم مبالغين في الإنكار بافتتاح إنكارهم باستفهام إنكاري. {أءذا متنا} ففارقت أرواحنا أبداننا {وكنا تراباً} لا فرق بينه وبين تراب الأرض ولما كان العامل في الظرف ما تقديره نرجع دل عليه بقوله تعالى دالاً بالإشارة بأداة البعد إلى عظيم استبعادهم {ذلك} أي: الأمر الذي في غاية البعد وهو مضمون الخبر برجوعنا {رجع} أي: ردّ إلى ما كنا عليه {بعيد} جدّاً لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب وقرأ قالون وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وهي المكسورة وإدخال ألف بينها وبين الهمزة الأولى المفتوحة وقرأ ورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وقرأ الباقون بتحقيقهما وأدخل هشام بينهما ألفاً بخلاف عنه والباقون بغير إدخال وكسر الميم من متنا نافع وحفص وحمزة والكسائي والباقون بالضم وقوله تعالى: {قد علمنا} أي: بما لنا من العظمة {ما تنقص الأرض منهم} أي: تأكل من أجزائهم المتحللة من أبدانهم بعد الموت. وقبله رد لاستبعادهم لأنّ من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجزاء الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياءً كما كانوا وعنه عليه الصلاة والسلام «كل ابن آدم يبلي إلا عجب الذنب» وعن السدّي ما تنقص الأرض منهم من يموت منهم ومن يبقى. وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه لأنّ الله تعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر قادر على الجمع والتأليف فليس الرجع منه ببعيد وهذا كقوله تعالى: {وهو الخلاق العليم} (يس: 81) حيث جعل للعلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب ما كانوا يقولون أئذا ضللنا في الأرض أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعيدهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون {وعندنا} أي: على مالنا من الغنى من كل شيء {كتاب} أي: جامع لكل شيء {حفيظ} أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء جل أودق وقيل محفوظ من الشياطين ومن أن يندرس أو يغير وعلى الحالين الحفيظ هو اللوح المحفوظ. قال الرازي: والأوّل هو الأصح لأنّ الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال الله تعالى: {وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام: 104) وقال تعالى {حفيظ عليهم} (الشورى: 6) ولأن الكتاب للتمثيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 ومعناه العلم عندي كما يكون في الكتاب فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ. وقوله تعالى: {بل كذبوا بالحق} أي: الأمر الثابت الذي لا أثبت منه إضراب ثان قال الزمخشري: إضراب أتبع للإضراب الأوّل للدّلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحقّ {لما} أي: حين {جاءهم} أي: لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس حسداً منهم من غير تأمّل لما قالوه ولا تدبر ولا نظر فيه ولا تذكر فلذلك قالوا ما لا يعقل من أنّ من قدر على إيجاد شيء من العدم وابدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه له {فهم} أي: لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف {في أمر مريج} أي: مضطرب جدّاً مختلط من المرج الذي هو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة فهم تارة يقولون سحر وتارة كهانة وتارة شعر وتارة كذب وتارة غير ذلك، لا يثبتون على شيء واحد. والاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على الإبطال كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقية قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم. ثم ذكر تعالى الدليل الذي يدفع قولهم ذلك رجع بعيد بقوله تعالى: {أفلم ينظروا} أي: بعين البصر والبصيرة {إلى السماء} أي: المحيطة بهم {فوقهم} فإن غيرها إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل {كيف بنيناها} أي: أوجدناها على مالنا من المجد والعز مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد {وزيناها} أي بما فيها من الكواكب الكبار والصغار السيارة والثابتة {وما} أي: والحال أن ما {لها} وأكد النفي بقوله تعالى: {من فروج} أي: فتوق وطاقات وشقوق بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء.H {والأرض} أي: المحيطة بهم التي هم عليها {مددناها} أي: بسطناها بما لنا من العظمة {وألقينا} أي: بعظمتنا {فيها رواسي} أي جبالاً ثوابت كانت سبباً لثباتها وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق والمراسي التي تعالجونها أنتم من تحت {وأنبتنا} أي بما لنا من العظمة {فيها} أي الأرض وعظم قدرته بالتبعيض فقال تعالى: {من كل زوج} أي صنف من النبات تزاوجت أشكاله {بهيجٍ} أي هي في غاية الرونق والإعجاب فكان مع كونه رزقاً منتزهاً. {تبصرةً} أي: جعلنا هذه الأشياء كلها لأجل أن تنظروا بأبصاركم وتتفكروا ببصائركم فتعبروا منها إلى صانعها فتعلموا ما له من العظمة {وذكرى} أي: ولتذكروا بها تذكراً عظيماً بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أنّ صانعها لا يعجزه شيء وأنه محيط بجميع صفات الكمال وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بالإمالة محضة. وقرأ ورش: بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. تنبيه: قال الرازي: يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى السماء والأرض أي خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ويدل على ذلك أنّ السماء وزينتها غير مستجدّة في كل عام فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان. وأمّا الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفها فتذكر فالسماء تبصرة والأرض تذكرة ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك. والفرق بين التذكرة والتبصرة هو أنّ فيهما آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجدّدة مذكرة عند التناسي {لكل عبدٍ} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 لتبصر وتذكر كل عبد بماله من النقص وبمادل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه {منيبٍ} أي: رجاع عما خطه إليه طبعه إلى ما يغلبه عليه عقله فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود الصفات إلى علم الذات. ثم ذكر تعالى دليلاً بقوله تعالى: {ونزلنا من السماء} أي: المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر {ماء} أي شيئاً فشيئاً في أوقات وعلى سبيل التقاطر ولولا عظمتنا التي لا تضاهي لغلب بما له من الثقل والميوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المسرّة وعادت المنفعة مضرّة {مباركاً} أي: نافعاً جدّاً كثير لبركة وفيه حياة كل شيء، وهو المطر فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت {فأنبتنا} أي: بما لنا من القدرة الباهرة {به جناتٍ} من الشجر والثمر والزرع والريحان وغيره مما تجمعه البساتين فتجن أي تستر الداخل فيها {وحب الحصيد} أي: النجم الذي من شأنه أنه يحصد كالبر والشعير ونحوهما وقوله تعالى: {والنخل} منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل وقوله تعالى {باسقات} أي: طوالاً حال مقدّرة لأنها وقت الإثبات لم تكن طوالاً والبسوق الطول يقال بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ومنه قول أبي نوفل في ابن هبيرة: *يا ابن الذين بمجدهم ... بسقتهم قيس فزاره* وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقاً أي طالت قال الشاعر: *لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات* *كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة* وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبن قبل النتاج. وقال سعيد بن جبير: باسقات: مستويات وأفردها بالذكر لفرط ارتفاعها {لها طلع} يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في باسقات ويجوز أن يكون الحال وحده لها وطلع فاعل به وقوله تعالى: {نضيد} بمعنى منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبلة الزرع وهو عجيب فإنّ الأشجار الطوال ثمارها بارزة بعضها على بعض لكل واحدة منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز والطلع كالسنبلة الواحدة تكون على أصل واحد وقوله تعالى: {رزقا} يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً {للعباد} ويجوز أن يكون مفعولاً له وللعباد إمّا صفة وإمّا متعلق بالمصدر، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى عند ذكر خلق السماء والأرض تبصرة وذكرى وفي الثمار قال رزقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة. أجيب: بأنّ الاستدلال وقع لوجود أمرين: أحدهما: الإعادة. والثاني: البقاء بعد الإعادة فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فقال: أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأنّ البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأولّ تبصرة وتذكرة بالخلق. والثاني: تذكرة بالبقاء والرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 {تبصرة وذكرى} حيث ذكر ذلك بين الآيتين ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإثبات النبات تنبيه: لم يقيد هنا العباد بالإنابة وقيده في قوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} لأنّ التذكرة لا تكون إلا للمنيب والرزق يعمّ كل أحد غير أنّ المنيب يأكل ذاكراً أو شاكراً للأنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص بقيد ولما كان في ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث وبجميع صفات الكمال أتبعه ماله من التذكير بالبعث بخصوصية فقال تعالى {وأحيينا به} أي: الماء بعظمتنا {بلدةً} بالتأنيث إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى النبات والخلوّ عنه وذكر {ميتاً} للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها أو حملاً على معنى المكان فإن قيل: ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة} (يس: 33) حيث أثبت الهاء هناك أجيب: بأنّ الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة: لأنّ معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأنّ الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأنّ معنى الفاعلية غير ظاهر فتثبت فيه الهاء وإذا كان معنى الفاعل لم يظهر لا تثبت فيه الهاء. ويحقق هذا القول قوله تعالى {بلدة طيبةً} (سبأ: 15) حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعل ولم يثبت حيث لم يظهر {كذلك} أي: مثل الإخراج العظيم {الخروج} من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا إذ لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم وتفتت في الأرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأزرقه إلى غير ذلك وبين إخراج ما تفتت من الموتى كما كانوا في الدنيا تنبيه: قال أبو حيان: ذكر تعالى في السماء ثلاثة البناء والتزيين ونفي الفروج وفي الأرض ثلاثة المدّ وإلقاء الرواسي والإنبات فقابل المدّ بالبناء لأنّ المدّ وضع والبناء رفع وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب لارتكاب كل واحد منها أي على سطح ما هو فيه والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج فلا شق فيها ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة وعلى ما اختلط من جنسين فبعض الثمار فاكهة لا قوت وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت وقوله تعالى: {كذبت قبلهم} الآية فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتنبيه بأنّ حاله كحال من تقدّمه من الرسل كذبوا وصبروا فأهلك الله تعالى مكذبيهم ونصرهم. ولما لم يكن لهؤلاء المكذبين شهرة يعرفون بها قال تعالى: {قوم نوح} الذين كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان نزل عليهم ماء السماء وطلع عليهم ماء الأرض فأغرقهم ووسم الفعل بالتاء إشارة إلى هو أنهم في جنب هذا المجد وأسقط الجار من قوله تعالى: {قبلهم} إشارة إلى أنّ هؤلاء الأحزاب لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل الأرض قد استغرقوا مكانها وزمانها ثم أتبع قوم نوح بمشابهيهم بقوله تعالى: {وأصحاب الرس} أي: البئر كانوا مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام، ونبيهم قيل: حنظلة بن صفوان وقيل غيره فخسفت تلك البئر مع ما حولها فذهبت بهم وبكل مالهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان. ثم أتبع أصحاب الرس بقوم صالح عليه السلام فقال {وثمود} لأنّ الرجفة التي أخذتهم مبدأ الخسف ثم أتبع ثمود بقوم هود عليه السلام فقال تعالى: {وعادٌ} لأنّ الريح التي أهلكتهم أثرت بها صيحة ثمود وقال تعالى: {وفرعون} ولم يقل قوم فرعون لأنه ليس في قادة هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الفرق كافر غيره والنص عليه يفهم عظمته وأنه استخف قومه فأطاعوه {وإخوان لوط} أي: أصهاره الذين صار بينه وبينهم مع المصاهرة المناصرة بملوكهم على من قاواهم بنفسه وعمه خليل الله إبراهيم عليهما السلام ومع ذلك عاملوه بالخيانة والتكذيب. {وأصحاب الأيكة} أي: الغيضة. وهم قوم شعيب، والغضة الشجرة الملتف بعضه على بعض ولما كان تبع الحميري واسمه سعد وكنيته أبو كرب مع كونه في قومه ملكاً قاهراً وخالفوه مع ذلك، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم ختم بهم فقال تعالى: {وقوم تبع} مع كونه ملكاً وهو يدعوهم إلى الله تعالى فلا يظنّ أنّ التكذيب مخصوص بمن كان قوياً لمن كان مستضعفاً بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف لا يخرج شيء عن مرادنا {كلٌ} أي من هذه الفرق {كذب الرسل} أي كلهم بتكذيب رسولهم فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار المعجز والدعاء إلى الله تعالى {فحق} أي: فتسبب عن تكذيبهم لهم أن ثبت عليهم ووجب {وعيد} أي: الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه فجعلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عامّاً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى يوم البعث فثبت بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلّ بإخوانك المرسلين وتأس بهم وليحذر قومك ما حل بمن كذبهم أن أصرّوا. {أفعيينا بالخلق} أي: أحصل لنا مع ما لنا من العظمة الإعياء وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده أو إعدامه {الأوّل} أي: من السموات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدّداً في كل أوان في الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة، ومن إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم {بل هم في لبسٍ} أي: شك شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى بل السكوت عنه أجمل {من} أي: لأجل {خلقٍ جديدٍ} أي: بالإعادة ولما ذكر الخافقين أتبعه خلق ما هو جامع لجميع ما هو فيهما. فقال تعالى: {ولقد} أي: والحال أنا قد {خلقنا} أي: بما لنا من العظمة {الإنسان} وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان والذكر والنسيان والجهل والعرفان والطاعة والعصيان وغير ذلك من عجيب الشان. ووكلنا به من جنودنا من يحفظ فيضبط حركاته وسكناته وجميع أحواله {ونعلم} والحال أنا نعلم بما لنا من الإحاطة {ماتوسوس} أي: تكلم على وجه الخفاء {به} أي: الآن وفيما بعد ذلك {نفسه} مما لم نقدح بعد من خزائن الغيب إلى سرّ النفس كما علمنا ما تكلم نفسه وهي الخواطر التي تعرض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد وبصحة القرآن وإعجازه وصدق الرسول به صلى الله عليه وسلم وامتيازه وإنما حملهم الحسد والنفاسة والكبر والرياسة على الإنكار باللسان، حتى صار لهم ذلك خلقاً وتمادوا فيه، حتى غطى على عقولهم فصاروا في لبس محيط بهم من جميع الجوانب ونحن أي بما لنا من العظمة {أقرب إليه} أي: قرب علم وشهود من غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 مسافة {من حبل الوريد} لأنّ أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علم الله تعالى شيء والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمها متصلان من الرأس إلى الوتين وهو عرق متصل بالقلب إذا قطع مات صاحبه. وهذا مثل في فرط القرب وإضافته مثل مسجد الجامع أي حبل العرق الوريد أو لأن الحبل أعمّ فأضيف للبيان نحو بئر ساقية أو يراد حبل العاتق وأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما ما في عضو واحد. وقال البغوي: حبل الوريد: عرق الفرق وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين يتفرّق في البدن والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. قال القشيري: وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم وروح وأنس وسكون قلب لقوم. وقوله تعالى: {إذ يتلقى} ظرف لأقرب ويجوز أن يكون منصوباً باذكر أي واذكر إذ يتلقى أي بغاية الاجتهاد والمراقبة والمراعاة من كل إنسان خلقناه وأبرزناه إلى هذا الوجود {المتلقيان} أي: الملكان الموكلان بعمل الإنسان ومنطقه يحفظانه ويكتبانه حال كونهما {عن اليمين} لكل إنسان {وعن الشمال} أي: أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وقوله تعالى: {قعيد} أي: قاعدان. مبتدأ وخبره ما قبله لأنّ فعيلاً يطلق على الواحد والمتعدّد كقوله تعالى: {بعد ذلك ظهير} (التحريم: 4) قال ابن عادل: والأجود أن يدع حذف إما من الأوّل أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأوّل ومثله قوله: *رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطويّ رماني* وقال مجاهد: القعيد المرصد. ونحن أعلم منهما وأقرب وإنما استحفظناهما لإقامة الحجة بهما على مجاري عاداتكم وغير ذلك من الحكم. {ما يلفظ} أي: يرمي ويخرج المكلف من فيه وعمم في النفي بقوله تعالى {من قول} جل أو قل {إلا لديه} أي: الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة من أغرب المستغرب {رقيب} من حفظتنا شديد المراعاة في كل من أحواله {عتيد} أي: حاضر مراقب غير غافل بوجه قال الجلال المحلي: وكل منهما بمعنى المثنى أي رقيبان عتيدان. روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر» . تنبيه: اختلف فيما يكتبان فقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر أو يوزر فيه. فائدتان: إحداهما: قال الحسن: إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند حالتين عند غائطه وعند جماعه. الثانية: قال الضحاك: مجلسهما تحت الشعر على الحنك ومثله عن الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته {وجاءت} أي: أتت وحضرت {سكرة الموت} أي: حالته عند النزع وشدّته وغمرته يصير المريض بها السكران لا يعي وتخرج بها أقواله وأفعاله عن قانون الاعتدال مجيئاً ملتبساً بالحق أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا حيلة في الاحتراس منه. وقيل: للميت بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال {ذلك} أي: هذا الأمر العظيم العالي الرتبة الذي يحق لكل أحد الاعتداد له بغاية الجهد {ما} أي: الأمر الذي {كنت} أي: جبلةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وطبعاً {منه تحيد} أي: تميل وتنفر وتروغ وتهرب. تنبيه: قيل الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الرازي: وهو منكر وقيل مع الكافر قال ابن عادل: والأقوى أن يقال هو خطاب عام مع السامع وهذا أولى وقوله تعالى: {ونفخ في الصور} عطف على قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت} وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للموت العامّ والبعث العامّ عند التكامل وانقطاع أوان التعامل وهو بحيث لا يعلم قدر عظمه واتساعه إلا الله تعالى وهو عليه السلام قد التقم الصور من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر فيالها من عظمة ما أغفلنا وعنها أنساناً لها والمراد بهذه نفخة البعث وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله نفخ لأنّ الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه تعالى قال ذلك الزمان العظيم الأهوال والأوجال {يوم الوعيد} أي: للكفار بالعذاب. {وجاءت} أي: فيه {كل نفس} أي مكلفة {معها سائق} أي ملك يسوقها إليه {وشهيد} يشهد عليها بعملها. قال الضحاك: السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم وهو الأيدي والأرجل وغيرها وهي رواية العوفي عن ابن عباس رضى الله عنهما وقيل: هما جميعاً من الملائكة، فالسائق كما قيل لا تعلق له بالشهادة لئلا تقول تلك النفس أنه خصم والخصم لا تقبل شهادته وقيل السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنه إلى مقعده. والشهيد هو الكاتب والسائق لازم للبرّ والفاجر أما البر فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار قال تعالى: {وسيق الذين كفروا} (الزمر: 71) وقال تعالى: {وسيق الذين اتقوا} (الزمر: 73) والشهيد يشهد عليها بما عملت. تنبيه: يجوز في جملة معها سائق وشهيد أن تكون في موضع جر صفة لنفس، وأن تكون في موضع رفع صفة لكل، وأن تكون في موضع نصب على الحال من كل. ويقال للكافر. {لقد كنت} أي: كوناً كأنه جبلة لك {في غفلة} أي: عظيمة محيطة بك ناشئة لك {من هذا} أي: من تصوّر هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدّة جلائه خفي على من اتبع الشهوات {فكشفنا} بعظمتنا بالموت ثم البعث {عنك غطاءك} الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك من الغفلة بالآمال في الحال والمآل وسائر الحظوظ والشهوات {فبصرك اليوم} أي بعد البعث {حديد} أي في غاية الحدّة والنفوذ فلذا تقرّ بما كنت تنكر في الدنيا. وقال مجاهد: يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك. والمعنى: أزلنا غفلتك فبصرك اليوم جديد وكان من قبل كليلاً. واختلف في القرين في قوله تعالى: {وقال قرينه} فأكثر المفسرين على أنه الملك الموكل به فيقول {هذا ما} أي: الذي {لدي عتيد} أي: حاضر ونقل الكرماني عن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد فزين له الكفر والعصيان. ويدل لهذا قوله تعالى: {وقيضنا لهم قرناء} (فصلت: 25) وقال تعالى: {نقيض له شيطاناً فهو له قرين} (الزخرف: 36) وقال تعالى {فبئس القرين} فالإشارة بهذا إلى المسوق المرتكب الفجور والفسوق. والعتيد معناه المعتدّ للنار ومعناه أن الشيطان يقول هذا العاصي هو شيء عندي معتدّ لجهنم أعددته لها بالإغواء والإضلال وقوله تعالى: {ألقيا في جهنم} أي: النار التي تلقى الملقي فيها بما كان يعامل به عباد الله تعالى من الكبر والعبوسة {كل كفار} خطاب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 الله تعالى للسائق والشهيد أو للملكين من خزنة النار أو الواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كأنه قيل ألقي ألقي وقيل: أراد ألقيا بالنون الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مجرى الوقف وقيل العرب: تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين تأكيداً كقوله: *فإن تزجراني يا ابن عفان أزدجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا* قال ابن عادل وقيل المأمور مثنى وهذا هو الحق لأنّ المراد ملكان يفعلان ذلك ا. هـ وهو القول المتقدّم {عنيد} وهو المبالغ في ستر الحق والمعاداة لأهله بغير حجة حمية وأنفة نظراً إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبراً وتكبراً على ما عند غيره ازدراء له كائناً من كان. {مناعٍ} أي: كثير المنع {للخير} من المال وغيره من كل معروف يعلق بالمال والمقال والفعال. وقيل المراد الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه {معتدٍ} أي: مجاوز للحدود {مريبٍ} أي: داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أهل الدين. وقوله تعالى: {الذي جعل مع الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {إلهاً آخر} يجوز أن يكون منصوباً على الذمّ أو على البدل من كل وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار أو مرفوعاً بالابتداء والخبر {فألقياه في العذاب} أي: الذي يزيل كل عذوبة {الشديد} ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هو الذي جعل ويكون فألقياه تأكيداً. {قال قرينه} منادياً بإسقاط الأداة كدأب أهل القرب إيهاماً أنه منهم {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم {ما أطغيته} أي: ما أوقعته فيما كان فيه من الطغيان فإني لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك {ولكن كان} أي: بجبلته وطبعه {في ضلال بعيد} أي: محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله تعالى. تنبيه: هذا جواب لكلام مقدّر فإن الكافر حينما يلقى في النار يقول ربنا أطغاني شيطاني فيقول ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى: {لا تختصموا لدي} لأنّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة ص {قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم} (ص: 60) إلى قوله تعالى {إنّ ذلك لحق تخاصم أهل النار} (ص: 64) قال الزمخشري: وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدّمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد. قال الرازي: وجاءت هذه الآية بلا واو وفي الأولى بواو عاطفة لأن الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين فإن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول وفي الثانية لم يجد هنا معنيان مجتمعان حتى تذكر الواو فإن الفاء في قوله تعالى: {فألقياه في العذاب} لا تناسب قوله تعالى: {قال قرينه ربنا ما أطغيته} فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف. فإن قيل: كيف قال ما أطغيته مع أنه قال لأغوينهم أجمعين. أجيب: بأن المراد من قوله لأغوينهم أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة فلا تتركها يقال أنه يضله كذا هنا فقوله ما أطغيته أي ما كان ابتداء الغي مني. وقوله تعالى: {قال} أي: الله تعالى المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم بذلك في الأزل {لا تختصموا} أي: لا توقعوا الخصومة بهذا الجدّ والاجتهاد استئناف كان قائلاً يقول فماذا قال الله تعالى. فأجيب: يقال لا تختصموا وقوله تعالى: {لدي} أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يديّ. وقوله تعالى: {وقد قدّمت إليكم بالوعيد} أي: التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفر والعدوان جملة حالية ولا بدّ من تأويلها وذلك أن النهي في الآخرة وتقدّمه الوعيد في الدنيا. فاختلف الزمان فكيف يصح جعلها حالية وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قدّمت وزمان الصحة وزمان النهي واحد وقدّمت يجوز أن يكون بمعنى تقدمت فتكون الواو للحال ولا بدّ من حذف مضاف أي: وقد تقدّم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ويجوز أن يكون قدمت على حاله تعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد. كقوله تعالى: {تنبت بالدهن} (المؤمنون: 2) على قول من قال بزيادتها هناك وقيل الباء هنا للمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بلجامه أي معه فكأنه قال تعالى قدّمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه والإنذار. {ما يبدّل} أي: يغير بوجه من الوجوه {القول لدّي} أي: الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحيط بها أحد من خلقي وعبر بما التي هي للحاضر دون لا التي للمستقبل لأن الأوقات كلها عنده حاضرة {وما أنا} وأكد النفي بقوله تعالى: {بظلام للعبيد} فأعذبهم بغير ظلم. فإن قيل: الظلام مبالغة في الظلم ويلزم من انتفائه إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كثير الكذب، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب، لجواز أن يقال ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً. فقوله تعالى {ما أنا بظلام} لا يفهم منه نفي أصل الظلم وأنّ الله ليس بظالم. أجيب بأربعة أجوبة: أحدها: أنّ الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر فتكون اللام في قوله تعالى {للعبيد} لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم لقوله تعالى: {لا ظلم اليوم} (غافر: 17) ثانيها: قال الزمخشري: إن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم وما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال الله تعالى: {وما أنا بظلام للعبيد} أي: في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق فيّ طاقة بهم ولم يبق فيّ موضع لهم فهل من مزيد استفهام استنكار. ثالثها: أنه لمقابلة الجمع بالجمع والمعنى أنّ ذلك اليوم مع أني ألقي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم لأنه تعالى قال: {وما أنا بظلام للعبيد} . {يوم نقول} أي على مالنا من العظمة {لجهنم} ولم يقل ما أنا بظلام في جميع الأزمان وخصص بالعبيد ولم يطلق فلذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت لأنّ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه لأنه نفي كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونه ظالماً ونفي كونه ظلاماً للعبيد ولم يلزم منه كونه ظلاماً لغيرهم. تنبيه: يحتمل أن يكون المراد بالعبيد الكفار كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول} (يس: 30) الآية والمعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين. والمعنى أنّ الله تعالى يقول: لو بدّلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأت بما أتى به المؤمن ما يناله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد وهذا معنى قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} (الحشر: 20) ويحتمل أن يكون المراد التعميم وهذا أظهر. وقوله تعالى لجهنم أي التي هي دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم {هل امتلأت} استفهام تحقيق لوعده عليها وهو قوله تعالى {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود: 119) {وتقول} بصورة الاستفهام كالسؤال {هل من مزيد} أي: قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكار. وقيل بمعنى الاستزادة رواه أبو صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله تعالى هل امتلأت قبل دخول جميع أهلها فيها. وروي عن ابن عباس رضى الله عنهما «أنّ الله تعالى سبقت كلمته لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت فتقول هل من مزيد قط قط قد امتلأت وليس فيّ مزيد» وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش وفي رواية رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعد ذلك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله تعالى لها خلقاً فيسكنهم فضول الجنة» ولأبي هريرة رضى الله عنه نحوه ولا يظلم الله تعالى من خلقه أحداً. تنبيه: هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان: أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نفوّض بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها أولها معنىً يليق بها وظاهرها غير مراد. المذهب الثاني: وهو قول جمهور المتكلمين أنها تؤوّل بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل الحديث فقيل المراد بالقدم التقدّم وهو شائع في اللغة والمعنى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل: المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل: يحتمل أن في المخلوقات من يسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض أظهر التأويلات أنهم استحقوها وخلقوا لها. قال المتكلمون: ولا بدّ من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل العقلي القطعي على استحالة الجارحة على الله تعالى وقولها قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت وفيها ثلاث لغات إسكان الطاء وكسرها منوّنة وغير منوّنة ولما ذكر النار التي هي دار الفجار وقدّمها لأنّ المقام للإنذار اتبعها دار الأبرار. فقال تعالى سارّاً لهم بإسقاط مؤنة المسير وطي مشقة البعد. {وأزلفت الجنة} أي: قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة {للمتقين} أي: الغريقين في هذا الوصف فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه في الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا. وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم غير هذا الوصف فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. وقوله تعالى: {غير بعيد} يجوز أن يكون حالاً من الجنة ولم يؤنث لأنها بمعنى البستان أو لأنّ فعيلاً لا يؤنث لأنه بزنة المصادر قاله الزمخشري. ومنعه أبو حيان وتقدّم الكلام على ذلك في قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} (الأعراف: 56) ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني أي مكاناً غير بعيد ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 أي إزلافاً غير بعيد وظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال أو شيئاً غير بعيد فإن قيل: ما وجه التقريب والجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب. أجيب: من أوجه. أوّلها: أنّ الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانتقام إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب. فإن قيل: فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة فما فائدة قوله تعالى: {أزلفت الجنة} أجيب بأن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه وأنه ممن يمشي إليه ثانيها: قريب من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني. ثالثها: أنّ الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن. ويحتمل أنها أزلفت بمعنى جمعت محاسنها لأنها مخلوقة وأما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحق بها. وقوله تعالى: {هذا} أي: الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم {ما} أي: الأمر الذي {توعدون} أي: وقع الوعد لكم به في الدنيا يجوز فيه وجهان. أحدهما: أن يكون معترضاً بين البدل والمبدل منه وذلك أنّ {لكل أوّاب} أي: رجاع إلى طاعة الله تعالى بدل من المتقين بإعادة العامل. ثانيهما: أن يكون منصوباً بقول مضمر ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم. وقرأ ابن كثير: بالياء على الغيبة. والباقون: بالتاء على الخطاب ونسب أبو حيان قراءة الياء لابن كثير ولأبي عمرو وإنما هي لابن كثير فقط. وقال سعيد بن المسيب: الأوّاب هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال الشعبيّ ومجاهد هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقال ابن عباس رضى الله عنهما وعطاء: هو المسبح من قوله تعالى {يا جبال أوّبي معه} (سبأ: 10) وقال قتادة: هو المصلي. وقوله تعالى {حفيظ} اختلف فيه. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أيضاً: الحفيظ لأمر الله. وقال قتادة: الحفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه. والأوّاب والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ ثم أبدل من كلٍ تنميماً لبيان المتقين قوله تعالى: {من خشي} أي: خاف ونبه على كثرة خشيته بقوله تعالى: {الرحمن} لأنه إذا خافه مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى وقال القشيري: التعبير بذلك للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع، قال: ولذلك لم يقل الجبار أو القهار. ويقال الخشية ألطف من الخوف فكأنها قريبة من الهيبة وقوله تعالى: {بالغيب} حال أي غائباً عنه فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما. وقيل الباء للمصاحبة أي مصاحب له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة بل استغنى بالبراهين القطيعة التي منها أنه مربوب وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشى أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب ومعنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب ولم يره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستور وأغلق الباب. وقوله تعالى {وجاء} أي: بعد الموت {بقلب منيب} أي: راجع إلى الله تعالى صفة مدح لأنّ شأن الخائف أن يهرب فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 لا ينجي الفرار منه والباء في {بقلب} إما للتعدية وإما للمصاحبة وإما للسببية، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: {إذ جاء ربه بقلب سليم} (الصافات: 84) من الشرك والضمير في قوله تعالى. {ادخلوها} عائد إلى الجنة وقوله تعالى: {بسلام} حال من فاعل ادخلوها أي سالمين من العذاب والهموم فهي حال مقارنة أو بسلام من الله تعالى وملائكته عليهم فهي حال مقدرة كقوله تعالى {فادخلوها خالدين} (الزمر: 73) كذا قيل. قال ابن عادل: وفيه نظر إذ لا مانع من مقارنة تسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فادخلوها خالدين فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول {ذلك} أي: اليوم الذي حصل فيه الدخول {يوم الخلود} أي: الدوام في الجنة الذي لا آخر له ولا نفاد لشيء من لذاته أصلاً ولذلك وصل به قوله تعالى جواباً لمن قال على أيّ وجه خلودهم. {لهم} بظواهرهم وبواطنهم {ما يشاؤون} أي: تتجدد مشيئتهم أو يمكن مشيئتهم له {فيها} أي: الجنة {ولدينا} أي: عندنا من الأمور التي هي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم مستغرباً {مزيد} أي: مما لا يدخل تحت أوهامهم ليشاؤوه فإن شياق الامتنان يدل على أنّ تنوينه للتعظيم والتعبير ب {لدي} يؤكد ذلك فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى قال: {ادخلوها بسلام} على المخاطبة ثم قال لهم ولم يقل لكم أجيب: من وجوه أولها: أن قوله تعالى: {ادخلوها} فيه مقدر أي فيقال لهم ادخلوها فلا يكون التفاتاً. ثانيها: أنه التفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول غير مخلّ بهم في غيبتهم وحضورهم ففي حضورهم الحبور في غيبتهم الحور والقصور. ثالثها: أنه يجوز أن يكون قوله تعالى لهم كلاماً مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أنّ لهم ما يشاءون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاؤون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه. والمزيد يحتمل أن يكون معناه الزيادة كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: 26) ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون ويأملون. قال أنس وجابر: وهو النظر إلى وجه الله الكريم. قيل يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته فهذا هو المزيد. ولما ذكر تعالى أوّ ل السورة تكذيب الأمم السابقة ذكر هنا إهلاك قرون ماضية. بقوله تعالى: {وكم أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {قبلهم من قرن} أي: جيل هم في غاية القوة وزاد في بيان القوّة قوله تعالى: {هم أشدّ منهم} أي: من قريش {بطشاً} أي: قوّة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة. تنبيه: كم منصوب بما بعده وقدم إما لأنه استفهام وإما لأن كم الخبرية تجري مجرى كم الاستفهامية في التصدير ومن قرن تمييز هم أشد صفة إمّا لكم وإما لقرن والفاء في قوله تعالى: {فنقبوا} عاطفة على المعنى كأنه قيل اشتدّ بطشهم فنقبوا: {في البلاد} والضمير في نقبوا ما للقرن المتقدّم وهو الظاهر وإما لقريش والتنقيب التنقير والتفتيش ومعناه التطواف في البلاد قال الحارث بن حلزة: *نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال* وقال امرؤ القيس: *وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب* الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 ولما كان التقدير ولم يسلموا مع كثرة تنقيبهم توجه سؤال تنبيه للغافل الذاهل وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل بقوله تعالى {هل من محيص} أي: معدل ومحيد ومهرب وإن دق من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في ردّ أمرنا. {إن في ذلك} أي: فيما ذكر في هذه السورة من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة {لذكري} أي: تذكيراً عظيماً جدّاً {لمن كان} أي: كوناً عظيماً {له قلب} أي عقل في غاية العظمة فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتبر به ومن لم يكن كذلك فلا قلب له سليم بل له قلب لاه {أو ألقى السمع} أي: استمع الوعظ بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل {وهو} أي: والحال أنه في حال إلقائه {شهيد} أي: حاضر بكليته فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه فيتذكر وعطف على قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} قوله تعالى: {ولقد خلقنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها {السموات والأرض} أي: على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع {وما بينهما} من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها {في ستة أيام} الأرض في يومين. ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ولكنه تعالى سنّ لنا التأنّي بذلك {وما مسنا} لأجل مالنا من العظمة أدنى مس. وعمم في النفي فقال تعالى: {من لغوب} أي: إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه فكأن تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرّف. {فاصبر} يا أشرف الخلق {على ما يقولون} أي: اليهود وغيرهم من إنكار البعث والتشبيه وغير ذلك فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على البعث وغيره {وسبح} أي: أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص ملتبساً {بحمد ربك} أي: بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها مفضلاً لك على جميع الخلق وقوله تعالى: {قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} إشارة إلى طرفي النهار. وقوله تعالى: {ومن الليل فسبحه} إشارة إلى زلفى من الليل وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان مشتغلاً بأمرين أحدهما عبادة الله تعالى والثاني هداية الخلق فإذا لم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة قبل الطلوع وقبل الغروب، لأنهما وقتا اجتماعهم ويكون المراد بقوله تعالى: ومن الليل أوّله لأنه أيضاً وقت اجتماعهم وقال أكثر المفسرين قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان والتهجد {وأدبار السجود} التنقل بعد المكتوبات وقيل: الوتر بعد العشاء وقال مجاهد ومن الليل: يعني صلاة الليل أيّ وقت صلى. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسر الهمزة على أنه مصدر قام مقام ظرف الزمان كقولهم آتيك خفوق النجم وخلافة الحجاج ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انقضائها وتمامها والباقون بالفتح جمع دبر وهو آخر الليل وعقبها ومنه قول أوس: *على دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمع* الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 ولم يختلفوا في وأدبار النجوم وقوله تعالى: وأدبار معطوف إما على قبل الغروب وإما على من الليل وقال عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما: إدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي عنه مرفوعاً. قال البغوي: هذا قول أكثر المفسرين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح» وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» يعني بذلك سنة الفجر وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه «ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» وعن مجاهد وأدبار السجود: هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وكبر ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين فذاك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» وعنه أيضاً «أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال صلى الله عليه وسلم وما ذاك فقالوا: صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد مثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً» . وقوله تعالى: {واستمع} أي: لما أخبرك به من أحوال القيامة فيه تهويل وتعظيم للمخبر به والمحدّث عنه. كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل «يا معاذ اسمع ما أقول ثم حدّثه بعد ذلك» وقوله تعالى {يوم} ظرف لاستمع أي استمع ذلك في يوم {ينادي المنادي} أي: إسرافيل يقف على صخرة ببيت المقدس فينادي بالحشر فيقول: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: المنادي جبريل {من مكان قريب} بحيث يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب يكونون في السماع سواء، لا تفاوت بينهم أصلاً. واختلف في ذلك المكان القريب. فأكثر المفسرين: أنه صخرة بيت المقدس فإنها أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية. وقوله تعالى: {يوم يسمعون الصيحة} بدل من يوم ينادي والصيحة النفخة الثانية وقوله تعالى: {بالحق} حال من الصحية أي متلبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون ملتبسين بسماع حق {ذلك} أي: اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين الجدّ {يوم الخروج} أي: الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى المحشر وهو من أسماء يوم القيامة. {إنا} أي: بما لنا من العظمة {نحن} أي: خاصة {نحيي ونميت} أي: نجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وعادة مستمرّة كما تشاهدونه فقد كان منا بالإحياء الأوّل المبدأ {وإلينا} أي: خاصة بالإماتة ثم الأحياء {المصير} أي: في الآخرة. وقيل تقديره نميت في الدنيا ونحيي في الآخرة للبعث. وإلينا المصير بعد البعث وقوله تعالى: {يوم} يدل من يوم قبله وما بينهما اعتراض. وقرأ {تشقق الأرض} نافع وابن كثير وابن عامر بتشديد الشين والباقون بالتخفيف {عنهم} أي: مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء حال كونهم {سراعاً} أي: إجابة منادينا وهو جمع سريع وأشار إلى عظمة الأمر بقوله تعالى {ذلك} أي: الإخراج العظيم جدّاً {حشر} أي: جمع بكره وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه بتقدم الجار فقال تعالى: {علينا} أي: خاصة {يسير} فكيف يتوقف فيه عاقل فضلاً عن أن ينكره وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه. تنبيه: علينا متعلق بيسير ففصل بمعمول الصفة بينها وبين موصوفها ولا يضرّ ذلك. وقال الزمخشريّ: التقديم للاختصاص وهو ما أشرت إليه أي لا يتيسر ذلك إلا على الله تعالى وحده وهو إعادة جواب قولهم ذلك رجع بعيد. وقوله تعالى: {نحن أعلم} أي: عالمون {بما يقولون} أي: في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم {وما أنت عليهم بجبار} أي: بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما أنت منذر وقد فعلت ما أمرت به ونحن القادرون على ردهم بما لنا من العلم المحيط وهذا قبل الأمر بالقتال {فذكر} أي: بطريق البشارة والنذارة {بالقرآن} أي: الجامع بمجده لكل خير المحيط بكل صلاح {من يخاف وعيد} فإنه لا ينتفع به غيره وهم المؤمنون. وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الدال وصلاً لا وقفاً وحذفها الباقون وصلا ووقفاً وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة ق هوّن الله عليه ثأرات الموت وسكراته» حديث موضوع وثأرات الموت بمثلثة وهمزة مفتوحة أهواله. سورة الذاريات مكية وهي ستون آية وثلاثمائة وستون كلمةوألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفاً {بسم الله} أي المحيط بصفات الكمال فهو لا يخلف الميعاد {الرحمن} الذي عم الخلائق بنعمة الإيجاد {الرحيم} الذي خص من اختاره بالتوفيق لما يرضاه من المراد ولما ختم الله سبحانه وتعالى ق بالتذكير بالوعيد افتتح هذا بالقسم البالغ على صدقه، فقال عز من قائل مناسباً بين القسم والمقسم عليه. {والذاريات} أي: الرياح تذرو التراب وغيره، وقيل: النساء الوالدات، فإنهنّ يذرين الأولاد، وقوله تعالى {ذروا} منصوب على المصدر المؤكد والعامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل والمفعول محذوف اقتصاراً، يقال: ذرت الريح التراب وأذرته. {فالحاملات} أي: السحب تحمل الماء وقيل: الرياح الحاملة للسحاب وقيل النساء الحوامل وقوله تعالى: {وقراً} أي: ثقلاً مفعول به بالحاملات كما يقال حمل فلان عدلاً ثقيلاً، قال الرازي: ويحتمل أن يكون اسماً أقيم مقام المصدر كقوله: ضربته سوطاً. {فالجاريات} أي: السفن، وقيل: الرياح الجارية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 في مهابها، وقيل الكواكب التي تجري في منازلها، وقوله تعالى: {يسراً} أي: بسهولة، مصدر في موضع الحال أي ميسرة. {فالمقسّمات} أي الملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد والبلاد وقوله تعالى: {أمراً} يجوز أن يكون مفعولاً به كقولك: فلان قسم الرزق أو المال، وأن يكون حالاً، أي: مأمورة، وهذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به، قال الزمخشريّ: ويجوز أن يراد الرياح وحدها؛ لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً، وعلى هذا يكون من عطف الصفات والمراد واحد فتكون الفاء على هذا لترتيب الأمور في الوجود وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو على المنبر: سلوني، قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي فقام ابن الكواء فقال: ما الذاريات؟ قال: الرياح، قال: فالحاملات وقراً قال: السحاب، قال: فالجاريات يسراً، قال: الفلك قال: فالمقسمات أمراً، قال: الملائكة وكذا عن ابن عباس وعن الحسن المقسمات السحاب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد وقد حملت على الكواكب السبعة، ويجوز أن يراد الرياح لا غير، لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً وتقسم الأمطار بتصريف السحاب. فإن قيل: إن كان وقراً مفعولاً فلم لم يجمع؟ وقيل: أوقاراً أجيب بأن جماعة من الرياح قد تحمل وقراً واحداً وكذا القول في المقسمات أمراً إذا قيل إنه مفعول به لأنّ جماعة من الملائكة قد تجتمع على أمر واحد. فائدة: أقسم الله تعالى بجمع السلامة المؤنث في خمس سور ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورة أصلاً فلم يقل والصالحين من عبادي ولا المقربين إلى غير ذلك مع أنّ المذكر أشرف لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل ولما كانوا يكذبون بالوعيد أكد الجواب بعد التأكيد بنفس القسم فقال تعالى: {إنّ ما توعدون لصادق} أي مطابق الإخبار به للواقع وسترون مطابقته له. تنبيه: ما يجوز أن تكون إسمية وعائدها محذوف أي توعدونه وأن تكون مصدرية فلا عائد على المشهور وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مبنياً من الوعد وأن يكون مبنياً من الوعيد، لأنه يصلح أن يقال أوعدته فهو يوعد ووعدته فهو يوعد لا يختلف فالتقدير: إن وعدكم أوان وعيدكم {وإن الدين} أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث {لواقع} لا بدّ منه وإن أنكرتم. {والسماء ذات الحبك} قال ابن عباس وقتادة وعكرمة: ذات الخلق الحسن المستوي، يقال للنساج إذا نسج الثوب فأجاد ما أحسن حبكه، وقال سعيد بن جبير: ذات الزينة، أي: المزينة بزينة الكواكب، قال الحسن: حبكتها النجوم وقال مقاتل والكلبي والضحاك ذات الطريق كحبك الماء إذا ضربته الريح، وحبك الرمل والشعر الجعد وهو آثار تثنيه وتكسره قال زهير: *مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك* والحبك يحتمل أن يكون مفرده حبيكة كطريقة وطرق أو حباك نحو حمار وحمر قال الشاعر: *كأنما جللها الحوّاك ... ظننته في وشيها حباك* وأصل الحبك إحكام الشيء وإتقانه، ومنه يقال للدرع: محبوكة. وجواب القسم {إنكم} يا معشر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 قريش {لفي قول} محيط بكم في أمر القرآن والآتي به وجميع أمر دينكم وغيره مما تريدون به إبطال الدين الحق {مختلف} فتقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين، وفي محمد صلى الله عليه وسلم ساحر وشاعر ومجنون وكاهن وكاذب. {يؤفك} أي يصرف {عنه} أي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن أي عن الإيمان بذلك {من أفك} أي صرف عن الهداية في علم الله تعالى ومعناه حينئذ الذم، وقيل: إنه مدح للمؤمنين ومعناه يصرف عن القول المختلف من يصرف عن ذلك القول ويرشد إلى القول المستوي. {قتل} أي لعن {الخراصون} أي الكذابون وهم الذين لا يجزمون بأمر بل هم شاكون متحيرون وهم أصحاب القول المختلف. ثم وصفهم الله تعالى فقال تعالى: {الذين هم} أي خاصة {في غمرة} أي جهل يغمرهم {ساهون} أي غريقون في السهو وهو النسيان والغفلة والحيرة وذهاب القلب إلى غير ما يهمه، ففاعل ذلك ذو ألوان متخالفة من هول ما هو فيه وشدة كربه. {يسألون} النبيّ استهزاءً {أيان} أي متى وأي حين {يوم الدين} أي وقوع الجزاء الذي تخبرنا به ولولا أنهم بهذه الحالة لتذكروا من أنفسهم أنه ليس أحد منهم يترك عبيده وإجراءه في عمل من الأعمال إلا وهو يحاسبهم على أعمالهم، وينظر قطعاً في أحوالهم ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم فكيف الظن بأحكم الحاكمين أن يترك عبيده الذين خلقهم على هذا النظام المحكم وأبدع لهم هذين الخافقين وهيأ لأجلهم فيهما كل ما يحتاجون إليه فيتركهم سدى ويوجدهم عبثاً؟. وقوله تعالى: {يوم هم} منصوب بمضمر، أي: الجزاء كائن يوم هم {على النار يفتنون} أي يعذبون فيها جواب لسؤالهم أيان يوم الدين، وقال الرازي يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون جواباً عن قولهم أيان يقع فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب للعلم، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين، بل قال {يوم هم على النار يفتنون} فجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأوّل، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فلو قال قائل: متى يقدم زيد فلو أجيب بقوله: يوم يقدم رفيقه، ولا يعلم يوم قدوم الرفيق لم يصح هذا الجواب. ثانيهما: أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه في قوله تعالى: {ذوقوا فتنتكم} أي تعذيبكم فإن قيل: هذا يفضي إلى الإضمار أجيب: بأن الإضمار لا بدّ منه لأنّ قوله تعالى: {ذوقوا فتنتكم} لا يتصل بما قبله إلا بإضمار يقال {هذا} أي العذاب الملون {الذي كنتم به تستعجلون} في الدنيا استهزاء. ولما بين تعالى حال المجرمين بين بعده حال المتقين فقال تعالى: {إن المتقين} أي الذين كانت التقوى لهم وصفاً ثابتاً {في جنات} أي بساتين عظيمة تجن داخلها أي تستره من كثرة ظلالها لكثرة أشجارها وعظمها {وعيون} جارية في خلال الجنان. تنبيه: المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك وأعلاها أن يتقي الدنيا والآخرة، وأدنى درجات المتقي الجنة فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائيّ بكسر العين والباقون بالضم. وقوله تعالى: {آخذين} حال من الضمير في خبر إن. وقوله تعالى: {وما آتاهم ربهم} أي المحسن إليهم المدبر لهم بتمام علمه وشامل قدرته إن كان مما في الجنة فتكون حالاً حقيقية وإن كان مما آتاهم من أمره ونهيه في الدنيا فتكون حالاً محكية لاختلاف الزمانين. تنبيه: اعلم أن الله تعالى وحد الجنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 تارة قال تعالى: {مثل الجنة} (الرعد: 35) وأخرى جمعها كقوله تعالى هنا: {إنّ المتقين في جنات} وتارة ثناها قال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46) والحكمة فيه أنّ الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما جمعها فإنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنات لا يحصرها عدد وأما تثنيتها فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في سورة الرحمن وهو قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46) فقيل: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته، وقيل جنة لخائف الإنس وجنة لخائف الجن فيكون من باب التوزيع قال الرازي: غير أنا نقول ههنا إنّ الله تعالى عند الوعد وحد الجنة وكذلك عند الشراء فقال تعالى {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجنات ثم يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود. ومعنى آخذين: قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له وقيل: قابلين قبول رضا كقوله تعالى {ويأخذ الصدقات} (التوبة: 104) أي يقبلها قاله الزمخشريّ وقوله تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} إشارة إلى أنهم أخذوها بثمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة وإما لإيتاء الله تعالى وإمّا ليوم الدين والإحسان يكون في معاملة الخالق والخلائق وقيل: هو قول لا إله إلا الله ولهذا قيل. في معنى كلمة التقوى: إنها لا إله إلا الله وفي قوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} (فصلت: 33) وقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله. ثم فسر إحسانهم معبراً عنه بما هو في غاية المبالغة بقوله تعالى: {كانوا} أي لما عندهم من الإجلال له والحب فيه بحيث كأنهم مطبوعين فيه {قليلاً من الليل} الذي هو وقت الراحات وقضاء الشهوات {ما يهجعون} أي يفعلون الهجوع وهو النوع الخفيف القليل بالليل فما ظنك بما فوقه فما مزيدة ويهجعون خبر كان وقليلاً ظرف أي: ينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره، وقال ابن عباس رضي الله عنه كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أوّلها أو من وسطها، وعن أنس بن مالك كانوا يصلون من المغرب إلى العشاء، وقال محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة، وقال مطرف بن عبد الله: قلّ ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها وقال مجاهد: كانوا لا ينامون كل الليل. ووقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى {وقليل ما هم} (ص: 24) و {قليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) ويبتدئ من الليل ما يهجعون أي ما يهجعون من الليل والمعنى: كانوا من الناس قليلاً ثم ابتدأ فقال: ما يهجعون من الليل وجعله جحداً أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون للصلاة والعبادة وهو قول الضحاك ومقاتل، وقيل: إنّ ما بمعنى الذي وعائدها محذوف تقديره: كانوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه وهذا فيه تكلف ولما كان المحسن لا يرى نفسه إلا مقصراً. قال تعالى دالاً على ذلك وعلى أن تهجدهم متصل بآخر الليل. {وبالأسحار} قال ابن زيد: السحر السدس الأخير من الليل {هم} أي: دائماً بظواهرهم وبواطنهم {يستغفرون} أي: يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله تعالى، وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم «لا أحصي ثناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 عليك» وإبراز الضمير دلّ على أنّ غيرهم لو فعل هذا ليلة لا عجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه، وعلى أنّ استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظنّ أنهم أحق بالتذلل من المصرّين على المعاصي، فإنّ استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ماله سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه تعالى لا يقدر حق قدره. تنبيه: بالأسحار متعلق بيستغفرون والباء بمعنى في وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل. وقال الكلبي ومجاهد: بالأسحار يصلون وذلك أنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول أنا الملك أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له، من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له» وهذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان: أحدهما: وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمّر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل وترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب سبحانه عن صفات الأجسام. المذهب الثاني: وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أنّ الصعود والنزول من صفات الأجسام فالله تعالى منزه عن ذلك فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل، لأنّ ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس وعن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهمّ لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت» وزاد في رواية «وما أنت أعلم به مني أنت المقدّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» زاد النسائي «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . ولما ذكر تعالى معاملتهم للخالق أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال تعالى: {وفي أموالهم} أي كل أصنافها {حق} أي نصيب ثابت {للسائل} أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف {والمحروم} وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ولا يُفطن له ليُتصدّق عليه وهذه صفة أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، فالمحسنون يعرفون صاحب الوصف لما لهم من ناقد البصيرة ولله تعالى بهم العناية، وقدم السائل لأنه يعرف بسؤاله أو يكون إشارة إلى كثرة العطاء فيعطي السؤال، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً. وقيل قدّم السائل لتجانس رؤوس الآي. وقيل: السائل هو الآدمي، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة قال صلى الله عليه وسلم «في كل كبد حراء أجر» وهذا ترتيب حسن لأنّ الآدمي مقدّم على البهائم، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب: السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء، وقال قتادة والزهري: المحروم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 المتعفف الذي لا يسأل الناس وقال زيد بن أسلم: المحروم هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته وهو قول محمد بن كعب القرظي قال: المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ {إنا لمغرومون بل نحن محرومون} (الواقعة: 66 ـ 67) {وفي الأرض} أي من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها {آيات} أي دلالات على قدرة الله تعالى ووحدانيته {للموقنين} أي الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها قال القشيري: من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحداً أو تبرم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة، ومن الآيات فيها أنه يلقي عليها كل قذر وقمامة فتنبت كل زهر ونور فكذلك العارف بتشرّب ما يسقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق حسن عليّ وشيمة زكية. {وفي أنفسكم} آيات أيضاً من مبدإ خلقكم إلى منتهاه، وما في تركيب خلقكم من العجائب {أفلا تبصرون} أي: بأبصاركم وبصائركم فتتأمّلوا ما في ذلك من الآيات فمن تأمّلها علم أنه عبد، ومتى علم ذلك علم أن له ربّاً غير محتاج إلى أحد. {وفي السماء} أي: جهة العلو {رزقكم} بما يأتي من المطر والرياح والحرّ والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه وتعالى لمنافع العباد، وقال ابن عباس يعني بالرزق المطر لأنه سبب الأرزاق، وقيل: في السماء رزقكم مكتوب وقيل تقدير الأرزاق كلها من السماء ولولاه لما حصل في الأرض حبة قوت {وما توعدون} قال عطاء: من الثواب والعقاب وقال مجاهد: من الخير والشرّ وقال الضحاك: من الجنة والنار. ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال عز من قائل: {فوربّ} أي: مبدع ومدبر {السماء والأرض} أي: وما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه {إنه} أي: الذي توعدونه من الخير والشرّ والجنة والنار وما ذكر من أمر الرزق وما تقدّم الإقسام عليه {لحق} أي ثبات يطابقه الواقع {مثل ما أنكم تنطقون} أي مثل نطقكم كما أنه لا شك في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن لا تشكوا في تحقيق ذلك وقال بعض الحكماء: معناه أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه ولا يمكن أن ينطق بلسان غيره، كذلك كل أحد يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره وأنشدوا في المعنى: *ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبداً وما هو كائن سيكون* *سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة مكمد مغبون* وقيل: معناه إنّ القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة برفع اللام على أنه نعت لحق، وما مزيدة وأنكم مضاف إليه أي لحق مثل نطقكم ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة لأنها لا تتعرف بذلك لإبهامها، والباقون بالنصب على أنه نعت لحق أيضاً كما في القراءة الأولى: وإنما بنى الاسم لإضافته إلى غير ممكن كما بناه القائل في قوله: *فتداعى منخراه بدم ... مثل ما أثمر حماض الجبل* يفتح مثل مع أنها نعت لدم وقيل أنها نعت لمصدر محذوف أي لحق حقاً مثل نطقكم. وقوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 تعالى: {هل أتاك} أي يا أكمل الخلق {حديث ضيف إبراهيم المكرمين} تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتبشير له بالفرج وسماهم ضيفاً؛ لأنه حسبهم كذلك ويقع على الواحد والجمع لأنه مصدر، وسماهم مكرمين عند الله تعالى، أو لأنّ إبراهيم عليه السلام أكرمهم بأن عجل قراهم وأجلسهم في أكرم المواضع واختيار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مأموراً بأن يتبع ملته وكان إبراهيم عليه السلام أكرم الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: لأنّ إبراهيم عليه السلام خدمهم بنفسه، وعن ابن عباس سماهم مكرمين لأنهم جاؤوا غير مدعوين، وقال صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . فإن قيل: إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟ أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أنّ الفرج في حق الأنبياء والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا كقوله تعالى: {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} (الزمر: 25) فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته قال القشيري: وقيل كان عددهم اثني عشر ملكاً وقيل: جبريل عليه السلام وكان معه تسعة وقيل: كانوا ثلاثة، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها. {إذ} أي حديثهم حين {دخلوا عليه} أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند الدال والباقون بالإدغام. تنبيه: اختلف في العامل في إذ على أربعة أوجه: أحدها: أنه حديث أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه. ثانيها: أنه منصوب بما في ضيف من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر ولذلك استوى فيه الواحد المذكر وغيره، كأنه قيل: الذين أضافهم في وقت دخولهم عليه. ثالثها: أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول: أكرموا إذ دخلوا. رابعها: أنه منصوب بإضمار اذكر، ولا يجوز نصبه بأتاك لاختلاف الزمانين. فإن قيل: إنما أرسلوا إلى قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام؟ أجيب من وجهين: أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين ولوط من قومه، وعادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له: اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه. ثانيهما: أن إبراهيم عليه السلام كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمّة عظيمة، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على العباد، فقال لهم: بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف من هلك ويكون من صلبه فروع الأنبياء عليهم السلام {فقالوا سلاماً} أي هذا اللفظ. {قال سلامٌ} أي: هذا اللفظ، والمشهور أنّ السلام الأوّل المراد به التحية أن نسلم سلاماً، وقيل: إن سلاماً معناه حسناً؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو ويأثم، فكأنهم قالوا قولاً حسناً سليماً من الإثم فيكون مفعولاً به، لأنه في معنى القول، وأمّا رفع الثاني فالمشهور أنه التحية فهو مبتدأ وخبره محذوف أي عليكم، وقيل: إنه السلامة، أي: أمري سلام لأني لا أعرفكم، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام والباقون بفتح السين واللام وألف بعدها والمعنى واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وقوله تعالى: {قوم منكرون} أي غرباء لا أعرفهم قال ذلك في نفسه كما قاله ابن عباس خبر مبتدأ مقدّر أي هؤلاء. وقيل: إنما أنكر أمرهم؛ لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان وقال أبو العالية: أنكر إسلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض. {فراغ} أي ذهب في خفية من ضيفه، فإنّ من آداب المضيف أن يبادر بالقرى حذراً من أن يكفه الضيف أو يصير منتظراً {إلى أهله} أي الذين عندهم بقرة {فجاء بعجل} أي فتى من أولاد البقر لأنه كان عامة ماله البقر {سمين} قد شواه وأنضجه كما قال تعالى في سورة هود {حنيذ} (هود: 66) أي: مشوي. {فقرّبه إليهم} بأن وضعه بين أيديهم ليأكلوا فلم يأكلوا {قال ألا تأكلون} والهمزة إمّا للإنكار عليهم في عدم أكلهم، وإمّا للعرض وإمّا للتحضيض فلم يجيبوا. {فأوجس} أي أضمر في نفسه {منهم خيفة} لما رأى إعراضهم على طعامه لظنه أنهم جاؤوه لشرّ. وقيل: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا بعذاب فلما عرفوا منه ذلك {قالوا} مؤنسين له {لا تخف} وأعلموه أنهم رسل الله {وبشروه بغلام} يأتيه على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السنّ بعد عقمها وهو إسحاق عليه السلام {عليم} أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه، فإنّ جميع الأنبياء بعده من ذريته إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرية إسماعيل عليه السلام. تنبيه: ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليم المضيف على الضيف ولقاءه بالوجه الحسن والمبالغة في الإكرام بقوله سلام وهو آكد وسلامهم بالمصدر في قوله سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلام عليكم، لأنّ الامتناع من الطعام يدل على العداوة، والغدر لا يليق بالأنبياء فقال: سلام أي امرئ مسالمة ثم فيها من آداب المضيف تعجيل الضيافة فإنّ الفاء في قوله فراغ تدل على التعقيب وإخفائها. لأن الروغان يقتضي الإخفاء وغيبة المضيف عن الضيف ليستريح ويأتي بما يمنعه الحياء منه ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله سمين، ويقدّم الطعام للضيف في مكانه ولا ينقل الضيف للطعام لقوله قربه إليهم، ويعرض الأكل عليه ولا يأمره لقوله تعالى {قال ألا تأكلون} ولم يقل كلوا وسروره بأكله لا كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه لقوله تعالى: {فأوجس منهم خيفة} لعدم أكلهم. ومن آداب الضيف إذا حضر الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضرّاً به أو يكون ضعيف القوّة عن هضم ذلك الطعام أن لا يقول هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل يأتي بعبارة حسنة ويقول: فيّ مانع من أكل الطعام لأنهم أجابوه بقولهم {لا تخف} ولم يذكروا في الطعام شيئاً ولا أنه يضر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة وبشروه بالأشرف وهو الذكر، حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال؛ لأنّ العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّه دفعة واحدة لأنه يورث مرضاً لأنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم ثم قالوا نبشرك فإن قيل: قال تعالى في سورة هود {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم} (هود: 70) فدل على أنّ إنكاره، حصل بعد تقريب العجل إليهم وههنا قال {فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون} ثم قال {فراغ إلى أهله} بفاء التعقيب وذلك يدل على أنّ تقريب الطعام منهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 بعد حصول إنكاره فما وجهه؟ أجيب بأن يقال لعلهم كانوا مخالفين لصفة الناس في الشكل والهيئة ولذلك قال {قوم منكرون} أي عند كل أحد واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتم بل قال: أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا، ثم لما امتنعوا من الطعام تأكد الإنكار لأنّ إبراهيم تفرّد بمشاهدة إمساكهم فنكرهم فوق الإنكار الأوّل وحكاية الحال في سورة هود أبسط مما ذكره ههنا، فإنه هنا لم يبين المبشر به وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إنّ القوم قوم من، وهناك قال: قوم لوط. ولما كانا بعيدين عن قبول الولد تسبب عن ذلك قوله تعالى دالاً على أنّ الولد إسحاق مع الدلالة على أنّ خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات. {فأقبلت} أي: من سماع هذا الكلام {امرأته} سارة قيل: لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان بل كانت في البيت، فهو كقول القائل: أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه وقوله تعالى: {في صرّة} أي: صيحة حال، أي: جاءت صائحة لأنها قد امتلأت عجباً {فصكت} قال ابن عباس: لطمت {وجهها} واختلف في صفته فقيل: هو الضرب باليد مبسوطة وقيل: هو ضرب الوجه بأطراف الأصابع فعل المتعجب، وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئاً، وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض. وقيل: جمعت أصابعها وضربت جبهتها عجباً وذاك من عادة النساء أيضاً إذا أنكرن شيئاً {وقالت} تريد أن تستبين الأمر هل الولد منها أو من غيرها {عجوز} قال القشيري: قيل إنها كانت يومئذ ابنة ثمان وتسعين سنة ومع ذلك {عقيم} فهي حال شبابها لم تكن تقبل الحبل فلم تلد قط. ولما قالت ذلك قالوا مجيبين لها. {قالوا كذلك} أي مثل ما قلنا من هذه البشرى العظيمة {قال ربك} أي المحسن إليك بتأهيلك لذلك على ما ذكرت من حالك وبتأهيلك من قبل الاتصال بخليله صلى الله عليه وسلم {إنه هو} أي: وحده {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أحق مواضعها {العليم} المحيط العلم، فهو لذلك لا يعجزه شيء. ثم بين سبحانه وتعالى ما كان من حال إبراهيم وحال الملائكة بعد ذلك بقوله تعالى. {قال} أي إبراهيم عليه السلام مسبباً عما رأى من حالهم وأنّ اجتماع الملائكة على تلك الحالة لم يكن لهذه البشارة فقط {فما خطبكم} أي: خبركم العظيم {أيها المرسلون} أي لأمر عظيم وهذا أيضاً من آداب المضيف إذا بادر الضيف بالخروج قال له: ما هذه العجلة وما شأنك لأنّ في سكوته ما يوهم اشتغاله، ثم إنهم أتوا بما هو من آداب الصديق الذي لا يسرّ عن الصديق شيئاً وكان ذلك بإذن الله تعالى لهم في إطلاع إبراهيم عليه السلام على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق عليه السلام. فإن قيل: فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولم لا قال: ما هذا الاستعجال وما خطبكم المعجل لكم. أجيب: بأنه لما أوجس منهم خيفة لو خرجوا من غير بشارة وإيناس فلما آنسوه قال: فما خطبكم، أي: بعد هذا الأنس العظيم ما هذا الإ يحاش الأليم. {قالوا} قاطعين بالتأكيد بأنّ مضمون خبرهم حتم لا بدّ منه ولا مدخل للشفاعة فيه {إنا أرسلنا} أي: بإرسال من تعلم {إلى قوم مجرمين} أي: هم في غاية القوّة على ما يحاولونه، وقد صرفوا ما أنعم الله تعالى به عليهم من القوّة في قطع ما يحق وصله، ووصل ما يحق قطعه يعنون قوم لوط. {لنرسل عليهم} أي: من السماء التي فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 ما وعد العباد به وتوعدوا {حجارةً من طين} أي: مهيأ للإحراق والاحتراق. {مسوّمة} أي: معلمة بعلامة العذاب المخصوص عليها اسم من يرمي بها وقوله تعالى: {عند ربك} أي: المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها ظرف المسوّمة، أي: معلمة عنده {للمسرفين} أي: المتجاوزين الحدود غير قانعين بما أبيح لهم فالمسرف المتمادي ولو في الصغائر، فهم مجرمون أي: مسرفون. والمجرم قال ابن عباس: هو المشرك لأنّ الشرك أعظم الذنوب. وهنا لطيفة: وهي أنّ الحجارة سوّمت للمصرّ المسرف الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى فلذلك قال {عند ربك للمسرفين} . ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} واللام في المسرفين لتعريف العهد أي لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوّمة، وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يسبقهم به أحد من العالمين وفي هذا دليل على رجم اللائط، والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم إذ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما أهلك النمروذ بالبعوض، وكما أهلك فرعون بالقمل والجراد بل بالريح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أمر خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته. تنبيه: قوله تعالى: {من طين} أي ليس من البرد والفاعل لذلك هو الله تعالى لا كما تقول الحكماء فإنهم يقولون: إنّ البرد يسمى حجارة فقوله تعالى: {من طين} يدفع ذلك التوهم قال الرازي: إن بعض من يدّعي العقل يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوّرات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة قالوا: وسبب ذلك أنّ الإعصار تصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق ذلك إلى هواء ندي فيصير ذلك طيناً رطباً، والرطب إذا نزل وتفرّق استدار، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته يقطر كرات مدوّرات كاللآلىء الكبار، ثم في النزول إن اتفق أن تضربه النيران التي في الجوّ جعلته حجارة كالآجر المطبوخ فينزل فيصيب من هيأ الله تعالى هلاكه، وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدري به فلهذا قال: {من طين} ، لأنّ ما لا يكون من طين كالحجر الذي يكون في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف، لأنّ ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع لحادث آخر لزم التسلسل ولا بدّ من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل ذلك وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه، وما لا يصل العقل إليه لا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أنّ نزول حجارة الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها. ولما أراد الله تعالى أن يهلك المجرمين ميز المؤمنين بقوله تعالى: {فأخرجنا} أي: بما لنا من العظمة بعد أن ذهبت رسلنا إليهم ووقعت بينهم وبين لوط عليه السلام محاورات معروفة لم يدع الحال هنا إلى ذكرها {من كان فيها} أي: قرى قوم لوط {من المؤمنين} أي: المصدّقين بقلوبهم لأنا لا نسوّيهم بالمجرمين فخلصناهم من العذاب على قلتهم وضعفهم وقوّة المخالفين وكثرتهم. {فما وجدنا فيها} أي: تلك القرى، أسند الأمر إليه تشريفاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 لرسله وإعلاماً بأنّ فعلهم فعله تعالى {غير بيت} أي: واحد وهو بيت ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وقيل: كانت عدّة الناجين منهم ثلاثة عشر {من المسلمين} أي: العريقين في إسلام الظاهر والباطن لله تعالى من غير اعتراض أصلاً، وهم إبراهيم وآله عليهم السلام وإنهم أوّل من وجد منهم الإسلام الأتم وتسموا به كما مرّ في سورة البقرة، وسموا به أتباعهم فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الإنقياد قال البغوي: وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم يعني لما بينهما من التلازم وإن اختلف المفهومان، وقال الأصفهاني: وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر وقيل: هم لوط وابنتاه وصفوا بالإيمان والإسلام أي هم مصدّقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات. تنبيه: في الآية إشارة إلى أنّ الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون ومثاله: أنّ العالم كالبدن، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم والواردة عليه الضارة، ثم إنّ البدن إذا خلا عن النافع وفيه الضار هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما، وإن وجدا فيه معاً فالحكم للأغلب، وإطلاق الخاص على العام لا مانع منه لأنّ المسلم أعم من المؤمن، فإذا سمى المؤمن مسلماً لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتاً من المسلمين، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين. {وتركنا} أي: بما لنا من العظمة {فيها} أي تلك القرى بما أوقعنا بها من العذاب {آية} أي علامة عبرة على هلاكهم كالحجارة أو الماء المنتن، فإنا قلعنا قراهم كلها وصعدت في الجوّ كالغمام إلى عنان السماء ولم يشعر أحد من أهلها بشيء من ذلك ثم قلبت واتبعت بالحجارة ثم خسف بها وغمرت بالماء الذي لا يشبهه شيء من مياه الأرض، كما أنّ جنايتهم لم تكن تشبه جناية أحد ممن تقدّمهم من أهل الأرض {للذين يخافون العذاب الأليم} أي: أن يحل بهم كما حل بهذه القرى في الدنيا من رفع الملائكة لهم في الهواء الذاري إلى عنان السماء وقلبهم وإتباعهم الحجارة المحرقة، وغمرهم بالماء المناسب لفعلهم بنتنه وعدم نفعه، وما ادّخر لهم في الآخرة أعظم وخص الذين يخافون بالذكر لأنهم المعتبرون بها. وقوله تعالى: عطف على قوله تعالى: {فيها} بإعادة الجار، لأنّ المعطوف عليه ضمير مجرور فيتعلق بتركنا من حيث المعنى ويكون التقدير وتركنا في قصة موسى آية {إذ أرسلناه} أي: بمالنا من العظمة {إلى فرعون بسلطان مبين} أي بحجة واضحة وهي معجزاته الظاهرة كاليد والعصا ومع ذلك لم ينتفع بها، ولذلك سبب عنها وعقب بها قوله تعالى: k {فتولى} أي: كلف نفسه الإعراض عنها بعدما دعاه علمها إلى الإقبال إليها وأشار إلى قواه بقوله تعالى: {بركنه} أي: بسبب ما يركن إليه من القوّة في نفسه وبأعوانه وجنوده، لأنهم له كالركن وقيل: بجميع بدنه كناية عن المبالغة في الإعراض {وقال} معلماً بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر {ساحر} ثم ناقض كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله {أو مجنون} أي: لاجترائه علىّ مع مالي من عظيم الملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 بمثل هذا الذي يدعو إليه تنبيه: أو هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشك نزل نفسه مع أنه يعرفه نبياً حقاً منزلة الشاك في أمره تمويهاً على قومه، وقال أبو عبيدة: أو بمعنى الواو قال: لأنه قد قالهما قال تعالى: {إنّ هذا لساحر عليم} (الأعراف: 109) وقال في موضع آخر {إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء: 27) وردّ الناس عليه هذا وقالوا: لا ضرورة تدعو إلى ذلك وأمّا الآيتان فلا تدلان على أنه قالهما معاً في آن واحد، وإنما يفيدان أنه قالهما أعمّ من أن يكونا معاً، أو هذه في وقت وهذه في آخر. ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء قال تعالى محذراً للأعداء. {فأخذناه} أي: أخذ غضب وقهر بعظمتنا وقوله تعالى: {وجنوده} يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول أخذناه وهو الظاهر وأن يكون مفعولاً معه. {فنبذناهم} أي: طرحناهم طرح مستهين بهم كما تطرح الحصيات {في اليمّ} أي: البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطنا الريح عليه فغرقته لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ونشفت أرضه وأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا {وهو} أي والحال أنّ فرعون {مليم} أي آت بما يلام عليه من تكذيب الرسول ودعوى الربوبية وغير ذلك. ثم ذكر تعالى قصصاً أخر تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم إحداها: قوله تعالى: {وفي عادٍ} أي: إهلاكهم وهم قوم هود عليه السلام آية عظيمة {إذ} أي حين {أرسلنا} بعظمتنا {عليهم الريح} فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تدر الرمل وترمي بالحجارة كما مرّت الإشارة إليه على كيفية لا تطاق {العقيم} أي التي لا خير فيها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور. ثم بين عقمها وإعقامها بقوله تعالى: {ما تذر} أي: تترك على حالة رديئة، وأغرق في النفي فقال تعالى: {من شيء أتت عليه} أي: إتياناً أراد مرسلها إهلاكه بها {إلا جعلته كالرميم} أي: الشيء البالي الذي دهكته الأيام والليالي إلى حالة الدمار وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض وديس، قاله ابن جرير. فإن قيل: الجبال والصخور وغير ذلك أتت عليهم وما جعلتهم كالرميم أجيب بأنّ المراد أتت عليه قاصدة له وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم، لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم. ثانيها: قوله تعالى: {وفي ثمود} أي إهلاكهم وهم قوم صالح عليه السلام آية عظيمة {إذ} أي حين {قيل لهم} أي ممن لا يخلف الميعاد، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها {تمتعوا} أي بلبن الناقة وغيره مما مكناهم فيه من الزروع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور على الوجه الذي أمرناكم به، ولا تطغوا {حتى حين} أي وقت ضربناه لآجالكم. {فعتوا} أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتوّ وهو التكبر والإباء {عن أمر ربهم} أي: مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا ناقته وأرادوا قتل نبيه صالح عليه السلام {فأخذتهم} أي: بسبب عتوّهم أخذ قهر وعذاب {الصاعقة} أي: الصيحة العظيمة التي حملتها الريح فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق، وقرأ الكسائي بإسكان العين ولا ألف قبلها، والباقون بكسر العين وقبلها ألف وقوله تعالى: {وهم ينظرون} دال على أنها كانت في غمام وكان فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 نار، ويجوز مع كونه من النظر أن يكون أيضاً من الانتظار فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وجعل في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه في اليوم الرابع. وقال بعض المفسرين: المراد منه هو ما أمهلهم الله تعالى بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام بقوله تعالى: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} (هود: 65) وكان في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتحمر وتصفر وتسودّ قال الرازي: وهذا ضعيف، لأنّ قوله تعالى {فعتوا عن أمر ربهم} بحرف الفاء دليل على أنّ العتوّ كان بعد قوله تعالى: {تمتعوا} فإذاً الظاهر أنّ المراد هو ما قدّر الله تعالى للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدّة الأجل انتهى. ولحسن هذا فسرت الآية به. {فما} أي: فتسبب عن ذلك أنهم ما {استطاعوا} أي: تمكنوا، وأكد النفي بقوله تعالى: {من قيام} أي: فما قاموا بعد نزول العذاب وما قدروا على نهوض، قال قتادة: لم ينهضوا من تلك الصرعة كقوله تعالى: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} (الأعراف: 78) وقيل: هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه {وما كانوا} أي: كوناً ما {منتصرين} أي: لم يكن فيهم أهلية الانتصار بوجه لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة، لأن تهيؤهم لذلك سقط بكل اعتبار. ثالثها: قوله تعالى: {وقوم نوح} بالجرّ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي عطف على ثمود أي وفي إهلاكهم بماء السماء والأرض آية، وبالنصب وهي قراءة الباقين أي وأهلكنا قوم نوح {من قبل} أي: من قبل إهلاك هؤلاء المذكورين ثم علل إهلاكهم بقوله تعالى: {إنهم كانوا} خلقاً وطبعاً لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم {قوما} أي: أقوياء {فاسقين} أي: غريقين في الخروج عن حظيرة الدين. ثم ذكر ما يدلّ على تمام القدرة على البعث بقوله تعالى: {والسماء بنيناها} أي: بمالنا من العظمة {بأيدٍ} أي: بقوّة وشدّة عظيمة لا يقدر قدرها. فائدة: رسمت بأيد بيائين بعد الألف {وإنا} على عظمتنا بعد ذلك {لموسعون} أي: أغنياء وقادرون ذووا سعة لا تتناهى، ولذلك أوسعنا بقدر جرمها وما فيها من الرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا تصح معها الشركة أصلاً فلسنا كمن تعرفون من الملوك، لأنهم إذا فعلوا شيئاً لم يقدروا على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى ما ترون في جنبه ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد، وعن الحسن لموسعون الرزق بالمطر وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة. {والأرض فرشناها} أي: بسطناها ومهدناها بما لنا من العظمة، فصارت ممهدة جديرة بأن تستقرّ عليها الأشياء، وهي آية على تمهيد أرض الجنة وسقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها {فنعم} أي: فتسبب عن ذلك أن يقال: في وصفنا نعم {الماهدون} والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي: نحن لكمال قدرتنا فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا واختيارنا وتقديرنا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئاً علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إفنائه ولا يكون شيء منه إلا بتقديرنا، وذلك تذكير بالجنة والنار فما فيها من خير فهو آية على الجنة، وما فيها من شر فهو آية على النار وقوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا} يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 من كل شيء {زوجين} وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من زوجين، لأنه في الأصل صفة له إذ التقدير خلقنا زوجين كائنين من كل شيء، أي صنفين كل منهما يزاوج الآخر من وجه وإن خالفه من آخر ولا يتم نفع أحدهما إلا بالآخر من الحيوان والنبات وغيرهما، ويدخل فيه الأضداد من الغنى والفقر والحسن والقبح والحياة والموت والظلام والنور والليل والنهار والصحة والسقم والبر والبحر والسهل والجبل والشمس والقمر والحر والبرد اللذين هما من نفس جهنم آية بينة عليها وبناؤها على الاعتدال في بعض الأحوال آية على الجنة مذكرة بها مشوّقة إليها، والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر قال الحسن: كل اثنين منها زوج والله سبحانه وتعالى فرد لا مثل له {لعلكم تذكرون} أي: فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعلموا أنّ خالق هذه الأشياء واحد لا شريك له لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح، وقرأ حفص والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد {ففرّوا} أي: أقبلوا والجؤوا {إلى الله} أي: الذي لا سمي له فضلاً عن مكافىء، وله الكمال كله فهو في غاية العلو فلا يفرّ ويسكن أحد إلى غير محتاج مثله فإن المحتاج لا غنى عنده ولا يفرّ إليه سبحانه إلا من تجرّد عن حضيض عوائقه الجسمية إلى أوج صفاته الروحانية وذلك من وعيده إلى وعده اللذين دلّ عليهما بالزوجين فتكمل السياق بالتحذير والاستعطاف بالاستدعاء فهو من باب لا ملجأ منك إلى إليك أعوذ بك منك قال القشيري: ومن صح فراره إلى الله تعالى صح قراره مع الله تعالى قال البقاعي: وهو بكمال المتابعة ليس عيناً ومن فهم منه اتحاداً بذات أو صفة فقد نابذ طريق القوم فعليه لعنة الله. {إني لكم منه} أي: لا من غيره {نذير} أي: من أن يفرّ أحد إلى غيره فإنه لا يحصل له قصد {مبين} أي: بين الإنذار ففرار العامّة من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً، ومن الكسل إلى التشمير حذراً وحزماً ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق استغراقاً في وحدانيته. {ولا تجعلوا} أي: بأهوائكم {مع الله} وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعييناً للمراد، لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيهاً على ماله من صفات الكمال وتعميماً لوجوه المقاصد لئلا يظنّ لو قيل معه إنّ المراد النهي على الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها {إلهاً آخر} ثم علل النهي مع التأكيد بطعنهم في نذارته فقال {إني لكم منه} أي لا من غيره، فإن غيره لا يقدر على شيء {نذير} أي: محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لاخلاص معها إن فعلتم ذلك {مبين} أي: لا أقول شيئاً من واضح النقل إلا ودليله ظاهر. {كذلك} أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة البعيد من الصواب بما له من الاضطراب وقع لمن قبلهم ودلّ على هذا المقدّر بقوله تعالى مستأنفاً {ما أتى الذين من قبلهم} أي: كفار مكة وعمم النفي فقال تعالى: {من رسول} أي من عند الله تعالى {إلا قالوا ساحر أو مجنون} أي مثل تكذيبهم لك بقولهم ذلك لأنّ الرسول يأتيهم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها أهواؤهم، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء أكانت أو للتفصيل، لأنّ بعضهم قال: واحداً، وبعضهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 قال: آخر، أو كانت للشك لأنّ الساحر يكون لبيباً فطناً آتياً بما يعجز عنه كثير من الناس، والمجنون بالضدّ من ذلك. فإن قيل: قوله تعالى {إلا قالوا} يدل على أنهم كلهم قالوا ذلك والأمر ليس كذلك، لأنّ ما من رسول إلا وآمن به قوم أجيب: بأنّ ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قالوا كلهم وإنما قال إلا قالوا ولما كان كثير منهم قائلين قال تعالى إلا {إلا قالوا} . فإن قيل: فلم لم يذكر المصدّقين كما ذكر المكذبين، وقال: إلا قال بعضهم: صدقت وبعضهم كذبت أجيب: بأنّ المقصود التسلية وهي أعلى التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإنّ أقواماً قبلك كذبوا ورسلاً كذبوا. ثم عجب منهم بقوله تعالى: {أتواصوا به} فهو استفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في به يعود على القول المدلول عليه بقالوا، أي أتواصوا الأوّلون والآخرون بهذا القول المتضمن لساحر أو مجنون والمعنى: كيف اتفقوا على معنى واحد، كأنهم تواطؤا عليه وأوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وقوله تعالى {بل هم قوم} أي: ذو شماخة وكبر {طاغون} إضراب عن أنّ التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه، ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فتولّ} أي: أعرض {عنهم} أي: كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام {فما أنت بملوم} لأنك بلغتهم الرسالة وما قصرت فيما أمرت به. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية «حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وإن العذاب قد حضر إذ أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم» فأنزل الله تعالى: {وذكر} أي: ولا تدع التذكير والموعظة {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فطابت أنفسهم، والمعنى: ليس التولي مطلقاً بل تولّ وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرّك إذا كان عليهم ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين، وقال مقاتل: معناه عظ بالقرآن كفار مكة فإنّ الذكرى تنفع من علم الله تعالى أنه مؤمن منهم، وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم. ولما بين حال من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم في التكذيب بين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله تعالى الذي خلقهم للعبادة بقوله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} واختلف في تفسير ذلك فأكثر المفسرين على أن المراد بهم العموم، ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأنّ الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لأكتب به فإنك قد لا تكتب به هكذا قال الجلال المحلي، وأوضح منه ما قاله ابن عادل: إنّ المعنى إلا معدّين للعبادة ثم منهم من يتأتى منه ذلك ومنهم من لا، كقولك: هذا القلم بريته للكتابة ثم قد لا تكتب به وقد تكتب انتهى أو إنّ المراد إلا لأمرهم بالعبادة وليقروا بها وهذا منقول عن عليّ بن أبي طالب، أو إنّ المراد ليطيعوا وينقادوا لقضائي، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر يفعل ذلك كرهاً، أو أنّ المراد إلا ليوحدون فأمّا المؤمن فيوحد اختياراً في الشدّة والرخاء، وأمّا الكافر فيوحد اضطراراً في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء. وقال مجاهد: معناه إلا ليعرفون قال البغوي: وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف: 87) وقيل: المراد به الخصوص أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 ما خلقت السعداء من الجنّ والأنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قال زيد بن أسلم: قال هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، ويؤيده قوله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجنّ والإنس} (الأعراف: 179) وقيل: وما خلقت الجنّ والإنس المؤمنين وقيل: الطائعين. تنبيه: استدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وأجيبوا بوجوه منها: أنّ اللام قد ثبتت لغير الغرض كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78) وقوله تعالى {فطلقوهنّ لعدّتهنّ} (الطلاق: 1) ومعناه المقارنة فيكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة ومنها قوله تعالى {الله خالق كل شيء} (الرعد: 16) ومنها ما يدلّ على أنّ الإضلال بفعل الله كقوله تعالى {يضل من يشاء} (الرعد: 27) وأمثاله، ومنها قوله تعالى {لا يسئل عما يفعل} (الأنبياء: 23) وقوله تعالى {يفعل ما يشاء} (آل عمران: 40) {ويحكم ما يريد} (المائدة: 1) فإن قيل: ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلفين قال تعالى: {بل عباد مكرمون} (الأنبياء: 26) وقال تعالى {لا يستكبرون عن عبادته} (الأعراف: 206) أجيب بوجوه. أحدها: أنّ الآية سيقت لبيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له وهذا مختص بالجنّ والأنس، لأنّ الكفر موجود فيهما دون الملائكة. ثانيها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجنّ والإنس فلما قال تعالى: {وذكر} بين ما يذكر به، وهو كون الخلق للعبادة وخصص أمّته بالذكر أي ذكر الجنّ والأنس ثالثها: أن عباد الأصنام كانوا يقولون إنّ الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله تعالى وخلقهم لعبادته، ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله تعالى فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله تعالى كما قالوا {ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) فقال تعالى: {وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون} ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم فذكر المنازع فيه. رابعها: فعل الجنّ يتناول الملائكة لأنّ أصل الجنّ من الاستتار وهم مستترون عن الخلق فذكر الجنّ لدخول الملائكة فيهم. ولما خص سبحانه خلقهم في إرادة العبادة صرّح بهذا المفهوم بقوله تعالى: {ما أريد منهم} أي: في وقت من الأوقات وعمم في النفي بقوله تعالى: {من رزقٍ} أي: شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر كما يفعل غيري من الموالي مع عبيدهم، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصل معايشهم وأرزاقهم، فإمّا مجهز في تجارة ليفيء ربحاً، أو مرتب في فلاحة ليغتل أرضاً، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب أو محتش أو مستق أو طابخ أو خابز وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرّف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ. {وما أريد} أصلاً {أن يطعمون} أي: أن يرزقون رزقاً خاصاً هو الإطعام وفيه تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام، ثم لا يصدهم ذلك عن عبادتها وقيل: في الآية حذف مضاف أي وما أريد أن يطعموا أحداً من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأنّ الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال الله فقد أطعمه كما صح في الحديث عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما تعلم أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن دم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي» . فإن قيل: ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أنّ من لا يريد من أحد رزقاً لا يريد أن يطعمه؟ أجيب: بأنّ السيد قد يطلب من العبد المكتسب له الرزق وقد يكون للسيد مال وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه وإحضار الطعام بين يديه فقال: لا أريد ذلك ولا هذا وقدم طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى. فإن قيل: ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أنّ المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟ أجيب: بأنه لما عمم النفي في طلب الأوّل بقوله تعالى {من رزق} وذلك إشارة إلى التعميم فذكر الإطعام ونفى الأدنى ليتبعه بنفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قال: ما أريد منهم من غنى ولا عمل. فإن قيل: المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإنّ السيد قد يشتري العبد لا لطلب رزق منه ولا للتعظيم بل يشتريه للتجارة. أجيب: بأن العموم في قوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق} يتناول ذلك. ثم بين تعالى أنه الرزاق لا غيره بقوله عز من قائل. {إن الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن جميع صفات النقص {هو} أي: لا غيره {الرزاق} أي: على سبيل التكرار لكل حيّ وفي كل وقت {ذو القوّة} أي: التي لا تزول بوجه {المتين} أي: الشديد الدائم. فإن قيل: لم لم يقل إني رزاق؟ بل قال على الحكاية عن الغائب إنّ الله هو الرزاق فما الحكمة أجيب: بأنّ المعنى قل يا محمد إنّ الله هو الرزاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمراً عند قوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق} ولم يقل القوي بل قال ذو القوّة لأنّ المقصود تقرير ما تقدّم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير، وقيد بالمتين لأنّ ذو القوّة لا يدل إلا على أنّ له قوّة ما فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، والمعنى في وصفه سبحانه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم إلى أن ختم بقوته التي لا حدّ لها سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم: {فإن للذين ظلموا} أي: أوقعوا الأشياء في غير مواقعها {ذنوباً} أي: نصيباً من العذاب طويل الشرّ كأنه من طوله صاحب ذنب {مثل ذنوب أصحابهم} أي: الذين تقدّم ظلمهم بتكذيب الرسل من قوم نوح وعاد وثمود، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء وفي الحديث «فأتى بذنوب من ماء» فإن لم تكن ملأى فهي دلو ثم عبر به عن النصيب قال عمرو بن شاس: *وفي كل حيّ قد خطبت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب* قال الملك: نعم وأذنبه، قال الزمخشري: وهذا تمثيل أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا آخر. قال الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 *لكم ذنوب ولنا ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب* وقال الراغب الذنوب الدلو لذي له ذنب انتهى. فراعى الاشتقاق والذنوب أيضاً: الفرس الطويل الذنب، وهو صفة على فعول والذنوب لحم أسفل المتن ويقال: يوم ذنوب أي طويل الشرّ استعارة من ذلك ويجمع في القلة على أذنبة وفي الكثرة على ذنائب {فلا تستعجلون} أي تطلبوا أن آتيكم به قبل أوانه حق به، فإنّ ذلك لا يفعله إلا ناقص وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به، ولا بدّ أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل فإنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم. {فويل} أي شدّة عذاب {للذين كفروا} أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلاً إنكارها {من يومهم الذي يوعدون} أضافه إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين، وهو يوم القيامة وقيل يوم بدر وحذف العائد لاستكمال شروطه أي يوعدونه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمرو بكسر الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف عليها فالجميع بكسر الهاء وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال من «قرأ سورة الذاريات أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا» حديث موضوع والله أعلم. سورة الطور مكية وهي تسع وأربعون آية وثلاثمائةواثنتا عشرة كلمة وألف وخمسمائة حرف {بسم الله} الملك الأعظم ذي الملك والملكوت {الرحمن} الذي عمّ خلقه بالرحموت {الرحيم} الحيّ الذي لا يموت. وقوله تعالى: {والطور} وما بعده أقسام جوابها {إنّ عذاب ربك لواقع} والواوات التي بعد الأولى عواطف لا حروف قسم كما قاله الخليل. والطور: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وهو بمدين أقسم الله تعالى به وقيل: هو الجبل الذي قال الله تعالى {وطور سنين} وقيل هو اسم جنس. تنبيه: مناسبة هذه السورة لما قبلها من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما. والمراد بالكتاب في قوله تعالى {وكتاب مسطور} أي: متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة هو كتاب موسى عليه السلام وهو التوراة وقيل: القرآن وقيل: اللوح المحفوظ وقيل: صحائف أعمال الخلق قال تعالى {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} (الإسراء: 13) وقوله تعالى: {في رق} متعلق بمسطور أي مكتوب في رق والرق: الجلد الرقيق يكتب فيه وقال الراغب: الرق ما يكتب فيه شبه كاغد ا. هـ. فهو أعمّ من كونه جلداً وغيره {منشور} أي مبسوط مهيأ للقراءة. وقوله تعالى: {والبيت المعمور} مختلف في مكانه فقيل في السماء العليا تحت العرش وقيل: في السماء الثالثة وقيل في السادسة وعلى كل قول هو بحيال الكعبة يقال له: الضراح حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدا ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة وقيل: هو بيت الله الحرام لكونه معموراً بالحجاج والعمار والمجاورين وقيل: اللام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 في البيت المعمور لتعريف الجنس كأنه تعالى أقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة. وقوله تعالى: {والسقف المرفوع} مختلف فيه أيضاً فالأكثر على أنه السماء كما قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32) وقيل: المراد به سقف الكعبة وقيل: سقف الجنة وهو العرش ونقل عن ابن عباس. وقوله تعالى: {والبحر المسجور} من الأضداد يقال بحر مسجور أي مملوء وبحر مسجور أي فارغ وروى ذو الرمّة الشاعر عن ابن عباس أنه قال: خرجت أمة لتستقي فقالت إنّ الحوض مسجور أي فارغ ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل: المسجور الممسوك ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه. وقال محمد بن كعب القرظي: يعني بالمسجور الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس لما روي أنه تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى: {وإذا البحار سجرت} (التكوير: 6) وعن علي أنه سأل يهودياً أين موضع النار في كتابكم قال: في البحر قال علي: ما أراه إلا صادقاً لقوله تعالى {والبحر المسجور} ، وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يركبن البحر رجل إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً فإنّ تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً» وقال الربيع بن أنس المختلط العذب بالملح. وروى الضحاك عن المنزل بن سمرة عن علي أنه قال: البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم وهذا قول مقاتل. فإن قيل: ما الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء؟ أجيب: بأنّ هذه الأماكن الثلاثة وهي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله تعالى، أمّا الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام وخاطب الله سبحانه وتعالى هناك، وأمّا البيت المعمور فانتقل إليه محمد صلى الله عليه وسلم وقال لربه سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأمّا البحر المسجور فانتقل إليه يونس عليه السلام ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها. وأمّا ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم مع الله تعالى في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب. تنبيه: أقسم الله تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى: {والذاريات} (الذاريات: 1) و {المرسلات} (المرسلات: 1) و {النازعات} (النازعات: 1) وفي بعضها بإفراد كقوله تعالى {والطور} ولم يقل والأطوار والأبحار قال الرازي: والحكمة فيه أنّ في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحرّكات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدلة بأفرادها مستمرّة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال {والذاريات} إشارة إلى النوع المستمرّ لا إلى الفرد المعين المستقر، وأمّا الجبل فهو ثابت غير متغير عادة فالواحد من الجبال دائم زماناً ودهراً فأقسم في ذاك بالواحد، وكذلك في قوله تعالى {والنجم} (النجم: 1) ولو قال والريح لما علم المقسم به وفي الطور علم. وقوله تعالى: {إنّ عذاب ربك} أي: الذي تولى تربيتك {لواقع} أي: ثابت نازل بمستحقه جواب القسم كما مرّ. {ما له من دافع} أي: مانع لأنه لا شريك لموقعه لما دلت عليه هذه الأقسام من كمال القدرة وجلال الحكمة قال جبير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع} فكأنما صدع قلبي حين سمعته ولم أكن أسلمت يومئذ فأسلمت خوفاً من العذاب وما كنت أظنّ أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب. ثم بين تعالى أنه متى يقع بقوله تعالى {يوم تمور السماء} أي: تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتدور دوران الرحى ويموج بعضها في بعض وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض. قال البغوي: والمور يجمع هذه المعاني وهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردّد والدوران والاضطراب قال الرازي: وقيل تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل {موراً} أي: اضطراباً شديداً. {وتسير الجبال} أي: تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب وحقق معناه بقوله تعالى {سيراً} فتصير هباء منثوراً وتكون الأرض قاعاً صفصفاً. ثم بيّن من يقع عليه العذاب بقوله تعالى {فويل} أي: شدة عذاب {يومئذ} أي: يوم إذ يكون ما تقدّم ذكره {للمكذبين} أي: الغريقين في التكذيب للرسل. {الذين هم} من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم {في خوض} أي: أقوالهم وأفعالهم أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله {يلعبون} فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل الخوض واللعب فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه فلا يؤسس على بيان أو حجة. فإن قيل: أهل الكبائر لا يكذبون فمقتضى ذلك أنهم لا يعذبون. أجيب بأنّ ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر لقوله تعالى {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا} (الملك: 8 ـ 9) فالمؤمن لا يلقى فيها إلقاء هوان وإنما يدخل فيها للتطهير إدخالاً مع نوع إكرام فالويل إنما هو للمكذبين. وقوله تعالى: {يوم يدعون} بدل من يوم تمور السماء أو من يومئذ قبله تقديره: فويل يومئذ يوم يدعون، أي: يدفعون دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة من كل من يقيمه الله تعالى لذلك ذاهبين ومتهيئين {إلى نار جهنم} وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة وأكد المعنى وحققه بقوله تعالى {دعّاً} . قال البغوي: وذلك أنّ خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم مقولاً لهم تبكيتاً وتوبيخاً {هذه النار} أي: الجسم المحرق المفسد لما اتى عليه الشاغل عن اللعب {التي كنتم بها} في الدنيا {تكذبون} على التجدّد والاستمرار. خبر مقدّم وقوله تعالى {هذا} هو المبتدأ وقدّم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً صلى الله عليه وسلم إلى السحر وأنه يغطي الأبصار بالسحر وأنّ انشقاق القمر وأمثاله سحر فوبخوا به، وقيل لهم: {أفسحر هذا} أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون فيه {أم أنتم} في منام أو نحوه {لا تبصرون} بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا قلوبنا في أكنة، ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمنذر {بيننا وبينك حجاب فاعمل أننا عاملون} (فصلت: 5) {اصلوها} أي: إذا لم يمكنكم إنكارها وتحققتم أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فقاسوا شدّتها {فاصبروا} على هذا الذي لا طاقة لكم به {أو لا تصبروا} فإنه لا محيص لكم عنه {سواء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 عليكم} أي: الصبر والجزع فإنّ صبركم لا ينفعكم. وقوله تعالى: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} تعليل للاستواء فإنه لماكان الجزاء واجباً كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع. ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب أتبعه ما لأضدادهم من الثواب فقال تعالى {إن المتقين} أي: الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة {في جنات} أي: بساتين أية بساتين دائماً في الدنيا حكماً وفي الآخرة حقيقة {ونعيم} أيّ: نعيم في العاجل يعني بما لهم فيه من الأنس وفي الآجل بالفعل. وزاد في تحقيق التنعم بقوله تعالى {فاكهين} أي: متلذذين معجبين ناعمين {بما آتاهم} أي: أعطاهم {ربهم} الذي تولى تربيتهم بعملهم بالطاعات إلى أن أوصلهم إلى هذا النعيم {ووقاهم} أي: قبل ذلك {ربهم} أي: المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات {عذاب الجحيم} أي النار الشديدة التوقد. ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في غنى عظيم قال مترجماً لذلك على تقدير القول {كلوا} أي: أكلاً هنيئاً {واشربوا} أي: شرباً {هنيئاً} وهو الذي لا تنغيص فيه فكل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخم والسقم وغيرهما {بما} أي: بسبب ما {كنتم} أي: كوناً راسخاً {تعملون} أي: مجددين العمل على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم. ثم نبه على أنهم مع هذا النعيم مخدومون بقوله تعالى {متكئين} أي: مستندين استناد راحة لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة {على سرر مصفوفة} أي: منصوبة واحداً إلى جنب واحد مستوية كأنها الستور على أحسن نظام وأبدعه. ثم نبه على تمام سرورهم بالتمتع بالنساء بقوله تعالى {وزوجناهم} أي: تزويجاً يليق بما لنا من العظمة أي صيرناهم ممتعين {بحور} أي: نساؤهنّ في شدّة بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية حسن لا توصف {عين} أي: واسعات الأعين في رونق وحسن. تنبيه: اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعم على الترتيب فأوّل ما يكون المسكن وهو الجنان، ثم الأكل والشرب ثم الفرش والبسط ثم الأزواج فهذه أمور أربعة ذكرها الله تعالى على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله فقوله: {جنات} إشارة إلى المسكن وقال {فاكهين} إشارة إلى عدم التنغيص وعلوّ المرتبة لكونه مما آتاهم الله. وقال: {كلوا واشربوا هنيئاً} أي مأمون العاقبة وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنويعهما وكثرتهما. وقوله تعالى {بما كنتم تعملون} إشارة إلى أنه تعالى يقول: إني مع كوني ربكم وخالقكم وأدخلتكم الجنة بفضلي فلا منة لي عليكم اليوم وإنما منتي عليكم كانت في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى {بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات: 17) وأمّا اليوم فلا منة عليكم لأنّ هذا إنجاز الوعد. وقوله تعالى: {والذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان وإن لم يبالغوا في الأعمال الصالحة مبتدأ وقرأ أبو عمرو {وأتبعناهم} أي بما لنا من الفضل الناشىء عن العظمة بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية وسكون العين وبعد العين نون مفتوحة بعدها ألف والباقون بهمزة وصل محذوفة وتشديد التاء الفوقية وفتح العين وبعدها تاء فوقية ساكنة وهو معطوف على آمنوا {ذرياتهم} أي: الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم، فإنّ الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه {بإيمان} أي بسبب إيمان حاصل منهم ولو كان في أدنى درجات الإيمان ولكنهم ثبتوا عليه إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 أن ماتوا وذلك شرط اتباعهم الذريات قال البقاعي: ويجوز أن يراد وهو أقرب بسبب إيمان الذرّية حقيقة إن كانوا كباراً أو حكماً إن كانوا صغاراً، ثم أخبر عن الموصول المبتدأ بقوله تعالى: {ألحقنا بهم} تفضلاً منا عليهم {ذريتهم} وإن لم يكن للذرّية أعمال لأنه: *لعين تجازى ألف عين وتكرم والذريات هنا تصدق على الآباء وعلى الأبناء وإنّ المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابناً كان أو أباً وهو منقول عن ابن عباس وغيره، ويلحق بالذرّية من النسب الذرّية بالسبب وهو المحبة فإن كان معها أخذ لعلم أو عمل كانت أجدر فتكون ذرية الإفادة كذرّية الولادة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحبّ» في جواب من سأل عمن يحب القوم ولما يلحق بهم، وقرأ {ذرّيتهم بإيمان} و {ألحقنا بهم ذرياتهم} نافع بالقصر في الأولى والجمع في الثانية مع كسر التاء، وقرأ ابن كثير والكوفيون بالقصر فيهما مع ضم التاء، وقرأ أبو عمرو بالجمع فيهما مع كسر التاء، وقرأ ابن عامر بالجمع فيهما إلا أنه يرفع التاء في الأولى ويكسرها في الثانية. فإن قيل: قوله تعالى {أتبعناهم ذريّاتهم} يفيد فائدة قوله تعالى {ألحقنا بهم ذرياتهم} أجيب بأنّ قوله تعالى {ألحقنا بهم} أي في الدرجات والإتباع إنما هو في حكم الإيمان وإن لم يبلغوه كما مرّ ثم أشار إلى عدم نقصان المتبوع بقوله تعالى {وما ألتناهم} أي: ما نقصنا المتبوعين {من عملهم} وأكد النفي بقوله تعالى {من شيء} أي: بسبب هذا الإلحاق. ولما بين تعالى اتباع الأدنى للأعلى في الخير، بين أنّ الأدنى لا يتبع الأعلى في الشرّ بقوله تعالى: {كل امرئ} من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم {بما كسب} أي: عمل من خير أو شرّ {رهين} أي: مرهون يؤخذ بالشر ويجازى بالخير وقال مقاتل: كل امرئ كافر بما عمل من الشرك رهين في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين} (المدثر: 38 ـ 39) وقال الواحدي: هذا يعود إلى ذكر أهل النار وهو قول مجاهد أيضاً قال الرازي: وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى كل امرئ راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً وإن أساء ففي النار مخلداً؛ لأنّ في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان، فإنّ العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإنّ الله تعالى يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عمله. {وأمددناهم} أي: الذين آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة {بفاكهة} وقتاً بعد وقت زيادة على ما تقدم، ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما نعرفه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكهاً ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال تعالى: {ولحم مما يشتهون} من أنواع اللحمان والمعنى: زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهة واللحم، والمشروب الكأس وفي هذا لطيفة: وهي أنه تعالى لما قال {وما ألتناهم من عملهم من شيء} ونفي النقصان يصدق بحصول المساوي فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة والإمداد. وقوله تعالى: {يتنازعون} في موضع نصب على الحال من مفعول أمددناهم ويجوز أن يكون مستأنفاً وقوله تعالى: {فيها} يجوز أن يعود الضمير لشربها ويجوز أن يعود للجنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 ومعنى يتنازعون يتعاطون، ويحتمل أن يقال: التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة لأنهم يفعلون ذلك هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم {كأساً} أي: خمراً من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها {لالغو} أي: لا سقط حديث وهو ما لا ينفع من الكلام ولا يضر {فيها} أي: في تنازعها ولا بسببها لأنها لا تذهب بعقولهم فلا يتكلمون إلا بالحسن الجميل بخلاف المتنادمين في الدنيا على الشراب بسفههم وعربدتهم {ولا تأثيم} أي: لا يكون منهم ما يؤثمهم وقال الزجاج: لا يجري منهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السكر وقيل: لا يأثمون في شربها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لغو وتأثيم من غير تنوين، والباقون بالرفع فيهما مع التنوين. ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ويعظم أنسها إلا بخدم وسقاة قال تعالى: {ويطوف عليهم} بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف {غلمان} أي: أرقاء، ولما كان أحب مال إلى الإنسان ما يختص به قال تعالى: {لهم} ولم يقل تعالى غلمانهم لئلا يظنّ أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحداً في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً، وأفاد التنكير أنّ كل من دخل الجنة وجد له خدم لم يعرفهم قبل ذلك {كأنهم} في بياضهم وشدّة صفائهم {لؤلؤ مكنون} أي: مخزون مصون لم تمسه الأيدي. قال سعيد بن جبير يعني في الصدف لأنه فيها أحسن منه في غيره أو مصون في الجنة لم تغيره العوارض.Y قال عبد الله بن عمر: ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه، هذه صفة الخادم وأمّا المخدوم فروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال يا رسول الله: الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم، قال «فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامة فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك» وقرأ السوسي وشعبة لولو بالبدل والباقون بالهمز. {وأقبل بعضهم} لما ازدهاهم من السرور واللذة والحبور {على بعض يتساءلون} أي: يسأل بعضهم بعضاً في الجنة قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا. {قالوا} أي: قال كل منهم {إنا كنا قبل} أي: في دار العمل {في أهلنا} على ما لهم من العدد والعُدَد والسعة، ولنا بهم من جوانب اللذة والدواعي إلى اللعب {مشفقين} أي: عريقين في الخوف من الله تعالى لا يلهينا عنه شيء مع لزومنا لما نقدر عليه من طاعته لعلمنا بأنا لا نقدره لما له من العظمة والجلال والكبرياء والكمال حق قدره، والمعنى: أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه تلذذاً واعترافاً بالنعمة فيقولون ذلك خشية الله تعالى أي كنا نخاف الله تعالى. {فمنّ الله} الذي له جميع الكمال بسبب إشفاقنا منه {علينا} بالرحمة والتوفيق {ووقانا} أي: وجنبنا بما سترنا به {عذاب السموم} قال الكلبيّ عذاب النار، وقال الحسن: السموم من أسماء جهنم، والسموم في الأصل الريح الحارة التي تتخلل المسام والجمع سمائم. يقال: سمّ يومنا أي اشتدّ حره، وقال ثعلب: السموم شدة الحرّ أو شدة البرد في النهار، وقال أبو عبيدة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار. {إنا كنا} أي: بما طبعنا عليه وهيئنا له {من قبل} أي: في الدنيا {ندعوه} أي: نسأله ونعبده بالفعل وأمّا خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكون، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأنّ أنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره فهو مما يتعجب منه غاية التعجب بقولهم: {إنه هو} أي: وحده، وقرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة والباقون بكسرها {البرّ} أي: الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما برّه بالنعمة وربما برّه بالبؤس فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له البرّ في العقبى فعلى المؤمن أن لا يتهم ربه في شيء من قضائه {الرحيم} أي: المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته. ولما بين تعالى أنّ في الوجود قوماً يخافون الله تعالى ويشفقون في أهليهم والنبيّ صلى الله عليه وسلم مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (ق: 45) فوجب التذكير. فلذلك قال تعالى: {فذكر} أي: عظ يا أشرف الخلق بالقرآن ودم على ذلك ولا ترجع عنه لقول المشركين لك كاهن ومجنون {فما أنت بنعمة ربك} أي: بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلوّ الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق، وجعلك أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلقاً وهم معترفون لك بذلك قبل النبوّة. وأكد النفي بقوله تعالى: {بكاهن} أي: تقول كلاماً مع كونه سجعاً متكلفاً أكثره فارغ وتحكم على المغيبات من غير وحي {ولا مجنون} أي: تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاً، وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك فمن اتبعك منهم غسل عاره ومن استمرّ على عناده استمرّ تبابه وخساره. تنبيه: نزلت هذه الآية في الذين اقتسموا عقاب مكة يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والجنون والشعر. {أم يقولون} أي: هؤلاء المقتسمون {شاعر} أي: هو شاعر قال الثعلبي: قال الخليل: كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف، وقال أبو البقاء: أم في هذه الآيات منقطعة وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر ببل وحدها أو ببل والهمزة أو بالهمزة وحدها، والصحيح الثاني. وقال مجاهد: في قوله تعالى: {أم تأمرهم} (الطور: 32) تقديره: بل تأمرهم {نتربص} أي ننتظر {به ريب المنون} أي: حوادث الدهر وتقلبات الزمان لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل قال الشاعر: *تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوماً أو يموت حليلها* وقال أبو ذئب: *أمن المنون وريبها تتوجع * ... والدهر ليس بمعتب من يجزع* والمنون في الأصل: الدهر، وقال الراغب: المنون المنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد، والمعنى: بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخراصين شاعر نتربص به ريب المنون حوادث الدهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 وصروفه، وذلك أنّ العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء فإنّ الشعر كان عندهم يحفظ ويدوّن فقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما نصبر ونتربص موته ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء وتتفرّق أصحابه فإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه، والمنون يكون بمعنى الدهر وبمعنى الموت سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل. ثم إنه تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل} أي: لهؤلاء البعداء {تربصوا} أي انتظروا بي الموت ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيهاً على أنه من السقوط بمنزلة ما لا يحتاج معه إلى ردّ بمجادلة، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله: {فإني معكم من المتربصين} أي: العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك وأكده تنبيهاً على أنه يرجو الفرج بمصيبتهم كما يرجون الفرج بمصيبته، وأشار بالمعية إلى أنه مساوٍ لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوّتهم ووحدته وضعفه أن الأمر بخلاف ذلك. قال القشيري: جاء في التفسير أنّ جميعهم أي الذين تربصوا به ماتوا قال ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقلّ من تكون هذه صفاته إلا وسبقته المنية ولا يدرك ما تمناه من الأمنية. فإن قيل: هذا أمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يبيحه ويجوّزه وتربصهم كان حراماً. أجيب: بأنّ ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا ذلك فإني متربص الهلاك بكم كقول الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل. {أم تأمرهم} أي: تزين لهم تزييناً يصير ما لهم إليه من الانبعاث كالأمر {أحلامهم} أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم أولو الأحلام والنهى، فأزرى الله تعالى بعقولهم حين لم تتم لهم معرفة الحق من الباطل وذلك أنّ الأشياء لا يعبأ بها إلا إن تزينت بعقل أو نقل فقال: هل ورد أمر سمعي أم عقولهم تأمرهم {بهذا} أي: قولهم له ساحر كاهن مجنون وقيل: إلى عبادة الأوثان، وقيل: إلى التربص أي لا تأمرهم بذلك {أم} أي بل {هم} بظواهرهم وبواطنهم {قوم} ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك {طاغون} أي: مفترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً، والطغيان مجاوزة الحدّ في العصيان وكذلك كل شيء مكروه ظاهر قال تعالى: {لما طغى الماء} (الحاقة: 11) تنبيه: اعلم أنّ قوله تعالى: {أم تأمرهم} متصل تقديره: أأنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا، وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ كل ما لا يكون على وفق العقل لا ينبغي أن يقال، وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلاً والأحلام جمع حلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى، لأنّ العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرّك من مكانه والحلم من الاحتلام وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأنّ الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزم الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفاً، فالله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ليعلم أنه يريد به كمال العقل. {أم يقولون} ما هو أفحش عاراً من التناقض {تقوله} أي: تكلف قوله من عند نفسه كذباً وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعراقة آخرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزون عن مثله بل عن مثل شيء منه. تنبيه: التقوّل تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى {أم يقولون شاعر} تقديره أم يقولون شاعر أم يقولون تقوّله والمعنى ليس الأمر كما زعموا {بل لا يؤمنون} بالقرآن استكباراً. ثم ألزمهم الحجة وأبطل جميع الأقسام. فقال عز من قائل: {فليأتوا} أي: على أيّ تقدير أرادوه {بحديث} أي: كلام مفرق مجدّد إتيانه مع الأزمان {مثله} أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه لا نكلفهم أن يأتوا به جملة. فإن قيل: الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير، والموصوف هنا حديث وهو منكر ومثله مضاف إلى القرآن والمضاف إلى القرآن معرّف فكيف هذا. أجيب: بأنّ مثلاً وغيراً لا يتعرّفان بالإضافة وذلك أن غيرا ومثلاً وأمثالهما في غاية التنكير لأنك إذا قلت: مثل زيد يتناول كل شيء فإنّ كل شيء مثل زيد في شيء فالحمار مثله في الجسم والحجم والإمكان، والنبات مثله في النموّ والنشء والذبول والفناء، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف وأمّا غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت: غير زيد صار في غاية الإبهام فإنه يتناول أموراً لا حصر لها وأما إذا قطعت غير عن الإضافة فربما يكون الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس وتجعله مبتدأ أو تريد به معنى معيناً. تنبيه: قالت المعتزلة: الحديث محدث والقرآن سماه حديثاً فيكون محدثاً، وأجيبوا: بأنّ الحديث اسم مشترك يقال للمحدث والمنقول ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم أي متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لانزاع فيه. قال بعض العلماء: وهذا أمر تعجيز، قال الرازي: والظاهر أنّ الأمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل ائتوا مطلقاً بل قال تعالى: {إن كانوا} أي: كوناً هم راسخون فيه {صادقين} أي: في أنه تقوله من عند نفسه كما يزعمون فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى: {فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} (البقرة: 258) وفي هذا تشنيع عليهم سواء ادعوا أنه مجنون أم شاعر أم كاهن أم غير ذلك، لأنّ العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساو لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به، فإنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي وهو المراد من تكذيبهم. {أم خلقوا} أي: وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة {من غير شيء} أي: خالق خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق {أم هم الخالقون} لأنفسهم وذلك في البطلان أشدّ، لأنّ ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأنّ لهم خالقاً وهو الله تعالى فلم لا يوحدنه ويؤمنون به وبرسوله وبكتابه وقال الزجاج: معناه أخلقوا باطلاً لا يحاسبون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 ولا يؤمنون وقال ابن كيسان: أخلقوا عبثاً وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء، أي: لغير شيء أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر. وقيل: معناه أخلقوا من غير أب وأم. تنبيه: لا خلاف أنّ أم هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول اخلقوا من غير شيء قال الرازي: ويحتمل أن يقال هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره: أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. {أم خلقوا} أي: على وجه الشركة {السموات والأرض} فهم بذلك عالمون بما فيهما على وجه الإحاطة واليقين، حتى علموا أنك تقوّلته ليصير لهم ردّه والتهكم عليه {بل لا يوقنون} أي: ليس لهم نوع يقين وإلا لآمنوا برسوله وكتابه. {أم عندهم} أي: خاصة دون غيرهم {خزائن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك فيعلموا أنّ هذا الذي أتيت به ليس من قول الله تعالى فيصح قولهم إنك تقوّلته {أم هم} أي: لا غيرهم {المسيطرون} أي: الرقباء الحافظون المتسلطون الجبارون الرؤساء الحكام الكتبة ليكونوا ضابطين للأشياء كلها، كما هو شأن كتاب السرّ عند الملوك فيعلمون أنك تقوّلت هذا الذكر لأنهم لم يكتبوا به إليك. {أم لهم سلم} يصعدون به إلى السماء {يستمعون} أي: يتعمدون السماع لكل ما يكون فيها ومنها {فيه} أي: صاعدين في ذلك السلم إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن {فليأت مستمعهم} أي: مدعي الاستماع {بسلطان مبين} أي: بحجة بينة واضحة. ولشبه هذا الزعم زعمهم أنّ الملائكة بنات الله قال تعالى: {أم له البنات} أي: بزعمكم {ولكم البنون} أي: خاصة لتكونوا أقوى منه فتكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وتردوا قوله من غير حجة فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوّتكم. {أم تسألهم} أي: أيها الطاهر الشيم البعيد عن مواقع التهم {أجراً} على إبلاغ ما أتيتهم به {فهم من مغرم} أي: غرم لك ولو قلّ، والمغرم التزام ما لا يجب {مثقلون} فهم لذلك يكذبون من كان سبباً في هذا الثقل بغير مستند ليستريحوا مما جره لهم من الثقل. {أم عندهم} أي: خاصة بهم {الغيب} أي: علم ما غاب عنهم {فهم يكتبون} أي: يجدّدون للناس كتابة جميع ما غاب عنهم مما ينفعهم ويضرّهم حتى يحسدوك فيما شاركتهم به منه فيردوه لذلك وينسبوك إلى ما نسبوك إليه مما يعلم كل أحد نزاهتك عنه وبعدك منه. وقال ابن عباس معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به. واللام في الغيب لا للعهد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب، كما تقول اشتر اللحم تريد بيان الحقيقة لا كل لحم ولا لحماً معيناً. {أم يريدون} أي: بهذا القول الذي يرمونك به {كيداً} أي: مكراً وضرراً عظيماً ليهلكوك به {فالذين كفروا} وكان الأصل فهم، ولكنه قال تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {هم} أي خاصة {المكيدون} أي: المغلوبون المهلكون فإنهم مكروا به في دار الندوة فحفظه الله تعالى منهم ثم أهلكهم ببدر عند انتهاء سنين عدتها عدّة ما هنا من أم وهي خمس عشرة مرة، لأنّ بدراً كانت في الثانية من الهجرة وهي الخامسة عشر من النبوّة فقد سبب الله تعالى فيها من الأسباب ما أوجب سعيهم إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 هلاكهم بأمور خارقة للعادة، فلو كانت لهم بصائر لكفتهم في الهداية والردّ عن الضلالة والغواية. {أم لهم إله} أي: يمنعهم من التصديق بكتابنا أو يستندون إليه للأمان من عذابنا {غير الله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {سبحان الله} الملك الأعظم الذي تعالى عن أن يداني جنابه شائبة نقص {عما يشركون} من الأصنام وغيرها. تنبيه: الاستفهام بأم في مواضعها للتقبيح والتوبيخ، ولما بين تعالى فساد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنهم لم يبق لهم عذر فإنّ الآيات والحجج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك استحقوا الانتقام. وقوله تعالى: {وإن يروا} أي: معاينة {كسفاً} أي: قطعة وقيل قطعاً واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر {من السماء} جهاراً نهاراً {ساقطاً يقولوا} جواب لقولهم فأسقط علينا كسفاً من السماء كأن الله تعالى يقول لو عذبناهم بسقوط قطعة من السماء عليهم لم ينتهوا عن قولهم ويقولون لمعاندتهم: هذا {سحاب} فإن قيل لهم هو مخالف للسحاب بصلابته وغلظته قالوا {مركوم} أي: مركب بعضه على بعض فتلبد وتصلب. وقوله تعالى: {فذرهم} أي: اتركهم على شر أحوالهم كقوله تعالى: {فأعرض عنهم} (السجدة: 30) وقوله تعالى: {فتول عنهم} (الصافات: 174) إلى غير ذلك فقيل: كلها منسوخة بآية القتال قال ابن عادل وهو ضعيف وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن يصحبه دعه فإنه سينال جنايته {حتى يلاقوا يومهم الذي فيه} أي: لا في غيره لأنّ ما حكمنا به لا يتقدم ولا يتأخر {يصعقون} أي: يموتون من شدة الأهوال وعظم الزلزال كما صعق بنو إسرائيل في الطور، ولكن لا نقيمهم كما أقمنا أولئك إلا عند النفخ في الصور لنحشرهم للحساب الذي يكذبون به. قال البقاعي: والظاهر أنّ هذا اليوم يوم بدر فإنهم كانوا قاطعين بالنصر فيه فما أغنى أحد منهم عن أحد شيئاً كما قال أبو سفيان بن الحارث: ما هو إلا أنا ألقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا. وقوله تعالى: {يوم لا يغني} أي: بوجه من الوجوه بدل من يومهم {عنهم كيدهم} أي: الذي يرمونه بهذه الأقوال المتناقضة {شيئاً} من الإغناء في دفع شيء يكرهونه من الموت ولا غيره كما يظنون أنه يغني عنهم في غير ذلك من أحوال هذه الدار {ولا هم ينصرون} أي: يتجدد لهم نصر ما في ساعة ما يمنعهم من العذاب. وقوله تعالى: {وإنّ للذين ظلموا} يجوز أن يكون من إيقاع الظاهر موضع المضمر وأن لا يكون، والمعنى: وإنّ للذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها كما يقولونه في القرآن ويفعلونه من العصيان ويعتقدونه من الشرك والبهتان {عذاباً دون ذلك} أي: غير عذاب ذلك اليوم قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر وقال الضحاك: هو الجوع والقحط سبع سنين وقال البراء بن عازب: عذاب القبر، والآية تحتمل هذه المعاني كلها {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أن العذاب نازل بهم. {واصبر} أي: أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت عليه من أداء الرسالة {لحكم ربك} أي: المحسن إليك فإنه هو المريد لذلك ولو لم يرده لم يكن شيء منه فهو إحسان منه إليك وتدريب لك وترقية في معارج الحكم، وسبب عن ذلك قوله تعالى مؤكداً لما يغلب على الطبع البشري في بعض أوقات الامتحان من نوع نسيان {فإنك بأعيننا} أي: بمرأى منا نراك ونحفظك، وجمع لما اقتضته نون العظمة التي هذا سياقها وهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 ظاهرة في الجمع، وإشارة إلى أنه محفوظ بالجنود الذين رؤيتهم من رؤيته سبحانه وتعالى {وسبح} ملتبساً {بحمد ربك} أي: المحسن إليك فأثبت له كل كمال من تنزيهك له عن كل نقص فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يريد إلا ما هو حكمة بالغة {حين تقوم} قال سعيد بن جبير وعطاء: أي قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك فإن كان المجلس خيراً ازددت إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارة له. وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من جلس مجلساً وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا كان كفارة لما بينهما» أي من الذنوب الصغائر. وقال ابن عباس: معناه صل لله حين تقوم من مقامك وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك، وقال الكلبي: هو ذكر الله تعالى باللسان حتى تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة لما روى عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأيّ شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل فقالت «كان إذا قام كبر عشراً وحمد الله تعالى عشراً وهلل عشراً واستغفر عشراً، وقال: اللهمّ اغفر لي واهدني وارزقني وعافني، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة» وقيل حين تقوم لأمر ما. {ومن الليل} أي: الذي هو محل السكون والراحة {فسبحه} أي: صلّ له قال مقاتل: يعني صلاة المغرب والعشاء {وإدبار النجوم} أي: صل الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح هذا قول أكثر المفسرين وقال الضحاك: هي فريضة صلاة الصبح وهذه الآية نظير قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: 17) وقد تقدم الكلام عليها قال الرازي: قال تعالى هنا: {وإدبار النجوم} وقال في سورة ق: {وأدبار السجود} (ق: 40) فيحتمل أن يكون المعنى واحداً والمراد من السجود جمع ساجد والنجوم سجود قال تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن: 6) وقيل المراد من النجوم نجوم السماء وقيل النجم ما لا ساق له من النبات قال الله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض} (الرعد: 15) الآية أو المراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة أي إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل سبحان الله كما مرّ، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته» حديث موضوع. سورة النجم مكية ثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمةوألف وأربعمائة وخمسة أحرف {بسم الله} الذي أحاط بصفات الكمال {الرحمن} الذي عمّ الموجودات بصفة الجمال {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بصالح الأعمال. {والنجم إذا هوى} قال ابن عباس في رواية العوفي: يعني الثريا إذا غابت وسقطت وهوت مغيبة، والعرب تسمي الثريا نجماً، وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً «ما طلع النجم قط وفي الأرض شيء من العاهات إلا رفع» وأراد بالنجم الثريا، وقال مجاهد: هو نجم السماء كلها حين يغرب، لفظه واحد ومعناه الجمع سمى الكوكب نجماً لطلوعه وكلّ طالع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 نجم يقال: نجم السن والنبت والقرن إذا طلع. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها ما يرجم به الشياطين عند استراقهم السمع وقال أبو حمزة الثمالي: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة وقيل: المراد بالنجم القرآن سمي نجماً لأنه نزل نجوماً متفرقة في عشرين سنة ويسمى التفريق تنجيماً والمفرّق منجما هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وقال الكلبي: والهوى النزول من أعلى إلى أسفل وقال الأخفش: النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن: 6) وهويه سقوطه على الأرض. وقال جعفر الصادق: يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج والهوى النزول يقال هوى يهوى هوياً والكلام في قوله تعالى: {والنجم} كالكلام في قوله تعالى {والطور} حيث لم يقل والنجوم والأطوار وقال: {والذاريات} (الذاريات: 1) {والمرسلات} (المرسلات: 1) كما مر. تنبيه: أوّل هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها فإنه تعالى قال في آخر تلك {وأدبار النجوم} وقال تعالى في أوّل هذه: {والنجم إذا هوى} قال الرازي: والفائدة في تقييد القسم به في وقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا نزل عن وسط السماء تبين بنزوله جانب المغرب عن المشرق والجنوب عن الشمال. وقوله تعالى: {ما ضل} أي: عن طريق الهداية {صاحبكم} محمد صلى الله عليه وسلم وقتاً من الأوقات، جواب القسم وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه وقتاً من الأوقات جواب القسم وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طهارة شمائله {وما غوى} أي: وما مال أدنى ميل ولا كان مقصده مما يسوء فإنه محروس من أسباب غواية الشياطين وغيرها. تنبيه: الغي جهل عن اعتقاد فاسد بخلاف الضلال، وذهب أكثر المفسرين إلى أن الغي والضلال بمعنى واحد وفرق بعضهم بينهما فقال: الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد قال تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256) وقال تعالى {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلاً} (الأعراف: 146) قال الرازي: وتحقيق القول فيه أنّ الضلال أعم استعمالاً في الوضع تقول: ضل بعيري ورحلي ولا تقول غيّ. فائدة: قد دافع الله سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمّا باقي الأنبياء فدافعوا عن أنفسهم ليس بي ضلالة ليس بي سفاهة ونحو ذلك قاله القشيري فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {ما ضلّ صاحبكم} وبين قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} (الضحى: 7) أجيب: بأنّ المراد من الآية الآتية وجدك ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها بخلاف هذه الآية. {وما ينطق} أي: يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في هذا الحال ولا في الاستقبال نطقاً ناشئاً {عن الهوى} أي: عن أمره كالكهان الذين يغلب كذبهم صدقهم، والشعراء وغيرهم وما يقول هذا القرآن من عند نفسه. {إن} أي: ما {هو} أي: الذي يتكلم به من القرآن وكلّ أقواله وأفعاله وأحواله {إلا وحي} أي: من الله تعالى وأكده بقوله تعالى: {يوحى} أي: يجدد إليه إيحاؤه منا وقتاً بعد وقت. تنبيه: استدل بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، وأجيب: بأنّ الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى. {علمه} أي: صاحبكم الوحي الذي أتاكم به ملك {شديد القوى} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 فلا تعجبوا من هذه البحار الزاخرة فإنّ معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كلّ ما أمره الله تعالى به وهو جبريل عليه السلام، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق. روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف، ورأى إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه نفحة بجناحه فألقاه في أقصى بلاد الهند. {ذو مرّة} قال ابن عباس: ذو منظر حسن وقال أكثر المفسرين: ذو قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به، والطاقة لحمله بغاية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس في مزاولته ماض على طريقة واحدة على غاية من الشدّة لا توصف لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به، فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة لا يسأم في شيء يزاوله، ومن جملة ما أعطي من القوّة القدرة على التشكل وإلى ذلك أشار بما تسبب عن هذا من قوله تعالى {فاستوى} أي: فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوّته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها. {وهو} أي: والحال أنّ جبريل عليه السلام {بالأفق الأعلى} أي: عند مطلع الشمس، وذلك أنّ جبريل عليه السلام كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين مرّة في الأرض ومرّة في السماء، فأمّا التي في الأرض ففي الأفق الأعلى، والمراد بالأعلى جانب المشرق وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان بحراء وكان جبريل واعده أن يأتيه وهو بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فنزل له جبريل عليه السلام في صورة الآدميين. {ثم دنا} أي قرب منه {فتدلى} أي زاد في القرب. {فكان} منه {قاب} أي قدر {قوسين} أي عربيتين {أو أدنى} من ذلك وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه وجعل يمسح التراب عن وجهه، وأمّا في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم تنبيه: القاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» والقد: السوط، ويقال بينهما خطوات يسيرة وقال الشاعر: * ... وقد جعلتني من خزيمة أصبعا فإن قيل: كيف تقدير قوله: {فكان قاب قوسين} أجيب: بأنّ تقديره فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله: وقد جعلتني من خزيمة أصبعا أي ذا مقدار مسافة أصبع. وروى الشيباني قال: سألت زراً عن قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود «أنه محمد صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح» وبهذا قال ابن عباس والحسن وقتادة، وقال آخرون: دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ومعنى دنوه تعالى: قرب منزلة كقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه تبارك وتعالى «من تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً ومن تقرّب إليّ ذراعاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 تقرّبت إليه باعاً ومن مشى إليّ أتيته هرولة» وهذا إشارة إلى المعنى المجازي قال البغوي: وروينا في قصة المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس: فدنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس وقال مجاهد: دنا جبريل من ربه وقد قدّمت الكلام على المعراج وعلى جواز رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في أوّل الإسراء. وقال الضحاك: دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجلّ فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى وتقدّم الكلام على القاب، والقوس: ما يرمى به في قول مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، فأخبر أنه كان بين جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين. وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب والأصل في ذلك أنّ الحليفين من العرب كانا إذا أراد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فالصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه، وقال عبد الله بن مسعود: قاب قوسين قدر ذراعين وهو قول سعيد بن جبير، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء أو أدنى بل أقرب وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب. {فأوحى} أي: الله تعالى وإن لم يجر له ذكر لعدم اللبس {إلى عبده} أي: جبريل عليه السلام {ما أوحى} أي: جبريل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الموحي تفخيماً لشأنه وهذا التفسير ما جرى عليه الجلال المحلي وهو ظاهر، وقيل: فأوحى إلى جبريل بسبب هذا القرب وعقبه إلى عبده أي عبد الله ما أوحى أي جبريل وقيل: الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات: 58) ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بكليته إلى جانب القدس، واختلف في الموحى على أقوال الأول قال سعيد ابن جبير: أوحى إليه {ألم يجدك يتيماً} (الضحى: 6) إلى قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} (الشرح: 4) الثاني: أوحى إليه الصلاة. الثالث: أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك. الرابع: أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة. الخامس: أنّ ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل. {ما كذب الفؤاد} أي: فؤاد النبيّ صلى الله عليه وسلم {ما رأى} أي: ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، وهذا أيضاً ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال البقاعي: ما رأى البصر أي حين رؤية البصر كأنه حاضر القلب لا أنها رؤية بصر فقط يمكن فيها الخلو عن حضور القلب وقال القشيري ما معناه: ما كذب فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره على الوصف الذي علمه قبل أن رآه، فكان علمه حق اليقين وقرأ هشام بتشديد الذال والباقون بالتخفيف. وقوله تعالى: {أفتمارونه} أي: تجادلونه وتغلبونه {على ما يرى} خطاب للمشركين المكذبين رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل، وهذا ما قاله ابن مسعود وعائشة. ومن قال: إنّ المرئي هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده وهو قول ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرّتين ما كذب الفؤاد ما رأى، وقال أنس والحسن وعكرمة: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعينه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: إنّ الله تعالى اصطفى إبراهيم عليه السلام بالخلة واصطفى في موسى عليه السلام بالكلام واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وكانت عائشة تقول لم ير محمد صلى الله عليه وسلم ربه وتحمل الرؤية على رؤية جبريل قال مسروق قلت لعائشة: يا أمّتاه هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ فقد كذب؟ من حدّثك أنّ محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} (الأنعام: 103) {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} (الشورى: 51) ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت} (لقمان: 34) . ومن حدّثك أنه كتم شيئاً مما أنزل الله تعالى فقد كذب، ثم قرأت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: 67) الآية ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين» ، وروى أبو ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك «قال نور أنّى أراه» وحاصل المسألة: أنّ الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمّة، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه أبو عمرو فأخبره أنه رآه ولا يقدح في ذلك حديث عائشة، لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لم أر وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم وجوابه ظاهر، فإنّ الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله} (الشورى: 51) الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نور أنّى أراه» فقال الماوردي: الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه: إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل: هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب: بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه. والواو في قوله تعالى: {ولقد رآه} يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي: كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه {نزلة أخرى} على وجه لا شك فيه. تنبيه: قوله تعالى: {نزلة} فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه: الأوّل: أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء {عند سدرة المنتهى} قال الرازي: ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم الثاني: أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} هو الله تعالى وقد قيل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان: أحدهما: قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما: أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث: أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة: ضدّها وهي العرجة كأنه قال: رآه عرجة أخرى قال ابن عباس: نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها. وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى: {عند سدرة المنتهى} ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له: أين رأيته فيقول: على السطح، وقد يقول: عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال: بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل: بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر. الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نور أنّى أراه» فقال الماوردي: الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه: إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل: هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب: بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه. والواو في قوله تعالى: {ولقد رآه} يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي: كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه {نزلة أخرى} على وجه لا شك فيه. تنبيه: قوله تعالى: {نزلة} فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه: الأوّل: أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء {عند سدرة المنتهى} قال الرازي: ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم الثاني: أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} هو الله تعالى وقد قيل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان: أحدهما: قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما: أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث: أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة: ضدّها وهي العرجة كأنه قال: رآه عرجة أخرى قال ابن عباس: نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها. وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى: {عند سدرة المنتهى} ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له: أين رأيته فيقول: على السطح، وقد يقول: عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال: بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل: بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر. تنبيه: إضافة السدرة إلى المنتهى تحتمل وجوهاً: أحدها: إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعدّاه ملك، قال هلال بن كيسان: سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل: ينتهي إليها ما هبط من فوقها ويصعد من تحتها، وقال كعب: تنتهي إليها الملائكة والأنبياء، وقال الربيع: تنتهي إليها أرواح المؤمنين. وثانيها: إضافة الملك إلى مالكه كقولك: دار زيد وشجر زيد وحينئذ المنتهى فيه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى: {إلى ربك المنتهى} (النجم: 42) فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والعظيم، كما يقال في التسبيح يا غاية رغبتاه ويا منتهى أملاه. وثالثها: إضافة المحل إلى الحال فيه كقولك كتاب الفقه وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم فتتلقى هناك. قال البقاعي: وذلك والله أعلم ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوّة قبل الهجرة بقليل بعد أن ترقى في معارج الكمالات من السنين على عدد السموات وما بينها من المسافات فانتهى إلى منتهى سمع فيه صرير الأقلام. وعظمها بقوله تعالى: {عندها} أي: السدرة {جنة المأوى} أي: التي لا مأوى في الحقيقة غيرها وهي الجنة التي وعدها المتقون كقوله تعالى: {دار المقامة} (فاطر: 35) وقيل هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء تأوي إليها وقيل هي جنة الملائكة. وقوله تعالى: {إذ} معمول لرأى أي: رأى من آيات ربه الكبرى حين {يغشى السدرة} وهي شجرة النبق وقوله تعالى: {ما يغشى} تعظيم وتكثير لما يغشاها واختلفوا فيما يغشاها فقيل: فراش أو جراد من ذهب وهو قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك قال الرازي: وهذا ضعيف لأنّ ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر وإلا فلا وجه له ا. هـ. قال القرطبي ورواه ابن مسعود وابن عباس مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قال «رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كلّ ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى وذلك قوله عز من قائل: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} » وقيل: ملائكة تغشاها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة وروي في حديث المعراج عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كقلال هجر قال: فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة» . وقيل: يغشاها أنوار الله تعالى، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 فظهرت الأنوار، ولكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرّك الشجرة وخر موسى عليه السلام صعقاً ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: أبهمه تعظيماً له والغشيان يكون بمعنى التغطية قال الماوردي في معاني القرآن: فإن قيل: لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر قلنا: لأنّ السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظلّ مديد وطعم لذيذ ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوره، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، وريحها بمنزلة القول لظهوره، وروى أبو داود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قطع سدرة صوب الله تعالى رأسه في النار» وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هو مختصر يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظلّ بها ابن السبيل والبهائم، عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوب الله تعالى رأسه في النار. ثم أكد سبحانه الرؤية وقرّرها بقوله تعالى {ما زاغ} أي: ما مال أدنى ميل {البصر} أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه فما قصر عن النظر إلى ما أذن له فيه وما زاد {وما طغى} أي: تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه، مع أنّ ذاك العالم غريب عن بني آدم وفيه من العجائب ما يحير الناظر، بل كانت له الصفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل فأثبت ما رآه على حقيقته، وكما هو قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه: وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية وهذه غامضة من غوامض الأدب اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه: اللام في البصر تحتمل وجهين: أحدهما: المعروف أي ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا إن قيل بأنّ الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غشيان الجراد والفراش ابتلاء وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن قيل إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان: أحدهما: لم يلتفت يمنة ولا يسرة بل اشتغل بمطالعتها. الثاني: ما زاغ البصر بصعقه بخلاف موسى عليه السلام فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأوّل بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الثاني بيان قوّته. الوجه الثاني: أنّ اللام لتعريف الجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع لعظم هيبته فإن قيل: لو كان كذلك لقال ما زاغ بصره فإنه أدلّ على العموم فإنّ النكرة في معرض النفي تعم، أجيب: بأنّ هذا مثل كقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} (الأنعام: 103) ولم يقل ولا يدركه بصر. ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكاراً لم يقع لهم في غيره مثله زاد في تأكيده على وجه يعمّ غيره فقال تعالى: {لقد رأى} أي: أبصر ما أهلناه له من الرسالة تلك الليلة إبصاراً سارياً إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر {من آيات ربه} أي: المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده {الكبرى} أي: العظام أي بعضها، واختلف في ذلك البعض فقيل جبريل عليه السلام رآه في صورته له ستمائة جناح. وقال الرازي: والظاهر أن هذه الآيات غير تلك لأنّ جبريل عليه السلام وإن كان عظيماً لكنه ورد في الأخبار أنّ لله تعالى ملائكة أعظم منه، والكبرى تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال رأى من آيات ربه آيات هنّ أكبر الآيات وقيل رأى: رفرفاً أخضر سد الأفق وقيل: أراد ما رأى في تلك الليلة في مسيره وعوده ومن اجتماعه تلك الليلة بالأنبياء عليهم الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 والسلام في السموات. ولما قرّر تعالى الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك بقوله تعالى: إشارة إلى إبطال قولهم كما إذا ادّعى ضعيف الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون: انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره، فلذلك قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} أي كما هما فكيف تشركونهما بالله سبحانه وتعالى، واللات صنم ثقيف والعزى شجرة لغسان وهما أعظم أصنامهم، اشتقوا لهما اسمين من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى وقيل: العزى تأنيث الأعز وعن ابن عباس كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره. وعن مجاهد أن العزى شجرة لغطفان كانوا يعبدونه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد يضربها بالفأس ويقول: *يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك* فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية بويلها واضعة يدها على رأسها ويقال إنّ خالداً رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قلعتها فقال ما رأيت قال ما رأيت شيئاً فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما فعلت فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال تلك العزى ولن تعبد أبداً. وقال الضحاك: هي صنم لغطفان وضعها لهم سعيد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه لما قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بهما فعاد إلى نخلة وقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا: فما تأمرنا به، قال: أنا أصنع لكم كذلك وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذه من الصفا وقال: هذا الصفا ووضع الذي أخذه من المروة، وقال هذه المروة: ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة فقال: هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فأمر برفع الحجارة وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كان تعبده ثقيف. وأما قوله تعالى {ومناة} فقال قتادة: هي صخرة كانت لخزاعة بقديد، وقالت عائشة في الأنصار كانوا يصلون لمناة فكانت حذو قديد. وقال ابن زيد بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وقال الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة وقيل اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها. وقوله تعالى: {الثالثة الأخرى} نعت لمناة إذ هي الثالثة للصنمين في الذكر، وأما الأخرى فقال أبو البقاء: توكيد لأنّ الثالثة لا تكون إلا أخرى، وقال الزمخشري: الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى: {وقالت أخراهم} أي: وضعاؤهم {لأولاهم} أي: لأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدّم عندهم للات والعزى ا. هـ. قال ابن عادل: وفيه نظر لأنّ الأخرى إنما تدل على الغيرية وليس فيها تعرّض لمدح ولا ذم فإن جاء شيء فلقرينة خارجية ا. هـ. ووجه الترتيب أنّ اللات كان وثناً على صورة آدمي، والعزى شجرة نبات، ومناة صخرة فهي جماد فهي في أخريات المراتب. فإن قيل: ما فائدة الفاء في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 قوله تعالى: {أفرأيتم} وقد وردت في مواضع بغير فاء كقوله تعالى: {أرأيتم ما تدعون من دون الله} (الأحقاف: 4) {أرأيتم شركاءكم} (فاطر: 40) أجيب: بأنه تعالى لما قدم عظمته في ملكوته وأنّ رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدّته وقوّته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدّى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال: أفرايتم هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء الله تعالى مع ما تقدّم، فقال بالفاء أي عقب ما سمعتم من عظمة آيات الله الكبرى ونفاذ علمه في الملأ الأعلى وما تحت الثرى انظروا إلى اللات والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه. تنبيه: مفعول أرأيت الأول اللات وما عطف عليه والثاني: محذوف والمعنى أخبروني ألهذه الأصنام قدرة على شيء ما فتعبدونها دون الله القادر على ما تقدّم ذكره. وقرأ ابن كثير {مناة} بهمزة مفتوحة بعد الألف والباقون بغير همز. ولما زعموا أيضاً أنّ الملائكة بنات الله مع كراهتهم للبنات نزل {ألكم} أي: خاصة {الذكر} أي: النوع الأعلى {وله} أي: وحده {الأنثى} أي: النوع الأسفل. {تلك} أي: هذه القسمة البعيدة عن الصواب {إذاً} أي: إذ جعلتم البنات له والبنين لكم {قسمة ضيزى} أي: جائرة ظالمة ناقصة فيها بخس للحق إلى الغاية عوجاء غير معتدلة، حيث خصصتم به ما أوصلتكم الكراهة له إلى دفنه حياً بل كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم العقل والنقل والعادة. {إن} أي: ما {هي} أي: هذه الأصنام {إلا أسماء} أي: لا حقائق لها فيما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك غير الأسماء وأكد ذلك بقوله تعالى: {سميتموها} أي: ابتدعتم تسميتها. فإن قيل: الأسماء لا تسمى وإنما يسمى بها أجيب: بأن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها {أنتم وآباؤكم} أي: لا غير {ماأنزل الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {بها} أي باستحقاقها للأسماء أو لما سميتموها به من الإلهية، وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} أي: حجة تصلح مسلطاً على ما يدعى فيها بل لمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط بكلمة تعتمدونها وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأيّ طريقة قويمة شرعت لكم، وأيّ كلام صالح أو بليغ برز إليكم منها وأيّ آية كبرى أرَتْكموها. {إن} أي: ما {يتبعون} أي: في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة وأنها تشفع لهم أو تقربهم إلى الله تعالى {إلا الظن} أي: وهو غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم والظن ترجيح أحد الجائزين على زعم الظان. ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال تعالى: {وما تهوى الأنفس} أي: تشتهي وهي لما لها من النقص لا تشتهي أبداً إلا ما يهوى بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما يسوق إليها العقل. قال القشيري: فأما الظن الجميل بالله تعالى فليس من هذا الباب، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل إنما الظن المعلول في الله تعالى وأحكامه وصفاته ا. هـ. ولهذا كان كثير من الفقه ظنياً وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه «أنا عند ظن عبدي بي» . {ولقد جاءهم} أي: العجب أنهم يقولون ذلك والحال أنهم قد جاءهم {من ربهم} المحسن إليهم {الهدى} على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبرهان القاطع أنها ليست بآلهة، وأنّ العبادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 لا تصلح إلا لله الواحد القهار فلم يرجعوا عما هم عليه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بكسرهما والباقون بكسر الهاء وضم الميم. {أم للإنسان} أي: كل إنسان منهم {ما تمنى} أي: من اتباع ما يشتهي من جاه ومال وطول عمر ورفاهة عيش، ومن أن الأصنام تشفع له ليس الأمر كذلك. {فلله} أي: الملك الأعظم وحده {الآخرة} فهو لا يعطي ما فيها إلا لمن تبع هداه وترك هواه {والأولى} أي: الدنيا فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلاً كما هو مشاهد ولكنه يعطي منها ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه سبحانه في شيء منها. {وكم من ملك} أي: كثير من الملائكة أي ممن يعبدهم هؤلاء الكفار، ودلّ على زيادة قوّتهم بشرف مسكنهم، وهو قوله تعالى: {في السموات} أي: وهم في الكرامة والزلفى {لا تغني شفاعتهم} أي: عن أحد من الناس {شيئاً} ثم قصر الأمر عليه ورده بحذافيره إليه بقوله تعالى: {إلا من بعد أن يأذن} أي: يمكن ويريد {الله} أي الملك الذي لا أمر أصلاً لأحد معه {لمن يشاء} من عباده من الملائكة أو من الناس أن يشفع {ويرضى} أي: ويراه أهلاً لذلك فكيف تعبد الأصنام مع حقارتها لتشفع لهم. {إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يصدقون ولا يقرّون بالبعث وغيره من أحوال يوم القيامة {ليسمون الملائكة} أي: كل واحد منهم {تسمية الأنثى} بأن سموه بنتاً، وذلك أنهم كانوا يقولون: الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال: سجدت الملائكة فقالوا بنات الله فسموهم تسمية الإناث. فإن قيل: كيف يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب: بأنهم ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله تعالى عنهم: {وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى} (فصلت: 50) وبأنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل فإن قيل: كيف قال: تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث أجيب بأن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي. {وما} أي: والحال أنهم ما {لهم به} أي: بما يقولون، وقيل: الضمير يعود إلى ما تقدّم من عدم قبول الشفاعة وقيل: يعود إلى الله تعالى أي ما لهم بالله تعالى {من علم} ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله تعالى: {إن} أي: ما {يتبعون} أي بغاية ما يكون من شهوة النفس في ذلك وغيره {إلا الظن} أي الذي يتخيلونه {وإن} أي: والحال أن {الظن} أي: مطلقاً في هذا وفي غيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار {لا يغني} أي إغناء مبتدأ {من الحق} أي: الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله والظن إنما يعتبر في العمليات لا في العلميات ولا سيما الأصولية {شيئاً} أي: من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدّي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإنّ المقصود فيها تحقيق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإنّ المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه وهو ردّه إلى الأصول المستنبط منها، لعجز الإنسان عن القطع في جميع الفروع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله تعالى ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوّته ليكشف له عن الحقائق. ولما أن أصروا على الهوى بعد مجيء الهدى سبب عن ذلك قوله تعالى: {فأعرض} أي: يا أشرف الرسل {عمن تولى} أي: كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة الأولى {عن ذكرنا} أي: القرآن الذي أنزلناه فلم يتله ولم يتدبر معانيه {ولم يرد} أي: في وقت من الأوقات {إلا الحياة الدنيا} أي الحاضرة لتقيده بالمحسوسات كالبهائم مع العمى عن دناءتها وحقارتها. قال الجلال المحلي: وهذا قبل الأمر بالجهاد. قال الرازي: وأكثر المفسرين يقولون: بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى: {فأعرض} منسوخ بآية القتال وهو باطل، لأنّ الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم. وقيل له: وجادلهم بالتي أحسن ثم لما لم ينفع قال له ربه: أعرض عنهم ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق، وقاتلهم والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها. {ذلك} أي: الأمر المتناهي في الجهل والقباحة {مبلغهم} أي: نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم وتهكم بهم بقوله تعالى: {من العلم} أي غايتهم من العلم أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراض مقرر لقصور همتهم على الدنيا وقوله تعالى: {إنّ ربك} أي: المحسن إليك بالرسالة {هو أعلم} أي: عالم {بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} أي: ظاهراً وباطناً، تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كالطبيب للقلوب فأتى على ترتيب الأطباء في أنّ المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القويّ، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي كما قيل: آخر الدواء الكي فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أولاً أمر القلوب بذكر الله تعالى فقط، فإن بذكر الله تطمئن القلوب، كما أنّ بالغذاء تطمئن النفوس والذكر غذاء القلوب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أولاً: «قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر فانتفع مثل أبي بكر، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال {أو لم يتفكروا} (الأعراف: 184) {قل انظروا} (يونس: 101) {أفلا ينظرون} (الغاشية: 17) إلى غير ذلك، فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح. فإن قيل: إنّ الله تعالى بين أنّ غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبيّ الذي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله تعالى؟ أجيب: بأنه ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله تعالى توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب. {ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ما في السموات وما في الأرض} أي: من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السموات والأرض معترض بين الآية الأولى وبين قوله تعالى {ليجزي الذين أساؤوا} أي: بالضلال {بما عملوا} أي: بسببه أو بجنسه إما بواسطتك بسيوفك وبسيوف أتباعك إذ أذنت لكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة. تنبيه: اللام في ليجزي يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: {بمن ضل} و {بمن اهتدى} ، واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا قال معناه الزمخشري، وأن تتعلق بما دلّ عليه قوله تعالى: {أعلم بمن ضلّ} أي: حفظ ذلك ليجزي قاله أبو البقاء {ويجزي} أي: ويثيب ويكرم {الذين أحسنوا} أي: على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم {بالحسنى} أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. وبين المحسنين بقوله تعالى: {الذين يجتنبون} أي: يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا {كبائر الإثم} أي: ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء الموحدة وبعدها ياء ساكنة والباقون بفتح الموحدة وبعدها ألف وبعد الألف همزة مكسورة وعطف على كبائر قوله تعالى: {والفواحش} والفاحشة من الكبائر ما كرهه الطبع وأنكره العقل واستخبثه الشرع والكبيرة صفة عائدة إلى الكيفية. وقوله تعالى: {إلا اللمم} فيه أوجه: أحدها وهو المشهور أنه استثناء منقطع أي لكن اللمم، لأنه الصغائر فلم تندرج فيما قبلها ثانيها: أنه صفة وإلا بمعنى غير كقوله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22) أي كبائر الأثم والفواحش غير اللمم. ثالثها: أنه متصل وهذا عند من يفسر اللمم بغير الصغائر قالوا: إنّ اللمم من الكبائر والفواحش قالوا: إن معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرّة ثم يتوب ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم وروى: عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» ولمسلم «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه النطق واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» . تنبيه: ذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة، وقد اختلف في ضبط الكبيرة بالحد فقال جمع: هي ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جمع: هي المعصية الموجبة للحد والأوّل أوجه لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها وقال إمام الحرمين: هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وأما تعريفها بالعد فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي إلى السبعين أقرب وقال سعيد بن جبير هي إلى السبعمائة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وما عدا المحدود من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شيء من النوعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن واليأس من رحمة الله تعالى، وأمن مكر الله تعالى، وقتل النفس عمداً أو شبه عمد، والفرار من الزحف وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا واللواط وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً، وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والسحر والنميمة، وأما الغيبة فإن كانت في أهل العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا فصغيرة.q ومن الصغائر النظر المحرم وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على سوآت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة، والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناساً لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة، والإصرار على صغيرة من نوع أو أنواع يصيرها كبيرة إلا أن تغلب طاعاته معاصيه كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج وغيره. {إنّ ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك {واسع المغفرة} يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة وله أن يفغر ما شاء من الذنوب ما عدا الشرك صغيرها وكبيرها كما قال تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) بخلاف غيره من الملوك فإنه لا يغفر لمن تكرّرت ذنوبه إليهم وإن صغرت قال البيضاويّ: ولعله عقب به وعيد المسيئين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى ا. هـ. ونزل فيمن كان يقول صلاتنا صيامنا حجنا {هو أعلم بكم} أي: بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم {إذ} أي: حين {أنشأكم من الأرض} أي: التي طبعها طبع الموت البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها، وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم وأنتم تراب قابلية للحياة بقوة قريبة ولا بعيدة أصلاً فميز التراب الذي يصلح لتكوينكم منه والذي لا يصلح {وإذ} أي: وحين {أنتم أجنة} أي: مستورون {في بطون أمهاتكم} فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشرّ وإن عملتم مدة من العمر بخلافه، لأنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك. وقرأ حمزة والكسائيّ في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها، وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون، وأما في الابتداء بالهمزة فالجميع بضمها. {فلا تزكوا} أي: تمدحوا بالزكاة وهي البركة والطهارة عن الدناءة {أنفسكم} أي: حقيقة بأن يثني الإنسان على نفسه فإنّ تزكيته لنفسه قال القشيري: من علامات كونه محجوباً عن الله تعالى أي: من مدح نفسه على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن، أو مجازاً بأن يثنى على غيره من إخوانه وأنه كثيراً ما يثنى بشيء فيظهر خلافه وربما حصل له الأذى بسببه «وإنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع» الحديث ولذلك علل بقوله تعالى: {هو أعلم} أي: منكم ومن جميع الخلق {بمن اتقى} أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليه السلام فمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 جاهد نفسه حتى حصل منه تقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتاً. ولما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحد منهم بسوء فعله فقال تعالى: {أفرأيت الذي تولى} أي: عن اتباع الحق والثبات عليه. قال مجاهد وأبو زيد ومقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال: إني خشيت عذاب الله تعالى فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله تعالى {أفرأيت الذي تولى} أي أدبر عن الإيمان. {وأعطى قليلا} أي: من المال المسمى {وأكدى} أي: منع الباقي، مأخوذ من الكدية أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر إذا وصل إليها من الحفر، فأكدى أصله من أكدى الحافر إذا حفر شيئاً فصادف كدية منعته من الحفر ومثله: أجبل إذا صادف جبلاً منعه من الحفر وكديت أصابعه كَلَّت من الحفر ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتممه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخره قال الحطيئة: *وأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه ... ومن يفعل المعروف في الناس يحمد* وقال السدي: نزلت في العاصي بن وائل السهمي وذلك أنه ربما يوافق النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله تعالى: {وأعطى قليلاً وأكدى} أي لم يؤمن به ومعنى أكدى قطع، وروي أنّ عثمان رضى الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إنّ لي ذنوباً وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت. وقوله تعالى: {أعنده علم الغيب} أي: ما غاب هو المفعول الثاني لرأيت بمعنى أخبرني، والمفعول الأوّل محذوف اقتصاراً لأعطى {فهو} أي: فتسبب عن ذلك أنه {يرى} أي: يعلم أنّ صاحبه يتحمل عنه ذنوبه. {أم} أي: بل {لم ينبأ} أي: يخبر أخباراً عظيماً متتابعاً {بما في صحف موسى} أي: التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه، وكذا ما تبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها. وقدم صحف موسى عليه السلام على قوله: {وإبراهيم} أي: وصحفه لأنّ كتاب موسى عليه السلام أعظم كتاب بعد القرآن مع أنه موجود بين الناس تمكن مراجعته، ثم مدح إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {الذي وفى} أي: أتم ما أمر به من ذلك تبليغ الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة وقيامه بأضيافه وخدمتهم إياه بنفسه، وإنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم وعن الحسن: ما أمر الله تعالى بشيء إلا وفى به وصبر على ما امتحن به، وما قلق شيئاً من قلق وصبر على حر ذبح الولد وعلى حر النار ولم يستعن بمخلوق بل قال لجبريل عليه السلام لما قال له: ألك حاجة قال: أما إليك فلا وقال الضحاك: وفي المناسك، وروي عن النبيّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 صلى الله عليه وسلم أنه قال «إبراهيم الذي وفى أربع ركعات من أول النهار» وهي صلاة الضحى وروي «ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى كان يقول: إذا أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى تظهرون» وقيل: وفى سهام الإسلام وهي ثلاثون عشرة في التوبة {التائبون ... } (التوبة: 112) ، وعشرة في الأحزاب {إنّ المسلمين ... } (الأحزاب: 35) ، وعشرة في المؤمنون، {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون: 1) وخص هذين النبيين لأنّ الموعودين من بني إسرائيل اليهود والنصارى يدعون متابعة موسى عليه السلام، ومن العرب يدعون متابعة إبراهيم عليه السلام ومن عداهم لا متمسك لهم ولا سلف في نبوّة محققة ولا شريعة محفوظة، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها. ثم فسر تعالى الذي في الصحف واستأنف بقوله تعالى: {ألا تزر} أي: تأثم وتحمل {وازرة} أي: نفس بلغت مبلغاً تكون فيه حاملة لوزر {وزر أخرى} أي: حملها الثقيل من الإثم، وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، وكان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وامرأته والعبد بسيده، حتى جاءهم إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عز وجل {ألا تزر وازرة وزر أخرى} . {س53ش39/ش44 وَأَن لَّيْسَ لِ?نسَانِ إِs مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ? سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَ?ـاهُ الْجَزَآءَ ا?وْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ? هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ? هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ولما نفى أن يضرّه أثم غيره نفي أن ينفعه سعي غيره بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان} كائناً من كان {إلا ما سعى} فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى فيه ودعاء المؤمنين للمؤمن من سعيه بموادته ولو بموافقته لهم في الدين فقط، وكذا الحج عنه والصدقة ونحوها، وأما الولد فواضح في ذلك، وأما ما كان بسبب العلم والصدقة ونحوها فكذلك، وتضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أمته أصل كبير في ذلك فإنّ من تبعه فقد واده وهو أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها إليه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة أي: وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم عليهما السلام بقوله: {ألحقنا بهم ذريتهم} (الطور: 21) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقال عكرمة إنّ ذلك لقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما يروى أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج فقال نعم ولك أجر «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم إنّ أمي انسلت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم» . قال الشيخ تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة: أحدها: أنّ الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار وهذا انتفاع بعمل الغير. ثالثها: أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير. رابعها: أنّ الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها: أنّ الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها: أنّ أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين {وكان أبوهما صالحاً} (الكهف: 82) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما. ثامنها: أنّ الميت ينتفع بالصدقة عنه والعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل الغير. تاسعها: أنّ الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة وهو انتفاع بعلم الغير. عاشرها: أنّ الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها: أن المدين الذي امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير. ثاني عشرها: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده «ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلى معه» فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها: أنّ الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. خامس عشرها: أنّ الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها: أنّ جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحيّ عليه وهو عمل غيره. ثامن عشرها: أنّ الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها: أنّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: 33) وقال تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} (الفتح: 25) {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} (البقرة: 251) فقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها: أنّ صدقة الفطر تجب عن الصغير وغيره ممن يمونه الرجل فينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي لهما. حادي عشريها: أنّ الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له ومن تأمّل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأوّل الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة. والمراد بالإنسان العموم وقال الربيع بن أنس: ليس للإنسان يعني الكافر: وأما المؤمن فله ما سعي وما سعى له وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير، وروي «أنّ عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها» . {وأن سعيه} أي: من خير وشر {سوف يرى} أي: في ميزانه من غير شك يوم القيامة بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى، من: أريته الشيء، أي: يعرض عليه ويكشف له. فإن قيل: العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه؟ أجيب: بأنه يرى على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً قال الرازي وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كل موجود يرى والله تعالى قادر على إعادة كل ما عدم فيعيد الفعل فيرى، وفيه بشارة للموحد وذلك أنّ الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً. {ثم يجزاه} أي: السعي {الجزاء الأوفى} أي: الأتمّ الأكمل والمعنى: أنّ الإنسان يجزى جزاء سعيه بالجزاء الأوفى يقال: جزيت فلاناً سعيه وبسعيه. قال الرازي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين، لأنّ جزاء الطالح وافر قال تعالى: {فإنّ جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً} (الإسراء: 63) وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام فهي في نفسها أوفر. {وأنّ إلى ربك} أي: المحسن إليك لا إلى غيره {المنتهى} أي: الانتهاء برجوع الخلائق ومصيرهم إليه فيجازيهم بأعمالهم وقيل: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال، وروى أبو هريرة مرفوعاً «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنّ الله تعالى لا يحيط به الفكر» وفي رواية «لا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره» قال القرطبي: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله تعالى» ولقد أحسن من قال: *ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه ... فإنك تردى إن فعلت وتخذل* *ودونك مخلوقاته فاعتبر بها ... وقل مثل ما قال الخليل المبجل* وقيل: المراد من الآية التوحيد وفي المخاطب وجهان: أحدهما: أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل والثاني: أنه خطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلى الأول يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسلية لقلب النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلى الأول تكون اللام في المنتهى للعهد المعهود في القران وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كل منتهى. وقوله تعالى: {وأنه هو} أي: لا غيره {أضحك وأبكى} يدل على أنّ كل ما يعمله الإنسان فبقضاء الله تعالى وخلقه حتى الضحك والبكاء، وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر على قوم من أصحابه وهم يضحكون فقال صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنّ الله يقول لك: {وأنه هو أضحك وأبكى} أي: قضى أسبابهما فرجع إليهم صلى الله عليه وسلم فقال ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال: ائت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: {هو أضحك وأبكى} أي قضى أسباب الضحك والبكاء وقال بسام بن عبد الله أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم وأنشد يقول: *السنّ تضحك والأحشاء تحترق ... وإنما ضحكها زور ومختلق* *يا رب باك بعين لا دموع لها ... ورب ضاحك سنّ ما به رمق* وقال مجاهد والكلبي أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن لأنّ الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء وقيل: إنّ الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من سائر الحيوان وقيل: القرد وحده يضحك ولا يبكي وإنّ الإبل وحدها تبكي ولا تضحك وقال يونس بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم وعن عائشة قالت: «لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إن الميت يعذب ببكاء أحد ولكنه قال إنّ الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً وإنّ الله تعالى هو أضحك وأبكى» . تنبيه: قوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} وما بعده يسميه البيانيون الطباق المتضادّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وهو نوع من البديع، وهو: أن يذكر ضدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه، وأضحك وأبكى لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما سيقا لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل: فلان بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع، ولا يريد ممنوعاً ومعطى واختار هذين الموضعين المذكورين لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبائعيين يبين لاختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً ولا سبباً، وإذا لم يعلل بأمر فلا بدّ له من موجد وهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون: سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ومما يدل على ذلك أنهم إذا عللوا الضحك قالوا: لقوّة التعجب وهو باطل، لأنّ الإنسان ربما بهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل: لقوّة الفرح وليس كذلك لأنّ الإنسان قد يبكي لقوّة الفرح كما قال بعضهم: *هجم السرور على حتى أنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني* {وأنه هو} أي: لا غيره {أمات وأحيا} وإن رأيتم أسباباً ظاهرة فإنها لا عبرة بها في نفس الأمر بل هو الذي خلقها أي أمات في الدنيا وأحيا في البعث وقال القرطبي: قضى أسباب الموت والحياة وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان. {س53ش45/ش55 وَأَنَّهُ? خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَا?نثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ ا?خْرَى * وَأَنَّهُ? هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ? هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ?? أَهْلَكَ عَادًا ا?ولَى * وَثَمُودَا? فَمَآ أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ? إِنَّهُمْ كَانُوا? هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّـ?ـاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَىِّءَا?ءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} {وأنه خلق الزوجين} ثم فسرهما بقوله تعالى: {الذكر والأنثى} فإنه لو كان ذلك في يد غيره لمنع البنات لأنها مكروهة لغالب الناس. وقوله تعالى: {من نطفة إذا تمنى} أي: تصب يشمل سائر الحيوانات لا أن ذلك مختص بآدم وحوّاء عليهما السلام، لأنهما ما خلقا من نطفة، وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة لأنّ النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف: 87) وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (لقمان: 25) فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وأنه خلق} ولم يقل وأنه هو خلق كما قال تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} أجيب بأن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد فيهما لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم عليه السلام أنا أحيي وأميت فأكد ذلك بالفصل، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بخلق أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأنه هو أغنى وأقنى} (النجم: 48) حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون: {إنما أوتيته على علم عندي} (القصص: 78) ولذلك قال: {هو رب الشعرى} (النجم: 49) فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره. {وأن عليه} أي: خاصاً به علماً وقدرة {النشأة} أي الحياة {الأخرى} للبعث يوم القيامة بعد الحياة الأولى فإن قيل: الإعادة لا تجب على الله تعالى فما معنى عليه؟ أجيب: بأنه عليه بحكم الوعد فإنه قال: {إنا نحن نحيي الموتى} (يس: 12) فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة والباقون بسكون الشين وبعدها الهمزة المفتوحة وإذا وقف حمزة نقل حركة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 الهمزة إلى الشين. {وأنه هو} أي: وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره {أغنى} قال أبو صالح: أغنى الناس بالأموال {وأقنى} أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم وقال الحسن وقتادة: أخدم، وقال ابن عباس: أغنى وأقنى أعطى فأرضى وقال مجاهد ومقاتل: أقنى أرضى بما أعطى وقنع قال الراغب: وتحقيقه أنه جعل له قنية من الرضا وقال سليمان التيمي: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه وقال ابن زيد: أغنى أكثر وأقنى أقل وقرأ {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (الرعد: 26) وقال الأخفش: أقنى أفقر وقال ابن كيسان: أولد وقال الزمخشري: أقنى أعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت على أن لا يخرج من يدك. تنبيه: حذف مفعولا أغنى وأقنى لأنّ المراد نسبة هذين الفعلين إليه، وكذلك باقيها وألف أقنى منقلبه عن ياء لأنه من القنية قال الشاعر: * ... ألا إنّ بعد العدم للمرء قنية* ويقال: قنيت كذا وأقنيته قال الشاعر: * ... قنيت حياتي عفة وتكرّما* {وأنه هو} أي: لا غيره {رب الشعرى} أي: رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى، وأوّل من سنّ ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضاً والشعرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير، وأبو كبشة أحد أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبل أمّهاته وبذلك كان مشركو قريش يسمون النبيّ صلى الله عليه وسلم بابن أبي كبشة حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحدث ديناً غير دينهم. والشعرى في لسان العرب كوكبان: تسمى أحدهما الشعرى العبور وهي المرادة في الآية الكريمة وهي تطلع بعد الجوزاء في شدّة الحرّ ويقال لها: مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار أيضاً، وتسمى الشعرى اليمانية. والثانية: الشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع والمجرة بينهما، وتسمى الشامية وسبب تسميتها بالغميضاء على ما زعمه العرب أنهما كانا أختين أو زوجتين لسهيل فانحدر سهيل إلى اليمن فأتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء تبكي حتى غمصت عينها ولذلك كانت أخفى من العبور وكان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم. {وأنه أهلك عاداً الأولى} وهم قوم هود عليه السلام هلكوا بريح صرصر، والأخرى قوم صالح وقيل: الأخرى إرم وقيل: الأولى أول الخلق هلاكاً بعد قوم نوح، وقرأ نافع وأبو عمرو بتشديد اللام بعد الدال المفتوحة نقلاً وهمز قالون الواو بعد اللام همزة ساكنة والباقون بتنوين الدال وكسر التنوين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة، فإذا قرأ القارئ عاد الأولى لقالون وأبي عمرو فله في الوصل أي وصل عاد بالأولى وجه واحد وهو النقل المذكور، وقالون على أصله بالهمزة كما ذكر، فإذا وقف على عاداً وابتدأ بالولى فله الابتداء بهمزة الوصل وهو ألولى، وله أيضاً الابتداء بغير همز الوصل وهو لولى، وقالون يهمز الواو في الوجهين الأوّلين ولم يهمز في الوجه الثالث الذي هو الأصل، ووافقهما ورش في الأوجه المذكورة في الوصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 والابتداء لا في الوجه الثالث الذي هو الأصل فإنه ليس من مذهبه إلا النقل. {وثموداً} وهم قوم صالح أهلكهم الله تعالى بصحية {فما أبقى} منهم أحداً، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدّال في الوصل وسكون الدال في الوقف والباقون بالتنوين في الوصل والوقف على الألف. {وقوم نوح} أي: أهلكهم لأجل ظلمهم بالتكذيب {من قبل} أي: قبل الفريقين {إنهم} أي: قوم نوح {كانوا} أي: بما لهم من الأخلاق التي هي كالجبلات التي لا انفكاك عنها {هم} أي: خاصة {أظلم} أي: من الطائفتين المذكورتين {وأطغى} أي: وأشدّ تجاوزاً في الظلم وعلوّاً وإسرافاً في المعاصي وتجبراً وعتوّاً لتمادي دعوة نوح عليه السلام قريباً من ألف سنة، ولأنهم أطول أعماراً وأشدّ أبداناً وكانوا مع ذلك ملء الأرض، روي أنّ الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه فينطلق به إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإنّ أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولهذا قال نوح عليه السلام: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} (نوح: 26 ـ 27) وقوله تعالى: {والمؤتفكة} منصوب بقوله تعالى: {أهوى} وقدّم لأجل الفواصل، والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط رفعها إلى عنان السماء على جناح جبريل عليه السلام، ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها وأتبعها بحجارة النار الكبريتية، وهو قوله تعالى: {فغشاها} أي: أتبعها ما غطاها فكان لها بمنزلة الغشاء وهوّله بقوله تعالى: {ما غشى} أي: أمراً عظيماً من الحجارة المنضودة المسمومة وغيرها مما لا تسع العقول وصفه. {فبأيّ آلاء} أي: أنعم {ربك} أي: المحسن إليك {تتمارى} أي: تشك أيها الإنسان وقيل: أراد الوليد بن المغيرة وقال ابن عباس: تتمارى أي تكذب وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي تشك في إجالة الخواطر في فكرك في إرادة هداية جميع قومك بحيث لا تريد أن أحداً منهم يهلك، وقد حكم ربك بإهلاك كثير منهم لما اقتضته حكمته فكان بعض خواطرك في تلك الإجالة يشكك ببعضها بعضاً. {هذا} أي: النبي صلى الله عليه وسلم {نذير} أي: محذر بليغ التحذير {من النذر الأولى} أي: من جنسهم أي رسول كالرسل قبله أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، وقال تعالى {الأولى} على تأويل الجماعة، أو هذا القرآن نذير من النذر الأولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. {أزفت الأزفة} أي: قربت الموصوفة بالقرب في قوله تعالى: {اقتربت الساعة} (القمر: 1) وهو يوم القيامة. {ليس لها من دون الله} أي: من أدنى رتبة من رتبة الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وقوله تعالى: {كاشفة} يجوز أن يكون وصفاً وأن يكون مصدراً، فإن كان وصفا احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه وصف لمؤنث محذوف تقديره نفس كاشفة، أو حال كاشفة أي مبينة متى تقوم كقول تعالى: {لا يجليها لوقتها إلا هو} (الأعراف: 187) أو ليس لها نفس كاشفة أي قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى غير أنه تعالى لا يكشفها، أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير وإن كان مصدراً فهي بمعنى الكشف كالعافية والمعنى ليس لها من دون الله كشف أي لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره. {أفمن هذا الحديث} قال: أكثر المفسرين المراد بالحديث القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 العظيم الذي يأتي على سبيل التجدد بحسب الوقائع والحاجات {تعجبون} إنكاراً وهو في غاية ما يكون من ترقيق القلوب، وقرأ أبو عمرو بإدغام المثلثة في التاء المثناة بخلاف عنه. {وتضحكون} أي: استهزاء من هذا الحديث وتجدّدون ذلك في كل وقت {ولا تبكون} أي كما هو حق من يسمعه لما فيه من الوعد والوعيد وغير ذلك وقال الرازي يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى حديث أزفت الآزفة، فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد والعظام البالية. وقوله تعالى: {وأنتم سامدون} جملة مستأنفة أخبر الله تعالى عنهم بذلك ويحتمل أن تكون حالاً أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين، واختلف في معنى السمود فقيل: هو الإعراض والغفلة عن الشيء أي: وأنتم معرضون غافلون عما يطلب منكم وقيل: هو اللهو يقال: دع عنا سمودك، أي: لهوك قاله الوالبي والعوفي عن ابن عباس وقال الشاعر: *ألا أيها الإنسان إنك سامد ... كأنك لا تفنى ولا أنت هالك* فهذا بمعنى لاه لاعب وقيل هو الجمود وقيل هو الاستكبار قال الشاعر: *رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا* *فردّ شعورهنّ السود بيضا ... ورد وجوههنّ البيض سودا* فهذا بمعنى الجمود والخشوع وقال عكرمة وأبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي: غني، فكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا وقال مجاهد أشِرون وقال الضحاك: غضاب يتبرطمون وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم بعير سامد في سيره وقال الحسن: السامد الواقف للصلاة قبل وقوف الإمام لما روي: أنه صلى الله عليه وسلم خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال: «مالي أراكم سامدين» وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد وقوله تعالى: {فاسجدوا} أي: اخضعوا خضوعاً كثيراً بالسجود {لله} أي الملك الأعظم يحتمل أن يكون المراد به سجود التلاوة وأن يكون المراد به سجود الصلاة {واعبدوا} أي: اشتغلوا بكل أنواع العبادة ولم يقل واعبدوا الله إما لكونه معلوماً من قوله تعالى: {فاسجدوا لله} وإما لأنّ العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله ويقوّى الاحتمال الأوّل ما روى عكرمة عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس» وعن عبد الله ابن مسعود قال أوّل سورة أنزلت فيها سجدة النجم قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلاً شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أمية بن خلف كما في بعض الروايات. وروى زيد بن ثابت قال: قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم {والنجم} فلم يسجد فيها وهذا يدلّ على أنّ سجود التلاوة غير واجب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّ الله تعالى لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، أي: فهي مستحبة وذهب قوم إلى وجوبها على القارئ والمستمع جميعاً وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وذهب قوم إلى أنها في المفصل غير مستحبة. وما رواه البيضاوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والنجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد به» حديث موضوع. سورة القمر وتسمى اقتربت مكية إلا {سيهزم الجمع ويولون الدبر} الآياتوهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعونكلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفاً {بسم الله} أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته {الرحمن} الذي وسعت رحمته كل شيء فعمت الشقي والسعيد نعمته {الرحيم} الذي خص بإتمام نعمته من اصطفاه فأسعدتهم رحمته. {اقتربت الساعة} دنت القيامة وفي أول هذه السورة مناسبة لآخر ما قبلها، وهو قوله تعالى: {أزفت الأزفة} (النجم: 57) فكأنه أعاد ذلك مستدلاً عليه بقوله تعالى: {أزفت الأزفة} فهو حق إذ القمر انشق. وقوله تعالى: {وانشق القمر} ماض على حقيقته وهو قول عامّة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله وقد صح في الأخبار أنّ القمر انشق على عهد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين، وعن ابن مسعود قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا» وروى أنس بن مالك أنّ أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراً بينهما. وقال سنان عن قتادة: فأراهم انشقاق القمر مرتين. وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله: لم ينشق بمكة. وقال مقاتل: انشق القمر ثم التأم بعد ذلك وقيل انشق بمعنى سينشق يوم القيامة، وأوقع الماضي موقع المستقبل وهو خلاف الإجماع وقيل انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقاً وأنشد النابغة: *فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داع* وإنما ذكرت ذلك تنبيهاً على ضعفه. وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فسلوا السفار فسألوهم فقالوا نعم قد رأيناه فأنزل الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} . {وإن يروا} أي: كفار قريش {آية} أي: معجزة له صلى الله عليه وسلم كانشقاق القمر {يعرضوا} عنها {ويقولوا} هذا {سحر مستمرّ} أي: ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم مرّ الشيء واستمرّ إذا ذهب مثل قولهم: قر واستقر قاله مجاهد وقتادة، وقال أبو العالية والضحاك: مستمرّ أي: قوي شديد، من قولهم: مر الحبل إذا صلب واشتد، وأمررته: إذا أحكمت فتله، واستمر الشيء إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمرّ أي دائم، فإنّ محمداً صلى الله عليه وسلم كان يأتي كل زمان بمعجز فقالوا: هذا سحر مستمرّ دائم لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سحر السحرة، فإنّ بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكلّ قاله الزمخشري ومنه قول الشاعر: *ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قديم بمستمرّ* وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال ألا إنّ الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم مستمرّ دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقه ودامت حاله قيل فيه قد استمّر وقال أبو حيان: سبب نزولها أنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين ووعدوا بالإيمان إن فعل ذلك وقال ليلة بدرأي ليلة أربعة عشر في الشهر فسأل ربه فانشق القمر فقالوا سحر مستمرّ ولم يؤمنوا. {وكذبوا} بكون انشقاقه دالاً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجزموا بالتكذيب عناداً {واتبعوا} أي: بمعالجة فطرتهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق {أهواءهم} في أنه صلى الله عليه وسلم سحر القمر وأنه خسوف في القمر وظهور شيء في جانب آخر من الجوّ يشبه نصف القمر وأنه سحر أعيننا وأنّ القمر لم يصبه شيء فهذه أهواؤهم. قال القشيري: إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله تعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصروا الرشد واتباع الرضا مقرون بالتصديق لأنّ الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق. {وكل أمر} أي: من أموركم من الخير أو الشرّ {مستقرّ} أي: بأهله في الجنة أو النار وقال قتادة وكل أمر مستقرّ فالخير مستقر بأهل الخير والشرّ مستقرّ بأهل الشرّ وقيل مستقرّ قول المصدّقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعذاب، وقيل: كل أمر مستقرّ في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم والأنبياء صدقوا وبلغوا كقوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم شيء} (غافر: 16) {ولقد جاءهم} أي أهل مكة في القرآن قبل الانشقاق {من الأنباء} أي: أخبار إهلاك الأمم الماضية المكذبة رسلهم لأنّ الأنباء الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد {وجئتك من سبأ بنبأ يقين} (النمل: 22) لأنه كان خبراً عظيماً له وقع وخطر وقال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} (الحجرات: 6) أي بأمر عظيم له خطر وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال {ما فيه} خاصة {مزدجر} أي: عمّاهم فيه من الباطل، ولكن لم يزدجر منهم إلا من أراد الله تعالى. تنبيه: المزدجر اسم مصدر أي ازدجار أو اسم مكان أي موضع ازدجار والدال بدل من تاء الافتعال وازدجرته وزجرته نهيته بغلظة وما موصولة أو موصوفة. وقوله تعالى: {حكمة} خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما أومن مزدجر {بالغة} أي: لها أعظم البلوغ إلى أنهى غايات الحكمة لصحتها ووضوحها ففيها مع الزجر ترجئة ومواعظ وأحكام ودقائق {فما تغن} أي: تنفع {النذر} أي: الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها ومنها إنما المغني بذلك هو الله تعالى فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. قال البقاعي: ولعل الإشارة بإسقاط ياء تغني بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت ثمرة الإنذار وهو القبول. تنبيه: يجوز في ما أن تكون استفهامية وتكون في محل نصب مفعولاً مقدّماً أي أي شيء تغني النذر وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً والنذر جمع نذير والمراد به المصدر أو اسم الفاعل. ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد التعلق بطلب نجاتهم فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فتولّ عنهم} أي: كلف نفسك الإعراض عن تمني ذلك فما عليك إلا البلاغ وأمّا الهداية فإلى الله تعالى وحده. تنبيه: قال أكثر المفسرين نسختها آية السيف وقال الرازي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 إنّ قول المفسرين في قوله تعالى: {فتولّ} منسوخ ليس كذلك بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر، أي: واذكر يوم {يدع الداع} . وقيل: منصوب بيخرجون بعده والداعي معرف كالمنادي في قوله تعالى: {يوم ينادي المنادي} (ق: 41) لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل إنّ منادياً ينادي وداعياً يدعو، فقيل: الداعي إسرافيل عليه السلام ينفخ قائماً على صخرة بيت المقدس قاله مقاتل، وقيل: جبريل عليه السلام وقيل: ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا جاء رجل فقال الرجل قاله الرازي. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذف الياء بعد العين وقفاً وإثباتها وصلاً وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا والباقون بحذفها وقفا ووصلا {إلى شيء نكر} أي: منكر فظيع لم ير مثله فينكرونه استعظاماً. فإن قيل ما ذلك الشيء المنكر أجيب بأنه الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع فإن قيل النشر لا يكون منكراً فإنه أحياء ولأنّ الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يُجزى عليه لينكره أجيب بأنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} (يس: 52) وقرأ ابن كثير بسكون الكاف والباقون بالرفع. ولما بين تعالى دعاءه بما هال أمره بين حال المدعوّين زيادة في الهول فقال تعالى: {خشعاً أبصارهم} أي: ينظرون نظر الخاضع الذليل السافل المنزلة المستوحش الذي هو شرّ حال، ونسب الخشوع إلى الأبصار لأنّ الذل والعز يتبين في النظر والذل أن يرمي به صاحبه إلى الأرض مثلاً مع هيبة يعرف منها ذلك كما قال تعالى: {خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} (الشورى: 45) وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين والباقون بضم الخاء ولا ألف بعدها وفتح الشين مشدّدة أمّا القراءة الأولى فهي جارية على اللغة الفصحى من حيث إنّ الفعل وما جرى مجراه إذا قدّم على الفاعل وحد تقول: تخشع أبصارهم، ولا تقول: تخشعن أبصارهم وأمّا القراءة الثانية فجاءت على لغة طيىء يقولون: أكلوني البراغيث قال الزمخشري: ويجوز أن يكون في خشعاً ضمير هم ويقع أبصارهم بدلاً عنه ا. هـ. وتقدّم نظير ذلك في قوله تعالى في الأنبياء: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} (الأنبياء: 3) وجملة {خُشَّعاً أبصارهم} حال من فاعل {يخرجون} أي: الناس {من الأجداث} أي: القبور {كأنهم جراد} أي: في كثرتهم وتراكم بعضهم على بعض وصغارهم وضعفهم وتموّجهم يقال في الجيش الكثير المائج بعضه فوق بعض جاؤوا كالجراد وكالذباب {منتشر} أي: منبث متفرّق في كل مكان لكثرتهم لا يدرون أين يذهبون. {مهطعين} أي: مسرعين مادّي أعناقهم {إلى الداعي} مصوبي رؤوسهم إليه لا يلتفتون إلى سواه كما يفعل من ينظر في ذل وخضوع وصمت واستكانة هذا حال الكل، وأمّا الكافر فنبه عليه بقوله تعالى: {يقول} أي: على سبيل التكرار {الكافرون} أي الذين كانوا في الدنيا عريقين في ستر الأدلة وإظهار الأباطيل المضلة: {هذا} أي الوقت الذي نحن فيه لما نرى فيه من الأهوال {يوم عسر} أي: في غاية العسر والصعوبة والشدّة وذلك بحسب حالهم فيه كما قال تعالى في سورة المدّثر: {يوم عسير على الكافرين} (المدثر: 9 ـ 10) ولما فرغ من حكاية كلام الكافرين ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال تعالى: {كذبت} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل {قبلهم} أي: أهل مكة {قوم نوح} مع ما كان بهم من القوّة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار، وأنث فعلهم تحقيراً لهم، وتهويناً لأمرهم في جنب قدرته تعالى. فإن قيل: إلحاق الضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوّزون كذبت فما الفرق؟ أجاب الرازي بأنّ التأنيث إنما جاز قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولم تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع لأنّ الجمع للفاعلين بسبب فعلهم {فكذبوا عبدنا} نوحاً عليه السلام على ماله من العظمة بنسبته إلينا مع تشريفنا إياه بالرسالة {وقالوا} زيادة على التكذيب {مجنون} أي: فهذا الذي يصدر منه من الخوارق أمر من الجنّ. {وازدجر} وهل هذا من مقولهم أي قالوا: إنه ازدجر أي ازدجرته الجنّ وذهبت بلبه قاله مجاهد، أو هو من كلام الله تعالى أخبر الله تعالى عنه بأنه انتهر وازدجر بالسب وأنواع الأذى، وقالوا: {لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين} (الشعراء: 116) . قال الرازي: وهذا أصح لأنّ المقصود تقوية قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدّمه وأيضاً يترتب عليه قوله تعالى: {فدعا ربه} وهذا الترتيب في غاية الحسن، لأنّهم لمّا زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه الذي رباه بالإحسان إليه وبرسالته {أني} أي: بأني {مغلوب} أي: من قومي كلهم بالقوّة والمنعة لا بالحجة وأكده ابلاغاً في الشكاية وإظهار الذل العبودية؛ لأنّ الله تعالى عالمٌ بسر العبد وجهره فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل وكذا الإبلاغ فيه، وقال ابن عطية: غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم. قال ابن عادل: وهو ضعيف. {فانتصر} أي: أوقع نصرتي عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه فانتقم لي منهم. {ففتحنا} أي: بسبب دعائه فتحاً يليق بعظمتنا {أبواب السماء} أي: كلها في جميع الأقطار، وعَبَّرَ بجمع القلة عن جمع الكثرة والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها فإنّ للسماء أبواباً تفتح وتغلق وقيل: هذا على سبيل الاستعارة فإنّ الظاهر أنّ الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفي قوله تعالى: {ففتحنا} بيان بأنّ الله تعالى انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف. وفي الباء في قوله تعالى: {بماء} وجهان: أظهرهما: أنّها للتعدية وذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة للفتح به كما تقول فتحت بالمفتاح والثاني أنها للحال أي فتحناها ملتبسة بماء {منهمر} أي: منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب كثرة وعظماً ولذلك لم يقل بمطر لأنّه خارجٌ عن تلك العادة واستمرّ ذلك أربعين يوماً. {وفَجّرْنا} أي: صدّعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأسلنا {الأرض عيونا} أي: جميع عيون الأرض ولكنَّه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثمَّ البيان وإفادة أنّ وجه الأرض صار كله عيوناً وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها. {فالتقى الماء} أي: المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال تعالى: {على أمرٍ} أي: حالٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 {قد قدرِ} أي: قضى أي في الأزل وهو هلاكهم غرقاً بماء مقدّر لا يزيد قطرة ولا يهلك غير من أمرناه بإهلاكهم. {وحملناه} أي: نوحاً عليه السلام تتميماً لانتصاره {على ذات} أي: سفينة صاحبةِ {ألواح} أي: أخشاب نجرت حتى صارت عريضة {ودسر} جمع دسار ككتاب وهو ما تشدّ به السفينة من مسمار وحديد أو خشب أو من خيوط الليف ونحوها قال البقاعي: ولعله عبّر عن السفينة بما شرحها تنبيهاً على قدرته على ما يريد. {تجري} أي: السفينة {بأعيننا} أي: محفوظة من أنْ تدخل بحر الظلمات، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات بحفظنا على مالنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء بأعين كثيرة ولا يغيب عنه أصلاً، وجوّزوا أنْ يكون جمع تكسير لعين الماء. وقوله تعالى: {جزاء} منصوب بفعل مقدّر أي أغرقوا انتصاراً {لمن كان كفر} وهو نوح عليه الصلاة والسلام أو الباري تعالى: {ولقد تركناها} أي: أبقينا هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة وقيل تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقاياها أول هذه الأمّة {آية} أي: علامة عظيمة على مالنا من العلم المحيط والقدرة التامّة {فهل من مدّكر} أي: معتبر ومتعظ بها وأصله مذتكر أبدلت التاء دالاً مهملة وكذا المعجمة وأدغمت فيها. وقوله تعالى: {فكيف كان} أي وجد وتحقق {عذابي} أي: لمن كفر وكذب رسلي {ونذر} أي: إنذاري، استفهام تقرير فكيف خبر كان وهي للسؤال عن الحال والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى بالمكذبين لنوح موقعه وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الراء وصلا لا وقفاً جميع ما في هذه السورة، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. قال البقاعي: ولما كان هذا المفصل مما أنزل أول القرآن تيسيراً على الأمّة نبه على ذلك بقوله تعالى: {ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة {القرآن} أي: على ماله من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه وصفاً لنا {للذكر} أي: الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والتشريف والحفظ لمن يراعيه. قال ابن برجان: أنزلناه باللسان العربي ونزلناه للإفهام تنزيلاً، وضربنا لهم الأمثال، وأطلنا لهم في هذه الأعمار ليتذكروا الميثاقَ المأخوذَ عليهم، وقال القشيري: يسرّ قراءته على ألسنة قوم وعلمه على قلوب قوم وفهمه على قلوب قوم وحفظه على قلوب قوم وكلهم أهل القرآن وخاصته وليس يُحفظ من كتب الله تعالى عن ظهر قلب غيره. قاله المحلى. {فهل من مدكر} أي: معتبر ومتعظ بها وتقدم أصله. ولما انقضت قصة نوح عليه السلام على هذا الهول العظيم ذكر قصة عاد لأنها أعظم قصة جرت بعد قوم نوح فيما تعرفه العرب بقوله تعالى: {س54ش18/ش22 كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} {كذبت عاد} أي: أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولهم هود عليه الصلاة والسلام في دعائه لهم إليّ وإنذاره عذابي {فكيف} أي: فعلى أي الأحوال لأجل تكذيبهم {كان عذابي} لهم {ونذر} أي: وإنذاري إياهم بلسان رسولي قبل نزوله، أي وقع موقعه. فإن قيل: لِمَ لم يقل: فكذبوا هودا كما قال تعالى في قصة نوح: {فكذبوا عبدنا} أجيب: بأنّ تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم وإمّا لأن قصة عاد ذكرت مختصرة. ثم بين عذابهم بقوله تعالى: {إنا أرسلنا} أي: بمالنا من العظمة. {عليهم ريحاً} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وعبر بحرف الاستعلاء إعلاماً بالنقمة، ثم وصف الريح بقوله تعالى: {صرصراً} أي: شديدة الصوت من صرصر الباب أو القلم إذا صوت، وقيل: الشديدة البرد من الصر، وهو البرد، وقال مكي: أصله صرّر من صرَّ الشيء إذا صوت لكن أبدلوا من الراء المشدّة صاداً وهذا قول الكوفيين وقال الرازي: الصرصر: الدائمة الهبوب، من أصر على الشيء إذا دام وثبت. وأكد شؤمها بذم زمانها فقال تعالى: {في يوم نحس} أي: شديد القباحة قيل: كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر وهو شوال لثمان بقين منه، واستمر إلى غروب شمس الأربعاء آخره، فإنه قال تعالى في سورة الحاقة: {سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} وقال تعالى في حم السجدة: {في أيام نحسات} (فصلت: 16) فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان، وقوله تعالى: {مستمر} أي: دائم الشؤم إلى وقت نفاذ المراد منه يفيد ما تفيده الأيام، لأنّ الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عنه الأيام، والحكاية مذكورة هنا على سبيل الاختصار، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز فاستمر عليهم بنحوسه ولم يبق منهم أحد إلا أهلكه، هذا وصفها في ذاتها. وأمّا وصفها بفعلها فيهم فذكره بقوله تعالى: {تنزع} أي: تأخذ {الناس} أي: الذين هم صور لاثبات لهم بأرواح التقوى من الأرض: بعضهم من وجهها، وبعضهم من حُفَرٍ حفروها ليمتنعوا بها من العذاب فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور فتقلع رؤوسهم من جثثهم. وقوله تعالى: {كأنهم} أي: حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم {أعجاز نخل} أي: أصول نخل قطعت رؤوسها حال من الناس مقدرة. وقوله: {منقعر} صفة لنخل باعتبار الجنس وأنث في الحاقة فقال: {نخل خاوية} (الحاقة: 7) باعتبار معنى الجماعة. قال ابن عادل: وإنما ذكَّر هنا وأنث هناك مراعاة للفواصل في الموضعين. وقال الرازي: ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة فقال تعالى: {والنخل باسقات} (ق: 10) وذلك حال عنها وهي كالوصف، وقال تعالى: {نخل خاوية} (الحاقة: 7) و {نخل منقعر} فحيث قال: منقعر كان المختار ذلك لأنّ المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه ورد عليه القعر فهو مقعور، والخاوي والباسق فاعل، وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى: تقول: امرأة قتيل، وأمّا الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأنّ البسوق أمر قائم بها، وأمّا الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأنّ الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ. تنبيه: الأعجاز جمع عجْز وهو مؤخر الشيء، ومنه العجْز لأنه يؤدي إلى تأخير الأمور، والمنقعر المنقلع من أصله: يقال: قعرت النخلة: قلعتها من أصلها فانقعرت، وقعرت البئر وصلت إلى قعرها، وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى وصلت إلى قعره. وكرّر قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر} للتهويل. وقيل: الأوّل: لما حاق بهم في الدنيا، والثاني: لما يحيق بهم في الآخرة، كما قال أيضاً في قصتهم: {لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى} (فصلت: 16) وتقدّم تفسير قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} وكرّره إيذاناً بأنّ تفسير القرآن مع إعجازه لا يكون إلا بعظمة تفوت قوى البشر، وتعجز عنها منهم القدر. ولما انقضت قصة عاد ذكر تعالى قصة ثمود لأنها تلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 قصة عاد في الفظاعة، فقال تعالى: {كذبت ثمود} أي قوم صالح عليه السلام وقوله تعالى: {بالنذر} جمع نذير بمعنى منذر أي بالإنذارات التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام إن لم يؤمنوا به. ثم علل ذلك وعقبه بقوله تعالى: {فقالوا} منكرين لما جاءهم من الله تعالى غاية الإنكار {أبشراً} إنكار الرسالة، هذا النوع ليكون إنكار النبوة نبيهم على أبلغ الوجوه وهو منصوب بفعل يفسره {نتبعه} الآتي، وقولهم: {منا} نعت له أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا، وقولهم: {واحداً} نعت له أيضاً، ثم عظموا الإنكار بقولهم {نتبعه} أي: نجاهد أنفسنا في خلع مألوفنا وما كان عليه آباؤنا، والاستفهام بمعنى النفي والمعنى: كيف نتبعه ونحن أشد الناس قوّة وكثرة وهو واحد منّا. ثمَّ استنتجوا من هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين: {إنَّا إذاً} أي: إن أتبعناه {لفي ضلال} أي: ذهاب عن الصواب محيط بنا {وسعر} أي: ونيران جمع سعير فعكسوا عليه وقالوا: إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول، وقيل: السعر الجنون يقال ناقة مسعورة قال الشاعر: *كأنّ بها سعر إذا العيس هزها ... ذميل وإرخاء من السير متعب* ثم استدلوا بأمر آخر ساقوه مساق الإنكار فقالوا: {أألقي} أي: أنزل {الذكر} أي: الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم بغتة في سرعة {عليه} لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن، ولا توسموا فيه قبل إشارته به شيئاً منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم: {من بيننا} أي: وفينا من هو أولى بذلك منه سنا وشرفاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بتحقيق الهمزة الأولى المفتوحة وتسهيل الثانية المضمومة كالواو، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفا بخلاف عن أبي عمرو ولم يدخل ورش وابن كثير ألفا، وأمّا هشام فله تسهيل الثانية وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع التحقيق، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال، وإذا وقف حمزة فله في الثانية التسهيل وإبدالها واواً والتحقيق. ثم أضربوا عن ذلك الاستفهام لأنه بمعنى النفي بقولهم: {بل هو كذاب} أي: بليغ في الكذب في قوله إنه أوحى إليه ما ذكر {أشر} أي: متكبر بطر غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه فتجبر فهو يريد الترفع، قال الله تعالى: {سيعلمون} أي: بوعد لا خلف فيه {غداً} أي: في الزمن الآتي القريب وهو يوم القيامة، لأنّ كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة. وقرأ ابن عامر وحمزة بعد السين بتاء الخطاب وفيه وجهان: أحدهما أنه حكاية عن قول صالح عليه السلام لقومه. والثاني: أنه خطاب من الله تعالى على جهة الالتفات، والباقون بياء الغيبة جرياً على الغيب قبله في قوله تعالى: {فقالوا أبشراً} واختار هذه القراءة مكي، لأنّ عليها الأكثر. {من الكذاب الأشر} أي: وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم لنبيه صالح صلى الله عليه وسلم وروي أنهم تعنتوا عليه فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء فقال تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {مرسلوا الناقة} أي موجدوها لهم ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الأحجار دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام: مخصصين له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 من بين قومه وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام نريد أن نعرف المحق، منا بأن ندعوا آلهتنا وتدعو إلهاك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق فدعوا أوثانهم فلم تجبهم، فقالوا: ادع أنت فقال: فما تريدون؟ قالوا: تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء وبراء، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعدما كذبوا في أنّ آلهتهم تجيبهم، وصدق هو عليه السلام في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها {فتنة لهم} أي: امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها وتخليهم عنها، لأنّ المعجزة فتنة لأنّ بها يتميز المثاب من المعذب، فالمعجزة تصديق وحينئذ يفترق المصدّق من المكذب، أو يقال: إخراج الناقة من الصخرة معجزة ودورانها بينهم وقسمة الماء كان فتنة، ولهذا قال تعالى: {إنا مرسلوا الناقة} ولم يقل: {مخرجوا} . {فارتقبهم} أي: كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم {واصطبر} أي: عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق {ونبئهم} أي: أخبرهم إخباراً عظيماً بأمر عظيم وهو {أن الماء} أي: الذي يشربونه وهو ماء بئرهم {قسمة بينهم} أي: بين قوم صالح عليه السلام والناقة فغلَّب العاقل عليها، والمعنى أنا إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم وتوسع الكل بدل الماء لبنا. {كل شرب} أي: نصيب من الماء {محتضر} أي: فالناقة تحضر الماء يوم وردها وتغيب عنهم يوم ورودهم قاله: مقاتل، وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غيبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون. تنبيه: الحكمة في قسمة الماء إمّا لأنّ الناقة عظيمة الخلق فتنفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم، وإمّا لقلة الماء فلا يحملهم، وإمّا لأنّ الماء كان مقسوماً بينهم لكل فريق يوم، فيوم ورد الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النقصان على الكل، ولا تختص الناقة بجميع الماء، روي أنهم كانوا يكتفون في يوم وردها بلبنها، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها وظاهر قوله تعالى: {كل شرب محتضر} يعضد الوجه الثالث، وحضر واحتضر بمعنى واحد. وقوله تعالى: {فنادوا صاحبهم} فيه حذف قبله، أي: فتمادوا على ذلك ثم ملّوه فعزموا على عقرها فنادوا صاحبهم وهو قدّار بن سالف الذي انتدبوه بطراً وأشراً لقتل الناقة وكذباً في وعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وكان أشجعهم، وقيل كان رئيسهم. {فتعاطى} أي: فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث به {فعقر} أي: فتسبب عن ذلك عقرها، وقيل: فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، والتعاطي تفاعل الشيء بتكليف. قال محمد بن إسحق كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة ثم نحرها. وقال ابن عباس: كان الذي عقرها احمر أزرق أشقر أكشف أقعى يقال له قدار بن سالف، والعرب تسمي الجزار قدار تشبيهاً بقدار بن سالف مشؤوم آل ثمود. {فكيف كان عذابي} أي: كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه {ونذر} أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 أي وقع موقعه. وبينه بقوله تعالى: {إنا} أي: بمالنا من العظمة {أرسلنا} أي: إرسالاً عظيماً {عليهم صيحة} وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابه بقوله تعالى: {واحدة} صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن لهم بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة، كما قال تعالى {فكانوا كهشيم المحتظر} (القمر: 31) وهو الذي يجعل لغنمه حظيرة من يابس الشجر والشوك يحفظهنّ فيها من الذئاب والسباع، وما يسقط من ذلك فما داسته هو الهشيم والهشيم المهشوم المكسور، ومنه سمي هاشم لهشمه الثريد في الجفان غير أنّ الهشيم يستعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس قال المفسرون كانوا كالخشب المتكسر الذي يخرج من الحظائر، بدليل قوله تعالى: {هشيماً تذروه الرياح} (الكهف: 45) وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف، وتشبيههم بالهشيم: إمّا لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان، أو لانضمام بعضهم إلى بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحطب يضعه شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه. قال ابن عادل: ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم، أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد، كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) ، وقوله تعالى: {فكانوا لجهنم حطبا} (الجن: 15) تنبيهات أحدها: أنه تعالى ذكر {فكيف كان عذابي ونذر} في ثلاثة مواضع؛ ذكرها في حكاية نوح عليه السلام بعد بيان العذاب؛ وذكرها ههنا قبل بيان العذاب؛ وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه، وبعد بيانه فحيث ذكر قبل بيان العذاب فللبيان، كقول العارف حكاية لغير العارف: هل تعلم كيف كان أمر فلان؟ وغرضه أن يقول: أخبرني عنه وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم؛ كقول فلان: أي ضرب وأيما ضرب، ويقول: ضربته وكيف ضربته؟ أي قوياً وفي حكاية عاد ذكرها مرتين: للبيان والاستفهام. ثانيها: أنه تعالى ذكر في حكاية نوح عليه السلام الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان؛ لأنّ عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عمّ العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصاً بهم. ثالثها: أنه تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه، لأنّ حال صالح عليه السلام كان أتمّ مشابهة بحال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أتى بأمر عجيب أرضى، وكان أعجب مما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنّ عيسى عليه السلام أحيى الميت، لكن الميت كان محلا للحياة، فقامت الحياة بإذن الله تعالى في محل كان قابلاً لها، وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعباناً، فأثبت الله تعالى له في الخشب الحياة بإذنه سبحانه، لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو، فأشبه الحيوان في النمّو، وصالح عليه السلام كان الظاهر في بدء خروج الناقة من الحجر، والحجر جماد ليس محلاً للحياة، ولا محلاً للنمو، ونبينا صلى الله عليه وسلم أتى بأعجب من الكل، وهو المتصرّف في الجرم السماوي الذي يقول المشرك لا وصول لأحد إلى السماء، وأمّا الأرضيات فقالوا: إنها أجسام مشتركة المواد تقبل كل واحدة منها صورة الأخرى، والسماويات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتمّ وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم من معجزة سائر الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم {ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 {القرآن} أي: الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس، {للذكر} أي: الحفظ، والتذكر، والتدبر وحصول الشرف في الدارين؛ {فهل من مدّكر} أي: من ناظر بعين الإنصاف، والتجرّد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فيعينه عليه. ولما انقضت قصة ثمود بما تعرفه العرب بالأخبار، ورؤية الآثار، فقال تعالى: {كذبت قوم لوط} أي: وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه، وإن كانوا في تكذيبهم هذا أضعف من عقول النساء عن التجرد عن الهوى بما دلّ عليه تأنيث الفعل بالتاء، وكذا ما قبلها من القصص {بالنذر} أي: بالأمور المنذرة لهم على لسان نبيهم لوط عليه السلام. ودلّ على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الأخبار عن عذابهم، فقال تعالى مؤكداً توعداً لمن استمرّ على التكذيب {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أرسلنا عليهم حاصباً} أي: ريحاً شديدة ترميهم بالحصباء، وهي صغار الحجارة الواحد دون ملء الكف فهلكوا {إلا آل لوط} وهم من آمن به، فكان إذا رأيته فكأنك رأيت لوطاً عليه السلام لما يلوح عليه من أفعاله، والمشي على منواله في أقواله وأفعاله {نجيناهم} أي: تنجية عظيمة {بسحر} أي: بآخر ليلة من الليالي، وهي الليلة التي عذب فيها قومه، «وانصرف» لأنه نكرة لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها، ولو قصد به وقت بعينه لمنع الصرف للتعريف، والعدل عن أل هذا هو المشهور، وزعم صدر الأفاضل: أنه مبني على الفتح كأمس مبنياً على الكسر. تنبيه: قال الجلال المحلي: وهل أرسل الحاصب على آل لوط أو لا: قولان؛ وعبر عن الاستثناء على الأوّل بأنه متصل، وعلى الثاني بأنه منقطع، وإن كان من الجنس تسمحاً. وقوله تعالى: {نعمة} أما مفعول له؛ وإمّا مصدر بفعل من لفظها أو من معنى نجيناهم لأن تنجيتهم، إنعام فالتأويل: إمّا في العامل، وإمّا في المصدر. وقوله تعالى: {من عندنا} متعلق بنعمة، أو بمحذوف صفة لها. {كذلك} أي: مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلناه جزاء لهم {نجزي من شكر} أي: من آمن بالله تعالى، وأطاعه قال بعض المفسرين: وهو وعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يصونهم عن الهلاك العام؛ وقال الرازي: ويمكن أن يقال: هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة كما أنجاهم في الدنيا من العذاب، لقوله تعالى: {ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين} (آل عمران: 145) وقال مقاتل: من وحد الله تعالى لم يعذبه مع المشركين. {ولقد أنذرهم} أي: رسولنا لوط عليه السلام {بطشتنا} أي: أخذتنا المقرونة من الشدّة بما لنا من العظمة، وهي العذاب الذي نزل بهم، وقيل: هي عذاب الآخرة لقوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى} (الدخان: 16) {فتماروا} أي تجادلوا وكذبوا {بالنذر} أي بإنذاره فكان سبباً للأخذ. {ولقد راودوه عن ضيفه} أي أرادوا أن يخلي بينهم وبين القوم الذين أتوه في صورة الأضياف، ليخبثوا بهم، وكانوا ملائكة في صورة شباب مرد؛ وأفرد لأنّ المراد الجنس {فطمسنا} أي: فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا {أعينهم} أي: أعميناها، وجعلناها بلاشق كباقي الوجه بأن صفقها جبريل عليه السلام بجناحه؛ وقال الضحاك: بل أعماهم الله تعالى فلم يروا الرسل وقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا فلم يروهم؛ وهذا قول ابن عباس وروي أنهم صارت أعينهم مع وجوههم كالصفيحة الواحدة؛ وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 القشيري: مسح بجناحه على وجوههم فعموا، ولم يهتدوا للخروج. قال ابن جرير: والعرب تقول: طمست الريح الأعلام إذا دفنتها بما تسفي عليها، فانطلقوا هاربين مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه، بل يصادمون الجدران خوفاً مما هو أعظم من ذلك، وهم يقولون عند ذلك لوط سحر الناس، وما أدّتهم عقولهم إلى أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم. قال القشيري: وكذلك أجرى الله تعالى سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم. وقوله تعالى: {فذوقوا عذابي ونذر} أي: إنذاري وتخويفي، خطاب لهم أي: قلنا لهم على لسان الملائكة فذوقوا، فهو خطاب مع كل مكذب أي: إن كنتم تكذبون فذوقوا. قال القرطبي: والمراد من هذا الأمر الخبر أي: فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه السلام. فإن قيل: النذر كيف تذاق؟ أجيب بأنّ المراد ثمرته وفائدته. فإن قيل: إذا كان المراد بقوله تعالى: {عذابي} هو العذاب العاجل وبقوله تعالى: {ونذر} هو العذاب الآجل: فهما لم يكونا في زمان واحد، فكيف قال تعالى: {فذوقوا} ؟ أجيب: بأنّ العذاب الآجل أوّله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد، وهو قوله تعالى: {أغرقوا فأدخلوا ناراً} (نوح: 25) {ولقد صبحهم} أي: أتاهم وقت الصباح؛ وقرأ نافع، وابن كثير، وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الصاد؛ والباقون: بلا إظهار؛ وحقق المعنى بقوله تعالى: {بكرة} أي في أوّل نهار العذاب؛ وانصرف بكرة لأنه نكرة؛ ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف؛ {عذاب} أي: فقلع بلادهم ورفعها؛ ثم قلبها وحصبها بحجارة النار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان؛ {مستقر} أي ثابت عليهم غير زائل ليس بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس، فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار. فقال لهم لسان الحال إن لم ينطق لسان المقال: {فذوقوا} أي: بسبب أفعالكم الخبيثة {عذابي ونذر} . تنبيه: قد علم من تكرير هذا أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان، وكان استئناف كل قصة منبهاً على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها. {ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة {القرآن} أي: الجامع الفارق بين الحق والباطل؛ ولو شئنا لأعليناه بما لنا من القدرة إلى حد تعجز القوى عن فهمه، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته {للذكر فهل من مدكر} أي: فيخلص نفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه هؤلاء أنفسهم ظناً منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلاً منهم، وعدم اكتراث بالعواقب. ولما انقضت قصة لوط عليه السلام أتبعها قصة موسى عليه السلام لأنها بعد قوم لوط؛ بقوله تعالى: {ولقد جاء آل فرعون} أي: فرعون ملك القبط بمصر؛ وقومه الذين إذا رآهم أحد كان كأنه فيهم لشدّة قربهم منه، وتخلقهم بأخلاقه {النذر} أي الإنذار على لسان موسى وهرون عليهما السلام؛ فلم يؤمنوا بل {كذبوا} أي: تكذيباً عظيماً مستهزئين {بآياتنا} التي أتاهم بها موسى عليه السلام {كلها} أي: التسع التي أوتيها وهي: العصا، واليد، والسنين، والطمس، والطوفان، والجراد، والقمل، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 والضفادع، والدم. فإن قيل كيف قال: {ولقد جاء} ولم يقل في غيره جاء؟ أجيب: بأنّ موسى عليه السلام لما جاء كان غائباً عن القوم، فقدم عليهم كما قال تعالى: {فلما جاء آل لوط المرسلون} (الحجر: 61) وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} لأنه جاءهم من عند الله من السموات بعد المعراج، كما جاء موسى قومه من الطور؛ والنذر: الرسل ولقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى عليه السلام، وقيل: النذر: الإنذارات تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ أبو عمرو وقالون: بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر؛ وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية؛ ولهما أيضاً إبدالها ألفاً وورش على أصله في الهمزة المسهلة؛ ومدّ بعد الجيم حمزة وابن ذكوان، والباقون بالفتح؛ وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر؛ {فأخذناهم} أي: بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق {أخذ عزيز} أي: لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {مقتدر} أي: لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقباً لحكمه بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه. ثم خوّف كفار مكة فقال تعالى: {أكفاركم} أي: الراسخون منكم يا أهل مكة في الكفر الثابتون عليه، يا أيها المكذبون، لهذا النبيّ الكريم الساترون لشموس دينه {خير} في الدنيا بالقوة والكثرة، أو في الدين عند الله أو عند الناس {من أولئكم} أي: المذكورين من قوم نوح إلى فرعون الذين وعظناكم بهم في هذه السورة؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي ليسوا بأقوى منهم فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. تنبيه: قوله تعالى: {خير} مع أنّه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان: *فشر كما لخير كما الفداء* أو هو بحسب زعمهم واعتقادهم؛ أو المراد بالخير شدّة القوّة؛ أو لأنّ كل ممكن فلا بدّ وأن يكون له صفات محمودة، فالمراد تلك الصفات {أم لكم} أي: يا أهل مكة {براءة في الزبر} أي: أنزل إليكم من الكتب السماوية أنّ من كفر منكم فهو في أمان من عذاب الله تعالى والاستفهام هنا أيضاً بمعنى النفي أي ليس الأمر كذلك. {أم يقولون} أي: كفار قريش {نحن جميع} أي جمع واحد مبالغ في اجتماعه فهو في الغاية من الضم فلا افتراق له {منتصر} أي على كل من يعاديه، لأنهم على قلب رجل واحد ولم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي. ولما قال أبو جهل يوم بدر: إنا جميع منتصر نزل {سيهزم الجمع} بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه. وقال مقاتل: ضرب أبو جهل يوم بدر فرسه فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم على محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى: {أم يقولون نحن جميع منتصر} وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما نزلت {سيهزم الجمع ويولون الدبر} ، كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فهزموا ببدر ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس الآي. {بل الساعة} أي: القيامة التي يكون فيها الجمع الأكبر والهول الأعظم {موعدهم} أي: للعذاب {والساعة أدهى} أي من كل ما يفرض وقوعه في الدنيا وأدهى أفعل تفضيل من الداهية، وهي أمر هائل لا يهتدي لدوائه فهي أمر عظيم؛ يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهواً ودهياً؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وقال ابن السكيت دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {وأمر} لأنّ عذابها للكفار غير مفارق ولا مزايل فهي أعظم نائبة وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر وفي رواية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يثب في درعه ويقول: اللهمّ إن قريشاً جادلتك وتجاهر رسولك بفخرها بخيلها فأخنهم الغداة. يقال: أخنى عليه الدهر أي غلبه وأهلكه ومنه قول النابغة: *أخني عليها الذي أخنى على لبد* وأخنيت عليه أفسدت ثم قال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} قال عمر: فعرفت تأويلها وهذا من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّه أخبر عن غيب فكان كما أخبر؛ قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: «لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب» {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وهو في قبة له يوم بدر أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم} يريد يوم القيامة {والساعة أدهى وأمر} مما لحقهم يوم بدر» . {إن المجرمين} أي: المشركين القاطعين لما أمر الله تعالى أن يوصل {في ضلال} أي: هلاك بالقتل في الدنيا {وسعر} أي: نار مسعرة أي مهيجة في الآخرة وقيل: {في ضلال} أي: عمى عن القصد بالبعث وسعر. قال الضحاك أي: نار تسعر عليهم وقيل ضلال ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة، وسعر جمع سعير نار مسعرة وقال الحسين بن الفضل: إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة. وقال قتادة: في عناء وعذاب. ثم بين عذابهم في الآخرة بقوله تعالى: {يوم يسحبون} أي: في القيامة إهانة لهم من أي ساحب كان {في النار} أي الكاملة النارية {على وجوههم} لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى مقولاً لهم من أي قائل اتفق {ذوقوا} لأنه لا منعة لهم ولا حمية بوجه {مَسَّ سقر} أي: حرّ النار وألمها فإن مسها سبب للتألم بها، وسقر علم لجهنم مشتقة من سقرته الشمس أو النار أي لوحته ويقال: صقرته بالصاد وهي مبدلة من السين قال ذو الرمة: *إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها ... يا فنان مربوع الصريمة معبل* وعدم صرفها للتعريف والتأنيث. وقال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية نزلت في القدرية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مجوس هذه الأمة القدرية» وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله سبحانه {إنّ المجرمين في ضلال وسعر} وفي مسلم عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت هذه الآية إلى آخرها» قال الرازي: والقدري هو الذي ينكر القدر وينسب الحوادث لاتصالات الكواكب لما مرّ أنّ قريشاً خاصموا النبيّ صلى الله عليه وسلم في القدر، ومذهبهم أن الله تعالى مكن العبد من الطاعة والمعصية وهو قادر على خلق ذلك في العبد وقادر على أن يطعم الفقير ولهذا قالوا: أنطعم من لو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 يشاء الله أطعمه منكرين لقدرته تعالى على الإطعام. وقوله صلى الله عليه وسلم «القدرية مجوس هذه الأمة» إن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقوم فالقدرية في زمانه صلى الله عليه وسلم هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة؛ وإن كان المراد بالأمة من آمن به صلى الله عليه وسلم فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة؛ فإنّ المجوس أضعف الكفرة المتقدّمين شبهة وأشدّ مخالفة للعقل وكذا القدرية في هذه الأمة؛ وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكونهم في النار فالحق أنّ القدري: هو الذي ينكر قدرة الله تعالى وقد ردّ عليهم بالكتاب والسنة. أما من الكتاب فقوله تعالى: {إنا} أي: بمالنا من العظمة {كل شيء} من الأشياء المخلوقة صغيرها وكبيرها {خلقناه بقدر} أي: قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقوّة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب ذلك في اللوح قبل وقوعه. وأمّا من السنة: فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام قال وعرشه على الماء. وعن طاووس اليماني قال: أدركت ما شاء الله تعالى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر الله تعالى؛ قال: وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله: بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر؛ وزاد عبد الله خيره وشره» . تنبيه: {كل شيء} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ كل شيء بفعله بيّن يسر ذلك وسهولته عليه بقوله تعالى: {وما أمرنا} في كل شيء أردناه وإن عظم أمره {إلا واحدة} أي: فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك أحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية؛ وقيل إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى {كن} كما قال تعالى: {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما نعقله وأخفه بقوله تعالى: {كلمح بالبصر} واللمح النظر بالعجلة وفي الصحاح لمحة وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف أي فكما أن لمح أحدكم بصره لا كلفة عليه فيه فكذلك الأفعال كلها عندنا بل أيسر؛ وعن ابن عباس معناه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر. {ولقد أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {أشياعكم} أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة والقدرة عليكم كالقدرة عليهم فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فهل من مدكر} أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعف وأنّ قدرته تعالى عليه كقدرته تعالى عليهم ليرجع عن غيه خوفاً من سطوته والاستفهام بمعنى الأمر أي ادكروا واتعظوا. {وكل شيء فعلوه} قال الجلال المحلي: أي: العباد. وقال أكثر المفسرين: أي: الأشياع لأنه هو المتقدم ذكره {في الزبر} أي مكتوب في دواوين الحفظة. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: في أم الكتاب فلتحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية هذا ما أطبق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 عليه القراء بما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد. {وكل صغير وكبير} أي: من الخلق وأعمالهم وآجالهم {مستطر} أي: مكتوب في اللوح المحفوظ. ولما وصف الكفار وصف المؤمنين مؤكداً رداً على المنكر فقال عز من قائل: {إنّ المتقين} أي: العريقين في وصف الخوف من الله الذي وفقهم لطاعته {في جنات} أي: خلال بساتين ذات أشجار تستر داخلها وقوله تعالى: {ونهر} أريد به الجنس: لأن فيها أنهاراً من ماء وعسل ولبن وخمر؛ أفرده لموافقة رؤوس الآي ولشدة اتصال بعضها ببعض فكأنها شيء واحد. والمعنى: أنهم يشربون من أنهارها وقيل: هو السعة والصفاء من النهار. وكما جعل للمتقين في تلك الدار ذلك جعل لهم في هذه الدار أيضاً جنات العلوم وأنهار المعارف ولهذا كانوا {في مقعد صدق} أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم، ولم يقل في مجلس صدق، لأنّ القعود جلوس فيه مكث ومنه قواعد البيت والقواعد من النساء ولذا قال: {عند مليك} أي: ملك تام الملك {مقتدر} أي: قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى. وعند إشارة للرتبة والكرامة والمنزلة من فضله تعالى، جعلنا الله تعالى ومحبينا منهم. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة القمر في كل غبّ ـ أي يقرأ يوماً ويترك يوماً ـ بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» . حديث موضوع. سورة الرحمن وتسمى عروس القرآن لأنها مجمع النعم والجمال والبهجة في نوعها والكمال مكية كلها في قول الحسن وعروة وابن الزبير وعطاء وجابر؛ وقال ابن عباس: إلا آية منها وهي: قوله تعالى: {يسأله من في السموات والأرض} (الرحمن: 29) الآية وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها قال ابن عادل: والأوّل أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط فمن رجل يسمعهموه، فقال ابن مسعود: أنا فقالوا نخشى عليك وإنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {الرحمن علم القرآن} ثم تمادى بها رافعاً صوته وقريش في أنديتها فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه، وصح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «قام يصلي الصبح بنخلة فقرأ بسورة الرحمن، ومرّ النفر من الجن فآمنوا به» وهي سبع وثمانون آية وثلاثمائة، وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفاً. {بسم الله} الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته؛ {الرحمن} الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته؛ {الرحيم} الذي ظهر اختصاصه لأهل طاعته بما تحققوا من الذلّ المفيد للعز بلزوم عباداته. ولما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها بقوله تعالى: {علم} أي: من شاء {القرآن} وقدم من نعمه الدينية ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه تعالى بالقرآن العظيم، وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وحي الله تعالى رتبة، وأعلاها منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثراً؛ وهو سنام الكتب السماوية، ومصداقها والعيار عليها. تنبيه: أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها؛ لأنّ آخر تلك مليك مقتدر، وأوّل هذه أنه رحمن. قال سعيد بن جبير وعامر والشعبي: الرحمن: فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى الر، وحم، ون، فيكون مجموع هذه الرحمن.l ولله تبارك وتعالى رحمتان: رحمة سابقة بها خلق الخلق؛ ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع، فهو رحمن باعتبار السابقة، رحيم باعتبار اللاحقة، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره رحمن ولما خلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطاقة البشرية فأطعم ونفع جاز أن يقال له: رحيم. وفي إعراب الرحمن ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر أي الله الرحمن الثاني: أنه مبتدأ وخبره مضمر أي الرحمن ربنا. الثالث: أنه مبتدأ خبره علم القرآن؛ فإن قيل: كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران: 7) أجيب بأنا أن قلنا بعطف الراسخين على الله فهو ظاهر، وإن قلنا بالوقف على الله ويبتدأ بقوله تعالى: {والراسخون} (آل عمران: 7) فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة وتأمّلها بقدر الإمكان فإنه يقال فلان يعلم الكتاب الفلاني، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة، وكذا القول في تعليم القرآن، أو يقال المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه بخلاف الكتب التي تستخرج بقوة الذكاء والفكر. واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أكثر المفسرين: نزلت حين قالوا: وما الرحمن، وقيل: نزلت جواباً لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب؛ فأنزل الله تعالى: {الرحمن علم القرآن} أي: سهله ليذكر ويقرأ، كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} (القمر: 17) ولما كان كأنه قيل كيف يعلمه وهو صفة من صفاته، ولمن علمه قال تعالى مستأنفاً أو معللاً {خلق الإنسان} أي: الجنس بأن قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات، وأصله منها ثم عن سائر الناميات، ثم عن غيره من الحيوانات، وخلقه له دليل على خلقه لكل شيء موجود {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 49) وقيل علم القرآن جعله علامة. وآية {علمه البيان} أي القوّة الناطقة وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية، والحكم على الحاضر والغائب بقياسه على الحاضر، وغير ذلك مما أودعه له سبحانه مع تعبيره عما أدركه مما هو غائب في ضميره وإفهامه لغيره: تارة بالقول وتارة بالفعل، نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها، فصار بذلك ذا قدرة في نفسه والتكميل لغيره فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن، وقال ابن عباس وقتادة والحسن: يعني آدم عليه السلام علم أسماء كل شيء، وقيل: علمه اللغات كلها وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية، وعن ابن عباس أيضاً وابن كيسان: المراد بالإنسان ههنا محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من البيان: الحلال والحرام والهدى من الضلال، وقيل: ما كان وما يكون لأنه بين عن الأولين والآخرين، وعن يوم الدين، وقال الضحاك: البيان: الخير والشرّ، وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره. وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقيل: بيان الكتابة والخط بالقلم نظيره قوله تعالى: {علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فإن قيل: لِمَ قدّم تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود؟ أجيب: بأنّ التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه. فإن قيل: كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن؟ أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعميم لا في تعليم شخص دون شخص، وبأنّ المراد من قوله تعالى: {علمه البيان} : تعديد النعم على الإنسان واستدعاء الشكر منه؛ ولم يذكر الملائكة لأنّ المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان. وقيل: تقديره علم جبريل القرآن وقيل علم محمداً صلى الله عليه وسلم وقيل علم الإنسان وهذا أولى لعمومه. تنبيه هذه الجمل من قوله تعالى: {علم القرآن} إلى هنا جيء بها من غير عاطف لأنها سيقت لتعديد نعمه؛ كقولك: فلان أحسن إلى فلان أكرمه أشاد ذكره رفع قدره؛ فلشدّة الوصل ترك العاطف؛ وهي أخبار مترادفة للرّحمن. ولما ذكر تعالى خلق الإنسان وإنعامه عليه بتعليمه البيان ذكر نعمتين عظيمتين بقوله تعالى: {الشمس} وهي آية النهار {والقمر} وهي آية الليل {بحسبان} فإنهما على قانون واحد وحساب لا يتغيران وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ولولا الشمس والقمر لفات كثير من المنافع الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإنّ نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وإنهما بحسبان لا يتغير أبدا، ولو كان سيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها ومعرفة فصول السنة، والمعنى يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال أبو زيد وابن كيسان بهما تحسب الأوقات والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً إن كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً. وقال السدي: بحسبان تقدير آجالهما أي: يجريان بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا نظيره {كل يجري إلى أجل مسمى} (لقمان: 29) {والنجم} أي: النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له كالبقول {والشجر} أي: الذي له ساق كشجر الرمان وتقدم الجواب عن قوله تعالى: {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} (الصافات: 146) في سورة الصافات {يسجدان} أي: ينقادان لله تعالى فيما يريده طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً وقال الضحاك سجودهما سجود ظلالهما. وقال الفراء سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت الشمس ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما كما قال تعالى: {يتفيؤوا ظلاله} (النحل: 48) وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء وسجوده في قول مجاهد دوران ظله؛ وقيل: سجود النجم أفوله وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمارها حكاه الماوردي. وقال النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك. فإن قيل: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ أجيب بأنه استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له. فإن قيل: أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ أجيب: بأنّ الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 حيث التقابل، فإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأنَّ جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى فهو مناسب لسجود النجم والشجر. {والسماء} أي: ورفع السماء ثم فسر ناصبها فيكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدّة ما فيها من الحكم فقال تعالى: {رفعها} أي حسا قال البقاعي: بعدما كانت ملتصقة بالأرض ففتقها وأعلاها عنها؛ وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي: خلقها مرفوعة؛ قال البيضاوي: محلاً ورتبه، وقال الزمخشري: حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه. {ووضع الميزان} أي: العدل الذي دبر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا كما قال صلى الله عليه وسلم «بالعدل قامت السموات والأرض» وقال السدي: وضع في الأرض العدل الذي أمر به يقال وضع الله الشريعة ووضع فلان كذا أي: ألفه. وقيل على هذا الميزان القرآن لأنّ فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل، وقال الحسن وقتادة والضحاك هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط} (الرحمن: 9) والقسط هو العدل؛ وقيل هو الحكم، وقيل المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. {أن} أي: لأجل أن {لا تطغوا} أي: تتجاوزوا الحدود {في الميزان} فمن قال: الميزان العدل قال: طغيانه الجور؛ ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال: طغيانه البخس قال ابن عباس: لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس المكيال والميزان ومن قال: إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل فيه إضمار أي: وضع الميزان وأمركم أن لا تطغوا فيه. فإن قيل: إذا كان المراد به ما يوزن به فأيّ نعمة عظيمة فيه حتى يعدّ في الآلاء؟ أجيب: بأنّ النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد أن يغلبه غيره ولو في الشيء اليسير، ويرى أنّ ذلك استهانة به فلا يترك خصمه يغلبه فوضع الله تعالى معياراً بيّن به التساوي ولا تقع به البغضاء بين الناس وهو الميزان، وهو كل ما توزن به الأشياء بين الناس، ويعرف مقاديرها به من ميزان ومكيال ومقياس، فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما. {وأقيموا الوزن بالقسط} أي: افعلوه مستقيماً بالعدل. وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالعدل. وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية {ولا تخسروا الميزان} أي: لا تنقصوا الموزون، أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان؛ وكرّر لفظ الميزان تشديداً للتوصية وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه؛ وقيل: كرّره لمحال رؤوس الآي، وقيل كرّره ثلاث مرات: الأول: بمعنى الآلة وهو قوله تعالى: {ووضع الميزان} والثاني: بمعنى المصدر أي لا تطغوا في الوزن. والثالث: للمفعول أي لا تخسروا الموزون. قال ابن عادل: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإنّ القرآن فيه العلم الذي لا يوجد في غيره من الكتب والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 الآلات. ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدّة العناية والاهتمام به فقال تعالى: {والأرض} أي: ووضع الأرض ثم فسر ناصبها كما فعل في قوله تعالى: {والسماء رفعها} فقال تعالى: {وضعها} أي: دحاها وبسطها على الماء {للأنام} أي: كل من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم وهو الصوت. وقيل: هو الحيوان وقيل: بنو آدم خاصة. وهو مروي عن ابن عباس ونقل النووي في التهذيب عن الزبيدي الأنام الخلق قال: ويجوز الأنيم وقال: الواحدي قال الليث: الأنام ما على ظهر الأرض من جميع الخلق. وقال: الحسن هم الأنس والجن. {فيها} أي: الأرض {فاكهة} أي: ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار ونكرها لأنّ الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها فهو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، إذ التنكير فيها للتعظيم والتكثير، نبه عليه بتعريف فرع منها ونوه به لأنّ فيه مع التفكه التقوت وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأوّل فقال تعالى: {والنخل} ودل على تمام القدرة بقول تعالى: {ذات} أي: صاحبة {الأكمام} أي: أوعية ثمرها وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر، والأكمام جمع كم بالكسر قال الجوهري: والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وإكمام والكمامة ما يكم به فم البعير لئلا يعض؛ وكم القميص بالضم والجمع أكمام وكممه والكمة القلنسوة المدوّرة لأنها تغطي الرأس. {والحب} أي: جميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير {ذو العصف} قال ابن عباس: تبن الزرع وورقه الذي يعصفه الريح، وقال مجاهد: ورق الشجر والزرع، وقال سعيد بن جبير: بقل الزرع الذي أوّل ما ينبت منه وهو قول الفراء. والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك وقيل: العصف حطام النبات. {والريحان} وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الرزق قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: هو الرزق بلغة حمير، كقولهم: سبحان الله وريحانه نصبوهما على المصدر يريدون تنزيهاً له واسترزاقاً. وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشم، وهو قول ابن زيد. وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع والريحان ما لا يؤكل وقال الكلبي: العصف الورق الذي يؤكل والريحان هو الحب المأكول. وقيل: كل بقلة طيبة الريح سميت ريحاناً، لأنّ الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي يشم. وفي الصحاح: والريحان نبت معروف، والريحان الرزق تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، وفي الحديث: «الولد من ريحان الله» . وقرأ ابن عامر: بنصب الحب وذا والريحان بخلق مضمر، أي: وخلق الحب وذا العصف والريحان. وقرأ حمزة والكسائي: برفع الحب وذو عطفا على فاكهة، وجرّ الريحان عطفاً على العصف، والباقون: برفع الثلاثة عطفاً على فاكهة أي وفيها أيضاً هذه الأشياء. ولما دخل في قوله تعالى: {والأرض وضعها للأنام} الجنّ والأنس خاطبهما بقوله تعالى: {فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها؟ وكرر هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 موضعاً تقريراً للنعمة، وتأكيداً في التذكير، وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم، ويقرّرهم بها كما تقول لمن تتابع عليه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا، قال القائل: *كم نعمة كانت لكم كم كم وكم* وقال آخر: *لا تقتلي مسلماً إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك* وقال آخر: *لا تقطعنّ الصديق ما طرفت ... عيناك من قول كاشح أشر* *ولا تملنّ يوماً زيارته ... زره وزره وزر وزر وزر* وقال الحسن بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة قال بعض العلماء: والتكرير ههنا كما تقدّم في قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} (القمر: 17) وكقوله تعالى: فيما سيأتي {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15) وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أنّ التكرير لاختلاف النعم، فلذلك كرّر التوقيف مع كل واحدة. وقال الرازي: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقرير والزجر وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة؛ قال: وكرّرت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة: إما للتأكيد، ولا يعقل لخصوص العدد معنى. وقيل: الخطاب مع الأنس والجنّ والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات: نار جهنم ولها سبعة أبواب، وأعظم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب، فالمجموعة خمسة عشر وذلك بالنسبة للإنس والجنّ ثلاثون والزائد لبيان التأكيد. وروى جابر بن عبد الله قال: «قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال ما لي أراكم سكوتاً للجنّ كانوا أحسن منكم ردّاً ما قرأت عليهم هذه الآية من مرّة {فبأيّ آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد» وقرأ ورش {فبأيّ آلاء} على أصله بالمدّ، والتوسط، والقصر جميع ما في هذه السورة. ولما ذكر تعالى خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال تعالى: {خلق الإنسان} أي: آدم عليه السلام {من صلصال} أي: من طين يابس له صلصلة أي صوت إذا نقر {كالفخار} أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار، وقيل هو طين خلط برمل؛ وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن. تنبيه: قال تعالى: هنا. من {صلصال كالفخار} وقال تعالى في الحجر: {من حما مسنون} وقال تعالى في الصافات: {من طين لازب} (الصافات: 11) وقال تعالى في آل عمران {كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران: 59) وكله متفق المعنى وذلك أنه أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء، فصار طيناً، ثم ترك حتى صار حمأ مسنوناً ثم منتناً ثم صوّره كما يصوّر الإبريق وغيره من الأواني، ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر صوت صوتاً، يعلم منه هل فيه عيب أو لا فالمذكور هنا آخر تخليقه وهو أنسب بالرحمانية وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة أثناؤه فالأرض أمّه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم؛ فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه، فالغالب في جبلته التراب، فلهذا نسب إليه، وإن خلق من العناصر الأربع، كما أنّ الجانّ خلق من العناصر الأربع لكن الغالب في جبلته النار فنسب إليها؛ كما قال تعالى: {وخلق الجانّ} أي: أبا الجنّ، وهو إبليس وقيل: هو أبوهم وليس هو بإبليس؛ وقيل: هو اسم جنس كالإنسان {من مارج من نار} وهو لهبها الخالص من الدخان؛ وقال القشيري: هو اللهب المختلط بسواد النار، فالنار أغلب عناصره. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس: أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر وهو مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض؛ ونحوه عن مجاهد. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج المختلط من النار وأصله من مرج إذا اضطرب واختلط قال القرطبي: يروى أنّ الله تعالى خلق نارين فمرج أحداهما بالأخرى فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم، فخلق منها إبليس. تنبيه: {من مارج من نار} مَنْ الأولى لابتداء الغاية؛ وفي الثانية وجهان: أحدهما: أنها للبيان. والثاني: أنها للتبعيض. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الناشئة عن مبدئكما ومربيكما وسيد كما {تكذبان} أي: مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات. {رب} أي: خالق ومدبر {المشرقين} أي: مشرق الشتاء ومشرق الصيف {ورب المغربين} كذلك. {فبأي آلاء} أي: نعم ربكما أي الذي دبر لكما هذا التدبير العظيم {تكذبان} أي: بما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك. {مرج} أي: أرسل الرحمن {البحرين} أي: العذب والملح فجعلهما مضطربين من طبعهما الاضطراب حال كونهما {يلتقيان} أي: يتماسان على وجه الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق وبحر المغرب. وقيل: بحر اللؤلؤ وبحر المرجان. {بينهما برزخ} أي حاجز عظيم فعلى القول بأنهما بحر السماء وبحر الأرض فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض؛ قاله الضحاك وعلى الأقوال الباقية: قال الحسن وقتادة: هو الأرض. وقال بعضهم هو القدرة الإلهية وهذا أولى. {لا يبغيان} اختلف فيه. فقال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم كما طغيا فأهلكا من على الأرض في أيام نوح عليه السلام، فجعل بينهما وبين الناس اليبس، وقال مجاهد وقتادة أيضاً: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. وقيل البرزخ ما بين الدنيا والآخرة أي: بينهما مدة قدّرها الله تعالى وهي مدّة الدنيا فهما لا يبغيان فإذا أذن الله تعالى في انقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً؛ وهو كقوله تعالى: {وإذا البحار فجرت} (الإنفطار: 3) وقال سهل بن عبد الله: البحران طريق الخير والشرّ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة، وقال الرازي: معنى الآية أنّ الله تعالى أرسل بعض البحرين إلى بعض ومن شأنهما الاختلاط، فحجزهما ببرزخ من قدرته فهما لا يبغيان أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حدّه له خالقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 لا في الظاهر ولا في الباطن فمتى حفرت على جنب الملح في بعض الأماكن وجدت الماء العذب وإن قربت الحفرة منه؛ قال البقاعي: بل كلما قربت كان أحلى فخلطهما سبحانه في رأي العين وحجز بينهما في غيب القدرة هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء؟. {فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} أي الموجد لكما والمربي {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلكم تنجون من عذاب الله تعالى. {يخرج منهما اللؤلؤ} وهو كبار الجوهر {والمرجان} وهو صغار الجوهر، قاله علي وابن عباس والضحاك: وقيل: بالعكس؛ وقيل: المرجان حجر أحمر وقيل: حجر شديد البياض والمرجان أعجمي أي بمخالطة العذب المالح من غير واسطة أو بواسطة السحاب فصار ذلك كالذكر والأنثى، وقال الرازي: فيكون العذب كاللقاح للملح، وقال أبو حيان: قال الجمهور: إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فأسند ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين. قال مكي: كما قال: {على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف: 31) أي: من إحدى القريتين وحذف المضاف كثير شائع؛ وقيل: هو كقوله تعالى: {نسيا حوتهما} (الكهف: 61) وإنما الناسي فتاه، ويعزى لأبي عبيدة؛ قال البغوي: وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل، كقوله تعالى {يا معشر الجنّ والأنس ألم يأتكم رسل منكم} وكانت الرسل من الأنس، وقيل: يخرج من أحدهما اللؤلؤ، ومن الآخر المرجان، وقيل: بل يخرجان منهما جميعاً، وقال ابن عباس: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر والصدف تفتح أفواهها للمطر وقد شاهده الناس فيكون تولده من بحر السماء وبحر الأرض، وهذا قول الطبري. وقال الزمخشري: فإن قلت لم قال منهما، وإنما يخرجان من الملح؟ قلت: لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال: يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر وإنما يخرجان من بعضه؛ وتقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقيل: لايخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب ا. هـ. وقال بعضهم: كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس، فمن الجائز أنه يسوقهما من البحر العذب إلى الملح، واتفق أنهم لم يخرجوهما إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التجار المتردّدين القاطعين المفاوز فكيف بما في قعر البحر. قال ابن عادل: والجواب عن هذا أنّ الله تعالى لا يخاطب الناس ولا يمتن عليهم إلا بما يألفون ويشاهدون. وقرأ نافع وأبو عمرو: يخرج بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، والباقون بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل على المجاز. وقرأ السوسي وشعبة: بإبدال الهمزة الساكنة واواً وصلاً ووقفاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الملك الأعظم المالك لكما {تكذبان} أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها. {وله} أي: لا لغيره {الجواري} أي: السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة فلا تغترّوا بالأسباب الظاهرة فتقفوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها، وقرأ: {والمنشآت} حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 الشين بمعنى أنها تنشئ الموج بجريها أو تنشئ السير إقبالاً وإدباراً، أو التي رفعت شراعها أي قلوعها والشراع القلع وعن مجاهد كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت وإلا فليست منها ونسبة الرفع إليها مجاز كما يقال: أنشأت السحابة المطر وقرأ الباقون بفتح الشين وهو اسم مفعول أي أنشأها الله تعالى أو الناس أو رفعوا شراعها. تنبيه: الجواري جمع جارية وهو اسم أو صفة للسفينة، وخصها بالذكر لأنّ جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك فيقولون لك الفلك ولك الملك؛ وإذا خافوا الغرق دعوا الله وحده، وسميت السفينة جارية لأنّ شأنها ذلك وإن كانت واقفة في الساحل كما سماها في موضع آخر بالجارية كما قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة: 11) وسماها بالفلك قبل أن لم تكن كذلك فقال تعالى لنوح عليه السلام: {واصنع الفلك بأعيننا} (هود: 37) ثم بعدما عملها سماها سفينة فقال تعالى: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} (العنكبوت: 15) قال الرازي: فالفلك أولاً ثم السفينة ثم الجارية ا. هـ. والمرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية لأنّ شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها بخلاف الزوجة فهي من الصفات الغالبة. والسفينة فعليه بمعنى فاعله عند ابن دريد؛ كأنها تسفن الماء وفعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى مسفونة وقوله تعالى: {في البحر} متعلق بالمنشآت وقوله تعالى: {كالأعلام} حال إمّا من الضمير المستكن في المنشآت وإمّا من الجواري وكلاهما بمعنى واحد؛ والأعلام الجبال والعلم الجبل الطويل علماً على الأرض قال القائل: *إذا قطعنا علماً بدا لنا علم* وقال آخر: *ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبى شمالات* وقالت الخنساء في أخيها صخر: *وإن صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار* أي: جبل فالسفن في البحر كالجبال في البرّ؛ وجمع الجواري. ووحد البحر وجمع الأعلام إشارة إلى عظمة البحر. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} العظمى التي عمت خلقه {تكذبان} أبتلك النعم من خلق موادّ السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر وأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره أم غيرها؟. وقوله تعالى: {كل من عليها فان} أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} (ص: 32) ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: {والأرض وضعها} (الرحمن: 10) وقيل: الضمير عائد إلى الجواري. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: {كل شيء هالك إلا وجهه} فأيقنت الملائكة بالهلاك. فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب. {ويبقى} أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له {وجه ربك} أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه. فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وخاطب ههنا الواحد فقال: {ويبقى وجه ربك} ولم يقل وجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: {ذو الجلال} أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به {والإكرام} أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى {تكذبان} أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟. وقوله تعالى: {كل من عليها فان} أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} (ص: 32) ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: {والأرض وضعها} (الرحمن: 10) وقيل: الضمير عائد إلى الجواري. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: {كل شيء هالك إلا وجهه} فأيقنت الملائكة بالهلاك. فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب. {ويبقى} أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له {وجه ربك} أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه. فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وخاطب ههنا الواحد فقال: {ويبقى وجه ربك} ولم يقل وجه ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: {ذو الجلال} أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به {والإكرام} أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى {تكذبان} أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟. وقوله تعالى: {كل من عليها فان} أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} (ص: 32) ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: {والأرض وضعها} (الرحمن: 10) وقيل: الضمير عائد إلى الجواري. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: {كل شيء هالك إلا وجهه} فأيقنت الملائكة بالهلاك. فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب. {ويبقى} أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له {وجه ربك} أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه. فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وخاطب ههنا الواحد فقال: {ويبقى وجه ربك} ولم يقل وجه ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: {ذو الجلال} أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به {والإكرام} أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى {تكذبان} أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟. الكتاب: السراج المنير للخطيب الشربينى وقوله تعالى: {يسأله من في السموات} أي: كلها كلهم {والأرض} كذلك مستأنف وقيل: حال من وجه والعامل فيه يبقى أي: يبقى مسؤولاً من أهل السموات والأرض بلسان الحال أو المقال أو بهما. قال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً. وقال ابن جريج: يسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض كما في الحديث، قال القرطبي: وفي الحديث: «إن من الملائكة ملكاً له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان يسأل الله تعالى الرزق لبني آدم، ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله تعالى الرزق للسباع، ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله تعالى الرزق للبهائم، ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله تعالى الرزق للطير» . وقال ابن عطاء: إنهم يسألوه القوّة على العبادة. وقوله تعالى: {كل يوم} منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر وهو قوله تعالى: {هو في شان} والشأن الأمر روى أبو الدرداء: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كل يوم هو في شان قال من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كربة ويرفع أقواماً ويضع آخرين» . وعن ابن عمر: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يفغر ذنباً ويكشف كرباً ويجيب داعياً» . وقال أكثر المفسرين من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعزّ قوماً ويذل قوماً ويشفي قوماً ويفرج مكروباً ويجيب داعياً ويعطي سائلاً ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء. وروى البغوي: عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: «إنّ مما خلق الله عز وجل لوحاً من درّة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكلماته نور ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء» ، فذلك قوله تعالى: {كل يوم هو في شان} . وقال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله تعالى يومان أحدهما: اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه أي: في كل يوم من أيامها الأمر والنهي والإماتة والإحياء والاعطاء والمنع، والثاني: يوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقال أبو سليمان الداراني: في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد برّ جديد. وقال بعض المفسرين: شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا، وعسكراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئاً. وسأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يتفكر فيها، فقال له غلام أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله تعالى يسهل لك على يدي؛ فأخبره فقال: أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال أيها الملك شأن الله تعالى أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحيّ، ويشفي سقيما، ويسقم صحيحا، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال الأمير: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى. وعن عبد الله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشف لي قوله تعالى: {فأصبح من النادمين} (المائدة: 31) وقد صح أنّ الندم توبة. وقوله تعالى: {كل يوم هو في شان} وصح أنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39) فمعناه ليس له إلا ما يسعى فما بال الأضعاف؟ قال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون في هذه الأمة لأنّ الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إنّ ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله، وأما قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فمعناه أنه ليس له إلا ما يسعى عدلاً ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً، وأما قوله تعالى: {كل يوم هو شان} فإنها شؤون يبديها لاشؤون يبتديها؛ فقام عبد الله: فقبل رأسه وسوغ خراجه. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المدبر لكما هذا التدبر العظيم {تكذبان} أي: أبتلك النعم أم بغيرها؟. {سنفرغ لكم} أي سنقصد لحسابكم وجزائكم؛ وقرأ حمزة والكسائي: بعد السين بالياء التحتية والباقون بالنون {أيه الثقلان} أي: الإنس والجنّ وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل ذلك في غيره قال القرطبي: يقال فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً وتفرّغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلت وليس بالله تعالى شغل يفرغ منه؛ وإنما المعنى سنقصد لمجازاتكم ومحاسبتكم فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك؛ كقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرّغ لك أي أقصدك وأنشد ابن الأنباري لجرير: *الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لهم عذابا* يريد: وقد قصدت، وأنشد الزجاج والنحاس: *فرغت إلى العبد المقيد في الحجل* وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لما بايع الأنصار ليلة العقبة صاح الشيطان: يا أهل الحباحب هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا أزبّ العقبة أما والله يا عدوّ الله لأتفرغنّ لك» أي: أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار الكسائي وغيره. قال ابن الأثير الأزبّ في اللغة الكثير الشعر؛ وهو ههنا شيطان اسمه أزبّ العقبة وهو الحية. وقيل: إنّ الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ثم قال تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} أي ما وعدناكم ونوصل كلاً إلى ما وعدناه أقسم ذلك وأتفرّغ منه قاله الحسن ومقاتل وابن زيد. تنبيه: رسمْ {أيه} بغير ألف فإذا وقف عليها وقف أبو عمرو والكسائي أيها بالألف ووقف الباقون على الرسم أيه وفى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 الوصل قرأ ابن عامر أيه برفع الهاء والباقون بنصبها. فائدة: سمى الإنس والجن بالثقلين لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف؛ وقيل: سموا بذلك لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتا. قال الله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة: 2) ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه؛ وقال بعض أهل المعاني كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قيل لبيض النعام: ثقل؛ لأنّ واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به؛ وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب؛ وقيل: الثقل الإنس لشرفهم وسمي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغلب كالقمرين والعمرين والثقل العظيم الشريف. قال صلى الله عليه وسلم «إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي» . {فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما بهذا الصنيع المحكم {تكذبان} أي: أبتلك النعم من إثابة أهل طاعته وعقوبة أهل معصيته أم بغيرها؟. {يا معشر الجنّ} أي: يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق {والإنس} أي: الخواص والمستأنسين والمأنوسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع {إن استطعتم} أي: وجدت لكم إطاعة الكون في {أن تنفذوا} أي: تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم {من أقطار} أي: نواحي {السموات والأرض} هاربين من الله تعالى من أنواع الجزاء بينكم، أو عصياناً عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره. وقوله تعالى: {فانفذوا} أمر تعجيز والمعنى: إن استطعتم أن تجوزوا نواحي السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا، يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله تعالى أينما تولوا فثم ملك الله عز وجلّ. فإن قيل: ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس ههنا، وتقديم الإنس على الجنّ في قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} (الإسراء: 88) أجيب بأنّ النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجنّ أليق إن أمكن والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن فقدم في كل موضع ما يليق به. فإن قيل: لم جمع في قوله تعالى: {سنفرغ لكم} وفي قوله تعالى: {إن استطعتم} وثنى في قوله {أيه الثقلان} أجيب: بأنهما فريقان في حال الجمع كقوله تعالى: {فإذا هم فريقان يختصمون} (النمل: 45) {وهذان خصمان اختصموا في ربهم} . {لا تنفذون} أي: لا تقدرون على النفوذ {إلا بسلطان} أي: إلا بقوّة وقهر وأنى لكم ذلك؟ وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى. تنبيه: في هذه الآيات والتي في الأحقاف وفي قل أوحى دليل على أنّ الجنّ مكلفون مخاطبون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء مؤمنهم كمؤمنهم وكافرهم ككافرهم. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على ما يريد {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرهما؟. وقال البغوىّ: وفي الخبر يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم} الآية، فذلك قوله تعالى: {يرسل عليكما} أي: أيها المعاندون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: حين يخرجون من القبور لسوقهم إلى المحشر {شواظ من نار} قال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. وقال ابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 رضي الله تعالى عنهما: هو اللهب الخالص الذي لا دخان له. وقال الضحاك هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس كدخان الحطب وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر وقيل: هو اللهب الأحمر. وقال عمرو: هو النار والدخان جميعاً وحكاه الأخفش عن بعض العرب قال حسان: *هجوتك فاختضعت لها بذل ... بقافية تأجج كالشواظ* وقرأ ابن كثير: بكسر الشين والباقون: بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل صوار من البقر وصوار وهو القطيع من البقر. واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {ونحاس} فقيل: هو الصفر المعروف يذيبه الله تعالى ويعذبهم به. وقيل: هو الدخان الذي لا لهب معه قاله الخليل، وهو معروف في كلام العرب؛ وأنشد الأعشى: *تضيء كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا* وقال ابن برحان والعرب تسمى الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها ا. هـ وقال الضحاك: هو دردري الزيت المغلي. وقال الكسائي: التي لها ريح شديد. {فلا تنتصران} أي فلا تمتنعان ولا ينصر بعضكم بعضاً من ذلك بل يسوقكم إلى المحشر. {فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} أي: المدبر لكما هذا التدبير المتقن {تكذبان} أبتلك النعم ـ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء ـ أم بغيرها؟. {فإذا انشقت السماء} أي: انفرجت، فكانت أبواباً لنزول الملائكة {فكانت وردة} أي: محمرّة مثل الوردة {كالدهان} أي: كالأديم الأحمر على خلاف العهد بها لشدّة حرّ نار جهنم. وقال مجاهد والضحاك وغيرهما: الدهان الدهن والمعنى صارت في صفاء الدهن؛ والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي: تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها؛ وقال الحسن: كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً؛ وجواب إذا فما أعظم الهول. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الخالق والرازق لكما {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما يكون بعد ذلك؟. {فيومئذ} أي: فتسبب عن يوم إذ انشقت السماء أنه {لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ} أي: سؤال تعرّف واستعلام، بل سؤال تقريع وتوبيخ وملام، وذلك أنه لا يقال له هل فعلت كذا؟ بل يقال له لم فعلت كذا؟ على أنّ ذلك اليوم طويل وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه، وتارة لا يسأل والأمر في غاية الشدّة وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض وقيل: المعنى ألا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم لأنّ الله تعالى حفظها عليهم وكتبتها الملائكة؛ رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعن الحسن ومجاهد: لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم؛ دليله قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41) . ورواه مجاهد عنه أيضاً: في قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين} (الحجر: 92) وقوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن: 39) قال لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ؛ وقال أبو العالية: لا يسأل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 غير المجرم عن ذنب المجرم؛ وقال قتادة: يسألون قبل الختم على أفواههم ثم يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم. تنبيه: الجانّ هنا وفيما يأتي بمعنى الجني والإنس بمعنى الإنسي. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الذي ربى كلاً منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما أنعم الله تعالى على عبادة المؤمنين في هذا اليوم؟. {يعرف} أي: لكل أحد {المجرمون} أي: العريقون في هذا الوصف {بسيماهم} أي العلامات التي صور الله تعالى ذنوبهم فيها، فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة وظاهرة الدلالة عليهم، كما يعرف الآن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذا النهار ونحوهما لغير الأعمى؛ قال البقاعي: وتلك السيمى والله أعلم زرقه العيون، وسواد الوجوه، والعمى والصمم والمشي على الوجوه، ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم: من بياض الوجوه، وإشراقها، وتبسمها، والغرّة والتحجيل، ونحو ذلك. وسبب عن هذه المعرفة قوله تعالى: مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أيّ آخذ كان {فيؤخذ بالنواصي} أي: منهم وهي مقدمات الرؤوس {والأقدام} بعد أن يجمع بينها فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله تعالى لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار؛ وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره، ثم يلقى في النار؛ وفعل بالكافر ذلك ليكون أشدّ لعذابه؛ وقيل: تسحبه الملائكة إلى النار تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المنعم عليكما الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما وعد أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل؟. {هذه جهنم} أي: يقال لهم إذا ألقوا فيها هذه جهنم {التي يكذب} أي: ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة؛ ولو ردّوا إلى الدنيا بعد إدخالهم إياها لعادوا لما انهوا عنه. {بها المجرمون} أي: المشركون الحقيقون بالإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله تعالى به وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاعة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور. {يطوفون بينها} أي بين درك النار {وبين حميم آن} أي: حارمتناه في الحرارة وهو منقوص كقاض؛ يقال: أنى يأني فهو آن؛ كقضى يقضي فهو قاض؛ والمعنى أنهم يسعون بين الحميم والجحيم، فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآن الذي صار كالمهل؛ وهو قوله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل} (الكهف: 29) وقال كعب الأحبار: وادٍ من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقاً جديداً، فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} . فإن قيل: هذه الأمور ليست نعمة؟ فكيف قال عز وجل: {فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن أيها الثقلان إليكما {تكذبان} أجيب: من وجهين: أحدهما: أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي وترغيب في الطاعات، وهذا من أعظم النعم؛ روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى على شاب يقرأ في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 الليل {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} (الرحمن: 37) فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ويحك يا فتى منها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء من بكائك» . الثاني: أنّ المعنى إن كذبتم بالنعمة المتقدّمة استحقيتم هذه العقوبات وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم. ولما عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم وقدمه لما اقتضاه مقام التكذيب من الترهيب، وجعله سابعاً إشارة إلى أبواب النار السبع، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة، وجعله ثامناً على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال تعالى: {ولمن خاف} أي: من الثقلين ووحد الضمير مراعاة للفظ من إشارة إلى قلة الخائفين {مقام ربه} أي: قيامه بين يدي ربه للحساب بترك المعصية والشهوة؛ قال القرطبي: ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله تعالى وهو كالأجل في قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم} (الأعراف: 34) وقوله تعالى في موضع آخر: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} (نزح: 4) . وقال مجاهد: هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافته عز وجل. {جنتان} أي: لكل خائف جنتان على حدة. قال مقاتل: جنة عدن وجنة النعيم وقال محمد بن علي الترمذي: جنة بخوف ربه وجنة بترك شهوته؛ وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض؛ وقيل: جنتان لجميع الخائفين؛ وقيل: جنة لخائف الإنس وأخرى لخائف الجنّ فيكون من باب التوزيع؛ وقيل: مقام هنا مقحم كما تقول أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك، وأنشد: * ................ ونفيت عنه ... مقام الذئب؛ كالرجل اللعين* يريد ونفيت عنه الذئب؛ قال ابن عادل: وليس بجيد لأنّ زيادة الاسم ليست بالسهلة؛ وقيل: إنّ الجنتين جنته التي خلقت له وجنة، ورثها؛ وقيل: إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعل رؤساء الدنيا؛ وقيل: إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه؛ وقيل: إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها؛ وقال الفراء: إنها جنة واحدة وإنما ثنى مراعاة لرؤوس الآي؛ وأنكر القتيبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون وإنما قال: تسعة عشر مراعاة لرؤوس الآي؛ وقيل: جنة واحدة وإنما ثنى تأكيداً كقوله تعالى: {ألقيا في جهنم} (ق: 24) وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن يبلغه الله تعالى إليه إلا أن يبلغه الله تعالى الجنة» أخرجه الترمذي. قوله أدلج الإدلاج مخففاً سير أول الليل، ومثقلاً سير آخر الليل؛ والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أوّل الأمر فإن من سار في أوّل الليل كان جديراً ببلوغ المنزل. روى البغوي بسنده عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء» . فائدة: قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أنّ من قال لزوجته إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق إنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله تعالى وحياء منه؛ وقاله سفيان الثوري وأفتى به. هذا ومذهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلماً ومات على الإسلام. وقال عطاء: نزلت هذه الآية في أبي بكر حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين أبرزت؛ وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه فسأل عنه، فأخبر عنه أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال: رحمك الله لقد أنزلت فيك آية وتلا عليه الآية. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المربي لكما بإحسانه الكبار التي لا يقدر أحد على شيء منها {تكذبان} أبتلك النعمة أم بغيرها من نعمة التي لا تحصى؟. ثم وصف الجنتين بقوله تعالى: {ذواتا} أي: صاحبتا أو خبر لمبتدأ محذوف أي: هما ذواتا، وفي تثنية ذات لغتان الردّ إلى الأصل، فإنّ أصلها ذوية فالعين واو واللام ياء لأنها مؤنثة ذوو الثانية التثنية على اللفظ فيقال ذاتا. وقوله تعالى {أفنان} فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع فنن كطلل وهو الغصن المستقيم طولاً تكون به الزينة بالورق والثمر وكمال الانتفاع، قال النابغة الذبياني: *بكاء حمامة تدعو هديلا ... مفجعة على فنن تغني وفي الحديث: «أهل الجنة مرد مكحولون الوفانين» يريد الأفانين وهو جمع أفنان وأفنان جمع فنن من الشعر شبه بالغصن ذكره الهروي. وقال قتادة: ذواتا أفنان أي: ذواتا سعة وفضل على سواهما. والوجه الثاني: أنه جمع فن وإليه أشار ابن عباس. والمعنى ذواتا أنواع وأشكال وقال الضحاك: ألوان من الفاكهة واحدها فنّ إلا أنّ الكثير في فنّ أن يجمع على فنون: وقال عطاء كل غصن فنون من الفاكهة، ولذا سبب عنه قوله تعالى: {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما والمدبر لكما {تكذبان} أبتلك النعم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به، أم بغيرها؟. ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بأنهار قال تعالى: {فيهما عينان تجريان} أي: في كل واحدة منهما عين جارية قال ابن عباس تجريان: ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن: تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل؛ وقال عطية: أحدهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين؛ وقيل: تجريان من جبل من مسك قال أبو بكر الوراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخالفة الله عز وجل فتجريان في أي مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كلّ غصن منها وإن زاد علوها. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المالك لكما والمحسن إليكما {تكذبان} أبتلك النعم التي ذكرها وجعل لها في الدنيا أمثالاً كثيرة أم بغيرها؟. {فيهما} أي: الجنتين {من كل فاكهة} أي: تعلمونها أو لا تعلمونها {زوجان} أي: صنفان ونوعان قيل: معناه أنّ فيهما من كلّ ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً؛ وقال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرّة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. فإن قيل: قوله تعالى: {ذواتا أفنان} و {فيهما عينان تجريان} و {فيهما من كل فاكهة زوجان} كلها أوصاف للجنتين فما الحكمة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} مع أنه تعالى لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات؛ بل قال تعالى: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} مع أنّ إرسال الشواظ غير إرسال النحاس؟ أجيب: بأنه تعالى جمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 العذاب جملة، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب، وتطييباً للقلب وتهييجاً للسامع فإن إعادة ذكر المحبوب وتطويل الكلام في اللذات مستحسن. فإن قيل: فما وجه توسط آية العينين بين ذكر الأفنان وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأعصان، والمناسبة ألا يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟ أجيب: بأنّ ذلك على عادة المتنعمين إذا خرجوا متفرجين في البستان؛ فأوّل قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ثم يكون الأكل تبعاً. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} التي ادخرها الموجد لكما المحسن إليكما {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما فوضه إليكم من سائر النعم التي لا تحصى. ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره؛ قال تعالى مخبراً عن هؤلاء الذين يخافون مقام ربهم {متكئين} أي: لهم ما ذكر حال الاتكاء، والعامل في الحال محذوف أي يتنعمون متكئين {على فرش} وعظمها بقول تعالى مخاطباً للمكلفين بما يحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا {بطائنها من استبرق} وهو ما غلظ من الديباج؛ قال ابن مسعود: وأبو هريرة: إذا كانت البطائن التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة؟. وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق فما الظاهر؟ قال: هذا مما قال الله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين} (السجدة: 17) وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأمّا الظواهر فلا يعلمها إلا الله تعالى؛ ونظير ذلك في الجنة قوله تعالى: {عرضها السموات والأرض} (آل عمران: 133) وأمّا الطول فلا يعلمه إلا الله عز وجلّ، لكن قال القرطبي: وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ظواهرها نور يتلألأ» . وقيل: الظهائر من السندس. وعن الحس البطائن: هي الظواهر وهو قول الفراء. وروي عن قتادة: والعرب تقول للبطن ظهر فيقولون: هذا بطن السماء وظهر الأرض. وقال الفراء: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأنّ كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كلّ واحد منهما قوم كالحائط بينك وبين قوم وعلى أديم السماء؛ وقال ابن عباس: وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ماء الظواهر. تنبيه: قال الرازي: الاستبرق معرب وهو الديباج الثخين؛ أي: وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربياً لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها، وذلك كله سهل عليهم وبه يحصل الإعجاز بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب المتنعم البدن بخلاف المريض والمهموم. {وجنى الجنتين} أي: ثمرها {دان} أي: قريب؛ قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجنيها وليّ الله تعالى إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً وإن شاء مضطجعاً، وقال قتادة: لا يردّ يده بُعْد ولا شوك. قال الرازي: جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ الثمرة على رؤوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتكىء وفي الجنة هو متكىء والثمرة تتدلى إليه؛ وثانيها: أنّ الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها وفي الآخرة هي تدنو إليهم وتدور عليهم؛ وثالثها أنّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها وثمار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 الجنة كلها تدنوا إليهم في وقت واحد ومكان واحد. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربي لكما الذي يقدر على كلّ ما يريده {تكذبان} أمن قدرته على عطف الأغصان وتقريب الثمار أم من غيرها؟. ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان قال تعالى: {فيهنّ} أي الجنان التي علم مما مضى أنّ لكلّ فرد من الخائفين منها جنتين، فصح الجمع؛ وقال الزمخشري فيهنّ في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى، أو في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس ا. هـ. قال أبو حيان: وفيه أي: الأوّل بعد لأن الاستعمال أن يقال على الفراش كذا، ولا يقال في الفراش كذا إلا بتكلف ولذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول ذلك؛ وقيل يعود على الجنتين لأن أقل الجمع اثنان وقال الفراء كل موضع في الجنة جنة فلذلك صح أن يقال فيهنّ {قاصرات الطرف} أي: الأعين على أزواجهنّ المتكئين من الأنس والجنّ. قال الرازي وقوله قاصرات الطرف أي نساء وأزواج فحذف الموصوف لنكتة وهي أنه تعالى لم يذكرهنّ باسم الجنس وهو النساء بل بالصفات، فقال تعالى: {حور عين} (الواقعة: 22) {كواعب أترابا} (النبأ: 33) {قاصرات الطرف} {حور مقصورات} (الرحمن: 72) ولم يقل: نساء عربا ولا نساء قاصرات لوجهين: أما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكرن بأوصافهنّ؛ وإما لأنهنّ لما كملن كأنهنّ خرجن عن جنسهنّ. وقوله تعالى: {قاصرات الطرف} يدلّ على عفتهنّ وعلى حسن المؤمنين في أعينهنّ فيحببن أزواجهنّ حباً شديد يشغلهنّ عن النظر إلى غيرهم. قال ابن زيد: تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد الله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك، ويدلّ أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن والحيية لا تحرّك جفنها ولا ترفع رأسها. تنبيه: انظر إلى حسن هذا الترتيب فإنه تعالى بين أولاً: المسكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزه به وهو البستان والأعين الجارية، ثم ذكر المأكول فقال تعالى: {فيهما من كل فاكهة} ثم ذكر موضع الراحة بعد الأكل وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه. ولما كان الاختصاص بالشيء من أعظم الملذذات لا سيما المرأة قال تعالى {لم يطمثهنّ} أي: لم يجامعهنّ ويتسلط عليهنّ؛ يقال طمثت المرأة كضرب وفرح حاضت، وطمثها الرجل افتضها، وأيضاً جامعها {إنس قبلهم} أي: المتكئين {ولا جان} فكأنه قال: هنّ أبكار لم يخالطهنّ أحد فإنّ هذا جمع كلّ من يمكن منه جماع، وفي ذلك دليل على أنّ الجني يغشى كما يغشى الإنسي ويدخل الجنة ويكون لهم فيها جنتان، قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور فالإنسيات للإنس والجنيات للجنّ، وقال مقاتل لأنهنّ خلقن في الجنة فعلى قوله يكونون من حور الجنة؛ وقال الشعبي: من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن خلق وهو قول الكلبي. أي: لم يجامعهنّ في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان؛ وأمّا في الدنيا فقال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسمّ ينطوي الجني على إحليله فيجامع معه. وقال القرطبي: لم يطمثهن لم يصبهنّ بالجماع قبل أزواجهنّ أحد، وهذا شامل لنساء الجنة ولنساء الدنيا بعد إنشائهنّ خلقاً جديداً، وقرأ الكسائي: يطمثهنّ بضم الميم في الموضعين بخلاف عنه وتخييراً في أحدهما، وهما لغتان: يقال طمثها يطمثها ويطمثها إذا جامعها. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المدبر مصالحكما {تكذبان} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 أي: بأي نوع من أنواع هذا الإحسان أم غيره. {كأنهنّ الياقوت} أي: صفاء {والمرجان} أي: اللؤلؤ بياضاً، والياقوت جوهر نفيس يقال إنّ النار لا تؤثر فيه، والمرجان صغار اللؤلؤ وأشدّه بياضاً؛ وقيل: شبه لونهنّ ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأنّ أحسن الألوان البياض المشرب بحمرة. قال ابن الخازن: والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استضأته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه. قال عمرو بن ميمون: إنّ المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء: يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها» ، وذلك لأنّ الله تعالى يقول: {كأنهنّ الياقوت والمرجان} ، فأمّا الياقوت: فإنه حجر لو أدخلت فيها سلكاً ثم استضأته لرأيته من ورائه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر» ؛ زاد في رواية «ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوّطون؛ آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوّة» أي: بخورهم العود ورشحهم المسك ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب رجل واحد» . {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المالك الملك المربي ببدائع التربية {تكذبان} أبما جعله مثالاً لما ذكر من وصفهنّ أم بغيره؟. {هل جزاء الإحسان} أي: بالطاعة من الإنس والجن وغيرهما {إلا الإحسان} أي: بالثواب؛ وقال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؛ وعن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ثم قال: «أتدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» . ورى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في هذه الآية يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الكريم الرحيم الجامع لأوصاف الكمال {تكذبان} أبشيء من هذه النعم الجزيلة أم بغيرها؟. {ومن دونهما} أي: من أدنى مكان ورتبة تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين {جنتان} أي: لكل واحد ممن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين، وهم أصحاب اليمين؛ وقال أبو موسى الأشعري: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين؛ وقال ابن جريج هي أربع جنان جنتان للمقرّبين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان؛ وجنتان: لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان. وقال الكسائي ومن دونهما أي أمامهما وقبلهما يدلّ عليه قول الضحاك: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والأخريان من ياقوت؛ وعلى هذا فهما أفضل من الأوليين؛ وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقال: ومعنى {ومن دونهما جنتان} أي: دون هذا إلى العرش أي: أقرب وأدنى إلى العرش. وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن، وجنة النعيم، والأخريان الفردوس، وجنة المأوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن بنعمه لجميع خلقه {تكذبان} أبشيء مما تفضل به عليكم أم بغيره؟. ثم وصف تلك الجنتين بقوله تعالى: {مدهامّتان} قال ابن عباس رضي الله عنهما: خضراوان. وقال مجاهد: سوداوان لأنّ الخضرة إذا اشتدت تضرب إلى السواد، وهذا مشاهد بالنظر ولذلك قالوا: سواد العراق لكثرة شجره وزرعه، والأرض إذا اخضرّت غاية الخضرة تضرب إلى سواد؛ قال الرازي: والتحقيق فيه أنّ ابتداء الألوان هو البياض وانتهاءها هو السواد فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما بالرزق وغيره {تكذبان} أبشيء من تلك النعم أم بغيرها. ثم وصف تلك الجنتين أيضاً بقوله تعالى: {فيهما} أي: في جنتي كل شخص منهم {عينان نضاختان} قال ابن عباس: أي: فوّارتان بالماء، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة لأنّ النضح بالمهملة الرشح والرش، وبالمعجمة فورانُ الماء وقال مجاهد: المعنى نضاختان بالخير والبركة، وعن ابن مسعود: تنضخ على أولياء الله تعالى بالمسك والكافور والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر، وقال سعيد بن جبير بأنواع الفواكه والماء. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المربي البليغ الحكمة في التربية {تكذبان} أبتلك النعمة أم بغيرها؟. ثم وصف الجنتين أيضاً بقوله تعالى: {فيهما فاكهة} وخص أشرفها وأكثرها وجداناً في الخريف والشتاء، كما في جنان الدنيا التي جعلت مثالاً لهاتين بقوله تعالى: {ونخل ورمان} فإن كلاً منهما فاكهة وأدام، فلهذا خصا تشريفاً وتنبيهاً على ما فيهما من التفكه، وأولهما أعمّ نفعاً، وأعجب خلقاً، ولذا قدمه فعطفهما على الفاكهة من باب ذكر الخاص بعد العامّ تفضيلاً له؛ كقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) وقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة: 238) وقال بعض العلماء: ليس ذلك من الفاكهة. ولهذا قال أبو حنيفة: إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث، وخالفه صاحباه. وقال القرطبي: وقيل: إنما كررها لأنّ النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومها وكثرتها عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن فأخرجهما من الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه قال البغوي: وعن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعهما زمرّد أخضر وورقها ذهب أحمر، وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال، والدلاء أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس له عجم. وروي أنّ الرمانة من رمان الجنة ملء جلد البعير المقتب؛ وقيل: إنّ نخل الجنة نضيد، وثمرها كالقلال كلما نزعت عادت مكانها أخرى؛ العنقود منها اثنا عشر ذراعاً. {فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} المحسن إلى الثقلين بجليل التربية {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما أحسن به إليكم؟. {فيهنّ} أي: الجنان الأربع، أو الجنتين وقصورهما {خيرات حسان} أي: نساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير، وقيل: خيرات بمعنى خيرات فخفف كهين ولين. روى الحسن عن أمّه عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 أم سلمة: قالت: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى: {خيرات حسان} ؛ قال: خيرات الأخلاق حسان الوجوه» . وقال أبو صالح: لأنهنّ عذارى أبكار؛ قال الحكيم الترمذي: فالخيرة ما اختارهنّ الله تعالى فأبدع خلقهنّ باختياره، فاختيار الله تعالى لا يشبهه اختيار الآدميين، فوصفهنّ بالحسن فإذا وصف الله تبارك وتعالى خالق الحسن شيئاً بالحسن فانظر ما هناك وقال الرازي: في باطنهنّ الخير وفي ظاهرهنّ الحسن. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الكامل الإحسان إليكما {تكذبان} أبنعمة ما جعل لكم من الفواكه أم غيرها؟. ثم زاد في وصفهنّ بقوله تعالى: {حور} جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين الشديدة بياضها {مقصورات} والمقصورات المحبوسات المستورات {في الخيام} وهي الحجال، فلسن بالطوّافات في الطرق؛ قاله ابن عباس، والنساء تمدح بملازمتهنّ البيوت كما قال قيس بن الأسلت: *وتكسل عن جيرانها فيزرنها ... وتعتل من إتيانهنّ فتعذر* ويقال امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة بمعنى واحد، قال كثير عزة: *وأنت التي حببت كلّ قصيرة ... إليّ ولم يعلم بذاك القصائر* *عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر* والخيام: جمع خيمة، وهي: أربعة أعواد تنصب وتسقف بشيء من نبات الأرض، وجمعها خيم، كتمرة وتمر، وتجمع الخيم على خيام فهو جمع الجمع؛ وأمّا ما يتخذ من شعر أو وبر أو نحوه فيقال له: خباء، وقد يطلق عليه خيمة تجوّزاً. وقال عمر: الخيمة درة مجوّفة. وقاله ابن عباس قال: وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وفي الحديث: «أنّ في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها: ستون ميلاً؛ في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» . وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي: قال: بلغنا أن سحابة أمطرت من العرش فخلقن أي: الحور العين من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله تعالى بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم وليّ الله أنّ أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها الله عن أبصار المخلوقين. وقال مجاهد: معناه قصرن أطرافهنّ وأنفسهنّ على أزواجهنّ فلا يبغين بدلاً. وقال صلى الله عليه وسلم «لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» . فائدة: اختلفوا أيما أكثر حسناً وأتم جمالاً، الحور أم الآدميات؛ فقيل: الحور لما ذكر في وصفهنّ في القرآن والسنة، ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنازة: «وأبدله زوجاً خيراً من زوجه» . وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف روي ذلك مرفوعاً. وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين، يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري، قال ابن عادل: والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، إنما هنّ مخلوقات في الجنة لأنّ الله تعالى قال: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ} وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات ا. هـ. لكن مرّ أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 لم يطمثهن بعد إنشائهن خلقاً آخر وعلى هذا لا دليل في ذلك. {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الذي صوركم فأحسن صوركم {تكذبان} أبهذه النعم أم بغيرها؟. {لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ} كحور الجنتين الأوليين وضميرهم في قبلهم لأصحاب الجنتين. {فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} الذي جعل لكم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {تكذبان} أبهذه النعم أم بغيرها. {متكئين} أي لهم ما ذكر حالة الاتكاء والعامل في الحال محذوف، أي: ينعمون متكئين {على رفرف} أي: ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة، ورياض باهرة، وبسط لها أطراف فاضلة، وهو جمع رفرفة، لأن الله تعالى وصفه بالجمع بقوله: {خضر} ووصفه بذلك لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأبهجها، وقال الجوهري: هو ثياب خضر تتخذ منها المحابس الواحدة رفرفة واشتقاقه من رف الطائر أي: ارتفع في الهواء ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطيران؛ وقيل: الرفرف طرف الفسطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد؛ وفي الخبر في وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم «فرفع الرفرف، فرأينا وجهه كأنه ورقة» ، أي: رفع طرف الفسطاط وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول: الرفرف أعظم خطراً من الفرش فذكر في الأولين {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} وقال هنا: {متكئين على رفرف خضر} فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به أي طار به حيثما يريد كالمرجاح. وروي في حديث المعراج أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى، جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سند العرش فذكر أنه قال طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربي. أي: في محل تنزلات رحمة ربي ثم لما جاء الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعاً يهوي به، حتى أداه إلى جبريل عليه السلام؛ فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور من الدنوّ والقرب؛ كما أنّ البراق دابة تركبها الأنبياء عليهم السلام مخصوصة بذلك، وهذا الرفرف الذي سخر لأهل الجنتين الدائبتين هو متكؤهما وفرشهما يرفرف بالوليّ على حافات تلك الأنهار حيث يشاء إلى خيام أزواجه. وقوله تعالى: {وعبقريّ} منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجنّ فينسبون إليه كل شيء عجب؛ قال في القاموس: عبقر موضع كثير الجنّ وقرية ثيابها في غاية الحسن، والعبقري الكامل من كل شيء؛ وقال الخليل: هو كلّ جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم؛ وقال قطرب ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي ا. هـ. والمراد به: الجنس، ولذلك قال تعالى: {حسان} حملاً على المعنى أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف. {فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه {تكذبان} أبشيء من هذه النعم أم بغيرها. ولما دلّ ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال وختم نعم الدنيا بقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وفيه إشارة إلى أنّ الباقي هو الله تعالى وأنّ الدنيا فانية ختم نعيم الآخرة بقوله عز من قائل: {تبارك} قال ابن برّجان: تفاعل من البركة ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب ا. هـ. ومعناه ثبت ثباتاً لا تسع العقول وصفه. ولما كان تعظيم الاسم أبلغ في تعظيم المسمى قال تعالى: {اسم ربك} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 أي: المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهراً له وصار خلقاً لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف؛ وقيل: لفظ اسم زائد وجرى عليه الجلال المحلي والأوّل أولى. {ذي الجلال} أي: العظمة الباهرة {والإكرام} قال القرطبي: كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: {الرحمن} فافتتح بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجنّ، وخلق السموات والأرض وصنعه؛ وأنه تعالى كل يوم هو في شان، ووصف تدبيره فيهم؛ ثم وصف يوم القيامة، وأهوالها، وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان. ثم قال في آخر الصفة {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} أي: هذا لاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أنّ هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض والخليقة والجنة والنار فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه فقال تعالى: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} أي: جليل في ذاته كريم في أفعاله وقرأ ابن عامر: بالواو رفعاً صفة للاسم والباقون بالياء خفضاً صفة لرب، فإنه هو الموصوف بذلك. روى الثعلبي عن علي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره» . وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري: من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه» حديث موضوع. سورة الواقعة مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء؛ وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات؛ منها آيتان {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} نزلتا في سفره إلى مكة؛ وقوله تعالى: {ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين} نزلتا في سفره إلى المدينة، وقدّمنا أنّ في المدني والمكي اصطلاحين، وأنّ المشهور أنّ المكي ما نزل قبل الهجرة؛ والمدني ما نزل بعدها وهي ست وتسعون آية؛ قال الجلال المحلي: وهي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية وثلاثمئة وثمان وتسعون كلمة، وألف وسبع مئة وثلاثة أحرف. {بسم الله} الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال {الرحمن} الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال {الرحيم} الذي قرب أهل حزبه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال. ولما قسم سبحانه الناس في تلك السورة إلى ثلاثة أصناف مجرمين وسابقين ولاحقين، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بقوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة} أي: التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق، فسميت واقعة لتحقق وقوعها، وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت، وقال الجرجاني: إذا صلة كقوله تعالى: {اقتربت الساعة} (القمر: 1) و {أتى أمر الله} (النحل: 1) وهو كما يقال: جاء الصوم أي دنا وقرب وقوله تعالى: {ليس لوقعتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 كاذبة} مصدر بمعنى الكذب والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} (الغاشية: 11) أي: لغو والمعنى: ليس لها كذب قاله الكسائي، أو صفة والموصوف محذوف أي: ليس لوقعتها حال كاذبة، أي: كل من يخبر عن وقعتها صادق، أو نفس كاذبة بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا وقال الزجاج: ليس لوقعتها كاذبة أي: لا يردها شيء، وقيل: إنّ قيامها جد لا هزل وقوله تعالى: {خافضة رافعة} تقرير لعظمتها وهو خبر لمبتدأ محذوف أي: هي، قال عكرمة ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني: أسمعت القريب والبعيد. وعن السدى خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين. وقال قتادة: خفضت أقواماً في عذاب الله تعالى ورفعت أقواماً إلى طاعة الله تعالى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى في النار ورفعت أولياء الله تعالى في الجنة. وقال ابن عطاء: خفضت قوماً بالعدل ورفعت آخرين بالفضل. ولا مانع أنّ كل ذلك موجود فيها والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة؛ ونسب سبحانه وتعالى الخفض والرفع إلى القيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لا يمكن منه الفعل، يقولون: ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل: {بل مكر الليل والنهار} (سبأ: 33) والخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى، واللام في قوله تعالى: {لوقعتها} إمّا للتعليل أي: لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدّة وقعتها، وإمّا للتعدية كقولك ليس لزيد ضارب، فيكون التقدير إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها أمر يوجد لها كاذب إذا أخبر عنه. قال الرازي: وعلى هذا لا تكون ليس عاملة في إذا وهي بمعنى ليس لها كاذب {إذا رجت الأرض} أي: كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر {رجاً} أي: حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، قال بعض المفسرين: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها، والرجرجة: الاضطراب، وارتج البحر وغيره واضطرب وفي الحديث: «من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له» . يعني إذا اضطربت أمواجه والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت. ولما ذكر حركتها المزعجة أتبعها غايتها بقوله تعالى: {وبست الجبال بساً} أي: فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه؛ قال ابن عباس ومجاهد: كما يبس الدقيق أي: يلت، والبسيسة السويق، أو الدقيق يلت بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زاداً قال الراجز: *لا تخبزا خبزاً وبسابسا ... ولا تطيلا بمناخ حبساً* أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الأبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها، وقلت: بس بس قاله أبو زيد؛ وقال الحسن: بست قلعت من أصلها فذهبت، ونظيرها ينسفها ربي نسفاً؛ وقال عطية: بسطت بالرمل والتراب {فكانت} أي: بسبب ذلك {هباء} أي: غباراً هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى: {منبثاً} أي: منتشر متفرّقاً بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة؛ وعن ابن عباس: هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً {وكنتم} أي: قسمتم بما كان في جبلاتكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وطبائعكم في الدنيا {أزواجاً} أي: أصنافا {ثلاثة} كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة؛ قال البيضاوي: وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج. ثم بين من هم بقوله تعالى: {فأصحاب الميمنة} وهم الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم مبتدأ، وقوله تعالى: {ما} استفهام فيه تعظيم مبتدأ ثان، وقوله تعالى: {أصحاب الميمنة} خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأوّل، وتكرير المبتدأ بلفظه مغن عن الضمير، ومثله {الحاقة ما الحاقة} (الحاقة: 1 ـ 2) {القارعة ما القارعة} (القارعة: 1 ـ 2) ولا يكون ذلك إلا في مواضع التعظيم. ولما ذكر الناجين بقسميهم أتبعهم أضدادهم بقوله تعالى: {وأصحاب المشأمة} أي: الشمال وهم الذي يؤتون كتبهم بشمائلهم وقوله تعالى: {ما أصحاب المشأمة} تحقير لشأنه بدخولهم النار، وقال السدي: {أصحاب الميمنة} هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، {وأصحاب المشأمة} هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والمشأمة الميسرة وكذا الشامة والعرب تقول لليد الشمال: الشؤمي، قال البغوي: ومنه سمى الشأم واليمن، لأنّ اليمن عن يمين الكعبة، والشام عن شمالها؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: {أصحاب الميمنة} هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرّية من صلبه، فقال الله تعالى لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي؛ وقال زيد بن أسلم: هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن؛ وقال ابن جريج: {أصحاب الميمنة} هم أصحاب الحسنات {وأصحاب المشأمة} هم {أصحاب السيئات} .d وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال: فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال: فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والابن الصالح، قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: آدم عليه السلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار» . وذكر الحديث وقال المبرّد: أصحاب الميمنة: أصحاب التقدّم وأصحاب المشأمة: أصحاب التأخر والعرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي: اجعلني من المتقدّمين، ولا تجعلني من المتأخرين. تنبيه: الفاء في قوله تعالى: {فأصحاب} تدل على التقسيم وبيان ما ورد عليه التقسيم، كأنه قال: أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون، ثم بين حال كل قسم فقال: فأما أصحاب الميمنة وترك التقسيم أولاً واكتفى بما يدل عليه بأنّ ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها، فإن قيل: ما الحكمة في اختيار لفظ المشأمة في مقابلة الميمنة مع أنه قال في بيان أحوالهم: وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟ أجيب: بأنّ اليمين وضع للجانب المعروف، واستعملوا منه ألفاظاً في مواضع، فقالوا: هذا ميمون تيمناً به، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به فذكر المشأمة في مقابلة الميمنة، وذكر الشمال في مقابلة اليمين، فاستعمل كل لفظ مع مقابلة. ولما ذكر تعالى القسمين وكان كل منهما قسمين ذكر أعلى أهل القسم الأوّل ترغيباً في حسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيباً في سوء حالهم فقال تعالى: {والسابقون} أي: إلى أعمال الطاعة مبتدأ وقوله تعالى: {السابقون} تأكيد عن المهدوي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «السابقون الذين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئِلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» . وقال محمد بن كعب القرظي: هم الأنبياء عليهم السلام، وقال الحسن وقتادة: السابقون إلى الإيمان من كل أمّة؛ وقال محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين قال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} (التوبة: 100) وقال مجاهد والضحاك: هم السابقون إلى الجهاد وأوّل الناس رواحاً إلى الصلاة؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس؛ وقال سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البرّ، قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (آل عمران: 133) {ثم أثنى عليهم فقال تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 61) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم أربعة: منهم سابق أمّة موسى عليه السلام وهو حز قيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمّة عيسى عليه السلام وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال سميط بن عجلان: الناس ثلاثة: رجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وروي عن كعب قال: هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة، وقيل: هم أوّل الناس رواحاً إلى المسجد وأولهم خروجاً في سبيل الله. وخبر المبتدأ {أولئك} أي: العالو الرتبة جداً {المقرّبون} أي: الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم واصطفاهم الله تعالى للسبق، فأرادهم لقربه ولولا فضله في تقريبهم لم يكونوا سابقين؛ قال الرازي في اللوامع: المقرّبون تخلصوا من نفوسهم وأعمالهم كلها الله تعالى ديناً ودنيا من حق الله تعالى، وحق الناس وكلاهما عندهم حق الله تعالى، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والإنقياد، وهم صنفان: صنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبته فالحق يستعملهم في وصف آخر قد أرخى من عنانه والأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز بقلبه هذه الخطة، ومحله أعلى فهو أمين الله تعالى في أرضه فيكون عليه أوسع ا. هـ. ثم بين تقريبه لهم بقوله تعالى: {في جنات النعيم} أي: الذي لا كدر فيه بوجه ولا منغص ولما ذكر السابقين فصلهم بقوله تعالى: {ثلة} أي: جماعة وقيدها الزمخشري بالكثيرة وأنشد: *وجاءت إليهم ثلة خندفية ... تجيش كتيار من السيل مزبد* قال ابن عادل: ولم يقيدها غيره بل صرّح بأنها الجماعة؛ قلت: أو كثرت ثم قال: والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق ا. هـ. لكن قال البغوي: والثلة جماعة غير محصورة العدد {من الأولين} أي: من الأمم السابقة من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم من النبيين عليهم السلام ومن آمن بهم {وقليل من الآخرين} وهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كان الأنبياء عليهم السلام مئة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهو مؤمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين ست مئة ألف، فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من البالغين الصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم السلام المجدّدين من بني إسرائيل وغيرهم. قال البيضاوي: ولا يخالف ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 قوله عليه الصلاة والسلام: «أمتي يكثرون سائر الأمم» . لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم. قيل: لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين} فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني» . رواه أبو هريرة رضي الله عنه. ذكره الماوردي وغيره ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود وكأنه أراد أنها منسوخة؛ قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأنّ عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة والمراد بالأولين الأنبياء وكبار أصحابهم وهم إذا اجتمعوا كانوا أكثر من السابقين من هذه الأمّة ولأنّ هذا خبر والخبر لا ينسخ، وقال الحسن: سابقوا من مضى أكثر من سابقينا فلذا قال تعالى: {وقليل من الآخرين} وقال في أصحاب اليمين: وهم سوى السابقين {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} ولذا قال صلى الله عليه وسلم «إنى لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ثم تلا {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} » . وروى الطبراني: أنّ الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة فتكون الصحابة كلهم من هذه الثلة، وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى؛ ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال التي بدأ عليها من الغربة، «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء أي وهم الذين إذا فسد الناس صلحوا، كما فسر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال أبو بكر: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} (فاطر: 32) وقيل: المراد بالأولين {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وبالآخرين {ذرياتهم} الملحقون بهم في قوله تعالى: {وأتبعتهم ذريتهم بإيمان} (الطور: 21) ألحقنا بهم ذرياتهم، واشتقاق الثلة وهي مبتدأ من الثل وهو القطع والخبر {على سرر} جمع سرير وهو ما يجعل الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة {موضونة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: منسوجة بالذهب، وقال عكرمة: مشبكة بالدرّ والياقوت؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: موضونة، أي: مصفوفة لقوله تعالى في موضع آخر: {على سرر مصفوفة} وقيل: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدرّ والياقوت، والموضونة المنسوجة، وأصله: من وضنت الشيء أي: ركبت بعضه على بعض، ومنه قيل للدرع موضونة لتركب حلقها قال الأعشى: *ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحيّ عيراً فعيراً* ومنه أيضاً وضين الناقة وهو حزامها لتراكب طاقاته، قال عمر رضي الله عنه: وهو مار بواد محسر. *إليك تعد وقلقاً وضينها ... معترضاً في بطنها جنينها* *مخالفاً دين النصارى دينها رواه البيهقي. ومناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقاً، وضينها وهو حبل كالجزام من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك؛ والمراد: صاحب الناقة فيسنّ للمار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 بوادي محسر أن يقول هذا الكلام الذي قاله عمر رضى الله تعالى عنه. ولما ذكر تعالى السرر وبين عظمتها ذكر غايتها فقال سبحانه: {متكئين عليها} أي: السرر على الجنب أو غيره كحال من يكون على كرسي فيوضع تحته شيء آخر للإتكاء عليه {متقابلين} فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقال مجاهد وغيره: هذا في المؤمن وزوجته وأهله أي: يتكؤون متقابلين، قال الكلبي طول كل سرير ثلث مئة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت وقيل: إنهم صاروا أرواحاً نورانية صافية ليس لهم أدبار ولا ظهور. تنبيه: {متكئين عليها متقابلين} حالان من الضمير في على سرر، ويجوز أن تكون حالاً متداخلة فيكون متقابلين حالاً من ضمير متكئين، ثم بين تعالى أنهم في غاية الراحة بقوله تعالى: {يطوف عليهم} أي: لكفاية كل ما يحتاجون إليه {ولدان} أي: على أحسن صورة وزي وهيئة {مخلدون} قد حكم الله تعالى ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة على شكل الأولاد قال الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس: *وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال* وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرّطون، يقال للقرط: الخلد، والقرط ما يجعل في الأذنين من الحلق؛ وقيل: مقرطقون أي ممنطقون من المناطق والمنطقة ما يجعل في الوسط؛ وأكثر المفسرين أنهم على سن واحد أنشأهم الله تعالى لأهل الجنة، يطوفون عليهم نشؤاً من غير ولادة فيها لأنّ الجنة لا ولادة فيها؛ وقال عليّ بن أبي طالب والحسن البصري رضى الله عنهم: الولدان ههنا ولدان المسلمين الذي يموتون صغاراً ولا حسنة لهم ولا سيئة؛ وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة؛ قال الحسن: لم تكن لهم حسنات يجازون بها ولا سيآت يعاقبون عليها فوضعوا هذا الموضع. والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة وقوله تعالى: {بأكواب} متعلق بيطوفون، والأكواب جمع كوب وهي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم، لا يعوق الشارب منهاعائق عن شرب من أي موضع. أراد منها، فلا يحتاج أن يحول الإناء عن الحالة التي تناوله بها ليشرب، وقوله تعالى: {وأباريق} جمع إبريق، وهي أوان لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، سمى بذلك لبريق لونه من صفائه {وكأس} أي: إناء شراب الخمر {من معين} أي: خمر صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها جارية من منبع لا ينقطع أبداً. فإن قيل: كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؟ أجيب: أنّ ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كثيرة ويشربون بكأس واحد، وفيها مباينتهم أهل الدنيا من حيث أنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ولا تثقل عليهم بخلاف أهل الدنيا {لا يصدّعون عنها} أي: بسببها قال الزمخشري وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها، والصداع: هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه؛ قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر: *تشفى الصداع ولا يؤذيك صالتها ... ولا يخالطها في الرأس تدويم* قال أبو حيان: هذه صفة خمر الجنة كذا قال لي الشيخ أبو جعفر بن الزبير؛ والمعنى: لا تتصدّع رؤوسهم من شربها فهي لذة بلا أذى بخلاف خمر الدنيا؛ وقيل: لا يتفرقون عنها {ولا ينزفون} أي: تذهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 بعقولهم بوجه من الوجوه أي: يفرغ شرابهم من نزفت البئر إذا نزح ماؤها كله؛ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي والباقون بفتحها {وفاكهة مما يتخيرون} أي: يختارون ما يشتهون من الفواكه لكثرتها؛ وقيل: المعنى: وفاكهة متخيرة مرضية والتخير الاختيار {ولحم طير مما يشتهون} أي: يتمنون؛ قال ابن عباس رضى الله عنهما: يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى، ويقال: إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب؛ فإن قيل: ما الحكمة في تخصيص الفاكهة بالتخيير، واللحم بالاشتهاء؟ أجيب: بأنّ اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة، فالجائع مشته، والشبعان غير مشته بل هو مختار، وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم للفاكهة أكثر فيتخيرونها، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن بخلاف اللحم، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم. فإن قيل: الفاكهة واللحم لا يطوف بهما الولدان، والعطف يقتضي ذلك؟ أجيب: بأنّ الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان فيناولونهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده، أو يكون معطوفاً على المعنى في قوله: {جنات النعيم} أي: مقرّبون في جنات النعيم وفاكهة ولحم، أي: في هذا النعيم يتقلبون. ولما لم يكن بعد الأكل والشراب أشهى من النساء قال تعالى: {وحور} أي: نساء شديدات سواد العيون وبياضها {عين} أي: ضخام العيون وقرأ حمزة والكسائي بخفض الاسمين عطفاً على سرر، فإنّ النساء في معنى المتكأ لأنهن يسمين فراشاً، والباقون بالرفع عطفاً على ولدان {كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي: المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء، فيكون في نهاية الصفاء؛ قال البغوي: ويروى أنه يسطع نور في الجنة فيقولون: ما هذا؟ فيقال: ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ويروى أنّ الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقها، وتمجيد الأسورة من ساعديها، وأنّ عقد الياقوت يضحك في نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح. ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أنّ أعمالهم كانت كذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل فقال تعالى: {جزاء} أي: فعل ذلك لهم لأجل الجزاء {بما كانوا يعملون} أي: يجدّدون عمله على جهة الاستمرار، قالت المعتزلة: هذا يدل على أنّ إيصال الثواب واجب على الله تعالى، لأنّ الجزاء لا يجوز الإخلال به، وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروه لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، لأنّ العقل إذا حكم بأنّ ترك الجزاء قبيح، وعلم بالعقل أنّ القبيح من الله تعالى لا يوجد علم أنّ الله تعالى يعطى هذه الأشياء لأنها جزاؤه، وإيصال الجزاء واجب، فكان لا يصح التمدح به {لا يسمعون فيها لغواً} أي: شيئاً مما لا ينفع واللغو الساقط {ولا تأثيماً} أي: ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الأثم بل حركاتهم وسكناتهم كلها في رضا الله تعالى؛ وقال ابن عباس رضى الله عنهما: باطلاً وكذباً؛ قال محمد بن كعب: ولا تأثيماً أي: لا يؤثم بعضهم بعضاً؛ وقال مجاهد: لا يسمعون شتماً ولا مأثماً وقوله تعالى: {إلا قيلاً} فيه قولان أحدهما: أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 استثناء منقطع وهذا واضح لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم، والثاني: أنه متصل وفيه بعد؛ قال ابن عادل فكان هذا رأى أنّ الأصل لا يسمعون فيها كلاماً فاندرج عنده فيه؛ ثم بين تعالى ذلك بقوله: {سلاماً سلاما} أي قولاً سلاماً، قال عطاء: يحيى بعضهم بعضاً بالسلام، أو تحيهم الملائكة، أو يحييهم ربهم؛ ودل على دوامه بتكريره فقال تعالى: {سلاما} ففيه إشارة إلى كثرة السلام عليهم ولهذا لم يكرر في قوله تعالى {سلام قولاً من رب رحيم} (يس: 58) وقال القرطبي: السلام الثاني بدل من الأوّل، والمعنى: إلا قولاً يسلم فيه من اللغو. ولما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى: {وأصحاب اليمين} ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم فقال تعالى: {ما أصحاب اليمين} فإن قيل: ما الحكمة في ذكرهم بلفظ أصحاب الميمنة عند تقسيم الأزواج الثلاثة وبلفظ أصحاب اليمين عند ذكر الإنعام؟ أجيب: بأن ذلك تفنن في العبارة والمعنى واحد {في سدر} أي: شجر نبق {مخضود} أي: لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي: قطع ونزع منه؛ قال ابن المبارك: أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون: إنا لينفعنا الأعراب ومسائلهم؛ قال: أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذى صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما هي؟» قال: السدر فإن له شوكاً مؤذياً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو ليس يقول سدر مخضود خضض الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً على اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر» ؛ وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره فقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة وما فيها: *إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود* قال مجاهد: {في سدر مخضود} هو الموقر حملاً الذي تنثني أغصانه كثرة حمله من خضض الغصن إذا ثناه وهو رطب؛ وقال سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال {وطلح منضود} أي: منظوم بالجمل من أعلاه إلى أسفله ليست له ساق بارزة متراكم يتركب بعضه على بعض على ترتيب هو في غاية الإعجاب، والطلح جمع الطلحة؛ قال عليّ وابن عباس رضى الله عنهم وأكثر المفسرين: الطلح شجر الموز واحده طلحة؛ وقال الحسن: ليس هو موزاً ولكنه شجر له ظل بارد رطب؛ وقال الفرّاء وأبو عبيدة: شجر عظيم كثير الشوك والطلح كل شجر عظيم له شوك؛ وقال الزجاج: هو شجر أم غيلان؛ قال مجاهد: ولكن ثمرها أحلى من العسل، وقال الزجاج: لها نور طيب جدّاً خوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلا أنّ فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا؛ وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل؛ وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها {وظل ممدود} أي: دائم لا يزول ولا تنسخه الشمس لقوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظلّ ولو شاء لجعله ساكناً} (الفرقان: 45) كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ وقيل: الظل ليس ظلّ أشجار بل ظلّ يخلقه الله تعالى، قال الربيع بن أنس رضى الله عنه: يعني ظلّ العرش؛ وقال عمرو بن ميمون رضى الله عنه: مسيرة سبعين ألف سنة؛ وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود قال الشاعر: *غلب العزاء وكان غير مغلب ... دهر طويل دائم ممدود* وفي صحيح الترمذي وغيره، عن أبي هريرة رضى الله عنه: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم {وظلّ ممدود} » في هذا الحديث ردّ على من يقول: إنّ الأشجار لا ظل لها وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً إذا تراءت له شجرة يقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل في ظلها، الحديث من أيّ شيء يستظل والشمس قد كورت؟ أجاب بقوله تعالى: {وظلّ ممدود} وبقوله تعالى: {هم وأزواجهم في ظلال} (يس: 56) إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها. فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم؛ وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: {وظلّ ممدود} قال شجرة في الجنة يخرج إليها أهل الجنة فيتحدّثون، ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله تعالى عليهم ريحاً من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا {وماء مسكوب} أي: جار في منازلهم في غير أخدود لا يحتاجون فيه إلى جلب ماء من الأماكن البعيدة ولا إدلاء في بئر كأهل البوادي، فإن العرب كانت أصحاب بادية وبلاد حارّة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك {فاكهة كثيرة} أي: أجناسها وأنواعها وأشخاصها {لا مقطوعة ولا ممنوعة} قال ابن عباس رضى الله عنهما: لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمتنع من أحد إذ أراد أخذها، وقال بعضهم: لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن؛ وقيل: لا يمنع من أرادها شوك ولا بعد ولا حائط بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال تعالى {قطوفها دانية} (الحاقة: 23) وجاء في الحديث: «ما قطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله تعالى مكانها ضعفين» . ولما كان التفكه لا يكمل الإلتذاذ به إلا مع الراحة قال تعالى: {وفرش مرفوعة} أي: رفيعة القدر يقال: ثوب رفيع، أي: عزيز مرتفع القدر والثمن بدليل قوله تعالى: {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} (الرحمن: 54) فكيف ظهائرها أو مرفوعة فوق السرر بعضها فوق بعض؛ روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام» . قال: حديث غريب؛ وقيل: هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللباس، أي: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، والعرب تسمى المرأة فراشاً ولباساً على الاستعارة. دليل هذا التأويل قوله تعالى: {إنا} أي: بمالنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء {أنشاناهن} أي: الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت بالبعث وزاد في التأكيد فقال تعالى: {إنشاء} أي: خلقاً جديداً من غير ولادة بل جمعناهن من التراب كسائر بني آدم، ليكونوا كأبيهم آدم عليه السلام في خلقه من تراب، لتكون الإعادة كالبداءة ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليه السلام، وروى النحاس بإسناده أن أم سلمة سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} فقال: «هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطاً عمشاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 رمصاً جعلهن الله تعالى بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء» . وروى أنس بن مالك رضى الله عنه يرفعه في قوله تعالى {إنا أنشأناهن إنشاء} قال: هن العجائز العمش الرمص كنّ في الدنيا عمشاً رمصاً. وعن المسيب بن شريك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} قال: «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقاً جديداً كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً» فلما سمعت عائشة رضى الله عنها ذلك قالت واوجعاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هناك وجع» . وعن الحسن رضى الله عنه قال: أتت عجوز النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول {إنا أنشأناهن إنشاء} » {فجعلناهن} أي: الفرش المنشآت وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء {أبكاراً} أي عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى ولا وجع؛ وذكر المسيب عن غيره: أنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا؛ وقال مقاتل وغيره: هن الحور العين أنشأهن الله تعالى لم تقع عليهن الولادة وقوله تعالى: {عرباً} جمع عروب كصبور وصبر وهي الغنجة المحببة إلى زوجها، وقال الرازي في اللوامع: الفطنة بمراد الزواج كفطنة العرب؛ وقيل: الحسناء؛ وقيل: المحسنة لكلامها؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هن العواتق. وأنشدوا *وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر* وقرأ حمزة وشعبة: بسكون الراء والباقون بضمها كرسل ورسل وفرش وفرش وقوله تعالى: {أتراباً} جمع ترب، وهو المساوي لك في سنك لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد، وهو آكد في الأئتلاف، وهو من الأسماء التي لا تتعرّف بالإضافة، لأنه في معنى الصفة إذ معناه مساويك، ومثله: خدنك لأنه بمعنى مصاحبك؛ قال القرطبي: سن واحد وهو ثلاث وثلاثون سنة؛ يقال في النساء: أتراب، وفي الرجال: أقران؛ وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الفتى من النساء، وانحطت عن الكبر؛ وقال مجاهد: الأتراب الأمثال والأشكال. وقال السدّي: أتراب في الأخلاق لا تباغض فيهن ولا تحاسد، وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً محجلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاثاً وثلاثين على خلق آدم عليه السلام ستون ذراعاً في سبعة أذرع» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أهل الجنة من صغير وكبير يردون بنى ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار» . وعن أبي سعيد الخدري: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنان وسبعون ألف زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء، ينظر وجهه في خدّها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضئ ما بين المشرق والمغرب، وأنه ليكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أدنى أهل الجنة منزلة وما منهم دنيء لمن يغدو عليه ويروح عشرة آلاف خادم مع كل واحد منهم ظريفة ليست مع صاحبه. «وفي تعلق اللام في قوله تعالى: {لأصحاب اليمين} وجهان أحدهما: أنّها متعلقة بأنشأناهن أي: لأجل أصحاب اليمين والثاني: أنها متعلقة بأتراباً كقولك: هذا ترب لهذا أي: مساو له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 ثم بينهم بقوله تعالى: {ثلة من الأولين} أي: من أصحاب اليمين {وثلة} أي: منهم {من الآخرين} فلم يبين فيهم قلة ولا كثرة، قال البقاعي: والظاهر أنّ الآخرين أكثر فإن وصف الأولين بالكثرة لا ينافي كون غيرهم أكثر ليتفق مع قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة فإنهم عشرون ومئة صف هذه الأمة منهم ثمانون صفاً وأربعون من سائر الأمم» . وعن عروة بن رويم قال: لما نزل قوله تعالى: {ثلة من الأوّلين وقليل من الآخرين} بكى عمر وقال: يا نبيّ الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منّا قليل فأنزل الله تعالى: {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فقال: قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال عمر: رضينا عن ربنا وتصديق نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسود من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: قال: «عرضت عليّ الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورفع إلي سواد عظيم فقلت إنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فتفرق الناس، ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنّا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة ابن محصن فقال: ادع الله تعالى أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة» . والرهط دون العشرة وقيل إلى الأربعين. وعن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت عليّ الأنبياء الليلة باتباعها حتى أتى على موسى في كبكبة بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني فقلت: أي رب من هؤلاء؟ قيل: هو أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل، قلت: يا رب وأين أمتي؟ قيل: انظر عن يمينك فنظرت فإذا ظراب مكة قد سدّ بوجوه الرجال، فقال: هؤلاء أمتك أرضيت؟ فقلت: رضيت رب، قيل: انظر عن يسارك فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقيل: هؤلاء أمتك أرضيت؟ قلت: رب رضيت فقيل: إن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة لا حساب عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن عجزتم فكونوا من أهل الأفق، فإني قد رأيت أناساً يتهاوشون كثيراً» . وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحواً من أربعين فقال: «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» . وتقدم في الحديث المار أنهم ثلثا أهل الجنة ولا منافاة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بالقليل ثم أطلعه الله تعالى على الزيادة ولما أتم وصف أصحاب الجنة أتبعه أضدادهم بقوله تعالى: {وأصحاب الشمال} أي: الجهة التي تتشاءم العرب بها ويعبر بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 عن الشيء الأخس والحظ الأنقص قال البقاعي: والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما أن أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال تعالى: {ما أصحاب الشمال} أي: أنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه وسماهم بذلك لأنهم يأخذون كتبهم بشمالهم ثم بين متقلبهم وما أعدّ لهم من العذاب فقال تعالى: {في سموم} أي: ريح حارة من النار تنفذ في المسام {وحميم} أي: ماء حار بالغ في الحرارة إلى حدّ يذيب اللحم {وظل من يحموم} أي: دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد؛ وقيل: النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود؛ وقيل: اليحموم اسم من أسماء النار؛ قال الرازي: وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم السموم، وإن استكنوا كما يفعل الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان بالكن يكونون في ظلّ من يحموم، وإن أرادوا التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم فلا إنفكاك لهم من العذاب؛ أو يقال: أن السموم تضربه فيعطس وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه فيريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل اليحموم؛ وذكر السموم والحميم دون النار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى كأنه قال أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرّها؟ وقوله تعالى {لا بارد} أي: ليروح النفس {ولا كريم} أي: ليؤنس به ويلجأ إليه صفتان للظل كقوله تعالى: {من يحموم} وقال الضحاك: لا بارد أي: كغيره من الظلال بل حار لأنه من دخان شفير جهنم ولا كريم عذب؛ وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره وكل شيء لا خير فيه ليس بكريم فسماه ظلاً ونفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوى إليه من أذى الحرّ، وذلك كرمه ليمحو ما في مدلول الظن من الاسترواح إليه، والمعنى: أنه ظل حارّ ضارّ إلا أن للنفي في نحو هذا شأناً ليس للإثبات وفيه تهكم بأصحاب المشأمة وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة. ثم بين استحقاقهم لذلك بقوله تعالى: {إنهم كانوا} أي: في الدنيا قبل ذلك أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه {مترفين} أي: أنهم إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا في سعة من العيش متمكنين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين منها {وكانوا يصرّون} أي: يقيمون ويديمون على سبيل التجديد لما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك {على الحنث} أي: الذنب ويعبر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم: لم يبلغوا الحنث، وإنما قيل ذلك لأنّ الإنسان عند بلوغه إليه يؤاخذ بالحنث أي: الذنب، وتحنث فلان أي: جانب الحنث، وفي الحديث: «كان يتحنث بغار حراء» أي: يتعبد لمجانبة الإثم نحو خرج فتفعل في هذه كلها للسلب. ولما كان ذلك قد يكون من الصغائر التي تغفر قال تعالى: {العظيم} أي: وهو الشرك قاله الحسن والضحاك؛ وقال مجاهد: هو الذنب الذي لا يتوبون منه؛ وقال الشعبي: هو اليمين الغموس وهو من الكبائر يقال حنث في يمينه، أي: لم يبرها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث وأنّ الأصنام أنداد الله تعالى فذلك حنثهم، فإن قيل: الترفه هو التنعم وذلك لا يوجب ذمّاً؟ أجيب: بأنّ الذمّ إنما حصل بقوله تعالى: {وكانوا يصرّون على الحنث العظيم} فإن صدور المعاصي ممن كثرت النعم عليه أقبح القبائح وفي الآية مبالغات، لأنّ قوله تعالى: {يصرون} يقتضي أنّ ذلك عادتهم والإصرار مداومة المعصية ولأنّ الحنث أبلغ من الذنب لأن الذنب يطلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم: بلغ الحنث أي: بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك؛ قال الرازي: والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر يتوهم بالتفضل نقص وظلم، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلماً، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين {جزاء بما كانوا يعملون} كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه. {وكانوا} أي: زيادة على ما ذكر {يقولون} أي: إنكاراً مجددين لذلك دائماً عناداً {أئذا} أي أنبعث إذا {متنا وكنا} أي كوناً ثابتاً {تراباً وعظاماً} ثم أعادوا الاستفهام تأكيداً لإنكارهم فقالوا: {أئنا لمبعوثون} أي: كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئناء، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفاً فيهما وابن كثير لا يدخل ألفاً وضما ميم متنا {أو آباؤنا} أي: أو تبعث آباؤنا {الأولون} أي: الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم تراباً ولا سيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق؛ فإن قيل: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن؟ أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} (الأنعام: 148) لفصل لا المؤكدة للنفي، وقرأ قالون وابن عامر: بسكون الواو من أو والباقون بفتحها. ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء ولكل من كان مثلهم وأكد لإنكارهم {إن الأولين} أي: الذين جعلتم الاستبعاد فيهم وهم الآباء {والآخرين} وهم الأبناء {لمجموعون} أي: في المكان الذي يكون فيه الحساب {إلى ميقات يوم} أي: زمان {معلوم} أي: معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة إذ هو من شأنه أن يعلم بما عليه من الأمارات والميقات ما وقت به الشيء من زمان أو مكان إلى حد {ثم إنكم} أي: بعد هذا الجمع {أيها الضالون} أي: الذين غلبت عليهم الغباوة فهم لا يفهمون فضلوا عن الهدى ثم اتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال تعالى: {المكذبون} بالبعث والخطاب لأهل مكة ومن في مثل حالهم {لآكلون من شجر من زقوم} وهو من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم فهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الرائحة وقد مرّ الكلام على ذلك في الصافات تنبيه: من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر {فمالؤن} أي: ملأ هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة {منها} أي: الشجر وأنثه لأنه جمع شجرة وهو اسم جنس، قال البقاعي: وهم يكرهون الإناث فتأنيثه والله أعلم زيادة في تنفيرهم؛ وقال الزمخشري: أنت ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في قوله: {منها} وعليه وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 لف ونشر مرتب {البطون} أي: يضطركم إلى تناول هذا الكريه حتى تملؤا بطونكم منه. ثم لما بين أكلهم أتبعه مشربهم فقال تعالى: {فشاربون عليه} أي: الأكل أو الزقوم {من الحميم} لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار {فشاربون} أي: منه {شرب الهيم} أي: الإبل العطاش وهو جمع هيمان للذكر وهيمى للأنثى كعطشان وعطشى، والهيام: داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً؛ وقيل: إنه جمع هائم وهائمة من الهيام أيضاً إلا أن جمع فاعل وفاعلة على فعل قليل نحو نازل ونزل وعائد وعود؛ وقيل: إنه جمع هيام بفتح الهاء وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً فيكون مثل سحاب وسحب بضمتين ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصح الباء كما فعل بالذي قبله، والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملؤوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاؤهم فيشربون منه شرب الهيم. فإن قيل: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ أجيب: بأنهما ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين الحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع أمعائهم أمر عجيب فشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين؛ وقرأ نافع وعاصم وحمزة: بضم الشين والباقون بفتحها. {هذا} أي: ما ذكر {نزلهم} أي: ما يعدّ لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له {يوم الدين} أي: الجزاء الذي هو حكمة القيامة وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعدما استقرّوا في الجحيم وفي هذا تهكم كما في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: 21) فإن النزل ما يعد للنازل تكرمة له ثم استدل على منكري البعث بقوله تعالى: {نحن} أي: لا غيرنا {خلقناكم} أي بما لنا من العظمة {فلولا} تحضيض، أي: فهلا {تصدقون} أي: بالبعث فإن الإعادة أسهل من الابتداء؛ وقيل: نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؛ ومتعلق التصديق محذوف تقديره: فلولا تصدّقون بخلقنا {أفرأيتم} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة {ما تمنون} أي: تصبون من المنيّ في أرحام النساء {أأنتم تخلقونه} أي: توجدونه مقدراً على ما هو عليه من الإستواء، والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صورة المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب {أم نحن} أي: خاصة {الخالقون} أي الثابت لنا ذلك وقرأ أفرأيتم في الثلاثة مواضع نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة، ولو رش وجه ثان وهو أبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق، وقرأ أأنتم في الثلاثة المواضع نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما ألفاً، قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل بينهما ورش وابن كثير ولو رش وجه ثان وهو إبدال الثانية ألفا والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال بينهما. ولما كان الجواب قطعاً أنت الخالق وحدك أكد ذلك بقوله تعالى: {نحن} أي: بمالنا من العظمة لا غيرنا {قدرنا} أي: تقديراً عظيماً لا يقدر سوانا على نقص شيء منه، {بينكم الموت} أي قسمنا عليكم فلم نترك أحداً منكم بغير حصة منه، وأقتنا موت كل بوقت معين لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا وربما كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 في الأوج من قوّة البدن وصحة المزاج فلو اجتمع الخلق لهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا وربما كان في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج فلو تمالؤا على تقصيره طرفة عين لعجزوا. وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد {وما نحن} أي: على ما لنا من العظمة {بمسبوقين} أي: بالموت أي: لا عاجزين ولا مغلوبين {على} أي: عن {أن نبدّل} أي تبديلاً عظيماً {أمثالكم} أي: صوركم وأشخاصكم {وننشئكم} أي إنشاء جديداً بعد تبديل ذواتكم {في ما لا تعلمون} فإنّ بعضكم تأكله الحيتان أو السباع أو الطيور فننشئ أبدانه منها، وبعضهم يصير تراباً فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب فنشأت منه أبدانها وربما صار ترابه من معادن الأرض الذهب والفضة والحديد والنحاس والحجر ونحو ذلك وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً} (الإسراء: 50) إلى آخرها ويكون المعنى كما قال البغوي: نأت بخلق مثلكم بدلاً منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور أي: بتغيير أوصافكم وصوركم إلى صور أخرى بالمسخ ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة وقال الطبري: معنى الآية نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم أي: لا يتقدّم متأخر ولا يتأخر متقدم، وننشئكم فيما لا تعلمون من الصور وقال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل: المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا فنجمل المؤمن ببياض وجهه ونقبح الكافر بسواد وجهه «فائدة» في ما مقطوعة في الرسم.H {ولقد علمتم النشأة الأولى} أي: الترابية لأبيكم آدم عليه السلام، واللحمية لأمكم حواء رضى الله عنها والنطفية لكم وكل منها تحويل من شيء إلى آخر غيره، فما الذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصور ولهذا سبب عما تقدم قوله تعالى: {فلولا} أي: فهلا ولم لا {تذكرون} أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم عليه فتعلمون أن من قدر على النشأة الأولى قدر على الثانية فإنها أقل ضعفاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس، وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين وبعدها ألف قبل الهمزة والباقون بسكونها ولا ألف بعدها، فإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين وخفف ذال تذكرون حمزة والكسائي وحفص، وشدّدها الباقون. ثم ذكر لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا كم عليه فيما تقدم فتسبب عن تنبيهكم لذلك أنكم رأيتم {ما تحرثون} أي: تجددون حرثه على الاستمرار من أراضيكم فتطرحون فيه البذر {أأنتم تزرعونه} أي: تنشئونه بعد طرحكم وتجعلونه زرعاً فيكون فيه السنبل والحب {أم نحن} خاصة {الزارعون} أي: المنبتون له والحافظون؛ روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت» . قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله تعالى: {أفرأيتم} الآية. ولما كان الجواب قطعاً أنت الفعال لذلك وحدك قال تعالى موضحاً لأنه ما زرعه غيره {لو نشاء} أي: لو عاملناكم بصفة العظمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 {لجعلناه} أي: بتلك العظمة {حطاما} أي: مكسوراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهل أو غير ذلك فلا ينتفع به {فظلتم} أي فأقمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وتركتم ما يهمكم {تفكهون} حذفت منه إحدى التائين في الأصل تخفيفاً أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل: تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة قال الزمخشري: ومنه الحديث: «مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبينما هم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكهون» . أي: يتندمون. وقال الكسائي: التفكة التلهف على ما فات من الأضداد، تقول العرب: تفكهت أي تنعمت وتفكهت أي حزنت وتقولون: {أنا لمغرمون} بحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض من الغرام وهو الهلاك ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قول القائل: *أن يعذب يكن غراماً وإن يع ... ط جزيلاً فإنه لا يبالي* وقال ابن عباس: الغرام العذاب، أي: عذبوا بذهاب أموالهم، والمعنى: أن غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ومن الغرام بمعنى العذاب قول القائل: *وثقت بأنّ الحلم منك سجية ... وأنّ فؤادي مبتلى بك مغرم وقرأ شعبة: أئنا بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة مكسورة على الخبر {بل نحن} أي: خاصة {محرومون} أي: ممنوعون رزقنا حرمنا من لا يرد قضاؤه فلاحظ لنا في الاكتساب فلو كان الزارع ممن له خط لأفلح زرعه ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم الماء} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا عليه فيما مضى من المطعم وغيره فرأيتم الماء {الذي تشربون} فتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم، ذكرهم بنعمه التي أنعم بها عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل {أأنتم أنزلتموه من المزن} أي: السحاب وهو اسم جنس واحد مزنة قال القائل: *فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وعن ابن عباس والثوري: المزن السماء والسحاب، وقال أبو زيد: المزنة: السحابة البيضاء أي خاصة وهي أعذب ماء والجمع مزن والمزنة المطرة {أم نحن} أي: خاصة {المنزلون} أي: له بمالنا من العظمة {لو نشاء} أي: حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به {جعلناه} أي بما تقتضيه صفة العظمة {أجاجاً} أي: ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به، وقال ابن عادل: الأجاج المالح الشديد الملوحة {فلولا} أي: فهلا ولم لا {تشكرون} أي: تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الله الذي أوجده لكم ومكنكم منه. ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم النار} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما تقدم فرأيتم النار {التي تورون} أي: تخرجون من الشجر الأخضر {أأنتم أنشأتم} أي: اخترعتم وأوجدتم وأحييتم وربيتم ورفعتم {شجرتها} أي: التي يقدح منها النار وهي المرخ والعقار وهما شجرتان قدح منهما النار وهما رطبتان، وقيل: أراد جميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 الشجر الذي توقد به النار {أم نحن} أي: خاصة وأكد بقوله تعالى: {المنشؤن} أي: لها بمالنا من العظمة على تلك الهيئة فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون في الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادّة لها كان أقدر على إعادة الطراوة في تراب الجسد الذي كان غضاً طرياً فيبس. ولما كان الجواب قطعاً أنت وحدك قال تعالى دالاً على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر {نحن} أي: خاصة {جعلناها} أي: لما اقتضته عظمتنا {تذكرة} أي: شيئاً يتذكر به تذكراً عظيماً جليلاً كما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك، وقيل: موعظة يتعظ بها المؤمن؛ وعن أبي هريرة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزأ كلها مثلها مثل حرّها» . {ومتاعاً} أي: بلغة ومنفعة {للمقوين} أي: المسافرين والمقوى النازل في أرض القوا بالكسر والقصر والمدّ وهي القفر البعيدة من العمران، والمعنى: أنه ينتفع بها أهل البوادي والأسفار فإن منفعتهم بها أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع؛ وقال مجاهد: للمقوين أي: المنتفعين بها من الناس أجمعين يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله تعالى منها؛ وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم يقال: أقويت منذ كذا وكذا أي: ما أكلت شيئاً قال الشاعر: *وإني لاختار القوا طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم* وقال قطرب: المقوي من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال ويقال للغني: مقو لقوته على ما يريد، والمعنى: فيها متاعاً ومنفعة للفقراء والأغنياء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي: الآية تصلح للجميع لأنّ النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. ولما ذكر تعالى ما يدل على وجوب وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل أحد من الناس بقوله تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه العظيم من كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة {باسم} أي: ملتبساً بذكر اسم {ربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان الأعظم. فائدة: أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء وقد أوضحت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة. ولما كان المقام للعظمة قال الله تعالى: {العظيم} أي: الذي ملأ الأكوان كلها عظمة فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزيهاً عن أن يلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، فالعظيم صفة للإسم أو الرب، والاسم قيل: بمعنى الذات وقيل: زائد أي: فسبح ربك واختلف في «لا» في قوله تعالى: {فلا أقسم} فقال أكثر المفسرين: معناه فاقسم ولا صلة مؤكدة بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وإنه لقسم} ومثلها في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29) والتقدير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر؛ ثم ابتدأ قسماً بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان: ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف، وقال بعضهم: إنها لام الابتداء والأصل: فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم: أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري: ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين: أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح، والثاني: أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال. واختلف أيضاً في معنى قوله عز وجلّ: {بمواقع النجوم} فقال أكثر المفسرين: بمساقطها لغروبها، قال الزمخشري: ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} وقال عطاء بن رباح: أراد بمواقعها منازلها، قال الزمخشري: وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، وقال الحسن: مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة؛ وقال ابن عباس والسدي: المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها؛ وقال الضحاك: هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا، وقال القشيري: هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا؟ أجيب: بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي: لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها. وقوله تعالى: {إنه} أي: القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها {لقرآن} أي: جامع سهل ذو أنواع جليلة {كريم} أي: بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه، وفي الكلام اعتراضان أحدهما: الاعتراض بقوله تعالى: {وإنه لقسم} بين القسم والمقسم عليه، والثاني الاعتراض بقوله تعالى: {لو تعلمون} بين الصفة الموصوف. تنبيه: من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس، مشتملاً على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى: {في كتاب} أي: مكتوب {مكنون} أي: مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ» . أراد به المصحف وقوله تعالى: {لا يمسه} خبر بمعنى النهي ولو كان باقياً على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى: {إلا المطهرون} لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضى الله عنهما؛ وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 ابن عادل: والصحيح أنّ المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر» ، وقال ابن عمر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف {لا يمسه إلا المطهرون} فقام فاغتسل وأسلم، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى. وقال ابن عباس: {مكنون} محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء، وقال جابر: هو اللوح المحفوظ، أي: لقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} (البروج: 21 ـ 22) وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، وقال السدي: الزبور وقيل: لا من «لا يمسه» نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان: أحدهما: أن محلها الجرّ صفة لكتاب، والمراد به: إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم، والثاني: محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين: الملائكة فقط أي: لا يطلع عليه، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل: إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لوفك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: {لم يمسسهم سوء} (آل عمران: 174) ولكنه أدغم، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وفي الحديث: «إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم» بضم الدال، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفاً، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهياً كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره. واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد: هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، وقال الكلبي: هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك، وقال الحسن: هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى: {صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس: 13 ـ 16) وقيل: معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي: إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال: المطهرون يعني المتطهرون. تنبيه: اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتاباً فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى، وبأنه يجوز حمله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 في أمتعة. وأجيب عن الأوّل: بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفاً ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتاباً قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصوداً فجاز تغليباً للمقصود فيه، وعن الثاني: بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين، وعن الثالث: بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه، وعن الرابع: بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل. وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله، وأجيب عنه: بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين، وخرج المصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساوياً له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره. وقوله تعالى: {تنزيل} أي: منزل إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للإفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم إلى حكم بوسائط الرسل من الملائكة {من رب العالمين} أي: الخالق العالم بتربيتهم صفة القرآن أي: القرآن منزل من عند رب العالمين سمى المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة كقوله تعالى: {هذا خلق الله} (لقمان: 11) وأوثر المصدر لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر، وفي ذلك رد على قول من قال: بأن القرآن شعر أو سحر أو كهانة. {أفبهذا الحديث} أي: القرآن الذي تقدمت أوصافه العالية وهو يتجدد إليكم إنزاله وقتاً بعد وقت {أنتم مدهنون} أي: متهاونون كمن يدهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به، قال ابن برّجان: الأدهان والمداهنة: الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز ا. هـ. قال البقاعي: فهو على هذا إنكار على من سمع أحداً يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية، أول من صوبت إليه هذه الآية فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلاً ورأساً ويحله عروة عروة، فهم أضر الناس على هذا الدين ومن يتأوّل لهم أو ينافح عنهم أو يعتذر لهم أو يحسن الظنّ بهم مخالف لإجماع الأمّة أنجس حالاً منهم فإنّ مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه ا. هـ. وجرى ابن المقري في روضه على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 كفر من شك في كفر طائفة ابن العربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد، وهو بحسب ما فهمه من ظاهر كلامهم، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذا اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره، والمعتقد منهم لمعناه معتقد لمعنى صحيح؛ وأمّا من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية الذين لا علم عندهم بل أكثرهم يدعي أنّ العلم حجاب ومدعي ذلك هو المحجوب فإنه يعرّف فإن استمرّ على ذلك بعد معرفته صار كافراً. فنسأل الله تعالى التوفيق والعصمة. ولما كان هذا القرآن متكفلاً بسعادة الدارين قال تعالى: {وتجعلون رزقكم} أي: حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله {أنكم تكذبون} فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} (الأنفال: 35) أي: لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة، قال القرطبي: وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذللاً، وعن ابن عباس: أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم: هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا قال: فنزلت هذه الآية {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} » . وفيه أيضاً «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} » . أي: شكراً الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون: سقينا بنوء كذا كقول القائل: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوّاً، قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه، وسبب الكراهة: أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم ثم بين سبحانه أنه لا فاعل لشيء في الحقيقة سواه بقوله تعالى: {فلولا} وهي: أداة تفهم طلباً بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى فهلا ولم لا {إذا بلغت الحلقوم} أي: بلغت الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار الحلقوم، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وفي الحديث: «أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى تنتهي إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت» . والحلقوم مجرى الطعام في الحلق والحلق مساغ الطعام والشراب معروف فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان {وأنتم} أي: والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له {حينئذ} أي: بلغت الروح ذلك الموضع {تنظرون} أي: إلى أمري وسلطاني، أو إلى الميت ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ولم يقل: تبصرون لئلا يظنّ أنّ لهم إدراكاً بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح ونحوها {ونحن} أي: والحال أنا نحن بما لنا من العظمة {أقرب إليه} أي: المحتضر بعلمنا وقدرتنا {منكم} على شدّة قربكم منه، قال عامر بن قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه {ولكن لا تبصرون} من البصيرة أي: لا تعلمون ذلك {فلولا} أي: فهلا {إن كنتم} أيها المكذبون بالعبث {غير مدينين} أي: مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أو مقهورين مملوكين مجزيين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين، من دانه إذا ذله واستعبده، وأصل تركيب دان للذل والإنقياد قاله البيضاوي {ترجعونها} أي: الروح إلى ما كانت عليه {إن كنتم} كوناً ثابتاً {صادقين} فيما زعمتم فلولا الثانية تأكيد للأولى، وإذ ظرف لترجعون المتعلق به الشرطان؛ والمعنى: أنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء أن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد. ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل: {فأما إن كان} المتوفى {من المقرّبين} السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها وقوله تعالى: {فروح} مبتدأ خبره مقدّر قبله أي: فله روح، أي: راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير: فله فرج، وقال الضحاك: مغفرة ورحمة {وريحان} أي: رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة، وقال مقاتل: هو بلسان حمير رزق، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي: رزقه؛ وقيل: هو الريحان الذي يشم؛ قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه؛ وقال أبو بكر الوراق: الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار {وجنت} أي: بستان جامع الفواكه والرياحين {نعيم} أي: ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم. تنبيه: جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، فالكسائي بالأمالة في الوقف على أصله، والباقون بالتاء على المرسوم. {وأما إن كان} المتوفى {من أصحاب اليمين} أي: الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة {فسلام لك} أي: يا صاحب اليمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 {من} إخوانك {أصحاب اليمين} أي: يسلمون عليك كقوله تعالى: {إلا قيلاً سلاماً سلاما} وقال القرطبي: فسلام لك من أصحاب اليمين أي: لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى؛ وقيل المعنى: سلام لك منهم، أي: أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد؛ وقيل: أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم؛ وقيل معناه: سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك؛ وقيل: إنه يحيى بالسلام تكرّماً؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال: أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك، وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، الثاني: عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير، الثالث: عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها؛ قال القرطبي: ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام. ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعاً لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى: {وأما إن كان} المتوفى {من المكذبين} الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلاً {الضالين} أي: عن الهدى وطريق الحق {فنزل من حميم} كما قال تعالى: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون} إلى أن قال: {فشاربون شرب الهيم} وقال تعالى: {ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم} (الصافات: 67) أي: ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به للقادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه {وتصلية جحيم} أي: ونزل من تصلية جحيم، والمعنى: إدخال في النار؛ وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه أي: جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول كما يقال: لفلان إعطاء ما له أي: يعطي المال {إن هذا} أي: الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم: إننا لمبعوثون ومن قيام الأدلة عليه {لهو حق اليقين} أي: حق الخبر اليقين أي: لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر، وقيل: إنما جاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما وذلك من باب إضافة المترادفين ولما حقق له تعالى إلى هذا اليقين سبب عن أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتنزيه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز فقال تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل بالصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه نفسه عنه {باسم ربك} أي: المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك وإذا كان هذا لاسمه فكيف بما هو له {العظيم} الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه، لأنّ من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم وهذا الكلام الأعز الأكرم لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه أو تدنو من فناء بابه، وعن عقبة بن عامر قال: «لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم» . خرجه أبو داود وعن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 أبي ذر قال: «قال لي عليه الصلاة والسلام: ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحان الله وبحمده» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» هذا الحديث آخر حديث في البخاري وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال: «سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» . «روى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً» ورواه البيهقي وغيره وكان أبو طيبة لا يدعها أبداً وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول ولم يعزه. سورة الحديد مكية أو مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمئة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمئة وستة وسبعون حرفاً {بسم الله} الذي أحاطت هيبته بجميع الموجودات {الرحمن} الذي وسعهم جوده في جميع الحركات والسكنات {الرحيم} الذي خص أهل ولايته بما يرضيه من العبادات ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه فقال تعالى: {سبح لله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال {ما في السموات} أي: الإجرام العالية والذي فيها {والأرض} والذي فيها أي: نزهه كل شيء فاللام مزيدة وجيء بما دون من تغليباً للأكثر {وهو} أي: وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي أتقن كل شيء صنعه، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها {له} أي: وحده {ملك السموات والأرض} وما فيهما وما بينهما ظاهراً أو باطناً فالملك الظاهر ما هو الآن موجود في الدنيا من أرض مدحية وسماء مبنية وكواكب مضية وأفلاك ورياح وسحاب مرئية وغير ذلك مما يحيط به علمه تعالى والملك الباطن الغائب عنا وأعظمه المضاف إلى الآخرة وهو الملكوت {يحيي} أي: له صفة الإحياء فيحيي ما شاء من الخلق بأن يوجده على صفة الحياة كيف شاء في أطوار يقلبها كيف شاء ومما شاء {ويميت} أي: له هاتان الصفتان على سبيل الاختيار والتجدد والاستمرار فهو قادر على البعث بدليل ما ثبت له من صفة الإحياء {وهو على كل شيء} أي: من الإحياء والإمانة وغيرهما من كل ممكن {قدير} أي: بالغ القدرة. {هو} أي: وحده {الأول} بالأزلية قبل كل شيء فلا أوّل له، والقديم الذي منه وجود كل شيء، وليس وجوده من شيء لأنّ كل ما نشاهده متأثر لأنه متغير وكل ما كان كذلك فلا بدّ له من موجد غير متأثر ولا متغير {والآخر} أي: بالأبدية الذي ينتهي إليه وجود كل شيء في سلسلة الترقي وهو بعد فناء كل شيء باق فلا آخر له، لأنه يستحيل عليه نعت العدم لأنّ كل ما سواه متغير وكل ما تغير بنوع من التغير جاز إعدامه وما جاز إعدامه فلا بدّ له من معدم يكون بعده ولا يمكن إعدامه {والظاهر} أي: الغالب العلي على كل شيء {والباطن} أي: العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس، وقال يمان: هو الأوّل القديم والآخر الرحيم والظاهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 الحكيم والباطن العليم؛ وقال السدي: هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك؛ وقال الجنيد: هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب؛ وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال: معناها أن علمه بالأوّل كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن {وهو بكل شيء عليم} أي: لكون الأشياء عنده على حد سواء والبطون والظهور إنما هو بالنسبة إلى الخلق، وأما هو سبحانه وتعالى فلا باطن من الخلق عنده بل هم في غاية الظهور لديه لأنه الذي أوجدهم. فإن قيل: ما معنى هذه الواوات؟ أجيب: بأنّ الواو الأولى: معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية؛ والثالثة: أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأمّا الوسطى: فعلى أنه الجامع بين الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والحاضرة والآتية وهي في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس؛ قال الزمخشري: وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وهذا على رأيه الفاسد وهو على رأي المعتزلة المنكرين رؤية الله تعالى في الآخرة؛ وأما أهل السنة فإنهم يثبتون الرؤية للأحاديث الدالة على ذلك من غير تشبيه ولا تكييف تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً؛ وعن سهل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: اللهمّ ربّ السموات والأرض ربّ العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحبّ والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهمّ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من فضلك. وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم {هو} أي: وحده {الذي خلق السموات} وجمعها لعلم العرب بتعددها {والأرض} أي: الجنس الشامل للكل وأفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعدّدها وقال تعالى: {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة سناً للتأني في الأمور وتقدير للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل يوم خلقه باسمه الجمعة على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع نهاية المخلوقات وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} أي: السرير كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه، كما يقال في ملوكنا جلس فلان على سرير الملك بمعنى: أنه انفرد بالتدبير لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس وأتى بأداة التراخي تنبيهاً على عظمته {يعلم ما يلج} أي: يدخل دخولاً يغيب فيه {في الأرض} أي: من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن كان ذلك في غاية البعد فإنّ الأماكن كلها بالنسبة إليه تعالى على حد سواء في القرب والبعد {وما يخرج منها} كذلك. تنبيه: في التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصارا بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدّد مستمرّاً إلى حين خرابهما {وما ينزل من السماء} من الوحي والأمطار والحرّ والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه وتعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم {وما يعرج} أي: يصعد ويرتقي ويغيب {فيها} كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها ولم يجمع السماء لأنّ المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس الشامل للكل {وهو معكم} بالعلم والقدرة أيها الخلق {أينما كنتم} لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى الله عن اتصال بالعالم ومماسة أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {بما تعملون} أي: على سبيل التجدّد والاستمرار {بصير} أي: عالم بجليله وحقيرة فيجازيكم به وقدم الجار لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقيق الإحاطة {له} أي: وحده {ملك السموات} وجمع لاقتضاء المقام له {والأرض} وأفرد لخفاء تعدّدها عليهم مع إرادة الجنس، ودل على إرادة ملكه وإحاطته بقوله تعالى: {وإلى الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له وحده {ترجع} بكل اعتبار على غاية السهولة {الأمور} أي: كلها حساً لبعث ومعنى بالابتداء والإفناء ودل على ذلك بقوله تعالى: {يولج} أي: يدخل ويغيب بالنقص والمحو {الليل في النهار} فإذا هو قد قصر بعد طوله وقد انمحى بعد شخوصه وحلوله، وزاد النهار وملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام {ويولج النهار} الذي عمّ الكون ضياؤه {في الليل} الذي كان قد غاب في علمه فإذا الظلام قد طبق الآفاق فيزيد الليل والطول الذي كان في النهار قد صار نقصاً {وهو} أي: وحده {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما فيها من الأسرار والمعتقدات على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها. ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه قال تعالى آمراً بالإذعان له ولرسوله صلى الله عليه وسلم {آمنوا} أي: أيها الثقلان {بالله} أي: الملك الأعظم الذي لا مثل له {ورسوله} الذي عظمته من عظمته، ونزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك {وأنفقوا} أي: في سبيل الله {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي: من الأموال التي في أيديكم فإنها أموال الله تعالى لأنها بخلقه وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها وخولكم بالاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرّف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم. ولما أمر تعالى بالإنفاق ووصفه بما سهله سبب عنه ما يرغب فيه فقال تعالى: {فالذين آمنوا منكم وأنفقوا} من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح على ما دلّ عليه التعبير بالإنفاق {لهم أجر كبير} أي: لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم، وخصهم بالذكر بقوله تعالى: {منكم} لضيق في زمانهم، وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى عثمان فإنه جهز جيش العسرة. وقوله تعالى: {وما} أي: وأيّ شيء {لكم} من الأعذار أو غيرها في أنكم أو حال كونكم {لا تؤمنون بالله} أي: تجدّدون الإيمان تجديداً مستمراً بالملك الأعلى، أي: الذي له الملك كله والأمر كله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 خطاب للكفار، أي: لا مانع لكم بعد سماعكم ما ذكر {والرسول} أي: والحال أن الذي له الرسالة العامة {يدعوكم} في الصباح والمساء {لتؤمنوا} أي: لأجل أن تؤمنوا {بربكم} الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمّة هذا النبيّ الكريم فشرفكم به {وقد} أي: والحال أنه قد {أخذ ميثاقكم} أي: وقع أخذه فصار في غاية القباحة، ترك التوثق بسبب نصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول وذلك كله منضم إلى أخذ الذرّية من ظهر آدم عليه السلام حين أشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: 172) وقرأ أبو عمرو: بضم الهمزة وكسر الخاء ورفع القاف على البناء للمفعول ليكون المعنى: من أيّ أخذ كان من غير نظر إلى معين وقرأ الباقون بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف على البناء للفاعل والآخذ هو الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء، والحاصل: أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل {إن كنتم مؤمنين} أي: مريدين الإيمان فبادروا إليه {هو} أي: لا غيره {الذي ينزل} أي: على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {على عبده} الذي هو أحق الناس بحضرة جماله وإكرامه وهو محمد صلى الله عليه وسلم {آيات} أي: علامات هي من ظهورها حقيقة أن يرجع إليها ويتعبد بها {بينات} أي: واضحات وهي آيات القرآن الكريم {ليخرجكم} أي: الله بالقرآن أو عبده بالدعوة {من الظلمات} التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص التي جبل عليها الإنسان والغفلة الكاملة على تراكم الجهل، فمن آتاه الله تعالى العلم والإيمان فقد أخرجه من هذه الظلمات التي طرأت عليه {إلى النور} الذي كان له وصفاً لروحه وفطرته الأولى السليمة {وإن الله} أي: الذي له صفات الكمال {بكم لرؤوف رحيم} أي: حيث نبهكم بالرسل والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة، والباقون بالمدّ، وورش على أصله بالمدّ والتوسط والقصر، وليس قصره كقصر أبي عمرو ومن معه وإنما قصره كمدّ قالون ومن وافقه {وما} أي: وأي شيء يحصل {لكم} في {أن لا تنفقوا} أي: توجدوا الإنفاق للمال {في سبيل الله} أي: في كل ما يرضى الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ليكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما يبخل أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شرّ {ولله} أي: الذي له صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث {ميراث السموات والأرض} أي: يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال فمن تأمّل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله s ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق} أي: أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه {من قبل الفتح} أي: الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين الحق {وقاتل} سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 الفتح، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد، وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً شديداً أشرف منه على الهلاك، روى محمد بن فضيل عن الكلبي: أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وعن ابن عمر قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال؟ فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال: فإنّ الله عز وجل يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربي إني عن ربي راض» {أولئك} أي: المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلع مدّ أحدهم ولا نصيفه» لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال {أعظم درجة} وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها {من الذين أنفقوا من بعد} أي: من بعد الفتح {وقاتلوا} أي: من بعد الفتح {وكلا} أي: وكل واحد من الفريقين {وعد الله} أي: الذي له الجلال والإكرام {الحسنى} أي: المثوبة الحسنى وهي: الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرأ ابن عامر: برفع اللام على الابتداء أي: وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي: وعد كلا {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال {بما تعملون} أي: تجدّدون عمله على الأوقات {خبير} أي: عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها. تنبيه: التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة» وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وقال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» وقال: «فليؤمكما أكبركما» وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» وفي الحديث: «ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه» ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {من} وأكد بالإشارة بقوله تعالى: {ذا} لأجل ما للنفوس من الشح {الذي يقرض الله} أي: يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى المستحق ما له لوجه الله تعالى فكأنه أقرضه إياه {قرضاً حسناً} أي: طيباً خالصاً مخلصاً فيه متحرياّ به أفضل الوجوه من غير منّ وكدر بتسويف وغيره {فيضاعفه له} أي: يؤتي أجره من عشرة إلى أكثر من سبعمئة كما ذكره في البقرة إلى ما شاء الله تعالى من الأضعاف، وقيل: القرض الحسن أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل، وقال الحسن: التطوع بالعبادات، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب الفاء بعد العين والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير وابن عامر بغير ألف بعد الضاد وتشديد العين، والباقون بألف بعد الضاد وتخفيف العين {وله} أي: للمقرض زيادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 على ذلك {أجر} لا يعلم قدره إلا الله تعالى وهو معنى وصفه بقوله تعالى: {كريم} أي: حسن طيب زاك تامّ وقوله تعالى: {يوم} ظرف لقوله تعالى: {وله أجر كريم} أو منصوب بإضمار أذكر أي: واذكر يوم {ترى} أي: بالعين {المؤمنين والمؤمنات} أي: الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة {يسعى نورهم} أي: ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة {بين أيديهم وبأيمانهم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فيجعل النور في الجهتين شعار لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومرّوا على الصراط يسعون يسعى معهم ذلك النور حبيباً لهم ومتقدّماً، والأوّل: نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقبولة، والثاني: نور الإنفاق لأنه بالإيمان نبه عليه الرازي وقال قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم «قال من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ودون ذلك حتى أنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» . وقال عبد الله بن مسعود: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويتقد أخرى ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة: {بشراكم اليوم} أي: بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان. تنبيه: {بشراكم اليوم} مبتدأ واليوم ظرف وقوله تعالى: {جنات} خبره على حذف مضاف أي: دخول جنات وهو المبشر به ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به بقوله: {تجري من تحتها الأنهار} ثم آمنهم من خوف الانقطاع بقوله تعالى: {خالدين فيها} أي: خلوداً لا آخر له لأنّ الله تعالى أورثهم ذلك فلا يورث عنه لأنّ الجنة لا موت فيها {ذلك} أي: هذا الأمر العظيم المتقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلدة {هو الفوز العظيم} أي: الذي ملأ بعظمته جميع جهاتهم. ولما شرح تعالى حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين بقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات} وهم المظهرون الإيمان المبطنون الكفر. تنبيه: يوم بدل من يوم ترى أو منصوب بأذكر {للذين آمنوا} أي: ظاهراً وباطناً {انظرونا} أي: انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركائب تزف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرأ حمزة: بقطع الهمزة في الوصل وكسر الظاء والباقون بوصل الهمزة ورفع الظاء، وأما الوقف على آمنوا والابتداء بانظرونا فحمزة على حاله كما يقرأ في الوصل، والباقون بضم همزة الوصل في الابتداء والظاء على حالها من الضم {نقتبس} أي: نستضيء {من نوركم} أي: هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه شيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء، {جزاء وفاقاً} (النبأ: 26) وذلك لأنّ الله تعالى يضيء للمؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم وهو قوله تعالى: {وهو خادعهم} (التحريم: 8) فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى: {يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه} الآية مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين والقبس الشعلة من النار أو السراج، قال ابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وأبو إمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة؛ قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نوراً يمشون فيه؛ وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم} قيل لهم جواباً لسؤالهم؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون: أي: قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم {ارجعوا وراءكم} أي: ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور {فالتمسوا نوراً} هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وقال قتادة: تقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، وقرأ هشام والكسائي: بضم القاف والباقون بكسرها. ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى: {فضرب بينهم} أي: بين المؤمنين والمنافقين {بسور} أي: حائط حائل بين شق الجنة وشق النار {له} أي: لذلك السور {باب} موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها {باطنه} أي: ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب {فيه الرحمة} وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة {وظاهره} أي: ما ظهر لأهل النار {من قبله} أي: من عنده ومن جهته {العذاب} وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم. وقال ابن سريج: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب} الآية، وقيل: السور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين {ينادونهم} أي: ينادي المنافقون الذين آمنوا ويترققون لهم {ألم نكن معكم} أي: في الدنيا نصلي ونصوم فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الذي كنا معكم فيه {قالوا} أي: الذين آمنوا {بلى} أي: كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسكم} أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة {وتربصتم} أي: بالإيمان والتوبة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه {وارتبتم} أي: شككتم في الدين وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفيما وعدكم به {وغرّتكم الأمانيّ} أي: ما تتمنون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء {حتى جاء أمر الله} أي: قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ولا خلف وقرأ قالون وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية، وأيضاً لهما إبدالها والباقون بتحقيقهما، وأمال الألف بعد الميم حمزة وابن ذكوان، والباقون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة الثانية مع المدّ والتوسط والقصر {وغرّكم بالله} أي: الملك الذي له جميع العظمة {الغرور} أي: من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول: إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده {فاليوم} أي: بسبب أفعالكم تلك {لا يؤخذ منكم فدية} أي: نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير {ولا من الذين كفروا} أي: الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق {مأواكم النار} أي: منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {هي} أي: لا غيرها {مولاكم} أي: هي أولى بكم وأنشد قول لبيد: * فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها* والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي: غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي: مكان، كقول القائل: إنه لكريم، ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي: لا ناصر لكم غيرها، والمراد: نفي الناصر على البنات، وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار. ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى: {وبئس المصير} أي: هذه النار واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ألم يأن} أي: يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية {للذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {أن تخشع} أي: تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن {قلوبهم لذكر الله} أي: الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن، فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، وعن الحسن: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق، وقيل: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت؛ وعن أبي بكر رضى الله عنه: أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم وقال: هكذا كنا حتى قست القلوب وقال الشاعر: *ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا* وقوله تعالى: {وما نزل من الحق} أي: القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السموات؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} أي: قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد: النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى: {فطال عليهم الأمد} أي: الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم {فقست} أي: بسبب الطول {قلوبهم} أي: صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهم السلام يسألونهم المقترحات، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات؛ قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان؛ وعن أبي موسى الأشعري: أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاث مئة رجل قد قرؤوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم {وكثير منهم} أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأسا فهم {فاسقون} أي: عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقوله تعالى: {اعلموا أن الله} أي: الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء {يحيي} أي: على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه {الأرض} أي: بالنبات {بعد موتها} أي: يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بأحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها. { { ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى: {قد بينا} أي: على مالنا من العظمة {لكم الآيات} أي: العلامات النيرات {لعلكم تعقلون} أي: لتكونوا عند من يعلم ذلك ويمنعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار وقرأ: {إن المصدقين} أي: العريقين في هذا الوصف من الرجال {والمصدقات} أي: من النساء، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي: الذين تصدقوا وقوله تعالى: {وأقرضوا الله} أي: الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل: إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله {قرضاً حسناً} أي: بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية والنفقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 في سبيل الخير وحسنه؛ كما قال الرازي: أن يصرف بصره عن النظر إلى فعله والنفقة وإلا متنا به وطلب العوض عليه {يضاعف} أي: ذلك القرض {لهم} من عشرة إلى سبعمائة كما مرّ لأنّ الذي كان له العرض كريم، وقرأ ابن كثير وابن عامر: بتشديد العين ولا ألف بينها وبين الضاد؛ والباقون بتخفيف العين وبينها وبين الضاد ألف {ولهم} أي: مع المضاعفة {أجر كريم} أي: ثواب حسن وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم. ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: {والذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: {أولئك} أي: هؤلاء العالو الرتبة {هم الصديقون} أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: {هم الصديقون} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {والشهداء} فهو مبتدأ وخبره {لهم أجرهم} أي: جعله ربهم لهم {ونورهم} أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل. ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة {وكذبوا بآياتنا} أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا {أولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {أصحاب الجحيم} أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة. ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: {والذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: {أولئك} أي: هؤلاء العالو الرتبة {هم الصديقون} أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: {هم الصديقون} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {والشهداء} فهو مبتدأ وخبره {لهم أجرهم} أي: جعله ربهم لهم {ونورهم} أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل. ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة {وكذبوا بآياتنا} أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا {أولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {أصحاب الجحيم} أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة. ولما ذكر تعالى حال الفريقين في الآخرة حقر أمر الدنيا بقوله تعالى: {اعلموا} أي: أيها العباد المبتلون بحب الدنيا {أنما الحياة الدنيا} أي: الحاضرة التي رغب في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن، وما مزيدة للتأكيد أي: الحياة في هذه الدار {لعب} أي: لعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان {ولهو} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 شيء يفرح به الإنسان فيلهيه أي يشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك أعظم ما يلهي في الدنيا بقوله تعالى: {وزينة} أي: شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان وأتبعها ثمرتها بقوله تعالى: {وتفاخر بينكم} أي: كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض فيجر ذلك إلى الحسد والبغضاء وأتبع ذلك بما يحصل به الفخر بقوله تعالى: {وتكاثر} أي: من الجانبين كتكاثر الرهبان {في الأموال} أي: التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة {والأولاد} أي: التي لا يغتر بها إلا سفيه لأنها زائلة وآفاتها هائلة وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره، ثم ذلك كله قد يكون ذهابه عن قريب فيكون على أضداد ما كان عليه فيكون أشد في الحسرة ثم في آخر ذلك يموت فإذا هو قد اضمحل أمره ونسى عما قليل ذكره وصار ماله لغيره وزينته متمتعاً بها سواه، فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها لأنها جيفة وطالب الجيفة ليس له خطر وأخسهم من يبخل بها، وقال علي لعمار: لا تحزن على الدنيا فإنّ الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها تقتل الرجال، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مبال والله إنّ المرأة لتزين أحسنها فيراد منها أقبحها ا. هـ. ويناسب بعض ذلك قول الشاعر: *فخير لباسها نسجات دود ... وخير شرابها قيء الذباب *وأشهى ما ينال المرء فيها ... مبال في مبال مستطاب قال القشيري: وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا ا. هـ. أي: وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة ثم ضرب الله للدنيا مثلاً بقوله تعالى: {كمثل} أي: هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل {غيث} أي: مطر حصل بعد جدب وسوء حال {أعجب الكفار} أي: الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذر الذي يستره الحارث كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان {نباته} أي: نبات ذلك الغيث كما يعجب الكافر في الغالب بسط الدنيا له استدراجاً من الله تعالى: {ثم يهيج} أي: ييبس فيتم جفافه فيحين حصاده {فتراه} أي: عقب كل ذلك وبالقرب منه {مصفراً} أي: على حالة لا نموّ بعدها {ثم} أي: بعد تناهي الجفاف {يكون} أي: كونا كأنه مطبوع عليه {حطاماً} أي: فتاتاً يضمحل بالرياح. ولما ذكر تعالى الظل الزائل ذكر أثره الثابت الدائم مقسماً له إلى قسمين فقال تعالى: {وفي الآخرة عذاب شديد} أي: على من آثر الدنيا وأخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله تعالى وعن الآخرة هذا أحد القسمين، وأما القسم الآخر فهو: ما ذكره بقوله تعالى: {ومغفرة} أي: ولمن أقبل على الآخرة ورفض الدنيا ولم تشغله عن ذلك الله تعالى مغفرة {من الله} أي: الملك الأعظم {ورضوان} أي: في جنة عالية تفضلاً منه تعالى ورحمة، وقوله تعالى جل وعلا: {وما الحياة الدنيا} أي: لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة {إلا متاع الغرور} أي: هو في نفسه غرور لا حقيقة له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر تأكيد لما سبق، قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة. ثم أرشدهم الله تعالى إلى المسابقة إلى الخيرات لأنّ الدنيا خيال ومحال، والآخرة بقاء وكمال بقوله تعالى: {سابقوا} أي: سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار {إلى مغفرة} أي: ستر لذنوبكم عيناً وأثراً {من ربكم} أي: المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال الكلبي: سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة، وقال مكحول: هي التكبيرة الأولى مع الإمام، وقيل: الصف الأول {وجنة} أي: وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله {عرضها كعرض السماء والأرض} أي: السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة، وقال مقاتل: إنّ السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه: أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس {أعدت} أي: هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر {للذين آمنوا} أي: أوقعوا هذه الحقيقة {بالله} أي: الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان {ورسله} فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية {ذلك} أي: الفضل العظيم جداً {فضل الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه {يؤتيه من يشاء} فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله، لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة» . ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} لأنّ الباء في الحديث عوضيه، وفي الآية سببية، فإن قيل: يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم؟ أجيب: بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم {والله} أي: والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله {ذو الفضل العظيم} أي: الذي جل أن تحيط بوصفه العقول {ما أصاب من مصيبة في الأرض} أي: من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك {ولا في أنفسكم} أي: من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك {إلا في كتاب} أي: مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 {من قبل أن نبرأها} أي: نخلق ونوجد ونقدر المصيبة في الأرض والأنفس، وهذا دليل على أنّ اكتساب العباد بخلقه سبحانه وتعالى وتقديره {إن ذلك} أي: الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل أن يخلقه {على الله} أي: لما له من الإحاطة بصفات الكمال {يسير} لأن علمه محيط بكل شيء فقدرته شاملة لا يعجزه فيها شيء. ثم بين ثمرة إعلامه بذلك بقوله تعالى: {لكيلا} أي: أعلمناكم بأنا على مالنا من العظمة قد فرغنا من التقدير فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير لا الحزن يدفعه ولا السرور يجلبه ويجمعه كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن» لأجل أن {لا تأسوا} أي: تحزنوا حزناً كبيراً زائداً على ما في أصل الجبلة فربما جرّ ذلك إلى السخط وعدم الرضا بالقضاء {على ما فاتكم} أي: من المحبوبات الدنيوية {ولا تفرحوا} أي: تسروا سروراً يوصلكم إلى البطر بالتمادي على ما في أصل الجبلة وقوله تعالى: {بما آتاكم} قرأه أبو عمرو بقصر الهمزة، أي: جاءكم منه، والباقون بالمد أي أعطاكم قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مالك تأسف على مفقود ولا يردّه عليك الفوت ومالك تفرح بموجود ولا يتركه في يدك الموت ا. هـ. ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بإدخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول: المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفاً عند النعمة قائلاً في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه في كلتا الحالتين، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان تتعدى فيهما إلى ما لا يجوز {والله} أي: الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي: لا يفعل فعل المحب بأن يكرم {كل مختال} أي: متكبر نظراً إلى ما في يده من الدنيا {فخور} أي: به على الناس قال القشيري: الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر. وقوله تعالى: {الذين يبخلون} بدل من كل مختال فخور فإنّ المختال بالمال يضن به غالباً {ويأمرون الناس} أي: كل من يعرفونه {بالبخل} إرادة أن يكونوا لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله تعالى: {ومن يتول} أي: يكلف نفسه الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله تعالى: {فإن الله} الذي له جميع صفات الكمال {هو} أي: وحده {الغني الحميد} لأنّ معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإنّ الله غني أي: عن ماله وعن إنفاقه وكل شيء مفتقر إليه وهو مستحق للحمد سواء أحمده الحامدون أم لا {لقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {رسلنا} أي: الذين لهم نهاية الجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ومن الأنبياء إلى الأمم {بالبينات} أي: الحجج القواطع {وأنزلنا} أي: بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها {معهم الكتاب} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 أي: الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين {والميزان} أي: العدل، وقيل: الآلة روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال مر قومك يزنوا به {ليقوم الناس بالقسط} أي: ليتعاملوا بينهم بالعدل {وأنزلنا} أي: خلقنا خلقا عظيماً بما لنا من القوة {الحديد} أي: المعروف على وجه من القوّة والصلابة واللين فلذلك سمي إيجاده إنزالاً؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وروي من آلة الحدادين السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة، وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به يقال: وقعت الحديدة أقعها أي: حددتها وفي الصحاح: الميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل، وروي ومعه المبرد والمسحاة، وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح» . وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى عليه السلام وكانت من آس طولها عشرة أذرع مع طول موسى» ؛ وعن الحسن {وأنزلنا الحديد} خلقناه كقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام} (الزمر: 6) وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه {فيه بأس} أي: قوة وشدّة {شديد} أي: قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهو آلة الضرب {ومنافع للناس} بما يعمل منه من مرافقهم لتقوم أحوالهم بذلك قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها، وقال مجاهد: يعني جنة، وقيل: انتفاع الناس بالماعون الحديد كالسكين والفأس ونحو ذلك، وروي أنّ الحديد أنزل في يوم الثلاثاء فيه بأس شديد، أي مهراق الدماء ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء لأنه يوم جرى فيه الدم؛ وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أن في يوم الثلاثاء ساعة لا يراقد فيها الدم» . وقوله تعالى: {وليعلم الله} أي: الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، عطف على قوله تعالى: {ليقوم الناس} أي: لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم الله {من ينصره} أي: ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره وقوله تعالى: {ورسله} عطف على مفعول ينصره أي: وينصر رسله وقوله تعالى: {بالغيب} حال من هاء ينصره، أي: غائباً عنهم في الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه {إن الله} أي: الذي له العظمة كلها {قوي} أي: فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه {عزيز} فهو غير مفتقر إلى نصرة أحد وإنما دعا عباده إلى نصرة دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي لبناء هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب ولما أجمل الرسل في قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا} (الحديد: 5) فصل هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {نوحاً} وهو الأب الثاني وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال {وإبراهيم} وهو أبو العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله وجعلنا الأغلب على رسالته تجلى الإكرام {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {في ذريتهما النبوّة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 فلا يوجد نبي إلا من نسلهما {والكتاب} أي: الكتب الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الكتاب الخط بالقلم يقال: كتب كتاباً وكتابة والضمير في قوله تعالى: {فمنهم مهتد} يعود على الذرية لتقدم ذكرها لفظاً وقيل: يعود على المرسل إليهم لدلالة أرسلنا، أي: هو بعين الرضا منا وهو من لزم طريقة الاصفياء وإن كان من أولاد الأعداء {وكثير منهم} أي: المذكورين {فاسقون} أي: هم بعين السخط وإن كانوا من أولاد الأصفياء، والمراد بالفاسق ههنا: الكافر لأنه جعل الفساق ضد المهتدين، وقيل: هو الذي ارتكب الكبيرة سواء أكان كافراً أم لم يكن لإطلاق هذا الاسم وهو يشمل الكافر وغيره {ثم قفينا} أي: أتبعنا بما لنا من العظمة {على آثارهم} أي: الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل أو عاصرهما منهم {برسلنا} أي: فأرسلناهم واحداً في أثر واحد كموسى والياس وداود وغيرهم، ولا يعود الضمير على الذرية لأنها باقية مع الرسل وبعدهم وأيضاً الرسل المقفى بهم من الذرية {وقفينا} أي: أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تندرس {بعيسى بن مريم} وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه وهو آخر من جاء قبل النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام فأمته أولى الأمم باتباعه صلى الله عليه وسلم {وآتيناه} أي: بما لنا من العظمة {الإنجيل} كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبشراً بالنبيّ العربيّ موضحاً لأمره مكثراً من ذكره {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {في قلوب الذين اتبعوه} أي: على دينه بغاية جهدهم فكانوا على { { منهاجه {رأفة} أي: أشدّ رقة على من كان ينسب إلى الاتصال بهم {ورحمة} أي: رقة وعطفاً على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أنّ قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين متوادين بعضهم لبعض وقوله تعالى: {ورهبانية} منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر وهو قوله تعالى: {ابتدعوها} قال أبو علي: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا نحا الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هذا يقال: إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرحمة والرأفة لما كانتا من فعل الله تعالى نسب خلقهما إليه، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه، وقيل: إن رهبانية معطوفة على رأفة ورحمة، وجعل إما بمعنى خلق أو بمعنى صيّر وابتدعوها على هذا صفة الرهبانية، وإنما خصت بذكر الابتداع لأنّ الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكلف للإنسان فيهما بخلاف الرهبانية فإنها أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب، لكن أبو البقاء منع هذا بأن ما جعله الله تعالى ليبتدعونه. وجوابه: ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك بها والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلو واللباس والخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الكهوف والغيران، روي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم غير الملوك التوراة والإنجيل فساح نفر وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا؛ قال الضحاك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقي بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال وقوله تعالى: {ما كتبناها} صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك، قال ابن زيد: معناه ما فرضناها {عليهم} ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى: {إلا ابتغاء رضوان الله} أي: الملك الأعظم استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وقيل: متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى: ما كتبناها عليهم الشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى: قضى فصار المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله {فما رعوها حق رعايتها} أي: ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {فآتينا} أي: بما لنا من صفات الكمال {الذين آمنوا} أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم {منهم أجرهم} أي: اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف {وكثير منهم} أي: من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا {فاسقون} أي: عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه السلام، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} » ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون» . وعن ابن مسعود أيضاً قال: «كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت الله ورسوله أعلم، قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزموا أهل الإيمان ثلاث مرار فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء قتلونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله تعالى النبيّ الذي وعدنا عيسى عليه السلام يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية {ورهبانية ابتدعوها} إلى قوله تعالى: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني من ثبت عليها أجرهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة» وعن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى» وعن ابن عباس قال: كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله تعالى: فقيل لملوكهم: لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل وإلا فما بدلوا منهما فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة: ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقر فلا نرد عليكم ولا نراكم ففعلوا بهم ذلك، فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه السلام، وخلف قوم من بعدهم ممن غير الكتاب فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عز وجلّ: {ورهبانية ابتدعوها} ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني: الذين اتبعوها ابتغاء مرضاة الله {وكثير منهم فاسقون} هم الذين جاؤوا من بعدهم قال: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا وصدّقوا فقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: بموسى وعيسى عليهما السلام إيماناً صحيحاً {اتقوا الله} أي: خافوا عقاب الملك الأعظم {وآمنوا برسوله} محمد صلى الله عليه وسلم إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بمن تقدّمه، هذا إذا كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب، وأمّا إذا كان خطاباً للمؤمنين من أهل الكتاب وغيرهم، فالمعنى: آمنوا برسوله إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله تعالى فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا مع الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم {يؤتكم} أي: يثبكم على اتباعه {كفلين} أي: نصيبين ضخمين {من رحمته} يحصنانكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقي مقدّمه على الكاهل ومؤخره على العجز وهذا التحصين لأجل إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن تقدّمه مع خفة العمل ورفع الآصار، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام. وقيل: الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وقال أبو موسى الأشعري: كفلين ضعفين بلسان الحبشة، وقال ابن زيد: كفلين أجر الدنيا وأجر الآخرة، وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده» {ويجعل لكم} أي: مع ذلك {نوراً} مجازياً في الدنيا من العلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل {تمشون به} أي: مجازاً في الدنيا بالتوفيق للعمل وحقيقة في الآخرة بسبب العمل، وقال مجاهد: النور هو البيان والهدى، وقال ابن عباس: هو القرآن، وقال الزمخشري: هو النور المذكور في قوله تعالى: {نورهم يسعى} (التحريم: 1) وقيل: يمشون في الناس يدعونهم إلى الإسلام فيكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياستكم فيه وذلك أنهم خافوا أن تزول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى لا الرياسة الحقيقية في الدين {ويغفر لكم} أي: ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجدّ {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {غفور} أي: بليغ المحو للذنوب عيناً وأثر {رحيم} أي: بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه. ولما بلغ من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} قالوا للمسلمين: أمّا من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ومن لم يؤمن منا فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا فأنزل الله تعالى: {لئلا يعلم} أي: ليعلم ولا زائدة للتأكيد {أهل الكتاب} الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {أن} مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشان والمعنى أنهم {لا يقدرون على شيء} في زمن من الأزمان {من فضل الله} أي: الملك الأعلى فلا أجر لهم ولا نصيب في فضله إن لم يؤمنوا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فنزلت الآية. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادّعوا الفضل عليهم فنزلت، وقيل: المراد من فضل الله الإسلام، وقيل: الثواب، وقال الكلبي: من رزق الله وقيل: نعم الله تعالى التي لا تحصى {وأنّ} أي: وليعلموا أن {الفضل} أي: الذي لا يحتاج إليه من هو عنده {بيد الله} الذي له الأمر كله {يؤتيه من يشاء} لأنه قادر مختار فآتى المؤمنين منهم أجرهم مرتين {والله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ذو الفضل العظيم} أي: مالكه ملكاً لا ينفك ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلاً فلذلك يخص من يشاء بما يشاء روى البخاري عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة: ربنا هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء» وفي رواية «فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: ربنا» الحديث، وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من كان قبلكم خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» ؟ «وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعلمت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من شئت» . وعن أبي موسى الأشعري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً فأبوا وتركوا واستأجر آخرين من بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر آخرين على أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكلموا أجر الفريقين كلاهما فذلك مثلهم ومثل ما بقوا من هذا النور» . وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله» حديث موضوع. سورة المجادلة مدنية في قول الجميع الأرواية عن عطاء إلا العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} نزلت بمكة وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفاً. {بسم الله} الذي تمت قدرته وكملت جميع صفاته {الرحمن} الذي شمل الخلائق جوداً بالإيجاد وإرسال الهداة {الرحيم} الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته ونزل في خولة بنت ثعلبة وكانت تحت أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها. {قد سمع الله} أي: أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات {قول التي تجادلك} أي: تراجعك أيها النبيّ {في زوجها} المظاهر منها روي «أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ بها في خلافته وهو على حمار والناس معه، فاستوقفته طويلاً ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميراً ثم قيل لك: عمر ثم قيل لك: أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ومن أيقن بالحساب خاف العذاب وهو واقف يسمع كلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الموقف فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة أتدرون من هذه العجوز هي: خولة بنت ثعلبة سمع الله تعالى قولها من فوق سبع سموات أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر» وعن عائشة: «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهمّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل بهذه الآية {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} الآية. وروي «أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها، قال عروة: وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 إنّ أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما علا سنى ونثرت بطني أي: كثر ولدي جعلني عليه كأمّه فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت: والله ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقد طالت صحبتي ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آراك إلا حرمت عليه أو أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي وأنّ لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهمّ أني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك وكان هذا أوّل ظهار في الإسلام، فأنزل الله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها وقال: ما حملك على ما صنعت قال: الشيطان فهل من رخصة؟ فقال: نعم وقرأ عليه الأربع آيات فقال له هل تستطيع العتق فقال لا والله فقال هل تستطيع الصوم؟ فقال لا والله إني إن أخطأني أن آكل في اليوم مرّة أو مرتين لكل صبري ولظننت أني أموت قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها مريه أن يعتق رقبة فقالت: أيّ رقبة والله لا يجد رقبة وما له خادم غيري، فقال: مريه أن يصوم شهرين، فقالت: والله ما يقدر على ذلك إنه يشرب في اليوم كذا كذا مرّة، فقال: مريه فليطعم ستين مسكيناً، فقالت: أنّى له ذلك» {وتشتكي} أي: تتعمد بتلك المجادلة الشكوى منتهية {إلى الله} أي: سؤال الملك الأعظم الرحمة الذي أحاط بكل شيء علماً. فإن قيل: ما معنى قد في قوله تعالى: {قد سمع} أجيب: بأنّ معناها التوقع لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله تعالى تجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها لصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله إنّ الله تعالى يكشف كربتها {والله} أي: والحال أنّ الذي وسعت رحمته كلّ شيء، لأنّ له الأمر كله {يسمع تحاوركما} أي: تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب {إن الله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {سميع} أي: بالغ السمع لكل مسموع {بصير} أي: بالغ البصر لكل ما يبصر فهما صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه فقال تعالى: {الذين يظهرون} أي: يوجدون الظهار في أي زمان كان وقوله تعالى: {منكم} أي: أيها العرب المسلمون توبيخ لهم وتهجين لعادتهم لأنّ الظهار كان خاصاً بالعرب دون سائر الأمم فنبه تعالى على أنّ اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الكلام لأنّ الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ثم زاده الإسلام استهجاناً {من نسائهم} أي: يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله تعالى عليهم ظهور أمّهاتهم. والظهار لغة: مأخوذ من الظهر لأنّ صورته الأصلية أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، وخصوا الظهر دون البطن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 والفخذ وغيرهما لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج. وقيل: من العلو قال تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه} (الكهف: 97) أي: أن يعلوه وكان طلاقاً في الجاهلية، وقيل: في أوّل الإسلام ويقال: كان في الجاهلية إذا كره أحدهم أمرأته أنه ولم يرد أن تتزوج بغيره آلى منها أو ظاهر فتبقى لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره؛ فغير الشارع حكمه إلى تحريمها بعد العود ولزوم الكفارة كما سيأتي. وحقيقته الشرعية: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلاله وسمى هذا المعنى ظهاراً لتشبيه الزوجة بظهر الأم، وله أركان أربعة: مظاهر ومظاهره منها وصيغة ومشبه به وشرط في المظاهر كونه زوجاً يصح طلاقه، وشرط في المشبه به كونه كلّ أنثى محرم أو جزء أنثى محرم لم تكن حلاله كابنته وأخته، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالظهار صريح كأنتِ أو رأسك أو بدنك كظهر أمي أو كجسمها أو بدنها أو كناية كانت أمي أو كعينها أو غيرها مما يذكر للكرامة كرأسها أو روحها ويصح تأقيته وتعليقه، وأصل يظهرون يتظهرون أدغمت التاء في الظاء وقرأ {الذين يظاهرون} و {الذي يظاهرون} عاصم بضم الياء وتخفيف الظاء وبعدها ألف وتخفيف الهاء مكسورة، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء وتخفيف الهاء مع فتحها وبين الظاء والهاء ألف، والباقون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ولا ألف بينهما {ما هنّ} أي: نساؤهم {أمهاتهم} أي: على الحقيقة {إن} أي: ما {أمهاتهم} أي: حقيقة {إلا اللائي ولدنهم} ونساؤهم لم يلدنهم فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام، ولا هنّ ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح كأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنهنّ أمّهات لما لهنّ من حق الإكرام والاحترام والإعظام؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أبي النسب، وكذا المرضعات، لما لهنّ من حق الرضاع الذي هو وظيفة الأمّ بالأصالة. وأمّا الزوجة فمباينة لجميع ذلك. وقرأ قالون وقنبل: بالهمزة المكسورة ولا ياء بعدها، وقرأ ورش والبزي وأبو عمرو بتسهيل الهمزة مع المدّ والقصر وللبزي وأبو عمر وأيضاً موضع الهمزة ياء ساكنة مع المدّ والباقون بهمزة مكسورة وبعدها ياء وهم على مراتبهم في المدّ {وإنهم} أي: المظاهرون {ليقولون} أي: في هذا التظهر على كلّ حالة {منكراً من القول} إذ الشرع أنكره وهو حرام إتفاقاً كما نقل عن الرافعي في باب الشهادات {وزوراً} أي: قولاً مائلاً عن السداد منحرفاً عن القصد، لأنّ الزوجة معدّة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان والأمّ في غاية البعد عن ذلك. فإن قيل: المظاهر إنما قال: أنت عليّ كظهر أمي فشبه بأمه ولم يقل أنها أمّه فما معنى أنه منكر من القول وزور والزور الكذب وهذا ليس بكذب. أجيب: بأنّ قوله هذا إن كان خبراً فهو كذب وإن كان إنشاء فهو كذلك لأنه جعله سبباً للتحريم والشرع لم يجعله سبباً لذلك، وأيضاً فإنما وصف بذلك لأنّ الأم مؤبدة التحريم والزوجة لا يتأبد تحريمها بالظهار فهو زور محض. فإن قيل: قوله تعالى: {إلا اللائي ولدنهم} يقتضي أن لا أمّ إلا الوالدة وهذا مشكل بقوله تعالى: {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} (النساء: 23) وقوله تعالى: {وأزواجه أمّهاتهم} (الأحزاب: 6) أجيب: بأنّ الشارع ألحقهنّ بالوالدات لما مر {وإن الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره {لعفوّ} أي: من صفاته أن يترك عقاب من شاء {غفور} أي: من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 ثم بين أحكام الظهار بقوله تعالى: {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} والعود في ظهار غير مؤقت من غير رجعية أن يمسكها بعد ظهاره مع علمه بوجود الصفة في المعلق زمن إمكان فرقة ولم يفارق، لأن العود للقول مخالفته، يقال: قال فلان قولاً ثم عادله وعاد فيه أي: خالفه ونقضه، وهو قريب من قولهم عاد في هبته، ومقصود الظهار وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه، فلو اتصل بظهاره جنونه أو إغماؤه أو فرقة بموت أو فسخ من أحدهما بمقتضية كعيب بأحدهما أو بطلاق بائن أو رجعي ولم يراجع فلا عود، والعود في ظهار غير مؤقت من رجعية سواء أطلقها عقب الظهار أم قبله أن يراجع. ولو ارتد متصلاً بالظهار بعد الدخول ثم أسلم في العدّة فلا عود بالإسلام بل بعده، والفرق أنّ الرجعة إمساك في ذلك النكاح والإسلام بعد الردّة تبديل للدّين الباطل بالحق والحّل تابع له فلا يحصل به إمساك وإنما يحصل بعده فالعود في ظهار مؤقت يحصل بتغييب حشفة أو قدرها من فاقدها في المدّة ويجب في العود به وإن حلّ نزع لما غيبه، كما لو قال: إن وطأتك فأنت طالق لحرمة الوطء قبل التكفير كما سيأتي وانقضاء المدة واستمرار الوطء وطء ولما كان المبتدأ الموصول يتضمن معنى الشرط أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرّر الوجوب بتكرير سببه فقال عز من قائل: {فتحرير} أي: فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير {رقبة} مؤمنة فلا تجزىء كافرة قال تعالى في كفارة القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء: 92) وألحق بها غيرها قياساً عليها بجامع حرمة سببيهما من القتل والظهار أو حملاً للمطلق على المقيد كما في حمل المطلق في قوله تعالى: {واستشهدوا شهدين من رجالكم} (البقرة: 282) على المقيد في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2) بلا عوض ولا بعيب يخل بعمل فيجزئ صغير ولو ابن يوم وأقرع وأعرج يمكنه تباع مشي بأن يكون عرجه غير شديد وأعور لم يضعف عوره بصر عينه السليمة ضعفاً يخل بالعمل وأصم وأخرس يفهم الإشارة وتفهم عنه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه لا فاقد رجل أو خنصر وبنصر من يد أو أنملتين من كلّ منهما أو فاقد أنملتين من أصبع غيرهما أو فاقد أنملة إبهام لا خلال كل من الصفات المذكورة بالعمل. ولا يجزىء مريض لا يرجى برؤه ولم يبرأ كيد شلاء وهرم بخلاف من يرجى برؤه ومن لا يرجى برؤه إذا برىء، ولا مجنون إفاقته أقلّ من جنونه تغليباً للأكثر، ويجزئ معلق عتقه بصفة بأن ينجز عتقه بنية الكفارة أو معلقه كذلك بصفة أخرى وتوجد قبل الأولى، ويجزئ نصفا رقبتين أعتقهما عن كفارة باقيهما أو في أحدهما كما استظهره بعضهم، ويجزئ إعتاق رقبتيه عن كفارتيه لأجعل العتق المعلق كفارة عند وجود الصفة ولا مستحق عتق كأم ولد وصحيح كتابة {من قبل أنّ يتماسا} أي: يتجدّد بينهما مس روى أبو داود وغيره «أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهر من امرأته وواقعها: لا تقربها حتى تكفّر» . وكالتكفير مضى مدة المؤقت لانتهائه بها وحمل التماس هنا لشبه الظهار بالحيض على التمتع بما بين السرّة والركبة ومن حمله على الوطء ألحق به التمتع بغيره فيما بينهما، ولو ظاهر من أربع بكلمة كأنتن كظهر أمي فإن أمسكهنّ فأربع كفارات لوجود سببها أو ظاهر منهنّ بأربع كلمات ولو متوالية فعائد من غير أخيرة، ولو كرر في امرأة متصلاً تعدد الظهار إن قصد استئنافاً ويصير المظاهر بالاستئناف عائداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 {ذلكم} أي: ذلك الحكم بالكفارة {توعظون به} أي: أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه {والله} أي: الذي له الإحاطة بالكمال {بما تعملون} أي: تجدّدون فعله {خبير} أي: عالم بظاهره وباطنه فهو عالم بما يكفره فافعلوا بما أمر به وقفوا عند حدوده، وإنما يلزم الإعتاق عن الكفارة من ملك رقيقاً أو ثمنه فاضلاً عن كفاية ممونة من نفسه وغيره. قال الرافعي: وسكتوا عن تقدير مدة ذلك ويجوز أن تقدر بالعمر الغالب وأن تقدّر بسنة ا. هـ. والذي عليه الجمهور هو: الأوّل ولا يلزمه بيع عقار ورأس تجارة وماشية لا يفضل دخلوها عن غلة العقار وربح مال التجارة وفوائد الماشية من نتاج وغيره عن كفاية ممونة ولا بيع مسكن ورقيق نفيسين ألفهما ولا يلزمه شراء بغبن. {فمن لم يجد} أي: الرقبة بأن عجز المكفر عن الإعتاق حساً أو شرعاً وقت أداء الكفارة {فصيام} أي: فعليه صيام {شهرين متتابعين} عن كفارته فالرقيق لا يكفر إلا بالصوم لأنه معسر لا يملك شيئاً وليس لسيده منعه من الصوم إن ضره، وإنما اعتبر العجز وقت الأداء لا وقت الوجوب قياساً على سائر العبادات. ولو ابتدأ الصوم ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه، لأنه أمر به حيث دخل فيه، وقال أبو حنيفة: يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدم قبل انقضاء عدّتها فإنها تستأنف الحيض إجماعاً ويكفيه نية صوم الكفارة، وإن لم ينو الولاء، فإن انكسر الشهر الأول أتمه من الثالث ثلاثين لتعذر الرجوع فيه إلى الهلال. وينقطع التتابع بفوات يوم ولو بعذر كمرض أو سفر فيجب الاستئناف ولو كان الفائت اليوم الأخير أو اليوم الذي نسيت النية له بخلاف ما إذا فات بجنون أو إغماء مستغرق لمنافاة ذلك الصوم {من قبل أن يتماسا} كما مرّ في العتق، فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع لأنه ليس محلاً للصوم بخلافه نهاراً وقال أبو حنيفة ومالك: يبطل بكلّ حال ويجب عليه ابتداء الكفارة لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} . {فمن لم يستطع} بأن عجز عن صوم أو لا لمرض يدوم شهرين بالظنّ المستفاد من العادة في مثله أو من قول الأطباء أو لمشقة شديدة تلحقه بالصوم أو بولائه ولو كانت المشقة لشدّة شهوة الوطء أو خوف زيادة مرض {فإطعام} أي: فعليه إطعام {ستين مسكيناً} أي: من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد بأن يملك كل مسكين من أهل الزكاة مدّاً من جنس الفطرة كبر وشعير وأقط ولبن فلا يجزئ لحم ودقيق وسويق، وخرج بأهل زكاة غيره فلا يجزئ دفعها لكافر ولا لهاشميّ ومطلبيّ ولا لمواليهما ولا لمن تلزمه مؤنته ولا لرقيق، لأنها حق الله تعالى فاعتبر فيها صفات الكمال. {ذلك} أي: الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام {لتؤمنوا} أي: ليتحقق إيمانكم {بالله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوا بالانسلاخ عن أمر الجاهلية {ورسوله} أي: الذي تعظيمه من تعظيمه. ولما رغب في هذا الحكم رهب في التهاون به بقوله تعالى: {وتلك} أي: هذه الأحكام العظيمة المذكورة {حدود الله} أي: أوامر الملك الأعظم ونواهيه التي يجب امتثالها والتعبد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعدوها، فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدّى نقضه وإبرامه {وللكافرين} أي: العريقين في الكفر بها أو بشيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 من شرائعه {عذاب أليم} أي: بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه، لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته. قال الزمخشري: فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبداً حقها فإن قلت: فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام: استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر» ا. هـ. والمراد بالاستغفار هنا: التوبة. ولما ذكر تعالى المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها بقوله تعالى: {إن الذين يحادّون الله} أي: يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها وذلك صورته صورة العداوة؛ لأنّ المحادة المعاداة والمخالفة في الحدود وهو كقوله تعالى: {ومن يشاق الله} (الحشر: 4) {ورسوله} أي: الذي عزه من عزه، وقيل: يحادّون الله أي: أولياء الله كما في الخبر «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» والضمير في قوله تعالى: {إن الذين يحادّون الله ورسوله} يحتمل أن يرجع إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ويظاهرونهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأذلهم الله تعالى ويحتمل أن يرجع لجميع الكفار فأعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم {كبتوا} أي: أذلوا وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال قتادة: أخذوا، وقال أبو زيد: عذبوا، وقال السدي: لعنوا، وقال الفراء: أغيظوا يوم الخندق. وقيل: يوم بدر {كما كبت الذين من قبلهم} أي: المحادّين المخالفين رسلهم كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصرّ على العصيان. قال القشيريّ: ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو أحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك {وقد أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم {آيات بينات} أي: دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان كترك المحادّة وتحصيل الإذعان {وللكافرين} أي: الراسخين في الكفر بالآيات أو بغيرها من أوامر الله تعالى: {عذاب مهين} بما تكبروا واعتدوا على أولياء الله تعالى وشرائعه يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم. وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر كما قاله الزمخشري قال: تعظيماً لليوم أو بلهم أي بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً أو بفعل مقدّر قدّره أبو البقاء يهانون أو يعذبون أو استقرّ ذلك يوم {يبعثهم الله} أي: الملك الأعظم {جميعاً} أي: حال كونهم مجتمعين، الكافرين المصرّح بهم والمؤمنين المشار إليهم الرجال والنساء أحياء كما كانوا لا يترك منهم أحد، وقيل: مجتمعين في حال واحد {فينبئهم} أي: يخبرهم أخباراً عظيماً مستقصى {بما عملوا} تخجيلاً وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم {أحصاه الله} أي: أحاط به عدداً وكماً وكيفاً وزماناً ومكاناً بماله من صفات الكمال والجلال {ونسوه} لأنهم تهاونوا به حيث ارتكبوه ولم يبالوا به لضر أو تهم بالمعاصي وإنما تحفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 معظمات الأمور أو لخروجه عن الحدّ في الكثرة فكيف كل واحد على انفراده {والله} أي: بماله من القدرة الشاملة والعلم المحيط {على كل شيء} أي: على الإطلاق {شهيد} أي: حفيظ حاضر لا يغيب ورقيب لا يغفل. ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال جل ذكره: {ألم تر} أي: تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين {أنّ الله} أي: الذي له صفات الكمال كلها {يعلم ما في السموات} كلها {وما في الأرض} كذلك كليات ذلك وجزئياته لا يغيب عنه شيء منه بدليل أنّ تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من شاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك القاصية والدانية والماضية والآتية فيكون كما أخبر، وقوله تعالى: {ما يكون من نجوى} يكون فيه من كان التامة، ومن نجوى فاعلها، ومن مزيدة فيه أي: ما يقع من تناجي {ثلاثة} ويجوز أن يقدره مضاف أي: أهل نجوى فيكون ثلاثة صفة لأهل وإن يؤوّل نجوى بمتناجين جعلوا نجوى مبالغة فيكون ثلاثة صفة لنجوى واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإنّ السر يرتفع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه وقوله تعالى: {إلا هو رابعهم} استثناء من أعمّ الأحوال. أي: ما يوجد شيء من هذه الأشياء في حال من الأحوال إلا وهو يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم وشاهدهم كما تكون نجواهم عند الرابع الذي يكون معهم {ولا خمسة} أي: من نجواهم {إلا هو سادسهم} أي: يعلم نجواهم كما مرّ. فإن قيل: ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ أجيب: بوجهين أحدهما: أن قوماً من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون {ولا أدنى من ذلك} أي: من عددهم {ولا أكثر} أي: من ذلك {إلا هو معهم} يسمع ما يقولون {أينما} أي: في أي مكان {كانوا} فإنه لا مسافة بينه وبين شيء فقد روي عن ابن عباس: أنها نزلت في ربيعة وخبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدّثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً وقال الثالث: إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله وصدق لأنّ من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها، لأنّ كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم. والوجه الثاني: أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندوبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهي والأحلام ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأوّل عددهم اثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب. ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة وقال {ولا أدنى من ذلك} فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال: {ولا أكثر} فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته الكبرى أخرجها الحارث ابن أبي أسامة رقى المنبر وقال: «يا أيها الناس ادنوا واسمعوا لمن خلفكم ثلاث مرات» فدنا الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض والتفتوا فلم يروا أحداً فقال: رجل منهم بعد الثالثة: لمن نسمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 يا رسول الله الملائكة فقال: «لا أنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم» وعلى ذلك فليسوا في مكان الإيمان هنا والشمائل بل في المكانة من ذلك فالله جلّ جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء {ثم ينبئهم} أي: يخبر أصحاب النجوى أخباراً عظيماً {بما عملوا} دقيقه وجليله {يوم القيامة} الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلا فيه أتم إظهار {إنّ الله} الذي له الكمال كله {بكل شيء} أي: مما ذكر وغيره {عليم} أي: بالغ العلم فهو على كل شيء شهيد وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ألم تر} أي: تعلم علماً هو كالرؤية {إلى الذين نهوا عن النجوى} فقيل: في اليهود وقيل: في المنافقين، وقيل: في فريق من الكفار وقيل في فريق من المسلمين لما روى أبو سعيد الخدري قال: «كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما هذه النجوى فقلنا تبنا إلى الله تعالى يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيخ يعني الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه قلنا بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» ذكره الماوردي. وقال ابن عباس: «نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك ويقولون: ما نراهم إلا وقد بلغهم من إخواننا الذين خرجوا وفي السرايا قتل أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وأثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} {ثم يعودون} أي: على سبيل الاستمرار، لأنه وقع مرّة وبادروا إلى التوبة منها أو فلتة معفواً عنها {لما نهوا عنه} أي: من غير أن يعتدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عنده {ويتناجون} أي: يقبل بعضهم على المناجاة إقبالاً واحداً فيفعل كل منهم منها ما يفعله الآخر مرّة بعد أخرى على سبيل الاستمرار. وقرأ حمزة بعد الياء: بنون ساكنة وبعدها ثاء فوقية مفتوحة ولا ألف قبل الجيم وضم الجيم، والباقون بتاء فوقية مفتوحة وبعدها نون مفتوحة وبعد النون ألف وفتح الجيم {بالإثم} أي: بالشيء الذي لا يثبت عليهم به الذنب وبالكذب وبما لا يحل {والعدوان} أي: العدوان الذي هو نهاية في قصد الشرّ بالإفراط في مجاوزة الحدود {ومعصيت الرسول} أي: مخالفة النبيّ الذي جاء إليهم من الملك الأعلى وهو كامل في الرسالة لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان فلا نبيّ بعده فهو لذلك مستحق غاية الإكرام. فائدة: رسمت معصية في الموضعين بالتاء المجرورة، وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء في الوقف، والكسائي بالإمالة في الوقف على أصله ووقف الباقون بالتاء على الرسم واتفقوا في الوصل على التاء {وإذا جاؤوك} أي: يا أشرف الخلق {حيوك} أي: واجهوك بما يعدونه تحية {بما لم يحيك به الله} أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه «وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون السام عليك، والسام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الموت وهم يوهمون أنهم يقولون السلام عليك وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: وعليكم فقالت السيدة عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، فقالت: أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ» وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت» فأنزل الله تعالى: {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله} وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» بالواو فقال بعض العلماء: إنّ الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن ندخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا وهو الملال يقال سئم يسأم سأمة وسأماً، وقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر: *فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى* أي: لما أجزنا انتحى فزاد الواو وقال: آخرون هي للاستئناف، كأنه قيل: والسام عليكم، وقال آخرون: هي على بابها من العطف ولا يضرّنا ذلك لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة. تنبيه: اختلف العلماء في ردّ السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة: هو واجب لظاهر الأمر بذلك، وقال مالك: ليس بواجب فإن رددت فقل وعليك، وعندنا يجب أن يقول له وعليك لما مرّ في الحديث، وقال بعضهم: يقول في الردّ علاك السلام أي: ارتفع عنك، وقال بعض المالكية: يقال في الردّ السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم عبر عن ذلك بقوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} من غير أن يطلع عليه أحد {لولا} أي: هلا ولم لا {يعذبنا الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {بما نقول} أي: لو كان نبيناً لعذبنا الله بما نقول وقيل: قالوا إنه يردّ علينا ويقول: وعليكم السام فلو كان نبياً لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب {حسبهم} أي: كافيهم في الانتقام {جهنم} أي: الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة {يصلونها} أي: يقاسون عذابها دائماً، فإنا قد أعددناها لهم {فبئس المصير} أي: مصيرهم. {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة {إذا تناجيتم} أي: اطلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سرّاً {فلا تتناجوا} أي: توجدوا هذه الحقيقة {بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول} أي: الكامل في الرسالة كفعل المنافقين واليهود، وقال مقاتل: أراد تعالى بقوله: {آمنوا} المنافقين آمنوا بلسانهم، وقال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم، وقيل: يا أيها الذين آمنوا بموسى {وتناجوا بالبرّ والتقوى} أي: الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه {واتقوا الله} أي: اقصدوا قصداً يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية {الذي إليه} خاصة {تحشرون} أي: تجمعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير، لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية. {إنما النجوى} أي: المعهود وهي المنهي عنها {من الشيطان} أي: مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه {ليحزن} أي: الشيطان {الذين آمنوا} أي: ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق، يقال: حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس: أو أحزنه جعله حزيناً. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس {وليس} أي: الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي {بضارهم} أي: الذين آمنوا {شيأ} من الضرر وإن قلّ {إلا بأذن الله} أي: بمشيئة الملك المحيط علماً وقدرة. فإن قيل: كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله؟ أجيب: بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى: {لا يضرّهم الشيطان} والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي: بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم والغلبة على الغزاة {وعلى الله} أي: الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره {فيتوكل المؤمنون} أي: الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة، روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بأذنه فإنّ ذلك يحزنه» وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه» فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعاً فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة، أخرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله: من أجل أن يحزنه أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلاً، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه. قال القرطبي: وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك، وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث ولما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 المحبة والمودّة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: الذين اتصفوا بهذا الوصف {إذا قيل لكم} أي: من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته {تفسحوا} أي: توسعوا أي: كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع {في المجلس} أي: الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، قال قتادة ومجاهد: «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض» ، وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت» . فيكون كقوله تعالى: {مقاعد للقتال} (آل عمران: 121) وقال مقاتل «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون: والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ» فنزلت الآية يوم الجمعة وروي عن ابن عباس قال: «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوقر أي: الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت» وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم: يفتح الجيم، ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي: فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا، قال البغوي: لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق من موضعه» فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع {فافسحوا} أي: وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي: الذي له الأمر كله {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين. وقال الرازي: هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال: ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه. وإذا قيل: أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير {انشزوا} أي: ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد {فانشزوا} أي: فارتفعوا وانهضوا {يرفع الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء {منكم} أي: أيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم {والذين أوتوا العلم درجات} يجوز أن يكون معطوفاً على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي: تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان، وقال ابن عباس: تمّ الكلام عند قوله تعالى: {منكم} وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي: ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات. قال المفسرون: في هذه الآية أنّ الله تعالى رفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم، قال ابن مسعود مدح الله تعالى العلماء في هذه الآية، والمعنى: أنّ الله تعالى يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا بما أمروا به وقال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9) وقال تعالى: {وقل رب زدني علماً} (طه: 114) وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) والآيات في ذلك كثيرة معلومة وأمّا الأحاديث فكثيرة مشهورة منها من «يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وروي أنّ عمر رضى الله عنه «كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه فسألهم عن تفسير {إذا جاء نصر الله والفتح} فسكتوا فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم» . ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله ما لا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» والمراد بالحسد: الغبطة: وهي أن تتمنى مثله ومنها أنه صلى الله عليه وسلم «قال لعليّ كرّم الله وجهه: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة» ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» . ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وفي رواية كفضلي على أدناكم» . ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أني عليم أحب كل عليم» . ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها: «أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله تعالى ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون لله عز وجل ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعملون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل، وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم» والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً. وأمّا أقوال السلف فلا تحصر، فمنها ما قاله ابن عباس: أن سليمان عليه السلام خير بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وما قاله بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم. وما قاله الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل ما يصير. وما قاله الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال. وما قاله أبو مسلم الخولاني: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عنهم تحيروا. وما قاله معاذ: تعلم العلم فإنّ تعلمه لك حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة. وما قاله علي: العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق. وما قاله ابن عمر: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة. وما قاله الشافعي من أن: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وقال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم فإنه يحتاج إليه في كل منهما. وقد ذكرت في أوّل شرح المنهاج من الأحاديث ومن أقوال السلف ما يسرّ الناظر الراغب في الخير وفيما ذكرته هنا كفاية لأولي الأبصار {والله} أي: والحال أنّ المحيط بكل شيء علماً وقدرة {بما تعملون} أي: حال الأمر وغيره {خبير} أي: عالم بظاهره وباطنه فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء {إذا ناجيتم الرسول} أي: أردتم مناجاة الذي لا أكمل منه في الرسالة الآية، فقال ابن عباس: «إنّ المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكف كثير من الناس» . وقال الحسن: «أنّ قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه» . وقال زيد بن أسلم «إنّ المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته فكان ذلك يشق على المسلمين لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم يناجون أنّ جموعاً اجتمعت للقتال فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} » أي: أردتم مناجاته {فقدّموا} أي: بسبب هذه الإرادة وقوله تعالى: {بين يدي نجواكم} استعارة ممن له يدان والمعنى: قبل نجواكم التي هي سرّكم الذي تريدون أن ترفعوه {صدقة} لقول عمر من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته، والصدقة تكون لكم برهاناً على إخلاصكم كما ورد أنّ الصدقة برهان فهي مصدّقة لكم في دعوى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى. تنبيه: ظاهر الآية يدل على أنّ تقديم الصدقة كان واجباً لأنّ الأمر للوجوب ويؤكد ذلك قوله تعالى بعده: {فإنّ لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم} وقيل: كان مندوباً لقوله تعالى: {ذلك} أي: التصدّق {خير لكم وأطهر} أي: لأنفسكم من الريبة وحب المال هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 إنما يستعمل في التطوّع لا في الواجب ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه والكلام متصل به وهو قوله تعالى: {فإن لم تجدوا} الآية. وأجيب عن الأوّل: بأنّ المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فكذلك أيضاً يوصف بهما الواجب. وعن الثاني: بأنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متصلتين في القول كما قيل في الآية الدالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدّماً في التلاوة. وعن علي أنه قال: «لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: كم؟ قلت: حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد فلما رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا، أما الفقير فلعسرته وأما الغنيّ فلشحته» واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي: ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار ثم نسخ وقال مقاتل وابن حبان: بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ لما روي عن عليّ أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. وفي رواية عنه فاشتريت به عشرة دراهم وكلما ناجيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا فلم يناج أحد إلا علي تصدّق بدينار، وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئاً أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة ثم نزلت الرخصة. وعن ابن عمر رضى الله عنه كان لعليّ ثلاث لو كان لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى. واختلف في الناسخ لذلك فقيل: هي منسوخة بالزكاة وأكثر المفسرين أنها منسوخة بالآية التي بعدها وهي {أأشفقتم} كما سيأتي وكان عليّ يقول: وخفف عن هذه الأمة {فإن لم تجدوا} أي: ما تقدّمونه فإن الله أي الذي له جميع صفات الكمال {غفور رحيم} أي: له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف. وقوله تعالى: {أأشفقتم} أي: خفتم العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم {أن تقدّموا} أي: بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم {بين يدي نجواكم} أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم {صدقات} وجمع؛ لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أنّ النجوى تتكرّر استفهام معناه التقرير وهو الناسخ عند الأكثر كما مرّ. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام: بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما الفاء قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بتحقيقهما ولا إدخال والأولى محققة بلا خلاف {فإذ} أي: فحين {لم تفعلوا} أي: ما أمرتكم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق {وتاب الله} أي: الملك الأعلى {عليكم} أي: رجع بكم عنها بأن نسخها عنكم تخفيفاً عليكم {فأقيموا} أي: بسبب العفو عنكم شكراً أي: على هذا الكرم والحلم {الصلاة} التي هي طهرة لأرواحكم وصلة لكم بربكم {وآتوا الزكاة} التي هي براءة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة لكم بإخوانكم، ولا تفرّطوا في شيء من ذلك فتهملوه فالصلاة نور يهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ويعين على نوائب الدارين، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 ثم عمم بعد أن خصص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية بقوله تعالى: {وأطيعوا الله} أي: الذي له الكمال له {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمرانكم به، فإنه تعالى ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة {والله} أي: الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {خبير بما تعملون} أي: يعلم بواطنكم كما يعلم ظواهركم لا تخفى عليه خافية. {ألم تر} أي: تنظر يا أشرف الخلق {إلى الذين تولوا} أي: تكلفوا بغاية جهدهم وهم المنافقون أي جعلوا أولياءهم الذين يتولون لهم أمورهم {قوماً} وهم اليهود ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة {غضب الله} أي: الملك الأعلى الذي لا ندّله {عليهم} أي: المتولى والمتولى لهم {ما هم} أي: المنافقون {منكم} أي: المؤمنين {ولا منهم} أي: اليهود بل هم مذبذبون وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء بقوله تعالى: {ويحلفون} أي: المنافقون يجدّدون الحلف على الاستمرار ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجراءة على استمرارهم على الإيمان الكاذبة بأنّ التقدير مجترئين {على الكذب} في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان {وهم يعلمون} أنهم كاذبون متعمدون. روي «أنّ عبد الله بن نبتل كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل ابن نبتل وكان أزرق العينين أسمر قصيراً خفيف اللحية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت» . {أعد الله} أي: الذي له العظمة الباهرة فلا كفء له {لهم عذاباً} أي: أمراً قاطعاً لكل عذوبة {شديداً} أي: لا طاقة لهم به ثم علل عذابهم بما دلّ على أنه واقع في أتم مواقعه بقوله تعالى مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن فعالهم {إنهم ساء} أي: بلغ الغاية بما يسوء ودل على أنّ ذلك لهم كالجبلة بقوله تعالى: {ما كانوا يعملون} أي: يجدّدون عمله مستمرّين عليه لا ينفكون عنه، قال الزمخشري: أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة {اتخذوا أيمانهم} أي: الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان {جنة} وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان {فصدّوا} أي: كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاعهم الصدّ {عن سبيل الله} أي: شرع الملك الأعلى الذي هو طريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز العظيم فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهنون أمره ويحقرونه، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الخائنة ودرّت عليهم الأرزاق استدراجاً، وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونه من أقوالهم المؤكدة بالإيمان، غرّه ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ونسج على منوالهم غروراً بظاهر أمرهم معرضاً عما توعدهم الله تعالى عليه من جزاء خداعهم وأمرهم وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال تعالى: {فلهم} أي: فتسبب عن صدّهم إنه كان لهم {عذاب مهين} جزاء بما طلبوا بذلك الصدّ إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام {لن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 تغنى} أي: بوجه من الوجوه {عنهم أموالهم} أي: في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره {ولا أولادهم} أي: بالنصرة والمدافعة {من الله} أي: أغناه مبتدأ من الملك الأعلى {شيئاً} ولو قل جدّاً فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفذ ومضى لا يدفعه شيء تكذيباً لمن قال منهم: لئن كان يوم القيامة لنكوننّ أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننجونّ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا {أولئك} أي: البعداء من كل خير {أصحاب النار هم} أي: خاصة {فيها} أي: خاصة {خالدون} أي: دائمون لازمون إلى غير نهاية وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر أي: واذكر يوم {يبعثهم الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {جميعاً} فلا يترك أحداً منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان قبل موته {فيحلفون} أي: فيتسبب عن ظهور القدرة التامّة لهم ومعاينة ما كانوا يكذبون به أنهم يحلفون {له} أي: لله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين ونحو ذلك {كما يحلفون لكم} في الدنيا أنهم مثلكم، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: يحلفون لله تعالى يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وهو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين. {ويحسبون} أي: في القيامة بأيمانهم الكاذبة {أنهم على شيء} أي: يحصل لهم به نفع بإنكارهم وحلفهم، وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء، لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار والأول أظهر والمعنى: أنهم لشدّة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام: 28) وعن ابن عباس رضى الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله تعالى فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك إلهاً» قال ابن عباس رضى الله عنهما: صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا: {ويحسبون أنهم على شيء} » وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بفتح السين، والباقون بكسرها {ألا إنهم هم الكاذبون} المحكوم بكذبهم في حسبانهم هم والله القدرية ثلاثاً. {استحوذ} أي: استولى {عليهم الشيطان} مع أنه طريد ومحترق ووصل منهم إلى ما يريده وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وصار هو محيطاً بهم من كل جهة غالباً عليهم ظاهراً وباطناً من قولهم حذت الأبل وحذذتها إذا استوليت عليها، والحوذ أيضاً: السوق السريع ومنه الأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه، واستحوذ مما جاء على الأصل وهو ثبوت الواو دون قلبها ألفاً {فأنساهم} أي: فتسبب عن استحواذه عليهم أن أنساهم {ذكر الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {أولئك} أي: البعداء البغضاء {حزب الشيطان} أي: أتباعه وجنوده وطائفته وأصحابه {ألا إنّ حزب الشيطان} أي: الطريد المحترق {هم الخاسرون} أي: العريقون في هذا الوصف؛ لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق. {إن الذين يحادون الله} أي: يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفؤ له، فعل من ينازع آخر في الأرض فيغلب على طائفة ليجعل لها حداً لا يتعداه خصمه {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته {أولئك} أي: البعداء البغضاء {في الأذلين} أي: في جملة من هو أدل خلق الله تعالى. واختلف في معنى قوله عز وجلّ {كتب الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 فقال أكثر المفسرين أي: قضى الله عز وجلّ {لأغلبن} وقال قتادة: كتب في اللوح المحفوظ، وقال الفراء: كتب بمعنى قال وقوله تعالى: {أنا} تأكيد {ورسُلي} أي: من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى. وقال مقاتل: قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عدداً وأشدّ بطشاً من أن تظنوا فيهم فنزل {لأغلبن أنا ورسلي} . ونظيره قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 171 ـ 173) وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الياء والباقون بالسكون {إن الله} أي: الذي له الأمر كله {قويّ} أي: على نصر أوليائه {عزيز} أي: لا يغلب عليه في مراده. ثم نهى تعالى عن موالاة أعداء الله تعالى بقوله سبحانه {لا تجد} أي: بعد هذا البيان {قوماً} أي: ناساً لهم قوة على ما يريدون {يؤمنون} أي: يجددون الإيمان ويديمونه {بالله} أي: الذي له صفات الكمال {واليوم الآخر} الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل الذي هو محط الحكمة {يوادّون} أي: يحصل منهم ودّ لا ظاهراً ولا باطناً {من حادّ الله} أي: عادى بالمناصبة في حدود الملك الأعلى {ورسوله} فإن من حادّه فقد حادّ الذي أرسله بل لا تجدهم إلا يحادّونهم لا أنهم يوادّونهم. وزاد ذلك تأكيداً بقوله تعالى: {ولو كانوا آباؤهم} أي: الذين أوجب الله تعالى إلا بناء طاعتهم في المعروف، وذلك كما فعل أبو عبيدة بن الجراح حيث قتل أباه عبد الله بن الجرّاح يوم أحد {أو أبناءهم} أي: الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم، كما فعل أبو بكر «فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة وقال: دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» {أو إخوانهم} أي: الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخزف سعد بن أبي وقاص غير مرّة فراغ منه روغان الثعلب فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: أتريد أن تقتل نفسك. وقتل محمد بن سلمة الأنصاري أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير {أو عشيرتهم} أي: الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما قتل عمر خاله العاصي وهشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وعن الثوري: أنّ السلف كانوا يرون أنّ الآية نزلت فيمن يصحب السلطان ا. هـ. ومدار ذلك على أنّ الإنسان يقطع رجاء من غير الله تعالى، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه. تنبيه: قدّم الآباء أوّلاً لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها، ثم ثلث بالأخوان لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع. قال الشاعر: *أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح *وإن ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح ثم ربع بالعشيرة لأنّ بها يستغاث وعليها يعتمد، والمعنى: أنّ الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ومع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطروحاً بسبب الدين. قال ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجرّاح لما قتل أباه، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه لما قتل خاله العاصي ابن هشام يوم بدر روي أنها نزلت في أبي بكر، وذلك أنّ أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه صكةً سقطت منها أسنانه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: أو فعلت، قال: نعم، قال: لا تعد إليه، فقال: والذي بعثك بالحق نبياً لو كان السيف مني قريباً لقتلته، فهؤلاء لم يوادّوا أقاربهم. قال القرطبي: استدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم، قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم. وعن عبد العزيز بن أبي دواد: أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلا الآية. وقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر} الآية {أولئك} أي: العالو الهمة {كتب} أي: أثبت قاله الربيع بن أنس رضى الله عنه، وقيل: خلق، وقيل: جعل كقوله تعالى: {فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران: 53) أي: اجعلنا، وقوله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156) وقيل: {كتب في قلوبهم الإيمان} (طه: 71) بما وفقهم فيه وشرح له صدرهم، أي: على قلوبهم كقوله تعالى: {في جذوع النخل} وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. قال البيضاوي: وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزاء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. {وأيدهم} أي: وقوّاهم وشدّدهم وشرّفهم {بروح} أي: نور شريف جدّاً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من نور العلم والعمل {منه} أي: من الله تعالى أحياهم به فلا إنفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات، فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً وباطناً، فعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسراج، فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه لا بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه، أوداهن مبتدعاً في عقيدته نزع الله تعالى نور التوحيد من قلبه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به وقال ابن عباس رضى الله عنهما: نصرهم على عدوّهم، وسمى تلك النصرة روحاً، لأنّ بها يحيا أمرهم. وقال الربيع بن أنس رضى الله عنه: بالقرآن وحججه، وقال ابن جريج: بنور وبرهان وهدى، وقيل: برحمة، وقيل: أيدهم بجبريل عليه السلام {ويدخلهم جنات} أي: بساتين تستر داخلها من كثرة أشجارها. وأخبر عن ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي قصورها {الأنهار} فهي بذلك كثيرة الرياض والأشجار وقال تعالى: {خالدين فيها} لأنّ ذلك لا يلذ إلا بالدوام، وقال تعالى: {رضى الله} أي: الملك الأعظم {عنهم} لأنّ ذلك لا يتم إلا برضا مالكها الذي له الملك كله {ورضوا عنه} أي: لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون {أولئك} أي: الذين هم في الدرجات العلى من العظمة لكونهم قصروا ودّهم على الله تعالى، علماً منهم بأنه ليس الضرّ والنفع إلا بيده {حزب الله} أي: جند الملك الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ألا إنّ حزب الله} أي: جند الملك الأعلى، وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم {هم المفلحون} أي: الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضا من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الإنفكاك عن السعادة فأغنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد. فائدة: هذه السورة نصف القرآن عدداً، وليس فيها آية إلا وفيها ذكر الجلالة الكريمة مرة أو مرتين أو ثلاثاً. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله تعالى يوم القيامة حديث موضوع. والله تعالى أعلم. سورة الحشر مدنية في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربعمائةوخمس وأربعون كلمة، وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفاً {بسم الله} الملك الأعظم الذي لا خلف لميعاده {الرحمن} الذي عمت نعمة إيجاده {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بالتوفيق فهم أهل السعادة. ولما ختمت المجادلة بأنه يعز أهل طاعته ويذل أهل معصيته تنزه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال تعالى: {سبح} أي: أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص {لله} الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ما في السموات} أي: كلها {وما في الأرض} أي: كذلك، وقيل: أن اللام مزيدة، أي: نزهة وأتى بما تغليباً للأكثر، وجمع السماء لأنها أجناس. قيل: بعضها من فضة وبعضها من غير ذلك، وأفراد الأرض لأنها جنس واحد {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء، ولا يمتنع عليه شيء {الحكيم} الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن، وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً، وإلى بيان ماله من العزة والحكمة سبيلاً. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها، قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدراً وظهر على المشركين قالوا: هو النبيّ الذي نعته في التوراة لا تردّ له راية، فلما غزا أحد وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما عاقد عليه كعب وأبو سفيان، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة فلما سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: يا محمد واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، قال: نعم، قالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا من المدينة، فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال، ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 خرجتم لنخرجنّ معكم، فدربوا على الأزفة وحصنوها، ثم إنهم اجمعوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعون منك، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا كلنا. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض، قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون من رجال أصحابه كلهم يحب الموت قبله، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلاً اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم. فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاء من متاعهم، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي. وقال الضحاك: على كل ثلاثة نفر بعيراً ووسقاً من طعام. ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين من آل بني الحقيق، وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة. فذلك قوله تعالى: {هو} أي: وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب {الذي أخرج} أي: على وجه القهر {الذي كفروا} أي: ستروا ما في كتبهم من الشواهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبيّ الخاتم، وما في فطرتهم الأولى من اتباع الحق {من أهل الكتاب} أي: الذي أنزله الله تعالى على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير. وفي التعبير بكفروا إشعار بأنهم الذي أزالوا بالتبديل والإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة {من ديارهم} أي: مساكنهم بالمدينة عقوبة لهم، لأنّ الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح فكان الخروج منه في غاية العسر. قال ابن اسحق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان {لأول الحشر} هو حشرهم إلى الشام. وآخره أن جلاهم عمر في خلافته إلى خيبر. قال سمرة الهمداني: كان أوّل الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر وقال القرطبي: الحشر الجمع، وهو على أربعة أضرب: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله تعالى قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أوّل حشر في الدنيا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 الشام، قال ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهم: من شك أنّ المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا قالوا إلى أين، قال: إلى أرض الحشر» قال قتادة: هذا أول الحشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من داره. وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح. وذكروا أنّ تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار. وقال ابن العربي: للحشر أوّل ووسط وآخر، فالأوّل: جلاء بني النضير، والأوسط: جلاء خيبر، والآخر: حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة وخالفه بقية المفسرين، وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي {ما ظننتم} أيها المؤمنون {أن يخرجوا} أي: يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدّة بأسهم وقرب بني قريظة منهم وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم، وكلهم أهل ملتهم والمنافقون من أنصارهم فخابت ظنونهم في جميع ذلك {وظنوا أنهم} وقوله تعالى: {ما نعتهم حصونهم} فيه وجهان: أحدهما: أن تكون حصونهم مبتدأ، وما نعتهم خبر مقدّماً، والجملة خبر أنهم. الثاني: أن تكون مانعتهم خبر أنهم، وحصونهم فاعل به نحو إنّ زيداً قائم أبوه، وإنّ عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى لأنّ في نحو قائم زيد على أن يكون خبراً مقدّماً ومبتدأ مؤخراً خلافاً، والكوفيون يمنعونه فمحل الوفاق أولى. وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه. قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معها بأحد يتعرّض لهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم ا. هـ. وهذا الذي ذكره إنما يتأتى على الإعراب الأوّل، وقد تقدّم أنه مرجوح ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه الأعظم بقوله تعالى: {من الله} أي: الملك الأعظم الذي لا عز إلا له {فأتاهم الله} أي: جاءهم الملك الأعظم الذي لا يحتملون مجيئه {من حيث لم يحتسبوا} بما صوّر لهم من حقارة أنفسهم على حبسها، وهي خذلان المنافقين رعباً كرعبهم. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بفتحها {وقذف} أي: أنزل إنزالاً كأنه قذف بحجارة فثبت {في قلوبهم الرعب} أي: الخوف الذي سكنها بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة. وقرأ في قلوبهم الرعب، وعليهم الجلاء، ولأخوانهم الذين حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمر وبكسرهما، والباقون بكسر الهاء وضم الميم، وحرّك العين بالضم ابن عامر والكسائي، والباقون بالكسون ثم بين تعالى حالهم عند ذلك وفسر قذف الرعب بقوله تعالى: {يخربون بيوتهم} أي: لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره. وقرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء، والباقون بسكون الخاء وتخفيف الراء وهما بمعنى، لأنّ خرب عدّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة. وعن أبي عمر وأنه فرق بمعنى آخر فقال: خرّب بالتشديد هدم، وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الموضع خراباً وذهب عنه، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 قول الفرّاء. قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجهاً، وزعم سيبويه أنهما متعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو: فرحته وأفرحته. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها {بأيديهم وأيدي المؤمنين} قال الزهري: وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أنّ لهم ما أقلت الأبل، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم فيهدمونها، وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم، ويخرّب المؤمنون باقيها. وقال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا ما خرّب من حصنهم. وقال مقاتل: إنّ المنافقين أرسلوا إليهم أن لا تخرجوا ود ربوا عليهم الأزقة، وكان المسلمون سائر الجوانب. فإن قيل: ما معنى تخريبها لهم بأيدي المؤمنين؟ أجيب: بأنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه. وقال أبو عمرو بن العلاء: بأيديهم في تركهم لها، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك قوله {فاعتبروا} أي: احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ. وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال: السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمل بقوله تعالى: {يا أولي الأبصار} بالنظر بإبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته. {ولولا أن كتب الله} أي: فرض فرضاً حتماً الملك الذي له الأمر كله {عليهم الجلاء} أي: الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الجلاء، وجعله على يده صلى الله عليه وسلم فأجلاهم، فذهب بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة تنبيه:: قال الماوردي: الجلاء أخص من الخروج، لأنه لا يقال إلا للجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد. وقال غيره: الفرق بينهما أنّ الجلاء ما كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك {لعذبهم} أي: بالقتل والسبي {في الدينا} كما فعل بقريظة من اليهود {ولهم} أي: على كل حال أجلوا أو تركوا {في الآخرة} التي هي دار البقاء {عذاب النار} وهو العذاب الأكبر. {ذلك} أي: الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا، ويفعله بهم في الآخرة {بأنهم شاقوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعدما كانوا الموادعين {و} شاقوا {رسوله} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 الذي إجلاله من إجلاله {ومن يشاق الله} أي: يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال {فإن الله} أي: المحيط بجميع العظمة {شديد العقاب} وذلك كما فعل بأهل خيبر. وقوله تعالى: {ما} شرطية في موضع نصب بقوله تعالى: {قطعتم} وقوله تعالى: {من لينة} بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى: {من لينة} فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقاً، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة: *كان قتودي فوقها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها* وقال الزهري: هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقال جعفر بن محمد: هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة، والعتيق: الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان: هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضرس النخلة منها أحب إليهم من وصيف. وقيل: هي النخلة الكريمة، أي: القريبة من الأرض. وقيل: هي الفسيلة، أي: بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل: هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي: هي الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الأزهري ومالك، وجمع اللينة لين؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسر ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى: {أوتركتموها قائمة} عائد على معنى ما. ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى: {على أصولها فبأذن الله} أي: فقطعها بتمكين الملك الأعظم، روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الأثم، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال: «حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع» واللام في قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين} متعلقة بمحذوف، أي: وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد، وليسر المؤمنين ويعزهم، وليخزي الفاسقين. فإن قيل: لم خصت اللينة بالقطع؟ أجيب: بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ. واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها، وأن ترمى بالمناجيق، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود: أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال، وروي: أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا تركتها لرسول الله صلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 الله عليه وسلم وقال: هذا قطعتها غيظاً للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضور النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضوره صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأدلة للكفار ودخولاً للأذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار، وذلك قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين} {وما أفاء الله} أي: ردّ الملك الذي له الأمر كله ردّاً سهلاً بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة {على رسوله} فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلماً وعدواناً، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها {منهم} أي: ردّاً مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز، وكذا الجزية وعشر تجارتهم، وما جلوا أي: تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم. وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا من الحربيين مما هو لهم بايجاف حتى ما حصل بسرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة. ولم تحل الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه فتأتي نار من السماء فتأخذه، ثم أحلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة، لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقرّ الأمر على ما هو في سورة الأنفال في قوله تعالى: {واعلموا إنما غنمتم من شيء} (الأنفال: 41) الآية وأما الفيء فهو مذكور هنا بقوله تعالى: {فما أوجفتم} أي: أسرعتم يا مسلمين {عليه} ومن في قوله تعالى: {من خيل} مزيدة، أي: خيلاً، وأكد بإعادة النافي دفعاً لظن من ظنّ أنه غنيمة لأحاطتهم به بقوله تعالى: {ولا ركاب} والركاب الإبل غلب ذلك عليها من بين المركوبات، واحدها راكبة ولا واحد لها من لفظها. وقال الرازي: العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، والمعنى: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، فإنها كانت من المدينة على ميلين، قاله الفرّاء فمشوا إليها مشياً، ولم يركبوا إليها خيلاً ولا إبلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف فافتتحها صلحاً. قال الرازي: إنّ الصحابة طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين، وأنّ الغنيمة هي التي تعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأمّا الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان الأمر مفوّضاً فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء {ولكن الله} أي: الذي له العز كله فلا كفؤ له {يسلط رسله} أي: له هذه السنة في كل زمن {على من يشاء} يجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه {والله} أي: الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} يصح أن تتعلق المشيئة به، وهو كل ممكن من التسليط وغيره {قدير} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 أي: بالغ القدرة إلى أقصى الغايات فلا حق لكم فيه، ويختص به النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة، على ما كان عليه القسمة من أنّ لكل منهم خمس الخمس وله صلى الله عليه وسلم الباقي يفعل فيه ما يشاء ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى: {ما أفاء الله} أي: الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة {على رسوله من أهل القرى} أي: قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح فقوله تعالى: {فلله} أي: الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم {وللرسول} أي: الذي عظمته من عظمته تعالى، وقد تقدم ما كان له صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده صلى الله عليه وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين، وسد ثغور، وقضاة، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس، يقدّم وجوباً الأهمّ فالأهمّ. وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى الله عليه وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى: {ولذي القربى} أي: منه، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد، وشبك بين أصابعه» فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى العباس وكان غنياً، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى. ثانيها: المذكور في قوله تعالى: {واليتامى} أي: الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام» رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له، وإن كان له أمّ. وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له: منقطع. ثالثها: المذكور في قوله تعالى: {والمساكين} الصادقين بالفقراء، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى: {ابن السبيل} أي: الطريق الفقير منا ذكوراً كانوا أو إناثاً، ولو اجتمع في واحد من هذا الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالأعطاء وجوباً لعموم الآية فلا يخص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 الحاضر بموضع حصول الفيء، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّاً بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج، ولا يعمّ للضرورة. ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه، أو لخدمته إن كان ممن يخدم، ويعطي مؤنته. ومن يقاتل فارساً ولا فرس له يعطي من الخيل ما يحتاجه للقتال، ويعطى مؤنته بخلاف الزوجات يعطى لهنّ مطلقاً لانحصارهن في أربع، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء. وقيل: يملكه هو ويصير إليهما من جهته، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا، ويسنّ أن يضع الإمام ديواناً وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفاً، وأن يقدّه في اسم وإعطاء قريشاً لشرفهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ولخبر قدّموا قريشاً، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسائر العرب فالعجم، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه، ويمحى اسم كل من لم يرج، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح، وله أيضاً: قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته. ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى: {كي لا يكون} أي: الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه، ومن حقه أن يعطاه الفقراء {دولة} أي: متداولاً {بين الأغنياء منكم} أي: يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية، فإنهم كانوا يقولون: من عزيز، ومنه قول الحسن: اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، يريد: من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع، والباقون بالتذكير والنصب، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان؛ لأنه تأنيث مجازي، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء. والتذكير واجب لتذكير المرفوع، ودولة خبرها، وقيل: دولة عائد على ما اعتباراً بلفظها، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم {وما آتاكم الرسول} أي: وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة، أو مال الفيء أو غيره {فخذوه} أي: فاقبلوه لأنه حلال لكم، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة {وما نهاكم عنه} أي: من جميع الأشياء {فانتهوا} لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 ولا يفعل إلا ما أمر ربه عز وجل. تنبيه: هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى لأنّ الآية، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها. قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك هذا، فقال الرجل: تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى، قال: نعم {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضى الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: فقلت له: أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، قال: فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل الزنبور. وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدى فيه بعمر، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله صلى الله عليه وسلم فجواز قتله من الكتاب والسنة. وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار؟ فقال: في سورة النساء في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (النساء: 59) وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه الحديث. فائدة: الوشم: هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة، ثم يحشى بالكحل. والمستوشمة، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك، والنامصة: هي التي تنتف الشعر من الوجه، والمتفلجة: هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء {واتقوا الله} أي: واجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق {شديد العقاب} أي: العذاب الواقع بعد الذنب. قال البقاعي ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدّة. وقوله تعالى: {للفقراء} أي: الذين كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد وماله دثار غيرها بدل من لذي القربى، وما عطف عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 قاله الزمخشري. والذي منع الإبدال من لله وللرّسول والمعطوف عليهما وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ الله تعالى أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراء في قوله تعالى: {وينصرون الله ورسوله} ولأنه تعالى يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقير، وقال غيره: إنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولكن الفيء للفقراء. وقيل تقديره: ولكن يكون للفقراء، وقيل تقديره: أعجبوا للفقراء، واقتصر على هذا التقدير الجلال المحلى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من لذي القربى لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيء، ولذا قال البيضاوي: ومن أعطى أغنياء ذوي القربى، أي: كالشافعي خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير ا. هـ. أوانهم كانوا عند نزول الآية كذلك، ثم خصص بالوصف بقوله تعالى: {المهاجرين} وقيد ذلك بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} لأنّ الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غيره مفارقة الوطن وقوله تعالى: {وأموالهم} إشارة إلى أنّ المال لما كان يستره الإنسان كان كأنه ظرف له ولما كان طلب الدنيا من النقائص بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون فادحاً في الإخلاص فقال تعالى: {يبتغون} أي: اخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد، وبين أنه لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء بقوله تعالى: {فضلاً من الله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له، لأنه المختص بجميع صفات الكمال فيغنيهم بفضله عمن سواه {ورضوانا} بأن يوفقهم لما يرضيه عنهم، ولا يجعل رغبتهم في العوض منه فادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته وقرأ شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها {وينصرون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار {الله} أي: دين الملك الأعظم {ورسوله} الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان {أولئك} أي: العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة {هم الصادقون} أي: العريقون في هذا الوصف، لأنّ مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث نابدوا من عاداهما، ووالوا أولياءهما وإن بعدت دارهم وشط مزارهم ثم اتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى: {والذين تبوّؤا} أي: جعلوا بغاية جهدهم {الدار} أي: الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم. وفي قوله تعالى: {والإيمان} أوجه: أحدها: أنه ضمن تبوّؤا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ. ثانيها: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا كقول القائل: علفتها تبناً وماء بارداً. وقول الآخر: ومقلداً سيفاً ورمحاً. ثالثها: أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور. رابعها: أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه. خامسها: أن يكون سمى المدينة به، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان، قال: هذين الوجهين الزمخشري، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى: {فإنّ الجنة هي المأوى} (النازعات: 41) أي: مأواه، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف، أي: المأوى له. وأما كونها عوضاً عن المضاف إليه، فقال ابن عادل: لا نعرف فيه خلافاً. سادسها: أنه منصوب على المفعول معه، أي: مع الإيمان. قال وهب: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ {والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم} أي: وهم الأنصار {يحبون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار {من هاجر} وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى: {إليهم} لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه {ولا يجدون في صدورهم} أي: التي هي مساكن قلوبهم فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم {حاجة} قال الحسن: حسداً وحزازة وغيظاً {مما أوتوا} أي: آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية. فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين، وفي أوتوا للمهاجرين. وقيل: إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى: ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة، تقول: خذ منه حاجته، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري: والضميران على ما تقدم، وقال أبو البقاء: مس حاجة، أي: أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤا الدار والإيمان. قال القرطبي: كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصال وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال صلى الله عليه وسلم «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم» فقال سعد بن عبادة، وسعد ابن معاذ: بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل: {ويؤثرون على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى: {ولو كان} أي كونا هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي: فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به. روي عن أبي هريرة أن رجلاً بات به ضيف، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفىء السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضاً قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال: لامرأته هل عندك شيء؛ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج» وذكر نحو الحديث الأول. وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له: أبو المتوكل، ولم يكن عنده إلا قوته. وذكر القشيري قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إنّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية. وذكر القرطبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت. فإن قيل: قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب: بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى: {والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس} (البقرة: 177) فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي «أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة فرماه بها، وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس» والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال: والجود بالنفس أعلى غاية الجود، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك» ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول: آه، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم، فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ فقلت: وما حد الزهد عندكم، فقال: إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا. وسأل ذو النون ما حد الزهد قال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك تطلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه {ومن يوق شح نفسه} أي: يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده حريصاً على ما عند غيره حسداً. قال ابن عمر الشح: أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . وقال القرطبي: الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك، وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه. روى الأموي عن ابن مسعود: أنّ رجلاً أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك قال سمعت الله يقول: ومن يوق شح نفسه، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود: ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل، ففرق بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع، وقال بعضهم: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال ابن جبير: الشح منع الزكاة، وادخار الحرام وقال ابن عيينة: الشح الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان، فذلك الشحيح وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه. وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «برىء من الشح من أدى الزكاة، وأقرى الضيف، وأعطى في النائبة» وعنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها» وقال ابن الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له: فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قال القرطبي: ونزل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماؤهم واستحلوا محارهم» وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً» وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر، فقال: الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً {فأولئك} أي: العالو المنزلة {هم المفلحون} أي: الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري: ومجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر من أسرته الأخطار ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى: {والذين جاؤوا} أي: من أي طائفة كانوا {من بعدهم} أي بعد المهاجرين والأنصار، وهم من آمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 بعد انقطاع الهجرة بالفتح، وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة {يقولون} على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا {اغفر لنا} أي: أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها {ولأخواننا} أي: في الدين فإنهم أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم {الذين سبقونا بالإيمان} قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل: المهاجرين، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن مهاجراً، فإن قلت: لا أجد فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى. وقال مصعب بن سعد: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول في عثمان فقال له يا أخي أنت من قوم قال الله تعالى فيهم: {للفقراء المهاجرين} الآية، قال: لا، قال: فأنت من قوم قال الله تعالى فيهم: {والذين تبوؤا الدار والإيمان} الآية، قال: لا، قال: فو الله إن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجنّ من الإسلام، وهي قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية وروي أنّ نفراً من أهل العراق جاؤوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم، فقالوا: لا فقال: من الذين تبؤوا الدار والإيمان، قالوا: لا قال: فقد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} قوموا فعل الله بكم وفعل. تنبيه: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيهم شراً أنه لا حق له في الفيء. قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه لهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية، وهي عامة في جميع التابعين الآتين بعدهم إلى يوم القيامة. يروى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت لو رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض» فبين صلى الله عليه وسلم أن أخوانه كان من أتى بعدهم كما قال السدي والكلبي: إنهم الذي هاجروا بعد ذلك، وعن الحسن أيضاً: أنّ الذين جاؤوا من بعدهم من قصد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة، وإنما بدؤوا في الدعاء بأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك» وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سألت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب موسى، وسألت الأنصار من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب عيسى، وسألت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 آخرها أوّلها» أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة {ولا تجعل في قلوبنا غلاً} أي: ضغناً وحسداً وحقداً، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام {للذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم: {إنك رؤوف} أي: راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير {رحيم} مكرم غاية الإكرام لمن أردت، ولو لم يكن له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة. فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة، والباقون بمدها ولما ذكر حال المؤمنين اتبعهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى: {ألم تر} أي: تعلم علماً هو في غاية الجزم كالمشاهدة يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف العالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: {إلى الذين نافقوا} أي: أظهروا غيرما أضمروا وبالغوا في إخفاء عقائدهم، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من الضب في نافقائه وقاصعائه وصور حالهم بقوله تعالى: {يقولون لأخوانهم الذين كفروا} أي: غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق {من أهل الكتاب} وهم اليهود من بني قريظة والنضير. والأخوان هم الأخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً: أحدها: الأخوة في الآخرة لأنّ اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وثانيها: الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة. وثالثها: الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لليهود: {لئن أخرجتم} أي: من مخرجّ ما من المدينة {لنخرجن معكم} أي: منها {ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم {أحداً} أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم: {أبداً} أي: ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب {وإن قوتلتم} أي: من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا {لننصرنكم} أي: لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم. ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى: {والله} أي: يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يشهد إنهم} أي: المنافقين {لكاذبون} أي: فيما قالوا ووعدوا، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى: {لئن أخرجوا} أي: بنو النضير من أي مخرج كان {لا يخرجون} أي: المنافقون {معهم} أي: حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى: {ولئن قوتلوا} أي: اليهود من أيّ مقاتل كان، فيكف بأشجع الخلق وأعلمهم صلى الله عليه وسلم {لا ينصرونهم} أي: المنافقون. ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معاً القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموفقين {ولئن نصروهم} أي: المنافقون في وقت من الأوقات {ليولنّ} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 المنافقون ومن ينصرونه. وحقرهم بقوله تعالى: {الأدبار} أي: ولقد قدر وجود نصرهم لولوا الأدبار منهزمين {ثم لا ينصرون} أي: يتجدّد لفريقيهم، ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات. ولم يزل المنافقون واليهود في الذل. {لأنتم} أيها المؤمنون {أشد رهبة} أي: خوفاً {في صدورهم} أي: اليهود ومن ينصرهم {من الله} أي: لتأخير عذابه، وأصل الرهبة والرهب: الخوف الشديد مع حزن واضطراب، والمعنى: أنهم يرهبونكم ويخافون منكم أشد الخوف، وأشد من رهبتهم من الله لما مرّ. {ذلك} أي: الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف لرؤيتهم له، وعدم خوفهم من الخالق على ماله من العظمة في ذاته، ولكونه غنياً عنهم {بأنهم قوم} أي: على ما لهم من القوة {لا يفقهون} أي: لا يتجدّد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات، فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أنّ الله تعالى هو الذي ينبغي أن يخشى لا غيره، بل هم كالأنعام لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات. والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة. {س59ش14/ش19 يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِs فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُر?? بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ? تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ s يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا? ذَاقُوا? وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِ?نسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِى?ءٌ مِّنكَ إِنِّى? أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا? وَذَالِكَ جَزَا?ؤُا? الظَّالِمِينَ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? اتَّقُوا? اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ? وَاتَّقُوا? اللَّهَ? إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ? بِمَا تَعْمَلُونَ * وَتَكُونُوا? كَالَّذِينَ نَسُوا? اللَّهَ فَأَنسَـ?ـاهُمْ أَنفُسَهُمْ? أُو?لَا??ـ?ِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {لا يقاتلونكم} أي: اليهود والمنافقون {جميعاً} أي: قتالاً تقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن {إلا في قرى محصنة} أي: ممتنعة بحفظ الدروب، وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها {أو من وراء جدر} أي: محيط بهم سواء كان بقرية أم بغيرها لشدّة خوفهم، وقد أخرج هذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كالأسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك فإنه لم يكن عن اجتماع أو يكون هذا خاصاً ببني النضير في هذه الكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر وبكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها وأمال الألف أبو عمرو، والباقون بضم الجيم والدال {بأسهم} أي: حربهم {بينهم شديد} أي: بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضاً شديدة. وقيل: بأسهم بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تعالى: {تحسبهم} أي: اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق، أو يا أيها الناظر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسر السين، والباقون بفتحها {جميعاً} لما هم فيه من اجتماع الأشباح {وقلوبهم شتى} أي: متفرقة أشدّ افتراقاً، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب. قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد، وموجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمة، والتساوي في القصد موجب كل ظفر، وكل سعادة. وقرأ شتى الحسن وحمزة والكسائي بالإمالة محصنة، وورش بالفتح وبين اللفظين وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وهي على وزن فعلى {ذلك} أي: الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يحيل الاجتماع {بأنهم قوم} أي: مع شدتهم {لا يعقلون} فلا دين لهم مثلهم في ترك الإيمان. {كمثل الذين من قبلهم قريباً} أي: بزمن قريب، وهم كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأساً شديداً عندما قصدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أثر غزوة بدر، فوعظهم وحذرهم بأس الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 فقالوا: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم أما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فراودوها عن كشف وجهها فأبت، فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها فلما قامت انكشف سوقها فصاحت، فغار لها شخص من الصحابة فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها، فقتلوه فانتقض عهدهم فأنزل الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بساحتهم فأذلهم الله تعالى، ونزلوا من حصنهم على حكمه صلى الله عليه وسلم وقد كانوا حلفاء ابن أبي، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم، فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء. {ذاقوا وبال أمرهم} أي: عقوبته في الدنيا من القتل وغيره {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة مثلهم أيضاً في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم {كمثل الشيطان} أي: البعيد من كل خير لبعده من الله تعالى المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين {إذ قال للإنسان} وهو هنا مثل اليهود {اكفر} أي: بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباعه الشهوات القائم مقام الأمر {فلما كفر} أي: أوجد الإنسان الكفر على أيّ وجه. ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه. {قال} أي: الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين {إني بريء منك} أي: ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً ظناً منه أنّ هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لآمره، وذلك مثل ضربه الله تعالى للمنافقين واليهود في انخذالهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف ولم يقل وكمثل الشيطان لأنّ حذف العطف كثير. كقولك: أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم، وقوله {كمثل الشيطان} كالبيان لقوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم} روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ الإنسان الذي قال له الشيطان: راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان، فوعده إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه» وروى عطاء وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: كان راهب يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال: ألا أجد فيكم من يكفيني برصيصا فقال له: الأبيض وهو صاحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الذي تصدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبريل عليه السلام ليوسوس إليه على وجه الوحي، فدفعه جبريل عليه السلام إلى أقصى أرض الهند، فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره فانطلق فتزيا بزيّ الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرّة ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة فلما رآه الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العباد في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم على نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك حين ناديتني كنت مشتغلاً عنك فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتأدب بأدبك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وتدعو لي، وأدعو لك فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيباً إن استجاب الله لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً، فلما التفت بعدها رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض، قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولاً يتعبد فلا يفطر إلا في كل أربعين يوماً مرة، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض برصيصا إن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما رأيت، وكان بلغنا عنك أنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد، وكره مفارقته للذي رآه من شدة اجتهاده فلما ودعه الأبيض قال له: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه، يشفي الله تعالى بها المريض، ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: أني أكره هذه المنزلة لأن في نفسي شغلاً، وإني أخاف إن علم به الناس يشغلوني عن عبادة ربي عز وجل، فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: والله قد أهلكت الرجل. فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فجننه، ثم جاءه في صورة رجل مطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال: إني لا أقوى على جنيته، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه. انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا به إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل، وكان لها ثلاثة أخوة، وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل قصد لها وخنقها، ثم جاء إليهم في صورة رجل مطبب فقال أفأعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده، إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتردونها صحيحة، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصاً، قالوا: كيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك، قال: ابنوا صومعة إلى جنب صومعته، ولتكن لزيق صومعته حتى يشرف عليها فإن قبلها وإلا فتضعونها في صومعتها، ثم قولوا له: هي أمانة عندك فاحتسب أمانتك. فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض، ووضعوا الجارية في صومعتها، وقالوا: يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين الجارية، وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه، ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا، فجاء الشيطان وقال: ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك، ويتم لك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب، فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها ولم أقو عليه، فدخل فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلاً فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجاً من التراب، ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته؛ إذ جاء أخوتها يتعهدون أختهم، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فلما لم يجدوها قالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك فتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط له ما قال الأكبر ولم يخبر به أحداً، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال الأصغر لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط: أنا والله رأيت مثله، وقال الأكبر: أنا والله رأيت مثله. فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له: ما فعلت بأختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني، فقالوا: والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا، فجاءهم الشيطان، وقال: ويحكم إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فذهبوا إليه ومعهم غلمانهم ومواليهم بالفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها وكتفوه ثم أتوا به إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان أتاه فقال: تقتلها، ثم تكابر فيجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصاً تعرفني، قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك أما اتقيت الله تعالى في الأمانة خنت أهلها، وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحيت فلم يزل يعيره، ثم قال: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وأشباهك من الناس، فإن مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظائرك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، فأخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال: وما هي؟ قال: تسجد لي، قال: أفعل فسجد له فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني برئ منك» . { إني أخاف الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بسكونها {رب العالمين} أي: الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيأ إلا بإذنه. {فكان} أي: فتسبب عن قوله ذلك أنه كان {عاقبتهما} أي: الغار والمغرور {أنهما في النار} حال كونهما {خالدين فيها} لأنهما ظلما ظلماً لا فلاح معه {وذلك} أي: العذاب الأكبر {جزاء الظالمين} أي: كل من وضع العبادة في غير موضعها، أو هم الكافرون لقوله تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13) قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: ضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير، والمنافقين من أهل المدينة فدس المنافقون إليهم، وقالوا: لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم إليه، ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم فأجابوهم، وإن أخرجوكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فناصبوهم الحرب فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصاً، وخذله فكان عاقبة الفريقين في النار. قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: وكانت الرهبان بعد ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان، وطمع أهل الفسوق في الأحبار، ورموهم بالبهتان حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله تعالى مما رموه به انبسطت بعده الرهبان، وظهروا للناس وكانت قصة جريج ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتت أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال رب أمي وصلاتي وأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته، فقال: مثل مقالته الأولى فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: زنيت بهذه البغي فحلمت منك، فقال: أين الصبيّ فجاؤوا به، فقال: دعوه حتى أصلي فلما انصرف من صلاته أتى الصبيّ وطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك، فقال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. والثالث: كلم أمه وهي ترضعه في قصة مشهورة» . {يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان باللسان {اتقوا الله} أي: اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، واحذروا عقوبته بسبب التقصير فيما حدّه لكم من أمر أو نهي {ولتنظر نفس ما قدّمت لغد} أي: في يوم القيامة لأنّ هذه الدنيا كلها كيوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت والآخرة لا بدّ من كل منهما، وكل ما لا بدّ منه فهو في غاية القرب، والعرب تكني عن المستقبل بالغد. وقيل: ذكر الغد تنبيهاً على أنّ الساعة قريبة كقول القائل: وإنّ غداً لناظره قريب. وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد، لأنّ كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى {ما قدمت} أي: من خير أو شر، ونكر النفس لاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال: الغد لا تعرف كميته لعظمته. وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال تأكيد. وقيل: كرّر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري {إن الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {خبير} أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة {بما تعملون} فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى من ومسمع فاسحيوا منه. {ولا تكونوا} أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذين آمنوا {كالذين نسوا الله} أي: أعرضوا عن أوامر ونواهي الملك الأعظم، وتركوهها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ماله من صفات الجلال والإكرام {فأنساهم} أي: فتسبب عن ذلك أن أنساهم بماله من الإحاطة بالظواهر والبواطن {أنفسهم} أي: فلم يقدموا لها ما ينفعها، وإن قدموا شيئاً كان مشوباً بالمفسدات من الرياء والعجب فكانوا ممن قال فيه تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة} (الغاشية، الآيتان: 2 ـ 3) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 الآية لأنهم لم يدعوا باباً من أبواب الفسق، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه {أولئك} أي: البعداء من كل خير {هم الفاسقون} أي: العريقون في المروق من دائرة الدين. {لا يستوي} أي: بوجه من الوجوه {أصحاب النار} أي: التي هي محل الشقاء الأعظم {وأصحاب الجنة} أي: التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر {أصحاب الجنة هم الفائزون} أي: الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما. {لو أنزلنا} أي: بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال {هذا القرآن} أي: الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم {على جبل} أي جبل كان، أو جبل فيه تمييز كالإنسان {لرأيته} يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية {خاشعاً} أي: متذللاً باكياً {متصدّعاً} أي: متشققاً غاية التشقق {من خشية الله} أي: من الخوف العظيم ممن له الكمال كله، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته {وتلك الأمثال} أي: التي لا يضاهيها شيء {نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فيؤمنون. والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} (البقرة: 74) وقيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للأمة، والمعنى: لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب. ولما وصف تعالى القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى، فقال عز من قائل: {هو} أي: الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدّع الجبل من خشيته ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفاً بنا وتنزلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله تعالى: {الله} أي: المعبود الذي لا ينبغي العبادة والألوهية الإله {الذي لا إله إلا هو} فإنه لا مجالس له، ولا يليق ولا يصح ولا يتصوّر أن يكافئه، أو يدانيه شيء والإله أول اسم لله تعالى فلذلك لا يكون أحد مسلماً إلا بتوحيده، فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة {عالم الغيب} أي: الذي غاب عن جميع خلقه {والشهادة} أي: الذي وجد فكان يحسه ويطلع عليه بعض خلقه. وقال ابن عباس: معناه عالم السرّ والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا، وقيل: استوى في علمه السرّ والعلانية والموجود والمعدوم. وقوله تعالى: {هو الرحمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 الرحيم} معناه ذو الرحمة، ورحمة الله تعالى إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه. وقيل: إنّ رحمن أشدّ مبالغة من رحيم، ولهذا قيل: هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأنه تعالى بإحسانه في الدنيا يعم المؤمن والكافر، وفي الآخرة يختص إنعامه وإحسانه بالمؤمنين. {هو الله} أي: الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء إلا هو {الذي لا إله} أي: لا معبود بحق {إلا هو الملك} أي: فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، لأنه مهما أراد كان فهو متصرّف بالأمر والنهي في جميع خلقه، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته {القدوس} أي: البليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس، أو يتصورّه خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج إليه ضمير. ونظيره: السبوح وفي تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح {السلام} أي: الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق، فهو بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص، أو في إعطائه السلامة {المؤمن} قال ابن عباس: هو الذي أمن الناس من ظلمه، وأمن من آمن به عذابه. وقيل: هو المصدّق لرسله بإظهار المعجزات لهم، والمصدّق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب. وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه لقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} (آل عمران: 18) قال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأوّل من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين {المهيمن} قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء، وقيل: هو القائم على خلقه بقدرته، وقيل: هو الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء {العزيز} أي: الذي لا يوجد له نظير، وقيل: هو الغالب القاهر {الجبار} الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه، والجبار في صفة الله صفة مدح، وفي صفة الناس صفة ذم وكذا قوله تعالى: {المتكبر} أي: الذي تكبر على كل ما يوجب حاجة أو نقصاً، وهو في حقه تعالى صفة مدح لأنه له جميع صفات العلوّ والعظمة، وفي صفة الناس صفة ذم لأنّ المتكبر هو الذي يظهر من نفسه التكبر، وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علوّ بل له الحقارة والذلة، فإذا أظهر الكبر كان كذاباً في فعله {سبحان الله} أي: تنزه الملك إلا على الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهاً لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص تعالى: {عما يشركون} أي: من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرها مما في الأرض، أو في السماء من صغير وكبير وجليل وحقير. {هو} أي: الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأنّ وجوده من ذاته، ولا شيء غيره إلا وهو ممكن ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء أخبر عنه بأشهر الأشياء الذي لم يقع فيه شركة بوجه. فقال تعالى: {الله} أي: الذي ليس له سميّ فلا كفء له فهو المعبود بالحق فلا شريك له بوجه {الخالق} أي: المقدر للأشياء على مقتضى حكمته {البارئ} أي: المخترع المنشئ للأشياء من العدم إلى الوجود برياً من التفاوت وقوله تعالى: {المصور} أي: الذي يخلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 صور الأشياء على ما يريد بكسر الواو ورفع الراء إما صفة، وإمّا خبر واحترزت بهذا الضبط عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن فإنهما قرأا بفتح الواو ونصب الراء، وهي قراءة شاذة وإنما تعرّضت لها لأبين وجهها، وهو أن تخرّج هذه القراءة على أن يكون المصور منصوباً بالبارئ، والمصوّر هو الإنسان إمّا آدم وإما هو وبنوه وعلى هذه القراءة يحرم الوقف على المصوّر بل يجب الوصل ليظهر النصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز {له} أي: خاصة {الأسماء الحسنى} التسعة والتسعون الوارد فيها الحديث، وقد ذكرتها في سورة الإسراء. والحسنى تأنيث الأحسن {يسبح} أي: يكرّر التنزيه الأعظم عن كل شيء من شوائب النقص على سبيل التجدّد والاستمرار {له} أي: على وجه التخصيص {ما في السموات} أي السموات وما فيها {والأرض} وما فيها {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الجامع الكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم. وعن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قاله حين يمسي كان كذلك» . أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. وعن أبي هريرة أنه قال: «سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها فأعدت عليه فأعاد علي» وقال جابر بن زيد: إنّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر» حديث موضوع. سورة الممتحنة مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمانوأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف {بسم الله} الذي من تولاه أغناه عمن سواه {الرحمن} الذي شمل برحمة البيان من حاطه بالعقل ورعاه {الرحيم} الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه ونزل في حاطب بن أبي بلتعة. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّى} أي: وأنتم تدّعون موالاتي {وعدوّكم} أي: العريق في عدواتكم ما دمتم على مخالفته في الدين {أولياء} وذلك ما روي «أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها: سارة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت، قالت: لا، قال: أفمهاجرة جئت، قالت: لا، قال: فما جاء بك، قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي تعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال صلى الله عليه وسلم فأين أنت عن شباب أهل مكة وكانت مغنية نائحة قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على إعطائها، فكسوها وحملوها وزوّدوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً، واستحملها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 كتاباً لأهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وقد توجه إليكم بجيش كالليل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله تعالى بكم، وأنجز له موعده فيكم فالله وليه وناصره فخرجت سارة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، وعمر، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد، وكانوا فرساناً، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فادركوها فجحدت وحلفت ما معها كتاب ففتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع، فقال عليّ: والله ما كذبنا، ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكتاب، وإلا والله لأجردنك ولأضربنّ عنقك، فلما رأت الجدّ أخرجته من عقاص شعرها فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة: هي أحدهم فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، وقال له: هل تعرف هذا الكتاب، قال: نعم، قال: فما حملك عليه، فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش، وروى عزيزاً فيهم أي: غريباً ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وإنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر» ، وقال: الله ورسوله أعلم. وإضافة العدوّ إلى الله تعالى تغليظاً في خروجهم، وهذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، وتقدّم نظيره في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} (آل عمران: 28) وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} (آل عمران: 118) روي أنّ حاطباً لما سمع {يا أيها الذين آمنوا} غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان. ثم إنه تعالى استأنف بيان هذا الاتخاذ بقوله تعالى مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله تعالى: {تلقون} أي: جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو {إليهم} على بعدهم منكم حساً، ومعنى {بالمودّة} أي: بسببها قال القرطبي: تلقون إليهم بالمودّة، يعني: بالظاهر لأنّ قلب حاطب كان سليماً بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أمّا صاحبكم فقد صدق» هذا نص في إسلامه وسلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. وقرأ حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. وقوله تعالى: {وقد كفروا} أي: غطوا جميع مالكم من الأدلة {بما} أي: بسبب ما {جاءكم من الحق} أي: الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه فيه أوجه: أحدها: الاستئناف. ثانيها: الحال من فاعل تتخذوا. ثالثها: الحال من فاعل تلقون، أي: لا تتولوهم ولا توادّوهم، وهذه حالهم. وقوله تعالى: {يخرجون الرسول} يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون تفسير الكفر هم فلا محل له على هذين، وأن يكون حالاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 من فاعل كفروا. وقوله تعالى: {وآياكم} عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {أن تؤمنوا} أي: توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار {بالله} أي: الذي اختص بجميع صفات الكمال {ربكم} أي: المحسن إليكم تعليل ليخرجون، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله، أي: لأجل إيمانكم بالله. قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تغليب المخاطب والإلتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان {إن كنتم خرجتم} أي: عن أوطانكم، وقوله تعالى: {جهاداً في سبيلي} أي: بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها {وابتغاء مرضاتي} أي: ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج، وعمدة للتعليق، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {تسرون} أي: توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد {إليهم بالمودّة} أي: بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل: ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّاً وجهراً، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري {وأنا} أي: والحال أني {أعلم} أي: من كل أحد حتى من نفس الفاعل، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون {بما أخفيتم وما أعلنتم} قال ابن عباس: بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم، أي: فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة {ومن يفعله} أي: يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم {منكم} أي: في وقت من الأوقات {فقد ضلّ} أي: عمي ومال وأخطأ {سواء السبيل} أي: قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي: هذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب، كما قال القائل: *إذا ذهب العتاب فليس ودّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب* وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد، والباقون بالإدغام. {إن يثقفوكم} أي: يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن {يكونوا لكم أعداء} أي: ولا ينفعكم القاء المودّة إليهم {ويبسطون إليكم} أي: خاصة، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم {أيديهم} أي: بالضرب أن استطاعوا {وألسنتهم} أي: بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه {بالسوء} أي: بكل ما من شأنه أن يسوء {وودّوا} أي: تمنوا قبل هذا {لو تكفرون} لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى. ولما كانت عداوتهم معروفة، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم، فقال تعالى مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 {لن تنفعكم} بوجه من الوجوه {أرحامكم} أي: قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم {ولا أولادكم} أي: الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى: {يوم القيامة} أي: القيام الأعظم {يفصل} أي: يوقع الفصل، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الفاء وفتح الصاد مشددة، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد، والباقون بضم الياء وسكون الفاء {بينكم} أي: أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذّن الله تعالى في إكرامه بذلك {والله} أي: الذي له الإحاطة التامّة {بما تعملون} أي: من كل عمل في كل وقت {بصير} فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة. ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى: {قد كانت} أي: وجدت وجوداً تامّاً، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها، ولو كانت على أدنى الوجوه {لكم} أي: أيها المؤمنون {أسوة} أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة، والباقون بكسرها {حسنة} أي: يرغب فيها {في إبراهيم} أي: في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {والذين معه} أي: ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة، وقيل: المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي: فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه. قال القرطبي: الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله، وقيل: إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وقيل: ليس بشرع لنا مطلقاً وهو الأصح عندنا {إذ} أي: حين {قالوا} وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف {لقومهم} أي: الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات {أنا براء} أي: متبرؤن تبرئة عظيمة {منكم} وإن كنتم أقرب الناس إلينا، ولا ناصر لنا منهم غيركم {ومما تعبدون} أي: توجدون عبادته في وقت من الأوقات {من دون الله} أي: الملك الأعظم {كفرنا بكم} أي: جحدناكم وأنكرنا دينكم {وبدا} أي: ظهر ظهوراً عظيماً {بيننا وبينكم العداوة} وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر {والبغضاء} وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم. ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: {أبداً} أي: على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واواً خالصة، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، ولهما أيضاً التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيساً من صلاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 الحال، وقد يكون لحظ النفس بينوا غايته بقولهم: {حتى تؤمنوا بالله} أي: الملك الذي له الكمال كله {وحده} أي: تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دون الله تعالى، وقوله تعالى: {إلا قول إبراهيم لأبيه} فيه أوجه: أحدها: إنه استثناء متصل من قوله تعالى في إبراهيم، ولكن لا بدّ من حذف مضاف ليصح الكلام، تقديره في مقالات إبراهيم: إلا قوله كيت وكيت. ثانيها: إنه مستثنى من أسوة حسنة، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، وجاز ذلك لأنّ القول أيضاً من جملة الأسوة، لأنّ الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله فكأنه قيل لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وهو أوضح لأنه غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره. ثالثها: قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، أي: لم تبق صلة إلا كذا. رابعها: إنه استثناء منقطع، أي: لكن قول إبراهيم وهذا بناء من قائله على أنّ القول لم يندرج تحت قوله أسوة، وهو ممنوع. قال القرطبي: معنى قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرنّ لك} أي: فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفروا للمشركين فإنه كان عن موعدة منه له، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه، ثم بين عذره في سورة التوبة، وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمراً مطلقاً في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم استثنى بعض أفعاله، وهذا إنما جرى لأنه ظنّ أنه أسلم فلما بان أنه لم يسلم تبرّأ منه، وعلى هذا فيجوز الاستغفار لمن يظنّ أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظنّ فلم توالونهم. وقوله {وما أملك لك من الله} أي: من عذاب أو ثواب الملك إلا على المحيط بنعوت الجلال {من شيء} من تمام قوله المستثنى، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أحواله. وقوله: {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا {عليك} أي: لا على غيرك {توكلنا} أي: فوّضنا أمرنا إليك يجوز أن يكون من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه، فهو من جملة الأسوة الحسنة، وفصل بينهما بالاستثناء ويجوز أن يكون منقطعاً عما قبله على إضمار قول، وهو تعليم من الله تعالى لعباده كأنه قال لهم قولوا ربنا عليك توكلنا {وإليك} أي: وحدك {أنبنا} أي: رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا {وإليك} أي وحدك {المصير} أي: الرجوع في الآخرة. {ربنا} أي: أيها المربي لنا والمحسن إلينا {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} أي: بأن تسلطهم علينا فيفتنوننا بعذاب لا نحتمله، أو فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل: لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك. وقيل: لا تسلط عليهم الرزق دوننا، فإنّ ذلك فتنة لهم {واغفر لنا} أي: استر ما وقع منا من الذنوب، وامح عينه وأثره {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا وأكدوا إعلاماً بشدّة رغبتهم في حسن الثناء عليه فقالوا: {إنك أنت} أي: وحدك لا غيرك {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله ما طلب. وقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 {لقد كان لكم} أي: يا أمّة محمد جواب قسم مقدّر {فيهم} أي: إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء {أسوة حسنة} أي: في التبري من الكفار، وكرّر للتأكيد. وقيل: نزل الثاني بعد الأول بمدّة. قال القرطبي: وما أكثر المكرّرات في القرآن على هذا الوجه. وقوله تعالى: {لمن كان يرجو الله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال {واليوم الآخر} أي: الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير بدل من الضمير في لكم بدل بعض من كل، وفي ذلك بيان أنّ هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة {ومن يتول} أي: يوقع الأعراض عن أوامر الله تعالى فيوالي الكفار {فإن الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {هو} أي: خاصة {الغنيّ} أي: عن كل شيء {الحميد} أي: الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال، فهو حميد في نفسه وصفاته، أو حميد إلى أوليائه وأهل طاعته. ولما نزلت الآية الأولى عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين، فعلم الله تعالى شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزل {عسى الله} أي: أنتم جديرون بأن تطمعوا في الملك إلا على المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أن يجعل} أي: بأسباب لا تعلمونها {بينكم وبين الذين عاديتم منهم} أي: كفار مكة {مودة} أي: بأن يلهمهم الإيمان فيصيروا لكم أولياء، وقد جعل ذلك عام الفتح تحقيقاً لما رجاه سبحانه، لأنّ عسى من الله تعالى وعد، وهو لا يخلف الميعاد {والله} أي الذي له كمال الإحاطة {قدير} أي: بالغ القدرة على كل ما يريده، فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسير {والله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {غفور} أي: محاء لا عيان الذنوب وآثارها {رحيم} يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة، ثم بالجزاء غاية الإكرام فيغفر لما فرط منكم في موالاتهم من قبل، وما بقي في قلوبكم من ميل الرحم وقوله تعالى: {لا ينهاكم الله} أي: الذي اختص بالجلال والإكرام {عن الذين لم يقاتلوكم} أي: بالفعل {في الدين} الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد: هذا كان في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ. قال قتادة: نسخها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: 5) وقال ابن عباس: نزلت في خزاعة، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فرخص الله تعالى في برّهم. وقال أكثر أهل التأويل: إنها محكمة، واحتجوا بأنّ أسماء بنت أبي بكر قدمت أمّها وهي مشركة عليها المدينة بهدايا، فقالت أسماء: لا أقبل منك هدية، ولا تدخلي علي بيتاً حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخل منزلها، وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها، وفي ذلك إشارة إلى الاقتصار في العداوة والولاية، كما قال صلى الله عليه وسلم «أحبب حبيبك هوناً مّا عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً مّا عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه «أنّ أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أمّ أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدّة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} . {ولم يخرجوكم من دياركم أن} أي: لا ينهاكم عن أن {تبروهم} بنوع من أنواع البرّ الظاهرة، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة {وتقسطوا إليهم} أي: تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي: وليس يريد به من العدل، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية {إن الله} أي: الذي له الكمال كله {يحب} أي: يثيب {المقسطين} أي: الذين يزيلون الجور، ويوقعون العدل. {إنما ينهاكم الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {عن الذين قاتلوكم} أي: جاهدوكم متعمدين لقتالكم {في الدين} أي: عليه فليس شيء من ذلك خارجاً عنه {وأخرجوكم من دياركم} أي بأنفسهم لبغضكم، وهم عتاة أهل مكة {وظاهروا} أي: عاونوا غيرهم {على إخراجكم} وهم مشركوا مكة. وقوله تعالى: {أن تولوهم} بدل اشتمال من الذين أي: تتخذوهم أولياء. وقرأ البزي بتشديد التاء، والباقون بالتخفيف. ولما كان التقدير فمن أطاع فأولئك هم المفلحون عطف عليه قوله تعالى: {ومن يتولهم} أي: يكلف نفسه الحمل على غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من المنابزة، وأطلق ولم يقيد بمنكم ليعم المهاجرين وغيرهم، والمؤمنين وغيرهم {فأولئك} أي: الذين أبعدوا عن العدل {هم الظالمون} أي: الغريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها. ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {إذا جاءكم المؤمنات} أي: بأنفسهن {مهاجرات} أي: من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية {فامتحنوهنّ} أي: بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضاً في أزواجهن الكفار، ولا عشقاً لرجال من المسلمين. كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفهنّ. قيل: إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ {الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أعلم} أي: منكم ومن أنفسهنّ {بإيمانهنّ} هل هو كائن، أم لا على وجه الرسوخ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس {فإن علمتموهنّ مؤمنات} أي: العلم الممكن لكم، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره {فلا ترجعوهنّ} أي: بوجه من الوجوه {إلى الكفار} وإن كانوا أزواجاً. قال ابن عباس: لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافراً وكان صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء أهلها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 يسألونه أن يردّها، وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردّها علينا للشرط، فقال صلى الله عليه وسلم كان الشرط في الرجال لا في النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وعن عروة قال كان مما اشترط سهل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهل إلا ذلك، فكاتبه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدّة، وإن كان مسلماً حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل، وهذا يومي إلى أنّ الشرط في ردّ النساء نسخ بذلك، وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء: كله منسوخ بالقرآن، وقالت طائفة: لم يشترط ردّهنّ في العقد لفظاً، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم فكان ظاهر العموم اشتماله عليهنّ مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهنّ عن عمومه وفرق بينهنّ وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهنّ ذوات فروج فحرمن عليهنّ، الثاني: أنهنّ أرق قلوباً وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم {لا هنّ} أي: المؤمنات {حلّ} أي: موضع حلّ ثابت {لهم} أي: الكفار باستمتاع، ولا غيره. وقوله تعالى: {ولا هم} أي: رجال الكفار {يحلون لهنّ} أي: المؤمنات تأكيد للأوّل لتلازمهما. وقال البيضاوي: والتكرير للمطابقة والمبالغة، والأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع عن الاستئناف. وقيل: أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين، وهنّ مؤمنات. والمعنى: لم يحل الله تعالى مؤمنة لكافر في حال من الأحوال، وهذا أدل دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين، والصحيح كما قال ابن عادل: الأول لأنّ الله تعالى بين العلة، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار. ولما نهى عن الردّ وعلله أمر بما قدم من الأقساط إليهم فقال تعالى: {وآتوهم} أي: أعطوا الأزواج {ما أنفقوا} أي: عليهنّ من المهور، فإنّ المهر في نظير أصل العشرة ودوامها، وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسارتان الزوجية والمالية وأما الكسوة والنفقة فأنهما لما يتجدّد من الزمان. تنبيه: أمر الله تعالى برد ما أنفقوا إلى الأزواج، وإنّ المخاطب بهذا الإمام. وهل يجب ذلك أو يندب؟ ظاهرة الآية الوجوب، ولكن رجح الندب وعليه الشافعي، لأنّ البضع ليس بمال فلا يشمله الأمان كما لا يشمل زوجية، والآية وإن كان ظاهرها الوجوب محتملة للندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل وقال مقاتل: يردّ المهر للذي يتزوّجها من المسلمين، وليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة: الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل الذمّة، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد عليهم الصداق. قال القرطبي: والأمر كما قال {ولا جناح} أي: حرج وميل {عليكم} يا أيها المشرفون بالخطاب {أن تنكحوهنّ} أي: تجدّدوا زواجكم بهنّ بعد الاستبراء، وإن كان أزواجهنّ من الكفار لم يطلقوهنّ لزوال العلق عنهنّ لأنّ الإسلام فرق بينهم، قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (النساء: 141) ولما كان قد أمر برد مهور الكفار فكان ربما ظنّ أنه مغن عن تجديد مهر لهنّ إذا نكحهنّ المسلم نفى ذلك بقوله: {إذا آتيتموهنّ} أي: لأجل النكاح {أجورهنّ} أي: مهورهنّ، وفي شرط أثناء المهر في نكاحهنّ إيذان بأن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} جمع عصمة، وهي هنا عقد النكاح، أي: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فقد انقطعت عصمتها فلا يكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة. قال النخعي: المراد بالآية هي المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يتزوّجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة وأمّ كلثوم بنت عمر والخزاعية أم عبد الله بن المغيرة فتزوجها أبو جهم بن حذافة، وهما على شركهما بمكة فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة فلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وقال الشعبي: كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً، ثم أتى المدينة وأسلم فردّها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس بالنكاح الأوّل، ولم يحدث شيئاً. قال محمد بن عمرو في حديث بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي: بعد سنتين، قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أنّ الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردّهن في ذلك} يعني: في عدّتهن، وهذا مما لا خلاف فيه أنه عنى به العدّة قال الزهري في قصة زينب: هذه كانت قبل أن تنزل الفرائض، وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين. تنبيه: المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها. وقيل: هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب، فعلى الأول: إذا أسلم وثني، أو مجوسي ولم تسلم أمرأته فرق بينهما، وهو قول بعض أهل العلم منهم مالك والحسن وطاوس وعطاء وعكرمة وقتادة لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وقال بعضهم: ينتظر بها تمام العدّة، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد، واحتجوا بأن أبا سفيان بن الحارث أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمرّ الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأنّ عدتها لم تكن انقضت، قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: {بعصم الكوافر} لأنّ نساء المؤمنين محرمات على الكفار كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر الوثنيات ولا المجوسيات لقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} ثم بينت السنة أن مراد الله تعالى من قوله هذا: أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا إن أسلم الثاني منهما في العدّة. وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافرين الذمّيين: إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام فإن أسلم، وإلا فرق بينهما، قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعاً في دار الحرب، أو في دار الإسلام، وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما، وقد تقدمّ أنّ اعتبار الدار ليس بشيء، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها. فأمّا غير المدخول بها فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما إذ لا عدّة عليها، وكذا يقول مالك في المرأة يرتد زوجها المسلم تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح وقال الشافعي وأحمد: ينتظر بها تمام العدّة، فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى تمام العدّة، وهو قول مجاهد، وكذا الوثني تسلم زوجته إن أسلم في عدّتها فهو أحق بها، كما أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتهما لما ذكر مالك في الموطأ. قال بعض العلماء: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر، قال: ولم يبلغنا أنّ امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها. وقال بعضهم: ينفسخ النكاح بينهما لما روى يزيد بن علقمة قال: أسلم جدّي ولم تسلم جدّتي ففرق بينهما عمر، وهو قول طاوس وعطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل له عليها إلا بخطبة {واسألوا} أي: أيها المؤمنون الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار مرتدّات {ما أنفقتم} أي: من مهور نسائكم {وليسألوا} أي: الكفار {ما أنفقوا} أي: من مهور أزواجهم اللائي أسلمن. قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدّات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين: إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ردّوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالين {ذلكم} أي: الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة تعلق الرتبة عن كل سفيه {حكم الله} أي: الملك الذي له صفات الكمال، فلا تلحقه شائبة نقص {يحكم} أي: الله إذ حكمه على سبيل المبالغة {بينكم} أي: في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع، وذلك لأجل الهدنة التي كانت وقعت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهم، وأمّا قبل الحديبية فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمسك النساء ولا يردّ الصداق {والله} أي: الذي له الإحاطة التامّة {عليم} أي: بالغ العلم لا يخفى عليه شيء {حكيم} أي: فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الأحكام، فلا يستطيع أحد نقض شيء منها. روي أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله تعالى، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} أي: واحدة فأكثر منهن، أو شيء من مهورهن بالذهاب {إلى الكفار} مرتدات {فعاقبتم} فغزوتم وغنمتم من أموال الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم ظلماً {فآتوا} أي: فاحضروا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وأعطوا من مهر المهاجرة {الذين ذهبت أزواجهم} أي: منكم من الغنيمة {مثل ما أنفقوا} أي: لفواته عليهم من جهة الكفار. روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: حكم الله تعالى بينهم فقال جلّ ثناؤه {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} فكتب إليهم المسلمون قد حكم الله تعالى بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا صداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها، فكتبوا أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} الآية. وقال ابن عباس: في قوله تعالى: {ذلكم حكم الله} أي: بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم على بعض. قال الزهري: ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد عليهم صداقاً، وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد، وقالا: فمعنى {فعاقبتم} فاقتصصتم {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مثل ما أنفقوا} أي: من المهور. وقال ابن عباس: معنى الآية إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: يعطي من مال الفيء، وعنه يعطى من صداق من لحق بها تنبيه: محصل مذهب الشافعي في هذه الآية: أنّ الهدنة لو عقدت بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتداً صح، ولزمهم الوفاء به سواء أكان رجلاً أو امرأة، حرّاً أو رقيقاً، فإن امتنعوا من ردّه فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط، أو عقدت على أن لا يردوه جاز، ولو كان المرتدّ امرأة فلا يلزمهم ردّه لأنه صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش، حيث قال لسهل بن عمرو وقد جاء رسولاً منهم «من جاءنا منكم رددناه، ومن جاءكم منا فسحقاً سحقاً» ومثله ما لو أطلق العقد كما فهم بالأولى، ويغرمون فيهما مهر المرتدّة. فإن قيل: لم غرموا مهر المرتدّة، ولم نغرم نحن مهر المسلمة على ما تقدم من الخلاف؟ أجيب: بأنهم قد فوتوا عليه الاستتابة الواجبة علينا، وأيضاً المانع جاء من جهتها، والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام، وكذا يغرمون قيمة رقيق ارتدّ دون الحرّ، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم. بخلاف نظيره في المهر لأنّ الرقيق بدفع القيمة يصير ملكاً لهم، والنساء لا يصرن زوجات. فإن قيل: كونه يصير ملكاً لهم مبنى على جواز بيع المرتد للكافر، والصحيح خلافه. أجيب: بأنّ هذا ليس مبنياً عليه لأن هذا ليس بيعاً حقيقة فاغتفر ذلك أجل المصلحة، وإن شرطنا عدم الرد. فإن قيل: هل يغرم الإمام لزوج المرتدة ما أنفق من صداقها، لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها، ولولاه لقاتلناهم حتى يردوها؟. أجيب: بأنّ هذا ينبني على أنّ الإمام هل يغرم لزوج المسلمة المهاجرة ما أنفق، وقد تقدم الكلام على ذلك. فائدة: روي عن ابن عباس أنه قال: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت شداد بن عياض الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعزة بنت عبد العزيز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب رجعن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهنّ مهور نسائهم من الغنيمة. ولما كان التحرّي في مثل ذلك عسراً فإنّ المهور تتفاوت تارة وتتساوى أخرى قال تعالى: {واتقوا} أي: في الإعطاء والمنع وغير ذلك {الله} الذي له صفات الكمال، وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون {الذي أنتم به مؤمنون} أي: متمكنون في رتبة الإيمان. ولما خاطب المؤمنين الذين هم موضع الحماية والنصرة للدين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن بقوله تعالى: {يا أيها النبيّ} مخاطباً له بالوصف المقتضى للعلم {إذا جاءك المؤمنات} جعل إقبالهن عليه صلى الله عليه وسلم لا سيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الهجرة عليهن {يبايعنك على أن لا يشركن} أي: كل واحدة منهن تبايعك على عدم الإشراك في وقت من الأوقات {بالله} أي: الملك الذي لا كفؤ له {شيئاً} أي من إشراك على الإطلاق {ولا يسرقن} أي: يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية {ولا يزنين} أي: يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح {ولا يقتلن أولادهن} أي: بالوأد كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات، أي: دفنهن أحياء خوفاً من العار والفقر {ولا يأتين ببهتان} أي: بولد ملقوط أو شبهة بأن {يفترينه} أي: يتعمدن كذبه بأن ينسبنه للزوج، ووصفه بصفة الولد الحقيقي بقوله تعالى: {بين أيديهن} أي: بالحمل في البطون لأنّ بطنها التي تحمل فيها الولد بين يديها {وأرجلهن} أي: بالوضع من الفروج لأنّ فرجها الذي تلد منه بين رجليها، أو لأنّ الولد إذا وضعته سقط بين يديها ورجليها. وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، ومعنى: بين أرجلهن فروجهن. وقيل: ما بين أيديهن من قبلة أو جسة وبين أرجلهن الجماع. وروي أن هند لما سمعت ذلك قالت: والله إنّ البهتان لأمر قبيح، وما يأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق {ولا يعصينك} أي: على حال من الأحوال {في معروف} وهو ما وافق طاعة الله تعالى كترك النياحة، وتمزيق الثياب، وجر الشعر وشق الجيب، وخمش الوجه {فبايعهن} أي: التزم لهن بما وعدن على ذلك من إعطاء الثواب في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة، فبايعهن صلى الله عليه وسلم بالقول ولم يصافح واحدة منهن. قالت عائشة رضى الله عنها «والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله عز وجل، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امراة قط. وروي أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {أن لا يشركن بالله شيئاً} إلى آخرها قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها» وقالت أميمة بنت رقيقة «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال فيما استطعتن أطعن، فقلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارحم بنا من أنفسنا، وقلت: يا رسول الله صافحنا، فقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة» . وروي «أنه صلى الله عليه وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن» وقالت أم عطية: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن أن لا تشركن بالله شيئاً الآية، فقلن نعم، فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد» وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه فغمسن أيديهن فيه» وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح لمكة، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه أن لا يشركن بالله شيئاً، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسرقن، فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا فلا أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وما غير فهو حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة» ، قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك. وروي أنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي، قال: «لا إلا بالمعروف» فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع وتأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة، ثم قال: ولا يزنين، فقالت هند: أوتزني الحرة، فقال: ولا يقتلن أولادهن أي: بالوأد، ولا يسقطن الأجنة، فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً، وأنت وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: {ولا يعصينك في معروف} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء قال أكثر المفسرين: معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهن، وكانت المرأة تلتقط ولداً تلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك فكان من البهتان والافتراء. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج، وإن سبق النهي عن الزنا. تنبيه: ذكر تعالى في هذه الآية لرسوله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي، ولم يذكر أركان الأمر وهي ست أيضاً: الشهادة، والزكاة، والصلاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجناب، وذلك لأن النهي دائم في كل زمان ومكان، وكل الأحوال فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد. وقيل: إن هذه المناهي كانت في النساء كثيراً ممن يرتكبها، ولا يحجزهن عنها شرف النسب فخصت بالذكر لهذا، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت» فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة فيها. ولما كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله تعالى: {واستغفر} أي: اسأل {لهن الله} أي: الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً {رحيم} أي: بالغ الإكرام بعد الغفران تفضلاً منه وإحساناً. وروي أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتولوا} أي: لا تعالجوا أنفسكم أن توالوا {قوماً} أي: ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب أولى {غضب الله} أي: أوقع الملك الأعلى الغضب {عليهم} لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا، فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً {قد يئسوا} أي: تحققوا عدم الرجاء {من الآخرة} أي: من ثوابها مع إيقانهم بها لعنادهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه الرسول المبعوث في التوراة {كما يئس الكفار من أصحاب القبور} أي من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء. وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار، أي: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، إذ تعرض عليهم مقاعدهم من الجنة لو كانوا آمنوا، وما يصيرون إليه من النار فيتبين لهم قبح حالهم، وسوء منقلبهم. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة» حديث موضوع. سورة الصف مدنية في قول الأكثرين، وذكر النحاس عن ابن عباس أنها مكية، وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف {بسم الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له {الرحمن} الذي عم بفضله كل أحد من خلقه {الرحيم} الذي خص من شاء من عباده فهيأه لعبادته وأهله. {سبح لله} أي: أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم {ما في السموات} من جميع الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم {وما في الأرض} كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار. وقيل: اللام مزيدة، أي: نزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر. فإن قيل: ما الحكمة في انه تعالى قال في بعض السور سبح لله بلفظ الماضي، وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع، وفي بعضها فسبح بلفظ الأمر؟. أجيب: بأن الحكمة في ذلك تعليم العبد أن يسبح الله تعالى على الدوام كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدل عليه في الحال فإن قيل: هلا قيل سبح لله السموات والأرض وما فيهما، وهو أكثر مبالغة أجيب: بأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها {وهو} أي: وحده {العزيز} أي: الغالب على غيره أي شىء كان ذلك الغير، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. روى الدارمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 في مسنده قال: أنبأنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه، فأنزل الله تعالى: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} {يأيها الذين آمنوا} أي: ادّعوا الإيمان {لم تقولون ما لا تفعلون} حتى ختمها. قال عبد الله: «فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها، قال أبو سلمة: قرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة فقرأها علينا أبو يحيى، فقرأها علينا الأوزاعي، فقرأها علينا محمد فقرأها علينا الدرامي. انتهى. ولي بقراءتها سند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن عباس: قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون: يا رسول الله لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزل {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} فمكثوا زماناً يقولون: لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين، فدلهم الله تعالى عليها بقوله تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله} (الصف: 11) الآية، فابتلوا يوم أحد ففروا فنزلت الآية تعييراً لهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر. قالت الصحابة: اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وأبلينا، ولم يفعلوا. وقيل: قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى، قال: نعم، فنزلت في المنتحل. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم، وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. وقال القرطبي: هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي به وفي صحيح مسلم عن أبي موسى: أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا تطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة فشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة فشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فلبثت شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة، وأما قوله: شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة، فمعنى ذلك: ثابت في الدين فإن من التزم شيئاً ألزمه شرعاً. وقال القرطبي: ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44) {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) و {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت عادت، قلت: من هؤلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» . تنبيه: قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون} استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير مالا يفعله، إما في الماضي فيكون كذباً، وإما في المستقبل فيكون خلقاً وكلاهما مذموم. قال الزمخشري: لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا. هـ. ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه. {كبر} أي: عظم. وقوله تعالى: {مقتاً} تمييز، والمقت أشد البغض، وزاد في تشنيعه زيادة في التنفير منه بقوله تعالى: {عند الله} أي: الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم، وقيل: إن كبر من أمثلة التعجب. وقد عده ابن عصفور في التعجب المبوب له في النحو فقال: صيغة ما أفعله وأفعل به، وفعل، نحو كرم الرجل، وإليه نحا الزمخشري فقال: هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه قصد في كبر التعجب من غير لفظه، كقوله: غلت ناب كليب بواؤها، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقوله تعالى: {أن تقولوا} أي: عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال قولكم {ما لا تفعلون} فاعل كبر. قال الرازي: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن في السورة التي قبلها بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ويحثه على الجهاد بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {يحب} أي: يفعل فعل المحب مع {الذين يقاتلون} أي: يوقعون القتال {في سبيله} أي: بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه. وقوله تعالى: {صفاً} حال، أي: مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد {كأنهم} من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المركز {بنيان} وزاد في التأكيد بقوله تعالى: {مرصوص} أي: ملزوق بعض إلى بعض ثابت كثبوت البناء. وقال ابن عباس: يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي: يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص قال القرطبي: استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي: وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفاً لقتال، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة، فيجوز انصرافه لقوله تعالى: {إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 متحرفاً لقتال} (الأنفال: 16) وتجوز المبارزة لكافر لم يطلبها بلا كره، وندب لقوي أذن له الإمام أو نائبه لإقراره صلى الله عليه وسلم عليها، وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال، من البروز وهو الظهور، فإن طلبها كافر سنت للقوي المأذون له للأمر بها في خبر أبي داود، ولإن تركها حينئذ إضعافاً لنا وتقوية لهم، وإلا كرهت ولما ذكر تعالى الجهاد ذكر قصة موسى وعيسى عليهما السلام تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى قومه، مبتدئاً بقصة موسى عليه السلام لتقدمه فقال تعالى: {وإذ} أي: واذكر ياأشرف الخلق إذ {قال موسى لقومه} أي: بني إسرائيل، وقوله: {ياقوم} استعطاف لهم واستنهاض إلى رضا ربهم {لم تؤذونني} أي: تجددون أذاي مع الاستمرار، وذلك حين رموه بالأدرة كما مر في سورة الأحزاب ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} (الأعراف: 138) وقولهم: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} (المائدة: 24) وقولهم: أنت قتلت هارون، وغير ذلك. وقوله تعالى: {وقد تعملون} جملة حالية، أي: علمتم علماً قطعياً تجدده لكم كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات، والكتاب الحافظ لكم من الزيغ {إني رسول الله} الملك الأعظم الذي لا كفؤ له {إليكم} ورسوله يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم، وأنا لا أقول لكم شيئاً إلا عنه، ولا أنطق عن الهوى {فلما زاغوا} أي: عدلوا عن الحق بمخالفة أوامر الله تعالى وبإيذائه. وقرأ حمزة بالإمالة والباقون بالفتح {أزاغ الله} أي: الملك الذي له الأمر كله {قلوبهم} أي: أمالهم عن الهدى على وفق ما قدره في الأزل {والله} أي: الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال {لا يهدي} أي: بالتوفيق بعد هداية البيان {القوم الفاسقين} أي: العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة، فلم يحملهم على الفسق ضعف فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم، وهذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى، ثم ذكر القصة الثانية بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} {وإذ} أي: واذكر يا أشرف المرسلين إذ {قال عيسى} ووصفه بقوله {ابن مريم} ليعلم أنه من غير أب وثبتت نبوته بالمعجزات {يا بني إسرائيل} فذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما أوصى به بنيه من التمسك بالإسلام، ولم يقل: يا قوم، كما قال موسى عليه السلام؛ لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم، فإن النسب إنما هو من جهة الأب، وأكد لإنكار بعضهم فقال {إني رسول الله} أي: الملك الأعظم {إليكم} أي: لا إلى غيركم {مصدقاً لما بين يدي} أي: قبلي {من التوراة} التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه السلام، وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون، فتصديقي لها مع تأييدي بها مؤيد، لأن ما أقمت من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منها، كما يستدل بما قدامه من الإعلام ويراعيه ببصره. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ حمزة ونافع بين بين بخلاف عنه عن قالون، والباقون بالفتح {ومبشراً} في حال تصديقي للتوراة {برسول} أي: إلى كل من شملته الربوبية {يأتي من بعدي} أي: يصدق بالتوراة. فكأنه قيل: ما اسمه؟ قال: {اسمه أحمد} والمعنى: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة، وفي حال تبشيري برسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر. فإن قيل: بم انتصب مصدقاً ومبشراً، أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟. أجيب: بأنه بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول فلا يجوز أن يعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل. وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. وعن حبيش بن مطعم قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي» وقد سماه الله تعالى رؤوفاً ورحيماً. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محى الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض» بل ذكر بعض العلماء أنه له ألف اسم. قال البغوي: والألف في أحمد للمبالغة في الحمد، وله وجهان: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: ومعناه أن الأنبياء حمادون لله تعالى، وهو أكثر حمداً من غيره. والثاني: أنه مبالغة من المفعول، أي: ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها ا. هـ. وعلى كلا الوجهين منعه من الصرف للعملية والوزن الغالب، إلا أنه على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً لأنه يخلف العلمية الصفة، وإذا نكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان يمدحه وصرفه: *صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد* أحمد بدل أو بيان للمبارك، وأما محمد فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى محمود ولكن في معنى المبالغة والتكرار، فأحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. قال القرطبي: كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك: واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، وكان اسمه صادقاً عليه فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال: اسمه أحمد، وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل. وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته، فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء فاتحاً لهم وخاتماً عليهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الياء، والباقون بالسكون وقوله تعالى: {فلما جاءهم} يحتمل أن يعود فيه الضمير لأحمد، أي: جاء الكفار، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 ويحتمل عوده لعيسى، أي: جاء لبني إسرائيل {بالبينات} أي: من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها، ومن الكتاب المبين {قالوا} أي: عند مجيئها من غير نظرة تأمل {هذا} أي: المأتي به من البينات، أو الآتي بها على المبالغة {سحر} فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا {مبين} أي: في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني، والباقون بكسر السين وسكون الحاء، وهذه مناسبة للتفسير الأول. {ومن} أي: لا أحد {أظلم} أي: أشد ظلماً {ممن افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {الكذب} أي: بنسبة الشريك والولد إليه، ووصف آياته بالسحر، ووصف أنبيائه بالسحرة {وهو} أي: والحال أنه {يدعى} أي: من أي داع كان {إلى الإسلام} أي: الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى: {والله} أي: الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب {الظالمين} أي: الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام. {يريدون} أي: يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم {ليطفئوا} أي: لأجل أن يطفئوا {نور الله} أي: الملك الذي لا شئ يكافئه {بأفواههم} أي: بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه، لأنه لا اعتقاد له في القلوب. تنبيه: الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج، وفي هذه اللام أوجه: أحدها: أنها تعليلية كما مر، ثانيها: أنها مزيدة في مفعول الإرادة، وقال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أب لك تأكيداً لمعنى الإضافة في لا أباك. قال الماوردي: وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية» ، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور، فقال ابن عباس: هو القرآن، أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي: الإسلام، أي: يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك: إنه محمد صلى الله عليه وسلم أي: يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج: حجج الله تعالى ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل: إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إطفاء الحق {والله} أي: الذي لا مدافع له لتمام عظمته {متم نوره} فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله تعالى: {ولو كره} أي: إتمامه له {الكافرون} أي: الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه. {هو} أي: الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير {الذي أرسل رسوله} أي: الحقيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى {بالهدى} أي: البيان الشافي بالقرآن والمعجزة {ودين الحق} أي: والملة الحنيفية {ليظهره} أي: يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع {على الدين} أي: جنس الشريعة التي ستجعل ليجازى من يسلكها ومن يزغ عنها بما يشرع فيها من الأحكام {كله} فلا يبقى دين إلا كان دونه، وانمحق به وذل أهله ذلاً لا يقاس به ذل {ولو كره} أي: إظهاره {المشركون} أي: المعاندون في كفرهم الراسخون في سلك المعاندة. فإن قيل: قال أولاً: {ولو كره الكافرون} ، وقال ثانياً: {ولو كره المشركون} ، فما الحكمة في ذلك؟. أجيب: بأنه تعالى أرسل رسوله، وهو من نعم الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال {ولو كره الكافرون} لأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك فالمراد من الكافرين هنا اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله تعالى: {ولو كره المشركون} فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله فلم يقولوها، فلهذا قال: {ولو كره المشركون} . {س61ش10/ش14 يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ? ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ا?نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ? ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا? نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ? وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? كُونُو?ا? أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـ?نَ مَنْ أَنصَارِى? إِلَى اللَّهِ? قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ? فَـ?َامَنَت طَّآ?ـ?ِفَةٌ مِّن? بَنِى? إِسْرَا?ءِيلَ وَكَفَرَت طَّآ?ـ?ِفَةٌ? فَأَيَّدْنَا الَّذِينَءَامَنُوا? عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا? ظَاهِرِينَ} واختلف في سب نزول قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {هل أدلكم} أي: وأنا المحيط علماً وقدرة فهي إيجاب في المعنى، ذكر بلفظ الاستفهام تشريفاً ليكون أوقع في النفس {على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} أي: مؤلم فقال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون قال: «يا رسول الله لو أذنت لي طلقت خولة، وترهبت واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبداً، ولا أفطر بنهار، فقال صلى الله عليه وسلم إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما احل الله لكم، ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني، فقال عثمان: والله لوددت يا رسول الله أيّ التجارة أحب إلى الله تعالى فأتجر فيها، فنزلت» وقيل: أدلكم، أي: سأدلكم، والتجارة: الجهاد، قال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: 111) الآية، وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل: نزل هذا حين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملنا به. قال البغوي: وجعل هذا بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله تعالى، ونيل جنته والنجاة من النار وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشدد الجيم، والباقون بسكون النون وتخفيف الجيم ثم بين سبحانه تلك التجارة بقوله تعالى: {تؤمنون} أي: تدومون على الإيمان {بالله} أي: الذي له جميع صفات الكمال، وعلى هذا فلا ينافي ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} وقيل: المراد من هذه الآية المنافقون وهم الذين آمنوا في الظاهر، وقيل: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة {ورسوله} الذي تصديقه آية الإذعان للعبودية {وتجاهدون} بياناً لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار {في سبيل الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لغيره {بأموالكم وأنفسكم} وقدم الأموال لعزتها في ذلك الزمان، ولأنها قوام الأنفس فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه، لأن المال قوامها. وقال القرطبي: ذكر الأموال أولاً لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق {ذلكم} أي: الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد {خير لكم} أي: من أموالكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 وأنفسكم {إن كنتم تعلمون} أي: إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم، فإذا علمتم أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحه فصلوا على أنفسكم صلاة الموت. وقوله تعالى: {يغفر لكم} فيه أوجه: أحدها: أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، أي: آمنوا وجاهدوا. والثاني: أنه مجزوم في جواب الاستفهام، كما قاله الفراء. والثالث: أنه مجزوم بشرط مقدر، أي: إن تؤمنوا يغفر لكم. قال القرطبي: وأدغم بعضهم فقرأ يغفر لكم، والأحسن ترك الإدغام فإن الراء متكرر قوي فلا يحسن الإدغام في اللام، لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ا. هـ. وتقدم في آخر سورة البقرة مثل ذلك للزمخشري والبيضاوي ورد عليهما {ذنوبكم} أي: يمحو أعيانها وآثارها كلها {ويدخلكم} أي: بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم {جنات} أي: بساتين {تجري من تحتها} أي: من تحت أشجارها وغرفها وكل منتزه فيها {الأنهار} فهي لا تزال غضة زهراء لم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه، ودل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله في صيغة منتهى الجموع {ومساكن طيبة} روى الحسن قال: «سألت عمران بن حصين، وأبا هريرة عن قوله تعالى: {ومساكن طيبة} فقالا: على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، في كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله» {في جنات عدن} أي: بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له، قال حمزة الكرماني في كتابه «جوامع التفسير» : هي أي جنات عدن قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش {ذلك} أي: الأمر العظيم جداً {الفوز العظيم} أي: السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب. ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم في الآخرة بشرهم بنعمته في الدنيا. بقوله تعالى: {وأخرى تحبونها} أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي تحبونها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وقوله تعالى: {نصر من الله} أي: الذي أحاطت عظمته بكل شيء خبر مبتدأ مضمر، أي: تلك النعمة أو الخصلة الأخرى نصر من الله {وفتح قريب} أي: غنيمة في عاجل الدنيا قيل: فتح مكة قال الكلبي: هو النصر على قريش، وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. وقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} عطف على محذوف مثل {قل يا أيها الذين آمنوا وبشر} ، أو على يؤمنون فإنه في معنى الأمر كأنه قال آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون، وبشرهم يا أشرف الرسل بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة. {يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بذلك {كونوا} أي: بغاية جهدكم {أنصاراً لله} أي: لدينه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أنصاراً بالتنوين وجر اللام من الاسم الجليل وترقيقها، والباقون بغير تنوين وتفخيم اللام. {كما} أي: كونوا لأجل أني ندبتكم أنا بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين {قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 عيسى بن مريم} حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه السلام {للحواريين} أي: خلص أصحابه وخاصته منهم {من أنصاري إلى الله} أي: المحيط بكل شيء أي: انصروا دين الله تعالى مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله، أي: من ينصرني مع الله تعالى: {قال الحواريون} معلمين إنهم جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه لعلمهم أن أجابته إجابة الله تعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله تعالى: {نحن} أي: بأجمعنا وكانوا اثني عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى {أنصار الله} أي: الملك الأعلى القادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض. ولما كان التقدير ثم دعوا كل من خالفهم من بني اسرائيل وبارزهم تسبب عنهم قوله تعالى: {فآمنت} أي: به {طائفة} أي: ناس منهم أهل الاستدارة لما لهم من الكثرة {من بني اسرائيل} قومه {وكفرت طائفة} أي: منهم، وأصل الطائفة: القطعة من الشيء، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالوا: كان الله فارتفع. وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون. واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: {فأيدنا} أي: قوينا بعد رفع عيسى عليه السلام {الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان المخلص {على عدوهم} أي: الذين عادوهم لأجل إيمانهم {فأصبحوا} أي: صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل {ظاهرين} أي: عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً ولا يستخفون منه، وروى المغيرة عن إبراهيم قال: فأصبحت حجة من آمن بعيسى عليه السلام ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام كلمة الله وعبده ورسوله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» حديث موضوع. سورة الجمعة مدنية وهي إحدى عشرة آية، ومائةوثمانون كلمة، وسبعمائة وعشرون حرفاً روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب الأول من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله تعالى لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له» وقال يوم الجمعة: «فاليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» . {بسم الله} الذي أحاط علمه بكل معلوم فتم بيانه {الرحمن} الذي تمت نعمة بيانه فهو العظيم شأنه {الرحيم} الذي خص حزبه بالتوفيق فثبت عندهم حبه وإيمانه {يسبح} أي: يوقع التنزيه الأعظم الأنهى الأكمل {لله} أي: الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما في السموات} أي: من جميع الأشياء من الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم {وما في الأرض} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار، وقيل: اللام مزيدة، أي: ينزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر، ويحتمل أن يكون المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها {الملك} أي: الذي ثبت له جميع الكمالات، فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح ظاهراً {القدوس} أي: المنزه عما لا يليق به، وعن إحاطة أحد من الخلق بعلمه وإدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله والتدبير لمفاهيم نعوته وجلاله وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول مالا يفعل، أو يبني شيئاً من أموره على غير إحكام {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي يوقع كل ما أراد في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها. {هو} أي: وحده {الذي بعث في الأميين} أي: العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، والأمي: من لا يقرأ ولا يكتب {رسولاً منهم} أي: من جملتهم أمياً مثلهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وما من حي من العرب إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا بني تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أمياً لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم علمه الله ما لم يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة وأنوار الحقائق علية لائحة، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم فيكون معنى عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز، وبعثه إلى العرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم لاسيما مع ما ورد فيه من صرائح الدلائل القطعية، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها إلى عامة الخلق {يتلو} أي: يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة {عليهم} مع كونه أمياً مثلهم {آيات} أي: يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة، وهي القرآن الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله {ويزكيهم} أي: يطهرهم من الشرك والأخلاق الرذيلة، والعقائد الزائغة فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم، وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر الإنسان نظرة محبة فزكاه الله تعالى بها بحسب القابليات والأمور التي قضى الله تعالى أن تكون مهيآت فكان له أعشق فكان لأتباعه ألزم فكان في كتاب الله وسنته أرسخ {ويعلمهم الكتاب} أي: القرآن المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى {والحكمة} هي غاية الحكم للكتاب في قوة فهمه والعمل به فهي العمل المزين بالعلم المتقن به، وقال الحسن: الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، والحكمة: السنة، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بالتقييد بالخط. وقال مالك بن أنس: الحكمة: الفقه في الدين {وإن} أي: والحال أنهم {كانوا} أي: كوناً هو كالجبلة لهم {من قبل} أي: قبل إرساله إليهم {لفي ضلال} أي: بعد عن المقصود {مبين} أي: ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة، وظنهم أنهم على شيء، وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختبارهم له. وقوله تعالى: {وآخرين منهم} فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 وجهان: أحدهما: أنه مجرور عطفاً على الأميين، أي: وبعث في الآخرين من الأميين، أي: الموجودين والآتين منهم بعدهم {لما} أي: لم {يلحقوا بهم} في السابقة والفصل والثاني: أنه منصوب عطفاً على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي: ويعلم آخرين لما يلحقوا بهم وسيلحقون، وكل من تعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم معلمه بالقوة، لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم. تنبيه: الذين لم يلحقوا بهم هم الذين لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم. قال عمر وسعيد بن جبير: هم العجم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: «فوضع النبي صلى الله علية وسلم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجل من هؤلاء» وفي رواية «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس» أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله. وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني: من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد، ومقاتل بن حبان: هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن في أصلاب أمتي رجالاً ونساء يدخلون الجنة بغير حساب، ثم تلا {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} » قال ابن عادل: والقول الأول أثبت. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتني أسقي غنماً سوداً، ثم أتبعتها غنماً عقراً أولها يا أبا بكر، قال: يا نبي الله أما السود فالعرب، وأما العقر فالعجم تتبعك بعد العرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أولها الملك يعني جبريل عليه الصلاة والسلام» رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يقدر على كل ما أراده، ولا يغلبة شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أي طائفة كان، ولو كان أجهل أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده {الحكيم} فهو إذاً أراد شيئاً موافقاً لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها، فلا يستطاع نقضه ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطاق ردة بوجه. ولما كان هذا أمراً باهراً عظمه بقوله تعالى على وجه الاستثمار من قدرته: {ذلك} الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه، وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعاً لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف {فضلُ الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال والفضل ما لم يكن مستحقاً بخلاف الفرص {يؤتيه من يشاء} قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش، وقال الكلبي: يعني الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء، وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة. وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة لما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 «أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته {والله} الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ذو الفضل العظيم} . ولما ترك اليهود العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة} أي: كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس، وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع {ثم لم يحملوها} أي: بأن حملوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا جاء فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم فإذا لهم النار من غير نفع أصلاً {كمثل} أي: مثلهم مثل {الحمار} أي: الذي هو أبلد الحيوان فهو مثل في الغباوة حال كونه {يحمل أسفاراً} أي: كتباً كباراً من كتب العلم جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه، في عدم الانتفاع بها لأنه يمشي ولا يدري منها إلا ما يضر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ومثل ذلك قول الشاعر: k *زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر* *لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأحماله أو راح ما في الغرائر* من إنشاد الشيخ ابن الخباز. {بئس مثل القوم} أي: الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدون {الذين كذبوا} أي: محمداً على علم {بآيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم على رسوله، ولاسيما محمد صلى الله عليه وسلم والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هذا المثل {والله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب الذين تعمدوا الزيغ {الظالمين} أي: الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان، الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة. ولما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه نزل قوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف الرسل {يا أيها الذين هادوا} أي: تدينوا باليهودية {إن زعمتم} أي: قلتم قولاً هو معرض للتكذيب، ولذلك أكذبتموه {إنكم أولياء لله} أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه خصكم بذلك خصوصية مبتدأة {من دون} أي: أدنى رتبة من رتب {الناس} فلم تنفذ الولاية، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لاسيما الأميين {فتمنوا الموت} وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء {إن كنتم} أي: كوناً راسخاً {صادقين} أي: غريقين عند أنفسكم في الصدق، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن المقطوع به أن من كان في كدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر تمنى النقلة إلى وليه. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فلم يقلها منهم أحد علماً منهم بصدقه صلى الله عليه وسلم فلم يقولوا ولم يؤمنوا عناداً منهم» . ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه في المستقبل أيضاً بقوله تعالى: {ولا يتمنونه} أي: في المستقبل {أبداً بما قدمت أيديهم} أي: بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي التي أحاطت به فلم تدع لهم حظاً في الآخرة. تنبيه: قال تعالى هنا: {ولا يتمنونه} وفي البقرة {ولن يتمنوه} (البقرة: 95) قال الزمخشري: لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد {ولن يتمنوه} ومرة بغير لفظه {ولا يتمنونه} قال أبو حيان: وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة، وهي أنها لا تقتضيه. قال بعضهم: وليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين لا ولن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر ا. هـ. ودعواهم الولاية إلى التوسل إلى الجنة لا يلزم منها الاختصاص بالنعم بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية بل البر والفاجر مشتركون فيها. {والله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً {عليم} بالغ العلم محيط بهم هكذا كان الأصل ولكنه تعالى قال: {بالظالمين} تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم، فهو مجازيهم على ظلمهم. {قل} أي: لهؤلاء يا أشرف الرسل {إن الموت الذي تفرون منه} بالكف عن التمني {فإنه ملاقيكم} أي: لا تفوتونه لاحق بكم. تنبيه: في هذه الفاء وجهان: أحدهما: إنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. قال الزجاج: لا يقال: إن زيداً فمنطلق، وههنا قال: {فإنه ملاقيكم} لما في معنى الذي من الشرط أو الجزاء، أي: إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. الثاني: إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور. ولما كان الحبس في البرزخ أمراً لا بد منه مهولاً نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم تردون إلى عالم الغيب} أي: السر {والشهادة} أي: العلانية، أو كل ما غاب عن الخلق، وكل ما شوهد {فينبئكم} أي: يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى {بما كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي: بكل جزء منه بما برز إلى الخارج، وبما كان في جبلاتكم ولو بقيتم لفعلتموه ليجازيكم. {يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بألسنتهم بالإيمان {إذا نودي} أي: من أي مناد كان من أهل النداء {للصلاة} أي: صلاة الجمعة {من} أي: في {يوم الجمعة} كقوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} (فاطر: 40) أي: في الأرض، والمراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال، وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الدور، زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك. وعن أبي داود قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 صلى الله عليه وسلم إذا جلس يوم الجمعة على المنبر على باب المسجد، روي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك حتى إذا كان عثمان، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن الأذان الثاني الذي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نزل أقام الصلاة، فلم يعب ذلك عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» . قال الماوردي: أما الأذان الأول فمحدث فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها، وكان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن سوقهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان أذانين في المسجد. قال ابن العربي: وفي الحديث الصحيح: «أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء» ، وسماه في الحديث ثالثاً لأنه أضافه إلى الإقامة، كقوله صلى الله عليه وسلم «بين كل إذانين صلاة لمن شاء» يعني: الأذان والإقامة، وتوهم بعض الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة. قال ابن عادل: فكان وهماً، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم. واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فمنهم من قال: لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام. روى مالك عن أبن هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام، وفيه أهبط، وفيه مات وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء، وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد» ومنهم من قال: لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات، ومنهم من قال: لاجتماع الجماعات فيه للصلاة، وقيل: أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي. قال أبو سلمة: أول من قال أما بعد: كعب بن لؤي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة، وكان يقول له: يوم العروبة. وعن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة. وقيل: إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى فيه ونصلي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، ثم أنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام. وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمان، قلت له: كم كنتم يومئذٍ، قال: أربعين» أخرجه أبو داوود. وأما أول جمعة جمعها النبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 صلى الله عيه وسلم بأصحابه، فقال أهل السير: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، حين اشتد الضحى ومن تلك السنة يعد التاريخ، فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً، فجمع بهم وخطب وهي أول خطبة خطبها بالمدينة. وقال فيها: «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة، والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط، وضل ضلالاً بعيداً أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله من نفسه فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عنوان صدق على ما تبغون من الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكون له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك {يود لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد} (آل عمران: 30) وهو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} (ق: 29) فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عن سيئاته ويعظم له أجراً {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب: 71) وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه، وأوضح لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين وأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده {هو اجتباكم} و {سماكم المسلمين} (الحج: 78) ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . قال بعضهم: قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم الله بالحمار يحمل أسفاراً وبالسبت وإنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم يوم الجمعة. تنبيه: سمى الله تعالى الجمعة ذكراً له، قال أبو حنيفة: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله: الحمد لله سبحان الله جاز، وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله؛ فارتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً، وإنكم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 عليه أحد. وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة، ولها أركان وشروط مذكورة في الفقه. فإن قيل: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة، وفيها ذكر غير الله؟ أجيب: بأن ما كان من ذكر رسوله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين، وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحق بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان. وهو من ذكر الله على مراحل فإن المنصت للخطبة إذا قال لصاحبه: صه فقد لغا، أفلا يكون الخطيب المغالي في ذلك لاغياً نعوذ بالله من غربة الإسلام، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً، فقال {يا أيها الذين آمنوا} ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليدل على وجوبه وتأكد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة ههنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ، وقال ابن العربي: وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة، وهي قوله تعالى: {من يوم الجمعة} وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه. واختلف في معنى قوله تعالى: {فاسعوا} أي: لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك. فقال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكن سعي بالقلوب والنية، وقال الجمهور: السعي: العمل لقوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} (الإسراء: 19) كقوله تعالى: {إن سعيكم لشتى} (الليل: 4) وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39) وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» واختلفوا أيضاً: في معنى قوله تعالى: {إلى ذكر الله} أي: الملك الأعظم، فقال سعيد بن المسيب: هو موعظة الإمام، وقال غيره: الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك. ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهياً عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة {وذروا البيع} أي: اتركوا البيع والشراء؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعاً، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري: عند خروج الإمام، وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله {ذلكم} أي: الأمر العالي الرتبة من فعل السعي، وترك الاشتغال بالدنيا {خير لكم} لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم. فإن قيل: إذا كان البيع في هذا الوقت محرماً فهل هو فاسد؟. أجيب: بأن عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع، قالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد. وزاد في الحث على ذلك بقوله تعالى: {إن كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعلمون} أي: يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك خيراً لكم وصلاة الجمعة فرض عين تجب على كل من جمع الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والإقامة، إذا لم يكن له عذراً مما ذكره الفقهاء، ومن تركها استحق الوعيد. قال صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله تعالى على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله تعالى على قلبه» قال ابن عادل: ونقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية، أما من به عذر يعذر به في ترك الجماعة مما يتصور هنا فلا تجب عليه، وتجب على أعمى وجد قائداً وشيخ هرم وزمن وجدا مركباً لا يشق ركوبه عليهما. واختلف أهل العلم في موضوع إقامة الجمعة، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها، فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً بالصفة المتقدمة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها، وهو قول عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق قالوا: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم وال. وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة، والوالي شرط، ولا تقام عنده إلا في مصر جامع. وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة إن كان فيهم وال. وقال الحسن، وأبو ثور: تنعقد باثنين كسائر الصلوات، وقال شعبة: تنعقد باثني عشر رجلاً ولا تجب الجمعة على أهل البوادي إلا إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة، فيلزمهم الحضور، وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت في وقت تكون الأصوات هادئة، والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة. وقال سعيد بن المسيب: تجب الجمعة على من آواه المبيت. قال الزهري: تجب على من كان على ستة أميال وقال ربيعة: على أربعة أميال، وقال مالك والليث: على ثلاثة أميال، وقال أبو حنيفة: لا جمعة على أهل البوادي سواء كانت القرية قريبة أم بعيدة. دليل الشافعي ومن وافقه ما روى البخاري عن ابن عباس: «أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤانا من البحرين» ، ولأبي داود نحوه، وفيه بجؤانا قرية من قرى البحرين» . تنبيه: فضل يوم الجمعة مشهور وأحاديثه كثيرة مشهورة تقدم بعضها، ومنها: أن الله يعتق في كل جمعة ستمائة عتيق من النار» ، وعن كعب: إن الله تعالى فضل من البلدان مكة، ومن الشهور رمضان، ومن الأيام الجمعة. وقال صلى الله عليه وسلم «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر» وفي الحديث «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة، وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم» قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 الزمخشري: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج، وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه فاغتم وأخذ يعاتب نفسه ويقول: أراك رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ـ أي: مثل غسلها ـ ثم راح في الساعة الأولى كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر» وروى النسائي «في الخامسة كالذي يهدي عصفوراً، وفي السادسة بيضة، فمن جاء في أول ساعة منها، ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل البدنة مثلاً، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر، وبدنة المتوسط متوسطة» وهذا في حق غير الإمام أما هو فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ويسن إكثار الدعاء يومها وليلتها، أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة، وهي ساعة خفية وإرجاها من جلوس الخطيب إلى آخر الصلاة كما في خبر مسلم. قال النووي: وأما خبر: «يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيه ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر فيحتمل أن هذه الساعة منتقلة تكون يوماً في وقت، ويوماً في آخر كما هو المختار في ليلة القدر. وأما ليلتها فبالقياس على يومها، وقد قال الشافعي: بلغني أن الدعاء يستجاب في ليلة الجمعة، ويسن إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها لخبر: «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً» وإكثار قراءة سورة الكهف يومها وليلتها لخبر: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» وخبر: «من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» وفي هذا القدر كفاية. ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها بين لهم وقت المعاش بقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} أي: وقع الفراغ منها على أيّ وجه كان {فانتشروا} أي: فدبوا وتفرقوا مجتهدين {في الأرض} أي: جميعها للتجارة والتصرف في حوائجكم إن شئتم لا جناح عليكم ولا حرج رخصة من الله تعالى لكم {وابتغوا} أي: اطلبوا الرزق {من فضل الله} أي: الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره، وهذا أمر إباحة كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: 2) قال ابن عباس: إن شئت فاخرج، وإن شئت فاقعد، وإن شئت فصل إلى العصر. وقيل: فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا، ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله تعالى. وقال الحسن، وسعيد بن جبير ومكحول {وابتغوا من فضل الله} هو طلب العلم {واذكروا الله} أي: الذي له الأمر كله {كثيراً} أي: بحيث لا تغفلون عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع، واستثني من الثاني وقت التلبس بالقذر كوقت قضاء الحاجة والجماع {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون بالجنة والنظر إلى وجهه الكريم وعن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً» وفي رواية «أنا فيهم» فأنزل الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة} أي: حمولاً هي موضع للتجارة {أو لهواً} أي: ما يلهي عن كل نافع {انفضوا} أي: نفروا متفرقين من العجلة {إليها} أي: التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو، وأيضاً العطف بأو فإفراد الضمير أولى. وقال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الكلبي وغيره: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما تحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثنى عشر رجلاً، وقيل: أحد عشر رجلالاً وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط. وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً» . وقال مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم المدينة لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وغيره، فينزل عند أحجار الزيت، وكانت في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه الناس ليتبايعوا منه، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لولا هؤلاء لرميت عليهم الحجارة من السماء» وأنزل الله تعالى هذه الآية والمراد باللهو الطبل. وقيل: كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوا بالطبل والتصفيق. وقال علقمة: سئل عبد الله أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً فقال: أما تقرأ {وتركوك قائماً} وعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس» وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقاً لفضلهم أن لا يفعلوا، فقال: حدثنا محمد بن خالد، قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له: دحية بن خليفة قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة الخطبة وأخر الصلاة، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستتراً به حتى يخرج فأنزل الله تعالى: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} (النور: 63) الآية» . قال السهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحاً وقال قتادة: وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة. وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وقوله تعالى: {وتركوك} أي: تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر: أنا أحدهم {قائماً} جملة حالية من فاعل انفضوا، وقد مقدرة عند بعضهم. تنبيه: في قوله تعالى: {قائماً} تنبيه على مشروعيته في الخطبتين، وهو من الشروط للقادر على القيام، وأما أركانهما فخمسة: حمد الله تعالى، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظهما، ووصية بتقوى الله، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية، ومن الشروط كونهما عربيتين، وكونهما في الوقت، وولاء، وطهر، وستر كالصلاة {قل} يا أشرف الخلق للمؤمنين {ما عند الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {خير} ما موصولة مبتدأ وخير خبرها {من اللهو ومن التجارة} والمعنى: ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم، وفائدة تجارتكم. وقيل: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم {والله} أي: ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} أي: خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين» حديث موضوع. سورة المنافقين مدنية وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمةوسبعمائة وستة وسبعون حرفاً {بسم الله} الذي له الإحاطة العظمى علماً وقدرة {الرحمن} الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده {الرحيم} الذي وفق أهل وده لما يحبه ويرضاه. {إذا جاءك} يا أيها الرسول المبشر بك في التوراة والإنجيل، وقرأ حمزة وابن ذكوان بالإمالة والباقون بالفتح، وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المد والقصر، وله أيضاً إبدالها ألفاً مع المد والقصر {المنافقون} أي: الغريقون في وصف النفاق، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه {قالوا} مؤكدين لأجل استشعارهم بتكذيب من يسمعهم لما عندهم من الارتياب {نشهد} قال الحسن: هو بمنزلة اليمين كأنهم قالوا نقسم {إنك لرسول الله} أي: الملك الذي له الإحاطة الكاملة فوافقوا الحق بظاهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 أحوالهم، وخالفوا بقلوبهم وأفعالهم. وقوله تعالى: {والله يعلم} أي: وعلمه هو العلم في الحقيقة، وأكد سبحانه بحسب إنكار المنافقين فقال تعالى: {إنك لرسوله} سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا فالشهادة حق ممن يطابق لسانه قلبه جملة معترضة بين قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} وبين قوله تعالى: {والله يشهد} لفائدة. قال الزمخشري: لو قال قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد انهم لكاذبون، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب فوسط بينهما قوله تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله} ليميط هذا الإيهام {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {يشهد} شهادة هي الشهادة لأنها محيطة بدقائق الظاهر والباطن {إن المنافقين} أي: الراسخين في وصف النفاق {لكاذبون} أي: في إخبارهم عن أنفسهم إنهم يشهدون، لأن قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره بباطنه وسره بعلانيته، ومتى تخالف ذلك فهو كذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه الله تعالى كذباً لأن قولهم خالف اعتقادهم. {اتخذوا أيمانهم} أي: كلها من شهادتهم وكل يمين سواها {جنة} أي: سترة عن أموالهم ودمائهم، روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل {إذا جاءك المنافقون} إلى قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} وقوله {ليخرجن الأعز منها الأذل} فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إن الله قد صدقك» وروى الترمذي عن زيد بن أرقم قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقوننا فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض، ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع حجراً ففاض الماء، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، يعني: الأعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد، قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المنافقون، قال: فوقع علي من جراءتهم ما لم يقع على أحد، قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 رأسي من الهمّ؛ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني، وضحك في وجهي فكان ما يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدنيا، ثم إنّ أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له: مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي «أنه صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ، واقتتلا فصرخ جهجه: يا للمهاجرين، وسنان يا للأنصار فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين، ولطم سناناً، فقال عبد الله لجعال: وأنت هناك وقال: ما صحبنا محمداً إلا لتلطم وجوهنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، عنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث، فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عز من الرحمن وقوّة من المسلمين، فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فقال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب، قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً، قال: فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه؟ وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله: أنت صاحب الكلام الذي بلغني، قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك، وإنّ زيداً لكاذب فهو قوله تعالى: {اتخذوا إيمانهم جنة} فقال الحاضرون: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعلك غضبت عليه، قال: لا، قال: فلعله أخطأ سمعك، قال: لا، قال: فلعله شبه عليك، قال: لا، فلما نزلت لحق صلى الله عليه وسلم زيداً من خلفه فعرك أذنه، وقال: وعت أذنك يا غلام إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين» . تنبيه:: سئل حذيفة بن اليمان عن المنافق فقال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به. وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وروى عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهنّ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» وروي عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال: إنّ بني يعقوب حدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، إنما هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق، وليس المعنى أنّ من ندرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن إذا حدث صدق، وإذا وعد نجز، وإذا ائتمن وفى» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 والمعنى المؤمن الكامل {فصدّوا} أي: فسبب لهم اتخاذهم هذا أن أعرضوا بأنفسهم مع سوء البواطن وحرارة ما في الصدور، وحملوا غيرهم على الإعراض {عن سبيل الله} أي: عن طريق الملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجراءتهم على الأيمان الخائنة {إنهم ساء ما كانوا} أي: جبلة وطبعاً {يعملون} أي: يجدّدون عمله مستمرّين عليه بما هو كالجبلة من جراءتهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلص عباده بالأيمان الخائنة. ولما كانت المعاصي تعمي القلوب فكيف بأعظمها علله بقوله تعالى: {ذلك} أي: سوء عملهم {بأنهم آمنوا ثم كفروا} . فإن قيل: إنّ المنافقين لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله تعالى: {آمنوا ثم كفروا} ؟ أجيب: بثلاثة أوجه: أحدها: آمنوا، أي: نطقوا بكلمة الشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا أي: ثم ظهر كفرهم بعد ذلك، وتبين بما اطلع عليه من قولهم إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات، ونحوه قوله: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} (التوبة: 74) أي: وظهر كفرهم بعد أن أسلموا، ونحوه {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (التوبة: 66) والثاني: آمنوا أي: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام بقوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا} إلى قوله {إنما نحن مستهزؤن} (البقرة: 14) وهذا إعلام من الله تعالى بأنّ المنافقين كفار. الثالث: أن يراد أنّ ذلك في قوم آمنوا ثم ارتدّوا {فطبع} أي: فحصل الطبع وهو الختم مع أنه معلوم أنه لا يقدر على ذلك غيره سبحانه {على قلوبهم} أي: لأجل اجترائهم على ما هو أكبر الكبائر على وجه النفاق {فهم} أي: فتسبب عن ذلك أنهم {لا يفقهون} أي: لا يقع لهم فقه في شيء من الأشياء، فهم لا يميزون صواباً من خطأ، ولا حقاً من باطل. {وإذا رأيتهم} أي: أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة، أو أيها الرائي كائناً من كان بعين البصر {تعجبك أجسامهم} لضخامتها وصباحتها، فإنّ عنايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق. قال ابن عباس: كان ابن أبيّ جسيماً صحيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ويستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم {وإن يقولوا} أي: يوجد منهم قول في وقت من الأوقات {تسمع لقولهم} أي: لفصاحته فيلذذ السمع ويروق الفكر {كأنهم} أي: في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم، وفي عدم الانتفاع بهم في شيء {خشب} جمع كثرة لخشبة، وهو دليل على كثرتهم {مسندة} أي: قطعت من مغارسها ممالة إلى الجدار. وقرأ أبو عمرو والكسائي بسكون الشين، والباقون بضمها {يحسبون} أي: لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم {كل صيحة} أي: من نداء مناد في إنشاد ضالة، أو انفلات دابة، أو نحو ذلك واقعة {عليهم} وضارّة لهم لجبنهم وهلعهم لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم. ومنه أخذ الأخطل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 *مازلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالاً* ومنه قول الآخر: *كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل* *يخال إليه أنّ كل ثنية ... تيممها ترمي إليه بقاتل* {هم العدوّ} أي: الكامل العداوة بما دل عليه الأخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع، إشارة إلى إنهم في شدّة عداوتهم للإسلام وأهله، وكمال قصدهم وشدّة سعيهم فيه على قلب رجل واحد، وإن أظهروا التودّد في الكلام، والتقرّب به إلى أهل الإسلام فإنّ ألسنتهم معكم إذا لقوكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم فهم عيون لهم عليكم {فاحذرهم} لأنّ أعدى عدوّك من يعاشرك وتحت ضلوعه الداء لكنه يكون بلطف الله دائم الخذلان منكوساً في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسرّ قوله تعالى: {قاتلهم الله} أي: أحلهم الملك المحيط قدرة وعلماً محل من يقاتله عدوّ قاهر له أشدّ مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين. وقال ابن عباس: أي لعنهم الله، وقال أبو مالك: هي كلمة ذم وتوبيخ، وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره فيضعونه موضع التعجب {أنى} أي: كيف، ومن أيّ جهة {يؤفكون} أي: يصرفهم عن قبح ما هم عليه صارف ما كائن ما كان ليرجعوا عما هم عليه، وقال ابن عباس: أنى يؤفكون، أي: يكذبون، وقال مقاتل: أي: يعدلون عن الحق، وقال الحسن: يصرفون عن الرشد، وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل، وهو من الإفك. {وإذا قيل لهم} أي: من أيّ قائل كان {تعالوا} أي: ارفعوا أنفسكم مجتهدين في ذلك بالمجيء إلى أشرف الخلق الذي لا يزال مكانه عالياً لعلوّ مكانته {يستغفر لكم} أي: يطلب الغفران لأجلكم خاصة من أجل هذا الكذب أي: الذي أنتم مصرّون عليه {رسول الله} أي: أقرب الخلق إلى الملك الأعظم الذي لا شبيه لوجوده {لوّوا رؤوسهم} أي: فعلوا اللي بغاية الشدّة والكثرة، وهو الصرف إلى جهة أخرى إعراضاً وعتواً، وإظهاراً للبغض والنفرة {ورأيتهم} أي: بعين البصيرة {يصدّون} أي: يعرضون إعراضاً قبيحاً عما دعوا إليه، مجدّدين لذلك كلما دعوا إليه، والجملة في وضع المفعول الثاني لرأيت {وهم مستكبرون} أي: ثابتوا الكبر عما دعوا إليه، وعن إحلال أنفسهم في محل الاعتذار فهم لشدّة غلظهم لا يدركون قبح ما هم عليه، ولا يهتدون إلى دوائه، وإذا أرشدهم غيرهم ونبههم لا ينتبهون. فقد روي أنه لما نزل القرآن فيهم أتاهم عشائرهم من المؤمنين، وقالوا: ويحكم افتضحتم وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يستغفر لكم فلووا رؤوسهم، أي: حرّكوها إعراضاً وإباء قاله ابن عباس. وعنه: أنه كان لعبد الله بن أبي موقف في كل سبت يحض على طاعة الله وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليك غضبان، فأته يستغفر لك فأبى، وقال: لا أذهب إليه. وروي أنّ ابن أبيّ رأسهم لوى رأسه، وقال لهم: أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد فنزل {وإذا قيل لهم تعالوا} الآية. ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 ومات. ولما كان صلى الله عليه وسلم يحب صلاحهم فهو يحب أن يستغفر لهم، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم، قال تعالى منبهاً على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون: {سواء عليهم أستغفرت لهم} استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل {أم لم تستغفر} الله {لهم} أي: سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدّون به لكفرهم {لن يغفر الله} أي: الملك الأعظم {لهم} لرسوخهم في الكفر {إن الله} أي: الذي له كمال الصفات {لا يهدي القوم} أي: الناس الذين لهم قوّة في أنفسهم على ما يريدونه {الفاسقين} أي: لأنهم لا عذر لهم في الإصرار على الفسق، وهو المروق من حصن الإسلام بخرقه وهتكه مرّة بعد مرّة، والتمرن عليه حتى استحكم فهم راسخون في النفاق، والخروج عن مظنة الإصلاح. {هم} أي خاصة بخالص بواطنهم {الذين يقولون} أي: أوجدوا هذا القول للأنصار، ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير {لا تنفقوا} أي: أيها المخلصون في النصرة {على من} أي: الذين {عند رسول الله} أي: الملك المحيط بكل شيء، وهم فقراء المهاجرين {حتى ينفضوا} أي: يتفرّقوا فيذهب كل أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك. قال البقاعي: وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله تعالى غيرهم للإنفاق، أو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً، أو كان بحيث لا ينفد، أو أعطى كلاً يسيراً من طعام على كيفية لا ينفد معها كتمر أبي هريرة، وشعير عائشة، وعكة أمّ أيمن وغير ذلك كما روى غير مرّة، ولكن {من يضلل الله فما له من هاد} (الزمر: 23) ولذلك عبر في الردّ عليهم بقوله تعالى: {ولله} أي: قالوا ذلك واستمرّوا على تجديد قوله، والحال أنّ الملك الذي لا أمر لغيره {خزائن السموات} أي: كلها {والأرض} كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدوره، {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها، حتى مما في أيديهم لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يده غيره. ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم: إن كان محمد صادقاً فنحن شرّ من البهائم بقوله تعالى: {ولكن المنافقين} أي: العريقين في وصف النفاق {لا يفقهون} أي: يتجدّد لهم فهم أصلاً كالبهائم بل هم أضل، لأنّ البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً في مكان طلبته مرة أخرى، وهؤلاء رأوا غير مرّة ما أخرج الله تعالى من خوارق البركات على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك، ودل على عدم نفعهم بقوله تعالى: {يقولون} أي: يوجدون هذا القول ويجدّدونه مؤكدين لاستشعارهم بأنّ أكثر قومهم ينكره {لئن رجعنا} أي: أيتها العصابة المنافقة {إلى المدينة} أي: من غزاتنا هذه، وهي غزوة بني المصطلق حيّ من هذيل خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل {ليخرجنّ الأعز} يعنون أنفسهم {منها} أي: المدينة {الأذل} يعنون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم كاذبون في هذا لكونهم تصوروا لشدة غباوتهم أنّ العزة لهم، وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين {وله} أي: والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 {العزة} أي: الغلبة كلها {ولرسوله} لأنّ عزتّه من عزته {وللمؤمنين} فعزة الله قهره من دونه، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم {ولكن المنافقين} أي: الذين استحكم فيهم مرض القلوب {لا يعلمون} أي: لا يوجد لهم علم الآن، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف. روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته، وقال: أنت والله الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز. ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب، وهو عبد الله غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وقال «إن حباباً اسم شيطان» وكان مخلصاً، وقال: وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته. وروي أنه قال: لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك، فقال: ويحك أفاعل أنت؟ قال: نعم، فلما رأى منه الجدّ، قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً» . فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى: {لا يفقهون} وختم الثانية بقوله تعالى: {لا يعلمون} ؟. أجيب: بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم، وبالثانية حماقتهم وجهلهم. ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم، أو من فقه يفقه كعظم يعظم، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف، والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي. ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان، وقلوبهم مذعنة كظواهرهم {لا تلهكم} أي: لا تشغلكم {أموالكم ولا أولادكم} سواء كان ذلك في إصلاحها، أو التمتع بها بحيث تغفلون {عن ذكر الله} أي: الملك الأعظم حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي: لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون؛ إذ قالوا لأجل الشح بأموالهم {لا تنفقوا على من عند رسول الله} وقوله تعالى: {عن ذكر الله} قال الضحاك: أي: عن الصلوات الخمس، نظيره: قوله تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور: 37) وقال الحسن: عن جميع الفرائض، كأنه قال: عن طاعة الله تعالى. وقيل: عن الحج والزكاة. وقيل عن قراءة القرآن، وقيل: عن إدامة الذكر، وقيل: هذا خطاب للمنافقين، أي: آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب. ولما كان التقدير فمن انتهى فهو من الفائزين عطف عليه قوله تعالى: {ومن يفعل} أي: يوقع في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل {ذلك} أي: الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي {فأولئك} البعداء عن الخير {هم الخاسرون} أي: العريقون في الخسارة في تجارتهم، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، حتى كأنهم مختصون بها دون الناس، وذلك بضد ما أرادوا. {وأنفقوا} أي: ما أمرتم به من واجب أو مندوب كما قاله بعض المفسرين، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد زكاة الأموال، وهو ظاهر الأمر. ثم إنّ الله تعالى زاد في الترغيب بالرضا منهم باليسير بقوله تعالى: {مما رزقناكم} أي: بعظمتنا. قال الزمخشري: من في {مما رزقناكم} للتبعيض، والمراد الإنفاق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 الواجب ا. هـ. ثم قال تعالى محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة: {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي: يرى دلائله وأماراته وكل لحظة مرّت فهي دلائله وأماراته. قال القرطبي: وهذا دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلاً، أي: بلا عذر، وكذا سائر العبادات إذا دخل وقتها. وقال الرازي: وبالجملة فقوله تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} تنبيه على المحافظة على الذكر قبل الموت، وقوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} تنبيه على الشكر كذلك. ولما كانت الشدّة تقتضي الإقبال إلى الله تعالى سبب عن ذلك قوله تعالى: {فيقول} أي: سائلاً في الرجعة، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله: {رب لولا} أي: هلا ولم لا {أخرتني} أي: أخرت موتي إمهالاً {إلى أجل} أي: زمان، وقوله {قريب} بين به أن مراده استدراك ما فات ليس إلا، وقيل: لا زائدة ولو للتمني أي: لو أخرتني إلى أجل قريب {فأصدّق} أي: للتزوّد في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل. وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه: أنها نزلت في مانعي الزكاة، ووالله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكرّة، قال: نعم أنا أقرأ عليكم قرآناً يعني: أنها نزلت في المؤمنين، وهم المخاطبون بها. وكذا عن الحسن: ما من أحد لم يزك، ولم يصم، ولم يحج إلا سأل الرجعة. وقال الضحاك: لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤدّ الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة، وعن عكرمة: نزلت في أهل القبلة. وقيل: نزلت في المنافقين، ولهذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هذه الآية تدل على أنّ القوم لم يكونوا من أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا والتأخير فيها أحد له عند الله تعالى خير في الآخرة، أي: إذا لم يكن بالصفة المتقدمة. قال القرطبي: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة. وقرأ {وأكون من الصالحين} أي: العريقين في هذا الوصف بالتدارك أبو عمرو بواو بعد الكاف ونصب النون عطفاً على فأصدّق، والباقون بحذف الواو لالتقاء الساكنين وجزم النون. واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: عطفاً على محل فأصدّق، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع لأنّ التقدير: إن أخرتني أصدّق وأكن، هذا مذهب أبي عليّ الفارسي. وقال القرطبي: عطفاً على موضع الفاء لأنّ قوله: {فأصدّق} لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً، أي: أصدّق. ثم زاد تعالى في الحث على المبادرة بالطاعات قبل الفوات بقوله تعالى مؤكداً لأجل عظم الرجاء من هذا المحتضر بالتأخير عاطفاً على ما، تقديره: فلا يؤخره الله فيفوته ما أراد: {ولن يؤخر الله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له فلا اعتراض عليه {نفساً} أيّ نفس كانت، وحقق الأجل بقوله تعالى: {إذا جاء أجلها} أي: وقت موتها الذي حدّه الله تعالى لها فلا يؤخر الله تعالى نفس هذا القائل، لأنها من جملة النفوس التي شملها النفي. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية بعد تحقيق الأولى، ولهما أيضاً إبدالها ألفاً، والباقون بتحقيقهما {والله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة علماً وقدرة {خبير} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 بالغ الخبرة والعلم ظاهراً وباطناً {بما تعملون} أي: توقعون عمله في الماضي والحال والمآل كله باطنه وظاهره. وقرأ شعبة بالياء التحتية على الغيبة على الخبر عمن مات، وقال هذه المقالة، والباقون بالفوقية على الخطاب. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق» حديث موضوع. سورة التغابن مدنية في قول الأكثرين، وقال الضحاك: مكية، وقال الكلبي: مدنية ومكية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن سورة التغابن نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجلّ {يا أيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم} إلى آخرها، وهي ثماني عشرة آية، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وألف وسبعون حرفاً. {بسم الله} مالك الملك فلا كفء له ولا مثيل {الرحمن} أي: الذي وسع الخلائق بره الجليل {الرحيم} الذي خص من عمه فوفقهم للجميل. {يسبح} أي: يوقع التنزيه التامّ مع التجديد والاستمرار {لله} أي: الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {ما في السموات} أي: كلها {وما في الأرض} كذلك، وقيل: اللام زائدة، أي: ينزه الله تعالى، قال الجلال المحلي: وأتى بما دون من تغليباً للأكثر {له} أي: وحده {الملك} أي: كله مطلقاً في الدنيا والآخرة {وله} أي: وحده {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال كلها، فلذلك نزهه جميع مخلوقاته وقدّم الظرفين ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى، وذلك بأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به والمهيمن عليه، وكذا الحمد لأنّ أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمده اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يده {وهو على كل شيء قدير} {هو} أي: وحده {الذي خلقكم} أي: أنشأكم على ما أنتم عليه {فمنكم} أي: فتسبب عن خلقه لكم وتقديره {كافر} أي: عريق في صفة الكفر {ومنكم مؤمن} أي: راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في القيامة مؤمناً وكافراً. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون فقال: تولد الناس على طبقات شتى، يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت مؤمناً» ، أي: وسكت عن القسم الآخر، وهو أن يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت كافراً اكتفاء بالمقابل، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خلق الله تعالى فرعون في بطن أمّه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا عليهما السلام في بطن أمّه مؤمناً وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 الجنة فيدخلها» وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة» قال القرطبي: قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر. وقيل: في الكلام محذوف، تقديره: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن. وقال غيره: لا حذف لأنّ المقصود ذكر الطرفين، وقيل: إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير: هو الذي خلقكم، ثم وصفهم فقال: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كقوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء} (النور: 45) ثم قال تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه} (النور: 45) الآية. قالوا: فإنه خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» قال البغوي: وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع على الكفر» وقال تعالى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} (نوح: 27) وروى أنس رضى الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكل الله بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: يا رب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب ذلك في بطن أمه» وقال الضحاك: فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في العلانية والسرّ، كعمار وزيد. وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني: في شأن الأنواء كما جاء في الحديث. قال القرطبي: وقال الزجاج: وهو أحسن الأقوال. والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر وكفره فعل له، وكسب واختيار، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له، وكسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأنّ الله تعالى أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأنّ الله تعالى قدره عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كل منهما غير الذي قدره عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل فلا يليقان بالله تعالى. قال البغوي: وهذا طريق أهل السنة، من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر. قال الرازي: فإن قيل: إنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه تعالى إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر فأيّ حكمة دعت إلى خلقهم؟. فالجواب: إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أنّ أفعاله كلها على وفق الحكمة فيكون خلقه تعالى هذه الطائفة على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {بما تعملون} أي: توقعون عمله كسباً {بصير} أي: بالغ العلم بذلك، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية، لأنه لا يتصور أن يخلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 الخالق ما لا يعلمه، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه، ومتى زمانه فكيف، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه. ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن والظواهر. وقوله تعالى: {خلق السموات} أي: على علوها وكبرها {والأرض} على سعتها {بالحق} أي: بالأمر الذي يطابقه الواقع لما أراد {وصورّكم} أي: آدم عليه السلام خلقه بيده كرامة له. قال مقاتل: وقيل: جميع الخلائق على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات، ولا السفليات، ولا فيها صور توافق الأخرى من كل وجه {فأحسن صوركم} فجعلها أحسن الحيوانات كلها كما هو مشاهد، وبدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أن خلقه منتصباً غير منكب كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4) كما يأتى إن شاء الله تعالى. فإن قيل: قد يوجد في أفراد هذا النوع من كل مشوه الخلقة سمج الصورة. أجيب: بأنه لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حدّه، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه. ولذا قال الحكماء: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى. قال البقاعي: فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الغزالي إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه لا يقدر أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد، ا. هـ. وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه كما قال الإمام مالك، وعزاه الغزالي نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي: صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهداً وإني لا علم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} (النساء: 82) ولما كان التقدير فكان منه سبحانه المبدأ عطف عليه قوله تعالى: {وإليه} وحده {المصير} أي: المرجع بعد البعث فيجازى كلاً بعمله. {يعلم} أي: علمه حاصل في الماضي والحال والمآل {ما} أي: كل شئ {في السماوات} أي: كلها {والأرض} كذلك {ويعلم} أي: على سبيل الاستمرار {ما تسرون} أي: تخفون {وما تعلنون} أي: تظهرون من الكلمات والجزئيات {والله} أي: الذي له الإحاطة التامة {عليم} أي: بالغ العلم {بذات} أي: صاحبة {الصدور} من الأسرار والخواطر التي لم تبرز في الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أم لا، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي نبه بعمله ما في السماوات والأرض، ثم يعلم ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور إن شيئاً من الجزئيات والكليات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه، ولا يجترىء على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. {ألم يأتكم} أيها الناس ولا سيما الكفار {نبأ} أي: خبر {الذين كفروا من قبل} كقوم نوح وهود وصالح {فذاقوا} أي: باشروا مباشرة الذائق {وبال أمرهم} أي: ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل: المطر الثقيل القطر {ولهم عذاب أليم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 أي: مؤلم في البرزخ ثم يوم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم. {ذلك} أي: الأمر العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق {بأنه} أي: بسبب أن الشان العظيم البالغ في الفظاعة {كانت تأتيهم} على عادة مستمرة {رسلهم} أي: رسل الله الذين أرسلهم إليهم {بالبينات} أي: الحجج الظاهرات على الإيمان {فقالوا} أي: الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً، وقولهم: {أبشر يهدوننا} يجوز أن يرتفع بشر على الفاعلية ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح لأن الأداة تطلب الفعل، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبر، وجمع الضمير في يهدوننا؛ إذ البشر اسم جنس، وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى: {ما هذا بشراً} (يوسف: 31) فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم {فكفروا} أي: بهذا القول؛ إذ قالوه استصغاراً ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده {وتولوا} عن الإيمان. فإن قيل: قوله تعالى: {فكفروا} تعميم يفهم منه التولي فما الحاجة إلى ذكره؟ أجيب: بأنهم كفروا وقالوا: {أبشر يهدوننا} وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي، فلهذا قال: {فكفروا وتولوا} ، وقيل: كفروا بالرسل وتولوا بالبرهان، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. ونبه بقوله تعالى: {واستغنى الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه على أن هذا إنما هو لمصالح الخلق فهو غني عن كل شيء. فإن قيل: قوله تعالى: {وتولوا واستغنى الله} يوهم وجود التولي والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنياً؟ أجيب: بأن معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك {والله} أي: المستجمع الصفات الكمال {غني} عن خلقه {حميد} أي: محمود في أفعاله. {زعم الذين كفروا} أي: أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى، ولو على أدنى الوجوب. وزعم قال ابن عربي: كنية الكذب، وقال الزمخشري: الزعم ادعاء العلم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «زعموا مطية الكذب» وعن شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود: «بئس مطية الرجال زعموا» {أن لن يبعثوا} أي: من أي باعث ما بوجه من الوجوه {قل} أي: يا أشرف الرسل لهؤلاء البعداء {بلى} أي: لتبعثن ثم أكد بصريح القسم فقال: {وربي} أي: المحسن إلي بالانتقام ممن كذب بي {لتبعثنّ} أي: بأهون شيء وأيسر أمر {ثم لتنبؤن} أي: تخبرنّ إخباراً عظيماً ممن يقيمه الله تعالى لإخباركم {بما عملتم} أي: بأعمالكم لتجزون عليها {وذلك} أي: الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب {على الله} أي: المحيط بصفات الكمال وحده {يسير} إذ الإعادة أسهل من الابتداء. فإن قيل: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث، وهم قد أنكروا الرسالة؟. أجيب: بأنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون الإخبار عنده صدقاً أظهر من الشمس في اعتقاده، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسماً بعد قسم. ثم إن الله تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال تعالى: {فآمنوا بالله} أي: الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء {ورسوله} أي: كل من أرسله ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم {والنور} أي: القرآن {الذي أنزلنا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 أي: بما لنا من العظمة؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلالة كما يهتدى بالنور في الظلمات. فإن قيل: هلا قيل: ونوره، بالإضافة كما قال: ورسوله؟ أجيب بأن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة فكأنه قال: ورسوله ونوره {والله} أي: المحيط علماً وقدرة {بما تعملون خبير} أي: بالغ العلم بما تسرون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية. وقوله تعالى: {يوم يجمعكم} منصوب بقوله تعالى: {لتنبئون} عند النحاس و {بخبير} عند الحوفي لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم، وباذكر مضمراً عند الزمخشري فيكون مفعولاً به، أو بما دلّ عليه الكلام، أي: تتفاوتون يوم يجمعكم؛ قاله أبو البقاء {ليوم الجمع} أي: لأجل ما يقع في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض. وقيل: يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل: يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، وقيل: يجمع فيه بين كل نبي وأمّته، وقيل: يجمع فيه ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي، بل هو جامع لجميع ما ذكر {ذلك} أي: اليوم العظيم {يوم التغابن} والتغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأن نزولهم ليس بغبن. ولهذا قيل: التفاعل هنا من واحد لا من اثنين، وفي الحديث «ما من عبد أدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرةً» وهو معنى {ذلك يوم التغابن} وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظاماً له وإن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت. وذكر في بعض التفاسير أن التغابن هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه ليرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله فيدخل الأول النار والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغبن البين، والمغابن ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين، والمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وبصنيعه في الآثام. قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه. فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها؟ أجيب: بأنه تمثيل للغبن في الشراء والبيع كقوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} (البقرة: 16) فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، ذكر أيضاً أنهم غبنوا وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً. وقد فرق الله تعالى الخلق فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للنار، وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف: رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ولم يعمل فيه خيراً، وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد فعمل ذلك العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي. وروى القرطبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولاً: ما أنتما قائلان؟ فيقول الرجل: يا رب أوجبت نفقتها علي فنفقتها من حرام ومن حلال، وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك، ولم يبق لي ما أوفي، فتقول المرأة: يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراماً وأكلته حلالاً، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعداً له وسحقاً، فيقول الله تعالى: قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له: غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به، فذلك يوم التغابن» . وقال بعض علماء الصوفية: إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال صلى الله عليه وسلم «لا يلقى الله أحد إلا نادماً إن كان مسيئاً إن لم يحسن، وإن كان محسناً إن لم يزدد» . تنبيه:: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {ذلك يوم التغابن} أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى: {ذلك يوم التغابن} وهذا الاختصاص يفيد أن لاغبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم لحسان بن سعد: «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثاً» ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبداً {ومن يؤمن} أي: يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار {بالله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له {ويعمل} تصديقاً لإيمانه {صالحاً} أي: عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار {يكفر عنه سيئاته} التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء، والرهبة والرغبة، والنذارة والبشارة {ويدخله} أي: رحمة له وإكراماً وفضلاً {جنات} أي: بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها وأشجارها {الأنهار} وقرأ نكفر عنه وندخله، نافع وابن عامر بالنون فيهما، أي: نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية، أي: الله الواحد القهار {خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها} وأكده بقوله: {أبداً} فلا خروج لهم منها {ذلك} أي: الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام {الفوز العظيم} لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم. ولما ذكر تعالى الفائز بلزومه التقوى ترغيباً اتبعه بضده ترهيباً فقال عز من قائل: {والذين كفروا} أي: غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظلام {وكذبوا} أي: أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب {بآياتنا} أي: بسببها مع مالها من العظمة بإضافتها إلينا وهي القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 فلم يعملوا به {أولئك} أي: البعداء البغضاء {أصحاب النار خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها وبئس المصير} هي، قال الرازي: فإن قيل: قال تعالى في حق المؤمنين {ومن يؤمن بالله} بلفظ المستقبل، وفي الكفار قال: {والذين كفروا} بلفظ الماضي. فالجواب: أن تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار. فإن قيل: قال تعالى: {يؤمن} بلفظ الوحدان و {خالدين فيها} بلفظ الجمع. أجيب: بأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وبئس المصير} بعد قوله تعالى: {خالدين فيها} وذلك بئس المصير؟ أجيب: بأن ذلك وإن كان في معناه فهو تصريح بما يؤكده كما في قوله: {أبداً} . {ما أصاب} أحداً {من مصيبة} أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية في نفس أو مال أو قول أو فعل تقتضي هماً، أو توجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً {إلا بإذن الله} أي: بتقدير الملك الأعظم. وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله، وقيل: سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة إلا بقضائه وقدره. فإن قيل: بم يتصل قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} ؟ أجيب: بأنه يتعلق بقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} . {ومن يؤمن بالله} يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بقضاء الله الملك الأعظم وتقديره وإذنه {يهد قلبه} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن يجعل في قلبه اليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أي: فيسلم لقضاء الله وقدره. وقال الكلبي: هو إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقيل: يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة، وقيل: يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الحيري: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل: يهد قلبه عند المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاله ابن جبير. {والله} أي: الملك الذي لا نظير له {بكل شيء} مطلقاً من غير استثناء {عليم} فلا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره، فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح عنه كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة. {وأطيعوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له الأمر كله {وأطيعوا الرسول} أي: هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله تعالى، واعملوا بكتابه وأطيعوا الرسول في العمل بسنته {فإن توليتم} أي: عن الطاعة {فإنما على رسولنا} أضافه إليه على وجه الكمال تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه {البلاغ المبين} أي: الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاح، ولم يدع لبساً، وليس إليه خلق الهداية في القلوب. {الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {لا إله إلا هو} فهو القادر على خلق الهداية في القلوب والإقبال بها لا يقدر على ذلك غيره {وعلى الله} أي: الذي له الأمر لا على غيره {فليتوكل المؤمنون} أي: لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك. وقال الزمخشري: هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه، والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم} أي: وإن أظهرن غاية المودة {وأولادكم} أي: وإن أظهروا غاية الشفقة {عدواً لكم} فقال ابن عباس: نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 الأشجعي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده فنزلت ذكره النحاس، وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا فيرق فيقيم، فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس وسئل عن هذه الآية قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، حديث حسن صحيح. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرق الإيمان فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة» . وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة، والثاني: أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال تعالى: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} (فصلت: 25) وفي حكمة عيسى عليه الصلاة والسلام: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً. وقال عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة» ولا دناءة أعظم من دناءة الدينار والدرهم، ولا أخس من همة ترتفع بثوب جديد ويدخل في قوله تعالى: {إن من أزواجكم} الذكر والأنثى، فكما أن الرجل تكون زوجته عدواً له كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها بهذا المعنى {فاحذروهم} أي: أن تطيعوهم في التخلف عن الخير، ولا تأمنوا غوائلهم {وإن تعفوا} أي: توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك، فإن من طبع على شيء لا يرجع عنه وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه تعالى لئلا يكون سبباً للذم المنهي عنه {وتصفحوا} أي: بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان {وتغفروا} أي: بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز {فإن الله} أي: الجامع لصفات الكمال {غفور} أي: بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثارها جزاء لكم على غفرانكم لهم، وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم {رحيم} فيكرمكم بعد ذلك الستر بالإنعام فتخلقوا بأخلاقه تعالى يزدكم من فضله. {إنما أموالكم} أي: عامة {وأولادكم} كذلك {فتنة} أي: اختبار من الله تعالى لكم، وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكي ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون عليه نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه، ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده. روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال: يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته. وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات ويكفي في فتنة لمال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله} (التوبة: 75) وعن ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل اللهم أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم} أدخل من للتبعيض لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر في قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» ثم أخذ في خطبته. / تنبيه:: قدم الأموال على الأولاد لأن فتنة المال أكثر، وترك ذكر الأزواج في الفتنة قال البقاعي: لأن منهن من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة {والله} أي: ذو الجلال {عنده} وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمته {أجر} ثم وصفه بقوله تعالى: {عظيم} أي: لمن ائتمر بأوامره التي أمره بها. وقوله تعالى: {فاتقوا الله} أي: الملك الأعلى {مااستطعتم} أي: جهدكم ووسعكم ناسخ لقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران: 102) قاله قتادة والربيع بن أنس السدي، وذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} قال جاء أمر شديد قال: ومن يعرف قدر هذا ويبلغه، فلما علم الله تعالى أنه قد اشتد عليهم نسخه عنهم، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال ابن عباس: وهي محكمة لا نسخ فيها، ولكن {حق تقاته} أن يجاهدوا فيه حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. فإن قيل: إذا كانت الآية غير منسوخة فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص ولا مشروطاً بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} معناه: فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله تعالى قد عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} إلى قوله تعالى: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} (النساء: 99) فأخبر تعالى أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً بالإقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله تعالى: {ما استطعتم} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها فتنة أموالكم وأولادكم، ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} عقب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} ولا خلاف بين علماء التأويل في أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري. وقال ابن جبير: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} أي: فيما يتطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت وقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً فيهم {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى. قال الماوردي: ويحتمل أن يثبت هذا النقل لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها {واسمعوا} أي: سماع إذعان وتسليم لما توعظون به وجميع أوامره {وأطيعوا} أي: وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة {وأنفقوا} أي: أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما وجب أو ندب إليه، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون بكل ما رزق الله من الذاتي والخارجي. وقوله تعالى: {خيراً لأنفسكم} في نصبه أوجه: أحدها: قال سيبويه إنه مفعول بفعل مقدر دل عليه {وأنفقوا} تقديره: وقدموا خيراً لأنفسكم كقوله تعالى: {انتهوا خيراً لكم} (النساء: 171) الثاني: تقديره يكن الإنفاق خيراً فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي: إنفاقاً خيراً لأنفسكم فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا مع ما تزكى به النفس ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة مما لا يدري كنهه فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف. ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عمم في جميع الأوامر بقوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الإخطار، ويتحرر عن رق المكنونات، والشح خلق باطنى هو الداء العضال، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها وتارة بإنفاق المال ومن فعل ما فرض عليه خرج من الشح. ولما كان الواقي هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله تعالى: {فأولئك} أي: العالو الرتبة {هم المفلحون} أي: الفائزون الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه. ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {إن تقرضوا الله} أي: الملك الأعلى ذا الغنى المطلق الحائز لجميع صفات الكمال {قرضاً حسناً} والقرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيب النفس ومع الإخلاص والمبادرة {يضاعفه لكم} أي: لأجلكم خاصة أقل ما يكون بالواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات. قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم، وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مروآتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك. ولما كان الإنسان لما له من النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين لن يشاده أحد إلا غلبه قال تعالى: {ويغفر لكم} أي: يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره {والله} أي: الذي لا تقاس عظمته بشيء {شكور} أي: بليغ الشكر لمن يعطي لأجله، ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر، وهو ناظر إلى المضاعفة {حليم} فلا يعجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب، وإن عظم بل يمهل طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 راجع إلى الغفران. {عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة، ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره {والشهادة} وهو كل ما ظهر وكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه موجب للمؤمن ترك ظاهر الإثم وباطنه، وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله تعالى كأنه يراه {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: بالغ الحكمة التي يعجز عن إدراكها الخلائق. وقال ابن الأنباري: الحكيم: هو المحكم لخلق الأشياء، فصرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله تعالى: {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} (لقمان: 1 ـ 2) معناه: المحكم فصرف من مفعل إلى فعيل، وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة» حديث موضوع. سورة الطلاق مدنية وهي إحدى عشرة آية، وقيل: اثنتا عشرة آية، وقيل: ثلاث عشرةآية ومائتان وتسع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفاً {بسم الله} الذي له جميع صفات الكمال {الرحمن} الذي عم برحمته والنوال {الرحيم} الذي خص بتمام النعمة ذوي الهمم العوال وقرأ: {يا أيها النبي} نافع بالهمزة وسهل الهمزة من إذا وأبدلها أيضاً واواً. خصه صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمته واعتباراً لرآسته، وإنه لسان قومه والذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكم كلهم وساداً مسد جميعهم. وقيل: إنه على إضمار قول، أي يا أيها النبي قل لأمتك {إذا طلقتم النساء} أي: أردتم طلاق هذا النوع واحدة منهن فأكثر. وقيل: إنه خطاب له ولأمته، والتقدير: يا أيها النبي وأمته فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه كقوله: إذا حذفته رجلها، أي: ويدها، وكقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} (النحل: 81) وقيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله: *فإن شئت أحرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولابرداً* قال الرازي: وجه تعلق أول هذه السورة بآخر التي قبلها، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} وفي أول هذه السورة إشارة إلى كمال علمه بمصالح النساء والأحكام المخصوصة بطلاقهن، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات. وروى ابن ماجه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها، وعن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة، ذكره الماوردي، والقشيري. وزاد القشيري ونزل خروجها إلى أهلها قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} . وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة فنزلت. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر «طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامع فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» . وهو قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} أي: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وقد قيل: إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان فنزلت الآية فيهم. وروى الدراقطني عن ابن عباس أنه قال: «الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان، ووجهان حرامان. فأما الحلال فأن يطلقها طاهراً عن غير جماع، وأن يطلقها حاملاً مستبيناً حملها. وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً، أو أن يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا» . تنبيه: الطلاق ينقسم إلى سني وبدعي ولا ولا، فطلاق موطوأة ولو في دبر تعتد بإقراء سني إن ابتدأتها الإقراء عقب الطلاق، ولم يطأها في طهر طلقها فيه أو علق طلاقها بمضي بعضه، ولا وطئها في نحو حيض قبله، ولا في حيض طلق مع آخره أو علق بآخره وذلك لاستعقابه الشروع في العدة وعدم الندم فيمن ذكرت، وإلا فبدعي وإن سألته طلاقاً بلا عوض وطلاق غير الموطوأة المذكورة بأن لم توطأ أو كانت صغيرة أو آيسة أو حاملاً منه وخلع زوجته في زمن حيض بعوض لا سني ولا بدعي، والبدعي حرام للنهي عنه. وقسم جماعة الطلاق إلى واجب كطلاق المولى، أي: واجب مخير إن لم يكن عذر، ومعين إن كان عذر شرعي كالإحرام، ومندوب كطلاق غير مستقيمة الحال كسيئة الخلق، ومكروه كمستقيمة الحال، وحرام كطلاق البدعة. وأشار الإمام إلى المباح بطلاق من لا يهواها، ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع بها، وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش» وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ماخلق الله تعالى شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله تعالى شيئاً أبغض إليه من الطلاق» وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق» واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق، فقالت طائفة بجوازه، وهو مروي عن طاووس، وبه قال حماد الكوفي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتق. وقال قتادة: لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً صرح بصيغة الأمر فقال تعالى: {وأحصوا} أي: اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس {العدة} ليعرف زمان الرجعة والنفقة والسكنى، وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة {واتقوا} أي: في ذلك {الله} أي: الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر {ربكم} أي: لإحسانه في تربيتكم في حملكم علي الحنيفية السمحة ورفع جميع الآصار عنكم {لا تخرجوهن} أي: أيها الرجال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 في حال العدة {من بيتوهن} أي: المسكن التي وقع الفراق فيها، وهي مساكنهن التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى. وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها {ولا يخرجن} أي: من بيتوهن حتى تنقضي عدتهن ولو وافق الزوج على ذلك، وعلى الحاكم المنع منه لأن في العدة حقاً لله تعالى، وقد وجبت في ذلك المسكن. وقوله تعالى: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} مستثنى من الأول، والمعنى إلا أن تبدو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها. وقال ابن عباس: الفاحشة المبينة أن تبدو على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقال ابن مسعود: أراد بالفاحشة المبينة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها، ثم ترد إلى منزلها. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتحوّل عن بيته. ويجوز أن يكون مستثنى من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة هذا كله عند عدم العذر، أما لعذر كشراء غير من لها نفقة على المفارق نحو طعام كقطن وكتان نهاراً، وغزلها ونحوه كحديثها وتأنيسها عند جارتها ليلاً وترجع وتبيت ببيتها، فإنه جائز للحاجة إلى ذلك، وكخوف على نفس أو مال من نحو هدم وغرق وفسقة مجاورين لها وشدة تأذيها بجيران وشدة تأذيهم بها للحاجة إلى ذلك، بخلاف الأذى اليسير إذ لا يخلو منه أحد ومن الجيران الإحماء وهم أقارب الزوج، نعم إن اشتد أذاها بهم أو عكسه وكانت الدار ضيقة نقلهم الزوج عنها وخرج بالجيران ما لو طلبت بيت أبويها وتأذت بهما أو هما بها فلا نقل، لأن الوحشة لا تطول بينهما، ولو انتقلت لبلد أو مسكن بإذن زوجها فوجبت العدة، ولو قبل وصولها إليه اعتدت فيه لأنها مأمورة بالمقام فيه، فإن انتقلت لذلك بلا إذن فتعتد في الأول وإن وجبت العدة بعد وصولها للثاني لعصيانها بذلك. نعم إن أذن لها بعد انتقالها أن تقيم في الثاني فكما لو انتقلت بالإذن. ولو أذن لها في الانتقال فوجبت العدة قبل خروجها اعتدت في الأول. ولو سافرت بإذن زوجها فوجبت في الطريق فعودها أولى من مضيها، فإن مضت وجب عودها بعد انقضاء حاجتها إن سافرت لها، أو بعد انقضاء مدة الأذن إن قدر لها مدة، أو مدة إقامة المسافر إن لم تقدر لها مدة في سفر غير حاجتها. ولو خرجت فطلقها وقال: ما أذنت في الخروج، أو قال ـ وقد قالت: أذنت في نقلتي: أذنت لا لنقله، صدق بيمينه، ولو كان المسكن ملكاً له ويليق بها تعين؛ لأن تعتد فيه كما مر ويصح بيعه في عدة أشهر كالمكتري، أو كان مستعاراً، أو مكري وانقضت مدة الكراء انتقلت منه إن امتنع المالك، وإن كان ملكاً لها تخيرت بين الاستمرار فيه بإعارة أو إجارة والانتقال منه كما لو كان المسكن خسيساً، ويخير هو إن كان نفيساً وسكنى المعتدة عن فرقة واجب على الزوج حيث تجب نفقتها عليه لو لم تفارق، سواء أكانت الفرقة بطلاق أو فسخ أو وفاة لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} (الطلاق: 6) وقيس به الفسخ بأنواعه بجامع فرقة النكاح في الحياة، ولخبر فريعة بنت مالك في الوفاة: «أن زوجها قتل فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، وقالت: إن زوجي لم يتركني في منزل يملكه، فأذن لها في الرجوع، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد، دعاني فقال: امكثي في بيتك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً» صححه الترمذي وغيره. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء التحتية، والباقون بكسرها {وتلك} أي: الأحكام العالية جداً لما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيرها {حدود الله} أي: الملك الأعظم {ومن يتعد} أي: يقع منه في وقت من الأوقات أنه تعمد أن يعدو {حدود الله} أي: الملك الذي لا كفء له أو بعضها كأن طلق بدعياً {فقد ظلم نفسه} أي: عرضها للعقاب. وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الظاء، والباقون بالإدغام {لا تدري} أي: نفس، أو أنت أيها النبي، أو المطلق {لعل الله} أي: الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور {يحدث} أي: يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا تقدر الخلق على التسبب في زواله {بعد ذلك} أي: الحادث من الإساءة والبغض {أمراً} بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها. وقال أكثر المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، ومعنى الكلام التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، وهذا أحسن الطلاق وأحله في السنة وأبعده عن الندم.. ويدل عليه ما روي عن ابراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما مفرقاً في الأطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «ما هكذا أمر الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة» وروي أنه قال لعمر: «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها تحيض، ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وهو مباح. ومالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت: نعم وهو آثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه فقال: أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم» وفي حديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً فقال له: قال: «إذاً عصيت وبانت منك امرأتك» . وعن عمر رضي الله عنه أنه كان لايؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً، وأجاز ذلك عليه. وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف. فإن قيل: قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء} عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟. أجيب: بأنه لا عموم ثم ولا خصوص، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذلك، فلما قيل: {فطلقوهن لعدتهن} علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض. ولما حدّ سبحانه مايفعل في العدة أتبعه مايفعل عند انقضائها بقوله تعالى: {فإذا بلغن} أي: المطلقات {أجلهن} أي: شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة {فأمسكوهن} أي: بالمراجعة وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق مادون البائن لا سيما الثلاث {بمعروف} أي: حسن عشرة لا لقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاد عدة أخرى، أو غير ذلك. {أو فارقوهن} بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها {بمعروف} أي: بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر حسنه الشرع، فلا يقصد أذاها بتفريقها عن ولدها مثلاً، أو عنه إن كانت عاشقة له لقصد الأذى فقط من غير مصلحة، وكذلك ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل والقول فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات. تنبيه: قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (البقرة: 229) إن: الزوج له حق في بدن الزوجة ولها حق في بدنه وذمته فكل من له دين في ذمة غيره سواء أكان مالاً، أو منفعة من ثمن أو مثمن أو أجرة، أو بدل متلف، أو ضمان مغصوب، أو نحو ذلك فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (البقرة: 178) وكذا الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك، فالطالب يطلب بمعروف والمؤدي يؤدي بإحسان. ولما كان الإشهاد أقطع للنزاع قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة: {وأشهدوا} أي: على الرجعة والمفارقة، وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً {ذوي عدل منكم} قطعاً للنزاع، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند الجمهور كقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} (البقرة: 282) وأوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الأخر: إن الرجعة لاتفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة فليس بمراجع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة فهو رجعة، وكذا النظر إلى الفرج رجعة، وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهي رجعة، وقيل: وطؤه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية. قال القرطبي: وكان مالك يقول: إذا وطىء ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليست له الرجعة في هذا الاستبراء. تنبيه: قوله تعالى: {منكم} قال الحسن: من المسلمين، وعن قتادة: من أحراركم، وذلك يوجد اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث لأن ذوى للمذكر. وقوله تعالى: {وأقيموا} أي: أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً {الشهادة} التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها {لله} أي: مخلصين لوجه الملك الأعلى لا لأجل المشهود له والمشهود عليه، ولا شيء سوى وجه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 وفيه حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشاهد بترك مهماته وعسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً {ذلكم} أي: الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام، وأولاها بذلك هذا الإشهاد وإقامة الشهادة {يوعظ} أي: يلين ويرقق {به من كان} أي: كوناً راسخاً من جميع الناس {يؤمن بالله} أي: الذي له الكمال كله {واليوم الآخر} فإنه المحط الأعظم للترقيق، وأما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ماوعظ به لأنه لم ينتفع به. وقوله تعالى: {ومن يتق الله} أي: يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية بما يرضية، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهي عنه من الطلاق وغيره، ظاهراً وباطناً لأن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي، وإن اقترنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي {يجعل} أي: بسبب التقوى {له مخرجاً} جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على اتقائه عما نهى عنه صريحاً أو ضمناً من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن، وتعدى حدود الله تعالى. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج فتلاها» وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والثعلبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي: من طلق كما أمره الله تعالى يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً: يجعل له مخرجاً ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه، قاله علي بن صالح. وقال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، وقال الحسن: مخرجاً مما نهى الله عنه، وقال أبو العالية: مخرجاً من كل شدة، وقال الربيع بن خيثم: مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس، وقال الحسين بن الفضل: ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة. {ويرزقه} أي: الثواب {من حيث لا يحتسب} أي: يبارك له فيما أتاه، وقال سهل بن عبد الله: ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقال أبو سعيد الخدري: ومن تبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله تعالى يجعل له مخرجاً مما كلفه الله بالمعونة له، وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم، وهذا هو الذي يقوى عندي. وقال أبو ذر: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آيه لو أخذ الناس بها لكفتهم، وتلا: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} قال: مخرجاً من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة» . وقال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة، وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم «اتقي الله واصبر، وآمرك وإياها أن تكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالت: نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى المدينة وهي أربعة آلاف شاة فنزلت الآية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له» وروي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو، وكان فقيراً. فقال الكلبي: إنه أصاب خمسين بعيراً، وفي رواية فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة لقوم فمر بسرح لهم فاستاقه، وقال مقاتل: أصاب غنماً ومتاعاً، فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني قال: نعم ونزل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وروى الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» . وقال الزجاج: أي: إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة، ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» . {ومن يتوكل} أي: يسند أموره كلها معتمداً فيها {على الله} أي: الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له {فهو} أي: الله في غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله {حسبه} أي: كافيه ما أهمه، وحذف المتعلق للتعميم، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه. وقيل: من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل، وفي الحديث: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه صلى الله عليه وسلم قال: تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة. قال البقاعي نقلاً عن المولوي: وإلا كان اتكالاً، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب. ا. هـ. ولما كان ذلك أمراً إلا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار: {إن الله} أي: المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص {بالغ أمره} أي: جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا، قال مسروق: يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً. وقرأ حفص: بالغ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف، والباقون بالتنوين، وأمره بنصب الراء وضم الهاء. قال ابن عادل: وهو الأصل خلافاً لأبي حيان {قد جعل الله} أي: الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقييد بجهة ولا حيثية {لكل شيء} كرخاء وشدة {قدراً} أي: تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه. فمن توكل استفاد الأجر، وخفف عنه الألم، وقذف في قلبه السكينة، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء، ولا ينقص منها شيء. ويحكى أن رجلاً أتى عمر فقال: أولني مما أولاك الله، فقال: أتقرأ القرآن، قال: لا، قال: إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال: يا هذا أهجرتنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر، قال: فأي آية أغنتك قال: قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} فمن توكل على غيره سبحانه ضاع، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره. تنبيه: الآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه، وهو موافق لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الزرق بالذنب يصيبه» . وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء. وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه، فنزل {إن الله بالغ أمره} فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (التغابن: 11) {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم} (التغابن: 17) {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} (آل عمران: 101) {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) . ولما بين تعالى أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم. قال أبو عثمان عمر بن سليمان: نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن ناساً يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء الصغار والكبار وذوات الحمل فنزل: {واللائي يئسن} أي: من المطلقات {من المحيض} أي: الحيض الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (البقرة: 228) قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله فما عدة التي لم تحض وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحبلى فنزلت، وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست فنزلت، وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة. واختلف في سن اليأس فالذي عليه الأكثر أنه اثنان وستون سنة، وقيل: خمس وخمسون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون. ولما كان هذا الحكم خاصاً بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال تعالى: {من نسائكم} أي: أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب {إن ارتبتم} أي: شككتم في عدتهن {فعدتهن ثلاثة أشهر} كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر {واللائي لم يحضن} أي: لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً، وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً هذا كله في غير المتوفى عنهن أزواجهن، أما هن فعدتهن ما في آية {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (البقرة: 234) وقرأ: {واللائي} في الموضعين ابن عامر والكوفيون بالهمز وياء بعده، وقرأ قالون وقنبل بالهمز ولا ياء بعده، وللبزي وأبي عمرو أيضاً إبدال الهمزة ياء ساكنة مع المد لا غير. ولما فرغ من ذكر الحوائل أتبعه ذكر الحوامل بقوله تعالى: {وأولات الأحمال} أي: من جميع الزوجات المسلمات والكافرات المطلقات والمتوفى عنهن {أجلهن} أي: لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا {أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 يضعن حملهن} وهذا على عمومه مخصص لآية {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذاك في قوله تعالى: {أزواجاً} لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم وعموم أزواجاً بالعرض لأنه بدل لا يصلح لجميع الأزواج في حال واحد، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ، والأول هو الراجح للوفاق، ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج. تنبيه: إذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك، وقال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة: لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، فإن كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما، ولابد أن يكون الحمل منسوباً لذي العدة، أما إذا كان من زنا فلا حرمة له والعدة بالحيض. ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة في غاية المشقة كرر بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك، وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه فقال عاطفاً على ما تقديره فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله تعالى عليه أموره: {ومن يتق الله} أي: يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينهم وبين سخطه وقاية من طاعته، اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي. {يجعل له} أي: يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى، إن الله لا يمل حتى تملوا {من أمره} أي: كله في النكاح وغيره {يسراً} أي: سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى، وقال مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه لطاعته. {ذلك} أي: الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب {أمر الله} أي: الملك الأعلى الذي له الكمال كله {أنزله إليكم} وبينه لكم {ومن يتق الله} أي: الذي لا أمر لأحدٍ معه في أحكامه فيراعي حقوقها {يكفر} أي: يغط تغطية عظيمة {عنه سيئاته} ليتخلى عن المبعدات، فإن الحسنات يذهبن السيئات {ويعظم له أجراً} بأن يبدل سيئاته حسنات، ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفة فيتحلى بالقربات، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم. {أسكنوهن} وقال الرازي: أسكنوهن وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى: {ومن يتق الله} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أسكنوهن. وقوله تعالى: {من حيث سكنتم} فيه وجهان: أحدهما: أن من للتبعيض، قال الزمخشري: مبعضها محذوف، معناه: أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم، أي: بعض مكان سكناكم كقوله تعالى: {يغضوا من أبصارهم} (النور: 30) أي: بعض أبصارهم. قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال الرازي: وقال الكسائي: من صلة، والمعنى: اسكنوهن حيث سكنتم. والثاني: أنها لابتداء الغاية، قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: والمعنى: تسببوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم، ودل عليه قوله تعالى: {من وجدكم} أي: من وسعكم، أي: ما تطيقونه وفي إعرابه وجهان: أحدهما: أنه عطف بيان لقوله تعالى: {من حيث سكنتم} وإليه ذهب الزمخشري وتبعه البيضاوي. قال ابن عادل: أظهرهما أنه بدل من قوله {من حيث} بتكرار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 العامل، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل: أسكنوهن من وسعكم. {ولا تضاروهن} أي: حال السكنى في المساكن ولا في غيره {لتضيقوا عليهن} حتى تلجؤهن إلى الخروج {وإن كن} أي: المطلقات {أولات حمل} أي: من الأزواج من طلاق بائن أو رجعي {فأنفقوا عليهن} وإن مضت الأشهر {حتى يضعن حملهن} فيخرجن من العدة، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات البوائن والأحاديث تؤيده. قال القرطبي: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال: فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة، قال: بل لك السكنى والنفقة، فقال: إن زوجها طلقها ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم إنما السكنى والنفقة لمن له عليها رجعة» فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك فإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال: يا شعبي اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، فقلت: لا أرجع عن شيء. حدثتني فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. وأجيب عن ذلك: بما روت عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على إحمائها، وقال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكن إلا للرجعية لقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} (الطلاق: 1) وقوله تعالى: {أسكنوهن} راجع لما قبله وهي المطلقة الرجعية {فإن أرضعن لكم} أي: بعد انقضاء علقة النكاح {فآتوهن أجورهن} أي: على ذلك الإرضاع وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم تبن، ويجوز عند الشافعي مطلقاً وقوله تعالى: {وائتمروا} خطاب للأزواج والزوجات، أي: ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك، وليقبل بعضكم أمر بعض. وقال الكسائي: ائتمروا تشاوروا، وتلا قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك} (القصص: 20) وأنشد قول امرىء القيس: *ويعدو على المرء ما يأتمر وزادهم رغبة في ذلك بقوله تعالى: {بينكم} أي: إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله تعالى: {بمعروف} ونكره سبحانه تخفيفاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الأخلاق بالاتصاف، ومع النفس بالخلاف {وإن تعاسرتم} أي: طلب كل منكم ما يعسر على الآخر، كأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً {فسترضع له} أي: الأب {أخرى} أي: مرضعة غير الأم ويغني الله تعالى عنها، وليس له أن يكرهها على ذلك، نعم إذا لم يقبل ثدي غيرها أو لم يوجد غيرها أجبرت على ذلك بالأجرة، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك. واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد، فقال مالك: رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه حينئذٍ في ماله، وقال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال، وقيل: يجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 عليها بكل حال. ولو طلبت الأم أجرة المثل وهناك أجنبية ترضع بدون أجرة المثل، أو متبرعة تخير الأب بينهما ولا يضيق على الأب بدفع الأجرة لأنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً أو قطيعة رحم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح. {لينفق ذو سعة} أي: مال واسع ولم يكلفه تعالى جميع وسعه بل قال تعالى: {من سعته} أي: لينفق الزوج على زوجته وولده الصغير على قدر وسعه إذا كان موسعاً عليه {ومن قدر} أي: ضيق {عليه رزقه} فعلى قدر ذلك فيقدر النفقة بحسب حال المنفق، والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة. قال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 233) وقال صلى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لكن نفقة الزوجة مقدرة عند الشافعي محدودة فلا اجتهاد للحاكم ولا للمفتي فيها، وتقديرها هو بحسب حال الزوج وحده من يسار وإعسار، ولا اعتبار بحالها فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فيلزم الزوج الموسر مدان، والمتوسط مد ونصف، والمعسر مد لظاهر قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر، ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها فقدرت قطعاً للخصومة. وقوله تعالى: {فلينفق} أي: وجوباً على المرضع وغيرها من كل ما أوجبه الله تعالى عليه. {مما آتاه الله} أي: الملك الذي لا ينفد ما عنده، ولو من رأس المال ومتاع البيت {لا يكلف الله} أي: الذي له الملك كله {نفساً} أيّ نفس كانت. {إلا ما آتاها} أي: أعطاها من المال {سيجعل الله} أي: الملك الذي له الكمال كله فلا خلف لوعده. {بعد عسر} أي: بعد كل عسر {يسراً} وقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين بعد نزول الآية ففتح عليهم جميع جزيرة العرب، ثم فارس والروم حتى صاروا أغنى الناس وصدق الآية دائم غير أنه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم آمين لأن إيمانهم أتم. قال القشيري: وانتظار اليسر من الله صفة المتوسطين في الأحوال الذين انحطوا عن درجة الرضا، وارتقوا عن حد اليأس والقنوط، ويعيشون في إفناء الرجال، ويتعللون بحسن المواعيد ا. هـ. ولما ذكر الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع حذر من خالف بقوله تعالى: {وكأين} هي كاف الجر دخلت على أيّ بمعنى: كم {من قرية} أي: وكثير من القرى. وقرأ ابن كثير بالألف بعد الكاف وبعد الألف همزة مكسورة وقفاً ووصلاً، وقرأ الباقون في الوصل بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعد الهاء ياء تحتية مكسورة مشددة، وعبر عن أهل القرية بها مبالغة فقال: {عتت} أي: استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عناداً {عن أمر ربها} أي: الذي أحسن إليها ولا يحسن إليها غيره {ورسله} فلم تقبل منهم ما جاؤوا به عن الله تعالى، فإن طاعتهم من طاعته {فحاسبناها} أي: في الآخرة وإن لم تجيء لتحقق وقوعها {حساباً شديداً} أي: بالمناقشة والاستقصاء {وعذبناها عذاباً نكراً} أي: منكراً فظيعاً، وهو عذاب النار، وقيل: العذاب في الدنيا فيكون على حقيقته، أي: جازيناها بالعذاب في الدنيا، وعذبناها عذاباً نكراً في الآخرة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 والسيف، والخسف والمسخ، وسائر المصائب، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة. وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبه بضم الكاف، والباقون بسكونها. {فذاقت} أي: فتسبب عن ذلك أنها ذاقت {وبال} أي: عقوبة {أمرها} أي: كفرها. {وكان عاقبة أمرها خسراً} أي: في الدنيا بالأسر وضرب الجزية، وغير ذلك، وفي الآخرة بعذاب النار، فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد، ومن أضاع حق الله تعالى لا يطاع في حظ نفسه، ومن احترف بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على عقوبته. ثم استأنف الجواب عمن يقول هل لها غير هذا في غير هذه الدار بقوله تعالى: {أعد الله} أي: الملك الأعظم {لهم} بعد الموت وبعد البعث {عذاباً شديداً} وفي ذلك تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها {فاتقوا الله} أي: الذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {يا أولي الألباب} أي: يا أصحاب العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن، وقوله تعالى: {الذين آمنوا} منصوب بإضمار أعني بياناً للمنادى في قوله تعالى: {يا أولي الألباب} أو يكون عطف بيان للمنادى أو نعتاً له، أي: خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة {قد أنزل الله} أي: الذي له صفات الكمال {إليكم ذكراً} هو القرآن، وفي نصب. {رسولاً} أوجه: أحدها: قال الزجاج والفارسي: إنه منصوب بالمصدر المنون قبله، لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل، كأنه قيل: أن ذكر رسولاً، ويكون ذكره الرسول قوله: محمد رسول الله، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} (البلد: 14 ـ 15) الثاني: جعل نفس الذكر مبالغة فأبدل منه، ويكون محمولاً على المعنى كأنه قال: قد أظهر لكم ذكراً رسولاً، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء، وهو هو. الثالث: أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول تقديره: أنزل ذا ذكر رسولاً. الرابع: أنه بدل منه على حذف مضاف من الثاني أي: ذكراً ذكر رسول. الخامس: أنه منصوب بفعل مقدر، أي: وأرسل رسولاً {يتلو عليكم آيات الله} هي دلائل الملك الأعظم الظاهرة جداً حال كونها {مبينات} أي: لا لبس فيها بوجه. واختلف الناس في رسولاً هل هو النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل؟ الأكثر على الأول واقتصر عليه الجلال المحلي، واقتصر الزمخشري على الثاني، وهو قول الكلبي. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء بعد الموحدة، والباقون بالفتح {ليخرج الذين أمنوا} أي: أقروا بالشهادتين {وعملوا} تصديقاً لما قالوه بألسنتهم وتحقيقاً لأنه من قلوبهم {الصالحات} أي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو ليخرج من علم أو قدر أنه مؤمن {من الظلمات} أي: الضلالة {إلى النور} أي: الهدى. {ومن يؤمن بالله} أي: يجدد في كل وقت على الدوام الإيمان بالملك الأعلى بأن لا يزال في ترق في معارج معارفه {ويعمل} على التجديد المستمر {صالحاً} لله وفي الله فله دوام النعماء، وهو معنى إدخاله الجنة كما قال تعالى: {يدخله} أي: عاجلاً مجازاً بما يفتح الله له من لذات المعارف ويفتح له من الأنس، وآجلاً حقيقة {جنات} أي: بساتين هي في غاية ما يكون من جمع جميع الأشجار وحسن الدار وبين دوام ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها} أي: من تحت غرفها {الأنهار} فهي في غاية الري بحيث أن ساكنها يجري في أي موضع أراد نهراً. وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون، والباقون بالياء التحتيه. {خالدين فيها} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وأكد معنى الخلود بقوله تعالى: {أبداً} ليفهم الدوام بلا انقضاء. وقوله تعالى: {قد أحسن الله} أي: الملك الأعلى ذو الجلال والإكرام {له} أي: خاصة {رزقاً} أي: عظيماً عجيباً فيه تعجب وتعظم لما رزقوا من الثواب. وقال القشيري: الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه، ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها من غير نقصان ولا زيادة لا يقدر على الاستمرار عليها. ثم بين كمال قدرته بقوله تعالى: {الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال التي القدرة الشاملة إحداها: {الذي خلق} أي: أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه على هذا المنوال الغريب البديع {سبع سموات} أي: وأنتم تشهدون عظمة ذلك، وتشهدون أنه لا يقدر عليه إلا تام القدرة والعلم الكامل {ومن الأرض مثلهن} أي: سبعاً أما كون السموات سبعاً بعضها فوق بعض فلا خلاف فيه لحديث الإسراء وغيره. وأما الأرضون فقال الجمهور: إنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: إنها سبع أرضين ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. قال القرطبي: والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره روى أبو مروان عن أبيه أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيباً حدثه «أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها» وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» قال البقاعي: رأيت في التعدد حقيقة حديثاً صريحاً لكن لا أدري حاله، ذكره ابن برجان في اسمه تعالى الملك من شرحه الأسماء الحسنى، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما تحت هذه الأرض، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هواء أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أرض، أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم حتى عد سبع أرضين» ثم رأيته في الترمذي عن أبي رزين العقيلي ولفظه: «هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها الأرض، ثم قال: أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن تحتها أرضاً أخرى خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة» ثم رأيت في الفردوس عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين السماء إلى السماء خمسمائة عام وعرض كل سماء وثخانة كل سماء خمسمائة عام وما بين السماء السابعة وبين الكرسي والعرش مثل ذلك وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، والأرضون وعرضهن وثخانتهن مثل ذلك» ا. هـ. قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين، وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم، ويستمدون الضياء منها، قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه، قال ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض كروية. وحكى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بهذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم، لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل أن لا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وارداً ولكان النبي صلى الله عليه وسلم بها مأموراً. وقال بعض العلماء: السماء في اللغة عبارة عما علاك، فالأولى بالنسبة إلى السماء الثانية أرض، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض، وكذا البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء، وبالنسبة إلى ما فوقه أرض. فعلى هذا تكون السموات السبع وهذه الأرض الواحدة سبع سموات وسبع أرضين {يتنزل} أي: بالتدريج {الأمر} قال مقاتل وغيره: أي: الوحي، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {بينهن} إشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أولاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، والأكثرون على أن الأمر هو القضاء والقدر فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى {بينهن} إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، فيجري أمر الله وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمه فيهن. وعن قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرض من خلق؟ قال: نعم قال: فما الخلق؟ قال: إما ملائكة أو جن. وقال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع، وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر، وقيل: يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض، وموت بعض، وغنى قوم، وفقر قوم. وقيل: ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي الليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيآتها، فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على اتساع اللغة كما يقال للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوها. وقوله تعالى: {لتعلموا} متعلق بمحذوف، أي: أعلمكم بذلك الخلق والإنزال لتعلموا {أن الله} أي: الملك الأعلى الذي له الإحاطة كلها {على كل شيء} أي: من غير هذا العالم يمكن أن يدخل تحت المشيئة {قدير} بالغ القدرة فيأتي بعالم آخر مثل هذا العالم وأبدع منه وأبدع من ذلك إلى مالا نهاية له بالاستدلال بهذا العالم، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له، لأنه لا فرق في ذلك بين قليل وكثير، وجليل وحقير {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك: 3) قال البقاعي: وإياك أن تصغي إلى من قال: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه مذهب فلسفي خبيث، والآية نص في إبطاله، وإن نسبه بعض الملحدين إلى الغزالي، فإني لا أشك أنه مدسوس عليه، وإن مذهبه فلسفي خبيث بشهادة الغزالي كما بينت ذلك في كتابي «دلائل البرهان» على أن في الإمكان أبدع مما كان قال: ومع كونه مذهب الفلاسفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 أخذه أكفر المارقين ابن عربي وأودعه في فصوصه، وغير ذلك من كتبه، وأسند في بعضها للغزالي والغزالي بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في الإحياء وغيره انتهى. والبقاعي ممن يقول بكفر ابن عربي، وابن المقري يقول بكفره وكفر طائفته، وقد تقدم الكلام على كلامهم {وأن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال. {قد أحاط} لتمام قدرته {بكل شيء} مطلقاً {علماً} فله الخبرة التامة بما يأمر به من الأحكام في العالم بمصالحة ومفاسده، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته فعاملوه معاملة من يعلم أنه رقيب عليه تسلموا في الدنيا وتسعدوا في الآخرة. تنبيه: علماً منصوب على المصدر المؤكد، لأن أحاط بمعنى علم، وقيل: بمعنى والله أحاط إحاطة علماً. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث موضوع. سورة التحريم مكية وهي اثنتا عشرة آية، ومائتان وأربعون كلمة وألف وستون حرفاً {بسم الله} الذي له الكمال كله على الدوام {الرحمن} الذي عم عباده بعظيم الإنعام {الرحيم} الذي أتم على خواصه نعمة الإسلام. واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {لك} فقالت عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند زينب بنت جحش، فشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطيت أنا وحفصة أنّ آيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له: ذلك، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزل {لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله} لعائشة وحفصة» وعنها أيضاً قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي: ما هذه الريح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك له وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت سودة: والله الذي لا إله غيره لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت وإنه لعلى الباب فرقاً منك، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت له: يا رسول الله أكلت مغافير، قال: لا، قلت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له: مثل ذلك، ثم دخل على صفية فقالت مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه، قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه منه، قالت: فقلت لها: اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى الله عليه وسلم حفصة، وفي الأولى زينب. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 الله عنهما: أنه شربه عند سودة، وقيل: إنما هي أم سلمة رواه أسباط عن السدي، وقاله عطاء بن أبي مسلم. تنبيه: شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما قولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى بالمد والقصر قاله في «المصباح» ، وهو على كل شيء يحلو، وذكر العسل بعدها وإن كان داخلاً في جملة الحلوى تنبيهاً على شرفه ومرتبته، وهو من باب الخاص بعد العام. وقولها: فتواطيت أنا وحفصة هكذا وقع في الرواية، وأصله: فتوطأت بالهمز، أي: اتفقت أنا وحفصة. وقولها: إني لأجد منك ريح مغافير، هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء، وهو صمغ حلو كالناطف وله ريح كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز، وقيل: العرفط نبات له ورق يفرش على الارض له شوك وثمره خبيث الرائحة. وقال أهل اللغة: العرفط من شجر العضاه، وهو كل شجر له شوك. وقيل رائحته كرائحة النبيذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منة رائحة كريهة. قولها: جرست نحله العرفط بالجيم والراء وبالسين المهملتين، ومعناه: أكلت نحله العرفط فصار منه العسل. قال القاضي عياض: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، ذكره النووي في شرح مسلم، وكذا ذكره أيضاً القرطبي. وقال أكثر المفسرين في سبب نزول ذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي، فقال صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل ذلك أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي على فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً، ما كنت تصنع هذا بإمرأة منهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي فهي حرام علي ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وأن الله قد أراحنا منها، وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضبت عائشة، فلم يزل نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها» . وعن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطؤها، فلم تزل عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية» أخرجه النسائي. فإن قيل: قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} يوهم أن الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟. أجيب: بأنه ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي. فإن قيل: تحريم ما أحل الله غير ممكن، فكيف قال {لما تحرم ما أحل الله لك} ؟ أجيب: بأن المراد بهذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً، فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحل الله فقد كفر، فكيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم {تبتغي} أي: تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك {مرضاة أزواجك} أي: الأحوال والأمور والمواضع التي يرضين بها، وهن أولى بأن يبتغين رضاك، وكذا جميع الخلق لتتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد {والله} أي: الملك الأعلى {غفور رحيم} أي: محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، فقد غفر لك هذا التحريم. ثم علل وبين ذلك بقوله تعالى: {قد فرض الله} أي: قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه، وعبر بالفرض حثاً على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع، ولا يخل بحرمة اسم الله تعالى لأن أهل الهمم العوالي لا يجوزون النقلة من عزيمة إلى رخصة، بل من رخصة إلى عزيمة أو عزيمة إلى مثلها. ولما كان التخفيف على أمته تعظيماً له صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لكم} أيتها الأمة التي أنت رأسها {تحلة} أي: تحليل {أيمانكم} بالكفارة المذكورة في سورة المائدة، وقيل: قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك: حلل فلان في يمينه إذا استثنى بمعنى استثن في يمينك إذا أطلقتها بأن تقول: إن شاء الله متصلاً بحلفك، وتنويه قبل الفراغ منه. واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: هو ليس بيمين، فإن قال لزوجته: أنت حرام أو حرّمتك فإن نوى به طلاقاً فهو طلاق، وإن نوى به ظهاراً فهو ظهار، وإن نوى تحريم ذاتها وأطلق فعليه كفارة يمين وإن قال لطعام: حرمته على نفسي فلا شيء عليه، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، وإليه ذهب الشافعي. وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً، فقال: كذبت ليست عليك بحرام وتلا عليه هذه الآية. وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب الكفارة ما لم يقربها، كما لو حلف لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة. وعند أبي حنيفة إن نوى الطلاق بالحرام كان بائناً، وإن قال: كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، نقله الزمخشري. وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي، وعن علي: ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة. وعن ابن عباس رصي الله عنهما قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. قال مقاتل: فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة رقبة. قال زيد بن أسلم: وعاد إلى مارية، وقال الحسن: لم يكفر عليه السلام لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. قال ابن عادل: والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأمة تقتدي به في ذلك {والله} أي: والحال أن المختص بأوصاف الكمال {مولاكم} أي: يفعل معكم فعل القريب الصديق فهو سيدكم ومتولي أموركم {وهو} أي: وحده {العليم} أي: البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له. {الحكيم} أي: الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئاً منه. والعامل في قوله تعالى: {وإذ} اذكر فهو مفعول به لا ظرف، والمعنى اذكر إذ {أسرّ النبي} أي: الذي شأنه أن يرفعه الله تعالى دائماً فإنه ما ينطق عن الهوى {إلى بعض أزواجه} وأبهمها لم يعينها تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ولها وهي حفصة صيانة لهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 لأن حرمتهن من حرمته صلى الله عليه وسلم {حديثاً} ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لعم به ولم يخص به، ولا أسره وذلك هو تحريمه فتاته على نفسه، وقوله لحفصة: لا تخبري بذلك أحداً، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أسرّ أمر الخلافة بعده فحدثت حفصة، وقال الكلبي: أسرّ إليها إن أباك وأب عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقال ميمون بن مهران: أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي {فلما نبأت} أي: أخبرت {به} عائشة ظناً منها أنه لا حرج عليها في ذلك {وأظهره الله} أي: أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء {عليه} أي: الحديث على لسان جبريل عليه السلام بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثبت عليه إن كان خيراً وقيل: أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم من الظهور {عرف} أي: النبي صلى الله عليه وسلم التي أسرّ إليها {بعضه} أي: بعض ما فعلت {وأعرض عن بعض} أي: إعلام بعض تكرماً منه أن يستقصي في العبارات وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وإنما عاتبها على ذكر الإمامة وأعرض عن ذكر الخلافة خوفاً من أن ينتشر في الناس، فربما أثار حسد بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق كيداً. وقال بعض المفسرين: إنه أسر إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها فطلقها مجازاة على بعضه، ولم يؤاخذها بالباقي وهو من قبيل قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} (البقرة: 197) أي: يجازيكم عليه، وقيل: المعرّف حديث الإمامة، والمعرض عنه حديث مارية. وروي «أنه قال لها: ويلك ألم أقل لك أكتمي علي، قالت: والذي بعثك بالحق نبياً ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله تعالى بها أباها» {فلما نبأها به} أي: بما فعلت على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها به شيئاً منه، ولا من عوارضه لتزداد بصيرة. روي أنها قالت لعائشة سراً فأنا أعلم أنها لا تظهره، قاله الملوي، وهو معنى قوله تعالى: {قالت} أي: ظناً منها أن عائشة أفشت عليها {من أنبأك هذا} أي: من أخبرك أني أفشيت السر {قال نبأني} وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكسيراً للمعنى بالتعميم إشارة أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة على أتم ما كان. {العليم} أي: المحيط العلم {الخبير} أي: المطلع على الضمائر والظواهر، فهو أولى أن يحذر فلا يتكلم سراً أو جهراً إلا بما يرضيه. وقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله} أي: الملك الأعظم شرط، وفي جوابه وجهان: أحدهما: قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} والمعنى: إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحب وكراهة ما يكره. وصغت: مالت وزاغت عن الحق، قال القرطبي: وليس قوله: {فقد صغت قلوبكما} جواب الشرط لأن هذا الصغو كان سابقاً فجزاء الشرط محذوف للعلم به أي: إن تتوبا كان خيراً لكما إذ قد صفت قلوبكما. الثاني: أن الجواب محذوف تقديره: فذلك واجب عليكما، أو فتاب الله عليكما، قاله أبو البقاء. ودل على المحذوف {فقد صغت} لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب. قال بعضهم: وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً. تنبيه: قوله تعالى: {قلوبكما} من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل: قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 من اثنين جمعوهما لأنه لا يشكل، والأحسن في هذا الباب الجمع ثم الإفراد ثم التثنية كقوله: *فتخالسا نفسيهما بتواقد ال ... غيظ الذي من شأنه لم يرفع* وقال ابن عصفور: لا يجوز الإفراد إلا في ضرورة، كقوله: *حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادى مطيرها* وتبعه أبو حيان، وغلط ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية. قال ابن عادل: وليس بغلط لكراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس، وقوله تعالى {إن تتوبا} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بهذا الخطاب إما المؤمنتان بنتا الشيخين الكريمين عائشة وحفصة حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما كرها ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحباب جاريته وإحباب العسل، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنساء. وقال ابن زيد: مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: قد مالت قلوبكما إلى التوبة. روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكان ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ، فلما رجع قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذه منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك» ، وفي رواية قال: وا عجباً لك يا ابن عباس. قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هما عائشة وحفصة، ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار وكان منزلي في بني أمية وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فصحت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني قالت: لم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل، قالت: نعم، فقلت: قد خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة رضي الله عنها قال عمر: كنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل الأنصاري يوماً نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً، ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت: ما هو أجاء غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأهول، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة فأتيت غلاماً له أسود فقلت: أستأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، ثم انطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام، فقلت: أستأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت فوليت مدبراً فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير وليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف، ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك فرفع إلي بصره، وقال: لا، فقلت: الله أكبر قلت وأنا قائم لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني دخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى فجلست حين رأيته تبسم فرفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارساً والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، وقال: «أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب، إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت: يا رسول الله استغفر الله لي فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة، وكان قال: «ما أنا بداخل عليهن شهراً» من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عداً، فقال: الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسع وعشرون ليلة قالت عائشة: ثم أنزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه فاخترته، ثم خيرهن فقلن مثلها، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله تعالى قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك} (الأحزاب: 28) إلى تمام الآيتين فقلت: أوفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» وفي رواية أن عائشة قالت له: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أرسلني مبلغاً» وفي رواية قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} (التحريم: 5) { وإن تظاهرا عليه} (التحريم: 4) » الآية. وفي رواية «أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له، وإنه قام على باب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه» . شرح بعض ألفاظ هذا الحديث: قوله: فعدلت معه أي: فملت معه، بالأداوة أي: الركوة، والعوالي جمع عالية، وهي أماكن بأعلى أرض المدينة. وقوله: لا يغرنك إن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة، وأوسم منك أي: أكثر حسناً، وقوله: فكنا نتناوب النزول: التناوب هو ما يفعله الإنسان مرة، ويفعله آخر بعده، والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة. وقوله: فإذا هو متكئ على رمال حصير: يقال: رملت الحصير إذا ظفرته ونسجته، والمراد أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله: ما رأيت فيه مايرد البصر إلا أهبة ثلاث: الأهبة والأهب جمع إهاب، وهو الجلد. وقوله: من شدة موجدته: الموجدة الغضب. وقرأ: {وإن تظاهرا} الكوفيون بتخفيف الظاء، والباقون بتشديدها أي: تتعاونا {عليه} أي: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه {فإن الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له، وقوله تعالى: {هو} يجوز أن يكون فصلاً، وقوله: {مولاه} الخبر، وأن يكون مبتدأ ومولاه خبره، والجملة خبر إن، والمعنى فإن الله وليه وناصره فلا يضره ذلك التظاهر منهما.Y وقوله تعالى: {وجبريل وصالح المؤمنين} معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه، ويجوز أن يكون جبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه وظهير خبر الجميع فتختص الولاية بالله. واختلف في صالح المؤمنين، فقال عكرمة: هو أبو بكر وعمر، وقال المسيب بن شريك: هو أبو بكر. وقال سعيد بن جبير: هو عمر، وعن أسماء بنت عميس: هو علي بن أبي طالب. وقال الطبري: هو خيار المؤمنين. وصالح اسم جنس كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) وقال قتادة: هم الأنبياء. وقال ابن زيد: هم الملائكة. وقال السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والأولى أن يشمل هذه الأقوال كلها {والملائكة} أي: كلهم {بعد ذلك} أي: الأمر العظيم الذي تقدم ذكره {ظهير} أي: ظهراء أعوان له في نصره عليكما. تنبيه: أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة، ومنهم جبريل عليه السلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات على القول بأن صالح المؤمنين هم الملائكة إن قلنا بالعموم، وذلك إظهار لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأية عكس آية البقرة، وهي قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهنا ذكر العام بعد الخاص. قال ابن عادل: ولم يذكر الناس إلا القسم الأول، وفي جبريل لغات تقدم ذكرها في البقرة. ولما كان أشد ما على المرأة أن تطلق، ثم إذا طلقت أن يستبدل بها، ثم يكون البدل خيراً منها قال تعالى محذراً لهن: وإن تظاهرا عليه} (التحريم: 4) » الآية. وفي رواية «أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له، وإنه قام على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه» . شرح بعض ألفاظ هذا الحديث: قوله: فعدلت معه أي: فملت معه، بالأداوة أي: الركوة، والعوالي جمع عالية، وهي أماكن بأعلى أرض المدينة. وقوله: لا يغرنك إن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة، وأوسم منك أي: أكثر حسناً، وقوله: فكنا نتناوب النزول: التناوب هو ما يفعله الإنسان مرة، ويفعله آخر بعده، والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة. وقوله: فإذا هو متكئ على رمال حصير: يقال: رملت الحصير إذا ظفرته ونسجته، والمراد أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله: ما رأيت فيه مايرد البصر إلا أهبة ثلاث: الأهبة والأهب جمع إهاب، وهو الجلد. وقوله: من شدة موجدته: الموجدة الغضب. وقرأ: {وإن تظاهرا} الكوفيون بتخفيف الظاء، والباقون بتشديدها أي: تتعاونا {عليه} أي: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه {فإن الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له، وقوله تعالى: {هو} يجوز أن يكون فصلاً، وقوله: {مولاه} الخبر، وأن يكون مبتدأ ومولاه خبره، والجملة خبر إن، والمعنى فإن الله وليه وناصره فلا يضره ذلك التظاهر منهما.Y وقوله تعالى: {وجبريل وصالح المؤمنين} معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه، ويجوز أن يكون جبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه وظهير خبر الجميع فتختص الولاية بالله. واختلف في صالح المؤمنين، فقال عكرمة: هو أبو بكر وعمر، وقال المسيب بن شريك: هو أبو بكر. وقال سعيد بن جبير: هو عمر، وعن أسماء بنت عميس: هو علي بن أبي طالب. وقال الطبري: هو خيار المؤمنين. وصالح اسم جنس كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) وقال قتادة: هم الأنبياء. وقال ابن زيد: هم الملائكة. وقال السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والأولى أن يشمل هذه الأقوال كلها {والملائكة} أي: كلهم {بعد ذلك} أي: الأمر العظيم الذي تقدم ذكره {ظهير} أي: ظهراء أعوان له في نصره عليكما. تنبيه: أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة، ومنهم جبريل عليه السلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات على القول بأن صالح المؤمنين هم الملائكة إن قلنا بالعموم، وذلك إظهار لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأية عكس آية البقرة، وهي قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهنا ذكر العام بعد الخاص. قال ابن عادل: ولم يذكر الناس إلا القسم الأول، وفي جبريل لغات تقدم ذكرها في البقرة. ولما كان أشد ما على المرأة أن تطلق، ثم إذا طلقت أن يستبدل بها، ثم يكون البدل خيراً منها قال تعالى محذراً لهن: {عسى ربه} أي: المحسن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها، وما لم تعرفوه منها أكثر جدير وحقيق ووسط بين عسى وخبرها اهتماماً وتخويفاً قوله تعالى: {إن طلقكن} أي: بنفسه من غير اعتراض عليه جميعكن أو بعضكن. قيل: كل عسى في القرآن واجب إلا هذه الآية، وقيل: هو واجب ولكن الله تعالى علقه بشرط، وهو التطليق ولم يطلقهن فإن طلقكن شرط معترض بين اسم عسى وخبرها وجوابه محذوف أو متقدم أي: إن طلقكن فعسى ربه وقوله تعالى {أن يبدله} أي: بمجرد طلاقه. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال، والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال. {أزواجاً خيراً منكن} خبر عسى، والجملة جواب الشرط ولم يقع التبدل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 لعدم وجود الشرط. فإن قيل: كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً منهن لأنهن أمهات المؤمنين؟ أجيب: بأنه إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصيانهن وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بالصفات الآتية مع الطاعة له صلى الله عليه وسلم خيراً، أو أن هذه على سبيل الفرض وهو عام في الدنيا والآخرة، فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقاً. وإن قيل: بوجوده في خديجة لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صلى الله عليه وسلم وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً الغاية القصوى، ومريم أحسنت حين كانت من القانتين فذلك في الآخرة، وتعليق تطليق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة. فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً لأن الله تعالى أمره أن يراجعها، لأنها صوامة قوامة. ثم بين تعالى الخيرية بقوله تعالى: {مسلمات} إلى أخره، وهو إما نعت، أو حال، أو منصوب على الاختصاص. قال سعيد بن جبير: مسلمات يعني مخلصات، وقيل: مسلمات لأمر الله عز وجل وأمر رسول الله خاضعات لله تعالى بالطاعات {مؤمنات} أي: مصدقات بتوحيد الله تعالى، وقيل: مصدقات بما أمرن به ونهين عنه، وقيل: مسلمات مقرات بالإسلام مؤمنات مخلصات {قانتات} أي: مطيعات والقنوت الطاعة، وقيل: داعيات {تائبات} أي: راجعات من الهفوات والزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك، وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن {عابدات} أي: كثيرات العبادات لله تعالى، وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد {سائحات} قال ابن عباس: صائمات، وقال الحسن: مهاجرات، وقال ابن زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة، والسياحة الجولان في الأرض، وقال الفراء وغيره: سمي الصائم سائحاً لأن السائح لازاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى. من ساح الماء إذا ذهب {ثيبات} جمع ثيب، وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه، أو زالت بكارتها بوطء من غير نكاح {وأبكاراً} أي: عذارى جمع بكر، وهي ضد الثيب، وسميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت بها وقدم الثيبات لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها، ووسط الواو بين الثيبات والأبكار لتنافي الوصفين دون سائر الصفات. فإن قيل: كيف ذكر الثيبات في مقام المدح وهن من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ أجيب: بأنه يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً من كثير من الأبكار لاختصاصهن بالمال والجمال. ولما بالغ سبحانه في عتاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع صيانتهن عن التشبه إكراماً له صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة فقال تعالى متبعاً لهن بالموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب. {يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بذلك {قوا أنفسكم} أي: اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى الله عليه وسلم وترك المعاصي وفعل الطاعات، وفي أدبه مع الخلق والخالق {وأهليكم} من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم {ناراً} بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الطبراني عن سعيد بن العاص: «ما نحل والد ولداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 أفضل من أدب حسن» وفي الحديث: «رحم الله رجلاً قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معهم في الجنة» وقيل: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله، وقال صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله، فإن لم تقم رش على وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها، فإن لم يقم رشت على وجهه من الماء» وقال بعض العلماء: لما قال {قوا أنفسكم} دخل فيه الأولاد لأن الولد بعض منه، كما دخلوا في قوله تعالى: {ولا عل أنفسكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم} (النور: 61) وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أحل ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه» فلم يفرد بالذكر أفراد سائر القرابات فيعلمه الحلال والحرام. وقال عليه الصلاة والسلام: «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه اذا بلغ» . ثم بين تعالى وصف تلك النار بقوله عز وجل: {وقودها} أي: الذي توقد به {الناس} أي: الكفار {والحجارة} كأصنامهم منها، وعن ابن عباس أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها، والمعنى أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه {عليها ملائكة} خزنتها عدتهم تسعة عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المدثر {غلاظ} أي: غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني أدم أكل الطعام والشراب {شداد} أي: شداد الأبدان، وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال يدفع واحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً في النار، لم يخلق الله فيهم الرحمة، وقيل: في أخذهم أهل النار شداد عليهم، يقال: فلان شديد على فلان، أي: قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب. وقيل: غلاظ أجسامهم ضخمة شداد، أي: الأقوياء. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقال صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: «ما بين منكبي كل واحد منهم كما بين المشرق والمغرب» {لا يعصون الله} أي: الملك الأعلى في وقت من الأوقات، وقوله تعالى: {ما أمرهم} بدل من الجلالة أي: لا يعصون أمر الله، وقوله تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون} تأكيد؛ هذا ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال الزمخشري: فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه. وقيل: لا يعصون الله ما أمرهم الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل، وصدر بهذا البيضاوي. فإن قيل: إنه تعالى خاطب المشركين في قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (البقرة: 24) فجعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟ أجيب: بأن الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: {قوا أنفسكم} باجتناب الفسوق مساكنة الذين أعدت لهم هذه الدار الموصوفة، ويجوز أن يأمرهم بالتوقي عن الارتداد والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون. قال الزمخشري: ويعضد ذلك قوله تعالى على الإثر: {يا أيها الذين كفروا} أي: بالإخلال بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فأداهم ذلك إلى الإخلال بالأدب مع الله تعالى، وبالأدب مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 سائر خلقه {لا تعتذروا} أي: تبالغوا في إظهار العذر هو إيساغ الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير {اليوم} فإنه يوم الجزاء لا يوم الاعتذار، وقد فات زمان الاعتذار وصار الأمر إلى ما صار وهذا النهي لتحقيق اليأس {إنما تجزون} أي: في هذا اليوم {ما كنتم} أي: ما هو لكم كالجبلة والطبع {تعملون} في الدنيا، ونظيره {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم} (الروم: 57) قال البقاعي: ولا بعد على الله في أن يصور لكل إنسان صورة عمله بحيث لا يشك أنه عمله ثم يجعل تلك الصورة عذابه الذي يجد فيه من الألم ما علم الله تعالى أنه بمقدار استحقاقه. ولما بين تعالى أن المعذرة لا تنفع في ذلك اليوم أمر بالتوبة في الدنيا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا} أي: ارجعوا رجوعاً تاماً {إلى الله} أي: الملك الذي لا نظير له {توبة} وقوله: {نصوحاً} صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من نصح الثوب إذا خاطه فكأن التائب يرقع بالمعصية. وقيل: من قولهم: ناصح، أي: خالص. وقرأ شعبة بضم النون، والباقون بفتحها. تنبيه: أمرهم بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وفي كل الأزمان. واختلفوا في معناها، فقال عمر ومعاذ: التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن في الضرع، وقال الحسن: هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه. وقال الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن. وعن حوشب: أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار، وعن سماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله تعالى أمام عينيك، وتتبعه نظرك. وعن السدي: لا تصح إلا بنصيحة النفس، ونصيحة المؤمنين لأن من صحت توتبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال سعيد بن المسيب: توبة ينصحون فيها أنفسهم. وقال القرطبي: يجمعها أربع أشياء: الإستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الإخوان. وقال الفقهاء: التوبة التي لا تعلق لحق آدمي فيها لها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، وثانيها: أن يندم على ما فعله، وثالثها: أن يعزم على أن لا يعود إليها. فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحاً وإن فقد شرط منها لم تصح توبته. وإن كانت تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة المتقدمة، والرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت المعصية مالاً ونحوه رده إلى مالكه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه من نفسه، أو طلب العفو منه، وإن كانت غيبة استحله منها. قال العلماء: التوبة واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور، ولا يجوز تأخيرها وتجب من جميع الذنوب، وإن تاب من بعضها صحت توبته عما تاب منه، وبقي عليه الذي لم يتب منه، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . وعن علي أنه سمع أعرابياً يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 اللهمّ إني أستغفرك وأتوب إليك فقال: يا هذا إن سرعة الاستغفار بالتوبة توبة الكذابين، قال: وما التوبة؟ قال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، وردّ المظالم واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما أذبتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي. وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. وقوله تعالى: {عسى ربكم} أي: المحسن إليكم {أن يكفر} ، أي: يغطى تغطية عظيمة {عنكم سيئاتكم} ، أي: ما بدا منكم مما يسوء بالتوبة، إطماع من الله لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلاً وتكرماً لا وجوباً عليه، وإن كان التائب على خطر فما ظنك بالمصر ولكن الفضل واسع. ولما ذكر نفع التوبة في دفع المضار ذكر نفعها في جلب المسارّ بقوله تعالى: {ويدخلكم} ، أي: يوم الفصل {جنات} أي: بساتين كثيرة الأشجار تستر داخلها {تجري من تحتها} أي: تحت غرفها وأشجارها {الأنهار} فهي لا تزال رياً، وقوله تعالى: {يوم لا يخزي الله} أي: الملك الأعظم {النبي} أي: الذي نبأه الله تعالى بما يوجب له الرفعة التامّة من الأخبار التي هي في غاية العظمة، منصوب بيدخلكم أو بإضمار اذكر، ومعنى يخزي هنا يعذب، أي: لا يعذبه، وقوله تعالى: {والذين آمنوا معه} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون منسوقاً على النبي، أي: ولا يخزي الذين آمنوا معه. وعلى هذا يكون قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} مستأنفاً أو حالاً، الثاني: أن يكون مبتدأ وخبره {نورهم يسعى} إلى آخره. وقوله تعالى: {يقولون} خبر ثان أو حال. تنبيه: التقييد بالإيمان لا ينفي أن لهم نوراً عن شمائلهم بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين فهم يمشون في هاتين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما، وأما أصحاب الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا {ربنا} ، أي: أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه {أتمم لنا نورنا} ، أي: الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام، قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً، وعن الحسن: لله متمه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله كقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وهو مغفور له، وقيل: يقوله أدناهم منزلة لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون مواطئ أقدامهم لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرّون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فأولئك الذين يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا {واغفر لنا} أي: وامح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره وهذا النور من صور أعمالهم في الدنيا، لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم، لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل فكل فضيلة يكتنفها رذيلتان إفراط وتفريط فالفضيلة هي الصراط المستقيم والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ومن أمالته الشهوات طفئ نوره في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها والمنافق يظهر له نور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 إقراره بكلمة التوحيد فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له {إنك} أي: وحدك {على كل شيء} يمكن دخول المشيئة فيه {قدير} أي: بالغ القدرة. ولما ذكر ما تقدم من لينه صلى الله عليه وسلم لأضعف الناس وحسن أدبه وكرم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم أمره سبحانه بالغلظة والشدة على أعدائه بقوله تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار} أي: بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك {والمنافقين} ، أي: جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين، وقال الحسن: وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليهم} ، بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {ومأواهم} أي: في الآخرة {جهنم وبئس المصير} ، أي: هي. ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلاً، وبدأ بالأول فقال تعالى: تنبيه: التقييد بالإيمان لا ينفي أن لهم نوراً عن شمائلهم بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين فهم يمشون في هاتين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما، وأما أصحاب الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا {ربنا} ، أي: أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه {أتمم لنا نورنا} ، أي: الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام، قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً، وعن الحسن: لله متمه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله كقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وهو مغفور له، وقيل: يقوله أدناهم منزلة لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون مواطئ أقدامهم لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرّون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فأولئك الذين يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا {واغفر لنا} أي: وامح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره وهذا النور من صور أعمالهم في الدنيا، لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم، لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل فكل فضيلة يكتنفها رذيلتان إفراط وتفريط فالفضيلة هي الصراط المستقيم والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ومن أمالته الشهوات طفئ نوره في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له {إنك} أي: وحدك {على كل شيء} يمكن دخول المشيئة فيه {قدير} أي: بالغ القدرة. ولما ذكر ما تقدم من لينه صلى الله عليه وسلم لأضعف الناس وحسن أدبه وكرم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم أمره سبحانه بالغلظة والشدة على أعدائه بقوله تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار} أي: بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك {والمنافقين} ، أي: جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين، وقال الحسن: وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليهم} ، بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {ومأواهم} أي: في الآخرة {جهنم وبئس المصير} ، أي: هي. ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلاً، وبدأ بالأول فقال تعالى: {ضرب الله} ، أي: الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ {للذين كفروا} ، أي: غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم وقوله تعالى: {امرأت نوح} عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالغرق {وامرأت لوط} عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالحصب والخسف، يجوز أن يكون بدلاً من قوله: {مثلاً} على تقدير حذف المضاف، أي: ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح وامرأة لوط، ويجوز أن يكونا مفعولين، وضرب الله تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب ولا نسيب في الآخرة إذا فرق بينهما الدين. قال مقاتل: وكان اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة، وقال الضحاك: عن عائشة: «إن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة واسم امرأة لوط والهة» . تنبيه: رسمت امرأت في الثلاثة وابنت بالتاء المجرورة، فوقف عليهنّ بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ووقف الباقون بالتاء. وقوله تعالى: {كانتا} أي: مع كونهما كافرتين {تحت عبدين} جملة مستأنفة كأنها مفسرة لضرب المثل، ولم يأت بضميرها فيقال: تحتهما، أي: تحت نوح ولوط لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة قال القائل: *لا تدعنى إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي* ودلّ على كثرة عبيده تنبيها على غناه بقوله تعالى: {من عبادنا} ووصفهما بأجل الصفات وهو قوله تعالى: {صالحين} واختلف في معنى قوله تبارك وتعالى: {فخانتاهما} فقال عكرمة والضحاك: بالكفر. وعن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه، وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبيّ قط وإنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين، وقيل: كانتا منافقتين، وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحي إليهما شيء أفشتاه إلى المشركين؛ قاله الضحاك، وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال {فلم} أي: فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم {يغنيا عنهما} ، أي: المرأتين بحق النكاح {من الله} ، أي: من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره {شيئاً} أي: من إغناء لأجل خيانتهما {وقيل} أي: للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مردّ له {ادخلا النار} ، أي: قيل لهما ذلك عند موتهما أو يوم القيامة {مع الداخلين} ، أي: سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من عذاب الله تعالى وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أعلى وجه وأشده وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة وقيل: أن كفار مكة استهزؤا وقالوا: إن محمداً يشفع لنا فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا ينفع نوح امرأته ولا لوط امرأته مع قربهما لهما لكفرهما. ثم شرع تعالى في ضرب المثل الثاني: فقال تعالى: {وضرب الله} ، أي: الملك الأعلى الذي له صفات الكمال {مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون} واسمها آسية وهي بنت مزاحم آمنت وعملت صالحاً فلم تضرّها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل، ولا نفعه إيمانها، كل امرئ بما كسب رهين وأثابها ربها تعالى أن جعلها في الآخرة زوجة خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في دار كرامته بصبرها على عبادة الله تعالى وهي في حبالة عدوّه وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته له لأنه من أعدى أعدائه وقوله تعالى: {إذ قالت} ظرف للمثل المحذوف، أي: مثلهم مثلها حين قالت {رب} ، أي: أيها المحسن إلي بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار {ابن لي عندك بيتاً} وبينت مرادها بالعندية فقالت: {في الجنة} أي: دار المقربين وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة أكمل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل {ونجني من فرعون} أي: فلا أكون عنده {وعمله} فلا تسلطه علي بما يضرني عندك في الآخرة فلا أعمل بشيء من عمله وهو شركه، وقال ابن عباس: جماعه {ونجني} أعادت العامل تأكيداً {من القوم الظالمين} أي: الناس الأقوياء العريقين الذين يضعون أعمالهم في غير موضعها، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها للمحبوب، وهو كليم الله موسى عليه السلام كما يقال: *صديق صديقي داخل في صداقتي وذلك أن موسى عليه السلام لما غلب السحرة آمنت به فلما تبين لفرعون إيمانها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفي القصة أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} فأبصرته من مرمرة بيضاء فانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألماً، وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله تعالى امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب. وقوله تعالى: {ومريم ابنت عمران} عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل {التي أحصنت فرجها} أي: عفت عن السوء وجميع مقدماته، كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على حالها إلى الممات فزوجها الله تعالى في الجنة جزاء لها بخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين: أراد بالفرج هنا الجيب لقوله تعالى: {فنفخنا} ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 أي: بمالنا من العظمة بواسطة ملكنا جبريل عليه السلام {فيه} ، أي: في جيب درعها. قال البقاعي: أو في فرجها الحقيقي، وعلى هذا فلا حاجة إلى التأويل {من روحنا} ، أي: من روح خلقناه بلا تواسط أصل وهو روح عيسى عليه السلام {وصدقت بكلمات ربها} ، أي: المحسن إليها واختلف في تلك الكلمات فقال: مقاتل يعني بالكلمات عيسى وأنه نبىّ وعيسى كلمة الله وقال البغوي: يعني الشرائع التي شرعها الله تعالى للعباد بكلماته المنزلة وقيل: هي قول جبريل عليه السلام لها {إنما أنا رسول ربك} (مريم: 19) الآية، وعلى كل قول استحقت أن تسمى لذلك صديقة، وقرأ: {وكتبه} أبو عمرو وحفص بضم الكاف والتاء جمعاً، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء وبعدها ألف إفراداً والمراد منه الكثرة فالمراد به الجنس فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى على ولدها أو غيره. وقوله تعالى: {وكانت من القانتين} يجوز في {مَن} وجهان: أحدهما: أنها لابتداء الغاية. والثاني: أنها للتبعيض. وقد ذكرهما الزمخشري فقال: فمن للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما وعليها وعلى سائر الأنبياء وآلهم أجمعين. قال الزمخشري: فإن قلت لم قيل: من القانتين على التذكير؟ قلت: لأن القنوت صفه تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه. وقيل: أراد من القوم القانتين، ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت: الطاعة، وقال عطاء: من المصلين بين المغرب والعشاء. وعن معاذ بن جبل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها: «إذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منى السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم» وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كمل من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً» حديث موضوع. سورة الملك مكية وتسمى: الواقية والمنجية، وتدعى في التوراة المانعة لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر، وعن ابن شهاب أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن صاحبها في القبر. وهي ثلاثون آية وثلاثمائة، وثلاثون كلمة، وألف وثلاثمائة حرف. {بسم الله} الذي خضعت لكمال عظمته الملوك {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد كل من في الوجود {الرحيم} الذي خص أولياءه بالنعيم بدار الخلود. {تبارك} ، أي: تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة، وقيل: دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه {الذي بيده} أي: بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره {الملك} ، أي: له الأمر والنهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 وملك السموات في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس: بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ويحيي ويميت ويغني ويفقر ويعطي ويمنع. قال الرازي: وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً كما يقال: بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة؛ لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهها {وهو على كل شيء} ، أي: من الممكنات {قدير} أي: تام القدرة. تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا يؤثر إلا قدرة الله تعالى، وأبطلوا القول بالطبائع كقول الفلاسفة، وأبطلوا القول بالتولدات كقول المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه لقوله تعالى: {وهو على كل شيء قدير} ودلت هذه الآية على الوحدانية لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً فإمّا أن يقدر على إيجاد شيء أو لا، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً فيلزم كون ذلك الشيء مقدوراً للإله الأول لقوله: {وهو على كل شيء قدير} فيلزم وقوع مخلوق من خالقين وإنه محال، لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد يلزم أن يستغني كل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال. وقرأ: {وهو على كل شيء قدير} {وهو العزيز الغفور} {وهو اللطيف} وما أشبه ذلك أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها، وخرج بقولنا من الممكنات أنه تعالى ليس قادراً على نفسه، وأجاب بعضهم بأن هذا عام مخصوص. ودل على تمام قدرته قوله تعالى: {الذي خلق} أي: قدر وأوجد {الموت والحياة} قيل: خلق الموت في الدنيا والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة لأنّ الموت إلى القهر أقرب كما قدم البنات على البنين فقال: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} (الشورى: 49) وقيل: قدمه لأنه أقدم، لأنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطف والتراب ونحوه. وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء» وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت» وقيل: إنما قدم الموت على الحياة لأن من نصب الموت بين عينيه كان أقوى الدواعي إلى العمل، وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل أنّ الموت والحياة جسمان، والموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوتها مدّ البصر فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها إلا حيي ولا تطأ على شيء إلا حيي وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي، حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس. وعن مقاتل: {خلق الموت} يعني: النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة يعني: خلق إنساناً فنفخ فيه الروح فصار إنساناً. قال القرطبي: وهذا حسن يدل عليه قوله تعالى: {ليبلوكم} أي: يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختبار {أيكم أحسن عملاً} أي: من جهة العمل، أي: عمله أحسن من عمل غيره، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 وروي عن عمر مرفوعاً: «أحسن عملاً أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» وقال الفضيل بن عياض: أحسن عملاً أخلصه وأصوبه وقال: العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة، وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها، وقال السدي: أيكم أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره وبالحياة ليبين شكره، وقيل: خلق الله تعالى الموت للبعث والجزاء وخلق الله الحياة للابتلاء. فإن قيل: الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق الله تعالى العالم بجميع الأشياء محال. أجيب: بأن الابتلاء من الله تعالى هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر كما مرّت الإشارة إليه. {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الغفور} أي: الذي مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما قال تعالى في الحديث القدسي: «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» . وقوله تعالى: {الذي خلق} ، أي: أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق {سبع سموات} يجوز أن يكون تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً، وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ محذوف أو مفعول فعل مقدر. وقوله تعالى: {طباقاً} صفة لسبع وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جمع طبق نحو جبل وجبال. والثاني: أنه جمع طبقة نحو: رحبة ورحاب، والثالث: أنه مصدر طابق، يقال: طابق مطابقة وطباقاً. ثم إما أن يجعل نفس المصدر مبالغة وإما على حذف مضاف، أي: ذات طباق وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي: طوبقت طباقاً من قولهم: طابق النعل، أي: جعله طبقة فوق طبقة أخرى. وروي عن ابن عباس: طباقاً أي: بعضها فوق بعض، قال البقاعي: بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك قال: وهي لا تكون كذلك إلا أن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والثانية: محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكلّ. والكرسي الذي هو أقربها بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة فما ظنك بما تحته؟ وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة فسبحان اللطيف الخبير، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأ فيها لنا من المنافع آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد فانقطع باللجا إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع وسارع في مرضاته ومحابه في كل خفض ورفع. تنبيه: دلت هذه الآية على القدرة من وجوه: أحدها: من حيث بقاؤها في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة. ثانيها: أنّ كلاً منها اختص بحركة خاصة متقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معنية. ثالثها: كونها في ذاتها محدثة وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة. وقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن} أي: للسموات ولغيرها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله تعالى: {فارجع البصر} {ثم ارجع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 البصر} {ينقلب إليك البصر} {من تفاوت} ، أي: من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها وإن اختلف صورة، وقيل: المراد بذلك السموات خاصة، أي: ما ترى في خلق السموات من عيب وأصله من الفوت وهو: أن يفوت بعضها بعضاً فيقع الخلل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس: من تفرّق، وقال السدي: أي من اختلاف وعيب يقول الناظر: لو كان كذا لكان أحسن، وقيل: المراد من التفاوت الفطور لقوله تعالى بعد ذلك: {فارجع البصر هل ترى من فطور} ونظيره قوله تعالى: {وما لها من فروج} (ق: 6) قال القفال: ويحتمل أن يكون المعنى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكم الصانع وأنه لم يخلقها عبثاً. تنبيه: دلت هذه الآية على كمال علم الله تعالى، وذلك أن الحس دل على أن هذه السموات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فلا بدّ وأن يكون عالماً فدلت الآية على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} إشارة إلى كونها محكمة متقنة. وقرأ: {ما ترى} و {هل ترى} أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بين بين والباقون بالفتح، وأدغم لام هل في التاء أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي، وقرأ من تفوت حمزة والكسائي بغير ألف بعد الفاء وتشديد الواو والباقون بألف بعد الفاء وتخفيف الواو. وقوله تعالى: {فارجع البصر} مسبب عن قوله تعالى: {ما ترى} وقوله تعالى: {هل ترى من فطور} جملة يجوز أن تكون معلقة لفعل محذوف يدل عليه فارجع البصر، أي: فارجع البصر فانظر هل ترى، وأن يكون فارجع البصر مضمناً معنى انظر لأنه بمعناه فيكون هو المعلق. والفطور جمع فطر وهو الشق يقال: فطره فانفطر، ومنه فطر ناب البعير كما يقال: شق ومعناه شق اللحم وطلع، قال المفسرون: الفطور: الصدوع والشقوق قال القائل: *شققت القلب ثم ذرأت فيه ... هواك فليط فالتام الفطور* {ثم ارجع البصر} وقوله تعالى: {كرتين} نصب على المصدر كمرتين وهو مثنى لا يراد به حقيقته بل التكثير بدليل قوله تعالى: {ينقلب إليك البصر خاسئاً} ، أي: صاغراً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طرداً بالصغار {وهوحسير} ، أي: كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ولا ثلاث، وإنما المعنى: كرات، وهذا كقولهم: لبيك وسعديك وحنانيك ودواليك وهذاذيك؛ لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد إنما يريدون التكثير، أي: إجابة لك بعد إجابة وإلا لتناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة كقوله: *لوعد قبر وقبر كنت أكرمه* أي: قبور كثيرة ليتم المدح، وقال ابن عطية: كرتين معناه مرتين ونصبهما على المصدر. وقيل: الأولى: ليرى حسنها واستواءها، والثانية: ليبصر كواكبها في مسيرها وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط، وروى البغوي عن كعب أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية: مرمرة بيضاء، والثالثة: حديد، والرابعة: صفر أو قال: نحاس، والخامسة: فضة، والسادسة: ذهب، والسابعة: ياقوتة حمراء، وبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 السماء السابعة والحجب السبعة صحارى من نور. ثم ذكر تعالى دلالة أخرى بعد تلك الدلالة تدل على تمام قدرته بقوله تعالى: {ولقد زينا} بما لنا من العظمة {السماء الدنيا} أي: القربى لأنها أقرب السموات إلى الأرض وهي التي تشاهدونها {بمصابيح} جمع مصباح وهو السراج أي: بنجوم متقدة عظيمة جداً تفوت الحصر ظاهرة سائرة مضيئة ظاهرة زاهرة وهي الكواكب التي تنوّر الأرض بالليل إنارة السرج التي تنوّرون بها سقوف دوركم، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وزينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح والتزين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيما فوقها من السماوات وهي تتراءى بحسب الشفوف وبما لأجرام السماوات من الصفاء ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة. {وجعلناها} أي: المصابيح بما لنا من العظمة مع كونها زينة وإعلاماً للهداية {رجوماً للشياطين} أي: الذين يحق لهم الطرد من الجن لما لهم من الاحتراق حراسة للسماء التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع فيها على الناس دينهم الحق ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي قد ختمنا به الأديان بالباطل. والرجوم جمع رجم وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير، ويجوز أن يكون باقياً على مصدرتيه، ويقدر مضاف، أي: ذات رجوم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكوكب وهو قارّ في فلكه على حاله كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية لا تنقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالنجوم فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، وقال أبو علي جواباً لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم؟: لا تنفي كيفية الرجم أن يؤخذ نار من ضوء الكوكب يرمى بها الشيطان والكوكب في مكانه لا يرجم به، وقيل: الرجوم هنا الظنون والشياطين شياطين الإنس كما قال القائل: *وما هو عنها بالحديث المرجم* فيكون المعنى: جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء من عظيم الابتلاء، وعن قتادة: خلقت النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وتكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم. {وأعتدنا} أي: هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة {لهم} أي: للشياطين {عذاب السعير} أي: التي في غاية الاتقاد في الآخرة قال المبرد: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل، وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة الآن لأن قوله تعالى: {وأعتدنا لهم} خبر عن الماضي. ولما أخبر تعالى عن تهيئة العذاب لهم بالخصوص أخبر عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه فقال عز من قائل: {وللذين كفروا} أي: أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله {بربهم} أي: الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت كفراً بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم {عذاب جهنم} أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والغضب {وبئس المصير} أي: هي. {إذا ألقوا} أي: طرح الكفار {فيها} أي: في نار جهنم من أيّ طارح أمرناه بطرحهم كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سمعوا لها} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 أي: جهنم نفسها {شهيقاً} أي: صوتاً هائلاً أشد نكارة من أول صوت الحمار لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها كشهيق البغلة للشعير أو لأهلها على حذف مضاف كما قال عطاء: الشهيق للكفار، أي: سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} (هود: 106) قال القرطبي: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق وقد مضى في سورة هود. {وهي تفور} أي: تغلي بهم ومنه قول حسان: *تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حابية تفور* قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المراجل، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها. {تكاد تميز} أي: تقرب من أن ينفصل بعضها من بعض كما يقال: يكاد فلان ينشق من غيظه، وفلان غضب فطارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء، كناية عن شدة الغضب. وقرأ البزي بتشديد التاء من تميز في الوصل، والسوسي على أصله بإدغام الدال في التاء {من الغيظ} أي: عليهم، وقال سعيد بن جبير: {تكاد تميز من الغيظ} يعني: ينقطع وينفصل بعضها من بعض، وقال ابن عباس: تتمزق من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى وذلك كله لغضب سيدها، وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به، وهي من شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم يقابلها بنوره فترجع مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر أن يقلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها في الجو فعل من غير كلفة، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخه، روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر صلاته إلى أن قال: ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون» .v ولما ذكر تعالى حالها أتبعه حالهم فقال تعالى: {كلما ألقي فيها} أي: في جهنم بدفع الزبانية لهم {فوج} أي: جماعة في غاية الإسراع، والأفواج الجماعات في تفرقة ومنه قوله تعالى: {فتأتون أفواجاً} (النبأ: 18) والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار {سألهم} أي: ذلك الفوج {خزنتها} أي: النار وهم مالك وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع {ألم يأتكم} أي: في الدنيا {نذير} أي: رسول يخوفكم هذا اليوم حتى تحذروا. قال الزجاج: وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب. {قالوا بلى} قرأه حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والوقف عليها كما في الوصل {قد جاءنا نذير} أي: محذر بليغ التحذير. تنبيه: في ذلك دليل على جواز الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا: بلى لفهم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في نقمتهم على تفريطهم في قبول قول النذير وليعطفوا عليه قولهم {فكذبنا} أي: فتسبب عن مجيئه أنا أوقعنا التكذيب بكل ما قاله النذير {وقلنا} أي: زيادة في التكذيب {ما نزل الله} أي: الذي له الكمال كله عليكم ولا على غيركم {من شيء} لا وحياً ولا غيره وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين: {إن} أي: ما {أنتم} أي: أيها النذر المذكورون في نذير، المراد به الجنس {إلا في ضلال} أي: بعد عن الطريق {كبير} فبالغنا في التكذيب والسفه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 بالاستجهال والاستخفاف. وقيل: قوله تعالى: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} من كلام الملائكة للكفار حين أخبروا بالتكذيب. {وقالوا} أي: الكفار زيادة في توبيخ أنفسهم {لو كنا} أي: بما لنا من الغريزة {نسمع} أي: كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتماداً على ما لاح من صدقهم بالمعجزات {أو نعقل} أي: بما أدته إلينا حاسة السمع فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين {ما كنا} أي: كونا دائماً {في أصحاب السعير} أي: في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الإيقاد. تنبيه: في الآية أعظم فضيلة للعقل، روي عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار: {لو كنا نسمع أو نعقل} » الآية {فاعترفوا} أي: بالغوا في الاعتراف حيث لا ينفعهم الاعتراف {بذنبهم} أي: في دار الجزاء كما بالغوا في التكذيب في دار العمل، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر والمراد به تكذيب الرسل {فسحقاً} أي: فبعداً لهم من رحمة الله تعالى وهو دعاء عليهم مستجاب {لأصحاب السعير} أي: الذين قضت عليهم أعمالهم بملازمتها، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال: له السحق، وقرأ الكسائي بضم الحاء والباقون بسكونها. ولما ذكر أصحاب السعير أتبعهم ذكر أضدادهم بقوله تعالى: {إن الذين يخشون} أي: يخافون {ربهم} أي: المحسن إليهم خوفاّ أرق قلوبهم وأرق أعينهم بحيث لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية {يؤتون ما آتو وقلوبهم وجلة} (المؤمنون: 60) . {بالغيب} أي: حال كونهم غائبين عن عذابه سبحانه، أو وعيده غائباً عنهم أو وهم غائبون عن أعين الناس فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتتكلم بسيوف الهيبة فيتركون المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة، فعلى العاقل أن يطوع نفسه لترجع مطمئنة بأن ترضى بالله رباً لتدخل في رق العبودية، وبالإسلام ديناً ليصير غريقاً فيها، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع ويظهره من المعارف ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره. {لهم مغفرة} أي: عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم {وأجر} أي: من فضل الله تعالى {كبير} يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الإيلام ويصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام. {وأسروا} أي: أيها الخلائق {قولكم} أي: خيراً كان أو شراً {أو اجهروا به} فإنه يعلمه ويجازيكم به، اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخير، يعني: إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره أو جهرتم به فسواء {إنه} أي: ربكم {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بحقيقتها وكنهها وحالها وجبلتها وما يحدث عنها من الخير والشر وقال ابن عباس: «نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام فقال: بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد» . فأسروا قولكم أو اجهروا به يعني: وأسروا قولكم في محمد صلى الله عليه وسلم وقال غيره: إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أيّ سبيل وجد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 فالحال واحد في علمه تعالى، فاحذروا من المعاصي سراً كما تحذرون عنها جهراً فإنّ ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى. ولما قال تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} ذكر الدليل على أنه عالم فقال تعالى: {ألا يعلم من خلق} أي: من خلق لا بدّ وأن يكون عالماً بما خلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية. والمعنى: ألا يعلم السر من خلق السر، يقول: أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد، قال أهل المعاني: إن شئت جعلته من أسماء الخالق تعالى ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق والمعنى: ألا يعلم الله من خلقه، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بما خلقه وما يخلقه قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم ألا يعلم من خلق {وهو} أي: والحال أنه هو {اللطيف} الذي يعلم ما بثه في القلوب {الخبير} أي: البالغ العلم بالظواهر والبواطن فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء. وقال أبو إسحاق الاسفرايني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ومعناه تعميم جميع المعلومات، ومنها الحكيم، ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد، ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها المحصي ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} . ولما كان هذا أمراً غامضاً دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبره فقال مستأنفاً: {هو} أي: وحده {الذي جعل لكم الأرض} على سعتها وعظمتها وحزونة كثير منها {ذلولاً} أي: مسخرة لا تمتنع لتتوصلوا إلى منافعكم فيها قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك، وقيل: ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ولو كانت متمايلة لما كانت منقادة لنا، وقيل: لو كانت مثل الذهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف وتبرد جداً في الشتاء. تنبيه: في ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة تهديد للكفرة كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً: يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها لك، وكل هذا الخبز الذي هيأته لك ولا تأمن مكري وتأديبي، فكأنه تعالى يقول: يا أيها الكفار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم فخافوني فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ولو شئت خسفت بكم. وقوله تعالى: {فامشوا} ، أي: الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم من غير صعوبة توجب لكم وثوباً أو حبواً {في مناكبها} مثل لفرط التذلل ومجاوزته الغاية، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئاً وهذا أمر إباحة وفيه إظهار الامتنان وقيل: خبر بلفظ الأمر، أي: لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها، وقال ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة: في مناكبها في جبالها وتذليلها أدل على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 تذليل غيرها، وليكن مشيكم فيها وتصرفاتكم بذل وإخبات وسكون استصغاراً لأنفسكم وشكراً لمن سخر لكم ذلك، وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة، فقالت: مناكبها جبالها، فقال لها: صرت حرة فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقال مجاهد: في أطرافها، وعنه أيضاً في طرقها وفجاجها، وهو قول السدي والحسن، وقال الكلبي: في جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه. فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: {وكلوا} ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: {من رزقه} الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض {وإليه} أي: وحده {النشور} وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل: * ... هي النفس ما عودتها تتعود* ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: {أأمنتم} قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: {من في السماء} فيه وجوه: أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه. والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء. والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (طه: 71) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة. والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: {أأمنتم من في السماء} أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: {قل لمن ما في السموات والأرض} (الأنعام: 12) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} (الأنعام: 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام. فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: {وكلوا} ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: {من رزقه} الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض {وإليه} أي: وحده {النشور} وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل: * ... هي النفس ما عودتها تتعود* ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: {أأمنتم} قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: {من في السماء} فيه وجوه: أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه. والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء. والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (طه: 71) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة. والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: {أأمنتم من في السماء} أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: {قل لمن ما في السموات والأرض} (الأنعام: 12) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} (الأنعام: 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام. وقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 {أن يخسف بكم الأرض} بدل من {من في السماء} بدل اشتمال، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون، وقرأ: {من في السماء أن} نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد الكسرة ياء في الوصل والباقون بتحقيقهما {فإذا هي} أي: الأرض التي أنتم عليها {تمور} أي: تضطرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه، قال في «القاموس» : المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك، وقال الرازي: إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها يذهبون، والأرض فوقهم تمور فتقلبهم إلى أسفل السافلين. وقال القرطبي: قال المحققون: أأمنتم من فوق السماء كقوله تعالى: {فسيحوا في الأرض} (التوبة: 2) ، أي: فوقها لا بالمماسة والتحيز بل بالقهر والتدبير والأخبار في هذا صحيحة كثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلوّ والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود، لأنها صفات الأجسام وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء، لأن السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس ومعدن المطهرين من الملائكة وإليها ترفع أعمال العباد وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله تعالى الكعبة قبلة للصلاة، ولأنه تعالى خلق الأمكنة وهو غير متحيز وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان. وقوله تعالى: {أم أمنتم} أي: أيها المكذبون {من في السماء أن يرسل} بدل من {من في السماء} بدل اشتمال. {عليكم} أي: من السماء {حاصباً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها، وقيل: هي سحاب فيها حجارة {فستعملون} أي: عن قريب بوعد لا يخلف عند معاينة العذاب {كيف نذير} أي: إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب، وهو بحيث لا يستطاع ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع. قال البقاعي: وحذف الياء منه ومن نكير إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطوق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد لا غاية له بوجه ولا تحزير، أي: على قراءة أكثر القراء فقد قرأ ورش بالياء في الوصل فيهما دون الوقف والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. {ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير} أي: إنكاري عليهم لما أصبتهم به من العذاب. ولما ذكر تعالى ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته بقوله تعالى: {أو لم يروا} أجمع القراء على القراءة بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال تعالى: {إلى الطير} وهو جمع طائر {فوقهم} أي: في الهواء، وقوله تعالى: {صافات} أي: باسطات أجنحتهن يجوز أن يكون حالاً من الطير وأن يكون حالاً من فوقهم إذا جعلناه حالاً فتكون متداخلة وفوقهم ظرف لصافات على الأول أو ليروا. وقوله تعالى: {ويقبضن} عطفه الفعل على الاسم لأنه بمعناه، أي: وقابضات فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله تعالى: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا} (الحديد: 18) فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقال أبو حيان: وعطف الفعل على الاسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى: {فالمغيرات صبحاً فأثرن} (العاديات، الآيات: 3 ـ 4) عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى: فاللاتي أغرن فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه إلا عند السهيلي فإنه قبيح، وقال الزمخشري: {صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً {ويقبضن} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن. فإن قلت: لم قال: {ويقبضن} ولم يقل قابضات؟ قلت: لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، اه. وقال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبيه: قابض، لأنه يقبضهما. وقيل: ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا أوقفن عن الطيران. {ما يمسكهن} أي: عن الوقوع في حال البسط والقبض {إلا الرحمن} أي: الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة هيأهن للجري في الهواء. {إنه} أي: الرحمن سبحانه {بكل شيء بصير} أي: بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها فمهما أراد كان. والمعنى: أولم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب. وقوله تعالى: {أمن} مبتدأ، وقوله تعالى: {هذا} خبره، وقوله تعالى: {الذي} بدل من هذا، وقوله تعالى: {هو جند} أي: أعوان {لكم} صلة الذي، وقوله تعالى: {ينصركم} صفة جند {من دون الرحمن} أي: غيره يدفع عنكم عذابه، أي: لا ناصر لكم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جندٌ لكم، أي: حزب ومنعة لكم ولفظ الجند يوحد ولذلك قال تعالى: {هذا الذي هو جند لكم} وهو استفهام إنكاري، أي: لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله من دون الرحمن، أي: من سوى الرحمن. وقرأ أبو عمرو بسكون الراء، وللدوري اختلاس الضمة أيضاً والباقون بالرفع {إن الكافرون} أي: ما الكافرون {إلا في غرور} أي: من الشيطان يغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب. قال بعض المفسرين: كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ويعاندون النبي صلى الله عليه وسلم معتمدين على شيئين: أحدهما: قوتهم بمالهم وعددهم. والثاني: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات، فأبطل الله تعالى عليهم الأول بقوله تعالى: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم} الآية، ورد عليهم الثاني بقوله تعالى: {أمن هذا الذي يرزقكم} أي: على سبيل التجدد والاستمرار {إن أمسك رزقه} بإمساك الأسباب التي ينشأ عنها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً وكثيراً وسهل التناول فوضع الأكل في فمه فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فمن يرزقكم، أي: لا رازق لكم غيره، {بل لجوا} أي: تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة. قال الرازي في «اللوامع» : واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه، {في عتوّ} أي: مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد {ونفور} أي: تباعد عن الحق، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سارّ ولا دفع ضارّ والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب. {أفمن يمشي مكباً} أي: واقعاً {على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وجهه أهدى أمن يمشي سوياً} أي: معتدلاً {على صراط} أي: طريق {مستقيم} وخبر من الثانية محذوف دل عليه خبر الأولى، أي: أهدى، والمثل في المؤمن والكافر، أي: أيهما أهدى، وقيل: المراد بالمكب الأعمى، فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير. وقيل: المكب هو الذي يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سوياً: الذي يحشر على قدميه إلى الجنة، وقال ابن عباس والكلبي رضي الله عنهم: عنى بالذي يمشي مكباً على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: أبو بكر، وقيل: حمزة، وقيل: عمار بن ياسر، قال عكرمة: وقيل: عامٌّ في الكافر والمؤمن، أي: أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل، أي: أهذا الكافر أهدى أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق وهو على صراط مستقيم وهو الإسلام، وقرأ قنبل بالسين وقرأ خلف بالإشمام، أي: بين الصاد والزاي والباقون بالصاد الخالصة. {قل} أي: يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما رفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه {هو} أي: الذي شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان {الذي أنشأكم} أي: أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في الأطوار المختلفة في الرحم، ويسر لكم بعد الخروج اللبن حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه {وجعل لكم السمع} أي: لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها {والأبصار} لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم {والأفئدة} أي: القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعهما لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفئدة. {قليلاً ما تشكرون} أي: باستعمالها فيما خلقت لأجله، وما مزيدة والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جداً على هذه النعم، وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان. {قل هو} أي: وحده {الذي ذرأكم} أي: خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعدما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء {في الأرض} التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات وغيره {وإليه} أي: وحده بعد موتكم {تحشرون} شيئاً فشيئاً إلى البرزخ ودفعة واحدة يوم البعث للحساب فيجازى كلاً بعمله. {ويقولون} أي: يجددون هذا القول تجديداً مستمراً استهزاء وتكذيباً {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بقولهم {الوعد} أي: يوم القيامة والعذاب الذي توعدوننا به {إن كنتم صادقين} أي: في أنه لابدّ لنا منه وأنكم مقربون عند الله، فلو كان لهم ثبات الصبر لما كانوا طاشوا هذا الطيش بإبراز هذا القول القبيح. ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال بقوله عز وجل: {قل} أي: يا أكرم الخلق لهؤلاء البعداء {إنما العلم} أي: علم وقت قيام الساعة ونزول العذاب {عند الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه لا يطلع عليه غيره {وإنما أنا نذير} أي: كامل في أمر النذارة التي يلزم منه البشارة لمن أطاع النذير، لا وظيفة لي عند الملك الأعظم غير ذلك فلا وصول إلى سؤاله عما لا يؤذن لي في السؤال عنه {مبين} أي: بين الإنذار بإقامة الأدلة حتى يصير ذلك كأنه مشاهدة لمن له قبول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 العلم. {فلما رأوه} أي: العذاب بعد الحشر {زلفة} أي: ذا قرب عظيم منهم {سيئت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: اسودّت {وجوه} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال تعالى: {الذين كفروا} أي: أظهروا السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف. تنبيه: الأصل ساء، أي: أحزن وجوههم العذاب ورؤيته ثم بني للمفعول وساء هنا ليست المرادفة لبئس. وأشم كسرة السين نافع وابن عامر والكسائي والباقون باختلاس الكسرة. وقيل: أي: قال لهم الخزنة تقريعاً وتوبيخاً {هذا الذي كنتم} أي: جبلة وطبعاً {به} أي: بسببه ومن أجله {تدّعون} أي: تتمنون وتسألون وتزعمون أنكم لا تبعثون، وهذه حكاية حال تأتي عبر عنها بطريق المضي لتحقق وقوعها، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها. {قل} أي: يا أكرم الخلق لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك كما قال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} (الطور: 30) {أرأيتم} أي: أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية {إن أهلكني الله} أي: أماتني بعذاب أو غيره الذي له من الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم عدوه. وقرأ: قل أرأيتم في الموضعين، نافع بتسهيل الهمزة بعد الواو، ولورش أيضاً إبدالها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق وإذا وقف حمزة سهل الهمزة، وقرأ: {إن أهلكني الله} حمزة بسكون الياء والباقون بفتحها، ومن سكن الياء رقق اللام من الاسم الجليل ومن فتحها فخم {ومن معي} أي: من المؤمنين {أو رحمنا} أي: بالنصر وإظهار الإسلام كما نرجو فأنجانا بذلك من كل سوء ووقانا كل محذور، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بالسكون {فمن يجير الكافرين} أي: العريقين في الكفر بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره {من عذاب أليم} أي: لا مجير لهم منه. {قل} أي: يا خير الخلق {هو} أي: الله وحده {الرحمن} أي: الشامل الرحمة {آمنا به} أي: أنا ومن معي {وعليه} أي: وحده {توكلنا} أي: لأنه لا شيء في يد غيره وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذب من يريد رحمته، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه لأنه الفاعل بالذات المستجمع لما يليق به من الصفات فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره {فستعلمون} أي عند معاينة العذاب عما قليل بوعد لا خلف فيه {من هو في ضلال مبين} أي: بين أنحن أم أنتم، وقرأ الكسائي بعد السين بياء الغيبة نظراً إلى قول الكافرين والباقون بتاء الخطاب إما على الوعيد، وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم. {قل} أي: يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا {أرأيتم} أي: أخبروني إخباراً لا لبس فيه {إن أصبح ماؤكم} أي: الذي تعدّونه في أيديكم بما نبهت عليه الإضافة {غوراً} أي: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء وكان ماؤهم من بئرين بئر زمزم وبئر ميمونة {فمن يأتيكم} على ضعفكم حينئذ وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم {بماء معين} ، أي: دائم لا ينقطع وظاهر للأعين سهل المأخذ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بماء معين أي: ظاهر تراه العيون فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء، أي: كثر فهو على هذا فعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أن المعنى: فمن يأتيكم بماء عذب أي: لا يأتيكم به إلا الله فكيف تنكرون أن يبعثكم؟ ويستحب أن يقول القارىء عقب معين: الله رب العالمين، كما في الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال: تأتي به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه وعمي نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل يوم القيامة فأخرجته من النار وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك» . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بسورة الملك ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة الملك ثم قال: هي المانعة من عذاب الله، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وددت أن تبارك الملك في قلب كل مؤمن» . وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر» فحديث موضوع. سورة ن وتسمى القلم مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم: من أولها إلى قوله تعالى: {سنسمه على الخرطوم} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {يعلمون} مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {فهم يكتبون} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {من الصالحين} مدني، وباقيها مكي، قاله الماوردي. وهي اثنتان وخمسون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفاً. {بسم الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة فهو بكل شيء عليم {الرحمن} الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم {الرحيم} الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته فألزمه صراطه المستقيم. وقوله تعالى: {ن} كقوله تعالى: {ص والقرآن} (ص: 1) وجواب القسم الجملة المنفية بعدها. واختلفوا في تفسير ذلك، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو قول مجاهد ومقاتل والسدّي والكلبي، وروى أبو طيبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، ثم قرأ ابن عباس: {ن} الآية» . واختلفوا في اسمه فقال الكلبي ومقاتل: يهموت، وقال الواقدي: ليوثا، وقال كعب: لوثا، وقال علي: تلهوت، وقال الرواة: لما خلق الله تعالى الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأخذ الله تعالى ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها خمسمائة عام ووضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً، فإذا تنفس يمتد البحر وإذا ردّ نفسه جزر البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: فتكن في صخرة ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم ووضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة ثقل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار: كوني فكانت. قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لويثا أن يفعل فبعث الله تعالى دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن الله تعالى لها فخرجت، فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت. وقال بعضهم: نون آخر حروف الرحمن وهي رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الحسن وقتادة والضحاك: النون: الدواة، وهو مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال القرطبي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة» . ومنه قول الشاعر: *إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجام* ويكون على هذا أقسم بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابة، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق وتارة بالكتابة، وقيل: النون: لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يؤمرون به، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً، وقيل: النون: هو المداد الذي تكتب به الملائكة. وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح اسمه تعالى نصير ونور وناصر، وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصرة المؤمنين. وقال الزمخشري: هذا الحرف من حروف المعجم، وأما قولهم: هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين، وإن كان علماً فأين الإعراب وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام. فإن قلت: هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة كأنه قيل: ودواة {والقلم} وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث. وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علماً لليهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة نحو ذلك ا. هـ. تنبيه: في القلم المقسم به قولان: أحدهما: أن المراد به الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض، قال تعالى: {وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 3 ـ 5) ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق، قال تعالى: {خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن: 3 ـ 4) ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر، والثاني: أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة قال: ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض. وروى مجاهد أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: اكتب المقدر، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري في الناس على أمر قد فرغ منه، قال ابن عادل: قال القاضي: هذا الخبر يجب حمله على المجاز، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى، فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال، بل المراد منه إنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو قوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران: 47) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة، اه. وقوله: فإن الجمع إلى قوله: محال، ممنوع فإن الله تعالى خلق فيه ذلك كما قال تعالى للسموات والأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 11) وقال الزمخشري: أقسم بالقلم تعظيماً له لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيطها الوصف. وقيل: القلم المذكور ههنا هو العقل وإنه شيء كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه روي في الأخبار: أول ما خلق الله تعالى القلم، وفي خبر آخر: «أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقاً أعجب إليَّ منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلاً أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته» . وفي خبر آخر: أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وسخنت فارتفع منها دخان وزبد، فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض، قالوا: وهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض، وقال البغوي: القلم هو الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، ويقال: أول ما خلق الله تعالى القلم ونظر إليه فانشق نصفين ثم قال: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك. وقرأ قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة وورش بخلاف عنه بإظهار النون عند الواو هنا والباقون بالإدغام. {وما يسطرون} أي: الملائكة من الخير والصلاح، وقيل: وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم، وقيل: ما يكتبون، أي: الناس ويتفاهمون به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى {وما يسطرون} : وما يعملون، وما موصولة أو مصدرية. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة، وقال البقاعي: وما يسطرون، أي: قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولى العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم أو الأقلام على إرادة الجنس، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره، وأما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه، وأما كل من يكتب منهم ومن غيرهم. وقوله تعالى: {ما أنت} أي: ياأعلى المتأهلين لخطابنا {بنعمة} أي: بسبب إنعام {ربك} أي: المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو الجامع لكل علم وحكمة {بمجنون} جواب القسم، وهو نفي، قال الزجاج: أنت هو اسم ما وبمجنون الخبر. وقوله تعالى: {بنعمة ربك} كلام وقع في الوسط، أي: انتفى ذلك الجنون بنعمة ربك كما يقال: أنت بحمد ربك عاقل بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون، وقال البغوي: ما أنت بنعمة ربك بنبوة ربك بمجنون، أي: إنك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله تعالى عليك بالنبوة والحكمة، وقيل: بعصمة ربك، وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون والحمد لله، وقيل: معناه ما أنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 بمجنون والنعمة لربك كقولهم: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أي: والحمد لك. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير امتلأ غباراً، فقالت له: ما لك فذكر جبريل عليه السلام وأنه قال له: {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1) فهو أول ما نزل من القرآن قال: ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال: هكذا الصلاة يا محمد، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة فذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال: أرسلي إلي محمداً فأرسلته، فقال: هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو أحداً، قال: لا فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا: إنه مجنون، وأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة. وقال ابن عباس: أول ما نزل قوله تعالى: «سبح اسم ربك الأعلى» (الأعلى: 1) وهذه الآية هي الثانية نقله الرازي، وذكر القرطبي أن المشركين كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم مجنون به شيطان وهو قولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6) فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم: {ما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} (الطور: 29) ، أي: برحمة ربك والنعمة ههنا الرحمة، وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة، وقال القرطبي: يحتمل أن النعمة ههنا قسم تقديره ما أنت ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم. وقال الرازي: إنه تعالى وصفه بصفات ثلاث: الأولى: نفي الجنون عنه، ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، لأن قوله: {بنعمة ربك} يدل على أن نعم الله تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم المحسوسة ظاهرة ووجودها ينافي حصول الجنون فالله تعالى نبه على أن هذه الدقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم مجنون. الصفة الثانية: قوله تعالى: {وإنّ لك} أي: على ما تحملت من أثقال النبوة وعلى صبرك عليهم فيما يرمونك به وهو تسلية له صلى الله عليه وسلم {لأجر} ، أي: ثواباً {غير ممنون} أي: مقطوع ولا منقوص في دنيا ولا آخرة، يقال: مان الشيء إذا ضعف. ويقال: مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين إذا كان غير متين، قال لبيد: * ... عبساً كواسب لا يمنّ طعامها* أي: لا يقطع، يصف كلاباً ضارية. ونظيره قوله تعالى: {غير مجذوذ} (هود: 108) وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: غير ممنون، أي: غير محسوب عليك. قال الزمخشري: لأنه ثواب تستحقه على عملك وليس بتفضل ابتداء وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال، انتهى. وهذا قول المعتزلة، فإن الله تعالى لا يجب عليه شيء. وقال الحسن: غير مكدر بالمن. وقال الضحاك رضي الله تعالى عنه: أجراً بغير عمل. واختلفوا في هذا الأجر على أي شيء حصل، فقيل: معناه ما مرّ وقيل: معناه أنّ لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً، وقيل: إن لك في إظهار النبوة والمعجزات وفي دعاء الخلق إلى الله تعالى، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا تمنعنك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 العالية. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} استعظم خلقه لفرط احتمال الممضات من قومه وحسن مخالقته ومداراته لهم، قال ابن عباس ومجاهد: على دين عظيم من الأديان ليس دين أحب إلى الله تعالى، ولا أرضى عنده منه، وروى مسلم عن عائشة: «أنّ خُلقه كان القرآن» . وقال علي: هو أدب القرآن، وقيل: رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من الله وينتهي عنه بما نهى الله تعالى عنه، وقيل: إنك على طبع كريم، وقيل: هو الخلق الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199) وقال الماوردي: حقيقة الخلق في اللغة ما يأخذه الإنسان في نفسه من الأدب، سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه، فأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم، فيكون الخلق الطبع المتكلف والخيم الطبع الغريزي.l قال القرطبي: ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم «فقرأت قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات» . قال الرازي: وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية الشريفة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب، وإلى كل ما يتعلق به وكانت شديدة التعري عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة وقالت: «ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك ولذلك قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر» . وقال الجنيد: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» . وعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير» . وعن أنس بن مالك قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته: لم صنعته، ولا لشيء تركته: لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكاً ولا عنبراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقاً» . وعن أنس «أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك قال: ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضيت حاجتها» . وعن أنس بن مالك قال: «كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت» . وعن أنس أيضاً: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح رجلاً لم ينزع يده حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له» . وعن عائشة قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، ولا ضرب خادماً ولا امرأة» . وعنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم» . وعن أنس قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك وأمر له بعطاء» . وعنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له: أبو عمير وهو فطيم كان إذا جاءنا قال: يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به» . والنغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار. وعن الأسود قال: «سألت عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة توضأ ويخرج إلى الصلاة» . والمهنة: الخدمة، وعن عبد الله بن الحرث قال: «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء» . وعن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: أتدرون أكثر ما يدخل الناس النار؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفرج والفم، أتدرون أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق» . وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن يدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار» . {فستبصر} أي: فستعلم عن قرب بوعد لا خلف فيه علماً أنت في تحققه كالمبصر بالحس الباصر {ويبصرون} أي: يعلم الذين رموك بالبهتان علماً هو كذلك. وقوله تعالى: {بأييكم المفتون} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون فزيدت كزيادتها في نحو: بحسبك زيد، وإلى هذا ذهب قتادة، قال ابن عادل: إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في حسبك فقط. الثاني: أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك: زيد بالبصرة، أي: فيها، والمعنى: في أي فرقة وطائفة منكم المفتون، أي: المجنون أفي فرقة الإسلام، أم في فرقة الكفر؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء. الثالث: أنه على حذف مضاف، أي: بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإليه ذهب الأخفش وتكون الباء سببية. الرابع: أن المفتون مصدر جاء على مفعول كالمقتول والميسور، والتقدير: بأيكم الفتنة، وقيل: المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات: 13) ، أي: يعذبون، وقيل: الشيطان لأنه مفتون في دينه وكانوا يقولون: إنه به شيطان وعنوا بالمجنون هذا، فقال تعالى: سيعلمون غدَاً بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل. فائدة: {بأييكم} رسمت ههنا بياءين. {س68ش7/ش16 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا? لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَتُطِعْ كُلَّ حَsفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآء? بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍ? بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ا?وَّلِينَ * سَنَسِمُهُ? عَلَى الْخُرْطُومِ} {إن ربك} أي: الذي رباك أحسن تربية وفضلك على سائر الخلائق {هو} أي: وحده {أعلم} أي: من كل أحد {بمن ضلّ} أي: حاد {عن سبيله} أي: دينه وسلك غير سبيل القصد وأخطأ موضع الرشد {وهو} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 وحده {أعلم بالمهتدين} أي: الثابتين على الهدى، وهم أولوا الأحلام والنهى، أي: لذو علم بمعنى عالم. تنبيه: قوله تعالى: {وهو أعلم} {وهو مكظوم} {وهو مذموم} قرأه قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها وقوله تعالى: {فلا تطع المكذبين} أي: العريقين في التكذيب وهم مشركو مكة، فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم، ينتج التصميم على معاداتهم. {ودّوا} أي: تمنوا وأحبوا محبة واسعة متجاوزة للحدّ قديماً مع الاستمرار على ذلك {لو} مصدرية {تدهن فيدهنون} قال الضحاك: لو تكفر فيكفرون. وقال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. وقال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وقال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقال ابن قتيبة: أرادوا أن يعبد آلهتهم مدّة ويعبدون الله مدة. وقال ابن العربي: ذكر المفسرون في ذلك نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة، والمعنى وأمثلها: ودّوا لو تكذب فيكذبون، ودّوا لو تكفر فيكفرون. وقال القرطبي: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى. تنبيه: في رفع فيدهنون وجهان: أحدهما: أنه عطف على تدهن فيكون داخلاً في حيّز لو، والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهم يدهنون. وقال الزمخشري: فإن قلت لم رفع فيدهنون ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني، قلت: قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يدهنون، كقوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً} (الجن: 13) على معنى: ودّوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ أو ودّوا ادهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاف} ، أي: كثير الحلف بالباطل فقال مقاتل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف له أن يعطيه إن رجع عن دينه، وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. وقال عطاء: هو الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة فلذلك سمة زنيماً، وقال مجاهد: هو الأسود بن عبد يغوث. {مهين} ، أي: ضعيف حقير. قيل: هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز. وقال ابن عباس: كذاب وهو قريب من الأول، لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه. وقال الحسن وقتادة: هو المكار في الشر، وقال الكلبي: المهين العاجز. {هماز} أي: كثير العيب للناس في غيبتهم. وقال الحسن: هو الذي يغمز بأخيه في المجلس. وقال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللماز باللسان. وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في غيبتهم وقال مقاتل: بالعكس، وقال مرّة: هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة. {مشاء} أي: كثير المشي {بنميم} أي: فتان يلقي النميمة بين الناس ليفسد بينهم فينقل ما قاله الإنسان في آخر، وإذاعة سر لا يريد صاحبه إظهاره على وجه الإفساد البين مبالغ في ذلك. {مناع} أي: كثير المنع شديده {للخير} أي: كل خير من المال والإيمان وغيرهما من نفسه وغيره من الدين والدنيا، وقال ابن عباس: مناع للخير، أي: الإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام وكان له عشرة من الولد يقول: لئن دخل أحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً. {معتد} أي: ثابت التجاوز للحدود في كل ذلك {أثيم} ، أي: مبالغ في ارتكاب ما يوجب الإثم فيترك الطيبات ويأخذ الخبائث يرغب في المعاصي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 ويتطلبها ويدع الطاعات ويزهد فيها. {عتلّ} العتلّ: الغليظ الجافي. وقال الحسن: هو الفاحش الخلق السيء الخلق. وقال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكل شديد عند العرب عتلّ وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف، وقال أبو عبيدة بن عمير: العتل: الأكول الشروب القوي الشديد الذي لا يزن في الميزان شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفاً دفعة واحدة {بعد ذلك} أي: مع ذلك، يريد مع ما وصفناه به. {زنيم} وهو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد مع هذا هو دعي في قريش وقال مرّة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشر سنة، وقيل: الزنيم الذي له زنمة كزنمة الشاة. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قيل: زنيم فعرف وكانت زنمة في عنقه يعرف بها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له إصبع زائدة، وقال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله تعالى وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة. وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو يقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر» . وفي رواية: «كل جواظ زنيم متكبر» . الجواظ: الجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين، وقال عكرمة: هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم، وكان الوليد دعياً في قريش، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده قال الشاعر فيه: *زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الأمّ ذو حسب لئيم* قيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، وهذا لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة ولد زنا ولا ولده ولا ولد ولده» . وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أولاد الزنا يحشرون يوم القيامة في صور القردة والخنازير» . ولعل المراد به الدخول مع السابقين، وإلا فمن مات مسلماً دخل الجنة، وقالت ميمونة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشى فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعذابه» . وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر. قال القرطبي: ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدنّ أحد تحت برمة ألا لا يزجين أحد بكراع، ألا من أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً وأكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً وقيل: مناع للخير وفيه نزل {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} (فصلت: 6 ـ 7) . ولما كان حطام هذه الدنيا كله عرضاً فانياً وظلاً متقلصاً زائلاً لا يفتخر به ولا يلتفت إليه إلا من كان بهذه الأوصاف، فإذا كان ذلك أكبر همه ومبلغ علمه أثمر له الترفع على الحقوق والتكبر على العباد، قال الله تعالى: {أن} أي: لأجل أن {كان} أي: هذا الموصوف {ذا مال} أي: مذكور بالكثرة {وبنين} أنعمنا عليه بهما، فصار يطاع لأجلهما، فكان بحيث يجب عليه شكرنا بسببهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 {إذا تتلى} أي: تذكر على سبيل المتابعة {عليه} ولو كان ذلك على سبيل الخصوص له {آياتنا} أي: العلامات الدالة دلالة هي في غاية الظهور على الملك الأعلى وعلى ماله من صفات العظمة {قال} أي: مفاجأة من غير تأمل ولا توقف عوضاً عن شكرنا {أساطير} جمع سطور جمع سطر {الأولين} أي: أشياء سطروها ودونوها وفرغوا منها، فحمله دنيء طبعه على تكثره بالمال، فورطه في التكذيب بأعظم ما يمكن سماعه، فجعل الكفر موضع الشكر، ولم يستح من كونه يعرف كذبه كل من سمعه، فأعرض عن الشكر ووضع موضعه الكفر، فكان هذا دليلاً على جميع تلك الصفات السابقة، مع التعليل بالاستناد إلى ما هو عند العاقل أوهى من بيت العنكبوت والاستناد إليه وحده كاف في الاتصاف بالرسوخ في الدناءة. وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة بهمزتين مفتوحتين وابن عامر يسهل الثانية، وشعبة وحمزة بتحقيقهما وهشام على أصله يدخل بينهما ألفاً والباقون بهمزة واحدة مفتوحة. قال القرطبي: فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على {زنيم} ويبتدىء {أن كان} على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين، ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ودل عليه ما تقدم من الكلام، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ أن كان بغير استفهام فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} ولا يعمل في إذا تتلى ولا قال، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها؛ لأن إذا تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. وقال: جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيصير مقدماً مؤخراً في حال واحد. ويجوز أن يكون المعنى: لا تطعه لإن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زنيم، لأن المعنى: لأن كان ذا مال كان، فأن متعلقة بما قبلها. وقال غيره: يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: {مشاء بنميم} والتقدير: يمشي بنميم لإن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن تتعلق بعتل. ومعنى {أساطير الأولين} أباطيلهم وترهاتهم. {سنسمه} أي: نجعل له سمة، أي: علامة يعرف بها {على الخرطوم} أي: الأنف يعير بها ما عاش، قال ابن عباس: سنسمه سنخطمه بالسيف، قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوماً إلى أن مات، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها. وقال الكسائي: سنكويه على وجهه وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على الخرطوم، أي: على أنفه ونسوّد وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه قال تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} (آل عمران: 106) فهي علامة ظاهرة {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} (طه: 102) وهذه علامة أخرى ظاهرة. وأفادت هذه الآية علامة ثالثة: وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41) قال القرطبي: والخرطوم الأنف من الإنسان، ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال القرطبي: بين أمره تبياناً واضحاً فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم، وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أن المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الدهر، ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم. وقيل: ما ابتلاه الله تعالى به في الدنيا في نفسه وأهله وماله من سوء وذل وصغار. وقال النضر بن شميل: المعنى: سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر وجمعه خراطيم. قال: الرازي كالزمخشري وهذا تعسف ا. هـ. وقيل للخمر: الخرطوم كما قيل لها: السلافة وهي ما سلف من عصير العنب أو لأنها تطير في الخياشيم. تنبيه: الأنف أكرم موضع في الوجه لتقديمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذلال فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها» . ولما ذكر تعالى في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه أعاد ذكر الابتلاء وأكده بقوله تعالى: {إنا} أي: بما لنا من القهر والعظمة {بلوناهم} أي: عاملنا أهل مكة بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، فغرّهم ذلك وظنوا أنهم أحباب، ومن قترنا عليهم من أوليائنا أعداء واستهانوا بهم ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفة والجنون وكان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف {كما بلونا} أي: اختبرنا {أصحاب الجنة} بأن عاملناهم معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر. وحاصله: أنه استخراج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة كما يعلم الخالق في عالم الغيب، أو أنه كناية عن الجزاء، وعرف الجنة لأنها كانت شهيرة عندهم وهي بستان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين يقال له: الضروان يطؤه أهل الطريق، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأ المنجل أو ألقته الريح أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة، وكان يجتمع لهم شيء كثير، فلما مات شح بنوه بذلك وقالوا: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن ذوو عيال، فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس حتى لا تأتي الفقراء إلا بعد فراغهم، وذلك معنى قوله تعالى: {إذ} أي: حين {أقسموا} ودل على تأكيد القسم بالتأكيد فقال: {ليصرمنها} عبر به عن الجذاذ لدلالته على القطع البائن المستأصل المانع للفقراء من الصريم الذي يعرض على فم الجدي لئلا يرضع، أو من الصرماء للمفازة التي لا ماء بها والناقة القليلة اللبن {مصبحين} داخلين في أول وقت الصباح لئلا تشعر بهم المساكين فلا يعطوهم منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها. {ولا} أي: والحال أنهم لا {يستثنون} في يمينهم، أي: ولا يقولون: إن شاء الله. فإن قيل: لم سمي استثناء وإنما هو شرط؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 أجيب: بأنه سمي استثناء لأنه إخراج لشيء يكون حكمه غير المذكور أولاً، وكان الأصل فيه إلا أن يشاء الله فألحق به إن شاء الله لرجوعه إليه في اتحاد الحكم. {فطاف} أي: فتسبب عن فعلهم هذا أن طاف {عليها} أي: جنتهم {طائف} أي: عذاب مهلك محيط وهو نار أحرقتها ليلاً لم تدع منها شيئاً، والطائف غلب في الشر. وقال الفراء: هو الأمر الذي يأتي ليلاً ورد عليه بقوله: {إذا مسهم طائف من الشيطان} وذلك لا يختص بليل ولا نهار، وقوله تعالى: {من ربك} يجوز أن يتعلق بطاف وأن يتعلق بمحذوف صفة لطائف {وهم} أي: والحال أن أصحاب الجنة المقسمين {نائمون} وقت إرسال الطائف. {فأصبحت} أي: فتسبب عن هذا الطائف الذي أرسله القادر الذي لا يغفل ولا ينام على مال من لا يزال أسير العجز والنوم فعلاً أو قوة {كالصريم} أي: كالأشجار التي صرم عنها ثمرها، أو كالليل المظلم الأسود لأنه يقال: الصريم لسواده والصريم أيضاً النهار، وقيل: الصبح لأنه انصرم من الليل، قاله الأخفش.v وهو من الأضداد. وقيل: كالرماد الأسود ليس بها ثمرة بلغة خزيمة، قاله ابن عباس، لأن ذلك الطائف أتلفها لم يدع فيها شيئاً لأنهم طلبوا الكل فلم يزكوه بما يمنع عنه الطوارق لضدّ ما كان لأبيهم من ثمرة عمله الصالح من الدفع عن ماله والبركة في جميع أحواله. قال القرطبي: والآية دليل على أنّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظيره قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (الحج: 25) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» وهذا محمول على العزم المصمم، أما ما كان يخطر بالبال من غير عزم فلا يؤاخذ به. {فتنادوا مصبحين} أي: في حال أول دخولهم في الإصباح وقوله تعالى: {أن اغدوا} ، أي: بكروا جداً مقبلين ومستولين وقادرين، ويجوز أن تكون أن المفسرة لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول {على حرثكم} ، أي: محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم، قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: اغدوا على حرثكم يعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب، ولذلك قال: صارمين لأنهم أرادوا قلع الثمار من الأشجار. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قال: اغدوا إلى حرثكم وما معنى على؟ قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول: غدا عليهم العدو. قال الزمخشري: ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، أي: فأقبلوا على حرثكم. {إن كنتم صارمين} أي: مريدين القطع، وجواب الشرط دل عليه ما قبله، أي: فاغدوا، ويجوز أن تكون أن المصدرية، أي: تنادوا بهذا الكلام. تنبيه: مقتضى كلام الزمخشري أن غدا متعدّ في الأصل بإلى فاحتاج إلى تأويل فقدره بعلى، قال ابن عادل: وفيه نظر لورود تعديه بعلى في غير موضع كقوله: * وقد أغدوا على ثبة كرامٍ ... نشاوى واجدين لما نشاء* وإذا كانوا قد عدوا مرادفه بعلى فليعدوه، وقرأ: أن اغدوا أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بضمها واتفقوا على الابتداء بالهمزة بالضم. {فانطلقوا} أي: فتسبب عن هذا الحث عقبه كأنهم كانوا متهيئين {وهم} أي: والحال أنهم {يتخافتون} أي: يقولون في حال انطلاقهم قولاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 هو في غاية السر، كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة من الخفوت وهو الهمود وخفا وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم، ومنه الخفدود للخفاش. ثم فسر ما يتخافتون به بقوله تعالى: {أن لا يدخلنها} وأن لا ههنا مقطوعة كما ترى، وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وأن جذاذاً يخلو من سائل {اليوم} أي: في جميع النهار بما دل عليه نزع الخافض لتكروا عليه مراراً وتفتشوه فلا تدعوا به ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع فيه أحد في قصدكم {عليكم} وأنتم بها {مسكين} وهي نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهى أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم، أي: لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك: لا أرينك ههنا، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما يدل عليه ما يأتي: لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم، قال البقاعي: وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً. {وغدوا} أي: ساروا إليها غدوة {على حرد} أي: منع للمساكين. قال أبو عبيدة: على حرد، أي: منع من حاردت الإبل حراداً، أي: قل لبنها، والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: على قدرة {قادرين} عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد، أي: بدليل عدم استثنائهم، فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الحلف فعل من لا كفء له. وقال الحسن وقتادة: على جد وجهد. وقال القرطبي وعكرمة: على أمر مجتمع. ودل على قربها من منزلتهم بالفاء فقال تعالى: {فلما رأوها} أي: بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر {قالوا إنا لضالون} عن طريق جنتنا لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة عن حال ما كانت عليه عند تواعدهم وتغيير نياتهم، فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها. ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال {بل نحن محرومون} أي: ثابت حرماننا ما كنا فيه من الخير الذي لم نغب عنه إلا سواد الليل، فحرمنا الله تعالى إياه بما عزمنا عليه من حرمان المساكين {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) وقرأ الكسائي بإدغام اللام في النون والباقون بالإظهار. {قال: أوسطهم} أي: رأياً وعقلاً وسناً وفضلاً منكراً عليهم {ألم أقل لكم} أي: ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله تعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد {لولا} أي: هلا ولم لا {تسبحون} أي: تستثنون، فكان استئناؤهم تسبيحاً، قال مجاهد وغيره: وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم: هلا تسبحون الله، أي: تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله لأن المعنى: تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الرازي: التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى لنسب النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك: إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحاً، وقيل: المعنى هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، قيل: إن القوم لما عزموا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 على منع الزكاة فاغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامه الأول وقال: {ألم أقل لكم لولا تسبحون} فحينئذ اشتغلوا بالتوبة بأن. {قالوا} أي: من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم {سبحان ربنا} أي: تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وخضوعاً لربهم وتحقيقاً لتوبتهم بقولهم: {إنا كنا} أي: بما في جبلاتنا من الفساد {ظالمين} أي: مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع المساكين وعلى جذها في الصباح من غير استثناء. {فأقبل بعضهم} أي: في الحال مبادرة في الخضوع {على بعض يتلاومون} أي: يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا: أنت الذي خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث لغيره: أنت رغبتني في جمع المال. ثم نادوا على أنفسهم بالويل بأن {قالوا} منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته لهم عن كل شيء {يا ويلنا} أي: هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادمتك لنا، فإنه لا نديم لنا الآن غيرك، والويل الهلاك والإشراف عليه {إنا كنا} أي: جبلة وطبعاً {طاغين} أي: عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طاغين نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا {عسى ربنا} أي: الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وإهلاك ثمرها الآن تأديباً لنا {أن يبدلنا} من جنتنا شيئاً {خيراً منها} يقيم لنا أمر معايشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال {إنا إلى ربنا} أي: المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد، ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره {راغبون} أي: ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام. وقد قيل: إن الله تعالى قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل، رواه البغوي عن ابن مسعود، وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم، وقال الحسن: قول أهل الجنة {إنا إلى ربنا راغبون} لا أدري إيماناً كان ذلك منهم أو على حدّ ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة فتوقف في كونهم مؤمنين، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ قال: لقد كلفتني تعباً، والأكثرون يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا حكاه القشيري. ولما كان المقام لترهيب من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله تعالى ولم يجلهم بجلاله طوى ذكر ما أنعم به عليهم وذكر ما يخوفهم، فقال تعالى مرهباً: {كذلك} أي: مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كان عند أنفسهم في غاية القدرة عليه والثقة به مع الاستحسان لفعلهم والاستصواب، وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب. {العذاب} أي: الذي نحذرهم منه ونخوفهم به في الدنيا، فإذا تم الأجل الذي قدرناه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت {ولعذاب الآخرة} أي: الذي يكون فيها للعصاة {أكبر} أي: من كل ما يتوهمون {لو كانوا} أي: الكفار {يعلمون} أي: لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا عما هم فيه. ولما ذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 ما لأهل الجمود الذين لا يجوزون الممكنات ذكر تعالى أضدادهم، فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن للمتقين} أي: العريقين في صفة التقوى {عند ربهم} أي: المحسن إليهم في موضع دوم أولئك وجنة آمالهم {جنات} جمع جنة وهي لغة: البستان الجامع، وفي عرف الشرع: مكان اجتمع فيه جميع السرور وانتفى عنه جميع الشرور {النعيم} أي: جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بدّ وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {أفنجعل المسلمين} أي: الذين هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلباً لمرضاتنا، فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم {كالمجرمين} أي: الراسخين في قطع ما أمرنا به أن يوصل وأنتم لا تقرون بمثل هذا، ففي ذلك إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون أيضاً: إن صح أننا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالاً منهم كما نحن عليه في الدنيا. وقوله تعالى: {ما لكم} أي: أيّ شيء يحصل لكم من هذه الأحكام الجائرة البعيدة عن الصواب {كيف تحكمون} أي: أيّ عقل دعاكم إلى هذا الحكم الذي يتضمن التسوية من السيد بين المحسن من عبيده والمسيء مع التفاوت، فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له وإشعار بأنه صادر عن اختلال فكر واعوجاج رأي. {أم} أي: بل الله {لكم كتاب} أي: سماوي معروف أنه من عند الله خاص بكم {فيه} أي: لا في غيره من أساطير الأولين {تدرسون} أي: تقرؤون قراءة أيقنتكم. {إن لكم} أي: خاصة على وجه التأكيد الذي لا رخصة في تركه {لما تخيرون} أي: ما تختارونه وتشتهونه، وكسرت وكان حقها الفتح لولا اللام لأن ما بعدها هو المدروس، ويجوز أن تكون الجملة حكاية للمدروس وأن تكون استئنافية. {أم لكم أيمان} أي: عهود ومواثيق {علينا} قد حملتمونا إياها {بالغة} أي: واثقة لأيمان، وقوله تعالى: {إلى يوم القيامة} متعلق بما تعلق به لكم من الاستقرار، أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أي: مبالغة، أي: تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه. وقوله تعالى: {إن لكم لما تحكمون} جواب القسم لأن معنى {أم لكم أيمان علينا} أي: أقسمنا لكم. ولما عجب منهم وتهكم بهم ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف فقال تعالى: {سلهم} يا أشرف الرسل {أيهم بذلك} أي: الأمر العظيم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين {زعيم} أي: كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل التزم في ادعائه صحة ذلك. {أم لهم شركاء} موافقون لهم في هذا القول يكفلونه لهم فإن كانوا كذلك {فليأتوا بشركائهم} أي: الكافلين لهم به {إن كانوا صادقين} أي: عريقين في هذا الوصف كما يدعونه. وقوله تعالى: {يوم} منصوب بقوله تعالى: {فليأتوا} أي: فليأتوا بشركائهم يوم {يكشف} أي: يحصل الكشف فيه، بني للمفعول لأن المخيف وقوع الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمر وخروجه عن حدّ الطوق لا كونه من معين، مع أنه من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه وتعالى {عن ساق} أي: يشتدّ فيه الأمر غاية الاشتداد، لأنّ من اشتدّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهنّ غير محتشمات فهو كناية عن هذا، ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً، نقل هذا التأويل عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما، وعن انكشاف جميع الخلائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها، كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه، فتركت السامع لها في مثل ضوء النهار، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار: اذكر فيكون على هذا مفعولاً به وعلى الأول لا يوقف على صادقين. تنبيه: علم مما تقرر أن كشف الساق كناية عن الشدة، قال الراجز: *عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها* *في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبرى اللحم عن عراقها* وقال: الطائي: *أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا* وقال: آخر: *قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا* وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل: كشف الأمر عن ساقه، والأصل فيه: أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة، وقال القرطبي: وأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه، فإنه تعالى متعال عن الأعضاء والأبعاض وأن ينكشف ويتغطى، ومعناه: أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل، وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عن ساق} قال: «يكشف عن نور عظيم يخرون له سجداً» وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: حدثني أبو موسى قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا ولم نره قال: أو تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم فيقال: فكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون الله تعالى فيخرون له سجداً، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} » . {ويدعون} أي: من داعي الملك الديان {إلى السجود} توبيخاً على تركه الآن وتنديماً وتعنيفاً لا تعبداً وتكليفاً، فيريدونه ليفدوا أنفسهم مما يرون من المخاوف {فلا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا {يستطيعون} لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم فيقول الله تعالى أي: للساجدين: عبادي ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار، قال أبو بردة: فحدثت هذا الحديث عبر بن عمر العزيز، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث، فحلف له ثلاثة أيمان فقال: ما سمعت في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا الحديث، وأما غير الساجدين فعن ابن مسعود تعقم أصلابهم، أي: ترد عظامها بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وفي الحديث وتبقى أصلابهم طبقاً واحداً، أي: فقارة واحدة. وقوله تعالى: {خاشعة} حال من مرفوع يدعون وقوله تعالى: {أبصارهم} فاعل به ونسب الخشوع للأبصار، لأنّ ما في القلب يعرف في العين وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أضوأ من الشمس، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة. {ترهقهم} أي: تغشاهم {ذلة} أي: عظمية لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها الله سبحانه ليتقرّبوا بها إليه في دار العمل في غير طاعته {وقد} أي: والحال أنهم قد {كانوا يدعون إلى السجود} أي: في الدنيا من كل داع يدعو إلينا، وقال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون. وقوله تعالى: {وهم سالمون} أي: معافون أصحاء، حال من مرفوع يدعون الثانية. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجبيبون، وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. ولما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف بما عنده وفي قدرته فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فذرني} أي: اتركني على أيّ حالة اتفقت {ومن يكذب} أي: يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أيّ حالة كان إيقاعه، وأفرد الضمير نصاً على تهديد كل واحد من المكذبين {بهذا الحديث} أي: القرآن، أي: خل بيني وبينهم لا تشغل قلبك به، فإني أكفيك أمره لأنه لا مانع منه فلا تهتم به أصلاً. {سنستدرجهم} أي: سنأخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة إلى عذاب لا شك فيه {من حيث} أي: من جهات {لا يعلمون} أي: لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات فعذبوا يوم بدر، وقال أبو روق: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر، وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه، وقال ابن عباس: سنمكر بهم، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا رب كم أعصيك وأنت لا تعاقبني فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له: كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر أن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت، والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج، ومنه قيل: درجات وهي منزلة بعد منزلة واستدرج فلان فلاناً، أي: استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه معناه: أدناه منه على التدريج فتدرج. ومعنى الآية: إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة والواقع سبب لهلاكهم. {وأملي لهم} أي: أمهلهم وأطيل المدة كقوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} (آل عمران: 178) والملاوة المدة من الدهر وأملى الله له، أي: أطال له، والملوان الليل والنهار. وقيل: لا أعاجلهم بالموت. والمعنى واحد، والملا مقصوراً الأرض الواسعة سميت بها لامتدادها {إن كيدي} أي: ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان {ميتن} أي: قويّ شديد فلا يفوتني أحد، وسمي إحسانه كيداً كما سماه استدارجاً لكونه في صورة الكيد، ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في التسبب للهلاك. {أم تسألهم} أي: أنت يا أعف الخلق وأعلاهم همماً {أجراً} على تبليغ الرسالة {فهم} أي: فتسبب عن ذلك وتعقب أنهم {من مغرم} أي: غرامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 كلفتهم بها {مثقلون} أي: ثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال فثبطهم ذلك عن الإيمان. والمعنى: ليس عليهم كلفة في متابعتك بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم. {أم عندهم} أي: خاصة {الغيب} أي: علمه عن اللوح المحفوظ أو غيره {فهم} أي: بسبب ذلك {يكتبون} أي: ما يريدون منه ليكونوا قد أطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله، أو أنهم لا درك عليهم في التكذيب به فقد علم من هذا أنهم لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة، وإنما كيدهم مجرد خبث طباع وظلمة نفوس وأماني فارغة وأطماع.k {فاصبر} أي: أوقع الصبر وأوجده على كل ما يقولونه فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيرهم من ممر القضاء {لحكم ربك} أي: القضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومدّ لهم على ذلك في الأجل، وأسبغ عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر. وقال ابن بحر: فاصبر لنصر ربك، وقيل: إن ذلك منسوخ بآية السيف. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل. {ولا تكن} أي: ولا يكن حالك يا أشرف الخلق في الضجر والعجلة {كصاحب} أي: كحال صاحب {الحوت} وهو يونس عليه السلام. وقوله تعالى: {إذ} منصوب بمضاف محذوف، أي: ولا يكن حالك كحاله أو قصتك حين {نادى} أي: ربه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة اللجج {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} ، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبّ عليها النهي إنما ينصب على أحوالها وصفاتها، وقوله تعالى: {وهو مكظوم} جملة حالية من الضمير من نادى والمكظوم الممتلئ حزناً أو غيظاً، ومنه كظم السقاء إذا ملأه، قال ذو الرمة: *وأنت من حب ميّ مضمر حزناً ... غالي الفؤاد قريح القلب مكظوم* وقال القرطبي: ومعنى وهو مكظوم، أي: مملوء غماً. وقيل: كرباً فالأول قول ابن عباس ومجاهد، والثاني: قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم: محبوس، والكظم: الحبس. ومنه قولهم: كظم غيظه، أي: حبس غضبه. والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبلى ببلائه. ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال تعالى: {لولا أن تداركه} أي: أدركه إدراكاً عظيماً {نعمة} أي: عظيمة جداً. تنبيه: حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه. {من ربه} أي: الذي أحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة. وقال الضحاك: النعمة هنا النبوة، وقال ابن جبير: عبادته التي سلفت، وقال ابن زيد: نداؤه بقوله: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} ، وقال ابن بحر: إخراجه من بطن الحوت. وقوله تعالى: {لنبذ} أي: لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله تعالى عليه بها لطرح طرحاً هيناً جداً {بالعراء} أي: الأرض القفراء الواسعة التي لا بناء فيها ولا جبال ولا نبات، البعيدة عن الأنس جواب لولا. وقيل: جوابها مقدر، أي: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت {وهو} أي: والحال أنه {مذموم} أي: ملوم على الذنب. وقيل: مبعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 من كل خير. وقال الرازي: وهو مذموم على كونه فاعلاً للذنب، قال: والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: إن كلمة لولا دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل. الثاني: لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله تعالى: {فاجتباه} أي: اختاره لرسالته {ربه} والفاء للتعقيب، قيل: إن هذه الآية نزلت بأحد حين حلّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف. ثم سبب عن اجتبائه قوله تعالى: {فجعله من الصالحين} أي: الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة، وصلح بهم غيرهم فنبذ حينئذ بالعراء وهو محمود. قال ابن عباس: ردّ الله تعالى إليه الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بسبب صبره، فمن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجراً من أجره وأنت كذلك فأنت أشرف العالمين. تنبيه: استدل أهل السنة على أن فعل العبد خلق لله تعالى بقوله سبحانه: {فجعله من الصالحين} لأن الصلاح إنما حصل بجعل الله تعالى وخلقه، وقال الجبائي: يحتمل أن يكون معنى جعل أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني، والجواب: أن ذلك مجاز والأصل في الكلام الحقيقة. {وإن} هي المخففة، أي: وإنه {يكاد الذين كفروا} أي: ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف. ولما كانت إن مخففة أتى باللام التي هي عَلَمها فقال: {ليزلقونك بأبصارهم} أي: ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد أن يصرعك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم، أو يهلكونك من قولهم: نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعل قال القائل: *يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطئ الأقدام* وقيل: أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش، وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجمه، وقيل: كانت العين في بني إسرائيل فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول: لم أر كاليوم مثله إلا عانه حتى أن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها، ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدرهم، فائتينا من لحم هذه الناقة فما تبرح الناقة حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد: *قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال أنك سيد معيون* فعصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية، وذكر الماوردي أن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكبر منه ولا أحسن، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» . وعن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم قال: «نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين» . وقال الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان يقال: زلقه يزلقه زلقاً، وأزلقه يزلقه إزلاقاً. وقال ابن قتيبة: ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك. {لما سمعوا الذكر} أي: القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك، وقال الزجاج: يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك {ويقولون} أي: قولاً لا يزالون يجددونه حسداً وبغضاً على أنهم لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً {إنه لمجنون} أي: ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن. فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {وما هو} أي: القرآن {إلا ذكر للعالمين} قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين، قال الجلال المحلي: الإنس والجن، وظاهره: إخراج الملائكة، وهو ما جرى عليه في شرحه على جمع الجوامع، وظاهر الآية: أنه أرسل لجميع الخلائق، وهو كما قال بعض المتأخرين: الظاهر، ويدل له قول البيضاوي لما جننوه لأجل القرآن بين أنه ذكر عام لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلاً وأثبتهم رأياً، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم» حديث موضوع. سورة الحاقة مكية وهي اثنان وخمسون آية وألف وأربعة وستون حرفاً {بسم الله} أي: الذي له الكمال كله {الرحمن} الذي عم العالمين جوده {الرحيم} الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده. وقوله تعالى: {الحاقة} مبتدأ وقوله تعالى: {ما الحاقة} مبتدأ وخبر، والجملة خبر الأول، والأصل الحاقة ما هي، أي: أي شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها. والحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، أو التي فيها حواق الأمور من البعث والحساب والثواب والعقاب، أو التي تحق فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة من قولك: لا أحق هذا، أي: لا أعرف حقيقته، جعل الفعل لها وهو لأهلها، وقيل: سميت القيامة بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة ولأقوام النار. وقوله تعالى: {وما أدراك} أي: أيّ شيء أعلمك {ما الحاقة} زيادة تعظيم لشأنها، فما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره، وما الثانية خبرها في محل المفعول الثاني لأدري يعني: إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها على أنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية أحد ولا وهمه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة ولكن لا علم له بكنهها وصفتها، فقيل له ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن {وما أدراك} فقد دراه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وعلمه، وكل شيء قال: {وما يدريك} فإنه مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: {وما أدراك} فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: {وما يدريك} فإنه لم يخبر به، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح. ولما ذكر الساعة وفخمها أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم فقال تعالى: {كذبت ثمود} قدمهم لأن بلادهم أقرب إلى قريش وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصيحة وهي أشبه بصيحة النفخ في الصورة المبعثرة لما في القبور {وعاد بالقارعة} أي: القيامة سميت بذلك لأنها تقرع قلوب العباد بالمحاقة أو لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي: أهواله وشدائده. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الإنس أو الجن نحو: آية الكرسي، كأنه يقرع الشيطان بها. وقال المبرَّد: القارعة مأخوذة من القرعة من رفع قوم وحط آخرين وقوارع القيامة انفطار السماء بانشقاقها، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار، ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدتها، وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز، قال ابن إسحاق: وهو وادي القرى وكانوا عرباً، وأما عاد فقوم هود وكانت منازلهم بالأحقاف رمل بين عمان إلى حضرموت واليمن كله وكانوا عرباً ذوي بسطة في الخلق. {فأمّا ثمود فأهلكوا} أي: بأيسر أمر من أوامرنا {بالطاغية} أي: الواقعة التي جاوزت الحدّ في الشدة فرجفت منها القلوب، واختلف فيها فقيل: الرجفة، وعن ابن عباس: الصاعقة، وعن قتادة: بعث الله تعالى عليهم صيحة فأهمدتهم. وقال مجاهد: بالذنوب، وقال الحسن: بالطغيان فهو مصدر كالكاذبة والعاقبة، أي: أهلكوا بطغيانهم وكفرهم قال الزمخشري: وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله تعالى: {بريح صرصر} لكن قال ابن عادل: ويوضحه {كذبت ثمود بطغواها} (الشمس: 11) أهلكوا بها ولأجلها. قال: والباء سببية على الأقوال كلها إلا على قول قتادة، فإنها فيه للاستعانة كعملت بالقدّوم. {وأمّا عاد فأهلكوا} أي: بأشق ما يكون عليهم وبأيسر ما يكون علينا {بريح صرصر} أي: شديدة الصوت لها صرصرة، وقيل: هي الباردة من الصرّ كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق بشدة بردها. وقال مجاهد: هي الشديدة السموم {عاتية} أي: مجاوزة للحدّ في شدة عصفها، والعتو استعارة، أو عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة، من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكم، وقيل: عتت على خزانها فخرجت بلا كيل ولا وزن، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أرسل الله تعالى سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال، إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة: 11) وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ: {بريح صرصر عاتية} . {سخرها} أرسلها {عليهم} وقال مقاتل رضي الله عنه: سلطها عليهم {سبع ليال} أي: لا تفتر فيها الريح لحظة {وثمانية أيام} كذلك. قال وهب: هي الأيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 التي تسميها العرب العجوز ذات برد وريح شديدة قيل: سميت عجوزاً لأنها في عجز الشتاء، وقيل: سميت بذلك لأنّ عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب {حسوماً} قال مجاهد وقتادة رضي الله عنهما: متتابعة ليس فيها قترة، فعلى هذا هو من حسم الكي، وهو أن يتابع على موضع الداء المكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء يقطع: حاسم وجمعه حسوم مثل شاهد وشهود. وقال الكلبي: حسوماً دائماً، وقال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم القطع والمنع ومنه: حسم الداء، وقال عطية: حسوماً شؤماً كأنها حسمت الخير عن أهلها. تنبيه: في إعراب حسوماً أوجه: أحدها: أن ينتصب نعتاً لما قبله. ثانيها: أن ينتصب على الحال، أي: ذات حسوم. ثالثها: أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي: تحسمهم حسوماً. واختلفوا في أولها فقال السدي: غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه: غداة يوم الجمعة، وقال يحيى بن سلام ووهب بن منبه رضي الله عنهم: غداة يوم الأربعاء وهو اليوم النحس المستمر قيل: كان آخر أربعاء في السنة وآخرها يوم الأربعاء. وقال البقاعي: وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً فتأمل ذلك ا. هـ. وهو ظاهر. ولما كان الحاسم المهلك تسبب عنه قوله تعالى مصوراً لحالهم الماضية: {فترى القوم} أي: الذين هم غاية في القدرة على ما يحاولونه {فيها} أي: تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنهم {صرعى} أي: مجندلين على الأرض موتى جمع صريع وهي حال نحو قتيل وقتلى وجريح وجرحى، والضمير فيها للأيام والليالي كما مر أو للبيوت أو للريح قال ابن عادل: والأول أظهر لقربه. {كأنهم أعجاز} أي: أصول {نخل} قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز {خاوية} أي: متأكلة الأجواف ساقطة من خوى النجم إذا سقط للغروب، ومن خوى المنزل إذا خلا من قطّانه. قالوا: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، والوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم. {فهل ترى} أي: أيها المخاطب الخبير بالناس في جميع الأقطار {لهم} أي: خصوصاً. وأغرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال تعالى: {من باقية} فيكون المراد بالباقية البقاء كالطاغية بمعنى الطغيان، أي: من باق، والأحسن أن تكون صفة لفرقة أو لطائفة أو نفس أو بقية أو نحو ذلك. وقيل: فاعلة بمعنى المصدر كالعافية والباقية. قال المفسرون: والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً، قال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله تعالى من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذلك قوله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} . وقوله تعالى: {فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم} (الأحقاف: 25) . ونجى الله تعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرّهم الصاعقة، وهوداً عليه السلام ومن آمن به من عاد ولم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات، كما أن له تمام الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم كالمجرم ولا المسيء كالمحسن، وجواب هل لم يبق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 منهم أحد. {وجاء فرعون} أي: الذي ملكناه طائفة من الأرض وتجبر وادعى الإلهية ناسياً نعمتنا وقدرتنا. وقوله تعالى: {ومن قبله} قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي: ومن عنده من أتباعه، وقرأه الباقون بفتح القاف وسكون الباء الموحدة على أنه ظرف، أي: ومن تقدمه من الأمم الكافرة {والمؤتفكات} أي: أهلكها وهي قرى قوم لوط، أي: المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلها لما حصل لأهلها من الانقلاب {بالخاطئة} ، أي: بالفعلات ذات الخطأ الذي يتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق. ولما كانت الرسل كالفرد الواحد لاتفاقهم وتعاضدهم في الدعاء إلى الله تعالى والحمل على طاعته قال مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح لكثير بإرادة الجنس: {فعصوا} أي: خالفوا {رسول ربهم} أي: خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإبداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادها اغتراراً بإحسانه، ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز فصل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله تعالى: {فأخذهم} أي: ربهم، أخذ قهر وغضب {أخذة} لم تبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من المؤمنين لابدّ أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه بالجزئيات والكليات وشمول قدرته وتلك الأخذة مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة جعلها سبحانه {رابية} أي: عالية عليهم زائدة في الشدة على غيرها وعلى عذاب الأمم، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه: الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى، والمعنى أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار، وقيل لأن عقوبة آل فرعون متعلقة بعذاب الآخرة لقوله تعالى: {اغرقوا فأدخلوا ناراً} (نوح: 25) وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كانت كأنها تنمو وتربو. ثم ذكر تعالى قصة نوح عليه السلام وهي قوله تعالى: {أنا} أي: على عظمتنا {لما طغى الماء} أي: زاد على الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به، فلم يطيقوا ضبطه ولا فوره بوجه من الوجوه. وقال صلى الله عليه وسلم «طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه تعالى فلم يقدروا على حبسه» . قال المفسرون: زاد على كل شيء خمسمائة ذراع وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «طغى الماء زمن نوح عليه السلام على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم» . والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم منّ الله عليهم بأن جعلهم ذرية من نجى من الغرق بقوله تعالى: {حملناكم} أي: في ظهور آبائكم {في الجارية} أي: السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، والمحمول في الجارية إنما هو نوح عليه السلام وأولاده وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك، والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله تعالى: {وله الجوار المنشآت في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 البحر كالأعلام} (الرحمن: 24) وغلب استعمال الجارية في السفينة كقولهم في بعض الألغاز: *رأيت جارية في بطن جارية ... في بطنها رجل في بطنها جمل* ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي من الله تعالى وبحفظه له قال: اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء وأغرقنا سوى من كان في تلك السفينة من جميع أهل الأرض من آدمي وغيره {لنجعلها} أي: هذه الفعلة العظيمة وهي إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بهذا العذاب أحد، وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه {لكم} أيها الناس {تذكرة} أي: عبرة ودلالة على قدرته تعالى وعظمته ورحمته وقهره فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه. وقوله تعالى: {وتعيها} عطف منصوب على لنجعلها، أي: ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوي في وعاء {أذن} أي: عظيمة النفع {واعية} أي: من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله تعالى كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض، والوعي: الحفظ في النفس، والإيعاء: الحفظ في الوعاء. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: أذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت عقلت عن الله تعالى فهو السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين ا. هـ. وقرأ نافع بسكون الذال والباقون بضمها. ولما ذكر تعالى القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع سبحانه وتعالى في تفاصيل أحوالها وبدأ بذكر مقدماتها بقوله تعالى: {فإذا نفخ} وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأن ما يتأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه لذلك من جنده تأثر عنه ما يريده {في الصور} أي: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. قال البقاعي: كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً؛ لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة، وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها وسعته كما بين السماء والأرض {نفخة واحدة} للفصل بين الخلائق. قال الزمخشري: فإن قلت: هما نفختان، فلم قيل: واحدة؟ قلت: معناه أنها لا تثنى في وقتها. ثم قال: فإن قلت: فأي النفختين هي؟ قلت: الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عنه أنها الثانية ا. هـ. قال البقاعي: وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه أهيب وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ا. هـ. واقتصر البيضاوي على أنها الأولى والجلال المحلي على أنها الثانية وهو الأنسب كما قاله البقاعي. ثم إن الزمخشري سأل سؤالاً على أنها النفخة الأولى بقوله: فإن قلت: أما قال بعد: {يومئذ تعرضون} والعرض إنما هو عند النفخة الثانية، قلت: جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، والصعقة والنشور والوقوف للحساب، فلذلك قيل: {يومئذ تعرضون} كما تقول: جئتك عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته ا. هـ. ولما ذكر التأثير في الأحياء أتبعه التأثير في الجمادات وبدأ منها بالسفليات لملابستها للإنسان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 فتكون عبرته بها أكثر، فقال تعالى: {وحملت الأرض والجبال} أي: التي بها ثباتها حملتهما الريح أو الملائكة أو القدرة من أماكنهما {فدكتا} أي: مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطت ودق بعضها ببعض {دكة واحدة} أي: فصارتا كثيباً مهيلاً بأيسر أمر، فلم يميز شيء منهما عن الآخر بل صارتا في غاية الاستواء، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة، ومثله {أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} (الأنبياء: 30) ولم يقل كن وهذا الدك كالزلزلة لقوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} (الزلزلة: 1) وقوله تعالى: {فيومئذ} منصوب بوقعت وقوله تعالى: {وقعت الواقعة} لابد فيه من تأويل، وهو أن تكون الواقعة صارت علماً بالغلبة على القيامة أو الواقعة العظيمة وإلا فقام القائم لا يجوز إذ لا فائدة فيه، والتنوين في يومئذ للعوض من الجملة تقديره: يوم إذ نفخ في الصور، ونوع تعالى أسماء القيامة بالحاقة والواقعة والقارعة تهويلاً لها. ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي بقوله تعالى: {وانشقت السماء} أي: ذلك الجنس لشدة هول ذلك اليوم، أي: انصدعت وتفطرت، وقيل: انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً} (الفرقان: 25) . {فهي يومئذ واهية} أي: ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش بعدما كانت محكمة يقال: وهي البناء يهي وهياً فهو واه إذا ضعف جداً ويقال: كلام واه، أي: ضعيف وقيل: واهية، أي: متخرّقة مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرّق ومن أمثالهم: *خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه* أي: من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه، وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها {والملك} أي: هذا النوع {على أرجائها} أي: نواحي السماء وأطرافها وحواشي ما لم ينشق منها قال الضحاك: يكونون بها حتى يأمرهم الله تعالى فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها، وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي: ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها، وقيل: إذا صارت السماء قطعاً تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها، والأرجاء في اللغة: النواحي والأقطار بلغة هذيل واحدها رجا مقصور وتثنيته رجوان، مثل عصا وعصوان قال القائل: *فلا ترمي بي الرجوان إني ... أقل القوم من يعني مكاني* قال ابن عادل: ورجا هنا يكتب بالألف عكس رحى لأنه من ذوات الواو. فإن قيل: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى: {فصعق من في السموات ومن في الأرض} (الزمر: 68) . فكيف يقال لهم: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ أجيب: من وجهين: الأول: إنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون، والثاني: المراد الذين استثنوا في قوله تعالى: {إلا من شاء الله} (الزمر: 68) . وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالهم أمرها فيندّوا كما تندو الإبل فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا رأوا الملائكة فيرجعوا من حيث جاؤوا. وقيل: على أرجائها ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها. وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كله يرجع إلى قول ابن جبير رضي الله عنه ويدل عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 قوله تعالى: {ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: 25) قال الزمخشري: فإن قلت ما الفرق بين قوله: {والملك} وبين أن يقال: والملائكة؟ قلت: الملك أعمّ من الملائكة ألا ترى أنّ قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعمّ من قولك: ما من ملائكة ا. هـ. قال أبو حيان: ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة لأن المفرد المحلى بالألف واللام قصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلى ولذلك صح الاستثناء منه، ثم قال: ولأن قوله: {على أرجائها} يدل على الجمع، لأن الواحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد بل في أوقات، والمراد والله أعلم أن الملائكة على أرجائها لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات. ولما كان الملك يظهر في يوم العرض سرير ملكه ومحل عزه قال تعالى: {ويحمل عرش ربك} أي: المحسن إليك بكل ما تريد لا سيما في ذلك اليوم بما يقع من رفعتك على سائر الخلق، والضمير في قوله تعالى: {فوقهم يومئذ} أي: في يوم وقعت الواقعة يجوز أن يعود على الملك لأنه بمعنى الجمع كما تقدم، وأن يعود على الحاملين في قوله تعالى: {ثمانية} ، وقيل: يعود على جميع العالم، أي: إن الملائكة تحمل عرش الله تعالى فوق العالم كله. واختلف في هذه الثمانية فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك، وعن الحسن رضي الله عنه: الله أعلم كم هم أثمانية أم ثمانية آلاف أم ثمانية صفوف، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمدّهم الله تعالى بأربعة أخرى فكانوا ثمانية على صورة الأوعال» . وفي رواية: ثمانية أوعال من أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء، وفي حديث آخر: «لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس» . فإن قيل: إذا لم يكن فيهم صورة الوعل فكيف سموا أوعالاً؟ أجيب: بأن وجه الثور إذا كانت له قرون أشبه الوعل. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . أخرحه أبو داود بإسناد صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: حملة العرش ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن كعبه إلى ركبته خمسمائة، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم إلى مؤخر عينه خمسمائة عام. وفي الخبر أن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش، وفي حديث مرفوع أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً للطائر المسرع، وروي أن أرجلهن في الأرض السابعة، وإضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت إليه وليس البيت للسكنى فكذلك العرش ليس للجلوس تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنه الخالق للعرش ولحملة العرش ولا تحيط به جهة وهو العلي العظيم. وعن شهر بن حوشب قال حملة العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك. ولما بلغ تعالى النهاية في تحذير العباد من يوم التناد وكان لهم حالتان عامة وخاصة، فالعامة العرض والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء زاده عظماً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 بقوله تعالى: {يومئذ} أي: إذ كان جميع ما تقدم {تعرضون} على الله للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للتقريب والإكرام، والمفسد للإبعاد والتعذيب، عبر بالعرض عن الحساب الذي هو جزؤه، والمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش. {لا تخفى منكم} أي: في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية؛ لأن التأنيث مجازي والباقون بالتاء وهو ظاهر، {خافية} أي: من السرائر التي كان من حقها أن تخفى في دار الدنيا، فإنه عالم بكل شيء من أعمالكم. ونظيرة قوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم شيء} (غافر: 16) . قال الرازي: والعرض للمبالغة في التهديد يعني تعرضون على من لا تخفى عليه خافية، قال القرطبي: هذا هو العرض على الله تعالى ودليله {وعرضوا على ربك صفاً} (الكهف: 48) وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً به، بل ذلك العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة قال صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» . قال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} أي: الذي أثبتت فيه أعماله {فيقول} لما رأى من سعادته تبجعاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه؛ لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه الله تعالى من خير تكميلاً للذته قيل: إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر، فإذا أنهاه قيل له: قد غفرها الله تعالى اقلب الصحيفة، فحينئذ يكون قوله: {هاؤم اقرؤوا} أي: خذوا اقرؤوا {كتابيه} يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح قال الشاعر: *إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين* قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله شعاع كشعاع الشمس قيل: فأين أبو بكر؟ قال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنة، وقال ابن زيد: معنى هاؤم: تعالوا، فيتعدى بإلى. وقال مقاتل: هلمّ، وقال غيره: خذوا، ومنه الحديث في الربا «إلا هاء وهاء» ، أي: يقول كل لصاحبه: خذ، وهذا هو المشهور، ولذلك فسرت به الآية الكريمة. وقيل: هي كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط، وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته» . وقيل: معناها اقصروا وزعم هؤلاء أنها مركبة من ها التنبيه وأموا أمر من الأمّ وهو القصد فصيّره التخفيف والاستعمال إلى هاؤم، وقيل: الميم ضمير جماعة الذكور وزعم العتبي أن الهمزة بدل من الكاف، قال ابن عادل: فإن عنى أنها تحل محلها فصحيح، وإن عني البدل الصناعي فليس بصحيح. تنبيه: كتابيه منصوب بهاؤم عند الكوفيين، وعند البصريين باقرؤوا لأنه أقرب العاملين، والأصل: كتابي فأدخل الهاء لتتبين صحة الياء والهاء في {كتابيه} و {حسابيه} و {سلطانيه} و {ماليه} للسكت وكان حقها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف أو وصل بنية الوقف في كتابيه وحسابيه اتفاقاً، فأثبت الهاء وكذا في {ماليه} (الحاقة: 28) و {سلطانيه} (الحاقة: 29) و {ماهيه} (القارعة: 10) في القارعة عند القراء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاثة وصلاً وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف محتاج إليها لتحصين حركة الموقوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 عليه، وفي الوصل مستغنى عنها. فإن قيل: فلم لم يفعل ذلك في {كتابيه} و {حسابيه} ؟ أجيب: بأنه جمع بين اللغتين. {إني ظننت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: أيقنت وعلمت. وقيل: ظننت بأن يؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني بها. وقال الضحاك: كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد رضي الله عنه: ظن الآخرة يقين وظن الدنيا شك. وقال الحسن رضي الله عنه في هذه الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل. {أني ملاق} ، أي: ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى {حسابيه} ، أي: في الآخرة ولم ينكر البعث يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب لأنه تيقن أن الله تعالى يحاسبه فعمل للآخرة فحقق الله تعالى رجاءه وأمن خوفه فعلم الآن أنه لا يناقش الحساب، وإنما حسابه بالعرض وهو الحساب اليسير فضلاً من الله تعالى ونعمة. {فهو في عيشة} أي: حالة من العيش، وقوله تعالى: {راضية} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على النسب، أي: ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر، أي: ثابت لها الرضا ودائم لها؛ لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبر عن أكبر السعادات بأكثر من العيشة لراضية بمعنى أن أهلها راضون بها، والمعتبر في كمال اللذة الرضا. الثاني: أنه على إظهار جعل العيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها، وأنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها. الثالث: قال أبو عبيدة والفراء: إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى: مفعول نحو: ماء دافق بمعنى: مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى: فاعل كما في قوله تعالى: {حجاباً مستوراً} (الإسراى: 45) ، أي: ساتراً وقال صلى الله عليه وسلم «إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ويصحون فلا يمرضون أبداً وينعمون فلا يرون بأساً أبداً ويشبون فلا يهرمون أبداً» . {في جنة} أي: بساتين جامعة لجميع ما يراد منها {عالية} أي: مرتفعة في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار. وقوله تعالى: {قطوفها} جمع كثرة لقطف بالكسر وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما يجنيه الجاني من الثمار، وأما القطف بالفتح فالمصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف {دانية} ، أي: قريبة المأخذ سهلة التناول جداً للراكب والقائم والقاعد والمضطجع كل ذلك على حدّ سواء دائماً من غير انقطاع لا كلفة على أحد في تناوله شيئاً من ذلك. وقوله تعالى: {كلوا واشربوا} على إضمار القول، أي: يقال لهم ذلك وجمع الضمير للمعنى؛ لأن قوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه} . يتضمن معنى الجمع وهذا أمر امتنان لا أمر تكليف، {هنيئاً} أي: أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا وهن ولا صداع ولا ثقل، والباء في قوله تعالى: {بما أسلفتم} سببية وما مصدرية أو اسمية، أي: بما قدّمتم من الأعمال الصالحة {في الأيام الخالية} أي: الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها وعن مجاهد رضي الله عنه: أيام الصيام، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. وروي: يقول الله تعالى: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى مقبول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقاً إلى حاله، وتغبيطاً بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى: {وأما من أوتي كتابه} أي: صحيفة حسابه {بشماله فيقول} أي: لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها {يا ليتني} تمنياً للمحال {لم أوت} أي: من أي مؤت ما. {كتابيه} أي: هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها. {ولم} أي: ويا ليتني لم {أدر ما} حقيقة {حسابيه} من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا. ثم يتمنى الموت ويقول: {يا ليتها} أي: الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة {كانت القاضية} أي: القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه: يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت، قال الشاعر: *وشر من الموت الذي إن لقيته ... تمنيت منه الموت والموت أعظم* والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي. وقوله: {ما أغنى عني ماليه} يجوز أن يكون نفياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ويجوز أن يكون استفهام توبيخ لنفسه حيث سولت له ما أثر له كل سوء وكل محال، أي: أيّ شيء أغنى ما كان لي من اليسار الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله تعالى. {هلك عني سلطانيه} أي: ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد، وعن فناخسرة الملقب بالعضد، إنه لما قال: *عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر* لم يفلح بعده وجنّ، فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضلت عني حجتي، ومعناه: بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وذكر الضحاك أن الآية الأولى في أخي الأسود عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال فما يقال له؟ أجيب: بأنه يقال للزبانية على رؤوس الأشهاد {خذوه} أي: أيتها الزبانية الذين كان يستهزئ بهم عند سماع ذكرهم {فغلوه} أي: اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه إلى وراء قفاه إلى ناصيته. {ثم الجحيم} أي: النار العظمى التي تحجم على من يريد دفاعها ويحجم عنها من رآها، لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد {صلوه} أي: بالغوا في تصليته إياها وكرروها بغمسة في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى؛ لأنه كان يتعاظم على الناس فناسب أن يصلى أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها فقال مؤذناً بعدم الخلاص، وتقديم المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم ولذلك قال الزمخشري: ثم لا يصلوه إلا الجحيم. قال أبو حيان: وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النجاة، اه. لكن كلام النحاة لا يأبى ما قاله. {ثم في سلسلة} أي: عظيمة جداً، وقوله تعالى: {ذرعها سبعون ذراعاً} يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة وعلى هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: سبعون ذراعاً بذراع الملك، فتدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل: تدخل من فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعاً كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 في رحبة الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال الحسن رضي الله عنه: الله أعلم أيّ ذراع هو، ويحتمل أن يكون مبالغة كما قال تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} (التوبة: 80) يريد مرات كثيرة؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد. والذي يدل على هذا ما رواه الترمذي ـ وقال: إسناده حسن ـ عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها» . وعن كعب رضي الله عنه أنه قال: «لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها» . أجارنا الله تعالى ومحبينا منها وجميع المسلمين، فأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال تعالى: {فاسلكوه} أي: أدخلوه بحيث يكون كأنه السلك، أي: الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأنه تلف، قال الزمخشري: والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية وما بينهما وبين السلك في السلسلة لا على تراخى المدة ا. هـ. ولما ذكر سبحانه على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه فقال تعالى: {إنه كان} أي: جبلة وطبعاً وأن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغبياء {لا يؤمن} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان {بالله} أي: الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى {العظيم} أي: الكامل العظم، وهذا تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل: ماله يعذب هذا العذاب الشديد؟ أجيب بذلك وفي قوله تعالى: {ولا يحض} أي: يحث {على} بذل {طعام المسكين} دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين: أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له. والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل، وما أحسن قول القائل: *إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ... على الحيّ حتى تستقل مراجله* يريد حضهم على القرى واستعجالهم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الثاني بالطعام. وقيل: هو منع الكفار وقولهم: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} (يس: 47) والمعنى على بذل طعام المسكين. ولما وصفه سبحانه بأقبح العقائد وأشنع الرذائل تسبب عنه قوله تعالى: {فليس له اليوم ههنا} أي: في مجمع القيامة كله {حميم} أي: صديق خالص يحميه من العذاب، لأنهم كلهم له أعداء كما أنه كان لا يرق على الضعفاء لما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال {ولا طعام إلا من غسلين} أي: غسالة أهل النار وصديدهم وقيحهم، فعلين من الغسل {لا يأكله إلا الخاطئون} أي: أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل: إذا تعمد الذنب وهم المشركون، لا من الخطأ المضاد للصواب، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها وهي بمنزلة ما كانوا يشحون من أموالهم التي أبطنوها وادّخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء. {فلا أقسم} أي: لا يقع مني إقسام {بما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 تبصرون} من المخلوقات {وما لا تبصرون} منها، أي: بكل الموجودات واجبها وجائزها؛ معقولها ومحسوسها، لأنها لا تخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر، وقيل: الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجنّ والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة، لأنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت، ولو قيل بهذا في الواقعة لكان حسناً، وقيل: لا زائدة وجرى على ذلك الجلال المحلي. {إنه} أي: القرآن {لقول} أي: تلاوة {رسول} أي: أنا أرسلته به وعني أخذه وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي {كريم} أي: على الله تعالى فهو في غاية الكرم الذي هو البعد من مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء وهو محمد صلى الله عليه وسلم وكرم الشيء اجتماع الكمالات فيه اللائقة به. وقيل: هو جبريل عليه السلام، قاله الحسن والكلبي رضي الله عنهما لقوله تعالى: {رسول كريم ذي قوة} (التكوير: 19 ـ 20) واستدل للأول بقوله تعالى: {وما هو بقول شاعر} أي: يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن. قال مقاتل رضي الله عنه: سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فردّ الله تعالى عليهم بذلك. فإن قيل: كيف يكون كلاماً لله تعالى ولجبريل عليه السلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم أجيب: بأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فالله سبحانه وتعالى أظهره في اللوح المحفوظ وجبريل عليه السلام بلغه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بلغه للأمّة. {قليلاً ما تؤمنون} منصوب نعتاً لمصدر أو زمان محذوف، أي: إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً والناصب يؤمنون وما مزيدة للتأكيد، وقال ابن عطية: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه يؤمنون وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وتتصف بالقلة فهو الإيمان اللغوي لا الشرعي، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً وهو إخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار، وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية. {ولا بقول كاهن} وهو المنجم الذي يخبر عن الأشياء وأغلبها ليس له صحة، وقوله تعالى: {قليلاً ما تذكرون} يأتي فيه ما تقدم في {قليلاً ما تؤمنون} وقال البغوي: أراد بالقليل نفي إسلامهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك: قلما تأتينا وأنت تريد ما تأتينا أصلاً، وقرأ: {قليلاً ما يؤمنون} {قليلاً ما يذكرون} ابن كثير وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية فيهما، والباقون بالفوقية، وخفف الذال حمزة والكسائي وحفص وشددها الباقون. وقوله تعالى: {تنزيل} خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو تنزيل على وجه التنجيم، قال البقاعي: وأشار إلى الرسالة إلى جميع الخلق من أهل السموات والأرض بقوله تعالى: {من رب العالمين} أي: موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به ورتب سبحانه نظمه على وجه سهل على كل منهم يكفي في هدايته ا. هـ. وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أرسل للملائكة وهو الذي ينبغي وإن لم يكونوا مكلفين تشريفاً لهم زيادة في شرفه بإرساله صلى الله عليه وسلم إليهم. {ولو تقوّل} ، أي: كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً {علينا} أي: على ما لنا من العظمة {بعض الأقاويل} أي: التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها قال الزمخشري: التقوّل افتعال القول لأن فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 تكلفاً من المفتعل وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول. والمعنى: لو نسب إلينا قولاً لم نقله أو لم نأذن له في قوله: {لأخذنا} أي: لنلنا {منه} أي: عقاباً {باليمين} أي: بالقوة والقدرة. تنبيه: الباء على أصلها غير مزيدة، والمعنى: لأخذناه بقوة منا، فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة، واليمين هنا مجاز عن القوة والغلبة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم، ومنه قول الشماخ: *إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين* وقال أبو جعفر الطبري: هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب، ويجوز أن تكون الباء مزيدة، والمعنى: لأخذنا منه يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه ويضرب بالسيف في جيده مواجهة وهو أشد عليه، وقال الحسن رضي الله عنه: لقطعنا يده اليمنى. وقال الزمخشري: المعنى: ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده فتضرب رقبته وخص اليمين عن اليسار، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذه بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ا. هـ. وقال نفطويه: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف، وقال السّدي ومقاتل رضي الله عنهما: المعنى انتقمنا منه بالحق واليمين على هذا بمعنى الحق كقوله تعالى: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} (الصافات: 28) ، أي: من قبل الحق. {ثم لقطعنا} أي: بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع {منه الوتين} أي: نياط القلب وهو يتصل من الرأس إذا انقطع مات صاحبه، قال أبو زيد: وجمعه الوتن وثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه. وقال الكلبي: هو عرق بين العلباء والحلقوم وهما علباوان بينهما العرق والعلباء عصب العنق، وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، وقال مجاهد رضي الله عنه: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. وقال محمد بن كعب رضي الله عنه: إنه القلب ومراقه وما يليه، وقال عكرمة رضي الله عنه: إن الوتين إذا قطع، لا إن جاع عرف ولا إن شبع عرف، وقيل: الوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين، ثم تنقسم منه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه. وقال ابن قتيبة: لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه، فكان كمن قطع وتينه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» . والأبهر: عرق متصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال: هذا أوان يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره {فما منكم} أي: أيها الناس، وأغرق في النفي فقال: {من أحد عنه} أي: القتل {حاجزين} أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه. تنبيه: {من أحد} اسم ما ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد وعنه حاجزين خبر ما وجمع لأن أحداً في سياق النفي بمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 الجمع وضمير عنه للقتل أو النبي كما مرّ {وإنه} أي: القرآن {لتذكرة للمتقين} أي: لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد {وإنا} أي: بمالنا من العظمة {لنعلم} أي: علماً عظيماً محيطاً {أن منكم} أي: أيها الناس {مكذبين} بالقرآن ومصدقين، فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل لنظهر منكم إلى عالم الشهادة ما كنا نعلم في الأزل غيباً من تكذيب وتصديق فتستحقون بذلك الثواب والعقاب، فلذلك وجب في الحكمة أن نعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاً بما يليق به إظهاراً للعدل. {وإنه} أي: القرآن {لحسرة} أي: ندامة {على الكافرين} أي: إذا رأوا ثواب المصدقين وعقاب المكذبين به {وإنه} أي: القرآن أو الجزاء يوم الجزاء {لحق اليقين} أي: الأمر الثابت الذي لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق من إضافة الصفة إلى الموصوف وهو فوق علم اليقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين. {فسبح} أي: أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص {باسم} أي: بسبب عملك بصفات {ربك} أي: الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان {العظيم} أي: الذي ملأت الأقطار كلها عظمته وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فصلّ لربك العظيم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع. سورة المعارج مكية وهي أربع وأربعون آية، ومائتانوست عشرة كلمة، وألف وأحد وستون حرفاً {بسم الله} ، أي: الذي تنقطع الأعناق والآمال دون عليائه {الرحمن} الذي لا مطمع لأحد في حصر أوصافه {الرحيم} الذي اصطفى من عباده من وفقه فكان من أوليائه. {سأل سائل} أي: دعا داع {بعذاب واقع} فضمن سأل معنى دعا، فلذلك عدى تعديته، وقيل: الباء بمعنى عن كقوله تعالى: {فاسأل به خبيراً} (الفرقان: 59) ، أي: عنه، أي: سأل سائل عن عذاب واقع، والأول أولى لأن التجوز في الفعل أولى منه في الحرف لقوتّه. واختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو النضر بن الحارث حيث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل سؤاله وقتل يوم بدر صبراً هو وعتبة بن أبي معيط لم يقتل صبراً غيرهما، وقيل: هو الحارث بن النعمان، وذلك «أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالإبطح، ثم قال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه وأن نصلي خمساً ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في عام فقبلناه منك وأن نحج فقبلناه منك ثم لم ترض حتى فضلت ابن عمك علينا، أفهذا شيء منك أم من الله تعالى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله» فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 فقتله فنزلت. وقال الربيع: هو أبو جهل، وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش، وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين، وقيل: هو نبينا صلى الله عليه وسلم استعجل بعذاب الكافرين ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك {فاصبر صبراً جميلاً} أي: لا تستعجل فإنه قريب، وقرأ نافع وابن عامر بغير همز بعد السين، والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين. تنبيه: ما تقدم من الوجهين في كون سأل ضمن أو أن الباء بمعنى عن هو على القراءة بالهمز، وأما على عدمه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال يقال: سأل يسأل كخاف يخاف وعين الكلمة واو، قال الزمخشري: وهي من لغة قريش. والثاني: أنه من السيل ومعناه اندفع عليهم واد بعذاب، وقيل: سال واد من أودية جهنم وقوله تعالى: {للكافرين} فيه أوجه: أحدها: أنه يتعلق بسأل مضمناً معنى دعا كما مر، أي: دعا لهم بعذاب واقع. الثاني: أنه يتعلق بواقع واللام للعلة، أي: نازل لأجلهم. الثالث: أن يتعلق بمحذوف صفة ثانية للعذاب، أي: كائن للكافرين. الرابع: أن يكون جواباً للسائل فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هو للكافرين. الخامس: أن تكون اللام بمعنى على، أي: واقع على الكافرين. {ليس له} أي: بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل {دافع} يردّه. وقوله تعالى: {من الله} أي: الملك الأعلى الذي لا كفء له يجوز أن يتعلق بدافع بمعنى ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته لتعلق إرادته به وأن يتعلق بواقع، وبه بدأ الزمخشري، أي: واقع من عنده {ذي المعارج} أي: المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم أو في دار ثوابهم، أو مراتب الملائكة أو السموات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: ذي السموات، سماها معارج الملائكة لأن الملائكة يعرجون فيها فوصف نفسه بذلك، أو ذي العلوّ والدرجات الفواضل والنعم، لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم، فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق. وقيل: ذي العظمة والعلا، وقيل: المعارج الغرف، أي: إنه ذو الغرف، أي: جعل لأوليائه الجنة غرفاً. وقرأ: {تعرج الملائكة} الكسائي بالياء التحتية، والباقون بالتاء الفوقية، وأدغم جيم المعارج في تاء تعرج هنا السوسي، واستضعف بعضهم ذلك من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء. وأجيب عن ذلك بأن الإدغام يكون لمجرد الصفات وإن لم يتقاربا في المخرج والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشدة والجملة من تعرج مستأنفة. وقوله تعالى: {والروح} من عطف الخاص على العام إن أريد بالروح جبريل عليه السلام كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين} (الشعراء: 193) أو ملك آخر من جنسهم عظيم الخلقة: وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض، {إليه} أي: مهبط أمره من السماء. وقيل: هو كقول إبراهيم عليه السلام: {إني ذاهب إلى ربي} (الصافات: 99) ، أي: إلى الموضع الذي أمرني به، وقيل: إلى عرشه، وعلق بالعروج أو بواقع قوله تعالى: {في يوم} أي: من أيامكم، وبين عظمه بقوله تعالى: {كان} أي: كوناً هو في غاية الثبات {مقداره} أي: لو كان الصاعد فيه آدمياً {خمسين ألف سنة} أي: من سني الدنيا وذلك أن تصعد من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة، روي عن مجاهد رضي الله عنه أن مقدار هذا خمسين ألف سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وقال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقال عكرمة وقتادة رضي الله عنهما: هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ليس يعني به أن مقدار طوله هكذا دون غيره؛ لأن يوم القيامة ليس له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود، ولو كان له آخر لكان منقطعاً. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «قيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» . وقيل: معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله تعالى لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة قال عطاء رضي الله عنه: ويفرغ الله تعالى في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وقيل: فيه خمسون موطناً على الكافر، كل موطن ألف سنة وما ورد ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر. وروي عن الكلبي أنه قال: يقول الله تعالى: لو وليت حساب ذلك الملائكةُ والإنس والجن وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار. وقال بيان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وفيه تقديم وتأخير كأنه قال: ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة: {في يوم كان مقداره ألف سنة} (السجدة: 5) أجيب: بأنه يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن عرض كل سماء خمسمائة وما بين أسفل إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله في يوم من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى أعلى العرش. وقوله تعالى: {فاصبر صبراً جميلاً} متعلق كما قال الرازي: بسأل سائل، لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصبر، والمعنى: جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله تعالى. وقيل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو، وقال ابن زيد والكلبي رضي الله عنهم: هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال. {إنهم} أي: الكفار {يرونه} أي: ذلك اليوم الطويل أو عذابه {بعيداً} أي: زمن وقوعه لأنهم يرونه غير ممكن، أو يفعلون أفعال من يستبعده {ونراه} أي: لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين {قريباً} سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة، وكل آت قريب، والقريب والبعيد عندنا على حدٍ سواء، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {يوم تكون السماء} متعلق بمحذوف، أي: يقع فيه من الأهوال {كالمهل} أي: كدردي الزيت، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كالفضة البيضاء في تلونها {وتكون الجبال} أي: التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها {كالعهن} أي: كالصوف في الخفة والطيران بالريح. وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رملاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً منبثاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 {ولا يسأل} أي: من شدة الأهوال {حميم حميماً} أي: قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشفت لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب وعلم أنه لا عز إلا بالتقوى. {يبصرونهم} أي: يبصرهم بهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه {يودّ المجرم} أي: يتمنى الكافر أو هذا النوع سواء كان كافراً أم مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه {لو} بمعنى أن {يفتدى} أي: يفدي نفسه {من عذاب يومئذ} أي: يوم إذ كانت هذه المخاوف. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بكسرها، {ببنيه} أي: بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه لشدة ما يرى. ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه نصره والذب عنه أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة بقوله تعالى: {وصاحبته} أي: زوجه التي يلزمه الذب عنها لا سيما عند العرب من أقبح العار ولكونه دائماً معها. ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة أتبعها الشقيق الذي هو عليه شفيق بقوله تعالى: {وأخيه} أي: الذي له به النصرة على من يريد، قال الشاعر: *أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كنازل الهيجاء بغير سلاح* ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم بقوله تعالى: {وفصيلته} أي: عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه، وقال ثعلب: الفصيلة الآباء الأدنون، وقال أبو عبيدة رضي الله عنه: الفخذ، وقال مجاهد وابن زيد رضي الله عنهم: عشيرته الأقربون، {التي تؤويه} أي: تضمه إليها عند الشدائد وتحميه لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها. ولما خصص عمم بقوله تعالى: {ومن في الأرض} أي: من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بدّ في كل حال منه أم لا، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {جميعاً} وقوله تعالى: {ثم ينجيه} أي: ذلك الافتداء عطف على يفتدى، وقوله تعالى: {كلا} ردّ وردع وزجر لما يودّه، وقال القرطبي: وإنها تكون بمعنى حقاً وبمعنى لا وهي هنا تحتمل الأمرين فإذا كانت بمعنى حقاً كان تمام الكلام ينجيه، وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها إذ ليس من عذاب الله افتداء. ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر أشار إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب قال تعالى: {إنها} أي: النار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة لفظ عذاب عليها، وقيل: الضمير للقصة. وقيل: مبهم يفسره قوله تعالى: {لظى} أي: ذات اللهب الخالص المتناهي في الحرّ اسم لجهنم تتلظى، أي: تتوقد فتأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل كل ما وجدته كائناً ما كان، وقوله تعالى: {نزاعة للشوى} جمع شواة وهي جلدة الرأس، أي: شديدة النزع لجلود الرؤوس. وقال في «القاموس» : اليدان والرجلان والأطراف ومخ الرأس وما كان غير مقتل ا. هـ. وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص والحال المؤكدة والمستقلة على أن لظى متلظية، والباقون بالرفع على أنها خبر إن. {تدعو من أدبر وتولى} عن الإيمان، تقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا فاسق ونحو هذا، ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب. ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين، فكان الإقبال على أحدهما دالاً على الإعراض عن الأخرى قال تعالى دالاً على إدباره بقلبه: {وجمع} أي: كل ما كان منسوباً إلى الدنيا {فأوعى} أي: جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 أمل ولم يعط حق الله تعالى منه فكان همه الإعطاء لا إبطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا وإعراضاً عن الآخرة، وقرأ: {لظى} و {للشوى} و {تولى} {فأوعى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح. {إن الإنسان} أي: الجنس عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولدينه {خلق هلوعاً} أي: جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والسرعة فيما لا ينبغي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنه الحريص على ما لا يحل له. وروي عنه أن تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى: {إذا مسه} أي: أدنى مس {الشر} أي: هذا الجنس، وهو ما تطاير شرره من الضرر {جزوعاً} أي: عظيم الجزع وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقدّ نصفين ويتفتت {وإذا مسه} كذلك {الخير} هذا الجنس وهو ما يلائمه فيجمعه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق {منوعاً} أي: مبالغاً في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة، وهذا الوصف ضد الإيمان لأنه نصفان شكر وصبر. فإن قيل: حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضارّ طالب للراحة، وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله تعالى عليه؟ أجيب: بأنه إنما ذمه عليه لقصور نظره على الأمور العاجلة، والواجب عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حال. وقوله تعالى: {إلا المصلين} استثناء للموصوفين بالصفات الآتية من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل مضادّة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق، والإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار العاجل على الآجل، وتلك ناشئة عن الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها {الذين هم} أي: بكلية ضمائرهم وظواهرهم {على صلاتهم} أي: التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم بما أفادته الإضافة، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله تعالى: {دائمون} أي: لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها، وقال عقبة بن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً، والدائم: الساكن، ومنه نهي عن البول في الماء الدائم، أي: الساكن. وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التطوع منها. فإن قيل: كيف قال تعالى: {على صلاتهم دائمون} وقال تعالى في موضع آخر: {على صلواتهم يحافظون} (الأنعام: 92) أجيب: بأن دوامهم عليها أن لا يتركوها في وقت، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى تأتي على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجد الشريفة، وفي تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة، وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار، مطلعاً على حكم الصلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلاة. ولما ذكر تعالى زكاة الروح أتبعه زكاة عديلها، فقال تعالى مبينا للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو: {والذين في أموالهم} التي منّ الله سبحانه بها عليهم {حق معلوم} أي: من الزكوات وجميع النفقات الواجبة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق {للسائل} أي: الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 يسأل {والمحروم} أي: الذي لا يسأل، فيحسب غنياً فيحرم فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وسره إلا إلى إفاضة مدامعه بذلة وانكسار، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى، وقد كان للسلف الصالح في هذا قصب السبق، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سواد كأنها السيور، فعجبوا منها فقال بعد موته نسوة أرامل: كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء على ظهره وأجربة الدقيق ففقدناه واحتجنا، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه، فجاء إلى بيت نسوة أرامل فقال: أعندكن ماء وإلا املأ لكنّ، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهنّ. والحكايات عنهم في هذا كثيرة. {والذين يصدّقون} أي: يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجدّدونه كل وقت {بيوم الدين} أي: الجزاء الذي ما مثله يوم وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه على النقير والقمطير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة، فالذين يعلمون لذلك اليوم هم العمال، وأما المصدّقون بمجرّد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال. {والذين هم} أي: بجميع ضمائرهم وظواهرهم {من عذاب ربهم} أي: المحسن إليهم لا من عذاب غيره فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه {مشفقون} أي: خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو في الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه. {إن عذاب ربهم} أي: الذي هم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان {غير مأمون} أي: لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة؛ لأن الملك مالك وهو تام الملك، له أن يفعل ما شاء، ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء. {والذين هم} أي: ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم {لفروجهم} أي: سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً {حافظون} أي: حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله تعالى عنه {إلا على أزواجهم} أي: من الحرائر بعقد النكاح، وقدمهنّ لشرفهنّ وشرف الولد بهنّ، ثم أتبعه قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهم} أي: من السراري التي هي محل الحرث والنسل واللاتي هن أقل عقلاً من الرجال، ولهذا عبر بما التي هي في الأغلب لغير العقلاء، وفي ذلك إشارة إلى اتساع النطاق في احتمالهن. {فإنهم} أي: بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك {غير ملومين} أي: في الاستمتاع بهن من لائم ما، كما نبه عليه البناء للمفعول، فهم يصحبونهن للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله تعالى، واكتفى في مدحهم بنفي اللوم لإقباله عن تحصيل ما له من المرام. {فمن ابتغى} أي: طلب وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. {وراء ذلك} أي: شيئاً من هذا خارجاً عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى له، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة وأحسنها وأجملها {فأولئك} أي: الذين هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 في الحضيض من الدناءة وغاية البعد عن مواطن الرحمة {هم} أي: بضمائرهم وظواهرهم {العادون} أي: المختصون بالخروج عن الحدّ المأذون فيه. {والذين هم لأماناتهم} أي: من كل ما ائتمنهم الله تعالى عليه من حقه وحق غيره، وقرأ ابن كثير بغير ألف بعد النون على التوحيد، والباقون بالألف على الجمع {وعهدهم} أي: ما كان من الأمانات بربط وتوثيق {راعون} أي: حافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار. {والذين هم} أي: بغاية ما يكون من توجه القلوب {بشهادتهم} التي شهدوا بها أو يستشهدون بها بطلب أو غيره، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها {قائمون} أي: يتحملونها ويؤدّونها على غاية التمام والحسن أداء من هو متهيىء لها واقف في انتظارها، وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع اعتباراً بتعدد الأنواع والباقون بغير ألف على التوحيد إذ المراد الجنس. قال الواحديّ: والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإنّ أضيف إلى الجمع كصوت الحمير. قال أكثر المفسرين: يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد، يقومون بها عند الحكام ولا يكتمونها. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بشهادتهم أنّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. {والذين هم على صلاتهم} أي: من الفرض والنفل {يحافظون} أي: يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم ويسابقون غيرهم في حفظها، وتقدم أنّ المداومة غير المحافظة، فدوامهم عليها محافظتهم على أوقاتها وشروطها وأركانها ومستحباتها في ظواهرها وبواطنها من الخشوع والمراقبة وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ناهية لفاعلها {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت: 45) فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها، فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة والمحافظة إلى أحوالها ذكره القرطبي. ولما ذكر تعالى خلالهم أتبعه ما أعطاهم، فقال عز من قائل مستأنفاً أو منتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة: {أولئك} أي: الذين في غاية العلوّ لما لهم من الأوصاف العالية {في جنات} أي: في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور، وضدها النار. وزادهم على ذلك بقوله تعالى: {مكرمون} معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره، لأنه سبحانه قضى بأن يعلي مقدارهم فيكرمهم بأنواع الكرامات فيتلقاهم بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى دخولهم إلى قصورهم هذا حال المؤمنين. وأما حال الكافرين فقال الله تعالى في حقهم: {فما للذين كفروا} وقف أبو عمرو على الألف بعد الميم والكسائي يقف على الألف وعلى اللام، ووقف الباقون على اللام، وأما الابتداء فالجميع يبتدؤون أوّل الكلمة أي: أيّ شيء من السعادات للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرار بمضمون هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 الكلام الذي هو أوضح من الشمس حال كونهم {قبلك} أي: نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك {مهطعين} أي: مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك، هيئة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه {عن} أي: متجاوزين إليك مكاناً عن جهة {اليمين} أي: منك حيث يتيمنون به {وعن الشمال} أي: منك وإن كانوا يتشاءمون به، وقوله تعالى: {عزين} حال من الذين كفروا، وقيل: من الضمير في مهطعين فتكون حالاً متداخلة، أي: جماعات جماعات وحلقاً حلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً لا يتمهلون ليأتوا جميعاً. جمع عزة وأصلها عزوة لأنّ كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون قال الكميت: *ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتى عزينا* وجمع عزة جمع سلامة شذوذاً. وقيل: كان المستهزؤون خمسة أرهط روي أنّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبيّ صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ويستهزؤون به ويكذبونه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فندخلها قبلهم، فردّ الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل: {أيطمع} أي: هؤلاء البعداء البغضاء، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له. ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال تعالى: {كل امرئ منهم} أي: على انفراده {أن يدخل} أي: وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم، فيستوي المسيء والمحسن {جنة نعيم} أي: لا شيء فيها عير النعيم. وقوله تعالى: {كلا} ردع لهم عن طمعهم ودخولهم الجنة، أي: لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً؛ لأنّ ذلك ثمن فارغ لا سبب له بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء. ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنا خلقناهم} أي: بالقدرة التي لا يقدر أحد أن يقاومها {مما يعلمون} أي: أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزؤون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى: {إنا خلقناهم ممايعلمون} أي: من القذر وهو منصبهم الذي لا منصب أوضع منه ولذلك أبهم وأخفى إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فلا يليق بهم هذا التكبر ويدعون التقدم ويقولون: ندخل الجنة قبلهم. قال قتادة في هذه الآية إنما خلقت يا ابن آدم من قذر، فاتّقِ الله. وروي أنّ مطرّق بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز، فقال له: يا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى؟ فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أوّلك نطفة مزرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته. فائدة: قال ابن عربي في «الفتوحات» : خلق الله الناس على أربعة أقسام: قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه السلام، وقسم من ذكر فقط وهو حوّاء، وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه السلام، وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس. {فلا} زيدت فيه لا {أقسم برب} أي: سيد ومبدع ومدبر {المشارق} أي: التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة، كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره والطريق والقانون الذي أتقنه وسخره ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 {والمغارب} كذلك وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه تعالى قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده من غير كلفة ما. كما قال تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظيمة {لقادرون} . {على أن نبدل} أي: تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم {خيراً منهم} أي: بالخلق أو بتحويل الوصف فيكونون أشدّ بطشاً في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً وجاهاً وخدماً، فيكونون عندك على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك، وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر والتمكين في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة، ففرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال {وما نحن بمسبوقين} أي: لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده بوجه من الوجوه. {فذرهم} أي: اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم {يخوضوا} أي: في باطلهم من مقالهم وفعالهم {ويلعبوا} أي: يفعلوا في دنياهم فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان واشتغل أنت بما أمرت به {حتى يلاقوا} أي: يلقوا {يومهم الذي يوعدون} وهو يوم كشف الغطاء الذي أوّل مجيئه عند الغرغرة، وتناهيه النفخة الثانية، ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قاله البقاعيّ وابن عادل. وقوله تعالى: {يوم يخرجون} يجوز أن يكون بدلاً من يومهم أو منصوباً بإضمار أعني {من الأجداث} أي: القبور التي صاروا بتغييبهم فيها تحت وقع الحوافر والخف، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ، فإنّ الجدث: القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم. وقوله تعالى: {سراعاً} أي: نحو صوت الداعي ذاهبين إلى المحشر، حال من فاعل يخرجون جمع سريع كظراف في ظريف، وقرأ قوله تعالى: {كأنهم إلى نصب} ابن عامر وحفص بضم النون والصاد، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد على أنه مصدر بمعنى المفعول كما تقول هذا نصب عيني وضرب الأمير، والنصب كل ما نصب فعبد من دون الله {يوفضون} أي: يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إلى نصب، أي: إلى غاية وهي التي ينتصب إليها بصرك، وقال الكلبي: هو شيء منصوب علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى لا يلوي أوّلهم على آخرهم. وقوله تعالى: {خاشعة} حال إما من فاعل يوفضون وهو أقرب، أو من فاعل يخرجون وفيه بعد منه، وفيه تعدد الحال لذي حال واحدة وفيه الخلاف المشهور. وقوله تعالى: {أبصارهم} فاعل، والمعنى ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله تعالى {ترهقهم} أي: تغشاهم فتعمهم وتحمل عليهم، فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع عليهم {ذلة} أي: ضد ما كانوا عليه في الدنيا؛ لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة. {ذلك} أي: الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علوّ الرتبة في العظمة {اليوم الذي كانوا يوعدون} أي: يوعدون في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأنّ ما وعد الله تعالى به فهو حق كائن لا محالة، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أوّل السورة، فقد رجع آخرها على أوّلها. وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» . حديث موضوع. سورة نوح عليه السلام مكية وهي سبع وعشرون آية، ومائتان وأربعوعشرون كلمة، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفاً {بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بما أفاضه من ظاهر الإنعام {الرحيم} الذي حفظ أولياءه من الابتداء إلى الختام. ولما ختمت سأل بالإنذار للكفار وكانوا عباد أوثان بعذاب الدنيا والآخرة أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا على تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام فقال تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة البالغة {أرسلنا نوحاً إلى قومه} أي: الذين كانوا في غاية القوّة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين، روى قتادة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح عليه السلام» وأرسل إلى جميع أهل الأرض ولذلك لما كفروا أغرق الله تعالى أهل الأرض جميعاً، وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: وكل مؤمنون أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهو ابن أربعين سنة. وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويجوز في قوله تعالى: {أن أنذر} أي: حذر تحذيراً عظيماً {قومك} أي: الاستمرار على الكفر أن تكون أن مفسرة فلا يكون لها من الإعراب لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار، ويجوز أن تكون المصدرية أي: أرسلناه بالإنذار. قال الزمخشري: والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر قومك أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار ا. هـ. وهذا الذي قدره جواب عن سؤال وهو أنّ قولهم إنّ أن المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر ألا ترى أنك إذا قدرت كتبت إليه بأن قم: كتبت إليه القيام تفوت الدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشري أي: كتبت إليه بأن قلت له: قم، أي: كتبت إليه بالأمر بالقيام. وقال القرطبي: أي بأن أنذر قومك {من قبل أن يأتيهم} أي: على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة {عذاب أليم} أي: عذاب الآخرة أو الطوفان {قال} أي: نوح عليه السلام {يا قوم} فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم {إني لكم نذير} أي: مبالغ في إنذاركم {مبين} أي: أمري بين في نفسه بحيث إنه صار في شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي، ويجوز في قوله تعالى: {أن اعبدوا الله} أي: الملك الأعظم الذي له جميع الكمال، أن تكون أن تفسيرية لنذير، وأن تكون مصدرية والكلام فيها كما تقدّم في أختها. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بالضم، والمعنى وحدوا الله {واتقوه} أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء {وأطيعون} أي: لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم واجتناب شبه ترديكم، ففي طاعتي فلأحكم برضا الملك عنكم. وقوله: {يغفر لكم} جواب الأمر، وفي من في قوله: {من ذنوبكم} أوجه أحدها: أنها تبعيضية، الثاني: أنها لابتداء الغاية، الثالث: أنها مزيدة. قال ابن عطية: وهو مذهب كوفي، وردّ بأنّ مذهبهم ليس ذلك لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ولا يشترطون غيره، والأخفش لا يشترط شيئاً، فالقول بزيادتها هنا ماش على قوله لا على قولهم، قاله القرطبيّ، وقيل: لا يصح كونها زائدة لأنّ من لا تزاد في الموجب وإنما هي هنا للتبعيض وهو بعض الذنوب وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. {ويؤخركم} أي: بلا عذاب تأخيراً ينفعكم {إلى أجل مسمى} أي: قد سماه الله تعالى وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه فيكون موتكم على العادة أو يأخذكم جميعاً، فالأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ليعلم أنّ الإرسال إنما هو مظهر لما قدره في الأزل، ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة والعصيان، وقرأ: ويوخركم ولا يوخر ورش بإبدال الهمزة واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف دون الوصل، والباقون بالهمز. {إنّ أجل الله} أي: الذي له الكمال كله فلا رادّ لأمره {إذا جاء لا يؤخر} أي: إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب، وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى: {إذا جاء أجلهم} (يونس: 49) لأنه مضروب لهم. {لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت. ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً {قال} منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: {رب} أي: يا سيدي وخالقي {إني دعوت} أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة {قومي} أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون {ليلاً ونهاراً} أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. {فلم يزدهم دعائي} أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها {إلا فراراً} أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد. {وإني كلما} أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات {دعوتهم} أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك {لتغفر لهم} أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 {جعلوا أصابعهم} كراهة منهم واحتقاراً للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم} أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. {وأصروا} أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها {واستكبروا} أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: {استكباراً} تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار. {ثم إني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي. {ثم إني أعلنت لهم} أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك. لأنه مضروب لهم. {لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت. ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً {قال} منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: {رب} أي: يا سيدي وخالقي {إني دعوت} أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة {قومي} أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون {ليلاً ونهاراً} أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. {فلم يزدهم دعائي} أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها {إلا فراراً} أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد. {وإني كلما} أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات {دعوتهم} أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك {لتغفر لهم} أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم {جعلوا أصابعهم} كراهة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 منهم واحتقاراً للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم} أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. {وأصروا} أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها {واستكبروا} أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: {استكباراً} تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار. {ثم إني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي. {ثم إني أعلنت لهم} أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك. {فقلت} أي: في دعائي لهم {استغفروا ربكم} أي: اطلبوا من المحسن إليكم المبدع لكم المدبر لأموركم أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها بأن تؤمنوا بالله وتتقوه {إنه كان} أي: أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً {غفاراً} أي: متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه. {يرسل السماء} أي: المظلة لأن المطر منها، ويجوز أن يراد السحاب والمطر {عليكم مدراراً} . {ويمددكم بأموال وبنين} أي: ويكثر أموالكم وأولادكم، وذلك أن قوم نوح عليه السلام لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله تعالى عنهم المطر وعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك، أي: استدعوه المغفرة بالتوحيد {يرسل السماء عليكم مدراراً} . روى الشعبي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار، فلما نزل قيل: يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت الغيث بمخاريج السماء التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء. وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا الآية. وقال القشيري: من وقعت له حاجة إلى الله تعالى فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار. وقال: إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك، كلما ازداد نوح عليه السلام في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان. {ويجعل لكم} أي: في الدارين {جنات} أي: بساتين عظيمة وأعاد العامل للتأكيد، فقال {ويجعل لكم أنهاراً} أي: يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً. وقال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 96) وقال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} (الجن: 16) {ما لكم لاترجون الله} أي: الملك الذي له الأمر كله {وقاراً} أي: ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة الوقار، فإنّ بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه بشيء وقر في صدره، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ولا تنازع له اختياراً، وتعظم أمره ونهيه بعدم المعارضة. {وقد} أي: والحال أنه قد أحسن إليكم مرّة بعد مرّة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته ثم لم يقطع إحسانه عنكم، فاستحق أن تؤمنوا به لأنه {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه {خلقكم} أي: أوجدكم من العدم مقدّرين {أطواراً} أي: تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوانات، ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا ابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة. {ألم تروا} أي: أيها القوم {كيف خلق الله} أي: الذي له العلم التامّ والقدرة البالغة والعظمة الكاملة {سبع سموات} هنّ في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة {طباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ما لها من فروج، ولا يكون تمام المطابقة كذلك إلا بالإحاطة من كل جانب. {وجعل القمر} أي: الذي ترونه {فيهنّ نوراً} أي: لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض؛ والثاني لأهل السماوات. قال الحسن: يعني في السماء الدنيا، كما تقول: أتيت بني فلان، وإنما أتيت بعضهم وفلان متوار في دور بني فلان، وهو في دار واحدة، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر وغيبوبته في بعض الليالي، ثم ظهوره وذلك أعجب في القدرة. ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال تعالى: {وجعل} أي: فيها {الشمس} أي: في السماء الرابعة {سراجاً} أي: نوراً عظيماً كاشفاً لظلمة الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة كما مرّ. وقيل: في الخامسة، وقيل: في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر: أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وأقفيتهما إلى الأرض، وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المؤمنين له في الجنة. {والله} أي: الملك الأعظم الذي له الأمر كله {أنبتكم} أي: بخلق أبيكم آدم عليه السلام {من الأرض} أي: كما ينبت، وعبر بذلك تذكيراً لنا بما كان من خلق أبينا آدم عليه السلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض {نباتاً} أي: أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات له لأنه أدل على الحدوث والتكوّن، وأصله أنبتكم فنبتم نباتاً فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية. {ثم يعيدكم} على التدريج {فيها} أي: الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال {ويخرجكم} أي: منها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدّة العناية به وتحتم وقوعه لإنكارهم له فقال تعالى: {إخراجاً} أي: غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 لا انفكاك بعدها لا حكماً عن الآخر. {والله} أي: المستجمع لجميع الجلال والإكرام {جعل لكم} أي: نعمة عليكم اهتماماً بأمركم {الأرض بساطاً} أي: سهل عليكم التصرّف فيها والتقلب عليها سهولة التصرّف في البساط. ثم علل ذلك بقوله تعالى: {لتسلكوا} أي: متخذين {منها} أي: الأرض مجددين ذلك {سبلاً} أي: طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة {فجاجاً} أي: ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرّف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره. ولما أكثروا مع نوح عليه السلام الجدال ونسبوه إلى الضلال وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال. {قال نوح} أي: بعد رفقه بهم ولينه لهم: {رب} أي: أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أمري {إنهم} أي: قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً {عصوني} أي: فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه، فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشدّ شراد، وخالفوني أقبح مخالفة. {واتبعوا} أي: بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل {من} أي: رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله تعالى: {لم يزده} أي: شيئاً من الأشياء {ماله} أي: كثرته {وولده} كذلك {إلا خساراً} أي: بالبعد من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الواوين واللام، والباقون بضم الواو الثانية وإسكان اللام. {ومكروا} أي: هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني {مكراً} وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة بقوله: {كباراً} فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، واختلفوا في معنى مكرهم فقال ابن عباس: قالوا قولاً عظيماً. وقال الضحاك: افتروا على الله تعالى وكذبوا رسله. وقيل: منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح عليه السلام، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعه وحرشوهم على قتله. {وقالوا} أي: لهم {لا تذرن} أي: تتركن {آلهتكم} أي: عبادتها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحبيباً فيها ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود، فقالوا مكرّرين اليمين والعامل تأكيداً: {ولا تذرنّ ودًّا} قرأ نافع بضم الواو والباقون بفتحها، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر: *حيال وودّ من هداك لقيته ... وحرض بأعلى ذي فضالة مسجد* وقال القرطبي: قال الليث: وَدًّا بفتح الواو: صنم كان لقوم نوح، ووُدًّا بالضم: صنم لقريش وبه سمي عمرو بن وُد. وفي الصحاح والوَدّ بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال ا. هـ. ثم أعادوا النفي تأكيداً فقالوا: {ولا سواعاً} وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا: {ولا يغوث} . ولما بلغ التأكيد نهايته وعلم أنّ القصد النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع تركوا التأكيد في قولهم: {ويعوق ونسرا} للعلم بإرادته. واختلف المفسرون في هذه الأسماء فقال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب، وهذا قول الجمهور، وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فلذلك خصوها بالذكر بعد قولهم: {لا تذرنّ آلهتكم} وقال عروة بن الزبير: اشتكى آدم عليه السلام وعنده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 بنوه ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان ودّ أكبرهم وأبرّهم به. قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين: ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عباداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه فقال الشيطان: أنا أصوّر لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: افعل، فصوّره في المسجد من صفر ورصاص، ثم مات آخر فصوّره حتى ماتوا كلهم وصوّرهم وتناقصت الأشياء كما تناقصت اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون أنها في مصلاكم فعبدوها من دون الله تعالى حتى بعث الله نوحاً عليه السلام، فقالوا: {لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعاً} الآية. وقال محمد بن كعب أيضاً ومحمد بن قيس: بل كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوّروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم، فلما ماتوا جاء آخرون فقالوا: ليت شعري ما هذه الصور التي كان يعبدها آباؤنا، فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت، وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة: «أنّ أمّ حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أولئك كانوا إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوّروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» .v وروي عن ابن عباس أنّ نوحاً عليه السلام كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل الهند فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم وإنما هو جسد وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به، فصوّر لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها، فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكان للعرب أصنام أخر، فاللات كانت لقديد وإساف ونائلة، وهبل كانت لأهل مكة، وكان إساف حيال الحجر الأسود، ونائلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة. وقال الماوردي: أما ودّ فهو أوّل صنم معبود فسمي ودًّا لودّهم له وكان بعد قوم نوح لكليب بدومة الجندل في قول ابن عباس وعطاء، وأمّا سواع فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم. وقال الرازي: وسواع لهمدان وأمّا يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة. وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان. وقال أبو عثمان الهندي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ويسيرونه معهم ولا ينيخونه حتى يبرك بنفسه فإذا برك نزلوا، وقالوا: قد رضي لكم المنزل، وأمّا يعوق فكان لهمدان، وقيل: لمراد، وأمّا نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير. قال البقاعي: ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأنّ تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم، فكان ودّ للكامل في الرجولية، وكان سواع امرأة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعاً، وكان يعوق سابقاً قوياً، وكان نسر عظيماً طويل العمر ا. هـ. ولما ذكرهم مكرهم وما أظهروا من قولهم عطف عليه ما توقع السامع من أمرهم فقال تعالى: {وقد أضلوا} أي: الرؤساء أو الأصنام وجمعهم جمع العقلاء معاملة لهم معاملة العقلاء كقوله: {رب إنهنّ أضللن} (إبراهيم: 36) {كثيراً} من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم، فإنهم أوّل من سنّ هذه السنة السيئة، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. وقول نوح عليه السلام: {ولا تزد الظالمين} أي: الراسخين في الوصف الموجب للنار {إلا ضلالاً} أي: طبعاً على قلوبهم حتى يعموا عن الحق. عطف على قد أضلوا دعاء عليهم بعدما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ، وكذلك دعا موسى وهارون عليهما السلام في الشدّ على قلوب فرعون وملئه لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه وما في قوله تعالى: {مما خطيئاتهم} أي: من أجل خطيئاتهم مزيدة للتأكيد والتفخيم، وقرأ أبو عمرو بفتح الطاء وبعدها ألف وبعد الألف ياء وبعد الياء ألف وضم الهاء على وزن قضاياهم، والباقون بكسر الطاء وبعدها ياء تحتية ساكنة، وبعد الياء همزة مفتوحة بعدها ألف وبعد الألف تاء فوقية مكسورة وكسر الهاء على وزن قضياتهم {أغرقوا} أي: بالطوفان طاف عليهم جميع الأرض السهل والجبل فلم يبق منهم أحد، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه في قوله: {فأدخلوا} في الآخرة التي أوّلها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً {ناراً} أي: عظيمة جداً أخفها ما يكون من مباديها في البرزخ. قال الملوي: عذبوا في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالحرق. وقال الضحاك: في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى {فلم يجدوا لهم} أي: عندما أناخ الله بهم سطوته، وأحل بهم نقمته {من دون الله} أي: الملك الأعظم الذي تضمحل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته {أنصاراً} تنصرهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما أراده سبحانه من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوّتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه عليه السلام ومن آمن معه على ضعفهم وقلتهم لم يفقد منهم أحد لكونهم أولياءه كما أنه لم يسلم ممن أراد إغراقهم أحد على كثرتهم وقوّتهم. قال البقاعي: فمن قال عن عوج ما تقوله القصّاص فهو ضلال أشدّ ضلال، قال: وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة، وزاد في الحط عليه وعلى ابن الفارض وعلى الحلاج وعلى من شابههم، وأمر هؤلاء إلى الله تعالى، فإنه العالم بحقائق الأمور وما تخفي الصدور. {وقال نوح} وأسقط الأداة كما هو عادة أهل الحضرة فقال: {رب لا تذر} أي: لا تترك {على الأرض} أي: كلها {من الكافرين} أي: الراسخين في الكفر {دياراً} أي: أحداً يدور فيها وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي فيعال من الدور أو الدار لا فعال وإلا لكان دواراً. قال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فأجاب الله تعالى دعوته وأغرق أمّته وهذا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ منزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم» . وقيل: سبب دعائه أنّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفه فمرّ بنوح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 عليه السلام فقال: احذر هذا فإنه يضلك، فقال: يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجه فحينئذ غضب ودعا عليهم. فإن قيل: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ أجيب: بأنهم أغرقوا معهم لا على وجه العقاب ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت وكم منهم من يموت بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى» . وعن الحسن أنه سئل عن ذلك؟ فقال: علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقال محمد بن كعب ومقاتل: إنما قال هذا حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام أمّهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة فأخبر الله تعالى نوحاً عليه السلام أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} (هود: 36) فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم كلهم، ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب لأنّ الله تعالى قال: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} (الفرقان: 37) ولم يوجد التكذيب من الأطفال. وقال ابن عربي: دعا نوح عليه السلام على الكافرين أجمعين، ودعا النبيّ صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وكفى بهذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة، وأمّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه، لأنّ مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبيّ صلى الله عليه وسلم عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بما لهم وما كشف الله له من الغطاء عن حالهم. ولما كان الرسل عليهم السلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما كان فيه مصلحة الدين علل دعاءه بقوله: {إنك} أي: يا رب {إن تذرهم} أي: تتركهم على أيّ حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض ولو كانت حالة دنيئة {يضلوا عبادك} أي: الذين آمنوا بك وبي والذين يولدون على الفطرة السليمة {ولا يلدوا} أي: إن قدرت بقاءهم {إلا فاجراً} أي: مارقاً عن كل ما ينبغي الاعتصام به {كفاراً} أي: بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله. فإن قيل: بم علم أنّ أولادهم يكفرون وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ أجيب: بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: احذر من هذا فإنه كذاب، وإنّ أبي حذرنيه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقد أخبر الله تعالى: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} . ومعنى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} : لم يلدوا إلا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه كقوله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلاً فله سلبه» . ولما دعا على أعداء الله تعالى دعا لأوليائه وبدأ بنفسه فقال مسقط الأداة على عادة أهل الخصوص: {ربّ} أي: أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني {اغفر لي} أي: فإنه لا يسعني ـ وإن كنت معصوماً ـ إلا حلمك وعفوك ومغفرتك، {ولوالديّ} وكانا مؤمنين يريد أبويه اسم أبيه لمك بن متوشلخ، وأمّه شمخا بنت أنوش. وعن ابن عباس: لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليه السلام، وقيل: هما آدم وحوّاء وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال: {ولمن دخل بيتي} أي: منزلي، وقيل: مسجدي، وقيل: سفينتي {مؤمناً} أي: مصدّقاً بالله تعالى فمؤمناً حال، وعن ابن عباس: أي: دخل في ديني. فإن قيل: على هذا يصير قوله: {مؤمناً} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 تكراراً؟ أجيب: بأنّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً وقد لا يكون، فالمعنى ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلب. {وللمؤمنين والمؤمنات} خص نفسه أوّلاً بالدعاء، ثم من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: من قومه والأوّل أولى وأظهر. ثم ختم الكلام مرّة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال: {ولا تزد الظالمين} أي: العريقين في الظلم في حال من الأحوال {إلا تباراً} أي: هلاكاً مدمراً والمراد بالظالمين الكافرون، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. وتباراً مفعول ثان والاستثناء مفرغ. وقيل: الهلاك الخسران. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام» حديث موضوع. سورة الجن وتسمى سورة قل أوحي مكية وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وخمسوثمانون كلمة، وثمانمائة وسبعون حرفاً {بسم الله} المحيط بالكمال {الرحمن} الذي عمّ برحمته الناس بالإرسال {الرحيم} الذي خص من بين أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال. ولما كان نوح عليه السلام أوّل رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم ناسب ذكره بعد نوح، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي: يا أشرف الرسل للناس {أوحي إليّ} وقال ابن عباس: قل يا محمد لأمّتك: أوحي إليّ على لسان جبريل {أنه استمع نفر من الجنّ} والنفر الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة قال البغوي: وكانوا تسعة من جنّ نصيبين، وقيل: كانوا سبعة وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو وأصحابه بنخلة قاصدين سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء» . وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره؟ قال أبو حيان: المشهور أنه هو. وقيل: غيره، والجنّ الذين أتوه جنّ نصيبين والذين أتوه بنخلة جنّ نينوى، والسورة التي استمعوها قال عكرمة العلق، وقيل: الرحمن، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم. وعن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ، فمن يذهب؟ فسكتوا ثم قال الثانية، فسكتوا ثم قال الثالثة، فقلت: أنا أذهب معك يا رسول الله. قال: فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطاً فقال: لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 أمثال الحجل كأنهم رجال الزط ـ قال ابن الأثير في النهاية: الزط قوم من السودان والهنود، وكأنّ وجوههم المكاكي، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه ـ فغاب عن بصري فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت لا أراهم» . وفي رواية أخرى «قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قال: أنا نبي. قالوا: فمن يشهد لك على ذلك، فقال: هذه الشجرة تعالي يا شجرة، فجاءت تجرّ عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: على ماذا تشهدين فيّ؟ قالت: أشهد أنك رسول الله، قال: اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود: فلما عاد إليّ قال: أردت أن تأتيني قلت: نعم يا رسول الله. قال: ما كان ذلك لك هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزوّدتهم العظم والبعر فلا يستطيبن ـ أي يستنجي ـ أحدكم بعظم ولا بعر» وفي رواية: «أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ، فقال: هل من وضوء؟ قال: لا إلا أنّ معي إداوة نبيذ فقال: هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه» . قال الرازي: وطريق الجمع بين رواية ابن عباس ورواية ابن مسعود من وجوه: أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أوّلاً، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روي عن ابن مسعود أي فالواقعة متعدّدة. ثانيها: أنها واقعة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا عرف ماذا قالوا ولا أيّ شيء فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا. ثالثها: أنها كانت واحدة وأنه صلى الله عليه وسلم رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم قالوا لهم على سبيل الحكاية {إنا سمعنا قرآناً عجباً} وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما قالوه لقومهم. قال ابن عربي: ابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقال القرطبي: إنّ الجنّ أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دفعتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية: بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. وقال البيهقي: الذي حكاه ابن مسعود إنما هو في أوّل ما سمعت الجنّ قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ابن عباس، ثم أتاه داعي الجنّ مرّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه ابن مسعود. وقال القشيري: لما رجم إبليس بالشهب فرّق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم أتوا قومهم فقالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته، وجاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومه فأسلموا فذلك قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً} (الأحقاف: 29) الآيات. {فقالوا} أي: فتسبب عن استماعهم أن قالوا {إنا سمعنا} أي: حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا {قرآنا} أي: كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما يحتاج إليه، وقرأ ابن كثير بالنقل وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف دون الوصل والباقون بغير نقل وقفاً ووصلاً. ثم وصفوا القرآن بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا: {عجباً} أي: بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن جميع الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب. {يهدي} أي: يبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 غاية البيان {إلى الرشد} أي: الحق والصواب {فآمنا} أي: كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع {به} أي: القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله. {ولن نشرك بربنا أحداً} أي: لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي: واعلم أنّ قوله تعالى: {قل} أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد: أحدها: أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها: أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثالثها: أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها: أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا. خامسها: أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس. تنبيهات: أحدها: اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهوداً. وذكر الحسن أنّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين. ثانيها: اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان: أحدهما وهو قول الحسن: يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد: لا يدخلونها. ثالثها: قال القرطبي: قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ، وقالوا: إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات. ثم عطفوا على قولهم إنا سمعنا {وأنه} أي: الشأن العظيم قال الجنّ {تعالى} أي: انتهى في العلوّ إلى حدّ لا يستطاع {جدّ} أي: عظمة وسلطان وكمال غنى {ربنا} يقال: جدّ الرجل إذا عظم ومنه قول أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم قدره. وقال السدي: جدّ ربنا أي أمر ربنا. وقال الحسن: غني ربنا. ومنه قيل: الحظ جدّ، ورجل مجدود، أي: محظوظ. وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . قال أبو عبيد والخليل: أي ذا الغنى منك الغنى إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرة ربنا. وقال الضحاك: فعله. وقال القرطبي: آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش: علا ملكُ ربنا، والأولى جميع هذه المعاني، وقرأ {وأنه تعالى جدّ ربنا} وما بعده إلى قوله تعالى: {وأنا منا المسلمون} وهي اثنا عشر موضعاً ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة في الجميع والباقون بالكسر. ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالاً للباطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 {ما اتخذ صاحبة} أي: زوجة؛ لأن الصاحبة لا بدّ وأن تكون من نوع صاحبها، ومن له نوع فهو مركب تركيباً عقلياً من صفة مشتركة وصفة مميزة {ولا ولداً} لأنّ الولد لا بدّ وأن يكون جزءاً منفصلاً عن والده ومن له أجزاء فهو مركب تركيباً حسياً، ومن المقطوع به أنّ ذلك لا يكون إلا لمحتاج وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي. قال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجدّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم فتجنبه أولى. أي: لأنه قيل إنهم عنوا بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ويكون ذلك من قول الجنّ. قال ابن جعفر الصادق: ليس لله تعالى جدّ وإنما قاله الجنّ للجهالة فلم يؤاخذوا به. وقال القرطبي: معنى الآية {وأنه تعالى جدّ ربنا} أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما، والرب تعالى عن ذلك كما تعالى عن الأنداد والنظراء. {وأنه} أي: وقالوا: إنّ الشأن هذا على قراءة الكسر وآمنا بأنه على قراءة الفتح. {كان يقول} أي: قولاً هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة {سفيهنا} هو للجنس، فيتناول إبليس رأس الجنس تناولاً أوّلياً وكل من تبعه ممن لم يعرف الله تعالى، لأنّ ثمرة العقل العلم، وثمرة العلم معرفة الله تعالى، فمن لم يعرفه فهو الذي يقول {على الله} الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه {شططاً} أي: كذباً وعدواناً، وهو وصفه بالشريك والولد. والشطط والإشطاط الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. وقال الكلبي: هو الكذب، وأصله: البعد فعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق. {وأنا} أي: يا معشر المسلمين من الجنّ {ظننا} أي: حسبنا لسلامة فطرتنا {أن} أي: أنه وزادوا في التأكيد فقالوا {لن تقول} وبدؤوا بأفضل الجنسين فقالوا {الإنس} وأتبعوهم قرناءهم، فقالوا {والجنّ على الله} أي: الملك الأعلى الذي بيده النفع والضرّ {كذباً} أي: قولاً هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب، وإنما كنا نظنهم صادقين في قولهم إنّ لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق قيل انقطع الإخبار عن الجنّ ههنا. {وأنه} أي: الشان {كان رجال} أي: ذوو قوة وبأس {من الإنس} أي: النوع الظاهر في عالم الحس {يعوذون} أي: يلتجئون ويعتصمون خوفاً على أنفسهم وما معهم إذا نزلوا وادياً {برجال من الجنّ} أي: القبيل المستتر عن الأبصار، وذلك أنّ القوم منهم كانوا إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجنّ في بعض الأحيان؛ لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله ولا دين صحيح ولا كتاب من الله تعالى صريح، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم، فكان الرجل يقول عند نزوله: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في أمن وفي جوار منهم حتى يصبح فلا يرى إلا خيراً، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته، قال مقاتل: كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى وتركوهم. وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي وقال: يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فكان ذلك فتنة للإنس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فزادوهم} أي: الإنس والجن باستعاذتهم {رهقاً} أي: ضيقاً وشدّة وغشياناً، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد: الرهق: الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى: {وترهقهم ذلة} (يونس: 27) وقال الأعشى: *لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا* يعني إثماً، وقال مجاهد أيضاً: زادوهم أي: أنّ الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوّذ حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن، وقيل: لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن، فكان الرجل مثلاً يقول: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن. تنبيه: قوله تعالى: {من الإنس} صفة لرجال وكذا قوله {من الجنّ} . {وأنهم} ، أي: الإنس {ظنوا} والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر {كما ظننتم} أي: أيها الجنّ ويجوز العكس {أن} مخففة أي: أنه {لن يبعث الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {أحداً} أي: بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، أو أحداً من الرسل يزيل به عماية الجهل، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين. قال الجن: {وأنا لمسنا السماء} أي: زمن استراق السمع منها. قال الكلبي: السماء الدنيا أي: التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا من استماع ما تغوي به الإنس، واللمس المس فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرّف، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها {فوجدناها} في وجد وجهان: أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قولهم {ملئت} في موضع نصب على الحال على إضمار قد. والثاني: أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون {حرساً} منصوباً على التمييز، نحو: امتلأ الإناء ماء، والحرس اسم جمع لحارس نحو: خدم لخادم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيراً على أحراس، والحارس الحافظ الرقيب، والمصدر الحراسة و {شديداً} صفة لحرس على اللفظ، ولو جاء على المعنى لقيل شداداً بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شداداً كقولك: السلف الصالح، يعني الصالحين. قال القرطبيّ: ويجوز أن يكون حرساً مصدراً على معنى حرست حراسة شديدة {وشهباً} جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع. {وأنا كنا} أي: فيما مضى {نقعد منها} أي: السماء {مقاعد} أي: كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة {للسمع} أي: أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدُنَّ معها الكذب. {فمن يستمع الآن} أي: في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط {يجد له} أي: لأجله {شهاباً} أي: شعلة من نار ساطعة تحرقه {رصداً} أي: أرصد به ليرمى به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 تنبيه: اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب، وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين ورموا بالشهب، قال الزمخشري: والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية، قال بشر بن أبي حازم: *والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفها انقضاض الكوكب* ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلاً. وعن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد} ؟ قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية» ؟ فقالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال صلى الله عليه وسلم «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، فتسأل أهل السماء حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء» . وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة قال ابن عادل: وهذا قول الأكثرين. فإن قيل: كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوماً لهم؟ أجيب: بأنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي: والرصد قيل من الملائكة أي ورصداً من الملائكة، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وقيل: الرصد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول. واختلف فيمن قال {وأنا لا ندري} أي: بوجه من الوجوه {أشر أريد} أي: بعدم استراق السمع {بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم} أي: المحسن إليهم المدبر لهم {رشداً} أي: خيراً فقال ابن زيد: معنى الآية أن إبليس قال: لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عقاباً أو يرسل إليهم رسولاً. وقيل: هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم أي: لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذَّب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: قالوا لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض، فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون. قال الجنّ {وأنا منا الصالحون} أي: العريقون في صفة الصلاح، قال الجلال المحلي بعد استماع القرآن {ومنا دون ذلك} أي: قوم غير صالحين {كنا} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 كوناً هو كالجبلة {طرائق قدداً} أي: جماعات متفرّقين وأصنافاً مختلفة، قال سعيد بن المسيب: معنى الآية كنا مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً، وقال الحسن والسدّي: الجنّ أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة وخوارج وشيعة وسنية. وقال ابن كيسان: شيعاً وفرقاً لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير: ألواناً شتى. وقال أبو عبيدة: أصنافاً وقيل: منا الصالحون ومنا المؤمنون، لم يتناهوا في الصلاح. قال القرطبي: والأوّل أحسن لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه} وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة. تنبيه: القدد جمع قدة والمراد بها الطريقة وأصلها السيرة، يقال: قدة فلان حسنة، أي: سيرته وهو من قدّ السير، أي: قطعه، فاستعير للسيرة المعتدلة. قال الشاعر: *القابض الباسط الهادي بطلعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد* وقال لبيد يرثي أخاه: *لم تبلغ العين كل نهمتها ... يوم تمشي الجياد بالقدد* والقد بالكسر سير يقد من جلد غير مدبوغ، ويقال: ما له قد ولا قحف، فالقد إناء من جلد والقحف إناء من خشب. {وأنا ظننا أن لن نعجز الله} أي: وإنا علمنا وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله أنا في قبضة الملك وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له. تنبيه: أطلقوا الظنّ على العلم إشارة إلى أنّ العاقل ينبغي له أن يتجنب ما يتخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع التخيل، فكيف إذا تيقن. وقولهم {في الأرض} حال، وكذلك هرباً في قولهم {ولن نعجزه} أي: بوجه من الوجوه {هرباً} فإنه مصدر في موضع الحال تقديره لا نفوته كائنين في الأرض أو هاربين منها إلى السماء، فليس لنا مهرب إلا في قبضته فأين أم إلى أين المهرب. {وأنا لما سمعنا} أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم {الهدى} أي: القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوّغ أن يطلق عليه نفس الهدى {آمنا به} وبالله وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم على رسالته وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجنّ. قال الحسن: بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى قط رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء، وذلك لقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} (يوسف: 109) وفي الصحيح: «وبُعثت إلى الأحمر والأسود» أي الإنس والجنّ، وفي إرساله إلى الملائكة خلاف قدّمنا الكلام عليه. {فمن يؤمن بربه} أي: المحسن إليه منا ومن غيرنا {فلا} أي: فهو خاصة لا {يخاف بخساً ولا رهقاً} قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته لأن البخس النقصان والرهق العدوان وغشيان المحارم. {وأنا منا} أي: الجن {المسلمون} أي: المخلصون في صفة الإسلام {ومنا القاسطون} أي: الجائرون أي: وإنا بعد سماع القرآن مختلفون فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط الجائر لأنه عدل عن الحق، والمقسط العادل إلى الحق، قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل فقسط الثلاثي بمعنى جار، وأقسط الرباعي بمعنى عدل. وعن سعيد بن جبير: أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل. فقال القوم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجاج: يا جهلة إنما سماني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} . {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام: 1) {فمن أسلم} أي: أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه من الجن وغيرهم {فأولئك} أي: العالو الرتبة {تحرّوا} أي: توخوا وقصدوا مجتهدين {رشداً} أي: صواباً عظيماً وسداداً كان لما عندهم من النقائص شارداً عنهم، فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً. {وأما القاسطون} أي: العريقون في صفة الجور عن الصواب من الإنس والجن، فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحرّوا لها فضلوا فأبعدوا عن الطريق القويم فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها. {فكانوا لجهنم} أي: النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة {حطباً} أي: توقد بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء، مادامت تتقدّ لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون. تنبيه: قوله تعالى: {فكانوا} ، أي: في علم الله عز وجلّ. فإن قيل: لم ذكروا عقاب القاسطين ولم يذكروا ثواب المسلمين؟ أجيب: بأنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر وطووا ما يحب للعلم به لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً بل لا بد أن يزيد عليه تسعة أضعافه وعنده المزيد أو أنهم ذكروه بقولهم {تحرّوا رشداً} أي: تحرّوا رشداً عظيماً لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب. فإن قيل: إنّ الجنّ مخلوقون من النار فكيف يكونون حطباً للنار؟ أجيب: بأنهم وإن خلقوا منها لكنهم يغيرون عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً ودماً هكذا قيل وهذا آخر كلام الجن. وأن في قوله تعالى: {وأن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: وأنهم وهو معطوف على أنه استمع أي وأوحي إلي أنّ الشأن العظيم. {لو استقاموا على الطريقة} أي: طريقة الإسلام {لأسقيناهم} أي: لجعلنا لهم بما لنا من العظمة {ماء غدقاً} أي: لو آمن هؤلاء الكفار لَوَسّعنا عليهم في الدنيا ولبسطنا لهم في الرزق. وضرب الماء الغدق مثلاً، لأنّ الخير والرزق كله في المطر، كما قال تعالى {ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم} (الأعراف: 96) الآية. وقال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} (المائدة: 66) الآية. وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} (الطلاق: 2) الآية. وقال تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً} إلى قوله: {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح: 10 ـ 12) الآية. {لنفتنهم} أي: نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة {فيه} أي: في ذلك الماء الذي تكون عنده أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر. قال الرازي: وهذا بعدما حبس عنهم المطر سنين ا. هـ. قال الجلال المحلي: سبع سنين. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. وقال الحسن وغيره: كانوا سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان رضي الله تعالى عنه. قال البقاعي: ويجوز أن يكون مستعاراً للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للنفوس كالنفوس للأبدان، وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم والرذائل في الدنيا والنعم في الآخرة من فتنت الذهب، إذا: خلصته من غشه. {ومن يعرض} أي: إعراضاً مستمراً إلى الموت {عن ذكر ربه} أي: مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره. وقيل: المراد بالذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 القرآن، وقيل: الوحي. وقيل: الموعظة. {نسلكه} أي: ندخله {عذاباً} يكون مظروفاً فيه كالخيط في ثقب الخرزة في غاية الضيق {صعداً} أي: شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً. وقال ابن عباس: هو جبل في جهنم. قال الخدري: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أنّ المعنى مشقة من العذاب، لأنّ الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شق عليك، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدني في خطبة النكاح، يريد ما شق علي وما غلبني والمشي في الصعود يشق. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرة ملساء يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضاً الصعود فذاك دأبه أبداً وهو قوله تعالى: {سأرهقه صعوداً} (المدثر: 17) وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة لإعادة الضمير على الله تعالى والباقون بالنون على الالتفات وهذا كما في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء: 10) ثم قال: {باركنا حوله لنريه من آياتنا} (الإسراء: 1) واتفقوا على فتح الهمزة في قوله تعالى: {وأن} أي: وأوحي إليَّ أنّ {المساجد لله} أي: مختصة بالملك الأعظم والمساجد قيل جمع مسجد بالكسر وهو موضع السجود، وقال الحسن: أراد بها كل البقاع لأنّ الأرض جعلت كلها مسجداً للنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أينما كنتم فصلوا وأينما صليتم فهو مسجد» . وقيل: إنه جمع مسجد بالفتح مراداً به الأعضاء الواردة في الحديث: الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان وهو قول سعيد بن المسيب، وابن حبيب. والمعنى: أنّ هذه الأعضاء أنعم الله تعالى بها عليك فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها، قال صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب» . قال ابن الأثير: الآراب الأعضاء. وهذا القول اختاره ابن الأنباري. وقيل: بل جمع مسجد وهو مصدر بمعنى السجود ويكون الجمع لاختلاف الأنواع. وقال القرطبي: المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة قال سعيد بن جبير: قالت الجنّ: كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت {وأنّ المساجد لله} أي: بنيت لذكر الله تعالى وطاعته. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة مساجد لأنّ كل أحد يسجد إليها. قال القرطبي: والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة أظهر الأقوال إن شاء الله تعالى وهو مروي عن ابن عباس، وإضافة المساجد إلى الله تعالى إضافة تشريف وتكريم وخص منها المسجد العتيق بالذكر فقال تعالى {وطهر بيتي} (الحج: 26) وهي وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً قد تنسب إلى غيره تعريفاً قال صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وفي رواية: «إن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا» . قال القرطبي: وهذا حديث صحيح. وفي حديث سَابَق صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، ويقال مسجد فلان لأنه حبسه ولا خلاف بين الأمّة في تحبيس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك. {فلا تدعوا} أي: فلا تعبدوا أيها المخلوقون {مع الله} الذي له جميع العظمة {أحداً} وهذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله تعالى غيره في المسجد الحرام، وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها يقول: فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد، وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيباً وفي الصحيح: «من نشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تبن لهذا» وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله؛ لأنّ قوله تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحداً} في ضمنه أمر بذكر الله تعالى ودعائه، وروى الضحاك عن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} اللهمّ عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار، فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى، وقال: اللهمّ صب عليّ الخير صباً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الأرض جدّاً» أي: غنى. وقرأ {وأنه} نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بالفتح أي وأوحي إليّ أنه {لما قام عبد الله} أي: عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال، فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله وعبد الله هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن. فإن قيل: هلا قيل رسول الله أو النبي؟ أجيب: بأنّ تقديره وأوحي، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأنّ المعنى أنّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر حتى تكونوا عليه لبداً، ومعنى {يدعوه} أي: يعبده وقال ابن جريج: يدعوه أي قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحال أي موحداً له {كادوا} أي: قرب الجنّ المستمعون لقراءته {يكونون عليه} أي: على عبد الله {لبداً} أي: متراكمين بعضهم على بعض من شدّة ازدحامهم حرصاً على سماع القرآن وقيل: كادوا يركبونه حرصاً قاله الضحاك. وقال ابن عباس: رغبة في سماع القرآن وروي عن مكحول أنّ الجنّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر، وعن ابن عباس أيضاً أنّ هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليبطلوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبري أن يكون كادت العرب يجتمعون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به، وقرأ هشام بضم اللام والباقون بكسرها، فالأولى جمع لبدة بضم اللام نحو غرفة وغرف. وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات، وعليه قوله تعالى: {مالاً لبداً} (البلد: 6) وأمّا الثانية فجمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب واللبدة واللبدة الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد كقول زهير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 *لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم* ومنه اللبد لتلبد بعضه فوق بعض. ولما قال كفار قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك {قال} صلى الله عليه وسلم مجيباً لهم {إنما أدعو ربي} أي: الذي أوجدني ورباني ولا نعمة عندي إلا منه وحده لا أدعو غيره حتى تعجبوا مني {ولا أشرك به} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان بوجه من الوجوه {أحداً} من ودّ وسواع ويغوث ويعوق وغيرها من الصامت والناطق، وقرأ عاصم وحمزة قل بصيغة الأمر التفاتاً، أي: قل يا محمد والباقون قال بصيغة الماضي والخبر إخباراً عن عبد الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال الجحدري: وهو في المصحف كذلك وقد تقدّم لذلك نظائر في {قل سبحان ربي} (الإسراء: 93) في آخر الإسراء وكذا في أوّل الأنبياء وآخرها وآخر المؤمنين. {قل} أي: يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك {إني لا أملك لكم} أي: الآن ولا بعده بنفسي من غير إقدار الله تعالى لي {ضراً ولا رشداً} أي: لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق إليكم خيراً، وقيل: لا أملك لكم ضراً أي كفراً ولا رشداً أي هدى؛ لأنه لا يؤثر شيء من الأشياء إلا الله تعالى، وإنما عليّ البلاغ. وقيل: الضر الموت والرشد الحياة. {قل} أي: لهؤلاء {إني} وزاد في التأكيد لأنّ ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال: {لن يجيرني} أي: فيدفع عني ما يدفع المجير عن جاره {من الله} أي: الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {أحد} أي: كائن من كان إن أرادني سبحانه بسوء {ولن أجد} أي: أصلاً {من دونه} أي: الله تعالى {ملتحداً} أي: معدلاً وموضع ميل وركون ومدخلاً وملتجأ وحيلة وإن اجتهدت كل الجهد، والملتحد الملجأ وأصله المدخل من اللحد وقيل: محيصاً ومعدلاً. وقوله: {إلا بلاغاً} فيه أوجه أحدها: أنه استثناء منقطع أي لكن إن بلغت عن الله رحمني لأنّ البلاغ عن الله لا يكون داخلاً تحت قوله {ولن أجد من دونه ملتحداً} لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله تعالى وبإعانته وتوفيقه. الثاني: أنه متصل وتأويله أنّ الاستجارة مستعارة من البلاغ إذ هو سببها وسبب رحمته تعالى والمعنى: لن أجد شيئاً أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين: أرجحهما أن يكون بدلاً من {ملتحداً} ؛ لأنّ الكلام غير موجب وهو اختيار الزجاج. الثاني: أنه منصوب على الاستثناء. لثالث: أنه مستثنى من قوله لا أملك، فإنّ التبليغ إرشاد وانتفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة. وقوله: {من الله} أي: الذي أحاط بكلّ شيء قدرة وعلماً فيه وجهان أحدهما: أنّ من بمعنى عن لأن بلغ يتعدّى بها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ألا بلغوا عني» . والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لبلاغاً. قال الزمخشري: من ليست بصلة للتبليغ، وإنما هي بمنزلة من في قوله تعالى: {براءة من الله} (التوبة: 1) بمعنى بلاغاً كائناً من الله. وقوله {ورسالاته} فيه وجهان: أحدهما أنه منصوب نسقاً على بلاغاً كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره. والثاني أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي: إلا بلاغاً عن الله تعالى وعن رسالاته، كذا قدره أبو حيان وجعله هو الظاهر. ويجوز فيه جعل من بمعنى عن، والتجوّز في الحروف مذهب كوفي ومع ذلك فغير منقاس عندهم. {ومن يعص الله} أي: الذي له العظمة كلها {ورسوله} الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 ختم به النبوّة والرسالة، فجعل رسالته محيطة بجميع الملل في التوحيد وغيره على سبيل الحجر {فإن له} أي: خاصة {نار جهنم} أي: التي تلقاه بالعبوسة والغيظ، وقوله تعالى: {خالدين فيها أبداً} حال مقدّرة من الهاء في له. والمعنى: مقدّر خلودهم والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى من فعل ذلك، فوحد أوّلاً للفظ وجمع للمعنى. وأكد بقوله تعالى: {فيها} ردًّا على من يدعي الانقطاع. قال البقاعي: وأمّا من يدعي أنها لا تحرق وأنّ عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من تابعه على ضلاله وغيه ومحاله، وليس لهم دواء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه. وحتى في قوله تعالى: {حتى إذا رأوا} ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا {ما يوعدون} من العذاب في الآخرة أو في الدنيا كوقعة بدر {فسيعلمون} أي: في ذلك اليوم بوعد لا خلف فيه {من أضعف ناصراً} أي: من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم {وأقل عدداً} وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله تعالى، فيالله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم ويذكرون قوّتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك، وله جنود السموات والأرض بخلاف الجبابرة، فإنهم لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء غيرهم. قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً} قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توّعدنا به، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء في جوابهم بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء عن وقت وقوعه {إن} أي: ما {أدري} بوجه من الوجوه {أقريب ما توعدون} أي: فيكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب، وقوله {أم يجعل} أي: أم بعيد يجعل {له} أي: لهذا الوعد {ربي} أي: المحسن إليّ إن قدمه أو أخره {أمداً} أي: أجلاً مضروباً فلا يتوقع دون ذلك الأمد فهو في كل حال متوقع، فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بدّ من وقوعه لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته وليس إليّ. فإن قيل: أليس إنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد؟ أجيب: بأنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، فأمّا معرفة مقدار القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم. تنبيه: أقريب خبر مقدّم وما توعدون مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام، وما توعدون فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون نحو: أقائم أبواك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها. وقوله تعالى: {عالم الغيب} بدل من ربي أو بيان أو خبر مبتدأ مضمر، أي: هو عالم الغيب كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص بعلمه سبحانه فلذلك سبب عنه قوله تعالى: {فلا يظهر} أي: بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات. {على غيبه} الذي غيبه عن غيره فهو مختص به {أحداً} لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك. {إلا من ارتضى} وقوله تعالى: {من رسول} تبيين لمن ارتضى، أي: إلا من يصطفيه لرسالته ونبوّته فيظهره على ما يشاء من الغيب، وتارة يكون ذلك الرسول ملكاً، وتارة يكون بشراً، وتارة يظهره على ذلك بواسطة ملك، وتارة بغير واسطة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 كموسى عليه السلام في أوقات المناجاة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى. وقال القرطبي: المعنى {فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأنّ الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات كما ورد في التنزيل في قوله تعالى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} (آل عمران: 49) وقال الزمخشري: في هذه الآية إبطال الكرامات لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيها إبطال الكهانة والتنجيم لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ا. هـ. وإنكار الكرامات مذهب المعتزلة. وأمّا مذهب أهل السنة فيثبتونها، فإنه يجوز أن يلهم الله تعالى بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر» أخرجه البخاري. قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون ولمسلم عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمّتي منهم أحد، فإنّ عمر بن الخطاب منهم» ففي هذا إثبات كرامات الأولياء. فإن قيل: لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي من غيرها وانسدّ الطريق إلى معرفة الرسول من غيره؟ أجيب: بأنّ معجزة النبي أمرخارق للعادة مع عدم المعارضة مقترن بالتحدّي، ولا يجوز للولي أن يدّعي خرقاً للعادة مع التحدّي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة. وأمّا الكهانة وما ضاهاها فقال القرطبي: إنّ العلماء قالوا لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصا وينظر في الكواكب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفي الأحوال والرتب، فيهم الملك والسوقة والعالم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير مع اختلاف طوالعهم وتباين مواليدهم ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال قائل: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه فيكون على مقتضى ذلك أنّ هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذاً في عمل المواليد ولا دلالة فيها على شقي وسعيد ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم، ولقد أحسن القائل: *حكم المنجم إن طالع مولدي ... يقضي علي بميتة الغرق* *قل للمنجم صبحة الطوفان هل ... ولد الجميع بكوكب الغرق* وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: تلقهم والقمر في العقرب، فقال: فأين قمرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 وكان ذلك في آخر السنة. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم. وقال له مسافر بن عون: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار. فقال له عليّ: ولم؟ قال له: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت، فقال عليّ: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّاً أو ضدّاً، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال: «لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال: إنما كان ذلك بتنجيمي، وما لمحمد منجم وما لنا بعده، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه» . {فإنه} أي: الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه {يسلك} أي: يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد {من بين يديه} أي: الجهة التي يعلمها ذلك الرسول {ومن خلفه} أي: الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي: ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين {رصداً} أي: حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه. وقال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك بخبر، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره، وإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك. وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك. {ليعلم} أي: الله علم ظهور كقوله تعالى: {حتى نعلم المجاهدين} (محمد: 31) {أن} مخففة من الثقيلة، أي أنه {قد أبلغوا} أي: الرسل {رسالات ربهم} وحد أوّلاً على اللفظ في قوله تعالى {من بين يديه ومن خلفه} ثم جمع على المعنى كقوله تعالى: {فأنّ له نار جهنم خالدين فيها} (التوبة: 63) ، والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان. وقيل: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبريل قد بلغ رسالات ربه. وقيل: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أنّ الرسل قد بلغوا رسالات ربهم. {وأحاط بما لديهم} أي: بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها {وأحصى} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 أي: الله سبحانه وتعالى {كل شيء} أي: من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغير ذلك {عدداً} ولو على أقل المقادير الذرّ فيما لم يزل وفيما لا يزال فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ وقال ابن جبير رضي الله عنه: ليعلم الرسل أنّ ربهم قد أحاط بما لديهم فيبلغوا رسالاته. تنبيه: هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات وبجميع الموجودات. و {عدداً} يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل أحصى عدد كل شيء كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} (القمر: 12) أي: عيون الأرض، وأن يكون منصوباً على الحال، أي: وضبط كل شيء معدوداً محصوراً وأن يكون مصدراً في معنى الإحصاء. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الجنّ كان له بعدد كل جني صدّق محمداً وكذب به عتق رقبة» حديث موضوع. سورة المزمل مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا آيتين منها {واصبر على ما يقولون} والتي تليها ذكره الماوردي، وقال الثعلبي: {إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة. وهي تسع عشرة أو عشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفاً. {بسم الله} الذي من توكل عليه كفاه في جميع الأحوال {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد المهتدي والضال {الرحيم} الذي خص حزبه بالسداد في الأفعال والأقوال. وقوله تعالى: {يا أيها المزمّل} أصله: المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، يقال: ازمّل يتزمّل تزمّلاً، فإذا أريد الإدغام اجتلبت همزة الوصل، وهذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثة أقوال: الأول: قال عكرمة: يا أيها المزمّل بالنبوّة والملتزم للرسالة، وعنه: يا أيها الذي ازمل هذا الأمر، أي: حمله ثم فتر. والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا أيها المزمّل بالقرآن. والثالث: قال قتادة رضي الله عنه: يا أيها المزمّل بثيابه. قال النخعي: كان متزملاً بقطيفة عائشة بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً قالت عائشة رضي الله عنها: «كان نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزى ولا إبريسماً ولا صوفاً كان سداه شعراً ولحمته وبراً» . ذكره الثعلبي، ولحمة الثوب بفتح اللام وضمها والفتح أفصح ولحمة النسب كذلك والضم أفصح ولحمة البازي بالضم لا غير لأنها كاللقمة. قال القرطبي: وهذا القول من عائشة رضي الله عنها يدل على أنّ السورة مدنية، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا بالمدينة، والقول بأنها مكية لا يصح. وقال الضحاك: تزمل لمنامه وقيل: بلغه من المشركين قول سوء فيه فاشتدّ عليه فتزمل وتدثر، فنزلت {يا أيها المزمّل} و {يا أيها المدثر} (المدثر: 1) وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحي إليه «فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي في غار حراء رجع إلى خديجة رضي الله عنها زوجته يرجف فؤاده، فقال: زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي» أي: أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشيطان أو أن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس الملك، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له، وكانت وزيرة صدق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 رضي الله تعالى عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» . ونحو هذا من الكمال الذي يثبت. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في الليل متزملاً في قطيفة، فنبه ونودي بما يهجن تلك الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته، فقيل له {يا أيها المزمّل} {قم الليل} أي: الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس، وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزل عليك من كلامنا، فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البرّ والبحر والسرّ والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة وهي عمادها فذكرها دال على ما عداها. ولما كان للبدن حظ في الراحة قال تعالى مستثنياً من الليل {إلا قليلاً} أي: من كل ليلة، فإن الاشتغال بالنوم فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن ألا ترى إلى قول ذي الرمة: *وكائن تخطت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن نيلها متزمل* يريد الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ونحوه. *سهداً إذا ما نام ليل الهوجل* ومن أمثالهم: *أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل* فذمه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس، وأمر بأن يختار على الهجود التجهد، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله لا جرم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر وأقبلوا على إحياء ليلهم ورفضوا له الرقاد والدعة، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم وظهرت السيما في وجوههم وتراقى أمرهم إلى حدّ رحمهم له ربهم فخفف عنهم، وقال الكلبي: إنما تزمّل صلى الله عليه وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة وهو اختيار الفرّاء فهو على هذا ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه، وعن عكرمة رضي الله عنه أنّ المعنى يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله، والزمل الحمل. قال البغوي: قال الحكماء: كان هذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم في أوّل الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبيّ والرسول، وقال السيهلي: ليس المزمل من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس، وعدّوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما المزمل اسم مشتق من حاله التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدّثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنهما فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب، فقال له: قم أبا تراب» إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه وملاطفة له، وكذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: قم يا نومان» وكان نائماً ملاطفة له وإشعاراً بترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {يا أيها المزمل قم} فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة، والليل مدّة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال القرطبي: واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوّي أنّ قيامه كان فرضاً؛ لأنّ المندوب لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأنّ قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقت. واختلف هل كان فرضاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ على ثلاثة أقوال: الأوّل قول سعيد بن جبير رضي الله عنه لتوجه الخطاب إليه. الثاني: قول ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قيام الليل فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله. والثالث: قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أيضاً أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته لما روى مسلم أنّ هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «ألست تقرأ يا أيها المزمل، فقلت: بلى. فقالت: فإنّ الله عز وجل افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله عز وجلّ في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوّعاً بعد فريضة» وقيل: عسر عليهم تمييز القدر الواجب، فقاموا الليل كله، وشق عليهم فنسخ بقوله تعالى آخرها: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} وكان بين الوجوب ونسخه سنة، وقيل: نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة. وروى وكيع ويعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يا أيها المزمل} كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أوّلها وآخرها نحواً من سنة. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين {إنّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} فخفف الله تعالى عنهم. وقيل: كان قيام الليل واجباً ثم نسخ بالصلوات الخمس. والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعث يوم الإثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة، وقيل: ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل: عليّ رضي الله عنه وهو ابن تسع سنين، وقيل: ابن عشر. وقيل: أبو بكر، وقيل: زيد بن حارثة، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث من مبعثه، فأوّل ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أوّل السورة، ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب، هذا ما ذكره النووي في روضته. وقال في فتاويه: بعد النبوة بخمس أو ست وجعل الليلة من ربيع الأول وخالفهما في شرح مسلم وجزم بأنها من ربيع الآخر وقلد فيها القاضي عياضاً، والذي عليه الأكثر ما في الروضة واستمرّ يصلي إلى بيت المقدس مدّة إقامته بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر، ثم أمر باستقبال الكعبة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريباً وفرضت الزكاة بعد الصوم، وقيل: قبله، وفي السنة الثانية قيل: في نصف شعبان. وقيل: في رجب حوّلت القبلة، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها ابتدأ صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى، ثم فرض الحج سنة ست وقيل: سنة خمس ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا حجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 الوداع، واعتمر أربعاً وتوفيّ صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. فائدة: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون قبل النبوة من الكفر وفي المعاصي خلاف وبعدها من الكبائر وكذا من الصغائر ولو سهواً عند المحققين. وقوله تعالى {نصفه} بدل من قليلاً وقلته بالنظر إلى الكل {أو انقص منه} أي: من النصف {قليلاً} أي: الثلث {أو زد عليه} أي: على النصف إلى الثلثين، وأو للتخيير فكان صلى الله عليه وسلم مخيراً بين هذه المقادير الثلاثة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وكذا بعض أصحابه، واشتدّ ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم وقد تقدّم أنّ ذلك نسخ بإيجاب الصلوات الخمس، فصار قيام الليل تطوعاً فينبغي للمتعبد المواظبة عليه خصوصاً في الوقت الذي يبارك الله تعالى بالتجلي فيه، فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن تشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره، بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء حتى يبقى ثلث الليل، وفي رواية حتى يبقى شطر الليل الآخر إلى سماء الدنيا، فيقول سبحانه هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر. ولما أمر بالقيام وقدّر وقته وعينه أمر بهيئة التلاوة التي هي روح الصلاة على وجه عامّ، فقال تعالى: {ورتل القرآن} أي: اقرأه على ترسل وتؤدة وتبيين حروفه وإشباع حركاته بحيث يتمكن السامع من عدّها ويجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان وأن لا يهذه هذاً ولا يسرده سرداً، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شرّ السير الحقحقة، وشرّ القراءة الهذرمة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر ولكن قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. وقوله تعالى: {ترتيلاً} تأكيد في الأمر به وأنه لا بدّ منه للقارئ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: اقرأ على هينتك ثلاث آيات أو أربعاً أو خمساً، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية» والآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة: 118) وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقالت: «لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفها لعدها» . وسئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت مدًّا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ بسم الله ويمدّ الرحمن ويمدّ الرحيم» . وجاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذاً كهذ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرن بينهنّ فذكر عشرين سورة من المفصل كل سورتين في ركعة. وروى الحسن رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «مرّ برجل يقرأ آية ويبكي فقال ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجلّ: {ورتل القرآن ترتيلاً} هذا الترتيل» . وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن عوف قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أوّل درج الجنة، ويقال له اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» . وندب إصغاء إليه وبكاء عند القراءة وتحسين صوت بها وتعوذ بها جهراً وإعادته لفصل طويل وجلوس لها واستقبال وتدبر وتخشع. وكرهت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 بفم نجس. وجازت بحمام. وهي نظراً في المصحف أفضل منها على ظهر قلب، نعم إن زاد خشوعه وحضور قلبه في القراءة عن ظهر قلب فهي أفضل في حقه. وهي أفضل من ذكر لم يخص بمحل، وحرم توسد مصحف. وندب كتبه وإيضاحه ونقطة وشكله، ويحرم كتبه بنجس ومسه بنجس غير معفوّ عنه، وتحرم القراءة بالشواذ وهي ما نقل آحاداً وبعكس الآي وكره العكس في السور إلا في تعليم. وندب ختم القرآن أوّل نهار وأوّل ليل وختمه في الصلاة أفضل من ختمه خارجها، وندب صيام يوم الختم إلا أن يصادف يوماً نهى الشرع عن صيامه، وندب الدعاء بعده وحضوره. والشروع بعده في ختمة أخرى. وندب كثرة تلاوته. ونسيانه كبيرة وكذا نسيان شيء منه ويحرم تفسيره بلا علم. {إنا} أي: بما لنا من العظمة {سنلقي} أي: بوعد لا خلف فيه {عليك قولاً} أي: قرآناً، واختلف في معنى قوله تعالى {ثقيلاً} فقال قتادة رضي الله عنه: ثقيل والله فرائضه وحدوده. وقال مجاهد رضي الله عنه: حلاله وحرامه. وقال محمد بن كعب رضي الله عنه: ثقيلاً على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ويبطل أديانهم. وقيل: على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وسب آلهتهم. قال السدّي رضي الله عنه: ثقيلاً بمعنى كريم مأخوذ من قولهم: فلان ثقل عليّ، أي: كرم عليّ. وقال الفراء: ثقيلاً، أي رزيناً. وقال الحسن بن الفضل: ثقيلاً أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا ثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل: ثقيل أي ثابت كثبوت الثقيل في محله. ومعناه: إنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً. وقيل: {ثقيلاً} بمعنى: أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا في أحكامه، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدّمون، فعلمنا أنّ الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله. والأولى أن تحمل هذه المعاني كلها فيه. وقيل: المراد هو الوحي كما جاء في الخبر «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي: صدرها على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» . وعن الحارث بن هشام أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهذا أشدّ عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصد عرقاً، أي: يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. وقوله فينفصم عني أي: ينفصل عني ويفارقني، وقد وعيت أي: حفظت ما قال. وقال القشيري: القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر: «لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان» . وقال الزمخشري: هذه الآية اعتراض ثم قال: وأراد بهذا الاعتراض أنّ ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء، فلا بدّ لمن أحياه من مضارّة لطبعه ومجاهدة لنفسه ا. هـ. فالاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة، وذلك أنّ قوله تعالى: {إنّ ناشئة الليل} أي: القيام بعد النوم {هي أشدّ وطأ} أي: موافقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 السمع للقلب على تفهم القرآن هي أشدّ مطابق لقوله: {قم الليل} فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبين، والمعنى: سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولاً ثقيلاً يثقل حمله؛ لأنّ الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ومجاهدة الشيطان، فهو أمر ثقيل على العبد. ولما كان التهجد يجمع القول والفعل وبين ما في الفعل لأنه أشق فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق أتبعه القول فقال: {وأقوم قيلاً} أي: وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب لحضور القلب، لأنّ الأصوات هادية والدنيا ساكتة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه، وقال قتادة ومجاهد رضي الله عنهم: أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم لرياقة الليل بهدوء الأصوات وتجلي الرب سبحانه بحصول البركات وأخلص من الرياء، فبين الله تعالى بهذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار وأنّ الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر وأجلب للثواب. كان عليّ بن الحسين رضي الله عنه يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هو ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم: هو بدء الليل. وقال في الصحاح: ناشئة الليل أوّل ساعاته، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار وهو اختيار مالك، قال ابن عربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة، وقالت عائشة وابن عباس أيضاً ومجاهد رضي الله عنهم: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ومن قام قبل النوم فما قام ناشئة. وقال يمان بن كيسان: هو القيام من آخر الليل. وأما قوله تعالى: {أشدّ وطأ} أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأنّ الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل فقد تحمل المشقة العظيمة، هذا على قراءة كسر الواو وفتح الطاء، وبعدها ألف ممدودة وهمزة منوّنة، وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر، وقرأ الباقون بفتح الواو وسكون الطاء وبعدها همزة منونة فهي مصدر وطأت وطأ ومواطأة أي: وافقت على الأمر من الوفاق تقول: فلان يواطئ اسمه اسمي، أي: يوافقه، فالمعنى أشدّ موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان لانقطاع الأصوات والحركات قاله مجاهد وغيره قال تعالى: {ليواطئوا عدّة ما حرّم الله} (التوبة: 37) أي: ليوافقوا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر» وقيل: أشدّ مهاداً للتصرّف في الفكر والتدبر. وقيل: أشدّ ثباتاً من النهار، فإنّ الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل، والوطء الثبات تقول: وطأت الأرض بقدمي وفي الجملة عبادة الليل أشدّ نشاطاً وأتم إخلاصاً وأكثر بركة وأبلغ في الثواب. {إنّ لك} أي: أيها المتهجد أو يا أكرم الخلق إن كان الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {في النهار} الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا {سبحاً طويلاً} أي: تصرّفاً وتقلباً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك، والسبح: مصدر سبح استعير للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء وهي البعد فيه. وقال القرطبي: السبح الجري والدوران. ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح شديد الجري. وقيل: السبح الفراغ، أي: إنّ لك فراغاً لحاجات النهار. وعن ابن عباس رضي الله عنهما {سبحاً طويلاً} يعني فراغاً طويلاً لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. وقيل: إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه. {واذكر اسم ربك} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 أي: المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي، ودُم على ذلك في ليلك ونهارك واحرص عليه، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص، وذلك عون لك على مصالح الدارين، أما الآخرة فواضح وأما الدنيا فقد أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله تعالى عنها لما سألته خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم. {وتبتل} أي: اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً منتهياً {إليه} ولا تزل على ذلك حتى يصير ذلك لك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع. وقوله تعالى: {تبتيلاً} مصدر تبتل جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتيل، قال الزمخشري: فإن قلت كيف قيل تبتيلاً؟ مكان تبتلاً قلت: لأنّ معنى تبتل بتل نفسه فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل ا. هـ. والتبتيل الانقطاع ومنه امرأة بتول، أي: منقطعة عن النكاح، وفي الحديث أنه نهى عن التبتل وقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي: مؤن النكاح ـ فليتزوج» والمراد به في الآية الكريمة الانقطاع إلى عبادة الله تعالى كما مرّت الإشارة إليه دون ترك النكاح. والتبتل في الأصل: الانقطاع عن الناس والجماعات، وقيل: إن أصله عند العرب التفرّد قاله ابن عرفة، وقال ابن العربي: هذا فيما مضى، وأما اليوم فقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: وانقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله تعالى. وكذلك قال مجاهد رضي الله عنه: معناه أخلص له العبادة ولم يرد التبتيل، فصار التبتل مأموراً به في القرآن منهياً عنه في السنة ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان، وإنما بعث لتبيين ما أنزل إليهم، فالتبتل المأمور به الانقطاع إلى الله تعالى بإخلاص العبادة كما قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة: 5) والتبتل المنهي عنه هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفرّ بدينه من الفتن. ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم بين سبحانه الذي أنعم بسكن الليل الذي أمرنا بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه، فقال تعالى: {رب المشرق} أي: موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه، ويضيء بها الصباح، وعند الصباح يحمد القوم السرى، قال العلامة تقي الدين بن دقيق العيد: *كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح* *واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيل من شكواهم أو يريح* *فقيل تعريسهم ساعة ... وقلت بل ذكراك وهو الصحيح* {والمغرب} أي: الذي يكون عند الليل الذي هو موضع السكون ومحل الخلوات ولذيذ المناجاة، فلا تغرب شمس ولاقمر ولا نجم إلا بتقديره {لاإله} أي: لا معبود بحق {إلا هو} أي: ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأبهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقرأ {رب} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 ابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الباء على البدل من ربك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: لاإله إلا هو، كما تقول: لا أحد في الدار إلا زيد، والباقون برفعها على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره لا إله إلا هو {فاتخذه} أي: خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه {وكيلاً} أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه، فإنه يكفيكها كلها، فإنه المنفرد بالقدرة عليها، ولاشيء في يد غيره فلا تهتم بشيء أصلاً. قال البقاعي: وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ، بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه، فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك بأن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً، ووكيلك من الناس إذا حصل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله. ومن تمسك بهذه الآية عاش حرًّا كريماً ومات خالصاً شريفاً ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل عليه ويبذل له نفسه ويفوّض إليه أمره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته ويتواضع لعظمته. {واصبر على ما يقولون} أي: المخالفون المفهومون من الوكالة من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم ولا تمتنع من دعواهم وفوّض أمرهم إليّ، فإني إذا كنت وكيلاً لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك {واهجرهم} أي: أعرض عنهم {هجراً جميلاً} أي: لا تتعرّض لهم ولا تشتغل بمكافأتهم، فإنّ ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فإنه صلى الله عليه وسلم منع في أوّل الإسلام من قتال الكفار وأمر هو وأصحابه بالصبر على أذاهم بقوله تعالى: {لتبلونّ في أموالكم} (آل عمران: 186) الآية، ثم أمر به إذا ابتدؤوا بقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} (البقرة: 190) ثم أبيح له ابتداؤه في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: 191) {وذرني} أي: اتركني {والمكذبين} أي: لا تحتاج إلى الظفر بمرادك ومشتهاك إلا أن تخلي بيني وبينهم بأن تكل أمرهم إليّ وتستكفينيه، فإن فيّ ما يفرغ بالك، ويجلي همك وليس ثمّ منع حتى تطلب إليه أن تذره وإياه إلا ترك الاستكفاء والتفويض، كأنه إذا لم يكل إليه أمره فكأنه منعه منه فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه. واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة فلم يكن إلا يسيراً حتى قتلوا ببدر. وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً، وقال البغوي: نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقوله تعالى: {أولي النعمة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 نعت للمكذبين أي أصحاب التنعم والترفه. فائدة: النعمة بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرّة. {ومهلهم} أي: اتركهم برفق وتأنّ وتدريج ولا تهتم بشأنهم. وقوله تعالى: {قليلاً} نعت لمصدر، أي: تمهيلاً قليلاً أو لظرف زمان محذوف أي زماناً قليلاً فقتلوا بعد يسير ببدر. وقوله تعالى: {إنّ لدينا أنكالاً} جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا ينفك أبداً وقال الكلبي: أغلالاً من حديد {وجحيماً} أي: ناراً حامية جدًّا شديدة الاتقاد مما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب والتنعم برقيق اللباس وتكلف أنواع الراحة. {وطعاماً ذا غصة} أي: يغص به في الحلق وهو الزقوم أو الضريع أو الغسلين أو الشوك من نار لا يخرج ولا ينزل {وعذاباً أليماً} أي: مؤلماً. ومعنى الآية: أنّ لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا وهي هذه الأمور الأربعة: النكال والجحيم والطعام الذي يغص به والعذاب الأليم، والمراد به سائر أنواع العذاب، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق. وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فجاؤوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. وقوله تعالى: {يوم ترجف} منصوب بالاستقرار المتعلق به لدينا والرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة فتزلزل {الأرض} أي: كلها {والجبال} أي: التي هي أشدّها {وكانت} أي: وتكون {الجبال} التي هي مراسي الأرض وأوتادها وعبر عن شدّة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد، فقال تعالى: {كثيباً} أي: رملاً مجتمعاً، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ومنه الكثبة من اللبن {مهيلاً} قال ابن عباس: رملاً سائلاً يتناثر. وقال الكلبي: هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده. قال القرطبي: وأصله مهيول وهو مفعول من قولك هلت عليه التراب أهيله إهالة وهيلاً إذا صببته، يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول ومعين ومعيون. قال الشاعر: *قد كان قومك يحسبونك سيداً ... وأخال أنك سيد معيون* وقال عليه الصلاة والسلام حين شكوا إليه الجدوبة: «أتكيلون أم تهيلون» ؟ قالوا: نهيل. قال: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه» . وأصل مهيل مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الهاء فالتقى ساكنان، فسيبويه وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة أنّ ما يحذف لالتقاء الساكنين الأوّل، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ مفعل، والكسائي ومن تبعه حذفوا الياء لأنّ القاعدة حذف الأوّل كما مرّ. ولما خوّف تعالى المكذبين أولي النعمة بأهوال يوم القيامة خوّفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أرسلنا إليكم} يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة وإلى كل من بلغته الدعوة عامّة {رسولاً} أي: عظيماً جدًّا، وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمامهم وأجلهم وأفضلهم قدراً {شاهداً عليكم} أي: بما تصنعون ليؤدّي الشهادة عند طلبها منه يوم ننزع من كل أمّة شهيداً وهو يوم القيامة {كما أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {إلى فرعون} أي: ملك مصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 {رسولاً} وهو موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل. قال مقاتل: وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأنّ أهل مكة ازدروا محمداً صلى الله عليه وسلم واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أنّ فرعون ازدرى بموسى عليه السلام لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى حكاية عن فرعون: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء: 18) وذكر الرازي السؤال والجواب. قال ابن عادل: وهو ليس بالقوي لأنّ إبراهيم عليه السلام ولد ونشأ فيما بين قوم نمروذ وكان آزر وزير نمروذ على ما ذكره المفسرون، وكذا القول في هود ونوح وصالح ولوط لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة {أخاهم} لأنه من القبيلة التي بعث إليها انتهى. وقد يقال: الجامع بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام التربية، فإنّ أبا طالب تربى عنده النبيّ صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام تربى عند فرعون ولم يكن ذلك لغيرهما. {فعصى فرعون الرسول} إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه أل العهدية والعرب إذا قدمت اسماً ثم أتوا به ثانياً أتوا به معرفاً بأل أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل أو فأكرمته، ولو قلت فأكرمت رجلاً لتوهم أنه غير الأوّل. وقال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره ولذا اختير في أوّل الكتب سلام عليكم وفي آخرها السلام عليكم. ثم تسبب عن عصيانه قوله تعالى: {فأخذناه} أي: فرعون بما لنا من العظمة، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله تعالى: {أخذاً وبيلاً} أي: ثقيلاً شديداً، وضرب وبيل وعذاب وبيل، أي: شديد قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه مطر وابل، أي: شديد قاله الأخفش. وقال الزجاج: أي: ثقيلاً غليظاً ومنه قيل للمطر وابل، وقيل: مهلكاً. والمعنى: عاقبناه عقوبة غليظة، وفي ذلك تخويف لأهل مكة. ثم خوّفهم بيوم القيامة فقال تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم} أي: توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم إذا كفرتم في الدنيا، والمعنى: لا سبيل لكم إلى التقوى إذا رأيتم القيامة. وقيل: معناه: فكيف تتقون العذاب يوم القيامة إذا كفرتم في الدنيا. وقوله تعالى: {يوماً} مفعول تتقون أي: عذابه أي: بأي حصن تتحصنون من عذاب الله يوم {يجعل الولدان} وقوله تعالى {شيباً} جمع أشيب، والأصل في الشين الضم وكسرت لمجانسة الياء، ويقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، وهو مجاز، ويجوز أن يراد في الآية الحقيقة والمعنى: يصيرون شيوخاً شمطاً من هول ذلك اليوم وشدّته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام قم: فابعث بعث النار من ذريتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك ـ وفي رواية والخير بين يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار. قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد} (الحج: 2) فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أبشروا، فإنّ من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرقة في ذراع الحمار ـ وهي بفتح الراء وسكون القاف الأثر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 الذي في بطن عضد الحمار ـ وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبر القوم، ثم قال: فثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبروا» وفي هذا إشارة إلى الاعتناء بهم لأنّ إعطاء الإنسان مرّة بعد مرّة دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفي هذا أيضاً حملهم على تجديد شكر الله تعالى وحمده على إنعامه عليهم وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة. ثم وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى: {السماء منفطر} أي: ذات انفطار أي: انشقاق {به} أي: بسبب ذلك اليوم لشدّته فالباء سببية، وجوّز الزمخشري أن تكون للاستعانة فإنه قال: والباء في به مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به. وقال القرطبي: معنى به أي: فيه أي: في ذلك اليوم. وقيل: به أي: بالأمر أي: السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً، وقيل: منفطر بالله أي: بأمره. تنبيه: إنما لم تؤنث الصفة لوجوه، منها: قال أبو عمرو بن العلاء: لأنها بمعنى السقف تقول هذا سماء البيت قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32) . ومنها أنها على النسبة أي: ذات انفطار، نحو امرأة مرضع وحائض أي: ذات إرضاع وذات حيض. ومنها أنها تذكر وتؤنث أنشد الفراء: *فلو رفع السماء إليه قوماً ... لحقنا بالسماء وبالسحاب ومنها: أنه اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء فيقال: سماءة واسم الجنس يذكر ويؤنث ولهذا قال أبو علي الفارسي: هو كقوله تعالى {منتشر} (القمر: 7) و {أعجاز نخل منعقر} (القمر: 20) يعني: فجاء على أحد الجائزين، أو لأنّ تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز تذكيره. قال الشاعر: * ................... والمها ... بالإثمد الحبرى مكحول* والضمير في قوله تعالى: {كان وعده مفعولاً} يجوز أن يكون لله وإن لم يجر له ذكر للعلم به فيكون المصدر مضافاً لفاعله، ويجوز أن يكون لليوم فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو الله تعالى مقدّر. قال المفسرون: كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله. {إن هذه} أي: الآيات الناطقة بالوعيد الشديد أو السورة {تذكرة} أي: تذكير عظيم هو أهل لأن يتعظ به، ويعتبر به المعتبر ولاسيما ما ذكر فيها لأهل الكفر من العذاب. ولما كان سبحانه قد جعل للإنسان عقلاً يدرك به الحسن والقبيح واختياراً يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قهر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها سبب عن ذلك قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ} أي: بغاية جهده {إلى ربه} أي: المحسن إليه خاصة لا إلى غيره {سبيلاً} أي: طريقاً إلى رضاه ورحمته فليرغب فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} (المدثر: 55) قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ. {إنّ ربك} أي: المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك {يعلم أنك تقوم} أي: في الصلاة كما أمرت به أوّل السورة {أدنى} أي: زماناً أقل والأدنى مشترك بين الأقرب والأدون الأنزل رتبة؛ لأنّ كلاً منهما يلزم عنه قلة المسافة. {من ثلثي الليل} وقرأ {ونصفه وثلثه} ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصب الفاء بعد الصاد ونصب المثلثة بعد اللام ورفع الهاء فيهما عطف على أدنى والباقون بكسر الفاء والمثلثة وكسر الهاء فيهما عطف على ضمير تقوم وقيامه كذلك مطابق لما وقع التخيير فيه أوّل السورة من قيام النصف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 بتمامه، أو الناقص منه وهو الثلث، أو الزائد عليه وهو الثلثان، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع. وقوله تعالى: {وطائفة من الذين معك} عطف على ضمير تقوم، وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسي به، ومنهم من كان لا يدري كم يصلي من الليل وكم بقي منه، فكان يقوم الليل كله احتياطاً فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة وأكثر، فخفف عنهم بقوله تعالى: {والله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يقدّر} أي: تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير {الليل والنهار} أي: هو العالم بمقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل والذي تنامون منه. {علم أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: أنه {لن تحصوه} أي: الليل لتقوموا فيما يجب القيام فيه إلا بقيام جميعه، وذلك يشق عليكم {فتاب عليكم} أي: رجع بكم إلى التخفيف بالترخص لكم في ترك القيام المقدّر أوّل السورة. وقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر} أي: سهل {من القرآن} فيه قولان: أحدهما أن المراد بهذه القراءة القراءة في الصلاة، وذلك أنّ القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى: فصلوا ما تيسر عليكم، قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء. قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أوّل ركعة بالحمد وأوّل آية من البقرة ثم ركع، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع، فلما انصرف أقبل علينا، فقال: إنّ الله تعالى يقول: {فاقرؤوا ما تيسر منه} . قال القشيري: والمشهور أنّ نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: بل نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً، وإذا ثبت أنّ القيام ليس فرضاً فقوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} معناه: اقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم. والقول الثاني: أنّ المراد بقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} دراسته وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان سواء كان في صلاة أم غيرها، قال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسين آية. قال القرطبي: قول كعب أصح لقوله صلى الله عليه وسلم «من قام بعشر آيات من القرآن لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» خرجه أبو داود والطيالسي. وروى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر» فقوله من المقنطرين أي: أعطي قنطاراً من الأجر. وجاء في الحديث «أنه ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض» . وقال أبو عبيدة: القناطير واحدها قنطار، ولا تجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه. وقال ثعلب: المعوّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة، فهي اثنا عشر ألف دينار. وقيل: إنّ القنطار ملء جلد ثور ذهباً. وقيل: ثمانون ألفاً. وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير. قال القرطبي: والقول الثاني أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ والقول الأوّل مجاز؛ لأنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله، وإذا كان ذلك على قيام لا في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 قدر القراءة فلا دليل فيه على أنّ الفاتحة لا تتعين في الصلاة، بل هي متعينة في كل ركعة لخبر الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» ولخبر «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما، ولفعله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم مع خبر البخاري «صلوا كما رأيتموني أصلي» ويحمل قوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} مع خبر «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» على الفاتحة أو على العاجز عنها جمعاً بين الأدلة. ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أوّل السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ، فقال تعالى: {علم أن} مخففة من الثقيلة أي: أنه {سيكون} أي: بتقدير لا بدّ منه {منكم مرضى} جمع مريض وهذه السورة من أوّل ما نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ففي ذلك إشارة بأنّ أهل الإسلام يكثرون جدًّا {وآخرون} غير المرضى {يضربون} أي: يوقعون الضرب {في الأرض} أي: يسافرون لأنّ الماشي يجد ويضرب برجله في الأرض {يبتغون} أي: يطلبون طلباً شديداً {من فضل الله} أي: بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده بالتجارة وغيرها {وآخرون} أي: منكم أيها المسلمون {يقاتلون} أي: يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله تعالى، ولذلك بينه بقوله تعالى {في سبيل الله} أي: الملك الأعظم، وكل من الفرق الثلاث يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل، وسوّى سبحانه في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين للمال الحلال لنفقته على نفسه وعياله والإحسان فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم «ما من جالب يجلب طعاماً من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} . وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء وقرأ {وآخرون} الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله تعالى موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليّ من الموت بين شعبتي رجل ابتغى من فضل الله ضارباً في الأرض، وقال طاووس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأعاد قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر منه} أي: من القرآن للتأكيد. {وأقيموا الصلاة} أي: المكتوبة وهي خمس بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها وأبعاضها وهيئاتها {وآتوا الزكاة} أي: زكاة أموالكم. وقال عكرمة وقتادة: صدقة الفطر لأنّ زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل فعل خير وقال ابن عباس: طاعة الله تعالى والإخلاص. {وأقرضوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم {قرضاً حسناً} من نوافل الخيرات كلها برغبة تامّة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه. وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقيل: صلة الرحم وقرى الضيف. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله. {وما تقدّموا لأنفسكم} أي: خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت حيث لا تقدرون على الأعمال {من خير} أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 خير كان من عبادات البدن والمال {تجدوه} أي: محفوظاً لكم {عند الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {هو} أي: لا غيره {خيراً} أي: لكم وجاز ضمير الفصل بين غير معرفتين؛ لأن أفعل منه كالمعرفة ولذلك يمتنع دخول أداة التعريف عليها. والمعنى: هو خير من الذي تدخرونه إلى الوصية عند الموت، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: خيراً لكم من متاع الدنيا. وروى البغوي بسنده عن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وراثه. قال: اعلموا ما تقولون قالوا: ما نعلم إلا ذاك يا رسول الله. قال: إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» . {وأعظم أجراً} قال أبو هريرة: يعني الجنة ويحتمل أن يكون أعظم أجراً لإعطائه بالجنة أجراً. ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله تعالى حق قدره فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو، فقال عز من قائل: {واستغفروا الله} أي: اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته، فكيف بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه. {إنّ الله} أي: الملك الأعظم {غفور} أي: بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عنها عقاب ولا عتاب {رحيم} أي: بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المزمّل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة» حديث موضوع. سورة المدثر مكية وهي خمس أو ست وخمسون آية، ومائتان وخمس وخمسون كلمة، وألف وعشرة أحرف {بسم الله} الملك الواحد القهار {الرحمن} الذي عمّ برحمته الأبرار والفجار {الرحيم} الذي خص أصفياءه بما يوصلهم إلى دار القرار. ولما ختمت المزمّل بالبشارة لأرباب البصارة بعد ما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيء للقيام بأعباء الدعوة افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة فقال تعالى: {س74ش1/ش7 يَا?أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَتَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} {يا أيها المدثر} روي عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن قال: {يا أيها المدثر} . قلت يقولون {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1) قال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ذلك الذي قلت، فقال لي جابر: لا أحدثك إلا مثل ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت عن خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماءً بارداً» ، قال: فنزل {يا أيها المدثر} الآية، وذلك قبل أن تفرض الصلاة، وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه» ، وفيه: فإذا قاعد على عرش في الهواء ـ يعني جبريل عليه السلام ـ فأخذتني رجفة شديدة» وعن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 وسلم يحدّث عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاء لي بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض فَجُئِثْتُ منه رعباً، فقلت: زملوني زملوني فدثروني، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر} إلى قوله: {فاهجر} وفي رواية: «فَجُئِثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره ثم حمي الوحي وتتابع. فإن قيل: إنّ هذا الحديث دال على أنّ سورة المدثر أوّل ما نزل، ويعارضه حديث عائشة المخرج في الصحيحين في بدء الوحي وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه: «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ {ما لم يعلم} (العلق: 1 ـ 5) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده» الحديث؟ أجيب: بأنّ الذي عليه العلماء أنّ أوّل ما نزل من القرآن على الإطلاق {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كما صرّح به في حديث عائشة. ومن قال: إنّ سورة المدثر أوّل ما نزل من القرآن فضعيف، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرّح به في رواية الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه ما في الحديث وهو يحدّث عن فترة الوحي إلى أن قال: «وأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر} » ، ويدل عليه قوله أيضاً: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» . وحاصله: أنّ أوّل ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة {اقرأ باسم ربك} وأنّ أوّل ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر، وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين. قوله: «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه. وقوله: «يحدّث عن فترة الوحي» أي: عن احتباسه وعدم تتابعه وتواليه في النزول وقوله: «فَجُئِثْتُ منه» روي بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير، وروي بثاءين مثلثتين بعد الجيم ومعناها فرعبت منه وفزعت، وقوله: «حمي الوحي وتتابع» أي: كثر نزوله وازداد بعد فترته من قولهم: حميت الشمس والنار إذا ازداد حرّها. وقوله: «وصبوا عليّ ماءً بارداً» فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصبّ عليه الماء ليسكن فزعه. وأصل المدّثر المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمي مدّثراً لوجوه: أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم «دثروني» . وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً متدثراً بثيابه فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه صلى الله عليه وسلم وقال: {يا أيها المدثر قم فأنذر} أي: حذر الناس من العذاب إن لم يؤمنوا، والمعنى: قم من مضجعك واترك التدثر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله عز وجل له. وثالثها: أنّ الوليد بن المغيرة وأبا جهل وأبا لهب والنضر بن الحارث اجتمعوا وقالوا: إنّ وفود العرب يجتمعون في أيام الحج وهم يسألون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الإخبار عنه، فمن قائل هو مجنون وقائل ساحر وقائل كاهن، وتعلم العرب أنّ هذا كله لا يجتمع في رجل واحد فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة سموا محمداً باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجل منهم فقال: إنه شاعر، فلما سمع صلى الله عليه وسلم ذلك اشتدّ عليه ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} . وقيل: إنه ليس المراد التدثر بالثياب وعلى هذا ففيه وجوه أيضاً: أحدها: قال عكرمة: المعنى: يا أيها المدّثر بالنبوّة والرسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم. قال ابن العربي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً بعد أي: على القول بأنها أوّل سورة نزلت وأمّا على أنها نزلت بعد فترة الوحي فليس ببعيد. وثانيها: أنّ المدّثر بالثوب يكون كالمختفي فيه، وهو صلى الله عليه وسلم كان في جبل حراء كالمختفي من الناس فكأنه قال: يا أيها المدّثر بدثار الاختفاء قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق والدعوة إلى معرفة الحق. وثالثها: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين فكأنه قيل له: يا أيها المدّثر بأثواب العلم العظيم والخلق الكريم والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك، وعلى كلا القولين في ندائه ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ولم يقل: يا محمد. {وربك} أي: خاصة {فكبر} أي: عظمه عما يقول عبدة الأوثان وصفه بأنه أكبر من أن تكون له صاحبة أو ولد، وفي الحديث أنهم قالوا بم تفتتح الصلاة؟ فنزل {وربك فكبر} أي: صفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه يرادفه تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأنداد والأصنام دونه ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه. وروي أنّ أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل وهو اسم صنم كان لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا الله أعلى وأجل، وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذاناً وصلاة وذكراً يقول: الله أكبر، وحمل عليه لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق مواردها منها قوله: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» ، والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعزمه. ومن موارده أوقات الإهلال بالله تعالى تخليصاً له من الشرك وإعلاماً باسمه بالنسك وإفراداً لما شرع من أمره بالنسك، والمنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ الله أكبر. وقال المفسرون: لما نزل قوله تعالى {وربك فكبر} قام النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «الله أكبر» فكبرت خديجة رضي الله تعالى عنها وفرحت وعلمت أنه وحي من الله تعالى» ذكره القشيري، وقال مقاتل: هو أن يقال الله أكبر وقيل: المراد منه التكبير في الصلاة، واستشكل ذلك على القول بأنها أوّل سورة نزلت، فإنّ الصلاة لم تكن فرضت. وأجيب: بأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان له صلوات تطوّع فأمر أن يكبر فيها. تنبيه: دخلت الفاء في قوله تعالى {فكبر} وفيما بعده لإفادة معنى الشرط كأنه قيل: وما يكن فكبر ربك أو للدلالة على أنّ المقصود الأوّل من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه، فإنّ أوّل ما يجب معرفة الصانع، وأوّل ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه والقوم كانوا مقرّين به. {وثيابك فطهر} أي: من النجاسات لأنّ طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى والأحبّ في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً. قال الرازي: إذا حملنا التطهير على حقيقته ففي الآية ثلاث احتمالات: الأوّل: قال الشافعي: المقصود من الآية الإعلام بأنّ الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس. وثانيها: روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاء شاة فشق عليه، فرجع إلى بيته حزيناً وتدثر في ثيابه صلى الله عليه وسلم فقيل: {يا أيها المدّثر قم فأنذر} ولا تمنعك تلك الشناعة عن الإنذار {وربك فكبر} على أن لا يتنقم منهم {وثيابك فطهر} عن تلك النجاسات والقاذورات. وثالثها: قال عبد الرحمن بن زيد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 أسلم: كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يصون ثيابه عنها. وقيل: هو أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. قال صلى الله عليه وسلم «إزار المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار» فجعل صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد على ما تحته بالنار، فما بالُ رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقال صلى الله عليه وسلم «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» وفي رواية «من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» . قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لست ممن يصنعه خيلاء» . وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات. يقال فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه فكني به عنه ألا ترى إلى قولهم: أعجبني زيد ثوبه كما تقول: أعجبني زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عني بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبيث وإيثار الطهر في كل شيء. وقال عكرمة: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {وثيابك فطهر} فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدر ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي: *وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من عنده أتقنع* والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء طاهر الثياب، ويقولون لمن غدر إنه لدنس الثياب. وقال أبيّ بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على إثم البسها وأنت برّ طاهر. وقال الحسن والقرطبي: وخلقك فحسن. وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر. وقال مجاهد وابن زيد: وعملك فأصلح. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول: وعملك أصلح. قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: إنّ فلاناً نجس الثياب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما يعني عمله الصالح والطالح» ذكره الماوردي. وقيل: المراد بالثياب الأهل أي: طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب والعرب تسمي الأهل ثوباً ولباساً وإزاراً. قال تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} (البقرة: 187) وقيل: المراد به الدين أي: ودينك فطهر جاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «رأيت الناس وعليهم ثياب منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجرّه قالوا: يا رسول الله، فما أولت ذلك؟ قال: الدين» . وقوله تعالى: {والرجز} فسره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأوثان {فاهجر} أي: دم على هجره. وقيل: الزاي فيه منقلبة من السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجيهما دليل هذا التأويل قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) وروي عن ابن عباس أنّ معناه: اترك المآثم، وقرأ حفص بضم الراء والباقون بكسرها، وهما لغتان ومعناهما واحد، وقال أبو العالية: الرجز بضم الراء الصنم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وبالكسر النجاسة والمعصية، وقال الضحاك: يعني الشرك. وقال الكلبي: يعني العذاب. قال البغويّ: ومجاز الآية اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال. وقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} مرفوع منصوب المحل على الحال أي: لا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً واجعله خالصاً لله تعالى ولا تطلب عوضاً أصلاً، ومعنى تستكثر أي: طالباً للكثرة كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء، فيكون الاستكثار هنا عبارة عن طلب العوض كيف كان ليكون عطاؤه صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض والتفات النفس إليه. وقيل: لا تعط شيئاً طالباً للكثير نهى عن الاستقرار وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز ومنه الحديث: «المستكثر يثاب من هبته» وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون نهياً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر الآية؛ لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق والثاني: أنه نهي تنزيه لا تحريم له ولأمّته. وقيل: إنه تعالى لما أمره بأربعة أشياء: إنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجر الرجز. ثم قال: {ولا تمنن تستكثر} أي: لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله {ولربك فاصبر} أي: على الأوامر والنواهي متقرّباً بذلك إليه غير ممتن به عليه. وقال الحسن: بحسناتك تستكثرها. وقال ابن عباس: ولا تعط عطية ملتمساً بها أفضل منها. وقيل: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى فلا منة لك به عليهم. ولهذا قال تعالى: {ولربك فاصبر} وقيل: لا تمنن عليهم بنبوّتك لتستكثر أي: لا تأخذ منهم أجراً على ذلك تستكثر به مالك، وقال مجاهد والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله تعالى به عليك. وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك إنما عملك منة من الله تعالى عليك إذ جعل لك الله تعالى سبيلاً إلى عبادته. وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك لا تقل: دعوت فلم يستجب لي. وقيل: لا تفعل الخير لترائي به الناس. ولما ذكر تعالى ما يتعلق بإرشاد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء بقوله تعالى: {س74ش8/ش17 فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ * فَذَالِكَ يَوْمَـ?ـ?ِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ? مَا? مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ? تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَ?? إِنَّهُ? كَانَ ?يَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ? صَعُودًا} {فإذا نقر} أي: نفخ {في الناقور} أي: في الصور وهو القرن النفخة الثانية فاعول من النقر أي: من التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت والفاء للسببية كأنه قال تعالى: اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك وأعداؤك عاقبة ضرهم. وإذا ظرف لما دل عليه قوله تعالى: {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين} لأنّ معناه: عسر الأمر على الكافرين وذلك إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ خبره يوم عسير ويومئذ بدل أو ظرف لخبره إذ التقدير فذلك الوقت وقوع يوم عسير وقرأ على الكافرين وأصحاب النار أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح. ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً بين أنه ليس كذلك بقوله تعالى: {غير يسير} فجمع فيه بين إثبات الشيء ونفي ضدّه تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه، وتقييده بالكافرين يشعر بيسره على المؤمنين فإنهم لا يناقشون الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين. قال الرازي: ويحتمل أنه عسير على المؤمنين والكافرين إلا أنه على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 الكافرين أشد. تنبيه: قال الحليمي: سمي الصور باسمين فإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان فإنّ نفخة الإصعاق بخلاف نفخة الإحياء. وجاء في الأخبار أنّ في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزعت منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى. {ذرني} أي: اتركني على أي حالة اتفقت {ومن خلقت} معطوف على المفعول أو مفعول معه. وقوله تعالى: {وحيداً} فيه أوجه: أحدها: أنه حال من الياء في ذرني أي: ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه، الثاني: أنه حال من التاء في خلقت أي: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه، الثالث: أنه حال من عائد المحذوف أي: خلقته وحيداً، فوحيداً على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف أي: خلقته في بطن أمّه وحيداً لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته، قاله مجاهد. الرابع: أن ينتصب على الذم لأنه يقال: إنّ وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة المخزومي ومعنى وحيداً: ذليلاً قيل: إنه كان يزعم أنه وحيد في فضله وماله وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأنّ هذا اللقب له شهرة به، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير. قال الرازي: وردّ هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه تلك بأنه وحيد لا نظير له ذكره الواحدي وهو ضعيف من وجوه ثلاثة: لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال لأنّ اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة. الثاني: أن يكون ذلك بحسب ظنه واعتقاده كقوله عز وجل {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49) . الثالث: أنه وحيد في كفره وعناده وخبثه لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف. الرابع: قال أبو سعيد: الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في الزنيم. {وجعلت له} أي: بأسباب أوجدتها أنا وحدي لا بحول منه ولا قوة بدليل أن غيره أقوى منه بدناً وقلباً وأوسع فكراً وعقلاً وهو دونه في ذلك {مالاً ممدوداً} أي: مالاً واسعاً كثيراً. قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الإبل والبقر والغنم والحجور والجنان والعبيد والجواري، واختلفوا في مبلغه فقال مجاهد وسعيد بن جبير: ألف دينار. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري: مرة أربعة آلاف دينار ومرة ألف ألف دينار وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة وقال الرازي: الممدود هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً ولذلك فسره عمر غلة شهر بشهر. وقال النعمان: الممدود بالزيادة كالزروع والضروع وأنواع التجارات وقال مقاتل: كان له بستان بالطائف لاتنقطع ثماره شتاء ولا صيفاً. {وبنين} أي: وجعلت له بنين {شهوداً} أي: حضوراً معه لغناهم عن الأسفار بكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان وهم مع حضورهم في الذروة من الحضور بتمام العقل وقوة الحذق، فهم في غاية المعرفة ومع ذلك فهم أعيان المجالس وصدور المحافل كأنه لا شاهد به غيرهم. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقال السدي والضحاك: كانوا اثني عشر رجلاً، وعن الضحاك سبعة ولدوا بمكة وخمسة بالطائف. وقال مقاتل: كانوا سبعة ولعله اقتصر على من ولد بمكة وعلى كل قول أسلم منهم ثلاثة خالد الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 منّ الله تعالى على المسلمين بإسلامه فكان سيف الله وسيف رسوله صلى الله عليه وسلم وهشام وعمارة. {ومهدت} أي: بسطت {له} العيش والعمر والولد، والتمهيد عند العرب التوطئة والتهيئة ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: أي: وسعت له ما بين اليمن إلى الشام وعن مجاهد أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش فلم يرع هذه النعمة العظيمة.l وقوله تعالى {تمهيداً} تأكيد. {ثم} أي: بعد الأمر العظيم الذي ارتكبه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم {يطمع} أي: بغير سبب يدلي به مما جعلناه سبب المزيد من الشكر {أن أزيد} أي: فيما آتيته في دنياه أو في آخرته وهو يكذب رسولنا صلى الله عليه وسلم وقال الحسن: ثم يطمع أن أحله الجنة. وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي، فقال الله تعالى ردًّا عليه وتكذيباً له {كلا} أي: وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً، وأمّا النقصان فسيرى إن استمرّ على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع ولينزجر وليرتجع، فإنه حمق محض وزخرف بحت وغرور صرف، قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك فقيراً. تنبيه: كلا قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة فيكون متصلاً بالكلام الأوّل وقيل: كلا بمعنى حقاً. ويبتدأ بقوله تعالى {إنه} أي: هذا الموصوف {كان} أي: بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر على الانفكاك عنه {لآياتنا} على ما لها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية لا إلى غيرها من الشبه القائدة إلى الشرك {عنيداً} قال قتادة: أي: جاحداً. وقال مقاتل: معرضاً. وقال مجاهد: إنه المجانب للحق. وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف والعنيد بمعنى المعاند، والعناد كما قال الملوي من كبر في النفس ويبس في الطبع وشراسة في الأخلاق أو خبل في العقل، وقد جمع ذلك كله إبليس لعنه الله تعالى لأنه خلق من نار وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية. تنبيه: في الآية إشارة إلى أنّ الوليد كان معانداً في أمور كثيرة منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد وصحة النبوّة وصحة البعث، ومنها أنّ كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر العناد أفحش أنواع الكفر، ومنها أنّ قوله تعالى كان يدل على أنّ هذه حرفته من قديم الزمان. {سأرهقه} أي: أكلفه {صعوداً} أي: مشقة من العذاب لا راحة له فيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي» وفي رواية أنه «كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت فإذا رفعها عادت وكذا رجله» وقال الكلبي: إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه بسلاسل الحديد ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها فذلك دأبه أبداً. {س74ش18/ش30 إِنَّهُ? فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِs سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَاذَآ إِs قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَ?ـاكَ مَا سَقَرُ * تُبْقِى وَتَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي: هذا العنيد {فكر} أي: ردّد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن أو النبيّ صلى الله عليه وسلم {وقدّر} أي: أوقع تقدير الأمور التي يطعن بها وقاسها في نفسه لعلمه أنها أقرب إلى القبول وذلك أنّ الله تعالى لما أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} إلى قوله تعالى: {المصير} (غافر: 2 ـ 3) قام النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وأنك داخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة تسأل من فضل طعامهم فغضب الوليد وقال: ألم تعلم أني من أكثرهم مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أنّ محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهمّ لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهن؟ فقالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ قالوا: اللهمّ لا. قال: تزعمون أنه كذاب فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟ قالوا: اللهمّ لا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوّة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه وقدّر ما أسرّ» . قال الله تعالى: {فقتل} أي: هلك وطرد ولعن في دنياه هذه {كيف قدر} أي: على أي: كيفية أوقع تقديره هذا. {ثم قتل} أي: هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة. {كيف قدر} فثم للدلالة على أنّ الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله: *ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي* ومعنى قول القائل قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره للإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. وأما ثم المتوسطة بين الأفعال التي بعدها فهي للدلالة على أنه تأنى في التأمل وتمهل وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد. وقوله تعالى: {ثم نظر} عطف على فكر وقدر والدعاء اعتراض بينهما والنظر إما في وجوه قومه وإما فيما يقدح به في القرآن. {ثم عبس} أي: قبض وجهه وكلحه ونظر مع تقبض جلد وما بين العينين بكراهة شديدة كالمهتم للتفكر في شيء وهو لا يجد فيه فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مطعناً. وقيل: عبس وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش: إن محمداً ساحر مرّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام فعبس في وجوههم. وقيل: عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه {وبسر} أي: زاد في القبض والكدح، يقال: وجه باسر، أي: منقبض أسود كالح متغير اللون قاله قتادة. {ثم} أي: بعد هذا التروي العظيم {أدبر} أي: عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوّه عن المطاعن فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفيتها {واستكبر} أي: أوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه. {فقال} أي: عقب ما جرّه إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا {إن} أي: ما {هذا} أي: الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {إلا سحر} أي: أمور تخييلية لا حقائق لها وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها، أما رأيتموه يفرّق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 بين الرجل وأهله وماله وولده ومواليه، فما هو إلا سحر {يؤثر} أي: من شأنه أن ينقله السامع عن غيره، فهو ينقله من مسيلمة وأهل بابل كما قال: {إن} أي: ما {هو} أي: القرآن {إلا قول البشر} أي: ليس فيه شيء عن الله تعالى فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه فارتج النادي فرحاً، ثم تفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه قيل: وهذا شبيه بما قال بعضهم: *لو قيل كم خمس وخمس لاغتدى ... يوماً وليلته يعدّ ويحسب* *ويقول معضلة عجيب أمرها ... ولئن فهمت لها لأمري أعجب* *خمس وخمس ستة أو سبعة ... قولان قالهما الخليل وثعلب ... * فكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم: *احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان* *كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان* وقوله تعالى: {سأصليه} أي: أدخله {سقر} أي: جهنم بوعد لا بدّ منه عن قريب بدل من {سأرهقه صعوداً} . وقوله تعالى: {وما أدراك ما سقر} تعظيم لشأنها. وقوله تعالى: {لا تبقي ولا تذر} بيان لذلك أو حال من سقر، والعامل فيها معنى التعظيم، والمعنى: لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، فإذا أهلكته لم تذره هالكاً حتى يعاد أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة، وسميت سقر من سقرته الشمس إذا أذابته، ولا تنصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: سقر اسم للطبقة السادسة، فإنّ درك النار سبعة جهنم ولظى والحطمة والسعير والجحيم وسقر والهاوية. {لوّاحة} من لوح الهجير قال: *تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر {للبشر} أي: محرقة لظاهر الجلد فتدعه أشدّ سواداً من الليل قال تعالى: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} (المؤمنون: 104) والبشر أعالي البشرة وهو جمع بشرة وجمع البشر أبشار. وعن الحسن: تلوح للناس كقوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} (التكاثر: 7) وقيل: اللوح شدة العطش يقال: لاحه العطش ولوحه، أي: غيره. وقال الأخفش: والمعنى: أنها معطشة للبشر، أي: لأهلها وأنشد: *سقتني على لوح من الماء شربة ... سقاها من الله الرهام النواديا* يعني باللوح شدّة العطش والرّهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة، وأرهمت السحابة أتت بالرهام. {عليها تسعة عشر} أي: من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر، وقيل: التسعة عشر نقباء. وقال أكثر المفسرين: تسعة عشر ملكاً بأعيانهم. وقيل: تسعة عشر ألف ملك. قال ابن جريج: نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال: «أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم» . قال عمرو بن دينار: إنّ واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن الأثير: الصياصي قرون البقر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبر أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ـ يعني الشجعان ـ أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأشد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين. وروي أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وسبعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة، فأنزل الله عز وجل: {وما جعلنا} أي: لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه {أصحاب النار} أي: خزنتها {إلا ملائكة} أي: لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم وإنما جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنسي الفريقين من الجنّ والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرحمة والرأفة ولأنهم أشدّ بأساً وأقوى بطشاً فقوّتهم أعظم من قوّة الإنس والجنّ ولذلك جعل الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون له رأفة ورحمة بهم. فإن قيل: ثبت في الأخبار أنّ الملائكة مخلوقون من النور فكيف تطيق المكث في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أنه يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد في إبقاء الملائكة هناك من غير ألم. {وما جعلنا} أي: بما لنا من العظمة {عدّتهم} أي: مذكورة ومحصورة {إلا فتنة} أي: بلية {للذين كفروا} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضلالة وفتنة مفعول ثان على حذف مضاف أي: إلا سبب فتنة وللذين صفة الفتنة وليست فتنة مفعولاً له. وقول البيضاوي وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر تبعاً للزمخشري، قال أبو حيان: إنه تحريف لكتاب الله إذ زعم أنّ معنى إلا فتنة للذين كفروا إلا تسعة عشر وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء. وقال الرازي: إنما صار هذا العدد سبباً لفتنة الكفار من وجهين: الأوّل: أنّ الكفار يستهزئون ويقولون لم لا يكونون عشرين، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد. والثاني: أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجنّ والإنس من أوّل ما خلق الله إلى قيام الساعة؟ وأجيب: عن الأوّل بأنّ هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض، وعن الثاني بأنه لا يبعد أن الله تعالى يرزق ذلك العدد القليل قوّة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل عليه السلام مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وأيضاً فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ولا للعقل فيها مجال. وذكر أرباب المعاني في تقرير هذا العدد وجهين: أحدهما: ما قاله أرباب الحكمة إنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوّتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية هي الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، فالمجموع تسعة عشر فلما كانت هذه منشآت لا جرم كان عدد الزبانية هكذا. ثانيهما: أنّ أبواب جهنم سبعة فستة منها للكفار وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة فالمجموع ثمانية عشر، وأما باب الفساق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 فليس هناك إلا ترك العمل فالمجموع تسعة عشر مشغولة بغير العبادة فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر. وقوله تعالى: {ليستيقن الذين} متعلق بجعلنا لا بفتنة. وقيل: بفعل مضمر أي: فعلنا ذلك ليستيقن الذين {أوتوا الكتاب} أي: أعطوا التوراة والإنجيل، فإنه مكتوب فيهما إنه تسعة عشر، فذلك موافقة لما عندهم {ويزداد الذين آمنوا} أي: من أهل الكتاب {إيماناً} أي: تصديقاً لموافقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لما في كتبهم {ولا يرتاب} أي: يشك {الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} في عددهم. فإن قيل: قد أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وزيادة الإيمان للمؤمنين فما فائدة {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} ؟ أجيب: بأنّ الإنسان إذا اجتهد في أمر غامض دقيق الحجة كثير الشبه، فحصل له اليقين فربما غفل عن مقدّمة من مقدّمات ذلك الدليل الدقيق فيعود الشك فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك، ففائدة هذه الجملة نفي ذلك الشك، وإنه حصل لهم يقين جازم لا يحصل عقبه شك البتة. {وليقول الذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق وإن قل ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين فهو علم من أعلام النبوّة فإنه إخبار بمكة عما سيكون بالمدينة بعد الهجرة ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة إصلاح ناس وفساد آخرين؛ لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأوّل ثم يترتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول خرجت من البلد لمخافة الشر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض. {والكافرون} أي: ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق {ماذا} أي: أي شيء {أراد الله} أي: الملك الذي له جميع العظمة {بهذا} أي: العدد القليل في جنب عظمته {مثلاً} قال الجلال المحلي: سموه لغرابته بذلك، وأعرب حالاً. وقال الليث: المثل الحديث ومنه {مثل الجنة التي وعد المتقون} (الرعد: 35) أي: حديثها والخبر عنها. وقال الرازي: إنما سموه مثلاً لأنه لما كان هذا العدد عدداً عجيباً ظنّ القوم أنه ربما لم يكن مراد الله تعالى منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلاً لشيء آخر وتنبيهاً على مقصود آخر لا جرم سموه مثلاً على سبيل الاستعارة لأنهم لما استغربوه ظنوا أنه ضرب مثلاً لغيره، ومثلاً تمييز أو حال وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته. ولما كان التقدير أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي وهداية من اهتدى وهو لا يبالي كان كأنه قيل: هل يفعل مثل ذلك في غير هذا فقال تعالى: {كذلك} أي: مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية {يضل الله} أي: الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز {من يشاء} بأي كلام شاء، كإضلال الله تعالى أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم {ويهدي} بقدرته التامّة {من يشاء} بنفس ذلك الكلام أو بغيره كهداية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة لأنه تعالى قال في أوّل الآية {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} الخ، ثم قال تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} . {وما يعلم جنود ربك} أي: المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك {إلا هو} أي: الله سبحانه وتعالى. قال مقاتل رضي الله عنه: وهذا جواب لأبي جهل حيث قال: ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر. وقال مجاهد رضي الله عنه: {وما يعلم جنود ربك} يعني: من الملائكة الذين خلقهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 لتعذيب أهل النار، ولا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. والمعنى: أن تسعة عشر هم خزنة النار ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ولو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك، فقد روي أنّ البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود لهم نوبة أخرى. وروي أنّ الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة، وكل سماء في التي فوقها كذلك، وورد في الخبر: أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع ـ وفي رواية موضع قدم ـ إلا وفيه ملك قائم يصلي ـ وفي رواية ساجد ـ وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو. ثم رجع إلى ذكر سقر فقال تعالى: {وما هي} أي: النار التي هي من أعظم جنوده {إلا ذكرى للبشر} أي: ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وللبشر مفعول بذكرى واللام فيه مزيدة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {س74ش32/ش47 كَs وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ * إِنَّهَا ?حْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْس? بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ? * إِ? أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا? لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآ?ـ?ِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى? أَتَـ?ـانَا الْيَقِينُ} {كلا} ردع لمن أنكرها أو إنكار لأن يتذكروا بها قاله البيضاوي. وقال البغويّ: هذا قسم يقول حقاً. وقال الجلال المحلي: استفتاح بمعنى إلا {والقمر} أي: الذي هو آية الليل الهادية من ضل بظلامه. {والليل إذ أدبر} أي: مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه، وقرأ نافع وحمزة وحفص بسكون الذال المعجمة والدال المهملة بعدها وهمزة قطع مفتوحة بين المعجمة والمهملة الساكنين، والباقون بفتح الذال المعجمة وبعدها ألف وفتح المهملة بعد الألف، فالقراءة الأولى إذ أدبر والثانية إذا دبر وكلاهما لغة. يقال: دبر الليل وأدبر إذا ولى مدبراً ذاهباً. قال أبو عمرو: ودبر لغة قريش، وقال قطرب: دبر أي: أقبل، تقول العرب دبرني فلان أي: جاء خلفي فالليل يأتي خلف النهار. وقوله تعالى: {والصبح إذا أسفر} أي: أضاء وتبين. وقوله تعالى: {إنها لإحدى الكبر} جواب للقسم أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد، والكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها، فلما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها. ونظير ذلك القواصع في جمع القاصعاء كأنها جمع فاعلة، أي: لإحدى البلايا والدواهي الكبر. ومعنى كونها إحداهنّ أنها من بينهنّ واحدة في العظم لا نظير لها، كما تقول: هو أحد الرجال وهي إحدى النساء. وقوله تعالى: {نذيراً} تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول هي إحدى النساء عفافاً وقيل: هي حال وقيل: هو متصل بأوّل السورة أي: قم نذيراً {للبشر} قال الزمخشري: وهو من بدع التفاسير. وقوله تعالى: {لمن شاء} أي: بإرادته {منكم} بدل من البشر {أن يتقدّم} أي: إلى الخير أو إلى الجنة بالإيمان {أو يتأخر} أي: إلى الشر أو النار بالكفر. {كل نفس} أي: ذكر أو أنثى على العموم {بما كسبت} أي: خاصة لا ما كسب غيرها {رهينة} أي: مرهونة مأخوذة وليست بتأنيث رهين في قوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} (الطور: 21) لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين، لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن. ومنه بيت الحماسة: *أبعد الذي بالنعف تعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل* كأنه قال: والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك. {إلا أصحاب اليمين} وهم المؤمنون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 فإنهم فكوا رقابهم بإيمانهم وبما أحسنوا من أعمالهم وقيل: هم الملائكة، وروي عن علي أنهم أطفال المسلمين. وقال مقاتل رضي الله عنه: هم أهل الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق حين قال لهم الله: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وعنه أيضاً: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم. وقال الحسن رضي الله عنه: هم المسلمون الخالصون. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها بخير أو شر إلا من اعتمد على الفضل، فكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ. ولما أخرجهم من حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه استأنف بيان حالهم فقال تعالى: {في جنات} أي: بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا {يتساءلون} أي: فيما بينهم يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم. {عن المجرمين} أي: عن أحوالهم ويقولون لهم بعد إخراج الموحدين من النار: {ما} محتملة للاستفهام والتعجب والتوبيخ {سلككم} أي: أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب، وقرأ السوسي بإدغام الكاف في الكاف والباقون بالإظهار {في سقر} . فأجابوا بأن {قالوا لم نك من المصلين} أي: صلاة يعتدّ بها فكان هذا تنبيهاً على أنّ رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم وعلى أنهم معاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصلح منهم، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتدّ بها وعلى أنّ الصلاة أعظم الأعمال وأنّ الحسنات بها تقدّم على غيرها. {ولم نك نطعم المسكين} أي: نعطيه ما يجب علينا إعطاؤه له. {وكنا نخوض} أي: نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر {مع الخائضين} بحيث صار لنا هذا وصفاً راسخاً، فنقول في القرآن: إنه سحر، وإنه شعر، وإنه كهانة، وغير هذا من الأباطيل لا نتورّع عن شيء من ذلك ولا نقف مع عقل ولا نرجع إلى صحيح نقل، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا. {وكنا نكذب} أي: بحيث صار ذلك وصفاً ثابتاً {بيوم الدين} أي: بيوم البعث والجزاء. {حتى أتانا اليقين} أي: الموت أو مقدّماته الذي قطعنا عن دار العمل. قال الله تعالى {حتى يأتيك اليقين} (الحجر: 99) فإن قيل: لم أخر التكذيب وهو أخس الخصال الأربع؟ أجيب: بأنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين، والغرض تعظيم الذنب كقوله تعالى: {كان من الذين آمنوا} . ولما أقرّوا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه سبب عنه قوله تعالى: {س74ش48/ش56 فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة? * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى?ٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً * كَs? بَل s يَخَافُونَ ا?خِرَةَ * كَ? إِنَّهُ? تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ? * وَمَا يَذْكُرُونَ إِ? أَن يَشَآءَ اللَّهُ? هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} {فما تنفعهم} أي: في حال اتصافهم بهذه الصفات {شفاعة الشافعين} أي: لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها، وليس المراد أن ثم شفاعة غير نافعة. كقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28) وهذه الآية تدل على صحة الشفاعة للمذنبين من المؤمنين بمفهمومها؛ لأنّ تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم عليه الصلاة والسلام رابع أربعة جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصدّيقون ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم يقال لهم {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} إلى قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فهؤلاء الذين في جهنم. {فما لهم عن التذكرة معرضين} أي: فما لأهل مكة قد أعرضوا وولوا عن القرآن قال مقاتل رضي الله عنه: معرضين عن القرآن من وجهين: أحدهما: الجحود والإنكار، والثاني: ترك العمل بما فيه، وقيل: المراد بالتذكرة العظة بالقرآن وغيره من المواعظ ومعرضين حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن ما الاستفهامية، ومثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة، وعن التذكرة متعلق به، أي: أيّ شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ. {كأنهم} في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفر {حمر} أي: من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست بما يريبها {مستنفرة} أي: موجدة للنفار بغاية الرغبة حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه شأنها وطبعها، وقرأ ابن عامر ونافع بفتح الفاء على أنه اسم مفعول أي: نفرها القناص والباقون بكسرها بمعنى نافرة. {فرّت من قسورة} قال مجاهد رضي الله عنه: هي جماعة الرماة الذين يتصيدونها لا واحد له من لفظه، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: هو القناص، وعن زيد بن أسلم: فريق من رجال أقوياء. وكل ضخم شديد عند العرب قسور وقسورة، وعن أبي المتوكل هي لغط القوم وأصواتهم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حبال الصيادين. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هي الأسد، وهو قول عطاء والكلبي، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا، وعن عكرمة رضي الله عنه ظلمة الليل ويقال لسواد الليل قسورة، وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله تعالى {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} (الجمعة: 5) شهادة عليهم بالبله وقلة العقل. ولما كان الجواب قطعاً لا شيء لهم في إعراضهم هذا أضرب عنه بقوله تعالى: {بل يريد} أي: على دعواهم في زعمهم {كل امرئ منهم} أي: المعرضين من ادّعائة الكمال في المروءة {أن يؤتى} أي: من السماء {صحفاً} أي: قراطيس مكتوبة {منشرة} أي: مفتوحة، وذلك أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك ونظيره {لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} (الإسراء: 93) وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً ليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. وقال الكلبي رضي الله عنه: إن المشركين قالوا: يا محمد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً عند رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه، فما لنا لا نرى ذلك. قال البغوي: والصحف جمع الصحيفة ومنشرة منشورة. قال الله تعالى: {كلا} أي: لا يؤتون الصحف. وقيل: حقاً قال البغوي: وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه. قال ابن عادل: والأول أجود لأنه ردّ لقولهم. ثم بين تعالى سبب إعراضهم بقوله تعالى: {بل لا يخافون} أي: في زمن من الأزمان {الآخرة} فهذا هو السبب في إعراضهم. وقوله تعالى: {كلا} استفتاح قاله الجلال المحلي. وقال البيضاوي: ردع عن إعراضهم. وقال البغوي وتبعه ابن عادل: حقاً {إنه} أي: القرآن {تذكرة} أي: عظيمة توجب إيجاباً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 عظيماً اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه، فليس لأحد أن يقول: أنا مغرور لم أجد مذكراً ولا معرّفاً فإنّ عنده أعظم مذكر وأشرف معرّف. {فمن شاء} أي: أن يذكره {ذكره} أي: اتعظ به وجعله نصب عينيه وعلم معناه وتخلق به فمن فعل ذلك سهل عليه لفظه وبعض معانيه فإنه كالبحر الفرات فمن شاء اغترف. {وما يذكرون} أي: في وقت من الأوقات {إلا أن يشاء الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ذكرهم أو مشيئتهم كقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} (الإنسان: 30) وهو تصريح بأنّ فعل العبد بمشيئة الله تعالى. وقرأ نافع بتاء الخطاب وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون بياء الغيبة حملاً على ما تقدم من قوله تعالى: {كل امرئ} . {هو} أي: الله سبحانه وتعالى وحده {أهل التقوى} أي: أن يتقيه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وأبو عمرو بين بين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين {وأهل المغفرة} أي: وحقيق أن يطلب غفرانه للذنوب لا سيما إذا اتقاه المذنب؛ لأنّ له الجمال واللطف وهو القادر ولا قدرة لغيره فلا ينفعه شيء ولا يضرّه روى الترمذي وأحمد والحاكم عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} يقول الله تعالى: «أنا أهل أن أتقى فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأنا أهل أن أغفر له» ووقف الكسائي على {أهل المغفرة} بالإمالة على أصله وورش بترقيق الراء وقفاً ووصلاً على أصله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به» حديث موضوع. سورة القيامة مكية وهي تسع وثلاثون آية، ومائة وسبع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفاً {بسم الله} الذي له الجلال والكمال {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد أهل الهدى والضلال {الرحيم} الذي سدد أهل العناية في الأفعال والأقوال. واختلف في لا في قوله تعالى: {لا أقسم} على أوجه: أحدها: أنها نافية لكلام المشركين المنكرين للبعث أي: ليس الأمر كما زعموا ثم ابتدأ أقسم {بيوم القيامة} قال القرطبي: إن القرآن جاء بالردّ على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردّ عليهم كقولك: لا والله لا أفعل فلا ردّ لكلام قد مضى كقولك: لا والله إن القيامة لحق كأنك أكذبت قوماً أنكروه. الثاني: أنها مزيدة مثلها في {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29) واعترضوا هذا بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله. وأجيب: بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض يدل على ذلك أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6) وجوابه في سورة أخرى {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} (القلم: 2) وإذا كان كذلك كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى الوسط، وردّ هذا بأنّ القرآن في حكم السورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها، فذلك غير جائز. الثالث: قال الزمخشري: إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، قال امرؤ القيس: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 *لا وأبيك ابنة العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أفر* وفائدتها: توكيد القسم، ثم قال الزمخشري بعد أن ذكر وجه الزيادة والاعتراض: والجواب كما تقدّم والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له يدل عليه قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} (الجمعة: 75 ـ 76) فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك. قال بعضهم: قول الزمخشري: والوجه أن يقال إلى آخره تقرير لقوله: إدخال لا النافية فيه على فعل القسم مستفيض إلى آخره. وحاصل كلامه يرجع إلى أنها نافية وأنّ النفي متسلط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه نفع لفظاً ولا معنى، وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بغير ألف بعد اللام والهمزة مضمومة والباقون بالألف ويعبر عن قراءة ابن كثير بالقصر وعن قراءة الباقين بالمدّ. ولا خلاف في قوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامّة} في المدّ والكلام في لا المتقدّمة وجرى الجلال المحلي على أنها زائدة في الموضعين. واختلف في النفس اللوامّة فقيل: هي نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه تقول: ما أردت بكذا ولا تراه يعاتب إلا نفسه. وقال الحسن رضي الله عنه: هي والله نفس المؤمن ما ترى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي، والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد رضي الله عنه: هي التي تلوم على ما فات، فتلوم نفسها على الشرّ لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه، وقيل: تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. وقيل: المراد آدم عليه السلام لم يزل لائماً نفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: هي الملومة فتكون صفة ذمّ وهو قول من نفى أن تكون قسماً، وعلى الأوّل صفة مدح فيكون القسم بها سائغاً. وقال مقاتل رضي الله عنه: هي نفس الكافر يلوم نفسه تحسراً في الآخرة على ما فرّط في جنب الله تعالى. وجواب القسم محذوف أي: لتبعثنّ دل عليه قوله تعالى: {أيحسب الإنسان} أي: هذا النوع الذي جبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفية وأسند الفعل إلى النوع كله؛ لأنّ أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله تعالى، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها {ألن} أي: أنا لا {نجمع} أي: على ما لنا من العظمة {عظامه} أي: التي هي قالب بدنه فنعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها للبعث والحساب. وقيل: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة خال الأخنس بن شريق الثقفي وذلك أن عدياً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدّثني عن القيامة متى تقوم؟ وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أَوَ يجمع الله العظام بعد تفرّقها ورجوعها رميماً ورفاتاً مختلطاً بالتراب وبعد ما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة والأخنس بن شريق» وقيل: نزلت في عدوّ الله أبي جهل أنكر البعث بعد الموت وذكر العظام، والمراد نفسه كلها لأنّ العظام قالب الخلق. تنبيه: ألن هنا موصولة وليس بين الهمزة واللام نون في الرسم كما ترى. وقوله تعالى: {بلى} إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام وهو وقف حسن، ثم يبتدئ بقوله تعالى: {قادرين} وقيل: المعنى: بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 نجمعها قادرين مع جمعها {على أن نسوي بنانه} أي: أصابعه وسلامياته وهي عظامه الصغار التي في يده، خصها بالذكر لأنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه أي: نجمع بعضها على بعض على ما كانت عليه قبل الموت لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها، فنقدر على جمعها وتوصيلها، وقدرنا على جمع صغار العظام فنحن على جمع كبارها أقدر، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: على أن نسوي بنانه أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير أو كحافر الحمار أو كظلف الخنزير، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً، ولكنا فرّقنا أصابعه حتى يفعل بها ما شاء. وقيل: نقدر أن نصير الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها وهو كقوله تعالى: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون} (الواقعة: 60 ـ 61) وقوله تعالى: {بل يريد الإنسان} عطف على أيحسب فيجوز أن يكون استفهاماً وأن يكون جواباً لجواز أن يكون الإضراب عن المستفهم وعن الاستفهام {ليفجر أمامه} أي: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من زمان لا يبرح عنه ولا يتوب، هذا قول مجاهد رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: يقدّم الذنب ويؤخر التوبة، فيقول: سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت على أشرّ أحواله وأسوأ أعماله. وقال الضحاك رضي الله عنه: هو الأجل يقول: أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجراً لميله عن الحق. {يسأل} أي: سؤال استهزاء أو استبعاد {أيان} أي: أي وقت يكون {يوم القيامة} . ولما كان الجواب يوم يكون كذا وكذا عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول فقال تعالى {فإذا برق البصر} أي: شخص ووقف لما يرى مما كان يكذب به هذا على قراءة نافع بفتح الراء وأما على قراءة كسرها فالمعنى: تحير ودهش مما يرى وقيل: هما لغتان في التحير والدهشة. {وخسف القمر} أي: أظلم وذهب ضوءه، وقد اشتهر أنّ الخسوف للقمر والكسوف للشمس. وقيل: يكونان فيهما، يقال: خسفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف. وقيل: الكسوف أوّله والخسوف آخره. ولم تلحق علامة التأنيث في قوله تعالى {وجمع الشمس والقمر} لأنّ التأنيث مجازي، وقيل: لتغليب التذكير، وردّ لأنه لا يقال: قام هند وزيد عند الجمهور من العرب. وقال الكسائي: حمل على جمع النيران. وقال الفرّاء: لم يقل جمعت لأنّ المعنى: جمع بينهما قال الفرّاء والزجاج: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه. وقال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرّنين كأنهما ثوران عقيران في النار، وقال عطاء بن يسار رضي الله عنه: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، وقيل: يجمعان في نار جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله تعالى ولا تكون النار عذاباً لهما، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم. وقوله تعالى: {يقول الإنسان} أي: لشدّة روعه جرياً مع طبعه جواب إذا من قوله تعالى {فإذا برق البصر} . {يومئذ} أي: إذا كانت هذه الأشياء، وقوله تعالى: {أين المفرّ} منصوب المحل بالقول والمفرّ مصدر بمعنى الفرار. قال الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما: أين المفرّ من الله تعالى استحياء منه. والثاني: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 أين المفرّ من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه تعالى. والثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقيل: أبو جهل خاصة. وقوله تعالى: {كلا} ردع عن طلب المفرّ {لا وزر} أي: لا ملجأ ولا حصن استعير من الجبل. قال السدّي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله تعالى لهم: لا وزر يعصمكم مني يومئذ واشتقاقه من الوزر وهو الثقل {إلى ربك} أي: المحسن إليك بأنواع الإحسان لا إلى شيء غيره {يومئذ} أي: إذ كانت هذه الأمور {المستقر} أي: استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لغيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا. وقال ابن مسعود: المصير والمرجع، قال الله تعالى {إلى ربك الرجعى} (العلق: 8) و {إليه المصير} (المائدة: 18) وقال السدّي: المنتهى، نظيره {وإنّ إلى ربك المنتهى} (النجم: 42) {ينبأ} أي: يخبر تخبيراً عظيماً {الإنسان يومئذ} أي: إذا كان الزلزال الأكبر {بما قدّم} قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: بما قدّم قبل موته من عمل صالح وسيء {وأخر} بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. وقال ابن عطية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة، وقال قتادة: بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه. وقال مجاهد: بأوّل عمله وآخره. وقال عطاء: بما قدم في أوّل عمره وما أخر في آخر عمره. وقال يزيد بن أسلم: بما قدّم من أموال نفسه وما أخر خلفة للورثة، والأولى أن يقال ينبأ بجميع ذلك إذ لا منافاة بين هذه الأقوال. {بل الإنسان} أي: كل واحد من هذا النوع {على نفسه} أي: خاصة {بصيرة} أي: حجة بينة على أعماله والهاء للمبالغة يعني: أنه في غاية المعرفة بأحوال نفسه، فيشهد عليه بعمله سمعه وبصره وجوارحه قال الله تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} (الإسراء: 14) .k قال البغوي: ويحتمل أن يكون معناه: بل للإنسان على نفسه يعني جوارحه، فحذف حرف الجر كقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} (البقرة: 33) أي: لأولادكم، ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة. {ولو ألقى} أي: ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق. وقوله تعالى: {معاذيره} جمع معذرة على غير قياس قاله الجلال المحلي. أي: لو جاء بكل معذرة ما قبلت منه. وقال الزمخشريّ: المعاذير ليس بجمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر ا. هـ. قال أبو حيان: وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير ا. هـ. وقيل: معاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى: ولو أرخى ستوره والمعاذير الستور بلغة اليمن قاله الضحاك. وحكى الماورديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {ولو ألقى معاذيره} أي: ولو تجرّد من ثيابه. ولما كان صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن ينفلت منه أمره الله تعالى بأن ينصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي الله تعالى وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه بقوله تعالى: {لا تحرك به} أي: بالقرآن {لسانك} ما دام جبريل عليه السلام يقرؤه {لتعجل به} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم السلام كما قال موسى عليه السلام: {وعجلت إليك ربّ لترضى} (طه: 84) نقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه. ثم علل النهي عن العجلة بقوله تعالى: {إنّ علينا} أي: بما لنا من العظمة لا على أحد سوانا {جمعه} أي: في صدرك حتى تثبته وتحفظه {وقرآنه} أي: قراءتك إياه يعني جريانه على لسانك. {فإذا قرأناه} عليك بقراءة جبريل عليه السلام {فاتبع} أي: بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار قلبك {قرآنه} أي: قراءته مجموعة على حسب ما أداه رسولنا وجمعناه لك في صدرك، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة، ويصير لك خلقاً، فيكون قائدك إلى كل خير. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله تعالى الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة {لا تحرّك به لسانك} الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق. فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى» قال سعيد بن جبير: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما فأنزل الله عز وجل الآية. {ثم إن علينا} أي: بما لنا من العظمة {بيانه} أي: بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء أسمعته من جبريل عليه السلام على مثل صلصلة الجرس أم بكلام الناس المعتاد بالصوت والحروف، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمّتك، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة؛ لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى، والمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنّ تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله تعالى، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها. وقوله تعالى: {كلا} استفتاح بمعنى: ألا. وقال الزمخشري: ردع للنبيّ صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة، وقال جماعة من المفسرين: حقاً، والأوّل جرى عليه الجلال المحلي وهو أظهر. {بل يحبون} متجدّدة على تجدد الزمان {العاجلة} بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها وحبها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه، فإنّ الآخرة والأولى ضرتان من تقرب من أحدهما لا بدّ من تباعده عن الأخرى، فإن حبك للشيء يعمي ويصم. {ويذرون} أي: يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن {الآخرة} لأنهم يبغضونها لارتكابهم ما يضرّهم فيها وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان للمعنى. وقرأ {يحبون} و {يذرون} ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة فيهما حملاً على لفظ الإنسان المذكور أوّلاً؛ لأنّ المراد به الجنس، لأنّ الإنسان بمعنى الناس والباقون بتاء الخطاب فيهما إما خطاباً لكفار قريش أي: تحبون يا كفار قريش العاجلة أي: الدار الدنيا والجاه فيها وتتركون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدّم والإقبال عليه بالخطاب. ولما ذكر تعالى الآخرة التي أعرضوا عنها ذكر ما يكون فيها بياناً لجهلهم وسفههم وقلة عقولهم وترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال تعالى: {وجوه} أي: من المحشورين وهم جميع الخلائق {يومئذ} أي: إذ تقوم الساعة {ناضرة} من النضرة بالضاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 وهي النعمة والرفاهية أي: هي بهية مشرقة عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها. {إلى ربها} أي: المحسن إليها خاصة باعتبار أن عد النظر إلى غيره كلا نظر {ناظرة} أي: دائماً هم محدقون أبصارهم لا غفلة لهم عن ذلك، فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل التعدّي بإلى، وذلك النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وأكثر المفسرين، وجميع أهل السنة، وروي عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث كما يرى القمر ليلة البدر أي: كل من يريد رؤيته من بيته يراه مجلياً له، هذا وجه الشبه، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه تعالى الله الكريم عن التشبيه. فمن تلك الأحاديث ما روي عن جرير بن عبد الله قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} » (طه: 130) وفي كتاب النسائي عن وهب قال: «ينكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم» . وعن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلى ربنا عز وجل حتى ننظر إلى وجهه فيخرون له سجداً فيقول تعالى: ارفعوا رؤوسكم، فليس هذا يوم عبادة» . وقدم الجارّ الدال على الاختصاص إشارة إلى أنّ هذا النظر مباين للنظر إلى غيره، فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه وعبر بالوجوه عن أصحابها؛ لأنها أدل ما يكون على السرور، وليكون ذكرها أصرح في أنّ المراد بالنظر حقيقته. روى مسلم في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: 26) كان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية. وأنكر الرؤية المعتزلة، واحتجوا بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} (الأنعام: 103) ويقولون: النظر المقرون بإلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدّمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماساً لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} (الأعراف: 198) فأثبت النظر حال عدم الرؤية، فتكون الرؤية غاية النظر وأنّ النظر يحصل والرؤية غير حاصلة. قالوا: ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى: {ناظرة} منتظرة كقولك أنا أنظر إليك في حاجتي. وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} بأن لا تدركه بالإحاطة والجهة فلا يكون ذلك مانعاً للرؤية على هذا الوجه وعن بقية استدلالهم بما ذكروه بجوابين: أحدهما: أن نقول: النظر هو الرؤية لقول موسى عليه السلام {أرني أنظر إليك} (الأعراف: 143) فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإراءة فلا يكون تقليب الحدقة. الجواب الثاني: سلمنا ما ذكرتموه من أنّ النظر تقليب الحدقة تعذر حمله على الحقيقة فيجب حمله على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار. وأمّا قولهم بحمله على الانتظار فأجيب عنه أيضاً بأن الذي هو بمعنى الانتظار في القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 غير مقرون بإلى، كقوله تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم هل ينظرون إلا أن} (الحديد: 13) والذي ندعيه أن النظر المقرون بإلى ليس إلا بمعنى الرؤية؛ لأنّ وروده بمعنى الرؤية ظاهرة فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك. ولما ذكر تعالى أهل النعمة أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال سبحانه وتعالى: {ووجوه يومئذ} أي: في ذلك اليوم بعينه {باسرة} أي: شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه. وقال السدي: {باسرة} متغيرة. {تظن} أي: يتوقع أربابها بما ترى من المخايل {أن يفعل بها} أي: بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى {فاقرة} وهي الداهية العظيمة، قال أبو عبيدة: سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر يقال: فقرته الفاقرة أي: كسرت فقار ظهره ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القل. وقال قتادة: الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: دخول النار. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية الربّ عز وجل. وقوله تعالى: {كلا} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري، وزاد الزمخشري كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنقلبون إلى الآجلة التي تبقوا فيها مخلدين {إذا بلغت} النفس {التراقي} وأضمر النفس وإن لم يجر لها ذكر؛ لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها كما قال حاتم: *أماويّ ما يغني الثراء عن الفنى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر* وتقول العرب: أرسلت، يريدون جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. والتراقي: جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، ولكل إنسان ترقوتان. قال البقاعي: ولعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك ا. هـ. وهذا كناية عن الإشفاء على الموت ذكرهم صعوبة الموت وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها. {وقيل} أي: قال حاضر وصاحبها وهو المحتضر بعضهم لبعض {من راق} أي: أيكم يرقيه مما به ليحصل له الشفاء. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو من كلام ملائكة الموت، أي: أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع. والثاني: الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والفتح في المضارع. {وظن} أي: أيقن المحتضر لما لاح له من أنوار الآخرة، وقيل: القائل من راق من أهله {أنه} أي: الشأن العظيم الذي هو فيه {الفراق} لما كان أي: فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله، ففي الخبر إن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول: السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة، وسمي اليقين هنا بالظن لأنّ الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدّة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، أو أنّ المراد الظن الغالب إذ لا يحصل يقين الموت مع رجاء الحياة. وقيل: سماه بالظن تهكماً قال الرازي: وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 إذا كانت الروح باقية، فإنّ الفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف. {والتفت الساق بالساق} أي: اجتمعت إحداهما بالأخرى إذ الالتفاف الاجتماع، قال تعالى: {جئنا بكم لفيفاً} (الإسراء: 104) ومعنى الكلام اتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وغيرهما. وقال الشعبي: التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب. قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال سعيد بن المسيب: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه. وقال السدي: لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، وأول الأقوال كما قال النحاس: أحسنها، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، قال أهل المعاني: لأنّ الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد: ساق. قال الجعدي: *أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا* ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها ذكر غاية ذلك، فقال تعالى مفرداً النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره {إلى ربك} أي: المحسن إليك بجميع ما أنت فيه {يومئذ} أي: إذ وقع هذا الأمر {المساق} أي: السوق إلى حكمه تعالى فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة وإمّا إلى شقاوة. والضمير في قوله تعالى: {فلا صدّق} راجع للإنسان المذكور في {أيحسب الإنسان} أي: فلا صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبره به بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة ولا في ماله بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مندوبة. وحذف المعمول لأنه أبلغ في التعميم. {ولا صلى} أي: ما أمر به من فرض وغيره فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل حبل الخلائق، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يصدق بالرسالة ولا صلى، أي: دعا لربه عز وجلّ وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله تعالى ولا صلى لله جل ذكره. {ولكن} أي: فعل ضد ما أمر به بأن {كذب} أي: بما أتاه به النبيّ صلى الله عليه وسلم من قرآن وغيره {وتولى} أي: أعرض عنه وهذا الاستدراك واضح إذ لا يلزم من نفي التصديق والصلاة التكذيب والتولي. وقال القرطبي: معناه: كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان. وقيل: نزلت في أبي جهل. {ثم ذهب} أي: هذا الإنسان أو أبو جهل {إلى أهله} غير متفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حالة كونه {يتمطى} أي: يتبختر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك وأصله يتمطط أي: يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال، وقيل: هو من المطا وهو الظهر لأنه يلويه تبختراً في مشيته. وقوله تعالى: {أولى لك} فيه التفات من الغيبة والكلمة اسم فعل واللام للتبيين أي: وليك ما تكره {فأولى} أي: فهو أولى بك من غيرك. وقوله تعالى: {ثم أولى لك فأولى} تأكيد وقيل: هذه الكلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه، وأصلها من الولي وهو القرب. قال الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم} (التوبة: 123) وقال قتادة: ذكر لنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية «أخذ بمجامع ثوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 أبي جهل بالبطحاء، وقال له: {أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى} فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، وإني والله لأعز من مشى بين جبليها» . فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع وقتله أسوأ قتلة، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل أمة فرعون، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» . {أيحسب} أي: يجوّز لقلة عقله {الإنسان} أي: الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى من نفسه وأبناء جنسه {أن يترك} أي: يكون تركه بالكلية {سدى} أي: هملاً لاغياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه، فإنّ ذلك مناف للحكمة فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء فاقتضت الحكمة أنه لا بدّ من البعث للجزاء. {ألم يك} أي: الإنسان {نطفة} أي: شيئاً يسيراً {من منيَ} أي: ماء من صلب الرجل وترائب المرأة {يمنى} أي: تصب في الرحم سبب الله تعالى للإنسان المعالجة في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة، وجعل له من الزوج التي يسرها لقضاء وطره حتى إنّ وقت صبها في الرحم تصب منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً. فإن قيل: ما فائدة {يمنى} بعد قوله تعالى: {من منيَ} ؟ أجيب: بأن فيه إشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي يجري على مجرى النجاسة فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى عليه السلام وأمه مريم {كانا يأكلان الطعام} (المائدة: 75) والمراد منه قضاء الحاجة. {ثم كان} أي: كوناً محكماً {علقة} أي: دماً أحمر غليظاً شديد الحمرة والغلظ {فخلق} أي: قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه {فسوى} أي: عدّل من ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً. {فجعل} أي: بسبب النطفة {منه} أي: من المنيّ الذي صار علقة، أي: قطعة دم ثم مضغة أي: قطعة لحم {الزوجين} أي: النوعين {الذكر والأنثى} يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر تارة. قال القرطبيّ: وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى، وأجيب بأن هذه الآية وقرينتها خرجت مخرج الغالب أو أنه في نفس الأمر ذكر أو أنثى. {أليس ذلك} أي: الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على تمييز ما يصلح من ذلك للذكر وما يصلح منه للأنثى {بقادر على أن يحيي الموتى} أي: أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى. «روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحانك اللهم بلى» رواه أبو داود والحاكم، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماماً كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم بلى إماماً كان أو غيره. وروى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابيَ عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} (التين: 8) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} فليقل: بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} (المرسلات: 50) فليقل: آمنا بالله» . وروي أنّ رجلاً كان يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 الموتى} قال: سبحانك اللهم بلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أن كان مؤمناً» حديث موضوع. سورة الإنسان وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر مكية أو مدينة وهي إحدى وثلاثون آية، ومائتان وأربعون كلمة، وألف وأربعة وخمسون حرفاً واختلف فيها هل هي مكية أو مدينة فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكلبي: مكية وجرى عليه البيضاوي والزمخشري. وقال الجمهور: مدنية، وقال الجلال المحلي: مكية أومدنية ولم يجزم بشيء. وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية وهي قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك ولاتطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان: 24) وقيل: فيها مكّي من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً} (الإنسان: 23) إلى آخر السورة وما تقدمه مدنيّ. {بسم الله} الذي له الأسماء الحسنى {الرحمن} الذي عم بنعمه الذكر والأنثى. {الرحيم} الذي خص منهم من شاء لمقام الأسنى. ولما تم الاستدلال على البعث والقدرة عليه تلاه بهذا الاستفهام وهو قوله تعالى: {هل أتى} قال الزمخشري: بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قول الشاعر: *سائل فوارس يربوع بسدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم* فالمعنى: أقد أتى على التقرير والتقريب جميعاً أي: أتى {على الإنسان} قبل زمان قريب {حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} أي: كان شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب اه. فقوله على التقرير يعني المفهوم من الاستفهام، وقوله: والتقريب يعني المفهوم من قد التي وقع موقعها هل، ومعنى قوله في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم أو تقديراً كالآية الكريمة، ولو قلت: هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز. وغيره جعلها بمعنى قد من غير هذا القيد، وجرى عليه الجلال المحلي. واعترض على الزمخشري بأنه لم يذكر غير كونها بمعنى قد. وبقي قيد آخر وهو أن يقول في الجمل الفعلية لأنها متى دخلت على جملة اسمية استحال كونها بمعنى قد؛ لأن قد مختصة بالأفعال وأجيب عنه بأن هذا لا يحتاج إليه؛ لأنه تقرّر أن قد لا تباشر الأسماء. واختلف في المراد من الإنسان، فقال قتادة وعكرمة والشعبيّ: هو آدم عليه السلام مرّت عليه أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وقال الحسن: خلق الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض وآخرها خلق آدم عليه السلام فهو قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} . روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال: ليتها تمت فلا نبتلى أي: ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه السلام {لم يكن شيئاً مذكوراً} تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده. وسمع عمر رجلاً يقرأ {لم يكن شيئاً مذكوراً} قال عمر: ليتها تمت يقول: ليته بقي ما كان، هذا وهما ضجيعاه صلى الله عليه وسلم ولكن بقدر القرب يكون الخوف. فإن قيل: إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً؟ أجيب: بأن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان. روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ الروح فصار مذكوراً. قال ابن سلام: لم يكن شيئاً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً. وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان} أي: بعد خلق آدم عليه السلام {من نطفة} أي: مادّة هي شيء يسير جداً من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه: *ما لي أراك تكرهين الجنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه* وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه {لم يكن شيئاً مذكوراً} إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى: {أمشاج} أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتاً لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله {رفرف خضر} أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع، وقال الزمخشريّ: {نطفة أمشاج} كبرمة أعشار وبرد أكياش، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال أيضاً: نطفة مشج قال الشماخ: *طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين* ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما اه. فقد منع أن يكون أمشاجاً جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالاً لا يكون مفرداً، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالاً مفرداً فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد برداً فوصفهما بالجمع، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له. وعن ابن عباس رضي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 تعالى عنهما قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، قال القرطبيّ: وقد روي هذا مرفوعاً ذكره البزار وعن قتادة: أمشاج ألوان وأطوار، يريد أنها تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: هي عروق النطفة. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء، والغرض من هذا التنبيه على أنّ الإنسان محدَث فلا بد له من محدث قادر على تصويره وقد صوّره على صور مختلفة فمنها صغير وكبير وطويل وقصير ومستدير وعريض. ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه جعل بين العظام مفاصل ثم أوصلها بأوتار وعروق ولحم، ودوّر الرأس وشق في جانبيه السمع، وفي مقدمه البصر والأنف والفم، وشق في البدن سائر المنافذ، ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (القيامة: 40) وقوله تعالى: {نبتليه} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه حال من فاعل خلقنا أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له، والثاني: أنه حال من الإنسان وصح ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى: نبتليه نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى: نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلف، وفيما يختبره به وجهان: أحدهما: قال الكلبي: تختبره بالخير والشرّ. والثاني: قال الحسن: نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. وقيل: نبتليه نكلفه بالعمل بعد الخلق. قال مقاتل رضي الله عنه: وقيل: نكلفه ليكون مأموراً بالطاعة ومنهياً عن المعاصي. {فجعلناه} أي: بما لنا من العظمة بسبب ذلك {سميعاً بصيراً} أي: عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته، فيصح تكليفه وابتلاؤه فقدّم العلة الغائية لأنها متقدّمة في الاستحضار على التابع لها المصحح لورودها، وقدّم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأنّ الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، وخصهما بالذكر لأنهما أنفع الحواس، ولأنّ البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع، وقال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والأصل إنا جعلناه سميعاً بصيراً نبتليه، أي: جعلنا له ذلك للابتلاء. وقيل: المراد بالسميع المطيع كقولك سمعاً وطاعة وبالبصير العالم يقال: لفلان بصر في هذا الأمر. {إنا} أي: بما لنا من العظمة {هديناه السبيل} أي: بينا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشرّ ببعثة الرسل، وقال مجاهد رضي الله عنه: بينا له السبيل إلى السعادة والشقاوة. وقال السدّي رضي الله عنه: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. قال الرازي: والآية تدل على أنّ العقل متأخر عن الحواس. قال: وهو كذلك. وقوله تعالى: {إمّا شاكراً} أي: لإنعام ربه عليه {وإمّا كفوراً} أي: بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب نصب على الحال وفيه وجهان: أحدهما: أنه حال من مفعول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 هديناه أي: هديناه مبيناً له كلتا حالتيه، والثاني: أنه حال من السبيل على المجاز. قال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي: عرّفناه السبيل إمّا سبيلاً شاكراً وإمّا سبيلاً كفوراً كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد: 10) فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث، وعن جابر رضي الله عنه: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً» . ولما قسمهم إلى قسمين ذكر جزاء كل فريق فقال تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظمة {أعتدنا} أي: هيأنا وأحضرنا بشدّة وغلظة {للكافرين} أي: العريقين في الكفر خاصة وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل فقال تعالى: {سلاسلا} جمع سلسلة أي: يقادون ويوثقون بها {وأغلالاً} أي: في أعناقهم تشد فيها السلاسل فتجمع أيديهم إلى أعناقهم {وسعيراً} أي: ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد. وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي سلاسلاً وصلاً بالتنوين والباقون بغير تنوين وأما الوقف على الثانية فوقف عليها بغير ألف قنبل وحمزة، ووقف البزي وابن ذكوان وحفص بغير ألف وبالألف، ووقف الباقون بالألف ولا وقف على الأولى والرسم بالألف. أمّا من نوّن سلاسل فوجه بأوجه منها أنه قصد بذلك التناسب لأنّ ما قبله وما بعده منوّن منصوب. ومنها أن الكسائي وغيره من أهل الكوفة حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفضل منك. وقال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأنّ الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. وروي عن بعضهم أنه يقول: رأيت عمراً بالألف يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأيضاً هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً، قالوا صواحب وصواحبات. وفي الحديث: «إنكن صواحبات يوسف» ومنها أنه مرسوم في الإمام أي: مصحف الحجاز والكوفة بالألف، رواه أبو عبيدة ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف البصرة أيضاً. وقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، والثاني: أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرّن لسانه على صرف غير المنصرف ا. هـ. قال بعض المفسرين: وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة لا سيما على مشايخ الإسلام وأئمة العلماء الأعلام، وأما من لم ينوّنه فوجهه ظاهر لأنه على صيغة منتهى الجموع وقولهم: قد جمع نحو صواحبات لا يقدح لأنّ المحذور جمع التكسير، وهذا جمع تصحيح، وأما من لم يقف بالألف فواضح. ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيداً للترتيب فقال تعالى: {إنّ الأبرار} جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما سماهم الله تعالى الأبرار؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق» . وقال الحسن رضي الله عنه: البرّ الذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة رضي الله عنه: الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث «الأبرار الذين لا يؤذون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 أحداً» . {يشربون من كأس} هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض {كان مزاجها} أي: ما تمزج به {كافوراً} لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضاً كمام الشجر الذي هو ثمرتها، والكافر البحر، والكافر الليل، والكافر الساتر لنعم الله تعالى، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض، قال الشاعر: *وكافر مات على كفره ... وجنة الفردوس للكافر* والكفارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور: ماء جوف الشجر مكفور فيغرزونه بالحديد فيخرج إلى ظاهر الشجر فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار. فإن قيل: مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره؟ أجيب: بأوجه: أحدها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكافور اسم عين في الجنة يقال لها عين الكافور، أي: يمازجها ماء هذه العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرّته. ثانيها: أنّ رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم فخلق الله تعالى تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب، فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون الكافور ريحها لا طعمها. ثالثها: أنّ الله تعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه تعالى يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضارّ وقال سعيد عن قتادة رضي الله عنهم: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقيل: يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه فكأنها مزجت بالكافور. وقوله تعالى: {عيناً} في نصبه أوجه: أحدها: أنه بدل من {كافوراً} لأنّ ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرده واقتصر على هذا الجلال المحلي. الثاني: أنه بدل من محل {من كأس} قاله مكي ولم يقدّر حذف مضاف، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال: كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين. الثالث: أنه نصب على الاختصاص قاله الزمخشري. الرابع: أنه بإضمار أعني قاله القرطبي، وقيل: غير ذلك. {يشرب بها} قال الجلال المحلي: منها. وقال البقاعي: أي: بمزاجها. وقال الزمخشري: بها الخمر، قال: كما تقول شربت الماء بالعسل والأوّل أوضح. {عباد الله} أي: أولياؤه. فإن قيل: الكفار عباد الله وهم لا يشربون منها بالاتفاق؟ أجيب: بأنّ لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ولكن يشكل بقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7) فإنه يصير تقدير الآية ولا يرضى لعبادة المؤمنين الكفر مع أنه سبحانه لا يرضى الكفر للكافر ولا لغيره، وقد يجاب بأنّ هذا أكثري لا كلي، أو يقال: حيث أضيف العباد أو العبد إلى اسم الله الظاهر سواء كان بلفظ الجلالة أم لا فالمراد به المؤمن، وإن أضيف إلى ضميره تعالى فيكون بحسب المقام، فتارة يختص بالمؤمن كقوله تعالى: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر: 42) وتارة يعمّ كقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} وقوله تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم} (الحجر: 49) {يفجرونها} أي: يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم وإن علت {تفجيراً} سهلاً لا يمتنع عليهم. {س76ش7/ش13 يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ? مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ? مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَشُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَـ?ـاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّـ?ـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَ?ـاهُم بِمَا صَبَرُوا? جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُّتَّكِـ?ِينَ فِيهَا عَلَى ا?رَآ?ـ?ِكِ? يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَزَمْهَرِيرًا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى: {يوفون بالنذر} وهذا يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً لكان مضمرة. قال الفراء: التقدير: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري: يوفون جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان: واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى، وقال الكلبي: {يوفون بالنذر} أي: يتممون العهود لقوله تعالى: {وأفوا بعهد الله} (النمل: 91) {أوفوا بالعقود} (المائدة: 1) أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي: والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حدّه: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» . ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيءٍ بل لكرم الطبع. {ويخافون} أي: مع فعلهم للواجبات {يوماً} قال ابن عبد السلام: شرّ يوم أو أهوال يوم {كان} أي: كوناً هو في جبلته {شرّه} أي: ما فيه من الشدائد {مستطيراً} أي: فاشياً منتشراً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه: كان شرّه فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. فإن قيل: لم قال تعالى: {كان شرّه} ولم يقل سيكون؟ أجيب: بأنه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 1) فبما قيل في ذاك يقال هنا. {ويطعمون الطعام} أي: على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون، وقوله تعالى: {على حبه} حال إما من الطعام أي: كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه، كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92) ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق الصحابة رضي الله عنهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد، وإما من الفاعل والضمير في حبه لله أي: على حب الله وعلى التقديرين فهو مصدر مضاف للمفعول. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. {مسكيناً} أي: محتاجاً احتياجاً يسيراً فصاحب الاحتياج الكثير أولى {ويتيماً} أي: صغيراً لا أب له {وأسيراً} أي: في أيدي الكفار. وخص هؤلاء بالذكر لأنّ المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه عما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له وبقي عاجزاً عن الكسب لصغره، والأسير لا يتمكن لنفسه نصراً ولا حيلة. وقال مجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم: الأسير المحبوس فيدخل في ذلك المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دفعهم إليهم قال: «استوصوا بهم خيراً» . وقيل: الأسير المملوك، وقيل: المرأة لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان» أي: أسرى. وقوله تعالى: {إنما نطعمكم} على إضمار القول أي: يقولون بلسان المقال أو الحال: إنما نطعمكم أيها المحتاجون {لوجه الله} أي: لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر بالوجه لأنّ الوجه يستحى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته {لا نريد منكم} لأجل ذلك {جزاء} أي: لنا من أعراض الدنيا {ولا شكوراً} أي: لشي من قول ولا فعل، روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى. ثم عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم {إنا نخاف من ربنا} أي: الخالق لنا المحسن إلينا {يوماً} أي: أهوال يوم هو في غاية العظمة وبينوا عظمته بقولهم {عبوساً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولك: نهارك صائم روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدّته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. {قمطريراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: طويلاً. وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم: القمطرير الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبس. وقال الكلبي: العبوس الذي لا انبساط فيه والقمطرير الشديد وقال الأخفش: القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاد يقال يوم قمطرير وقماطير إذا كان شديداً كريهاً. ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله تعالى سبب عنه جزاءهم فقال تعالى: {فوقاهم الله} أي: الملك الأعظم بسبب خوفهم {شر ذلك اليوم} أي: العظيم ولا بدّ لهم من نعيم ظاهر وباطن ومسكن يقيمون فيه وملبس وقد أشار إلى الأوّل بقوله تعالى: {ولقاهم} أي: أعطاهم {نضرة} أي: حسناً دائماً في وجوههم، وأشار إلى الثاني بقوله تعالى: {وسروراً} أي: في قلوبهم دائماً في مقابلة خوفهم في الدنيا. وأشار إلى الثالث بقوله تعالى: {وجزاهم بما صبروا} أي: بسبب ما أوجدوا من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الشهوات وبذل المحبوبات {جنة} أي: ادخلوا بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون وإن كان غيرهم يشاركهم في ذلك دونهم في الجزاء وأشار إلى الرابع بقوله تعالى: {وحريراً} أي: ألبسوه أي: هو في غاية العظمة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن ابن عباس أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما صوم ثلاثة أيام إن برئا فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض عليّ من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة آصع من شعير وطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك زاد في الكشاف فلما أصبحوا أخذ عليّ رضي الله تعالى عنه بيد الحسن والحسين فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال: خذها يا محمد ـ أي: السورة ـ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة حديث موضوع. ثم بين حالهم فيها بقوله تعالى {متكئين فيها} أي: الجنة. واختلفوا في إعراب متكئين، فقال الجلال المحلي: حال من مرفوع ادخلوها المقدر. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالاً من المفعول في جزاهم وأن يكون صفة، واعترض عليه في كونه صفة بأنه لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم الضمير، فيقال: متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له وقيل: إنه من فاعل صبروا، واعترض أنّ الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة، وأجيب بأنه يصح أن يكون حالاً مقدرة لأنّ مآلهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة. ثم أشار إلى زيادة راحتهم بقوله تعالى: {على الأرائك} أي: السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة وقيل: الأرائك الفرش على السرر. وقوله تعالى: {لا يرون فيها} أي: الجنة حال ثانية على الخلاف المتقدم في الأولى، ومن جوّز أن تكون الأولى صفة جوّزه في الثانية. وقيل: إنها حال من الضمير المرفوع المستكن في متكئين فتكون حالاً متداخلة. {شمساً} أي: حرًّا {ولا} يرون فيها {زمهريراً} أي: برداً شديداً فالآية من الاحتباك دل نفي الشمس أوّلاً على نفي القمر ودل نفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحرّ الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أنّ الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان إذ لا تكليف فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائماً بخلاف الدنيا، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشتكت النار إلى ربها قالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها» وقيل: الزمهرير القمر بلغة طيء، وأنشدوا: *وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر* ويروى ما ظهر. {ودانية} أي: قريبة مع الارتفاع {عليهم ظلالها} أي: شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية، فقال البغوي: عطف على متكئين. وقال الجلال المحلي: عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل، قال البيضاوي: أو عطف على جنة أي: وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46) . فإن قيل: إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل؟ أجيب: بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث. {وذللت قطوفها} جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي: المجنية {تذليلاً} أي: سهل تناولها تسهيلاً عظيماً لا يردّ اليد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً أو مضطجعين تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتفعت إليهم، وقال البراء: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى. ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى: {ويطاف} أي: من أي طائف كان لكثرة الخدم {عليهم بآنية} جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي: يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى: {من فضة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي: الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى: يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) أي: والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر. ولما جمع الآنية خص فقال تعالى {وأكواب} جمع كوب، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة {كانت} أي: تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها {قوارير} أي: كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق، جمع قارورة وهي ما أقرّ فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل: هو خاص بالزجاج. ولما كان رأس آية وكان التعبير بالقوارير ربما أفهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال تعالى معيد للفظ أوّل الآية الثانية تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: {قوارير من فضة} أي: قد جمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه، وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقال الكلبي: إن الله تعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإنّ أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون منها. وقرأ نافع وشعبة والكسائي وصلاً بالتنوين فيهما ووافقهم ابن كثير في الأول دون الثاني، والباقون بغير تنوين، وأما الوقف فمن نون وقف بالألف، ومن لم ينون وقف بغير ألف إلا هشاماً، فإنه وقف على الثاني بالألف وفي الوصل لم ينون فالقراءات حينئذ على خمس مراتب: إحداها: تنوينهما معاً، والوقف عليهما بالألف. الثانية: مقابله وهو عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف، الثالثة: عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف، الرابعة: تنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها. الخامسة: عدم تنويهما معاً والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها. وأما من نوّنهما فلما مرّ في تنوين سلاسل؛ لأنهما صيغة منتهى الجموع ذاك على مفاعل وذا على مفاعيل، والوقف بالألف التي هي بدل التنوين، فأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف فظاهر، وأما من نوّن الأول دون الثاني فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي، ولم يناسب بين الثاني وبين الأوّل، والوجه في وقفه على الأوّل بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر، وأما من لم ينوّنهما ووقف على الأوّل بألف وعلى الثاني بدونها فلأنّ الأوّل رأس آية فناسب بينه وبين رؤوس الأي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني لأنه ليس برأس آية، وأما من لم ينوّنهما ووقف عليهما بالألف، فإنه ناسب بين الأول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 وبين رؤوس الأي وناسب بين الثاني وبين الأول. وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنها فاصلة وفي الثاني لإتباعه الأوّل يعني: أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم، كقوله: *يا صاح ما هاج العيون الذرفن* وقوله تعالى {قدّروها تقديراً} صفة لقوارير من فضة وفي الواو في قدّروها وجهان: أحدهما: أنه للمطاف عليهم، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على تقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجاءت كما قدّروا. والثاني: أنه للطائفين بها دل عليه قوله تعالى: {ويطاف عليهم} (الإنسان: 15) على أنهم قدّروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنه ولا يعجز، وعن مجاهد رضي الله عنه لا تغيض ولا تفيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما قدّروها على ملء الكف حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة. {ويسقون} أي: ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة {فيها} أي: في الجنة أو تلك الأكواب {كأساً} أي: خمراً في إناء {كان مزاجها} أي: ما تمزج به على غاية الإحكام {زنجبيلاً} أي: غاية اللذة، وكانت العرب تلتذ بالشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم، والزنجبيل: نبت معروف، وسمي الكأس بذلك لوجود طعم الزنجبيل فيها قال الأعشى: *كأن القرنفل والزنجبي ... ل باتابفيها وأريا مشورا* وقال المسيب بن علس: *وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ اذقته وسلافة الخمر* وقوله تعالى: {عيناً فيها} أي: الجنة بدل من زنجبيلاً وكون الزنجبيل عيناً فيه خرق للعوائد؛ لأنّ الزنجبيل عندنا شجر يحتاج في تناوله إلى علاج، فبين أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحوّل عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل {تسمى} أي: تلك العين لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسموّ وصفها {سلسبيلاً} والمعنى: أن ماء تلك العين كالزنجبيل الذي تلتذ به العرب سهل المساغ في الحلق، فليس هو كزنجبيل الدنيا يلذع في الحلق فتصعب إساغته. والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة زيدت فيه الباء زيادة في المبالغة في هذا المعنى، وقال مقاتل وابن حبان رضي الله عنهما: سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان. قال البغوي: وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع. وقال مقاتل رضي الله عنه: يشربها المقربون صرفاً وتمزج لسائر أهل الجنة. ولما ذكر تعالى المطوف به لأنه الغاية المقصودة وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة بقوله تعالى. {ويطوف عليهم} أي: بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب {ولدان} أي: غلمان هم في سن من هو دون البلوغ؛ لأنّ الفقهاء قالوا: الناس غلمان وصبيان وأطفال وذراري إلى البلوغ ثم هم بعد البلوغ شبان وفتيان إلى الثلاثين، ثم هم بعدها كهول إلى الأربعين ثم بعدها شيوخ واستنبط بعضهم ذلك من القرآن في حق بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى في حق يحيى: {وآتيناه الحكم صبياً} (مريم: 12) وفي حق عيسى: {يكلم الناس في المهد وكهلاً} (آل عمران: 46) وعن إبراهيم: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 إبراهيم} (الأنبياء: 60) وعن يعقوب: {إنّ له اباً شيخاً كبيراً} (يوسف: 78) . وقالوا: وأقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام، ويعطى في الجنة قدر الدنيا عشر مرّات. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها. ثم وصف تعالى تلك الغلمان بقوله تعالى: {مخلدون} أي: قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير علة ولا ارتفاع عن ذلك الحدّ مع أنهم مزينون بالحلي وهو الحلق والأساور والقرط والملابس الحسنة. {إذا رأيتهم} أي: يا أعلى الخلق وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي الشامل لكل راء في أي حالة رأيتهم فيها {حسبتهم} أي: من بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في الخدمة {لؤلؤاً منثوراً} أي: من سلكه أو من صدفه وهو أحسن منه في غير ذلك، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم: أطفال المؤمنين لأنهم ماتوا على الفطرة. وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله تعالى إيمانه من أولاد الكفار، وتكون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لنا في الدنيا سبياً وخداماً. وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم. ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ابنه إبراهيم عليه السلام: «إن له لظئراً تتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على انتقال شأنه فيما هنالك وكتنقله في الأحوال في الدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك. وقرأ السوسي وشعبة بإبدال الهمزة الأولى الساكنة وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية. ولما ذكر المخدوم والخدم ذكر المكان بقوله تعالى: {وإذا رأيت} أي: وجدت منك الرؤية {ثم} أي: هناك في أي مكان كان في الجنة، وأي شيء كان فيها. وقوله تعالى {رأيت} جواب إذا أي: رأيت {نعيماً} أي: ليس فيه كدر بوجه من الوجوه ولا يقدر على وصفه واصف. {وملكاً كبيراً} أي: لم يخطر على باله مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة. قال سفيان الثوري: بلغنا أن المُلْك الكبير تسليم الملائكة عليهم. وقيل: كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك، وقال الحكيم الترمذي: هو ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً، قالوا له: كن فيكون. وفي الخبر: إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة أي: وما فيهم دنيء الذي في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه سبحانه وتعالى كل يوم. أي: قدر يوم من أيام الدنيا مرّتين. ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ذكر لباسهم بقوله تعالى: {عاليهم} أي: فوقهم {ثياب سندس} هو ما رق من الحرير {خضر وإستبرق} وهو ما غلظ من الديباج فهو البطائن، والسندس الظهائر، وقرأ نافع وحمزة {عاليهم} بسكون الياء بعد اللام وكسر الهاء والباقون بفتح الياء وضم الهاء؛ لأنّ الياء لما سكنت كسرت الهاء ولما تحرّكت ضمت الهاء، فأما قراءة نافع وحمزة ففيها أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً، وثياب مبتدأ مؤخر. وأمّا قراءة الباقين ففيها أيضاً أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً وثياب مبتدأ مؤخراً. كأنه قال: فوقهم ثياب. قال أبو البقاء: لأنّ عاليهم بمعنى فوقهم، والضمير المتصل به للمطوف عليهم أو للخادم والمخدوم جميعاً وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب. وقرأ نافع وحفص خضر وإستبرق برفعهما، وقرأ حمزة والكسائي بخفضهما. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر وجرّ إستبرق، وقرأ ابن كثير وشعبة بجرّ خضر ورفع إستبرق. وحاصل القراءات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 في ذلك أربع مراتب: الأولى: رفعهما، الثانية: خفضهما، الثالثة: رفع الأوّل وخفض الثاني، الرابعة: عكس ذلك. فأمّا القراءة الأولى: فإنّ رفع خضر على النعت لثياب ورفع إستبرق نسق على الثياب، ولكن على حذف مضاف أي: وثياب إستبرق، وأمّا القراءة الثانية: فيكون جرّ خضر على النعت لسندس. ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع، فقال مكي: هو اسم جمع، وقيل: هو جمع سندسة كتمر وتمرة، ووصف اسم الجنس بالجمع صحيح قال تعالى: {وينشىء السحاب الثقال} (الرعد: 12) ، {وأعجاز نخل منقعر} (القمر: 20) ، {ومن الشجر الأخضر} (يس: 80) وإذا كانوا قد وصفوا المحلى لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض وفي التنزيل {أو الطفل الذين} فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى، وجرّ إستبرق نسقاً على سندس لأنّ المعنى: ثياب من سندس وثياب من إستبرق، وأمّا القراءة الثالثة: فرفع خضر نعتاً لثياب وجرّ إستبرق نسقاً على سندس أي: ثياب خضر من سندس ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر، وأمّا القراءة الرابعة: فجرّ خضر على أنه نعت لسندس ورفع إستبرق على النسق على ثياب بحذف مضاف أي: وثياب إستبرق. ثم أخبر تعالى عن تحليتهم بقوله سبحانه {وحلوا} أي: المخدوم والخادم {أساور من فضة} وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم «الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» فلذلك كان أبو هريرة يرفع إلى المنكبين وإلى الساقين. تنبيه: قال هنا: {أساور من فضة} وفي سورة فاطر: {يحلون فيها من أساور من ذهب} (فاطر: 33) وفي سورة الحج: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ} (الحج: 23) فقيل: حلي الرجال الفضة وحلي النساء الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يدي أحدهم سواران من ذهب، وسواران من فضة، وسواران من لؤلؤ لتجتمع لهما محاسن الجنة قاله سعيد بن المسيب. وقيل: يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه. وقيل: أسورة الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء. وقيل: هذا للنساء والصبيان. وقيل: هذا يكون بحسب الأوقات والأعمال. {وسقاهم ربهم} أي: الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم {شراباً طهوراً} أي: ليس هو كشراب الدنيا سواء أكان من الخمر أم من الماء أم من غيرهما فهو بالغ الطهارة. وقال عليّ رضي الله عنه: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث شعورهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم وصار ما أكلوه وشربوه رشح مسك وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من أذى، وعلى هذا فيكون فعول للمبالغة. وقال الرازي: قوله تعالى {طهوراً} في تفسيره احتمالات: أحدها: لا يكون نجساً كخمر الدنيا، وثانيها: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 وتدوسه الأرجل الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. وثالثها: أنه لا يؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً لأنه يطهر بواطنهم من الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية. فإن قيل: هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا؟ أجيب: بأنه نوع آخر لوجوه: أولها: رفع. ثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} وذلك يدل على فضل هذا دون غيره، ثالثها: ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيراً عجيباً وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذاً بلقائه باقياً ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة. وقوله تعالى: {إنّ} على إضمار القول أي: ويقال لهم إنّ {هذا كان لكم جزاء} أي: على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم {وكان} أي: على وجه الثبات {سعيكم مشكوراً} أي: لا نضيع شيئاً منه ونجازي بأكثر منه أضعافاً مضاعفة. ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى: {إنا نحن} أي: على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا {نزلنا عليك} وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزَّل خلُقُاً لك {القرآن} أي: الجامع لكل هدى {تنزيلاً} قال ابن عباس: متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة. قال الرازي: والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وشرح صدره فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من كهانة وسحر، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد: إنّ ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي. وفي ذلك فائدتان، الأولى: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار، لأنّ الله تعالى عظمه وصدّقه. الثانية: تقويته على تحمل مشاق التكليف، فكأنه تعالى يقول له: إني ما نزلت القرآن عليك متفرّقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال. {فاصبر لحكم ربك} أي: المحسن إليك. قال ابن عباس: اصبر على أذى المشركين ثم نسخ بآية القتال. وقيل: اصبر لما يحكم عليك به من الطاعات أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة {ولا تطع منهم} أي: الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي: داعياً إلى إثم سواء كان مجرّداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي: مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا، فإنّ الحق أكبر من كل كبير. وقال قتادة: أراد بالآثم والكفور أبا جهل، وذلك أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 لما فرضت الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأنّ على عنقه. وقال مقاتل: أراد بالآثم عتبة بن ربيعة وبالكفور الوليد بن المغيرة، وكانا أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوّة عرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أوّل حم السجدة إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} (فصلت: 13) فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ. فإن قيل: كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله: {آثماً أو كفوراً} أجيب: بأنّ معناه: ولا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه؛ لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. ثم قال فإن قيل: معنى أو: ولا تطع أحدهما فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن إطاعتهما جميعاً؟ أجيب: بأنه لو قال: ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما أنهى عن طاعتهما جميعاً كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف علم أنه نهى عن ضربهما بطريق الأولى. فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطيع أحداً منهم فما فائدة هذا النهي؟ أجيب: بأنّ المقصود بيان أنّ الناس محتاجون إلى التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى النساء وأنّ الواحد لو استغنى عن توفيق الله تعالى وإرشاده لكان أحق الناس به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم دائماً أبداً، ومتى ظهر لك ذلك عرفت أنّ كل مسلم لا بدّ له من الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه أن يصونه عن الشهوات. {واذكر} أي: في الصلاة {اسم ربك} أي: المحسن إليك بكل جميل {بكرة} أي: الفجر {وأصيلاً} أي: الظهر والعصر. {ومن الليل} أي: بعضه والباقي للراحة بالنوم {فاسجد له} أي: المغرب والعشاء {وسبحه ليلاً طويلاً} أي: صل التطوّع فيه كما تقدّم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه أو اذكره بلسانك بكرة عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جميعاً وأصيلاً أي: عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين إشارة إلى دوام الذكر وذكر اسمه لازم لذكره والذي عليه أكثر المفسرين. الأوّل قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة لأنّ الصلاة أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أركان لسانية وحركات وسكنات على هيئات مخصوصة من عادتها أن لا تفعل إلا بين يدي الملوك. ولما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والأمر والنهي عدل سبحانه إلى شرح أحوال الكفار والمتمردّين فقال تعالى: {إنّ هؤلاء} أي: الذين يغفلون عن الله من الكفار والمتمردّين {يحبون} أي: محبة تجدّد عندهم زيادتها في كل وقت {العاجلة} لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور ومعدن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 الأمراض للقلوب التي في الصدور، ومن تعاطى أسباب الأمراض مرض وسمي كفوراً، ومن تعاطى ضدّ ذلك شفي وسمي شاكراً. {ويذرون} أي: ويتركون {وراءهم} أي: قدّامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به وقوله تعالى: {يوماً} مفعول يذرون لا ظرف وقوله تعالى: {ثقيلاً} وصف له استعير له الثقل لشدّته وهو له من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض. {نحن خلقناهم} أي: بما لنا من العظمة لا غيرنا {وشددنا} أي: قوّينا {أسرهم} أي: توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق عظامهم بالأعصاب بعد أن كانوا نطفاً أمشاجاً في غاية الضعف. وأصل الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقدّ وهو الإسار، وفرس مأسور الخلق {وإذا شئنا} أي: بما لنا من العظمة أن نبدّل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم {بدّلنا أمثالهم} أي: جئنا بأمثالهم بدلاً منهم إمّا بأن نهلكهم ونأتي ببدلهم ممن يطيع، وإمّا بتغيير صفاتهم كما شوهد في بعض الأوقات من المسخ وغيره، وقوله تعالى: {تبديلاً} تأكيد. قال الجلال المحلي: ووقعت إذا موقع إن، نحو {إن يشأ يذهبكم} (النساء: 133) لأنه تعالى لم يشأ ذلك وإذاً لما يقع. وفي ذلك رد لقول الزمخشري: وحقه أن يجيء بإن لا بإذا كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} (محمد: 38) {إن يشأ يذهبكم} (النساء: 133) {إن هذه} أي: السورة أو الآيات القريبة {تذكرة} أي: عظة للخلق فإنّ في تصفحها تنبيهات للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر قلبه وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه {فمن شاء} أي: بأن اجتهد في وصوله إلى ربه {اتخذ} أي: أخذ بجهده في مجاهدة نفسه ومغالبة هواه {إلى ربه} أي: المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع جوارحه وقلبه ويجتهد في القرب منه {سبيلاً} أي: طريقاً واضحاً سهلاً واسعاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع الفهم، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئتنا. {وما تشاؤون} أي: في وقت من الأوقات شيئاً من الأشياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المدّ والقصر، وله أيضاً إبدالها واواً مع المدّ والقصر {إلا} وقت {أن يشاء الله} أي: الملك الأعلى الذي له الأمر كله والملك كله على حسب ما يريد ويقدر وقد صح بهذا ما قال الأشعري وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون: إنا نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين: لا فعل لنا أصلاً، ومثل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدّد سكينة وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه، ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها ما لا يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعبد كالسكين خلقه الله تعالى وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال: أنا أخلق فعلي مستقلاً به فهو كمن قال: السكين تقطع بمجرّد وضعها من غير تحامل، ومن قال: الفاعل هو الله من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال: هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول: إنه باشر بقدرته المهيأة لفعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 يخلقه الله تعالى لها في ذلك الفعل، كمن قال: إنّ السكين قطعت بالتحامل عليها بهذا أجرى الله سبحانه وتعالى عادته في الناس ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أنّ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه. ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم بقوله تعالى {إنّ الله} أي: المحيط علماً وقدرة {كان} أي: أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بما يستأهل كل أحد {حكيماً} أي: بالغ الحكمة فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشرّ ساقه إليه وحمله عليه وهو معنى قوله تعالى: {يدخل من يشاء} أي: ممن علمه من أهل السعادة {في رحمته} أي: جنته وهم المؤمنون. وقوله تعالى {والظالمين} أي: الكافرين منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: {أعدّ لهم} مثل أوعد وكافأ ليطابق الجمل المعطوف عليها {عذاباً أليماً} أي: مؤلماً فهم فيه خالدون أبد الآبدين. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً» حديث موضوع. سورة المرسلات عرفا ً مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} فمدنية. وقال ابن مسعود: «نزلت والمرسلات عرفاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيتم شرّها كما وقيت شرّكم» ا. هـ. والغار المذكور مشهور في منى وقد زرته ولله الحمد، وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة والمرسلات عرفاً فسمعتني أمّ الفضل امرأة العباس فبكت. وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. وهي خمسون آية وإحدى وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفاً. {بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} المنعم على الخلق أجمعين {الرحيم} الذي خص بكرامته عباده المؤمنين. {والمرسلات عرفاً} أي: الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضها بعضاً ونصبها على الحال، هذا ما عليه الجمهور من أنها الرياح قال تعالى: {وأرسلنا الرياح} (الحجر: 22) وقال تعالى: {ويرسل الرياح} (الأعراف: 57) . وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله تعالى ونهيه والخير والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل والكلبي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الأنبياء عليهم السلام أرسلوا بلا إله إلا الله. وقال أبو صالح: هم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وقيل: المراد السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه. {فالعاصفات} أي: الرياح الشديدة {عصفاً} أي: عظيماً بما لها من النتائج الصالحة، وقيل: الملائكة شبهت لسرعة جريها في أمر الله تعالى بالرياح، وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي: تعصف بركابها فتمضي كأنها ريح في السرعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 وعصفت الحرب بالقوم أي: ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. {والناشرات ونشراً} أي: الرياح اللينة تنشر المطر. وقال الحسن: هي الرياح التي يرسلها الله تعالى بين يدي رحمته، وقيل: الأمطار لأنها تنشر النبات بمعنى تحييه. وروي عن السدي أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى. وروى الضحاك أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد. تنبيه: إنما قال الله تعالى {والناشرات} بالواو لأنه استئناف قسم آخر. {فالفارقات فرقاً} أي: الرياح تفرق السحاب وتبدده قاله مجاهد، وعن ابن عباس هي الملائكة تفرّق الأقوات والأرزاق والآجال، وقيل: هم الرسل فرّقوا بين ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه أي: بينوا ذلك، وقيل: آيات القرآن تفرّق بين الحق والباطل والحلال والحرام. {فالملقيات ذكراً} أي: الملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: هو جبريل عليه السلام وحده سمي باسم الجمع تعظيماً. فإن قيل: ما المناسبة على هذا بين الرياح والملائكة في القسم؟ أجيب: بأنّ الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح. وقيل: المراد به الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم، وذكراً مفعول به ناصبه الملقيات. {عذراً أو نذراً} مصدران من عذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوّف على فعل كالكفر والشكر. ويجوز أن يكون جمع عذير بمعنى المعذور، وجمع نذير بمعنى الإنذار، وبمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما إمّا على البدل من ذكراً على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له، وإمّا على الوجه الثالث، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرأ {أو نذراً} نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بضم الذال والباقون بسكونها. وقوله تعالى: {إنما توعدون لواقع} جواب القسم، ومعناه أنّ الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وقال الكلبي: المراد أنّ كل ما توعدون به من الخير والشرّ لواقع. ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى: {فإذا النجوم} أي: على كثرتها {طمست} أي: محي نورها أو ذهب نورها ومحقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى: {انتثرت} (الإنفطار: 20) و {انكدرت} (التكوير: 2) قال الزمخشري: ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور. {وإذا السماء} أي: على عظمها {فرجت} أي: فتحت وشققت فكانت أبواباً، والفرج الشق ونظيره {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1) {وإذا الجبال} أي: على صلابتها {نسفت} أي: ذهب بها كلها بسرعة من نسفت الشيء: إذا اختطفته، أو نسفت كالحب إذا نسف بالمنسف، ونحوه {وبست الجبال بساً} (الواقعة: 5) {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} (المزمل: 14) {وإذا الرسل} أي: الذين أنذروا الناس ذلك اليوم فكُذبوا {أقتت} قال مجاهد والزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم، أي: جمعت لميقات يومٍ معلومٍ وهو يوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت أجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كقوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} (المائدة: 109) . وقرأ أبو عمرو بواو مضمومة والباقون بهمزة مضمومة وهما لغتان، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم: وكدت وأكدت. وقوله تعالى: {لأي يوم} أي: عظيم متعلق بقوله تعالى: {أجلت} وهذه الجملة معمولة لقول مضمر أي: يقال لأي يوم أجلت، وهذا القول المضمر يجوز أن يكون جواباً لإذا وأن يكون حالاً من مرفوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 {أقتت} أي: مقولاً فيها لأي يوم أجلت أي: أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم وتعجيب له وقوله تعالى: {ليوم الفصل} بيان ليوم التأجيل. وقيل: اللام بمعنى إلى، ذكره مكي. قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق كقوله تعالى: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} (الدخان: 40) ثم أتبع هذا التعظيم تعظيماً آخر بقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الفصل} أي: ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله في شدّته ومهابته، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين والباقون بالفتح. ثم أتبعه تهويلاً ثالثاً بقوله تعالى: {ويل يومئذ} أي: إذ يكون يوم الفصل {للمكذبين} أي: بذلك، قال القرطبي: ويل عذاب وخزي لمن كذب بالله تعالى وبرسله وكتبه وبيوم الفصل، وهو وعيد وكرّره في هذه السورة عند كل آية كأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإنّ لكل مكذب بشيء عذاباً سوى عذاب تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرماً من تكذيبه لغيره؛ لأنه أقبح في تعظيمه وأعظم في الردّ على الله تعالى، وإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه، وهو قوله تعالى: {جزاء وفاقاً} (النبأ: 26) . وقيل: كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد، وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب، وقاله ابن عباس وغيره، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «عرضت عليّ جهنم فلم أر فيها وادياً أعظم من الويل» ، وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أنّ شرّ المواضع ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات والجيف وماء الحمامات، فذكر أنّ الوادي مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتناً. تنبيه: ويل مبتدأ، وسوّغ الابتداء به الدعاء، ويومئذ ظرف للويل وللمكذبين خبره. وقال الزمخشري: فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ؟ قلت: هو في أصله مصدر منصوب ساد مسدّ فعله لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه {سلام عليكم} (الرعد: 24) واعترض بأنّ الذي ذكره ليس من المسوّغات التي ذكرها النحويون، وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره. {ألم نهلك} أي: بما لنا من العظمة {الأوّلين} من لدن آدم عليه السلام إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم كقوم نوح وعاد وثمود بتكذيبهم أي: أهلكناهم {ثم نتبعهم الآخرين} أي: ممن كذبوا ككفار مكة فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين ونسلك بهم سبيلهم؛ لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. {كذلك} أي: مثل ذلك الفعل الشنيع {نفعل بالمجرمين} أي: بكل من أجرم فيما يستقبل إمّا بالسيف وإمّا بالهلاك.d {ويل يومئذ} أي: إذ يوجد ذلك الفعل {للمكذبين} أي: بآيات الله وأنبيائه، قال البيضاوي: فليس تكراراً وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد لأنّ الويل الأوّل بعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب. {ألم نخلقكم} أي: أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تغيرها عظمة {من ماء مهين} أي: ضعيف حقير وهو المني، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار وهو من وجهين: الأوّل: أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكل ما كان نعمه عليه أكثر كان جنايته في حقه أقبح وأفحش. الثاني: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم: {ويل يومئذ للمكذبين} وهذه الآية نظير قوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} (السجدة: 8) . وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضاً إدغام الصفة مع الحذف. {فجعلناه} أي: بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم {في قرار} أي: مكان {مكين} أي: حريز وهو الرحم. {إلى قدر معلوم} أي: وهو وقت الولادة، كقوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة} إلى قوله: {ويعلم ما في الأرحام} (لقمان: 34) {فقدرنا} أي: ذلك دون غيرنا {فنعم القادرون} نحن، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى: فقدّرناه والباقون بالتخفيف، وقال عليّ كرم الله وجهه: ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحداً؛ لأنّ العرب تقول: قدر وقدرعليه الموت. {ويل يومئذ} أي: إذ كان ذلك {للمكذبين} أي: بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة. وقوله تعالى: {ألم نجعل} أي: نصير بما شئنا بما لنا من العظمة {الأرض كفاتاً} مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة. {أحياء} أي: على ظهرها في الدور وغيرها {وأمواتاً} أي: في بطنها في القبور وغيرها. وقيل: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي: الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت، وقيل: كفاتاً جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم، وقال الخليل: تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم، أي: انقلبوا، فمعنى الكفات أنهم يتصرّفون على ظهرها وينقلبون إليها فيدفعون فيها. {وجعلنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة {فيها} أي: الأرض {رواسي} أي: جبالاً لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن {شامخات} أي: مرتفعات جمع شامخ وهو المرتفع جدّاً، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبر، جعل كناية عن ذلك كثنى العطف وصعر الخدّ، كما قال لقمان لابنه: {ولا تصعر خدّك للناس} (لقمان: 18) {وأسقيناكم} أي: بما لنا من العظمة {ماء} أي: من الأنهار والعيون والغدران والآبار وغير ذلك {فراتاً} أي: عذباً تشربون منه ودوابكم وتسقون منه زرعكم، وهذه الأمور أعجب من البعث، روي في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة. {ويل يومئذ} أي: إذ تقوم الساعة {للمكذبين} أي: بأمثال هذه النعم. وقوله تعالى: {انطلقوا} على إرادة القول، أي: يقال للمكذبين يوم القيامة: انطلقوا. {إلى ما كنتم به تكذبون} من العذاب يعني: النار فقد شاهدتموها عياناً. {انطلقوا إلى ظل} أي: ظل دخان جهنم لقوله تعالى: {وظل من يحموم} (الواقعة: 43) . {ذي ثلاث شعب} أي: تشعب لعظمه كما يرى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب. وقيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظللهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش، وقيل: إن الشعب الثلاث: هي الضريع والزقوم والغسلين؛ لأنها أوصاف النار وقوله تعالى: {لا ظليل} أي: كنين يظلهم من حرّ ذلك اليوم تهكم بهم وردّ لما يوهم لفظ الظل. {ولا يغني} أي: ولا يردّ عنهم شيئاً {من اللهب} أي: لهب النار، فليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. واللهب ما يعلو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 على النار إذا اضطربت من أحمر وأصفر وأخضر. {إنها} أي: النار {ترمي} أي: من شدّة الاشتعال {بشرر} وهو ما تطاير من النار {كالقصر} أي: كل شررة كالقصر من البناء في عظمه وارتفاعه. قال ابن مسعود: يعني الحصون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ترمي بشرر كالقصر} قيل: هي الخشب العظام المقطعة، قال: وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخرها للشتاء فكنا نسميها القصر. وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل جمرة وجمر. وقوله تعالى: {كأنه} أي: الشرر {جمالات} قرأه حمزة والكسائي وحفص بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف على الجمع، جمع جمالة وهي التي قرأ بها أوّلاً وهي جمع جمل مثل حجارة وحجر. وقوله تعالى: {صفر} جمع أصفر أي: في هيئتها ولونها. وفي الحديث «شرار النار أصفر كالقير» والعرب تسمي سود الإبل صفراً لشوب سوادها بصفرة، فقيل: صفر في الآية بمعنى سود لما ذكروا في شعر عمران بن حطان الخارجي: *دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى* قال الترمذيّ: وهذا القول ضعيف ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب ممن قد قال هذا. وقد قال الله تعالى: {جمالات صفر} فلا نسلم من هذا شيئاً في اللغة. وقيل: شبه الشرر بالجمالات لسرعة سيرها، وقيل: لمتابعة بعضها بعضاً. {ويل يومئذ} أي: إذ يكون ذلك {للمكذبين} أي: بهذه الأمور العظام. {هذا} أي: يوم القيامة {يوم لا ينطقون} أي: بشيء من فرط الدهشة والحيرة، وهذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح وهذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة يوم طويل ذو مواطن ومواقيت ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ولذلك ورد الأمر أن في القرآن الكريم ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون. وروى عكرمة أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} و {لا تسمع إلا همساً} (طه: 108) و {أقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الصافات: 27) فقال: إنّ الله تعالى يقول: {وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج: 47) فإنّ لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان. وقال الحسن: فيه إضمار أي: هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة، فجعل نطقهم كلا نطق لأنه لا ينفع ولا يسمع، ومن نطق بما لا ينفع فكأنه ما نطق كما يقال لمن تكلم بكلام لا يفيد: ما قلت شيئاً. وقيل: إنّ هذا وقت جوابهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: 108) {ولا يؤذن لهم} أي: في العذر وقوله تعالى: {فيعتذرون} عطف على يؤذن من غير تسبب عنه فهو داخل في حيز النفي أي: لا إذن فلا اعتذار. {ويل يومئذ} أي: إذ كان هذا الموقف {للمكذبين} أي: الذين لا تقبل منهم معذرة. {هذا يوم الفصل} وهذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم أي: يقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق فيتبين المحق من المبطل {جمعناكم} أيها المكذبون من هذه الأمّة بما لنا من العظمة {والأوّلين} من المكذبين قبلكم فتحاسبون وتعذبون جميعاً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: جمع الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم والذين كذبوا النبيين من قبل. وقوله تعالى: {فإن كان لكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 كيد} أي: حيلة في دفع العذاب عنكم {فكيدون} أي: فاحتالوا لأنفسكم وقاوون، ولن تجدوا ذلك تقريع لهم على كيدهم لدين الله تعالى وذويه وتسجيل عليهم بالعجب، وقيل: إنّ ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيكون كقول هود عليه السلام {فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون} (هود: 55) {ويل يومئذ} أي: إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابهم {للمكذبين} أي: الراسخين في التكذيب في ذلك. ثم ذكر ضد المكذبين بقوله تعالى: {إنّ المتقين} أي: الذين اتقوا الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين {في ظلال} أي: تكاثف أشجار إذ لا شمس يظل من حرّها {وعيون} أي: من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: 15) . وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين والباقون بكسرها. {وفواكه مما يشتهون} في هذا إعلام بأن المأكل والمشرب في الجنة بحسب شهواتهم بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب. وقوله تعالى: {كلوا واشربوا} في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي: هم مستقرّون في ظلال مقولاً لهم ذلك. وقوله تعالى: {هنيئاً} حال أي: متهنئين {بما} أي: بسبب ما {كنتم تعملون} من طاعات الله تعالى. {إنا} أي: بما لنا من العظمة {كذلك} أي: كما جزينا المتقين هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي: نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا. {ويل يومئذ} أي: إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين {للمكذبين} أي: يمحض لهم العذاب المخلد ضدّ النعيم المؤبد. وقوله تعالى: {كلوا وتمتعوا} خطاب للكفار في الدنيا {قليلاً} أي: من الزمان وغايته إلى الموت وهو زمان قليل لأنه زائل مع قصر مدّته في زمن الآخرة وفي هذا تهديد لهم، ويجوز أن يكون ذلك خطاباً لهم في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد، وهذا ما جرى عليه الزمخشري أوّلاً وذكر الأول ثانياً، واقتصر الجلال المحلي على ما ذكرته أولاً وهو أولى. قال بعض العلماء: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها. ثم علل ذلك مؤكداً بقوله تعالى لأنهم ينكرون وصفهم بذلك: {إنكم مجرمون} ففيه دلالة على أنّ كل مجرم يتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً. {ويل يومئذ} أي: إذ تعذبون بإجرامكم {للمكذبين} حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل. {وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء المجرمين من أي: قائل كان {اركعوا} أي: صلوا الصلاة التي فيها الركوع كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وأطلقوه عليها تسمية لها باسم جزئها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة ولأنه خاص بصلاة المسلمين {لا يركعون} أي: لا يصلون، قال الرازي: وهذا ظاهر لأنّ الركوع من أركانها، فبين تعالى أنّ هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ويجوز أن يكون اركعوا بمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 اخشعوا وتواضعوا لله بقبول وحيه واتباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم، وأن يكون بمعنى اركعوا في الصلاة إذ روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال صلى الله عليه وسلم «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» . قال في القاموس: جبى تجبية وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبية أن تقوم قيام الراكع. واستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة؛ لأنّ الله تعالى ذمهم حال كفرهم، وعلى أنّ الأمر للوجوب لأنّ الله تعالى ذمهم بمجرّد ترك المأمور به، وهو يدل على أنّ الأمر للوجوب. فإن قيل: إنما ذمهم لكفرهم. أجيب بأنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لتركهم المأمور به. وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها. {ويل يومئذ} أي: إذ يكون الفصل {للمكذبين} أي: بما أمروا به. قال الرازي: إنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بهذه الوجوه العشرة المذكورة وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل القطعية مع تجليها ووضوحها {فبأي حديث بعده} أي: القرآن {يؤمنون} أي: لا يمكن إيمانهم بغيره من كتب الله تعالى بعد تكذيبهم به لاشتماله على الإعجاز الذي لم يشتمل عليه غيره، واستدل بعض المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن حادث لأن الله تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً. وأجيب: بأن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاع في أنها محدثة. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والمرسلات كتب الله تعالى له أنه ليس من المشركين» حديث موضوع. سورة عم يتساءلون وتسمى سورة النبأ مكية وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية ومائةوثلاثة وسبعون كلمة وسبعمائة وسبعون حرفاً {بسم الله} الذي له الملك كله {الرحمن} الذي عم الوجود بفضله {الرحيم} الذي تمحضت أولياؤه جنته. وقوله تعالى: {عم} أصله عن ما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما، كقوله فيم واستعمال الأصل قليل. ومنه قول حسان: *على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرّغ في رماد* ومعنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن كأنه قال عن أي شيء {يتساءلون} ، ونحوه قولك: زيد ما زيد جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره كما تقول: ما الغول، وما العنقاء تريد أي شيء هو من الأشياء هذا أصله، ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية، ولذا لما وقف البزي ألحق الميم هاء السكت بخلاف عنه، والضمير في يتساءلون لأهل مكة، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم. وذلك أن النبيّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد، ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء، وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً وكانوا جميعاً يتساءلون عنه، أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء. ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا؟ فقال تعالى: {عن النبأ العظيم} قال مجاهد والأكثرون: هو القرآن، دليله قوله تعالى: {قل هو نبأ عظيم} (ص: 67) وقال قتادة: هو البعث. فإن قيل: إذا كان الضمير يرجع للكافر، فكيف يكون قوله تعالى: {الذي هم} أي: بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوى الضمائر {فيه مختلفون} مع أنّ الكفار كانوا متفقين على إنكار البعث؟ أجيب: بأنا لا نسلم اتفاقهم على ذلك بل كان فيهم من يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني فمنهم من يقطع القول بإنكاره ومنهم من يشك، وأما إذا كان المتساءل عنه القرآن فقد اختلفوا فيه كثيراً وقيل: المتساءل عنه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {كلا} ردع للمتسائلين هزؤاً، {سيعلمون} ما يحل بهم على إنكارهم له. وقوله تعالى: {ثم كلا سيعلمون} تأكيد وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشدّ من الأول. وقال الضحاك: الأولى للكفار والثانية للمؤمنين، أي: سيعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث بقوله تعالى: {ألم نجعل} أي: بما لنا من العظمة {الأرض مهاداً} أي: فراشاً كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه تسمية للممهود بالمصدر كضرب الأمير. {والجبال} أي: التي تعرفون شدّتها وعظمها. {أوتاداً} أي: تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد، والاستفهام للتقرير، فيستدل بذلك على قدرته على جميع الممكنات. وإذا ثبت ذلك ثبت القول بصحة البعث، وإنه قادر على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة. تنبيه: مهاداً مفعول ثان لأنّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فتكون حالاً مقدّرة. {وخلقناكم} أي: بما دل على ذلك من مظاهر العظمة {أزواجاً} أي: أصنافاً ذكوراً وإناثاً وقيل: ألواناً. {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {نومكم سباتاً} أي: راحة لأبدانكم. قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه. وقيل: معناه جلعنا نومكم قطعاً لأعمالكم وقيل: المسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيتين. وقوله تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {الليل} أي: بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن {لباساً} فيه استعارة أي: يستركم عن العيون بظلمته كما إذا أردتم هرباً من عدوّ أو بياتاً له أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر: *وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أنّ المانوية تكذب* ولما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً فقال تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة {النهار} أي: الذي آيته الشمس {معاشاً} أي: حياة تبعثون فيه عن نومكم، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشاً على هذا اسم زمان. {وبنينا} بما لنا من الملك التامّ {فوقكم سبعاً} أي: سبع سماوات وقوله تعالى: {شداداً} جمع شديدة أي: قوية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32) {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا {سراجاً} أي: منيراً متلألئاً {وهاجاً} أي: وقاداً وهي الشمس. {وأنزلنا} أي: بما لنا من كمال الأوصاف {من المعصرات} أي: السحاب إذا أعصرت أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع أي: حان أن يجز، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. وعن الحسن وقتادة: هي السماوات، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السموات عصرن. وقيل: من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل: الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه. {ماء ثجاجاً} أي: منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث: «أفضل الحج العج والثج» أي: رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجاً يسيل غرباً، يعني: يثج الكلام ثجاً في خطبته. {لنخرج} أي: بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب {به} أي: بذلك الماء {حباً} أي: نجماً ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز {ونباتاً} أي: ما يعتلف به كالتبن والحشيش، كما قال تعالى: {كلوا وارعوا أنعامكم} (طه: 54) {والحب ذو العصف والريحان} (الرحمن: 12) {وجنات} أي: بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره {ألفافاً} أي: ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف. وقيل: هو جمع الجمع، يقال: جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل: لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: الواحد لف. قال صحاب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي: *جنة لف وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر* وقال الزمخشري: ولو قيل: هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً. {إن يوم الفصل} أي: بين الخلائق {كان} أي: في علم الله تعالى وفي حكمه كوناً لا بدّ منه {ميقاتاً} أي: وقتاً للثواب والعقاب، أو وقتاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق. وقوله تعالى: {يوم ينفخ في الصور} أي: القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له، والنافخ إسرافيل عليه السلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك {فتأتون} أي: بعد القيام من القبور إلى الموقف {أفواجاً} أي: جماعات مختلفة. وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكياً، وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي، بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم. ثم فسر هؤلاء بقوله: فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني: النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا، واما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم فعلهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» ا. هـ. وقد تكلم في صحة هذا الحديث نعوذ بالله تعالى من هؤلاء ونسأله التوفيق لنا ولأحبابنا، فإنه كريم جواد لا يردّ من سأله. {وفتحت السماء} أي: شققت لنزول الملائكة {فكانت أبواباً} فإن قيل: هذه الآية تقتضي أنّ السماء بجملتها تصير أبواباً؟ أجيب: بوجوه أوّلها: أنّ تلك الأبواب لما كثرت صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة، كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} (القمر: 12) كأنّ كلها عيون تتفجر. ثانيها: أنه على حذف مضاف، أي: فكانت ذات أبواب. ثالثها: أن الضمير في قوله تعالى: {فكانت أبواباً} يعود إلى مضمر، والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً، وقيل: الأبواب الطرق والمسالك أي: تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف التاء بعد الفاء والباقون بتشديدها. {وسيرت الجبال} أي: ذهب بها عن أماكنها {فكانت سراباً} أي: لا شيء كما أنّ السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء، قال الرازي: إنّ الله تعالى ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} (الحاقة: 14) والحالة الثانية: أن تصير كالعهن المنفوش وهو قوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} (القارعة: 5) والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى: {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} (الواقعة: 5 ـ 6) الحالة الرابعة: أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدّمة قارة في مواضعها فترسل عليها الرياح فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيرها في الهواء وهو قوله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفاً} (طه: 105) الحالة الخامسة: أن تصير سراباً أي: لا شيء كما يرى السراب من بعد. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار. {إنّ جهنم} أي: النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون {كانت مرصاداً} أي: ترصد الكفار أو موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مرورهم عليها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا فيقال: انظروا إن كان له تطوّع أكملوا أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة. وأما الكافر فهو مستمرّ فيها كما قال تعالى: {للطاغين} أي: الكافرين {مآبا} أي: مرجعاً يرجعون إليه. وقرأ حمزة {لابثين فيها} بغير ألف بين اللام والباء الموحدة والباقون بألف وهما لغتان والأولى أبلغ قاله البيضاوي. وقوله تعالى: {أحقاباً} جمع حقب والحقب الواحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة، روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مجاهد: الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً. وقال الحسن: إنّ الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدّة بل قال: {لابثين فيها أحقاباً} فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدّة إلا الخلود، روي عن عبد الله أنه قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا. وقال مقاتل بن حبان: الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة. قال: وهذه الآية منسوخة نسختها {فلن نزيدكم إلا عذاباً} يعني: أنّ العدد قد ارتفع والخلود قد دخل وعلى تقدير عدم النسخ فهو من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ويجوز أن يراد {لابثين فيها أحقاباً} . {لا يذقون} أي: غير ذائقين {فيها} أي: النار {برداً ولا شراباً} {إلا حميماً وغساقاً} ثم يبدّلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فيتنصب حالاً عنهم يعني: لابثين فيها حقبين جهدين، وقوله تعالى: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} تفسير له والاستثناء منقطع يعني: لا يذوقون فيها برداً. قال عطاء والحسن: أي: راحة وروحاً، أي: ينفس عنهم حرّ النار ولا شراباً يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً أي: ماء حارًّا غاية الحرارة وغساقاً وهو ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ البرد النوم ومثله، قال الكسائي وأبو عبيدة: تقول العرب منع البرد البرد أي: أذهب البرد النوم، قال الشاعر: *فلو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا* وقرأ حمزة والكسائيّ وجعفر بتشديد السين والباقون بتخفيفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده. جوزوا بذلك {جزاء وفاقاً} أي: موافقاً لعملهم قال مقاتل: وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الكفر ولا عذاب أعظم من النار. وقوله تعالى: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} بيان لما وافقه هذا الجزاء أي: لا يخافون أن يحاسبوا. والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا أنهم يحاسبون. {وكذبوا بآياتنا} أي: بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وقيل: القرآن وقرأ {كذاباً} غير الكسائيّ بالتشديد أي: تكذيباً، قال الفراء: وهي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال. وقال الزمخشري: وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال: لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله. وقرأ الكسائيّ بالتخفيف مصدر كذب بدليل قول الشاعر: *فصدقته وكذبته ... والمرء ينفعه كذابه* قال الزمخشري: وهو مثل قوله: {أنبتكم من الأرض نباتاً} (نوح: 17) يعني: وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً، أو تنصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأنه كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فبلغ فيه أقصى جهده. {وكل شيء} أي: من الأعمال وغيرها {أحصيناه} أي: ضبطناه، وقوله تعالى: {كتاباً} فيه وجهان أحدهما: أنه مصدر في موضع إحصاء والإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط، ثانيهما: أن يكون حالاً بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ كقوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس: 12) . وقيل: أراد ما تكتبه الملائكة الموكلون بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة لقوله تعالى: {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين} (الإنفطار: 10 ـ 11) والجملة اعتراض. وقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم} أي: شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات {إلا عذاباً} تسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، قال الرازي: وفي هذه الآية مبالغات منها لن للتأكيد ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله تعالى: {فذوقوا} بعد ذكر العذاب، قال أبو بردة: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشدّ آية في القرآن؟ فقال صلى الله عليه وسلم «قوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} » أي: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب و {كلما خبت زدناهم سعيراً} . ولما ذكر تعالى ما للكافرين أتبعه بذكر ما للمؤمنين فقال تعالى: {إنّ للمتقين مفازاً} أي: مكان فوز في الجنة. وقوله تعالى: {حدائق} أي: بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مفازاً بدل الإشمال أو البعض أو بيان له وقوله تعالى: {وأعناباً} أي: كروماً عطف على مفازاً. {وكواعب} أي: جواري تكعب ثديهنّ جمع كاعب {أتراباً} أي: على سنّ واحد جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء وقيل: الأتراب اللدات. {وكأساً دهاقاً} أي: خمراً مالئة محالها وفي القتال {وأنهار من خمر} والدهاق المترعة ودهق الحوض ملأه حتى قال: قطني، وقال ابن عباس: مترعة مملوءة. وقال عكرمة: صافية. {لا يسمعون فيها} أي: الجنة في وقت ما عند شرب الخمر وغيره من الأحوال {لغواً} أي: لغطاً يستحق أن يلغى بأن يكون ليس له معنى، وقوله تعالى: {ولا كذاباً} قرأه بالتخفيف الكسائي وبالتشديد الباقون، أي: تكذيباً من واحد لغيره بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر. {جزاء من ربك} أي: المحسن إليك بما أعطاك جزاهم بذلك جزاء. وقوله تعالى: {عطاء} بدل من جزاء وهو اسم مصدر وجعله الزمخشري منصوباً بجزاء نصب المفعول به، وردّه أبو حيان بأنه جعل جزاء مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي {إنّ للمتقين} قال: والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه لا ينحل لحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافاً {حساباً} أي: كافياً وافياً يقال: أحسبت فلاناً أي: أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة أي: عطاء كثيراً، وقيل: جزاء بقدر أعمالهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن} برفع رب والرحمن وابن عامر وعاصم بخفضهما والآخران بخفض الأول ورفع الثاني. أما رفعهما فمن أوجه: أحدها: أن يكون رب خبر مبتدأ مضمر أي: هو رب والرحمن كذلك، أو مبتدأ خبره لا يملكون، ثانيها: أن يجعل رب مبتدأ والرحمن خبره، ولا يملكون خبراً ثانياً أو مستأنفاً، ثالثها: أن يكون ربّ مبتدأ والرحمن نعته، ولا يملكون خبر رب. رابعها: أن يكون رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثانٍ ولا يملكون خبره، والجملة خبر الأوّل، وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 رأي الأخفش، ويجوز أن يكون لا يملكون حالاً وتكون لازمة. وأما جرّهما فعلى البيان والنعت أو يجعل رب السموات تابعاً للأوّل والرحمن تابعاً للثاني، وأما جرّ الأوّل فعلى التبعية للأوّل. ورفع الثاني، فعلى الابتداء والخبر الجملة الفعلية وهي لا يملكون أي: الخلق. {منه} أي: من الله تعالى {خطاباً} والضمير في لا يملكون لأهل السموات والأرض أي: ليس في أيديهم ما يخاطب به الله، ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرّف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه أولا يملكون أن يخاطبوا بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه. وقوله تعالى: {يوم} متعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون {يقوم الروح والملائكة} وقوله تعالى: {صفاً} حال أي: مصطفين، والروح أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفاً وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثلهم، وقال الشعبي: هو جبريل عليه السلام، وقيل: ملك موكل على الأرواح. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفاً وحده. وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم: الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم، وقال الحسن رضي الله عنه: هو بنو آدم ورواه قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال: هذا ما كان يكتمه ابن عباس، وقيل: هو جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام. وقيل: أرواح بني آدم، وقال زيد بن أسلم: هو القرآن، وقرأ {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} (الشورى: 52) وإذا كان هؤلاء {لا يتكلمون} وهم من أفضل الخلق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه تعالى لا يملكون التكلم، فما ظنك بمن عداهم من أهل السموات والأرض، ويجوز رجوع الضمير للخلق أجمعين. {إلا من أذن له} أي: في الكلام إذناً خاصاً {الرحمن} أي: الملك الذي لا تكون النعمة إلا منه {وقال} قولاً {صواباً} في الدنيا أي: حقاً من المؤمنين والملائكة وهما شريطتان: أن يكون المتكلم مأذوناً له في الكلام، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى. لقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28) وقيل: القول الصواب لا إله إلا الله. {ذلك} أي: المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلوّ منزلته {اليوم الحق} أي: الكائن لا محالة وهو يوم القيامة {فمن شاء اتخذ إلى ربه} أي: المحسن إليه {مآباً} أي: مرجعاً وسبيلاً لطاعته ليسلم من العذاب في ذلك اليوم، فإنّ الله تعالى جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله تعالى. {إنّا} أي: على ما لنا من العظمة {أنذرناكم} أي: يا كفار مكة {عذاباً قريباً} أي: عذاب يوم القيامة الآتي وكل آت قريب، وقوله تعالى: {يوم} ظرف لعذاباً بصفته {ينظر المرء} أي: كل امرئ سواء كان مؤمناً أو كافراً نظراً لا مرية فيه {ما} أي: الذي {قدمت يداه} أي: كسبه في الدنيا من خير وشرّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 وقال الحسن رضي الله عنه: أراد بالمرء المؤمن أي: يجد لنفسه عملاً، وأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً فيتمنى أن يكون تراباً، ولأنه تعالى قال: {ويقول الكافر} فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن وقيل: هو الكافر لقوله تعالى: {إنا أنذرناكم} فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذمّ. ومعنى {ما قدّمت يداه} من الشرّ كقوله تعالى: {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك} (الحج: 9 ـ 10) وما يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت أي: ينظر أي شيء قدّمت يداه أو موصولة منصوبة بينظر يقال: نظرته بمعنى نظرت إليه والراجع إلى الصلة محذوف. وقال مقاتل رضي الله عنه: نزل قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} في أخية الأسود بن عبد الأسد وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم عليه السلام بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ورأى ما هو فيه من الشدّة والعذاب تمنى أنه كان بمكان آدم فيقول {يا ليتني كنت تراباً} . قال: ورأيته في بعض التفاسير. قال البغويّ: قال أبو هريرة رضي الله عنه فيقول التراب: لا ولا كرامة لكل من جعلك مثلي. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ثم يقال للبهائم والطير: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر {يا ليتني كنت تراباً} أي: فلا أعذب وقيل: معنى {يا ليتني كنت تراباً} أي: لم أبعث. وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ: عودوا تراباً فيعودون تراباً فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم: {يا ليتني كنت تراباً} ، وقال ليث بن أبي سليم مؤمنو الجنّ يعودون تراباً. وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهما: مؤمنو الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها، والذي عليه الأكثر أنهم مكلفون مثابون ومعاقبون كبني آدم، وقيل: يحشر الله تعالى الحيوان غير مكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يردّه تراباً فيودّ الكافر حاله. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة عمّ سقاه الله تعالى برد الشراب يوم القيامة» حديث موضوع. سورة النازعات مكية وهي خمس أو ست وأربعون آية ومائةوسبعون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفاً {بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي أنعم على سائر الموجودات {الرحيم} الذي خص أولياءه بالجنات {والنازعات} أي: الملائكة تنزع أرواح الكفار {غرقاً} أي: تنزع أرواحهم من أجسادهم بشدّة كما يغرق النازع في القوس ليبلغ بها غاية المدّ بعدما نزعها، حتى إذا كادت تخرج ردّها إلى جسده فهذا عملهم بالكفار. وقال عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما: يريد نفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعاً كالسفود ينزع من الصوف الرطب، ثم يغرقها أي: يرجعها إلى أجسادهم ثم ينزعها، فهذا عمله في الكفار. وقال السدّي رضي الله عنه: والنازعات هي النفوس حين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 تغرق في الصدور، وقال مجاهد رضي الله عنه: هي الموت ينزع النفوس. وقال الحسن وقتادة رضي الله عنهم: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم: هي النفوس، وقيل: الغزاة. تنبيه: غرقاً يجوز أن يكون مصدراً على حذف الزوائد بمعنى إغراقاً، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى، وأن يكون على الحال أي: ذوات إغراق. يقال: أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته. {والناشطات نشطاً} أي: الملائكة تنشط أرواح المؤمنين أي: تسلها برفق فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنه. وفي الحديث: «كأنما نشط من عقال» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «هي أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة؛ لأنّ الجنة تعرض عليهم قبل الموت» . وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أفواههم بالكد والغم» والنشط الجذب والنزع، يقال: نشط الدنو نشطاً انتزعها» . وقال السدّي رضي الله عنه: هي النفس تنشط من بين القدمين، أي: تجذب، وقال قتادة رضي الله عنه: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب. يقال: نشط من بلد إلى بلد إذا خرج في سرعة، ويقال حمار ناشط ينشط من بلد إلى بلد. وقال الجوهري: يعني النجوم تنشط من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. {والسابحات سبحاً} أي: الملائكة تسبح من السماء بأمره أي: ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد. يقال له: سابح إذا أسرع في جريه، وقال عليّ رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. قال الكلبي: كالذي يسبح في الماء، فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع يسلونها سلاً رفيقاً بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وعن مجاهد رضي الله عنه: السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقال قتادة والحسن رضي الله عنهم: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر، قال تعالى: {كل في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33) . وقال عطاء: هي السفن في الماء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حتى تخرج، وقيل: هي خيل الغزاة، قال عنترة: *والخيل تعلم حين تس ... بح في حياض الموت سبحا* {فالسابقات سبقاً} أي: الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وقال مجاهد رضي الله عنه: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله تعالى وكرامته، وقد عاينت السرور. وقال قتادة رضي الله عنه: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير. وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق في الجهاد، وقيل: هي ما يسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار. قال الجرجاني: ذكر السابقات بالفاء لأنها مسببة عن الذي قبلها، أي: واللاتي يسبحن فيسبقن. قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله تعالى: {فالمدبرات أمراً} أي: الملائكة تدبر أمر الدنيا، أي: تنزل بتدبيره. قال الرازي: ويمكن الجواب بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المدبرات هي الملائكة وكلوا بأمور عرّفهم الله تعالى العمل بها. قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة: جبريل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم السلام، فأما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقرب منه وبينه وبين العرش خمسمائة عام. وقيل: هي الكواكب السبع، حكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وفي تدبيرها بالأمور وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها، والثاني في تدبير ما قضى الله تعالى فيها من تقليب الأحوال أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأمور على قيام الساعة والبعث، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وأما العباد فلا يصح لهم أن يقسموا بغير الله تعالى وصفاته. وقوله تعالى: {يوم ترجف} أي: تضطرب اضطراباً كثيراً مزعجاً {الراجفة} أي: الصيحة منصوب بالجواب، أي: لتبعثنّ يا كفار مكة {يوم ترجف الراجفة} وهي النفخة الأولى بها يرجف كل شيء، أي: يتزلزل ويتحرّك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلائق فوصفت بما يحدث منها. {تتبعها الرادفة} أي: الصيحة التابعة لها وهي النفخة الثانية، ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة، والجملة حال من الراجفة واليوم واسع للنفختين وغيرهما، فصح ظرفيته للبعث الواقع عقيب الثانية. وقال قتادة رضي الله عنه: هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى، وقال عطاء: الراجفة القيامة والرادفة البعث. روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه» . {قلوب يومئذ} أي: إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى {واجفة} أي: خائفة قلقة مضطربة من الوجيف وهو صفة القلوب، وقال مجاهد رضي الله عنه: وجلة. وقال السدّي: زائلة عن أماكنها، نظيره {إذ القلوب لدى الحناجر} (غافر: 18) {أبصارها} أي: أبصار أصحابها، فهو من الاستخدام {خاشعة} أي: ذليلة من الخوف، ولذا أضافها إلى القلوب، كقوله تعالى: {خاشعين من الذل} (الشورى: 45) {يقولون} أي: أرباب القلوب والأبصار في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث {أئنا لمردودون} أي: بعد الموت {في الحافرة} أي: في الحياة التي كنا فيها قبل الموت، وهي حالتنا الأولى، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا، تقول العرب: رجع فلان في حافرته، أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأوّل الشيء. وقال بعضهم: الحافرة وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم، سميت حافرة بمعنى المحفورة. كقوله تعالى: {عيشة راضية} (الحاقة: 21) أي: مرضية، وقيل: سميت حافرة لأنها مستقرّ الحوافر، أي: إنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً نمشي عليها، وقال ابن زيد: الحافرة النار. {أئذا كنا} أي: كوناً صار جبلة لنا. {عظاماً نخرة} أي: بالية متفتتة نحيى بعد ذلك، وقرأ: أئنا وإذا نافع وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني، والباقون بالاستفهام فيهما، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون بالتحقيق، وأدخل بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ألفاً والباقون بغير إدخال. وقرأ نخرة حمزة وشعبة والكسائي بالألف بعد النون والباقون بغير ألف، وهما لغتان، مثل: الطمع والطامع، والحذر والحاذر، معناهما البالية، وفرق قوم بينهما فقالوا: النخرة البالية، والنخرة المجوّفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي: تصوّت. {قالوا} أي: المنكرون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 للبعث {تلك} أي: رجعتنا العجيبة إلى الحياة {إذاً} أي: إن صحت {كرّة} أي: رجعة {خاسرة} أي: ذات خسران أو خسار أصحابها، والمعنى: إن صحت فنحن إذاً خاسرون بتكذيبنا وهو استهزاء منهم. وعن الحسن رضي الله عنه أن خاسرة بمعنى كاذبة، أي: ليست كائنة. قال الله تعالى: {فإنما هي} أي: الرادفة التي يتبعها البعث {زجرة} أي: صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف {واحدة} عبر بالزجرة لأنه أشدّ من النهي، لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً فكان كأنه بلسان قال عن تلك الصيحة: أيها الأجساد البالية انتهي عن الرقاد وقومي إلى الميعاد بما حكمنا به من المعاد، فقد انتهى زمن الحصاد، وآن أوان الاجتناء لما قدّم من الزاد، فيا خسارة من ليس له زاد. {فإذا هم} أي: فتسبب عن تلك النفخة وهي الثانية أن كل الخلائق {بالساهرة} أي: صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال بعض أهل اللغة: تراهم سموها ساهرة لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. قال سفيان رضي الله عنه: هي أرض الشام، وقال قتادة رضي الله عنه: هي جهنم. فإن قيل: بم يتعلق {فإنما هي زجرة واحدة} ؟ أجيب: بأنه متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها {فإنما هي زجرة واحدة} يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله تعالى، فإنها سهلة هينة في قدرته تعالى. وقال الزمخشري: الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لأنّ السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة أي: جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس: *وساهرة يضحى السراب مجللاً ... لأقطارها قد جبتها متلثما* أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة. وقال الراغب: هي وجه الأرض. وقيل: أرض القيامة، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها كأنها سهرت من ذلك، والأسهران عرقان في الأنف، والساهور غلاف القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه. وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الساهرة أرض من فضة لم يعص الله عليها قط جعلها حينئذ، وقيل: الساهرة اسم للأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدّل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. وقال عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشأم، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمدّه الله تعالى كيف شاء. ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {هل أتاك} يا أشرف الخلق {حديث موسى} أي: أليس قد أتاك حديثه، فيسليك على تكذيب قومك ويهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود فلما أصرّ على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقناه وآله، ولم نبقِ منهم أحداً، وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث قيل: إنّ طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف فكيف بقومك الضعاف. وقوله تعالى: {إذ} أي: حين {ناداه} منصوب بحديث لا بأتاك {ربه} أي: المحسن إليه بالرسالة وغيرها {بالواد المقدّس} أي: المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوّة المفيضة للبركات. وقوله تعالى: {طوى} اسم الوادي وهو الذي طوي فيه الشرّ عن بني إسرائيل، ومن أراد الله تعالى من خلقه ونشر فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 بركات النبوّة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه، فإن العلماء قالوا: إنّ عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة، وهو واد بالطور بين إيلة ومصر، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين. وقوله تعالى: {اذهب إلى فرعون} أي: ملك مصر الذي كان يستعبد بني إسرائيل على إرادة القول {إنه طغى} أي: تجاوز الحدّ في الكفر وعلا وتكبر. وقال الرازي: لم يبين أنه طغى في أي شيء، فقيل: تكبر على الله تعالى وكفر به، وقيل: تكبر على الخلق واستعبدهم. { { وروي عن الحسن رضي الله عنه قال: كان فرعون علجاً من همدان، وقال مجاهد رضي الله عنه: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضاً: كان من أصبهان يقال له: ذو الظفر طوله أربعة أشبار. وقوله تعالى: {فقل} أي: له {هل لك} أي: هل لك سبيل {إلى أن تزكى} أي: تتطهر من الكفر والطغيان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: بأن تشهد أن لا إله إلا الله. وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك جاء بإلى، وقال غيره: يقال هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا كما تقول: هل ترغب فيه وهل ترغب إليه. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي، والأصل تتزكى والباقون بتخفيفها. {وأهديك إلى ربك} أي: وأنبهك على معرفة المحسن إليه {فتخشى} لأنّ الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) أي: العلماء به، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل» بدأ بمخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرفيق ليستدعيه للتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من علوه كما أمر بذلك في قوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً} (طه: 25) الآية. وقال الرازي: سائر الآيات تدل على أنه تعالى لما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة {نودي إني أنا ربك} إلى قوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى} (طه: 12 ـ 24) فدل قوله تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} أنه من جملة ما ناداه به لا كل ما ناداه به، وأيضاً فليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط، بل إلى كل من كان في الطور إلا أنه خصه بالذكر لأنّ دعوته جارية مجرى كل القوم. والفاء في قوله تعالى: {فأراه} عاطفة على محذوف يعني: فذهب فأراه {الآية الكبرى} كقوله تعالى: {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} (البقرة: 60) أي: فضرب فانفجرت. واختلفوا في الآية الكبرى أي: العلامة العظمى وهي المعجزة. فقال عطاء وابن عباس رضي الله عنهم: هي العصا. وقال مقاتل والكلبي رضي الله عنهما: هي اليد البيضاء تبرق كالشمس، والأوّل أولى لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا حاصل في العصا لأنها لما انقلبت حية لا بدّ وأن يتغير اللون الأوّل، فإذن كل ما في اليد فهو حاصل في العصا، وأمور أخر وهي الحياة في الجرم الجمادي وتزايد أجزائه، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة وابتلاعها أشياء كثيرة وزوال الحياة والقدرة عنها، وذهاب تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حية، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أنّ الآية الكبرى هي العصا. وقال مجاهد رضي الله عنه: هي مجموع العصا واليد، وقيل: فلق البحر، وقيل: جميع آياته التسع. {فكذب} أي: فتسبب عن رؤيته ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 أن كذب موسى عليه السلام {وعصى} الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقيق الأمر، وقيل: كذب بالقول وعصى بالتمرّد والتجبر. {ثم أدبر} أي: تولى وأعرض عن الإيمان بعد المهل والأناة إعراضاً عظيماً بالتمادي على أعظم ما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة، حال كونه {يسعى} أي: يعمل بالفساد في الأرض، أو أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى أي: يسرع في مشيته. قال الحسن رضي الله عنه: كان رجلاً طياشاً خفيفاً، وتولى عن موسى عليه السلام يسعى ويجتهد في مكايدته، أو أريد: ثم أقبل يسعى كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال. {فحشر} أي: فتسبب عن إدباره أنه جمع السحرة للمعارضة وجنوده للقتال {فنادى} حينئذ بأعلى صوته. قال حمزة الكرماني: قال له موسى عليه السلام: إنّ ربي أرسلني إليك لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في النعيم والسرور، ثم تموت فتدخل الجنة فقال: حتى أستشير هامان فاستشاره، فقال: أتصير عبداً بعدما كنت رباً، فعند ذلك جمع بعث الشرط وجمع السحرة والجنود. فلما اجتمعوا قام عدوّ الله على سريره {فقال أنا ربكم الأعلى} أي: لا رب فوقي، وقيل: أراد أنّ الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم، وقيل: أمر منادياً فنادى في الناس بذلك، وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ذلك. {فأخذه الله} أي: أهلكه بالغرق الملك الأعظم الذي لا كفء له {نكال} أي: عقوبة {الآخرة} أي: هذه الكلمة وهي قوله {أنا ربكم الأعلى} . {والأولى} وهي قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص: 38) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى: أمهله في الأولى ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه. وقال الحسن رضي الله عنه: {نكال الآخرة والأولى} هو أن أغرقه في الدنيا وعذبه في الآخرة. وعن قتادة رضي الله عنه: الآخرة هي قوله: {أنا ربكم الأعلى} والأولى تكذيبه لموسى عليه السلام. ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم الذي فعله فرعون والذي فعل به حين كذب وعصى {لعبرة} أي: لعظة {لمن يخشى} أي: لمن يخاف الله تعالى لأنّ الخشية أساس الخير كما مرّت الإشارة إليه. ثم خاطب تعالى منكري البعث بقوله تعالى: {أأنتم} أي: أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً {أشدّ خلقاً} أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم {أم السماء} أي: فمن قدر على خلق السماء على عظمها من السعة والكبر والعلوّ والمنافع قدر على الإعادة، وهذا كقوله تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر: 57) ، والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى: {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} (يس: 81) ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، والباقون بتحقيقهما، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال. { { وقوله تعالى: {بناها} بيان لكيفية خلقه إياها فالوقف على السماء والابتداء بما بعدها وقوله تعالى: {رفع سمكها} جملة مفسرة لكيفية البناء، والسمك الارتفاع أي: جعل مقدارها في سمت العلوّ مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام {فسوّاها} أي: فعدلها مستوية ملساء ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها من قولك: سوّى فلان أمر فلان. {وأغطش} أي: أظلم {ليلها} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 جعله مظلماً بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه، فصار لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء، وأضاف الليل إلى السماء لأنّ الليل يكون بغروب الشمس والشمس تضاف إلى السماء. ويقال: نجوم الليل، لأنّ ظهورها بالليل. وقوله تعالى: {وأخرج ضحاها} فيه حذف، أي: ضحى شمسها، أو أضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما لأنّ الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها، وإنما عبر عن النهار بالضحى؛ لأنّ الضحى أكمل أجزاء النهار بالنور والضوء. {والأرض بعد ذلك} أي: بعد المذكور كله {دحاها} أي: بسطها ومهدها للسكنى وبقية المنافع، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو فلا معارضة بينها وبين آية فصلت؛ لأنه خلق الأرض أولاً غير مدحوة ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله تعالى الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء فسوّاها سبع سموات ثم دحا الأرض بعد ذلك. وقيل: معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله تعالى: {عتلّ بعد ذلك} (القلم: 13) أي: مع ذلك، ومنه قولهم: أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيء الخلق. وقيل: بعد بمعنى قبل كقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} (الأنبياء: 105) أي: من قبل، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. {أخرج منها} أي: الأرض {ماءها} أي: بتفجير عيونها، وإضافتها إليها دليل على أنه مودوع فيها {ومرعاها} أي: النبات الذي يرعى مما يأكله الناس والأنعام من العشب والشجر والثمر والحب حتى النار والملح، لأنّ النار من العيدان قال تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} (الواقعة: 71) الآية، والملح من الماء، واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {يرتع ويلعب} (يوسف: 12) والمرعى في الأصل موضع الرعي. تنبيه: أخرج حال بإضمار قد أي: مخرجاً، وإضمار قد هو قول الجمهور وخالف الكوفيون والأخفش. {والجبال أرساها} أي: أثبتها على وجه الأرض لتسكن، ونظيره قوله تعالى: {والجبال أوتاداً} (النبأ: 7) وقوله تعالى: {متاعاً} مفعول له لمقدّر، أي: فعل ذلك منفعة أو مصدر لعامل مقدّر أي: متعكم تمتيعاً. {لكم} وقوله تعالى: {ولأنعامكم} جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، وذكر الأنعام لكثرة الانتفاع بها. {فإذا جاءت الطامة الكبرى} أي: الداهية التي تطم على الدواهي أي: تعلو وتغلب، وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القرى، قال ابن عباس: وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث. وقال الضحاك: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتغمره. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وقوله تعالى: {يوم يتذكر} أي: تذكراً عظيماً {الإنسان} أي: الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له بدل من إذا {ما سعى} في الدنيا من خير أو شرّ، يعني: إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكرها، وكان قد نسيها كقوله تعالى: {أحصاه الله ونسوه} (المجادلة: 6) وما في {ما سعى} موصولة أو مصدرية. {وبرّزت الجحيم} أي: أظهرت النار المحرقة إظهاراً بيناً مكشوفاً {لمن يرى} أي: لكل راء، كقولهم: قد تبين الصبح لذي عينين، يريدون لكل من له بصر، وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد، لكن الناجي لا ينصرف بصره إليها فلا يراها، كما قال تعالى: {لا يسمعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 حسيسها} (الأنبياء: 102) وجواب إذا قوله: {فأمّا من طغى} أي: تجاوز الحد في العدوان حتى كفر بربه {وآثر} أي: قدّم واختار {الحياة الدنيا} أي: انهمك فيها ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس {فإنّ الجحيم} أي: النار الشديدة التوقد العظيمة {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: مأواه كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك، وليست الألف واللام بدلاً عن الإضافة، ولكن لما علم أنّ الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة. تنبيه: {هي} يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ. {وأمّا من خاف مقام ربه} أي: قيامه بين يديه لعلمه بالمبدأ وبالمعاد، وقال مجاهد: خوفه في الدنيا من الله تعالى عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46) {ونهى النفس} أي: الأمارة بالسوء {عن الهوى} وهو اتباع الشهوات وزجرها عنها وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير. {فإنّ الجنة} أي: البستان لكل ما يشتهى {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: ليس له سواها مأوى، وحاصل الجواب أنّ العاصي في النار والطائع في الجنة. قال الرازي: هذان الوصفان مضادان للوصفين المتقدّمين فقوله تعالى: {فأما من خاف مقام ربه} ضد قوله تعالى: {فأما من طغى} . {ونهى النفس عن الهوى} ضد قوله تعالى: {وآثر الحياة الدنيا} فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات. وقال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق، فتعوّذوا بالله من ذلك الزمان. تنبيه: اختلف في سبب نزول هاتين الآيتين، فقيل: نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه. روى الضحاك عن ابن عباس قال: {أمّا من طغى} فهو أخو مصعب بن عمير أسر يوم بدر وأخذته الأنصار فقالوا: من أنت، قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدّوه في الوثاق وأكرموه وبيتوه عندهم فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ شدّوا أسيركم، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى تبعث أمّه فداءه، {وأمّا من خاف مقام ربه} فمصعب بن عمير وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، والمشاقص جمع مشقص وهو السهم العريض، فلما رآه صلى الله عليه وسلم متشحطاً في دمه قال صلى الله عليه وسلم «عند الله أحتسبك» وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعله من ذهب» وعن ابن عباس أيضاً: نزلت في رجلين أبي جهل بن هشام ومصعب بن عمير. وقال السدي: نزلت الآية الثانية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الكلبي: هما عامّتان. ولما سمع المشركون أخبار القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل الطامّة الكبرى والصاخة والقارعة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً متى تكون الساعة؟ نزل: {يسئلونك} يا أشرف الخلق {عن الساعة} أي: البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم به من أمرها {أيان مرساها} أي: في أي وقت إرساؤها، أي: إقامتها أرادوا متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكوّنها، أو أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه. فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {فيم} أي: في أي شيء {أنت من ذكراها} أي: من أن تذكر وقتها لهم وتعلهم به. تنبيه: {فيم} خبر مقدّم و {أنت} مبتدأ مؤخر و {من ذكراها} متعلق بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنت من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها «لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت» فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها، والمعنى: أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها. {إلى ربك} أي: المحسن إليك بأنواع النعم {منتهاها} أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحداً من خلقه كقوله تعالى: {إنما علمها عند ربي} (الأعراف: 187) وقوله تعالى: {إنّ الله عنده علم الساعة} (لقمان: 34) قال القرطبي: ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم، أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألونك، بيانه: ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: الوقف على قوله تعالى: {فيم} وهو خبر مبتدأ مضمر أي: فيم هذا السؤال، ثم يبتدأ بقوله تعالى: {أنت من ذكراها} أي: أرسلناك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في فم الساعة ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها فكفاهم بذلك دليلاً على دنوّها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها. {إنما أنت} أي: يا أشرف الرسل {منذر} أي: إنما بعثت لإنذار {من يخشاها} أي: لتخويف من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى؛ لأنه المنتفع به، أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها وإن كنت منذر الكل مكلف. {كأنهم} قال البغوي: يعني: كفار قريش {يوم يرونها} أي: يعلمون قيام الساعة علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور مع علمهم بما مرّ من زمانهم وما أتى فيه {لم يلبثوا} أي: في الدنيا أو في القبور {إلا عشية} أي: من الزوال إلى غروب الشمس {أو ضحاها} أو ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال، والعشية بعد ذلك أضيف إليها الضحى؛ لأنها من النهار، والإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار من أوّله أو آخره لم يستكملوا نهاراً تامّاً، ولم يجمعوا بين طرفيه، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» . فإن قيل: هلا قال: إلا عشية أو ضحى، وما فائدة الإضافة؟ أجيب: بأنّ ذلك للدلالة على أنّ مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضافه على عشيته فهو كقوله تعالى: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأحقاف: 35) وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة. تنبيه: قرأ {حديث موسى} ، {طوى} ، {طغى} ، {تزكى} ، {فتخشى} ، {وعصى} ، {يسعى} ، {فنادى} ، {الأعلى} ، {والأولى} ، {يخشى} ، {ما سعى} ، {طغى} ، {الدنيا} ، {المأوى} ، {عن الهوى} ، {المأوى} ، حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين وبين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين. وقرأ {فأراه الآية الكبرى} ، {الطامّة الكبرى} {لمن يرى} ، {من ذكراها} ، أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح في الجميع. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله تعالى في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة» حديث موضوع. سورة عبس مكية وتسمى سورة السفرة وهي اثنان وأربعون آية ومائة وثلاثون كلمة وثلاثمائة وثلاثون حرفاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 {بسم الله} الواحد القهار {الرحمن} الذي عمّ بإنعامه الأبرار والفجار {الرحيم} الذي خص أولياءه برحمته في دار القرار. {عبس} أي: كلح وجهه النبي صلى الله عليه وسلم {وتولى} أي: أعرض بوجهه لأجل {أن جاءه الأعمى} وهو ابن أمّ مكتوم وأم مكتوم أمّ ابيه واسمها عاتكة بنت عامر بن مخزوم، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ، وذلك أنه جاءه وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية ابن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم، فتعلو كلمة الله تعالى، فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرّر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما اتبعه العميان والعبيد والسفلة فعبس وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي» ، ويبسط له رداءه ويقول له: «هل لك حاجة؟» واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين غزاهما. قال أنس بن مالك: رأيته يوم القادسية راكباً وعليه درع وله راية سوداء. { { {وما يدريك} أي: أيّ شيء يجعلك دارياً بحاله {لعله} أي: الأعمى {يزكى} فيه إدغام التاء في الأصل في الزاي، أي: يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وفي ذلك إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية غيره. {أو يذكر} فيه إدغام التاء في الذال أي: يتعظ وتسبب عن تزكيته وتذكره قوله تعالى: {فتنفعه الذكرى} أي: العظمة المسموعة منك، وقرأ عاصم بنصب العين والباقون برفعها، فمن رفع فهو نسق على قوله تعالى: {أو يذكر} ومن نصب فعلى جواب الترجي كقوله تعالى في غافر: {فأطلع إلى إله موسى} (غافر: 37) . وقال ابن عطية في جواب التمني لأن قوله تعالى: {أو يذكر} في حكم قوله تعالى: {لعله يزكى} . واعترض عليه أبو حيان: بأنّ هذا ليس تمنياً وإنما هو ترجٍ. وأجيب عنه: بأنه إنما يريد التمني المفهوم وقت الذكرى. وقرأ الذكرى أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح وقيل: الضمير في لعله للكافر يعني: أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن. {أما من استغنى} أي: بالمال، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: استغنى عن الله وعن الإيمان بما له من المال. {فأنت له} أي: دون الأعمى {تصدّى} أي: تتعرّض له بالإقبال عليه والمصادّة المعارضة وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الصاد بإدغام التاء الثانية في الأصل فيها والباقون بالتخفيف. {وما} أي: فعلت ذلك والحال أنه ما {عليك} أي: وليس عليك بأس {ألا يزكى} أي: في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم إن عليك إلا البلاغ. {وأما من جاءك} حال كونه {يسعى} أي: يسرع في طلب الخير وهو ابن أمّ مكتوم {وهو} أي: والحال أنه {يخشى} أي: الله أو الكفار في أذاهم على الإتيان إليك. وقيل: جاء وليس معه قائد فهو يخشى الكبوة، وقرأ قالون وأبو عمرو والسدّي بسكون الهاء والباقون بضمها. {فأنت عنه تلهى} فيه حذف التاء الآخرة في الأصل، أي: تتشاغل، وقرأ {وتولى} ، {الأعمى} ، {يزكى} ، {من استغنى} ، {تصدّى} ، {يزكى} ، {يسعى} ، {يخشى} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 ، {تلهى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {كلا} ردع من العاتب عليه وعن معاودة مثله. فإن قيل: ما فعله ابن أمّ مكتوم كان يستحق عليه التأديب والزجر، فكيف عاتب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على تأديبه، لأنه وإن كان أعمى فقد سمع مخاطبته صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان بسماعه يعرف شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم لغرض نفسه قبل تمام كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم معصية عظيمة، وأيضاً فإنّ الأهمّ يقدّم على المهمّ، وكان قد أسلم وتعلم ما يحتاج من أمر الدين، وأما أولئك الكفار فلم يكونوا أسلموا، وكان إسلامهم سبباً لإسلام غيرهم، فكان كلام ابن أمّ مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك يحرم أيضاً. فإنّ الله تعالى ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرّد ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصارف للكفار عن الإيمان أولى أن يكون ذنباً، وأيضاً فمع هذا الاعتناء كيف لقب بالأعمى، وأيضاً فالنبيّ صلى الله عليه وسلم له أن يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتعبيس من ذلك القبيل؟ أجيب: بأنّ ما فعله ابن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالماً بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مشغولاً بغيره وأنه يرجو إسلامهم، ولكنه لم يعلم بذلك. وأيضاً الله سبحانه وتعالى إنما عاتبه على ذلك حتى لا تنكسر قلوب الضعفاء، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنيّ الكافر. وقال ابن زيد: إنما عبس النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه فدفعه ابن أمّ مكتوم وأبى إلا أن يتكلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان في هذا نوع جفاء منه، ومع هذا نزل في حقه ذلك، وأما ذكره بلفظ الأعمى فليس للتحقير بل كان بسبب عماه يستحق أن يزيده تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً، ولقد تأدب الناس بأدب الله تعالى في هذا تأدباً حسناً، فقد روي عن سفيان الثوري رضي الله عنه: أنّ الفقراء كانوا بمجلسه أمراء، وأما كونه صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً له في تأديب أصحابه فلأنّ تقديمهم ربما يوهم ترجيح تقديم الأغنياء على الفقراء فلهذا السبب عوتب. قال الحسن رضي الله عنه: لما تلا جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآيات عاد وجهه كأنما نسف فيه الرماد ينتظر ما يحكم الله تعالى عليه فلما قال: {كلا} سرّي عنه أي: لا تفعل مثل ذلك، وقد بينا نحن أنّ ذلك محمول على ترك الأولى. ثم قال الله تعالى: {إنها} أي: هذه السورة. وقال مقاتل رضي الله عنه: آيات القرآن. وقيل: القرآن، وأنثه لتأنيث خبره وهو قوله تعالى: {تذكرة} أي: عظة للخلق يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها. {فمن شاء ذكره} أي: كان حافظاً له غير ناس، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ. ثم إنّ الله تعالى أخبر عن جلالة ذلك عنده فقال سبحانه {في صحف} أي: منتسخة من اللوح المحفوظ، وقيل: هي كتب الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} (الأعلى، الآيتان: 18 ـ 19) . {مكرمة} أي: عند الله تعالى. {مرفوعة} أي: في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار {مطهرة} أي: منزهة عن أيدي الشياطين لا يمسها إلا أيدي ملائكة كرام مطهرين. كما قال تعالى: {بأيدي سفرة} أي: كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وهم الملائكة الكرام الكاتبون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 واحدهم سافر يقال: سفرت، أي: كتبت، ومنه قيل للكتاب: سفر وجمعه أسفار. وقيل: هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم بالصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم. ثم أثنى تعالى عليهم بقوله سبحانه: {كرام} أي: على الله تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في كرام قال: مكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إلا إذا خلا بزوجته أو برز لغائط وقيل: يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وقوله: {بررة} جمع بارّ كساحر وسحرة وفاجر وفجرة، والبارّ هو الصادق المطيع. ومنه برّ فلان في يمينه أي: صدق، وفلان يبر خالقه أي: يطيعه. فمعنى بررة مطيعين صادقين لله تعالى في أعمالهم. ولما ذكر تعالى ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فقال سبحانه. {قتل الإنسان} أي: لعن الكافر، وقوله تعالى: {ما أكفره} استفهام توبيخ، أي: ما أشدّ تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك مما حمله على الكفر. وقوله تعالى: {من أي شيء خلقه} استفهام تقرير. { { ثم بينه بقوله تعالى: {من نطفة} أي: ماء يسير جدّاً لا من غيره. {خلقه} أي: أوجده مقدّراً على ما هو عليه من التخطيط {فقدّره} أي: علقة ثم مضغة إلى آخر خلقه فكأنه قيل: وأي سبب في هذا الترفع مع أنّ أوّله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حامل عذرة، فإنّ خلقة الإنسان تصلح أن يستدل بها على وجود الصانع؛ لأنه يستدل بها على أحوال البعث والحشر. قيل: نزلت في عتبة بن أبي لهب والظاهر العموم. فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك، والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء، فالعالم به كيف يليق به ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح. كقولهم إذا تعجبوا من شيء: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى: {من نطفة خلقه} ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى: {فقدّره} أي: أطواراً وقيل: سوّاه كقوله تعالى: {ثم سوّاك رجلاً} (الكهف: 37) أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدّره تقديراً} (الفرقان: 2) ثم ذكر المرتبة الوسطى بقوله تعالى: {ثم} بعد انتهاء المدّة {السبيل} أي: طريق خروجه من بطن أمّه {يسره} أي: سهل له أمره في خروجه بأن فتح له الرحم وألهمه الخروج منه، ولا شك أنّ خروجه من أضيق المسالك من أعجب العجائب يقال: إنه كان رأسه في بطن أمّه من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام المراد، ومنه قوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد: 10) أي: التمييز بين الخير والشرّ. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد: سبيل الإسلام. قال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «كل ميسر لما خلق له» . ثم ذكر المرتبة الأخيرة بقوله تعالى: {ثم أماته} وأشار إلى إيجاب المبادرة بالتجهيز بالفاء المعقبة في قوله تعالى: {فأقبره} أي: جعله في قبر يستره إكراماً له، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير وغيرها. {ثم إذا شاء أنشره} أي: أحياه بعد موته للبعث، ومفعول شاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 محذوف أي: شاء إنشاره وأنشره جواب إذا، وقرأ قالون وأبو عمرو البزي بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وسهل الثانية ورش وقنبل ولهما أيضاً إبدالها ألفاً والباقون بتحقيقهما. وقوله تعالى: {كلا} ردع للإنسان عما هو عليه، وقيل: معناها حقاً. قال الأوّل الزمخشري وتبعه البيضاوي، وقال الثاني الجلال المحلي. {لما يقض} أي: يفعل {ما أمره} به ربه من الإيمان وترك التكبر. وقيل: لم يوف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم عليه السلام. وقيل: المعنى: إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التأمّل في دلائل الله تعالى والتدبر في عجائب خلقه. ولما كانت عادة الله تعالى جارية في القرآن أنه كلما ذكر دلائل الإنسان ذكر عقبها دلائل الآفاق بدأ من ذلك بما يحتاج إليه الإنسان بقوله تعالى: {فلينظر الإنسان} أي: يوقع النظر التامّ بكل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته {إلى طعامه} أي: الذي هو قوام حياته كيف هيأ له أسباب المعاش ليستعدّ بها للمعاد. قال الحسن ومجاهد: فلينظر إلى طعامه إلى مدخله ومخرجه. وروي عن الضحاك أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ضحاك، ما طعامك؟» قلت: يا رسول الله، اللحم واللبن، قال: «فشرابك ماذا؟» قلت: الماء قد علمته، قال: «فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا» . وروي عن ابن عمر أنّ الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه فيأتيه الملك فيقول انظر إلى ما تحليت به إلام صار. وقرأ {أنا صببنا} أي: بما لنا من العظمة {الماء} عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال بمعنى أنّ صب الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه بهذا التقدير، أو أنه تقدير لام العلة، أي: فلينظر لأنا ثم حذف الخافض، وقال البغوي: أنا بالفتح على تكرير الخافض مجازه فلينظر إلى أنا وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف تعديداً لنعمه تعالى عليه، وقوله تعالى {صباً} تأكيد، والمراد بالماء المطر. ولما كان الإنسان محتاجاً إلى جميع ما في الوجود ولو نقص منه شيء اختل أمره وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف وبالماء الذي هو حياة كل شيء تنبيهاً له على ابتداء خلقه. ثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال تعالى {ثم} أي: بعد مهلة من إنزال الماء {شققنا} أي: بما لنا من العظمة {الأرض} أي: بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أضعف الأشياء فكيف بالأرض اليابسة، وقوله تعالى {شقاً} تأكيد. ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له فقال تعالى: {فأنبتنا} أي: بما لنا من القدرة التامة {فيها} أي: بسبب الشق {حباً} أي: قمحاً وشعيراً وسلتاً وسائر ما يحصد ويدخر، وقدّم ذلك لأنه كالأصل في التغذية {وعنباً} وذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه {وقضباً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الرطب لأنه يقتضب من النخل، أي: يقطع ورجحه بعضهم لذكره بعد العنب لأنهما يقترنان كثيراً، وقيل: القت الرطب، وقيل: كل ما يقضب من البقول لبني آدم، وقيل: هو الرطبة والمقضاب أرضه، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه لأنه يقضب مرة بعد أخرى. وقال الحسن: القضب العلف للدواب. {وزيتوناً} وهو ما يعصر منه الزيت يكون فيه حرافة وغضاضة فيه إصلاح المزاج. وقوله تعالى: {ونخلاً} جمع نخلة، وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع المرافقة في الأرض والسقي. وقوله تعالى {وحدائق غلباً} جمع أغلب وغلباء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 كحمر في أحمر وحمراء، أي: بساتين كثيرة الأشجار. والأصل في الوصف بالغلب الرقاب، يقال: رجل أغلب وامرأة غلباء غليظا الرقبة فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب: *يمشي بها غلب الرجال كأنهم ... بزل كسين من الكحيل جلالا* وقال مجاهد ومقاتل: الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الطوال. وقيل: غلاظ الأشجار. {وفاكهة} وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ، قال النووي في منهاجه: ويدخل في فاكهة رطب وعنب ورمّان وأترج ورطب ويابس أي: كالتمر والزبيب، قال: قلت: وليمون ونبق وبطيخ ولب فستق وبندق وغيرها في الأصح. {وأباً} وهو ما تأكله الدواب لأنه يؤب أي: يؤمّ وينتجع إليه. وقال عكرمة: الفاكهة ما يأكله الناس، والأب ما تأكله الدواب، وقيل: التبن. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا عرفنا فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده، ثم قال: هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه. فإن قيل: هذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ أجيب: بأنه لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكثر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم الذي لا يعمل به تكلفاً عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة عندهم في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعاً له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهمّ من النهوض بالشكر لله تعالى على ما بين لك، ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك من مشكلات القرآن. {متاعاً} أي: العشب، أي: منفعة أو تمتيعاً كما تقدّم في السورة قبلها {لكم} أي: الفاكهة {ولأنعامكم} وتقدّم أيضاً في السورة التي قبلها معرفة الأنعام والحكمة في الاقتصار عليها. ولما ذكر تعالى هذه الأشياء وكان المقصود منها ثلاثة: أوّلها: الدلائل الدالة على التوحيد، وثانيها: الدلائل الدالة على القدرة والمعاد. وثالثها: أنّ هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرّد على طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكد لهذه الأغراض وهو شرح أحوال القيامة، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمّل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع فقال تعالى: {فإذا جاءت} أي: كانت ووجدت لأنّ كل ما هو كائن لاقيك وجاء إليك {الصاخة} أي: صيحة القيامة وهي النفخة الثانية التي تصخ الأذن، أي: تصمها لشدّة وقعتها. مأخوذة من صخه بالحجر أي: صكه به. وقال الزمخشري: صخ لحديثه مثل أصاخ فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً، لأنّ الناس يصخون لها. وقال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة كقوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 *أصمني سرّهم أيام فرقتهم ... وهل سمعتم بسرّ يورث الصمما* وجواب {إذا} محذوف دل عليه قوله تعالى: {فإذا جاءت الصاخة} أي: اشتغل كل واحد بنفسه. وقوله تعالى: {يوم يفرّ المرء} بدل من إذا {من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته} أي: زوجته {وبنيه} لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئاً كقوله تعالى: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} (الدخان: 41) { { فيفرّ المرء من هؤلاء الذين كان يفرّ إليهم في دار الدنيا ويستجير بهم لكثرة ما يشغله. وبدأ بالأخ لأنه أدناهم رتبة في الحب والذب، ثم بالأمّ لأنها كانت مشاركة له في الإلف ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم للأخ، وهو لها آلف وعليها أحنّ وعليها أرق وأعطف، ثم بالأب لأنه أعظم منها في الإلف لأنه أقرب منها في النوع، وللولد عليه من المعاطفة ما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله، ثم بالصاحبة لأنّ الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد، وكان الإنسان أذب عنها عند الشدائد، ثم بالولد لأنّ له من المحبة والمعاطفة بالسرور والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره. فقدّم أدناهم مرتبة في الحب والذب، فأدناهم على سبيل الترقي وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في سورة سأل فكأنه قيل: يفرّ المرء من أخيه بل من أمّه بل من أبيه بل من صاحبته بل من بنيه، وقيل: يفرّ منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ: لم تواسني بمالك، والأبوان: قصرت في برّنا، والصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم عليه السلام، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح. ولما ذكر الفرار أتبعه سببه فقال تعالى: {لكل امرئ} وإن كان أعظم الناس مروءة {منهم يومئذ} أي: إذ تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام. {شأن} أي: أمر عظيم. وقوله تعالى: {يغنيه} حال، أي: يشغله عن شأن غيره. وعن سودة رضي الله تعالى عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يبعث الناس حفاة عراة غرلاً ـ أي: بالقلفة ـ قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» فقلت: يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم «قد شغل الناس {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} » . وقال قتيبة: يغنيه أي: يصرفه عن قرابته، ومنه يقال: أغن عني وجهك أي: اصرفه. وقال أهل المعاني: يغنيه أي: ذلك الهمّ الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهم آخر، فصار شبيهاً بالغنى في أنه ملك شيئاً كثيراً. ولما ذكر تعالى حال القيامة في الهول بين أنّ المكلفين على قسمين: سعداء وأشقياء فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى: {وجوه يومئذ} أي: إذ كان ما تقدّم من الفرار وغيره {مسفرة} أي: مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء. وعن ابن عباس: من قيام الليل لما روي في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهارِ» . وعن الضحاك من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى. {ضاحكة} أي: مسرورة فرحة. قال الكلبيّ: يعني بالفراغ من الحساب {مستبشرة} أي: بما آتاها الله تعالى من الكرامة. ثم وصف الشقيّ بقوله تعالى: {ووجوه يومئذ} أي: إذ وجد ما ذكر. {عليها غبرة} أي: غبار. {ترهقها} أي: تعلوها {قترة} أي: سواد كالدخان ولا يرى أوحش من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما يرى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت. {أولئك} أي: البعداء البغضاء الذين يصنع بهم هذا {هم} أي: خاصة {الكفرة الفجرة} جمع الكافر والفاجر وهو الكاذب والمفتري على الله تعالى فجمع تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمعوا الفجور إلى الكفر. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» حديث موضوع، وكان من حق البيضاوي أن لا يعبر بقال بل بعن كالزمخشري أو نحوها، ويأتي مثله في نظائره. سورة التكوير مكية وهي تسع وعشرون آية ومائة وأربع كلماتوأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً {بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي عمّ وجوده سائر البريات {الرحيم} الذي خص حزبه بنعيم الجنات. واختلف في معنى قوله تعالى: {إذا الشمس} أي: التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس {كوّرت} فقال ابن عباس: أظلمت. وقال قتادة: ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير: غوّرت. وقال مجاهد: اضمحلت. وقال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، يقال: كرت العمامة على رأسي أكوّرها كوراً، وكورتها تكويراً إذا لففتها، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض، فمعناه أنّ الشمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها. قال ابن عباس: يكوّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضرمها فتصير ناراً. وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر يكوّران يوم القيامة» . تنبيه: ارتفاع الشمس على الفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره كوّرت؛ لأن إذا تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط. {وإذا النجوم} أي: كلها كبارها وصغارها {انكدرت} أي: انقضت وتساقطت على الأرض. قال تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت} والأصل في الانكدار الانصباب. قال العجاج في مدحه لعمرو بن معديكرب: { { *إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر ... تقضي البازي إذا البازي كسر *أبصر خربان فضاء فانكدر* أي: فانقض وسقط، والخربان جمع خرب وهو ذكر الحبارى، والباع يستعمل في الكرم، يقال: فلان كريم الباع؛ والمعنى: أنّ الكرام إذا ابتدروا فعل المكرمات بدرهم عمرو، أي: أسرع كانقضاض البازي. وروي عن ابن عباس أنّ النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي الملائكة عليهم السلام، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها. {وإذا الجبال} التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي، وهي أصلب ما في الأرض. {سيرت} أي: ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً، وصارت الأرض قاعاً صفصفاً. {وإذا العشار} أي: النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها. روي أنه صلى الله عليه وسلم «مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغض بصره، فقيل له: هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها؟ فقال: قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا: {ولا تمدّنّ عينيك} (الحجر: 88) الآية» . {عطلت} أي: تركت مسيبة مهملة بلا راع، أو عطلها أهلها عن الحلب والصر لاشتغالهم بأنفسهم، أو السحاب عطلت عن المطر والعرب تشبه السحاب بالحامل، والأوّل على وجه المثل لأنّ في القيامة لا تكون ناقة عشراء، والمعنى: أنّ يوم القيامة بحالة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. {وإذا الوحوش} أي: دواب الأرض التي لا تأنس بأحد التي تظن أنها لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها {حشرت} أي: جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض ثم تصير تراباً. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضي بينها ردّت تراباً فلا يبقى منه إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه. وعن ابن عباس حشرها موتها، يقال إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم: حشرتهم السنة. وقرأ {وإذا البحار سجرت} أي: على كثرتها ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها. قال ابن عباس: أوقدت فصارت ناراً تضطرم. وقال مجاهد: فجر بعضها في بعض العذب والملح، فصارت البحار كلها بحراً واحداً. وقال القشيري: يرفع الله تعالى الحاجز الذي ذكره، فإذا رفع ذلك البزرخ تفجرت مياه البحار فعمت الأرض كلها وصارت بحراً واحداً. وروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم؛ إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض فتحرّكت واضطربت وفزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماج بعضهم في بعض فذلك قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} أي: اختلطت {وإذا البحار سجرت} قال الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج. قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. وعن ابن عباس قال: هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة، وهي ما ذكر من بعد. {وإذا النفوس} أي: من كل ذي نفس من الناس وغيرهم {زوّجت} أي: قرنت بأجسادها، وروي أنّ عمر سئل عن هذه الآية، فقال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقال الحسن وقتادة: ألحق كل امرىء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى. وقال عطاء: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الشياطين بالكافرين. {وإذا الموؤدة} أي: الجارية المدفونة حية. كان الرجل في الجاهلية إذ ولد له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمّها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيذهب بها إلى البئر، فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض. وقال ابن عباس: كانت الحامل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً حبسته. وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} (الأنعام: 151) وكانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهنّ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد وفيه افتخر الفرزدق في قوله: *ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توءد* {سئلت بأيّ} أي: بسبب أيّ {ذنب} يا أيها الجاهلون {قتلت} أي: استحقت به عندكم القتل، وهي لم تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حدّ التكليف. فإن قيل: ما معنى سؤالها عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ أجيب: بأن سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} (المائدة: 116) . وروي أنّ قيس بن عاصم «جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وسلم أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل؟ فقال له صلى الله عليه وسلم أهد عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقاً ولدها بيدها ملطخاً بدمائه فيقول: يا رب هذه أمّي وهذه قتلتني» . {وإذا الصحف نشرت} أي: فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير وشر تطوى بالموت، وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف: 49) . وروي عن عمر أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس حفاة عراة» فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: «شغل الناس يا أمّ سلمة» . قالت: وما يشغلهم، قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل» . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بتشديدها على تكرير النشر للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع وقيل لتكرير ذلك من الإنسان. { { {وإذا السماء} أي: هذا الجنس كله أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي. {كشطت} أي: نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة والغطاء عن الشيء. قال القرطبي: يقال: كشطت البعير كشطاً نزعت جلده ولا يقال سلخت لأنّ العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، والمعنى: أزيلت عما فوقها. وقال القرطبي: طويت. {وإذا الجحيم} أي: النار الشديدة التأجج {سعرت} أي: أججت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها يقال سعرت الناء وأسعرتها. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» واحتج بهذه الآية من قال: النار مخلوقة الآن لأنه يدل على أنّ سعيرها معلق بيوم القيامة. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين والباقون بتخفيفها. {وإذا الجنة} أي: البستان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة {أزلفت} أي: قرّبت لأهلها ليدخلوها. قال الحسن: إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال عبد الله بن زيد: زينت والزلفى في كلام العرب القربة. وقوله تعالى: {علمت نفس} جواب إذا أوّل السورة وما عطف عليها، أي: علمت كل نفس من النفوس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة، فالتنكير فيه مثله في تمرة خير من جرادة، ودلالة هذا السياق للهول على ذلك يوجب اليقين فيه {ما} أي: كل شيء {أحضرت} من خير وشر. روي عن ابن عباس وعمر أنهما قرأا فلما بلغا {علمت نفس ما أحضرت} قالا: لهذا أجريت القصة. قال الرازي: ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود: أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ {علمت نفس ما أحضرت} قال: واقطع ظهراه. {فلا أقسم} لا مزيدة، أي: أقسم {بالخنس الجوار الكنس} هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون، أي: ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها. {والليل} أي: الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها {إذا عسعس} قال البغوي: قال الحسن: أقبل بظلامه. وقال آخرون: أدبر، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر، ولم يبق منه إلا القليل. {والصبح إذا تنفس} أي: امتدّ حتى يصير نهاراً بيناً، يقال للنهار إذا زاد تنفس، ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف، وفي كيفية المجاز قولان: الأوّل: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل: تنفس الصبح. الثاني: أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن، فعبر عنه بالتنفس. وقوله تعالى: {إنه} أي: القرآن {لقول رسول كريم} هو المقسم عليه، والمعنى: أنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى، أي: انتفت عنه وجوه المذامّ كلها، وثبت له وجوه المحامد كلها، وهو جبريل عليه السلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عز وجلّ. {ذي قوّة} أي: شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف. {عند ذي العرش} أي: الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {مكين} أي: ذي مكانة متعلق به عند، أي: ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» وقيل: قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها. {مطاع ثمّ} أي: في السموات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 قال الحسن: فرض الله تعالى على أهل السموات طاعة جبريل عليه السلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: «من طاعة جبريل عليه السلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له ففتح فدخلها فرأى ما فيها» . {أمين} أي: بليغ الأمانة على الوحي الذي يجيء به. وقيل: الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى حينئذ: ذي قوة على تبليغ الوحي {مطاع} أي: يطيعه من أطاع الله تعالى. {وما صاحبكم} أي: الذي طالت صحبته لكم، وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى إنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهذا عطف على أنه إلى آخر المقسم عليه. وأغرق في النفي فقال تعالى: {بمجنون} أي: كما زعمتم يتهم في قوله: {بل جاء بالحق وصدّق المرسلين} (الصافات: 37) فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون، ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكمل. { { تنبيه: استدلّ بذلك بعضهم على فضل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم حيث عدّ فضائل جبريل عليه السلام واقتصر على نفي الجنون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو كما قال البيضاوي: ضعيف؛ إذ المقصود منه نفي قولهم إنما يعلمه بشر، وقولهم افترى على الله كذباً، وقولهم أم به جنة لا تعديد فضله والموازنة بينهما. {ولقد رآه} أي: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها، وله ستمائة جناح. {بالأفق المبين} أي: البين، وهو الأفق الأعلى الذي عند سدرة المنتهى حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون للشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة. وقال مجاهد وقتادة: بالأفق الأعلى من ناحية المشرق. وعن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: «إني أحب أن أراك على صورتك التي تكون فيها في السماء» قال: لن تقوى على ذلك، قال: «بلى» . قال: فأين تشاء أن أتخيل لك، قال: «بالأبطح» . قال: لا يسعني، قال: «فبمنى» . قال: لا تسعني. قال: «فبعرفات» . قال ذلك بالحري أن يسعني، فواعده فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبل عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشياً عليه، قال: فتحوّل جبريل عن صورته فضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة، وإنّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع ـ يعني: العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بالأفق المبين، وهو قول ابن مسعود وقد مرّ ذلك في سورة النجم. {وما} أي: وسمعه ورآه والحال أنه ما {هو} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {على الغيب} أي: ما غاب من الوحي وخبر السماء، ورؤية جبريل وغير ذلك مما أخبر به. وقرأ {بنين} ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة من الظنة، وهي التهمة، أي: فليس بمتهم، والباقون بالضاد موافقة للمرسوم من الضن وهو البخل، أي: فليس ببخيل بالوحي فيزوي بعضه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 بهما. قال الزمخشري: وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بدّ منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقاً غير صواب، وبينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب. فإن قلت: فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه، قلت: هو كوضع الذال مكان الجيم والثاء مكان السين لأنّ التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما اه. كلامه بحروفه. {وما هو} أي: القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات. وأغرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال تعالى: {بقول شيطان} أي: مسترق للسمع فيوحيه إليه كما يوحيه إلى بعض الكهنة {رجيم} أي: مرجوم مطرود بعيد من الرحمة، وذلك أنّ قريشاً كانوا يقولون: إنّ هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه، يريدون بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه، فنفى الله تعالى ذلك. وقوله تعالى: {فأين} منصوب بقوله تعالى: {تذهبون} لأنه ظرف مبهم، وقال أبو البقاء: أي إلى أين فحذف الجار، أي: فأيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه، وفي هذا استضلال لهم فيما يسلكون من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن كقولك لتارك الجادّة أين تذهب. {إن} أي: ما {هو} أي: القرآن الذي آتاكم به الرسول {إلا ذكر} أي: عظة وشرف {للعالمين} من إنس وجنّ وملك. وقوله تعالى: {لمن شاء منكم} بدل من العالمين بإعادة الجار {أن يستقيم} باتباع الحق. قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، وهذا هو القدر وهو رأس القدرية فنزل {وما تشاؤون} الاستقامة على الحق {إلا أن يشاء الله} أي: إلا وقت أن يشاء الملك الأعظم الذي بيده كل شيء مشيئتكم الاستقامة عليه {رب العالمين} أي: مالك الخلق. وفي هذا إعلام أنّ أحداً لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شراً إلا بخذلانه. ونقل البغوي في أوّل السورة بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن ينظر في يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كوّرت} » . وأمّا قول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حسن تنشر صحيفته» . فحديث موضوع. سورة الانفطار مكية وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفاً {بسم الله} الذي خلق كل شيء فقدّره تقديراً {الرحمن} الذي دبر الكائنات تدبيراً {الرحيم} الذي أرسل رسوله للخلق نذيراً. {إذا السماء} أي: على شدّة إحكامها واتساقها وارتفاعها {انفطرت} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 أي: انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} (الفرقان: 25) {وإذا الكواكب} أي: النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير {انتثرت} أي: تساقطت متفرّقة؛ لأنّ عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض. {وإذا البحار} المتفرّقة في الأرض وهي ضابطة لها أتم ضبط لنفع العباد على كثرتها {فجرت} أي: فتح بعضها في بعض فاختلط العذب بالملح وزال البرزخ الذي بينها فصارت البحار بحراً واحداً وروي أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية. وهو معنى التسجير عند الحسن في قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت} (التكوير: 60) وقال هنا: فجرت بغت. {وإذا القبور} أي: مع ذلك كله {بعثرت} أي: قلبت، يقال: بعثره وبحثره بالعين والحاء. قال الزمخشري: وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما، أي: فهما بمعنى، والمعنى: قلب أعلاها أسفلها وقلب باطنها ظاهرها، وخرج ما فيها من الموتى أحياء، وقيل: التبعثر إخراج ما في بطنها من الذهب والفضة، ثم تخرج الموتى بعد ذلك، وجواب إذا أوّل السورة وما عطف عليه. { { {علمت نفس} أي: كل نفس وقت هذه المذكورات، وهو يوم القيامة {ما قدّمت} من عمل {وأخرت} أي: جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما. فإن قيل: أي وقت من القيامة يحصل هذا العلم. قال الرازي: أمّا العلم الإجمالي فيحصل في أوّل زمان الحشر؛ لأنّ المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أوّل الأمر، وأمّا العلم التفصيلي، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة. وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} أي: البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه خطاب لمنكري البعث. وروى عطاء عن ابن عباس: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في أبي الشريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى في أوّل أمره. وقيل: تتناول جميع العصاة لأنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {ما غرّك بربك} أي: ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت ما أوجب عليك المحسن إليك وأتيت بالمحرّمات {الكريم} أي: الذي له الكمال كله المقتضي لأن لا يهمل الظالم ولا يسوى بين المحسن والمسيء، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة، فإن حملناه على الكافر وهو ظاهر الآية فالمعنى: ما الذي دعاك إلى الكفر وإنكار الحشر والنشر. فإن قيل: كونه كريماً يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب فقال له: لم لا تجيبني؟ فقال: لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه. وقالوا أيضاً: من كرم ساء أدب غلمانه. وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار؟ أجيب: بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حياً، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدّة التوبة، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها: «غرّه جهله» . وقال عمر: غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 غرّه والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي. وقال له: افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً، وهو متفضل عليك آخراً حتى ورّطه. وقيل للفضيل بن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: {ما غرّك بربك الكريم} ماذا تقول له؟ قال: أقول غرّني ستورك المرخاة، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال {بربك الكريم} دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّني كرم الكريم. وقال مقاتل: غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة. وقال السدي: غرّه رفق الله تعالى به. وقال قتادة: سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان. وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول: ما غرّك بي يا ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ {الذي خلقك} أي: أوجدك من العدم مهيأ بتقدير الأعضاء {فسوّاك} عقب تلك الأطوار بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل {فعدلك} أي: جعل كل شيء من ذلك سليماً مودعاً فيه قوّة المنافع التي خلقه الله تعالى لها. تنبيه: قوله تعالى: {الذي} يحتمل الإتباع على البدل والبيان والنعت والقطع إلى الرفع والنصب. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقيق ذلك الكرم فقوله سبحانه {الذي خلقك} أي: بعد أن لم تكن لا شك أنه كرم لأنه وجود، والوجود خير من العدم، والحياة خير من الموت. كما قال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} (البقرة: 28) وقوله تعالى: {فسوّاك} أي: جعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء غاية في الكرم كما قال تعالى: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً} (الكهف: 37) أي: معتدل الخلق والأعضاء. وقال ذو النون المصري: أي: سخر لك المكوّنات أجمع، وما جعلك مسخراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة ومدّك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد، بمعنى جعلك متناسب الأطراف فلم يجعل إحدى يديك أو رجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع فهو من التعديل. وهو كقوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4) . وقال عطاء عن ابن عباس: جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية. وقال أبو علي الفارسي: عدلك خلقك في أحسن تقويم مستوياً على جميع الحيوان والنبات، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم. وأمّا قراءة التخفيف فتحتمل هذا أي: عدل بعض أعضائك ببعض ويحتمل أن يكون من العدول، أي: صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال. ونقل القفال عن بعضهم: أنهما لغتان بمعنى واحد. {في أيّ صورة} أي: من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان وغيره، وما في قوله تعالى: {ما شاء} مزيدة، وفي أيّ متعلق بركب في قوله تعالى {ركبك} أي: ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قيل: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ أجيب: بأنها بيان لعدلك ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي: ركبك حاصلاً في بعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 الصور، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أي معنى التعجب، أي: فعدلك في صورة عجيبة: ثم قال: {ما شاء ركبك} من التراكيب يعني: تركيباً حسناً. وقوله تعالى: {كلا} ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى والتعلق به، وهو موجب الشكر والطاعة إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. وقوله تعالى: {بل تكذبون} أي: يا كفار مكة {بالدين} إضراب إلى ما هو السبب الأصلي في اغترارهم والمراد بالدين الجزاء على الأعمال والإسلام. {وإنّ} أي: والحال أنّ {عليكم} أي: ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة {لحافظين} أي: على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير. {كراماً} أي: على الله تعالى {كاتبين} أي: لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التحرير. تنبيه: هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلا أنّ الأمّة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين، وقوله تعالى: {حافظين} جمع يحتمل أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخر، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة، كما قيل: اثنان بالليل واثنان بالنهار، أو كما قيل: إنهم خمسة. واختلفوا في الكفار هل عليهم حفظة. فقيل: لا لأنّ أمرهم ظاهر وعملهم واحد، قال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41) وقيل: عليهم حفظة وهو ظاهر قوله تعالى: {بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين} وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه بشماله} (الحاقة: 25) وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره} (الانشقاق: 10) فأخبر أنّ لهم كتاباً وأنّ عليهم حفظة. فإن قيل فأي شيء يكتب الذي عن يمينه ولا حسنة له؟ أجيب: بأنّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون صاحبه شاهداً على ذلك وإن لم يكتب. وفي هذه الآية دلالة على أنّ الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراماً كاتبين. {يعلمون} أي: على التجدد والاستمرار {ما تفعلون} فدل على أنهم يكونون عالمين بها حتى إنهم يكتبونها، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة، وفي تعظيم الكتبة تعظيم لأمر الجزاء، فإنه عند الله من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه وفيه إنذار وتهويل للعصاة، ولطف بالمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدها من آية على الغافلين. ولما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين، وقسمهم قسمين، وبدأ بقسم أهل السعادة. فقال تعالى: {إنّ الأبرار} أي: المؤمنين الصادقين في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه {لفي نعيم} أي: محيط بهم أبد الآبدين، وهو نعيم الجنة الذي لا نهاية له. { { ثم ذكر قسم أهل الشقاوة بقوله تعالى: {وإنّ الفجار} الذي من شأنهم الخروج عما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله تعالى إلى سخطه، وهم الكفار {لفي جحيم} أي: نار محرقة تتوقد غاية التوقد فهم فيها أبد الآبدين. {يصلونها} أي: يدخلونها ويقاسون حرّها {يوم الدين} أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة. {وما هم عنها} أي: الجحيم {بغائبين} أي: مخرجين، ويجوز أن يراد يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم. وقيل: أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات حالة الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحالة الآخرة التي يجازى فيها، وحالة البرزخ وهو قوله تعالى: {وما هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 عنها بغائبين} . وروي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فإنك تعلم ما لك عند الله تعالى، قال: فأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال: عند قوله تعالى: {إنّ الأبرار لفي نعيم} الآية.k قال سليمان: فأين رحمة الله تعالى؟ قال: قريب من المحسنين. ثم عظم سبحانه وتعالى ذلك اليوم فقال: {وما أدراك} أي: وما أعلمك وإن اجتهدت في تطلب الدراية به {ما يوم الدين} أي: أيّ شيء هو في طوله وهوله وفظاعته وزلزاله. ثم كرره تعجباً لشأنه فقال تعالى: {ثم ما أدراك} أي: كذلك {ما يوم الدين} أي: إنّ يوم الدين الذي بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصوّرته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه. والتكرير لزيادة التهويل. ثم أجمل تعالى القول في وصفه فقال سبحانه: {يوم لا تملك} أي: بوجه من الوجوه في وقت ما {نفس} أي: أيّ نفس كانت {لنفس شيئاً} أي: قل أوجل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع يوم على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو يوم. وجوّز الزمخشري أن يكون بدلاً مما قبله، يعني: يوم الدين، والباقون بالفتح بإضمار أعني أو اذكر. {والأمر} أي: كله {يومئذ} أي: إذ كان البعث للجزاء {لله} أي: ملك الملوك لا أمر لغيره فيه فلا يملك الله تعالى في ذلك اليوم أحداً شيئاً كما ملكهم في الدنيا. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة» . حديث موضوع. سورة المطففين مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل. قال مقاتل: وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات وهي قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} إلى آخرها فهو مكيّ. وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة، ولعل هذا هو سبب الاختلاف وقال ابن مسعود والضحاك: مكية. وهي ست وثلاثون آية وتسع وتسعون كلمة وسبعمائة وثمانون حرفاً. {بسم الله} الذي توكل عليه كفاه {الرحمن} الذي عمّ جوده الأبرار والعصاة {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بهداه. {ويل} مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، وهو إمّا كلمة عذاب أو هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة، أو واد في جهنم. وقوله تعالى: {للمطففين} خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن؛ لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. قال الزجاج: وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان: مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. { { وروى ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وكانوا من أبخس الناس كيلاً فنزلت فأحسنوا الكيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول الله ما خمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوّهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر» . وقال: السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت. وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت. وعن عليّ أنه مرّ برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمر بالتسوية أوّلاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين، كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمرّ بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إنّ العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وعن عكرمة أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار فقيل له: إن ابنك كيال أو وزان فقال: أشهد أنه في النار. وعن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين. ثم بين تعالى المطففين من هم بقوله تعالى: {الذين إذا اكتالوا} أي: عالجوا الكيل {على الناس} أي: كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً، ولا يراعون أحداً بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدناً {يستوفون} أي: إذا كالوا منهم وأبدل على مكان من للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال يضرهم ويتحامل فيه عليهم، ويجوز أن يتعلق على بيستوفون ويقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة، وأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وقال الفراء: من وعلى يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكقوله: استوفيت منك. {وإذا كالوهم} أي: كالوا للناس أي: حقهم، أي: مالهم من الحق {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال القائل: *ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر* وقال آخر: والحريص بصيدك لا الجواد. بمعنى جنيت لك ويصيد لك ويقال: وزنتك حقك، وكلتك طعامك، أي: وزنت لك وكلت لك، ونصحتك ونصحت لك، وكسبتك وكسبت لك والأكمؤ جمع كمأة، والعساقل ضرب منها، وأصله: عساقيل لأنّ واحدها عسقول كعصفور فحذفت الياء للضرورة، وبنات أوبر ضرب من الكمأة رديء. {يخسرون} جواب إذا، وهو يتعدى بالهمزة. يقال: خسر الرجل وأخسرته أنا مفعوله محذوف، أي: يخسرون الناس متاعهم. وقيل: يخسرون أي: ينقصون بلغة فارس أي: ينقصون الكيل أو الوزن. وقوله تعالى: {ألا يظنّ أولئك} أي: الأخساء البعداء الأراذل {أنهم مبعوثون ليوم} أي: لأجله أو فيه، وزاد التهويل بقوله تعالى: {عظيم} إنكاراً وتعجيباً من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة والخردلة. وقيل: الظنّ بمعنى اليقين. وقوله تعالى: {يوم} يجوز نصبه بمبعوثون، أو بإضمار أعني، أو بدل من محل يوم فناصبه يبعثون {يقوم الناس} أي: من قبورهم {لرب العالمين} أي: الخلائق لأجل أمره وجزائه وحسابه. وعن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يوم يقول الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» . وعن المقداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 العباد. حتى تكون قيد ميل أو اثنين ـ قال سليم: لا أدري أي: الميلين يعني: مسافة الأرض أو الميل الذي تكتحل به العين ـ قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه على حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشير بيده إلى فيه يقول: ألجمه إلجاماً» . وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجوه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان أنّ أعرابياً قال له: سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أنّ المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم، الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن، وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظنّ ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط والعمل على السوية، والعدل في كل أخذ وإعطاء بل في كل قول وعمل. وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده. وعن بعض المفسرين أنّ لفظ التطفيف يتناول التطفيف في الوزن والكيل. وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف، والمعاشرة والصحبة في هذه المادّة، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه. وقوله تعالى: {كلا} ردع، أي: ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا، وههنا تم الكلام. وقال الحسن: كلا ابتداء متصل بما بعده على معنى حقاً، وجرى الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأوّل. {إنّ كتاب الفجار} أي: كتب أعمال الكفار وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف. واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى: {لفي سجين} فقيل: هو كتاب جامع، وهو ديوان الشر دوّن الله تعالى فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس، وقيل: هو مكان تحت الأرض السابعة وهو محل إبليس وجنوده. وقال عبد الله بن عمر: سجين في الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار. { { وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش» . وقال الكلبي: هو صخرة تحت الأرض السابعة خضراء خضرة السموات منها يجعل كتاب الفجار فيها. وقال وهب: هي آخر سلطان إبليس. وعن كعب الأحبار: أنّ روح الفاجر يعني: الكافر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، ثم هبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس وذلك استهانة بها، ويشهدها الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. وقال عكرمة: لفي سجين، أي: في خسار وضلال. {وما أدراك} أي: جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك. {ما سجين} وقال الزجاج: أي: ليس لك ذلك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك. وقوله تعالى: {كتاب مرقوم} ليس تفسيراً لسجين بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله تعالى: {إن كتاب الفجار} أي: هو كتاب مرقوم، أي: مسطور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 بين الكتابة مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازون به، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقيل: الرقم الختم بلغة حمير، واقتصر على هذا الجلال المحلي. وقال قتادة: رقم عليه بشرّ كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر. والمعنى: أنّ ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمي سجيناً فعيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض كما مرّ. فإن قيل: سجين هل هو اسم أو صفة؟ أجيب: بأنه اسم علم منقول من وصف كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف. {ويل} أي: أعظم الهلاك {يومئذ} أي: إذ تقوم الناس لما تقدّم {للمكذبين} أي: بذلك أو بالحق. وقوله تعالى: {الذين يكذبون بيوم} أي: بسبب الإخبار بيوم {الدين} أي: الجزاء الذي هو سر الوجود بدل أو بيان للمكذبين، ثم أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين بثلاث صفات ذكر أولها بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنه ما {يكذب به} أي: بذلك اليوم {إلا كل معتد} أي: متجاوز عن النظر غال في التقليد، حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه، فاستحال منه الإعادة. ثم ذكر الصفة الثانية بقوله تعالى: {أثيم} أي: منهمك في الشهوات المحرجة بحيث اشتغل عما وراءها وحملته على الإنكار لما عداها. ثم ذكر الصفة الثالثة بقوله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا} أي: القرآن {قال أساطير الأوّلين} أي: الحكايات سطرت قديماً جمع أسطور بالضم، وذلك لفرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لا تنفعه دلائل العقل، وهذا عام في كل موصوف بذلك، وقال الكلبي: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: هو النضر بن الحارث. وقوله تعالى: {كلا} ردع وزجر، أي: ليس هو أساطير الأوّلين، وقال الحسن: معناها حقاً كما مرّ. {بل ران} أي: غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم السماء {على قلوبهم} أي: كل من قال هذا القول {ما كانوا يكسبون} أي: كما يركب الصدأ من إصرارهم على الكبائر وتسويف التوبة حتى طبع على قلوبهم فلا تقبل الخير ولا تميل إليه. روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه المبين» . وقال أبو معاذ: الران أن يسودّ القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشدّ من الران، والأقفال أشدّ من الطبع، وهو أن يقفل على القلب، قال تعالى: {أم على قلوب أقفالها} (محمد: 24) وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب ويغشى فيموت القلب. قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والمحقرات من الذنوب فإنّ الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيماً ضخمة» . وعن الحسن: الذنب بعد الذنب يسود القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه ربنا وغينا والغين الغيم، ويقال: ران فيه النوم: رسخ فيه، ورانت به الخمرة ذهبت به. وقرأ حمزة وشعبة والكسائي بالإمالة: محضة، والباقون بالفتح وسكت حفص على اللام وقفة لطيفة من غير قطع والباقون بغير سكت. وقوله تعالى: {كلا} ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم، وقيل: بمعنى حقاً كما مرّ {إنهم عن ربهم} أي: المحسن إليهم {يومئذ لمحجوبون} أي: فلا يرونه بخلاف المؤمنين فإنهم يرونه كما ثبت لك في الأحاديث الصحيحة. وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 لزهقت أنفسهم في الدنيا. وسئل مالك عن هذه الآية فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وفي قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} دلالة على أنّ أولياء الله يرون الله تعالى، ومن نفى الرؤية كالزمخشري جعله تمثيلاً للاستخفاف بهم وإهانتهم؛ لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء والمكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأذناب المهانون عندهم. وعن ابن عباس وقتادة: محجوبون عن رحمته. وعن ابن كيسان: عن كرامته. {ثم إنهم} أي: بعد ما شاء الله تعالى من إمهالهم {لصالوا الجحيم} أي: لداخلوا النار المحرقة. {ثم يقال} أي: تقول لهم الخزنة {هذا} أي: العذاب {الذي كنتم به تكذبون} أي: في دار الدنيا. وقوله تعالى: {كلا} ردع عن التكذيب، وقيل: معناها حقاً كما مرّ. وقال البيضاوي: تكرير للأوّل ليعقب بوعد الأبرار كما عقب بوعيد الفجار إشعار بأنّ التطفيف فجور والإيفاء برّ، وردع عن التكذيب {إنّ كتاب الأبرار} أي: كتب أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم {لفي عليين} وعليون علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته صلحاء الثقلين، منقول من جمع فعيل من العلو كسجين من السجن، سمي بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له وتعظيماً. وروي «أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين، وقد غفرت له وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين» . وعن البراء مرفوعاً: «عليين في السماء السابعة تحت العرش» . وقال ابن عباس: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش، أعمالهم مكتوبة فيها. وقال كعب وقتادة: هو قائمة العرش اليمنى. وقال عطاء عن ابن عباس: هو الجنة. وقال الضحاك: سدرة المنتهى. وقال بعض أهل المعاني علو بعد علو وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون. قال الفراء: هو اسم موضع على صيغة الجمع لا واحد له من لفظه مثل عشرين وثلاثين. {وما أدراك} أي: جعلك دارياً وإن بالغت في الفحص {ما عليون} أي: ما كتاب عليين هو {كتاب} أي: عظيم {مرقوم} أي: فيه أنّ فلاناً أمن من النار رقماً، يا له من رقم ما أبهاه وأجمله. {يشهده المقرّبون} يحضرونه فيشهدون على ما فيه يوم القيامة، أو يحفظونه. ولما عظم كتابهم عظم منزلتهم بقوله تعالى: {إنّ الأبرار لفي نعيم} أي: في الجنة ثم بين ذلك النعيم بأمور ثلاثة: أوّلها: قوله تعالى: {على الأرائك} أي: الأسرة في الحجال، ولا يسمى أريكة إلا إذا كان كذلك، والحجال بكسر الحاء جمع حجلة، وهي بيت يزين بالثياب والستور والأسرة، قاله الجوهري. {ينظرون} أي: إلى ما شاؤوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله تعالى من النعمة والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك. وقال الرازي: ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى: {تعرف} أي: أيها الناظر إليهم {في وجوههم} عند رؤيتهم {نضرة النعيم} أي: بهجته وحسنه ورونقه كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه، أو الخطاب إمّا للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل ناظر، وقال الحسن: النضرة في الوجه والسرور في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 القلب وهذا هو الأمر الثاني. وأمّا الثالث فهو قوله تعالى: {يسقون من رحيق} أي: خمر صافية طيبة وقال مقاتل: الخمر البيضاء. وقال الرازي: لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى: {لا فيها غول} (الصافات: 47) {مختوم} أي: ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار. وقال القفال: يحتمل أن يكون ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان، وهناك خمر أخرى تجري انهاراً لقوله تعالى: {وأنهار من خمره لذة للشاربين} (محمد: 15) إلا أنّ هذا المختوم أشرف من الجاري. {ختامه مسك} أي: آخر شربه يفوح منه مسك، فالمختوم الذي له ختام، أي: آخر شربه، وختم كل شيء الفراغ منه. وقال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقال ابن زيد: ختامه عند الله مسك. وقيل: طينه مسك. وقيل: تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة. {وفي ذلك} أي: الأمر العظيم البعيد التناول، وهو العيش والنعيم أو الشراب الذي هذا وصفه {فليتنافس} أي: فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار {المتنافسون} أي: الذين من شأنهم المنافسة، وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره؛ لأنه نفيس جداً، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه، والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحة والنيات الخالصة. وقال مجاهد: فليعمل العاملون نظيره قوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} (الصافات: 61) وقال مقاتل بن سليمان: فليسارع المتسارعون. وقال عطاء: فليستبق المستبقون. وقال الزمخشري: فليرتقب المرتقبون. والمعنى: واحد. وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه، وينفس فيه على غيره أي: يضنّ. {ومزاجه} أي: ما يمزج به ذلك الرحيق {من تسنيم} وهو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه؛ لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء مسنمة فتصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة، فإذا امتلأت أمسكت. وقوله تعالى: {عيناً} نصب على المدح، وقال الزجاج: نصب على الحال. {يشرب بها} أي: بسببها على طريقة المزج منها {المقرّبون} وضمن يشرب معنى يلتذ، فهم يشربونها صرفاً، وتمزج سائر أهل الجنة. {إنّ الذين أجرموا} أي: قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهم رؤوساء قريش. {كانوا من الذين آمنوا} وهم فقراء الصحابة عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين {يضحكون} أي: استهزاء بهم. {وإذا مرّوا} أي: المؤمنون {بهم} أي: بالذين أجرموا {يتغامزون} أي: يشير المجرمون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم. وقيل: يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم.x قيل: جاء عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخروا منه المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع وضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم {وإذا انقلبوا} أي: رجع الذين أجرموا برغبتهم في الرجوع وإقبالهم عليه من غير تكرّه {إلى أهلهم} أي: منازلهم التي هي عامرة بجماعتهم. وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمرو بكسر الهاء، والباقون بكسر الهاء وضم الميم {انقلبوا} حالة كونهم {فاكهين} أي: متلذذين بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم، قال ابن برجان: روي عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الدين بدأ غريباً وسيعود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 غريباً كما بدأ» «يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر» وفي أخرى: «يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة» وفي أخرى: «العالم فيهم أنتن من جيفة حمار فالله المستعان» . وقرأ حفص بغير ألف بين الفاء والكاف والباقون بالألف، قيل هما بمعنى، وقيل: فكهين فرحين وفاكهين ناعمين. وقيل: فاكهين أصحاب فاكهة ومزاح. {وإذا رأوهم} أي: رأى المجرمون المؤمنين {قالوا} أي: المجرمون {إنّ هؤلاء} أي: المؤمنين {لضالون} أي: لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم يرون أنهم على شيء، وهم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شيء لا يدرى هل له وجود أم لا؟ قال الله تعالى: {وما} أي: والحال أنهم ما {أرسلوا} أي: الكفار {عليهم} أي: على المؤمنين {حافظين} أي: موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وهذا تهكّم بهم. وقيل: هو من جملة قول الكفار، وأنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إنّ هؤلاء لضالون، وأنهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكار لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، وجدّهم في ذلك. وقوله تعالى: {فاليوم} منصوب بيضحكون، ولا يضر تقديمه على المبتدأ؛ لأنه لو تقدّم العامل هنا لجاز؛ إذ لا لبس بخلاف: زيد قام في الدار لا يجوز في الدار زيد قام، ومعنى فاليوم أي: في الآخرة {الذين آمنوا} ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان {من الكفار يضحكون} وفي سبب هذا الضحك وجوه منها: أنّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدينا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه. ومنها أنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء، وأنهم باعوا الباقي بالفاني. ومنها أنهم يرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد. ومنها: قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى أبوابها غُلِّقت دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً فذلك سبب الضحك. ومنها: أنهم إذا دخلوا الجنة وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار كما قال تعالى: {على الأرائك} أي: الأسرة العالية {ينظرون} إليهم كيف يعذبون في النار ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضاً. تنبيه: ينظرون حال من يضحكون، أي: يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان. وقال كعب: بين الجنة والنار كوى، إذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ له كان في الدنيا اطلع عليه من تلك الكوى كما قال تعالى: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} (الصافات: 55) فإذا اطلعوا من الجنة على أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا. قال الله تعالى: {هل ثوّب الكفار} أي: هل جوزوا {ما كانوا يفعلون} أي: جزاء استهزائهم بالمؤمنين، ومعنى الاستفهام ههنا: التقرير، وثوّبه وأثابه بمعنى واحد إذا جازاه. قال أوس: *سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدى وقرأ الكسائي وهشام بإدغام اللام في الثاء والباقون بالإظهار. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المطففين سقاه الله تعالى من الرحيق المختوم يوم القيامة» . حديث موضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 سورة الانشقاق مكية وهي ثلاث أو خمس وعشرون آية ومائةوسبع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً {بسم الله} الذي شقق الأرض بالنبات {الرحمن} الذي عمّ جوده أهل الأرض والسموات {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بالجنات. وقوله تعالى: {إذا السماء} أي: على ما لها من الأحكام والعظمة {انشقت} كقوله تعالى: {إذا الشمس كوّرت} (التكوير: 1) { { في إضمار الفعل وعدمه، وفي إذا هذه احتمالان: أحدهما: أن تكون شرطية، والثاني: أن تكون غير شرطية. فعلى الأوّل في جوابها أوجه: أحدها: أنه محذوف ليذهب المقدر كل مذهب، أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار، وهو قوله تعالى: {علمت نفس} (الإنفطار: 5، وسورة التكوير: 14) والثاني: جوابها ما دل عليه {فملاقيه} الثالث: أنه {يا أيها الإنسان} على حذف الفاء وعلى كونها غير شرطية فهي مبتدأ، وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة، تقديره: وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش. وقيل: إنه منصوب مفعولاً به بإضمار اذكر انشقاقها بالغمام، وهو من علامات القيامة كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} (الفرقان: 25) وعن عليّ تنشق من المجرّة. قال ابن الأثير: المجرّة هي البياض المعترض في السماء والسراب من جانبها. {وأذنت} أي: سمعت وأطاعت في الانشقاق {لربها} أي: لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي ورد عليه الأمر من جهة المطاع، فأنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله: {أتينا طائعين} (فصلت: 110) {وحقت} أي: حق لها أن تسمع وتطيع بأن تنقاد ولا تمتنع. يقال: حق بكذا فهو محقوق وحقيق. {وإذا الأرض} أي: على ما لها من الصلابة {مدّت} أي: زيد في سعتها كمدّ الأديم ولم يبق عليها بناء ولا جبل، كما قال تعالى: {قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمّتا} (طه: 106 ـ 107) وعن ابن عباس مدّت مدّ الأديم العكاظيّ لأنّ الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى. {وألقت} أي: أخرجت {ما فيها} من الكنوز والموتى كقوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة: 21) . {وتخلت} أي: خلت منها حتى لم يبق في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدّة، ووصفت الأرض بذلك توسعاً وإلا فالتحقيق أنّ الله تعالى هو المخرج لتلك الأشياء من الأرض. وقوله تعالى: {وأذنت لربها وحقت} تقدّم تفسيره، وهذا ليس بتكرار لأنّ الأول في السماء وهذا في الأرض، وتقدّم جواب إذا. ومن جملة ما قيل فيه: وما عطف عليه أنه محذوف دل عليه ما بعده، تقديره: لقي الإنسان عمله وذلك كله يوم القيامة. واختلف في الإنسان في قوله تعالى: {يا أيها الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناسي لأمر ربه {إنك كادح} فقيل: المراد جنس الإنسان كقولك: يا أيها الرجل، فكأنه خطاب خص به أحد من الناس. قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العامّ. وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: إنك كادح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل. وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 ابن عباس: هو أبيّ بن خلف وكدحه هو جدّه واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر. والكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه. ومعنى كادح {إلى ربك} أي: جاهد إلى لقائه وهو الموت، أي: هذا الكدح يستمرّ إلى هذا الزمن وقال القفال: تقديره إنك كادح في دنياك. {كدحاً} تصير إلى ربك. وقوله تعالى: {فملاقيه} يجوز أن يكون عطفاً على كادح، والسبب فيه ظاهر، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: فأنت ملاقيه، وقيل: جواب إذا، والضمير في ملاقيه إمّا للرب أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه، وإمّا للكدح إلا أنّ الكدح عمل وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد جزاء كدحك من خير أو شرّ. وقال الرازي: المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويؤكد هذا قوله تعالى بعده: {فأمّا من أوتي كتابه} أي: كتاب عمله الذي كتبته الملائكة. {بيمينه} أي: من أمامه وهو المؤمن المطيع. {فسوف يحاسب} أي: يقع حسابه بوعد لا خلف فيه، وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر. {حساباً يسيراً} هو عرض عمله عليه كما فسر في حديث الصحيحين وفيه: «من نوقش الحساب هلك» وفي رواية: «من حوسب عذب» . وقالت عائشة: «أليس يقول الله تعالى: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب» وإنما حوسب حساباً سهلاً لأنه كان يحاسب نفسه فلا تقع له المخالفة إلا ذهولاً، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفى عن سيئها. {وينقلب} أي: يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول {إلى أهله} أي: الذين أهله بهم في الجنة من الحور العين والآدميات والذريات إذا كانوا مؤمنين {مسروراً} أي: قد أوتي جنة وحريراً، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله يحاسب نفسه حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش. {س84ش10/ش15 وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ? وَرَآءَ ظَهْرِهِ? * فَسَوْفَ يَدْعُوا? ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ? كَانَ فِى? أَهْلِهِ? مَسْرُورًا * إِنَّهُ? ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى? إِنَّ رَبَّهُ? كَانَ بِهِ? بَصِيرًا} {وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره} وهو الكافر تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه. {فسوف يدعو} أي: بوعد لا خلف في وقوعه {ثبوراً} يقول: يا ثبوراه، والثبور: الهلاك، كقوله تعالى: {دعوا هنالك ثبوراً} (الفرقان: 13) {ويصلى سعيراً} أي: يدخل النار الشديدة. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام، والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وإذا فتح ورش غلظ اللام، وإذا أمال رقق والباقون بالفتح. {إنه كان} أي: بما هو له كالجبلة {في أهله} أي: عشيرته في الدنيا {مسروراً} قال القفال: أي: منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله تعالى، ولا يرجوه فأبدله الله تعالى بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع. وقيل: إنّ قوله تعالى: {إنه كان في أهله مسروراً} كقوله تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين} (المطففين: 31) أي: متنعمين في الدنيا معجبين بما هم عليه من الكفر بالله تعالى والتكذيب بالبعث، ويضحكون ممن آمن بالله تعالى، وصدّق بالحساب كما قال صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . {إنه ظنّ} أي: لضعف نظره {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: أنه {لن يحور} أي: لن يرجع إلى الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 تكذيباً بالمعاد. يقال: لا يحور ولا يحول، أي: لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد: *وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رماداً بعد إذ هو ساطع وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي: ارجعي. وقوله تعالى: {بلى} إيجاب لما بعد النفي في لن يحور، أي: بلى ليحورنّ. {إنّ ربه} أي: الذي ابتدأ إنشاؤه ورباه {كان} أي: أزلاً وأبداً {به بصيراً} أي: من يوم خلقه إلى يوم بعثه، أو بأعماله لا ينساها. وقال عطاء: بصيراً بما سبق عليه في أمّ الكتاب من الشقاوة. واختلفوا في الشفق في قوله تعالى: {فلا أقسم بالشفق} فقال مجاهد: هو النهار كله. وقال عكرمة: ما بقي من النهار. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. وقال قوم: هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة. تنبيه: سمي بذلك لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان رقة القلب عليه واللام في لا أقسم مزيدة للتأكيد. {والليل} أي: الذي يغلبه ويذهبه {وما وسق} أي: ما جمع وضم يقال وسقه فاتسق واستوسق قال الشاعر: *مستوسقات لو يجدن سائقاً* ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع، ومعناه: وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها. {والقمر} أي: الذي هو آيته {إذا اتسق} أي: إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. وقال قتادة: استدار وهو افتعل من الوسق. تنبيه: قد اختلف العلماء في القسم بهذه الأشياء هل هو قسم بها أو بخالقها؟ فذهب المتكلمون. إلى أنّ القسم واقع بربها وإن كان محذوفاً؛ لأنّ ذلك معلوم من حيث ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى أو بصفة من صفاته، وقد مرّ أنّ ذلك يكره في حق الإنسان، فإنّ الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وجواب القسم. { { {لتركبنّ} أي: أيها الناس، أصله تركبون حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان، والباقون بضمها على خطاب الجمع، وهو معنى الإنسان إذ المراد به الجنس أي: لتركبنّ أيها الإنسان {طبقاً} مجاوزاً {عن طبق} أي: حالاً بعد حال. قال عكرمة: رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ. وعن ابن عباس: الموت ثم البعث ثم العرض. وعن عطاء: مرّة فقيراً ومرّة غنياً. وقال أبو عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» . وقوله تعالى: {فما لهم} أي: الكفار {لا يؤمنون} استفهام إنكار، أي: أيّ مانع لهم من الإيمان، أو أي حجة في تركه بعد وجود براهينه. {و} ما لهم {إذا قرئ} أي: من أي: قارئ قراءة مشروعة {عليهم القرآن} أي: الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم الفارق بين كل ملتبس {لا يسجدون} أي: لا يخضعون بأن يؤمنوا به لإعجازه، أو لا يصلون، قاله مقاتل، أو لا يسجدون لتلاوته لما روى أنه صلى الله عليه وسلم «قرأ {واسجد واقترب} (العلق: 19) فسجد ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق رؤوسهم فنزلت» . وعن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {اقرأ باسم ربك} و {إذا السماء انشقت} » . وعن نافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 {إذا السماء انشقت} فسجد فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وليس في ذلك دلالة على وجوبها فهي مندوبة. وعن الحسن: هي واجبة. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجود بأنه تعالى ذمّ من سمعه ولم يسجد. وعن ابن عباس: ليس في المفصل سجدة، وما روى أبو هريرة يخالفه. وعن أنس: صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا. {بل الذين كفروا يكذبون} أي: بالقرآن والبعث. {والله أعلم بما يوعون} أي: بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو بما يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب وأعمال السوء، ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب. وقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} أي: مؤلم استهزاء بهم، أو أنّ البشارة بمعنى الإخبار، أي: أخبرهم. وقوله تعالى: {إلا} استثناء منقطع، أي: لكن {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {لهم أجر غير ممنون} أي: غير مقطوع ولا منقوص ولا ممنون به عليهم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {إذا السماء انشقت} أعاذه الله تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره» حديث موضوع. سورة البروج مكية وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلماتوأربعمائة وثمانية وخمسون حرفاً {بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي عمّ جوده سائر المخلوقات {الرحيم} الذي خص أهل السعادة بالجنات. وقوله تعالى: {والسماء} أي: العالية غاية العلوّ، المحكمة غاية الإحكام {ذات البروج} قسم أقسم الله تعالى به، وتقدّم الكلام على ذلك مراراً، وفي البروج أقوال: فقال مجاهد: هي البروج الاثنا عشر، شبهت بالقصور؛ لأنها تنزلها السيارات. وقال الحسن: هي النجوم، وقيل: هي منازل القمر. وقال عكرمة: هي قصور في السماء. وقيل: عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها. وقيل: أبواب السماء. وقوله تعالى: {واليوم الموعود} قسم آخر وهو يوم القيامة. قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه. واختلفوا في قوله سبحانه وتعالى: {وشاهد ومشهود} فقال أبو هريرة وابن عباس: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. وروى مرفوعاً: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة. والشاهد يوم الجمعة» خرّجه الترمذي في جامعه. قال القشيري: فيوم الجمعة يشهد على عامله بما عمل فيه. قال القرطبي: وكذا سائر الأيام والليالي لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شاهد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً فإني إذا مضيت لم ترني أبداً، ويقول الليل مثل ذلك» حديث غريب. وحكى القشيري عن عمر أنّ الشاهد يوم الأضحى. وقال ابن المسيب: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة. وروي عن علي: الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر. وقال مقاتل: أعضاء الإنسان هي الشاهد لقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 ألسنتهم} (النور: 24) الآية. وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} (البقرة: 143) الآية. وقيل: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً} (الأحزاب: 45) وقيل: آدم. وقيل: الحفظة الشاهد والمشهود أولاد آدم، وقيل: غير ذلك وكل ذلك صحيح. واختلف في جواب القسم فقال الجلال المحلي: جواب القسم محذوف صدره أي: لقد {قتل} أي: لعن {أصحاب الأخدود} وقال الزمخشري: محذوف ويدل عليه قوله: {قتل أصحاب الأخدود} وكأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون يعني: كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم. واستظهر هذا البيضاوي. والأخدود: هو الشق المستطيل في الأرض كالنهر، وجمعه أخاديد، واختلف فيهم فعن صهيب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب فقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع قعد إلى الراهب وسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر،. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر فأخذ حجراً ثم قال: اللهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى تمضي الناس فرماها فقتلها فمضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي: بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هذا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فإن آمنت به دعوت الله تعالى فشفاك فآمن بالله فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ربك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي: بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، قال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل: له: ارجع عن دينك فأبى ففعل به كالراهب، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: اذهبوا إلى جبل كذا فاصعدوا به، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فانكفأت السفينة بهم فغرقوا، وجاء يمشي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ووضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام ثلاثاً، فأتى الملك فقيل: له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فحدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها. أو قيل له: اقتحم، قال: ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أمّاه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت» . قال البغوي: هذا حديث صحيح. وقيل: إنّ الصبي قال لها: قعي ولا تقاعسي. وقيل: ما هي إلا غميضة فصبرت. وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أنّ رجلاً كان قد بقي على دين عيسى، فوقع على نجران فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، وخيرهم بين النار واليهودية، فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً في الأخاديد. وقيل: سبعين ألفاً. ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً واقتحم البحر بفرسه فغرق. قال الكلبي: وذو نواس قتل عبد الله بن التامر رضي الله عنه. وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن خربة احترقت في زمن عمر فوجدوا عبد الله بن التامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده عنها أنبعت دماً وإذا تركت ارتدّت مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه: ربي الله. فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه. وعن ابن عباس قال: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل أن يولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام، ولم يجد بدّاً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن الصوت فأعجبه ذلك، وذكر قريباً من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول. قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي، ففعل الملك فقتله فقال الناس: لا إله إلا إله، عبد الله بن التامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة، وأخذ أفواه السكك وأخدّ أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلاً رجلاً، فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال: ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه، وكان في مملكته امرأة فأسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة: أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار فأبت، فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار، ثم قال لها: ارجعي فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي: يا أمّاه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار، وألقيت أمّه على أثره. وعن علي أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك: أنّ الله تعالى حرّمه. فخطب فلم يقبلوا منه فقالت: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله: {أصحاب الأخدود} وعن مقاتل: كانت الأخاديد ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، وأخرى بالشام، وأخرى بفارس حرقوا بالنار، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآناً، وأنزل في التي كانت بنجران. وذلك أنّ رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الانجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً ما بين رجل وامرأة، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار، فضُربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك ناراً لا تُطفأ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً فذلك قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} . وقوله تعالى: {النار} بدل اشتمال من الأخدود. وقوله تعالى: {ذات الوقود} وصف لها بأنها نار عظيمة لها، ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، واللام في الوقود للجنس. وقوله تعالى: {إذ هم عليها قعود} ظرف لقتل أي: لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها، ومعنى عليها على ما يدنوا منها من حافات الأخدود كقوله: *وبات على النار الندى والمحلق* وكما تقول: مررت عليه تريد مستعلياً المكان الذي يدنو منه، فكانوا يقعدون حولها على الكراسي. وقال القرطبي: عليها. قوله وقال القرطبي عليها كذا في جميع النسخ وفيه سقط فراجعه. {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين} بالله من تعذيبهم بالإلقاء في النار إن لم يرجعوا عن إيمانهم {شهود} أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به أو شهود بمعنى حضور، إذ روي أنّ الله تعالى أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى القاعدين فأحرقتهم. قال الرازي: يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين. والمشهور أن المقتولين هم المؤمنون. وروي أن المقتولين هم الجبابرة. روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم، ونجّى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواحدي. وتأوّلوا قوله تعالى: {فلهم عذاب جهنم} أي: في الآخرة {ولهم عذاب الحريق} أي: في الدنيا. فإن فسر أصحاب الأخدود بالقاتلين فيكون قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} دعاء عليهم كقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} (عبس: 17) وإن فسر بالمقتولين كان المعنى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 أنّ المؤمنين قتلوا بالنار فيكون ذلك خبراً لا دعاءً. والمقصود من هذه الآية: تثبيت قلوب المؤمنين وإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد. وذكر لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ليتأسوا بهذا الغلام في صبره على الأذى والصلب، وبذل نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وكذلك صبر الراهب على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى. {وما نقموا} أي: وما أنكروا وكرهوا {منهم} من الخلات وكان ذنباً ونقصاً {إلا أن يؤمنوا} أي: يجدّدوا الإيمان مستمرّين عليه {بالله} أي: الذي له الكمال كله {العزيز} في ملكه الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء. {الحميد} أي: المحيط بجميع صفات الكمال، فهو يثيب من أطاعه أعظم ثواب وينتقم ممن عصاه بأشدّ العذاب. وهذا استثناء على طريقة قول القائل: *ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب* أي: من ضرابها، والكتائب بالتاء المثناة: جمع كتيبة وهي الجيش، وقال ابن الرقيات: ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا ونظيره قوله تعالى: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} (المائدة: 59) ولما ذكر تعالى الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه، حميداً منعماً يجب الحمد على نعمه، ويرجى ثوابه قرر ذلك بقوله تعالى: {الذي له} أي: خاصة {ملك السموات والأرض} أي: على جهة العموم مطلقاً، فكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً، لأنّ ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ، وإنّ الناقمين أهلٌ لانتقام الله تعالى منهم بعذاب لا يعدله عذاب. {والله} الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء شهيد} فلا يغيب عنه شيء، وهذا لأنّ الله علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه. ولما ذكر قصة اأصحاب الأخدود أتبعها ما يتفرّع من أحكام الثواب والعقاب فقال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: أحرقوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء إذا أحرقته، والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ونظيره {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات: 7) . قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد: كلُّ مَنْ فَعَلَ ذلك. قال: وهذا أولى لأنّ اللفظ عامّ والحكم عامٌّ، والتخصيص ترك للظاهر من غير دليل. ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان عبر سبحانه بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم لم يتوبوا} أي: عن كفرهم وعما فعلوا. {فلهم عذاب جهنم} أي: بكفرهم {ولهم عذاب الحريق} أي: عذاب إحراقهم المؤمنين في الآخرة، وقيل: في الدنيا فأحرقتهم كما تقدّم، ومفهوم الآية أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد، وذلك يدل على أنّ الله تعالى يقبل التوبة من القاتل المتعمد خلاف ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولما ذكر سبحانه وعيد المجرمين ذكر ما أعدّ للمؤمنين بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان {وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {لهم جنات} أي: بساتين تفضلاً منه تعالى {تجري من تحتها} أي: تحت غرفها وأسرّتها وجميع أماكنها {الأنهار} يتلذذون ببردها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 في نظير ذلك الحرّ الذي صبروا عليه في الدنيا، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضارّ والأحزان. {ذلك} أي: الأمر العالي الدرجة العظيم البركة {الفوز} أي: الظفر بجميع المطالب {الكبير} وهو رضا الله تعالى لا دخول الجنة. وقال تعالى: {ذلك الفوز} ولم يقل تلك، لأنّ ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول الجنان وتلك إشارة إلى الجنة الواحدة، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً. {إنّ بطش ربك} أي: أخذ المحسن إليك المربي لك المدبر لأمرك الجبابرة والظلمة {لشديد} كقوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد} (هود: 102) قال المبردّ: {إنّ بطش ربك} جواب القسم، والبطش هو الأخذ بعنف فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف. ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله تعالى مؤكداً لما له من الإنكار: {إنه هو} أي: وحده {يبدئ} أي: يوجد ابتداء أيّ خلق أراد إلى أيّ هيئة أراد {ويعيد} أي: ذلك المخلوق عند البعث. وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله تعالى الأموات أي: فنزلت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة، وهذا اختيار الطبري. وقيل: يبدئ البطش ويعيده فيبطش بهم في الدنيا والآخرة، أو دل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه، أو أوعد الكفرة بأن يعيدهم كما بدأهم ليبطش لهم؛ إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة. {وهو} أي: وحده {الغفور} أي: الستور لعباده المؤمنين. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها. وقوله تعالى: {الودود} مبالغة في الود. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو المتودّد لعباده بالمغفرة، وعن المبرد: هو الذي لا ولد له. وأنشد: *وأركب في الودّ عريانة ... ذلول الجماع لقاحاً ودودا* { { أي: لا ولد لها تحنّ إليه. وقيل: هو فعول بمعنى مفعول كالركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب. وقيل: يغفر ويودّ أن يغفر. {ذو العرش} ومالكه، أي: ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على سرير، ويقال: ثلّ عرشه، أي: ذهب سلطانه، أو السرير الدال على اختصاص الملك بالملك، وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة الذي به قوام الأمور، وقرأ {المجيد} حمزة والكسائي بجرّ الدال على أنه نعت للعرش أو لربك في قوله تعالى: {إن بطش ربك} قال مكي: وقيل: لا يجوز أن يكون نعتاً للعرش لأنه من صفات الله تعالى اه. وهذا ممنوع لأنّ مجد العرش علوّه وعظمه كما قاله الزمخشري. وقد وصف العرش بالكريم في آخر المؤمنين. وقرأ الباقون برفع الدال على أنه خبر بعد خبر. وقيل: هو نعت لذو، واستدل بعضهم على تعدّد الخبر بهذه الآية، ومن منع قال لأنها في معنى خبر واحد، أي: جامع بين هذه الأوصاف الشريفة، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر، والمجد: هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه موصوف بذلك وتقدّم وصف عرشه بذلك. {فعالٌ} أي: على سبيل التكرار والمبالغة {لما يريد} قال القفال: أي: يفعل ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه أحد، ولا يغلبه غالب فيدخل أولياءه الجنة لا يمنعه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 فهو يفعل ما يريد. وعن أبي اليسر: دخل ناس من الصحابة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. وقال الزمخشري: فعال خبر مبتدأ محذوف، وإنما قال فعال لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الطبري: رفع فعال وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود. تنبيه: دلت هذه الآية أنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. قال بعضهم: ودلت على أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء لأنها دالة على أنه يفعل ما يريد. {هل} أي: قد {أتاك} أي: يا أشرف الرسل {حديث} أي: خبر {الجنود} أي: الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وقوله تعالى: {فرعون وثمود} يجوز أن يكون بدلاً من الجنود، واستشكل كونه بدلاً؛ لأنه لم يكن مطابقاً للمبدل منه في الجمعية. وأجيب: بأنه على حذف مضاف، أي: جنود فرعون وأنّ المراد فرعون وقومه، واستغنى بذكره عن ذكرهم لأنهم أتباعه، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه. والمعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله تعالى بهم حين كذبوا رسلهم كيف هلكوا بكفرهم فقومك إن لم يؤمنوا بك فعل بهم كما فعل بهؤلاء، فاصبر كما صبر الأنبياء قبلك على أممهم. {بل الذين كفروا} أي: من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك {في تكذيب} لك لا يرعوون عنه، ومعنى الإضراب: أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشدّ من تكذيبهم، وإنما خص فرعون وثمود لأنّ ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة، وإن كانوا من المتقدّمين، وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك فدل بهما على أمثالهما. وقوله تعالى: {والله} أي: والحال أن الملك الذي له الكمال كله {من ورائهم محيط} وفيه وجوه: أحدها: أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحصره، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ينسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً، يقول الله تعالى: فهم كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم، إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم. ثانيها: أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقوله تعالى: {وظنوا أنهم أحيط بهم} (يونس: 22) فهو عبارة عن مشارفة الهلاك. ثالثها: أنه تعالى محيط بأعمالهم، أي: عالم بها فيجازيهم عليها. {بل هو} أي: هذا القرآن الذي كذبوا به، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {قرآن} أي: جامع لكل منفعة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف {مجيد} أي: شريف وحيد في اللفظ والمعنى، وليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة. {في لوح} هو في الهواء فوق السماء السابعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدّق بوعيده واتبع رسله أدخله الجنة، قال: واللوح لوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدرّ والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وكلامه نور، معقود بالعرش وأصله في حجر ملك. وقرأ {محفوظ} بالرفع نافع على أنه نعت لقرآن، والباقون بالجرّ على أنه نعت للوح. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش وقال البغوي: هو أمّ الكتاب، ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 والنقصان. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة البروج أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات» حديث موضوع. سورة الطارق مكية وهي سبع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وإحدى وسبعون حرفاً {بسم الله} مالك الخلق أجمعين {الرحمن} الذي عمّ جوده المؤمنين والكافرين {الرحيم} الذي خص رحمته بعباده المؤمنين. وقوله تعالى: {والسماء والطارق} قسم أقسم الله تعالى به، وقد أكثر الله تعالى في كتابه العزيز ذكر السماء والشمس والقمر؛ لأنّ أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة. ولما كان الطارق يطلق على غير النجم أبهمه أوّلاً، ثم عظم القسم به بقوله تعالى: {وما أدراك} أي: أعلمك يا أشرف خلقنا، وإن حاولت معرفة ذلك وبالغت في الفحص عنه {ما الطارق} وهذا مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري، وما بعد ما الأولى خبرها، وفيه تعظيم لشأن الطارق. وأصله كل آت ليلاً ومنه النجوم لطلوعها ليلاً. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة وابن ذكوان بخلافٍ عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.k ثم فسر الطارق بقوله تعالى: { { {النجم الثاقب} أي: المضيء لثقبه الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل: دُرِّيّ لأنه يدرؤه، أي: يدفعه، والمراد جنس النجوم أو جنس الشهب التي يرجم بها. وقال محمد بن الحسين: هو زحل. وقال ابن زيد: هو الثريا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الجدي. وقال عليّ: هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وحين يرجع. وفي الصحاح: الطارق النجم الذي يقال له: كوكب الصبح. قال الماوردي: وأصل الطرق الدق، ومنه سميت المطرقة، وسمي النجم طارقاً لأنه يطرق الجني أي: يقتله. روي أنّ أبا طالب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا انحط نجم فامتلأت الأرض نوراً ففزع أبو طالب، وقال: أيّ شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا نجم رمي به وإنه آية من آيات الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت السورة. وقال مجاهد: الثاقب المتوهج، وجواب القسم. {إن كل نفس} أي: من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس {لما عليها} أي: بخصوصها {حافظ} وقرأ ابن عامر وعاصم بتشديد الميم والباقون بتخفيفها تكون مزيدة، وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه واللام فارقة وعلى تشديدها فإن نافية، ولما بمعنى إلا. والحافظ: هو المهيمن الرقيب وهو الله تعالى، {وكان الله على كل شيء رقيباً} (الأحزاب: 52) ، {وكان الله على كل شيء مقيتاً} (النساء: 85) ، أو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ. وروى الزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب أحدكم عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين اختطفته الشياطين. ولما ذكر تعالى أن على كل نفس حافظاً أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في حاله فقال تعالى: {فلينظر الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناظر في عطفه نظر اعتبار في أمره ونشأته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. وقوله تعالى: {مم خلق} استفهام، أي: من أيّ شيء، وجوابه. {خلق} أي: الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليه السلام من تراب وأمّه حوّاء رضي الله تعالى عنها من ضلعه. {من ماء دافق} أي: مدفوق، فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى: {عيشة راضية} (الحاقة: 21) أو دافق على النسب، أي: ذي دفق أو اندفاق. وقال ابن عطية: يصح أن يكون الماء دافقاً؛ لأنّ بعضه يدفق بعضاً أي: يدفعه فمنه دافق ومنه مدفوق، والدفق الصب أي: مصبوب في الرحم، ولم يقل تعالى من ماءين فإنه من ماء الرجل وماء المرأة، لأنّ الولد مخلوق منهما لامتزاجهما في الرحم فصارا كالماء الواحد، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه. {يخرج من بين الصلب} أي: للرجل وهو عظام الظهر {والترائب} أي: للمرأة جمع تريبة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة، وعن عكرمة: الترائب ما بين ثدييها، وقيل: الترائب التراقي، وقيل: أضلاع الرجل التي أسفل الصدر. وحكى الزجاج: أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر. وقال ابن عادل جاء في الحديث: «أنّ الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب، ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم. وحكى القرطبي: إنّ ماء الرجل ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثيين، وهذا لا يعارضه قوله تعالى: {من بين الصلب والترائب} لأنه ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثين قال المهدودي: ومن جعل يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة لضمير للإنسان. والضمير في قوله تعالى: {إنه} للخالق المدلول عليه بخلق لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه وتعالى وفي الضمير في قوله تعالى: {على رجعه} وجهان أحدهما: أنه ضمير الإنسان أي: بعثه بعد موته {لقادر} وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني: أنه ضمير الماء، أي: رجع المنيّ في الإحليل أو الصلب وهذا قول مجاهد. وعن الضحاك أنّ المعنى: إنه على ردَّ الإنسان في الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الكبر. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج؛ لقادر. وقال الماوردي: يحتمل أنه قادر على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه إلى الآخرة؛ لأنّ الكفار يسئلون فيها الرجعة. وقوله تعالى: {يوم} منصوب برجعه ومن يجعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب، أو الإحليل وحاله الأولى نصب الظرف بمضمر، أي: واذكر يوم. {تبلى} تختبر وتكشف، {السرائر} أي: ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرهما وما أخفى الأعمال وذلك يوم القيامة وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلاً ينشد: *سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السرائر* فقال: ما أغفله عما في والسماء والطارق. وقال عطاء بن رباح: إن السرائر فرائض الأعمال كالصوم والصلاة والوضوء والغسل من الجنابة، فإنها سرائر بين الله تعالى وبين العبد، ولو شاء العبد لقال: صمت ولم يصم، وصليت، ولم يصل واغتسلت ولم يغتسل فيختبر حتى يظهر من أداها ممن ضيعها. وقال ابن عمر: يبدي الله تعال كل سرّ فيكون زيناً في وجوه، وشيناً في وجوه. يعني: فمن أدّاها كان وجهه مشرقاً، ومن لم يؤدها كان وجهه أغبر. {فما له} أي: لهذا الإنسان المنكر للبعث الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 أخرجت سرائره. وأعرق في النفي والتعميم فقال تعالى: {من قوة} أي: منعة في نفسه يمتنع بها {ولا ناصر} أي: ينصره من عذاب الله تعالى فيدفعه عنه. ثم ذكر تعالى قسماً آخر فقال تعالى: {والسماء} أي: التي تقدّم الإقسام بها، وَصَفَها بما يؤكد العلم بالبعث فقال تعالى: {ذات الرجع} أي: التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي تتحرك عنه فترجع الأحوال التي كانت، وتصرّمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب، والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر، والصيف وما فيه من حرّ وصفاء وسكون، وغير ذلك. وقيل: ذات النفع. وقيل: ذات الملائكة لرجوعهم فيهم بأعمال العبادة. وقيل: ذات المطر لعوده كل حين، أو لما قيل: من أن السحاب تحمل الماء من البحار، ثم ترجعه إلى الأرض، وعلى هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب. {والأرض} أي: مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعاينوه كل وقت. {ذات الصدع} أي: تنصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار والعيون، نظيره: قوله تعالى: {ثم شققنا شقاً} (عبس: 26) الآية والصدع بمعنى الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع، به فكأنما قال تعالى: والأرض ذات النبات. وقال مجاهد: ذات الطرق التي تصدعها المشاة، وقيل: ذات الحرث لأنه يصدعها، وقيل: ذات الأموات لإصداعهم عنها للنشور. قال الرازي: واعلم أنه تعالى كما جعل كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات فقوله تعالى: {والسماء ذات الرجع} كالأب، وقوله تعالى: {والأرض ذات الصدع} كالأمّ وكلاهما من النعم العظام، لأنّ نعم الدنيا موقوفةٌ على ما ينزل من السماء مكرّراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك. ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه وهو قوله تعالى: {إنه لقول فصل} وفي هذا الضمير قولان أحدهما: ما قاله القفال: وهو أن المعنى: أنّ ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى السرائر قول فصل وحق. والثاني: أنه عائد على القرآن، أي: القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل له: فرقان. قال الرازي: والأوّل أولى؛ لأنّ عود الضمير إلى المذكور السالف أولى انتهى. وأكثر المفسرين على الثاني. والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق من الباطل، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم الجزم. ويقال: هذا قول فصل قاطع للشرّ والنزاع معناه جدّ؛ لقوله تعالى: {وما هو} أي: في باطنه ولا ظاهره {بالهزل} أي: باللعب والباطل بل هو جدّ كله لا هوادة فيه: ومن حقه وقد وصفه الله تعالى بذلك أن يكون مهيباً في الصدور، معظماً في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقي ذهنه إلى أنّ جبار السموات والأرض يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده ويوعده حتى إن لم يستفزه الخوف، ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جاداً غير هازل، فقد نفى الله تعالى عن المشركين ذلك في قوله تعالى: {وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} (النجم: 61) {والغوا فيه} (فصلت: 26) هذا على عود الضمير للقرآن، وعلى جعله للأوّل فيكون الشخص خائفاً وجلاً من ذلك الذي تبلى فيه السرائر. {إنهم} أي: الكفار أعداء الله تعالى {يكيدون كيداً} أي: يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. واختلف في ذلك الكيد، فقيل: إلقاء الشبهات كقولهم {إن هي إلا حياتنا الدنيا} (الأنعام: 29) {من يحيي العظام وهي رميم} (يس: 78) {أجعل الآلهة إلهاً واحداً} (ص: 5) وما أشبه ذلك وقيل: قصدهم قتله لقوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} (الأنفال: 30) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 الآية. وأما قوله تعالى: {وأكيد} أي: أنا بإتمام اقتداري {كيداً} فاختلف فيه أيضاً، فقيل: معناه أجازيهم جزاء كيدهم، وقيل: هو ما أوقع الله تعالى بهم يوم بدر من القتل والأسر، وقيل: استدراجهم من حيث لا يعلمون، وقيل: كيد الله تعالى لهم بنصره وإعلاء درجته تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) . وقول الشاعر: *ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا* وكقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) {يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء: 142) ولما كان هذا معلماً بأنهم عدم لا اعتبار بهم، قال تعالى مسبباً عنه تهديداً لهم {فمهل الكافرين} أي: فمهل يا أشرف الخلق هؤلاء البعداء، ولا تستعجل بالانتقام ولا بالدعاء عليهم بإهلاكهم فإنا لا نعجل لأنّ العجلة وهي إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به نقص. وقوله تعالى: {أمهلهم} تأكيد حسنه مخالفة اللفظ، أي: أنظرهم {رويداً} أي: قليلاً، وهو مصدر مؤكد لمعنى العامل مصغر، روداً وأرواداً على الترخيم، وقد أخذهم الله تعالى ببدر ونسخ الإمهال بالأمر بالجهاد والقتال. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله تعالى بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» حديث موضوع. سورة الأعلى مكية في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية، قال النووي: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحيها لكثرة مااشتملت عليه من العلوم والخبرات، وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفاً. {بسم الله} عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية {الرحمن} الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة {الرحيم} الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه. واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {سبح اسم ربك} فالأكثرون على أن المعنى: نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به، فاسم زائد، كقول لبيد: * ... إلى الحول ثم اسم السلام عليكما* وقيل: عَظِّمْ ربك {الأعلى} والاسم زائد كما مرّ، قصد به تعظيم المسمى، وذكر الطبري أن المعنى: نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحداً سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي: معنى {سبح اسم ربك الأعلى} أي: نزِّهْهُ عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهيةٌ ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، سواءٌ ورد الإذن فيها أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية. قال البغوي: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد، لأنّ أحداً لا يقول سبحان الله. وسبحان اسم ربنا إنما يقول: سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى: {سبح اسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 ربك} اه. وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سبح أي: صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل: سبحان ربي الأعلى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: «سبحان ربي الأعلى» . وعن عقبة بن عامر «أنه لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} (الواقعة: 74) قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوها في ركوعكم» . ولما نزل {سبح اسم ربك الأعلى} قال: اجعلوها في سجودكم» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك. وروي «أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل» . ولما أمر تعالى بالتسبيح فكان سائلاً قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال تعالى: {الذي خلق} أي: أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء {فسوّى} أي: مخلوقه. وقال الرازي: يحتمل أن يريد الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً: أحدها: اعتدال قامته وحسن خلقه، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4) وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون: 14) . ثانيها: كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها: أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات. وقال بعضهم: خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات. ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه: أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية: هو أنه تعالى قادرٌ على كل الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالأحكام والإتقان، مبرّأٌ عن النقص والاضطراب. وقرأ {والذي قدر} الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي: وهما بمعنى واحد، أي: أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين ونحو ذلك {فهدى} قال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها. وقال مقاتل والكلبي: في قوله تعالى: {فهدى} عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال تعالى في سورة طه: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50) أي: الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل: قدّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً. وقال السدّي: قدّر مدّة الجنين في الرحم ثم هداه إلى الخروج من الرحم، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها. يقال: إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى. وقيل: {فهدى} أي: دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالماً قادراً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء، قال إبراهيم عليه السلام {الذي خلقني فهو يهدين} (الشعراء: 78) وقال موسى عليه السلام لفرعون: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50) ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى: {والذي أخرج المرعى} أي: أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المرعى الكلأ الأخضر. {فجعله} أي: بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته {غثاء} أي: جافاً هشيماً {أحوى} أي: أسود يابساً. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون أحوى حالاً من المرعى أي: أخرجه أحوى أي: أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه. وقال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها. وقوله تعالى: {سنقرؤك فلا تنسى} بشارة من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه، فهو نفيٌ أخبر الله تعالى أنّ نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينسى. وقيل: نهيٌ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى: {السبيلا} (الأحزاب: 67) أي: فلا تفعله كرامةً، وتكريره لئلا ينساه، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب: بأنّ هذا غير لازم؛ إذ المعنى: النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع. قال الرزاي: وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين. الأوّل: أنه كان رجلاً أمّياً فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزاً. الثاني: أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخباراً، فيكون معجزاً. وفي المشيئة في قوله تعالى: {إلا ما شاء الله} أي: المَلِك الذي له الأمر كله وجوه: أحدها: التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23 ـ 24) فكأنه تعالى يقول: إني عالم بجميع المعلومات، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها. ثانيها: قال الفرّاء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسياً لذلك لقدر عليه كقوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك} (الإسراء: 86) ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر: 65) مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك البتة ففائدة هذا الاستثناء أنّ الله تعالى يعرفه قدرته حتى يعلم أنّ عدم النسيان من فضل الله تعالى وإحسانه لا من قوّته. ثالثها: أنّ الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرمٌ بالغ في التثبت والتحفظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر الاستثناء بقاؤه صلى الله عليه وسلم على التيقظ في جميع الأحوال. رابعها: أن ينساه بنسخ تلاوته وحكمه، وكان صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام خوف النسيان فكأنه قيل له: لا تعجل بها إنك لا تنسى ولا تتعب نفسك بالجهر بها. {إنه} أي: الذي مهما شاء كان {يعلم الجهر} أي: القول والفعل {وما يخفى} أي: منهما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، وما يخفى ما نسخ من صدرك. وقوله تعالى: {ونيسرك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 لليسرى} عطف على سنقرؤك، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض. قال الضحاك: واليسرى هي الشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة.v وقال ابن مسعود: اليسرى الجنة، أي: نيسرك إلى العمل المؤدّي إلى الجنة، وقيل: اليسرى الطريقة اليسرى، وهي أعمال الخير والأمر في قوله تعالى: {فذكر} للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: فذكر بالقرآن {إن نفعت الذكرى} أي: الموعظة، وإن شرطية، وفيه استبعاد لتذكرهم. ومنه قول القائل: *لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي* ولأنه صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّاً وطغياناً، وكان صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً ويزداد جهداً في تذكيرهم، وحرصاً عليه فقيل: إن نفعت الذكرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. وقيل: إن بمعنى إذ كقوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 139) وقيل: بعده شيء محذوف تقديره إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) أي: البرد وقاله الفراء والنحاس. وقيل: إن بمعنى ما لا بمعنى الشرط لأنّ الذكرى باقية بكل حال. ثم بين تعالى من تنفعه الذكرى بقوله سبحانه. {سيذكر} أي: بوعد لا خلف فيه {من يخشى} أي: يخاف الله تعالى فهي كآية {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (ق: 45) وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجب عليه تذكيرهم نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم. وقال ابن عباس: نزلت في ابن أمّ مكتوم. وقيل: في عثمان بن عفان. قال الماوردي: وقد تذكر من يرجوه إلا أن تذكر الخاشع أبلغ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء. وقال القشيري: المعنى: عمم أنت بالتذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. فإن قيل: التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين أجيب: بأنّ ذلك لظهوره وقوّة دليله، كأنه معلوم لكنه يزول بسبب التقليد والفساد. تنبيه: السين في قوله تعالى: {سيذكر} يحتمل أن تكون بمعنى سوف، وسوف من الله تعالى واجب كقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ من خشي فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر. ولما بين تعالى من ينتفع بالذكرى بين من لا ينتفع بها بقوله تعالى: {ويتجنبها} أي: الذكرى أن يتركها جانباً لا يلتفت إليها {الأشقى} . {الذي يصلى النار} وهو الكافر. فإن قيل: الأشقى يستدعي وجود شقي فكيف قال هذا القسم؟ أجيب: بأنّ لفظ الأشقى من غير مشاركة كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرّاً وأحسن مقيلاً} (الفرقان: 24) ، وقوله تعالى: {وهو أهون عليه} (الروم: 27) . قال الرازي: الفرق ثلاثة العارف والمتوقف والمعاند، فالسعيد هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاوة، والأشقى هو المعاند. وقال الزمخشري: الأشقى هو الكافر؛ لأنه أشقى من الفاسق، أو الذي هو أشقى الكفرة؛ لتوغله في معاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعقبة بن ربيعة. واختلف في قوله تعالى: {الكبرى} أي: العظمى على وجوه: أحدها: قال الحسن: هي نار جهنم، والصغرى نار الدنيا. ثانيها: أنّ في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة فكذلك يصلى أعظم النيران. ثالثها: أنّ النار الكبرى هي النار السفلى فهي نصيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 الكفار، كما قال تعالى: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء: 145) . فإن قيل: قوله تعالى: {ثم لا يموت فيها ولا يحيى} يقتضي أن ثم حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول. أجيب: عن ذلك بوجهين: أحدهما: لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال تعالى: {لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر: 36) وهذا جاء على مذهب العرب يقولون للمبتلى بالبلاء الشديد لا هو حيّ ولا هو ميت. ثانيهما: أنّ نفس أحدهم في النار في حلقة لا تخرج فيموت، ولا ترجع إلى موضعها فيحيا. تنبيه: قوله تعالى: ثم للتراخي بين الرتب في الشدّة. ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لضدّه فقال تعالى: {قد أفلح} أي: فاز بكل مراد {من تزكى} أي: تطهر من الكفر بالإيمان؛ لما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من تزكى وشهد أي لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله» . وقيل: تطهر للصلاة وأدّى الزكاة. {وذكر اسم ربه} أي: بقلبه ولسانه مكبراً {فصلى} أي: الصلوات الخمس. قال الزمخشري: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها. وقال قتادة: تزكى: عَمِلَ صالحاً. وعن عطاء نزلت في صدقة الفطر. قال ابن سيرين: قد أفلح من تزكى، قال: خرج فصلى بعد ما أدّى زكاة الفطر وصلى صلاة العيد. قال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل فإنّ هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب البغوي: بأنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كقوله تعالى: {وأنت حل بهذا البلد} (البلد: 2) والسورة مكية وظهر أثر الحل يوم الفتح قال صلى الله عليه وسلم «أحلت لي ساعة من نهار» . وقيل: المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، أي: زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال: إنّ هذه الآية نزلت في عثمان، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك، فخاصمه المنافق، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟ قال: أبيع عاجلاً بآجل لا أفعل» فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته. ويقول فيه: {قد أفلح من تزكى} وفي المنافق {ويتجنبها الأشقى} وقال الضحاك: نزلت في أبي بكر وقرأ {بل تؤثرون الحياة الدنيا} أبو عمرو بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب، ومعناه على القراءة الأولى: بل تؤثرون الأشقون، وعلى القراءة الثانية: بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا بالعز الحاضر مع أنها شرٌّ وفانية اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات على الاستكثار من الثواب. {والآخرة} ، أي: والحال أنّ الدار التي هي غاية القصد المبرأة عن العيب المنزهة عن الخروج عن الحكمة {خير} ، أي: من الدنيا {وأبقى} لأنها تشتمل على السعادة الجسمانية، والروحانية، ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا ولأنّ الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك، ولأنّ الدنيا فانية والأخرة باقية، والباقي خير من الفاني. وعن عمر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا: لا. قال: لأنّ الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وأنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل. والإشارة في قوله تعالى: {إنّ هذا لفي الصحف الأولى} إلى قوله {قد أفلح من تزكى} إلى قوله {خير وأبقى} ، أي: هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل: إلى ما في السورة كلها، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. وقال الضحاك: إنّ هذا القرآن لفي الصحف الأولى ولم يرد أنّ هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما معناه أنّ معنى هذا الكلام في تلك الصحف. ثم بين تلك الصحف وهي المنزلة قبل القرآن بقوله تعالى: {صحف إبراهيم} وقدمه لأنّ صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر {وموسى} وختم به لأنّ الغالب على كتابة الأحكام والمواعظ فيه قليلة، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وروي عن أبيّ بن كعب «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله تعال من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى اخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . وقيل: في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه. عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه. وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب {سبح اسم ربك الأعلى} و {قل يا أيها الكافرون} وفي الوتر ب {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} » . وقرأ الأعلى، فسوى، المرعى، أحوى، فلا تنسى، وما يخفى، من يخشى، الأشقى، ولا يحيى، من تزكى، فصلى، الدنيا، وأبقى، الأولى، وموسى حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل، أمّا الأعلى الذي، والأشقى الذي إذا وقف عليهما فالإمالة، وإن وصلا فلا إمالة والباقون بالفتح. وقرأ: الذكرى، الكبرى، أبو عمرو والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله تعالى على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم السلام» . حديث موضوع. سورة الغاشية مكية بالإجماع وهي ست وعشرون آية واثنان وتسعون كلمةوثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفاً {بسم الله} علام الغيوب {الرحمن} كاشف الكروب {الرحيم} الذي خص أولياءه بالعفو عن الذنوب. وقوله سبحانه وتعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} فيه وجهان: أحدهما: أنّ هل بمعنى قد، أي: قد جاءك يا أشرف الخلق حديث الغاشية، كقوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} (الإنسان: 1) . قال قطرب: والثاني: أنه استفهام على حاله، وتسميه أهل البيان التشويق، والمعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي، والغاشية: الداهية التي تغشى الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 بشدائدها وتلبسهم أهوالها وهي القيامة من قوله: {يوم يغشاهم العذاب} (العنكبوت: 55) وقيل: هي النار من قوله تعالى: {وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم: 50) {ومن فوقهم غواش} (الأعراف: 41) . وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلق. وقيل: الغاشية أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها. {وجوه} ، أي: كثيرة جدّاً كائنة {يومئذ} ، أي: يوم إذ غشيت {خاشعة} ، أي: ذليلة من الخجل والفضيحة والخوف من العذاب، والمراد بالوجوه في الموضعين: أصحابها. { { {عاملة ناصبة} ، أي: ذات نصب وتعب. قال سعيد بن جبير عن قتادة: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العَرَصَات في يوم كان مقداره ألف سنة. وقال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. وقال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال ابن عباس: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى على الكفر، مثل عبدة الأوثان والرهبان وغيرهم لا يقبل الله تعالى منهم إلا ما كان خالصاً له. وعن علي أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث. وقرأ {تصلى} أبو عمرو وشعبة بضم التاء الفوقية على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتحها على تسمية الفاعل، والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. والمعنى: تدخل {ناراً حاميةً} ، أي: شديدة الحرّ قد أحميت وأوقدت مدّة طويلة، ومنه حمى النار بالكسر، أي: اشتدّ حرّه. وحكى الكسائي اشتدّ حمى الشمس وحموها بمعنى. قال صلى الله عليه وسلم «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسوّدت فهي سوداء مظلمة» . وقيل: المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعون فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأمّا ما شوي فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور فلا يسمى مصلياً. ولما بين تعالى مكانهم ذكر شرابهم فقال تعالى: {تسقى من عين آنية} ، أي: شديدة الحرارة كقوله تعالى: {بين حميم آن} (الرحمن: 44) متناه في الحرارة. روي أنه لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لأذابتها. ولما ذكر تعالى شرابهم أتبعه بذكر طعامهم فقال تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} قال مجاهد: هو نبت ذو شوك لاطىء بالأرض تسميه قريش الشبرق، فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه. قال الكلبي: لا تقربه دابة إذا يبس. وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار. وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه: «الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة، وأشد حرّاً من النار» قال أبو الدرداء والحسن: «إنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية لا هنيئة ولا مريئة، فلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى: {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} (محمد: 15) . قال بعض المفسرين: فلما نزلت هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً ويسمى شبرقاً فإذا يبس لا يأكله شيء. قال أبو ذؤيب يصف حماراً: *رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعاً بان عنه النحائص* والنحوص: من الأتن التي لا لبن لها. ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيباً لهم: {لا يسمن ولا يغني} ، أي: يكفي كفاية مبتدأة {من جوع} فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى: أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. فإن قيل: كيف قيل: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} وفي الحاقة: {ولا طعام إلا من غسلين} (الحاقة: 36) أجيب: بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم. ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى: {وجوه يومئذٍ} ، أي: يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى: {ناعمة} ، أي: ذات بهجة وحسن كقوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} (المطففين: 24) أو متنعمة. قال مقاتل: في نعمة وكرامة. الصفة الثانية: قوله تعالى: {لسعيها} ، أي: في الدنيا بالأعمال الصالحة {راضيةٌ} ، أي: في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة الصفة الثالثة قوله تعالى: {في جنة} ثم توصف الجنة بصفات الأولى قوله تعالى: {عالية} ، أي: علية المحل والقدر، والصفة الثانية: قوله تعالى: {لا يسمع فيها لاغية} قرأ بالتاء الفوقية نافع مضمومة لاغية بالرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية مضمومة لاغية بالرفع لقيامها مقام الفاعل، والباقون بالتاء الفوقية مفتوحة لاغية بالنصب فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي: لا تسمع أنت وأن تكون للتأنيث، أي: لا تسمع الوجوه واللغو. وقال ابن عباس: الكذب والبهتان والكفر بالله تعالى. وقال قتادة: لا با طل ولا إثم. وقال الحسن: هو الشتم. وقال الفراء: الحلف الكاذب، والأولى كما قيل: لا يسمع في كلامهم كلمة ذات لغو، وإنما يتكلمون بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أحسن الأقوال قاله القفال. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين لا برّة ولا فاجرة. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {فيها} ، أي: الجنة {عين جارية} قال الزمخشري: يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله تعالى: {علمت نفس} (التكوير: 14) وقال القفال: فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا. الصفة الرابعة: قوله تعالى: {فيها سرر مرفوعة} ، أي: عالية في الهواء. قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء ما لم يجيء أهلها، فإذا أرادوا أن يجلسوا عليها تواضعت ثم ترتفع على مواضعها. الصفة الخامسة قوله تعالى: {وأكواب موضوعة} جمع كوب، وهي الكيزان التي لا عرى لها. قال قتادة: فهي دون الإبريق. وفي قوله تعالى: {موضوعة} وجوه أحدها: أنها معدّة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معدّ. ثانيها: موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشراب. ثالثها: موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جواهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 وتلذذهم بالشرب فيها رابعها: أن يكون المراد موضوعة عن حدّ الكبر، أي: هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله {قدّروها تقديراً} (الإنسان: 16) الصفة السادسة: قوله تعالى: {ونمارق} وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون والراء وكسرهما لغتان أشهرهما الأولى وهي وسادة صغيرة قالت: *نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق* {مصفوفة} أي: واحدة على جنب واحدة أخرى قال الشاعر: *كهولاً وشباناً حساناً وجوههم ... لهم سرر مصفوفة ونمارق* الصفة السابعة: قوله تعالى: {وزرابيّ} وهي جمع زربية بفتح الزاي وكسرها لغتان مشهورتان وهي بسط عراض فاخرة. وقال ابن عباس: الطنافس التي لها خمل، أي: وبر رقيق. واختلف في قوله تعالى: {مبثوثة} فقال قتادة: مبسوطة. وقال عكرمة: بعضها فوق بعض. وقال الفراء: كثيرة. وقال القتيبي: مفرّقة في المجالس. قال القرطبي: وهذا أصح فهي كثيرة متفرّقة ومنه قوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} (البقرة: 164) ولما ذكر تعالى أمر الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوه وأنكروه فذكرهم الله تعالى صنعه وقدرته بقوله تعالى: {أفلا ينظرون} ، أي: المنكرون لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة، وما ذكر فيها، والنار وما ذكر فيها، أي: نظر اعتبار. {إلى الإبل} ونبه على أنه عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدعاوي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام، فقال تعالى: {كيف خلقت} ، أي: خلقاً عجيباً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد النائية فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفاً ولا تنازع صغيراً وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها فتفكر، ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البرّ صبرها على احتمال العطش، حتى إنّ ظماءها لتصبر على عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المثبتة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع لأنها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا ترعاه سائر البهائم. وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحاً القاضي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد الكناسة، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت. تنبيه: الإبل اسم جمع واحده بعير وناقة وجمل ولا واحد لها من لفظها. وقال المبرد: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب. قال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة. وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أظهرهما: أنها الإبل، والثاني: أنها السحاب فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات والدلالات الدالة على قدرته والمنافع العامّة لجميع خلقه، وإن كان المراد بها الإبل فلأنّ الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات لأنّ ضروب الحيوان أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم وظهور القدرة فيها أتم وقيل للحسن: الفيل أعظم من الأعجوبة فقال العرب: بعيدة العهد بالفيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ولا يحلب درّه. {وإلى السماء} التي هي من جملة مخلوقاتنا {كيف رفعت} ، أي: رفعاً بعيداً بلا إمساك وبغير عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام، وما فيها من الكواكب والغرائب والعجائب. {وإلى الجبال} ، أي: الشامخة وهي أشد الأرض {كيف نصبت} نصباً ثابتاً فهي راسية لا تميل ولا تزول كما قال تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} (الأنبياء: 31) {وإلى الأرض} ، أي: على سعتها {كيف سطحت} سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للتقلب عليها. واستدلّ بعضهم بذلك على أنّ الأرض ليست بكرة. قال الرزاي: وهو ضعيف لأنّ الكرة إذا كانت في غاية العظمة تكون كل قطعة منها كالسطح. فإن قيل: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ أجيب: بأنّ من فسرها بالسحاب فالمناسبة ظاهرة، وذلك على طريق التشبيه والمجاز، ومن فسرها بالإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين: أحدهما: أنّ القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً ويسيرون عليها في أوديتهم وبواديهم مستوحشين ومنفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك ما يشغل به سمعه وبصره، فلا بدّ من أن يجعل دأبه التفكر فإذا تفكر في تلك الحال فأوّل ما يقع بصره على البعير الذي هو راكبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر. ثانيهما: أنّ جميع المخلوقات دالة على الصانع جلت قدرته إلا أنها قسمان منها ما للشهوة فيه حظ كالوجه الحسن والبساتين النزهة والذهب والفضة، فهذه مع دلالتها على الصانع قد يمنع استسحانها عن كمال النظر فيها ومنها ما لا حظ فيه للشهوة كهذه الأشياء فأمر بالنظر فيها؛ إذ لا مانع من إكمال النظر فيها. وقال عطاء عن ابن عباس: كأن الله تعالى يقول هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غيري. ولما بين تعالى الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم {فذكر} ، أي: بنعم الله تعالى ودلائل توحيده وعظهم بذلك وخوّفهم يا أشرف الخلق {إنما أنت مذكر} فلا عليك أن لا ينظروا ولم يذكروا أو ما عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى: 48) {لست عليهم بمسيطر} ، أي: بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان كقوله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار} (ق: 50) وهذا قبل الأمر بالجهاد. وقرأ هشام بالسين وقرأ حمزة بخلاف عن خلف بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة. وقوله تعالى: {إلا من تولى} استثناء منقطع، أي: لكن من تولى عن الإيمان {وكفر} ، أي: بالقرآن. {فيعذبه الله} ، أي: الذي له الكمال كله بسبب تكبره عن الحق ومخالفته لأمرك {العذاب الأكبر} ، أي: عذاب الآخرة لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقيل: استثناء متصل فإنّ جهاد الكفار وقتلهم تسليط فكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل: هو استثناء من قوله تعالى: {فذكر} إلا من انقطع طمعك من إيمانه، وتولى فاستحق العذاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 الأكبر وما بينهما اعتراض. {إن إلينا} ، أي: خاصة بما لنا من العظمة {إيابهم} ، أي: رجوعهم بعد البعث. {ثم إنّ علينا} ، أي: خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العيب والجور وكل نقص لا على غيرنا {حسابهم} ، أي: جزاءهم فلا نتركه أبداً، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان يشق عليه تكذيبهم. فإن قيل: ما معنى تقديم الظرف؟ أجيب: بأنّ معناه التشديد في الوعيد، وإنّ إيابهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع. سورة الفجر مكية وقيل: مدنية وهي تسع وعشرون آية وقيل: ثلاثون آية ومائةوتسع وثلاثون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفاً {بسم الله} الملك المعبود {الرحمن} الذي عمّ خلقه بالكرم والجود {الرحيم} الذي سدّد أهل عنايته بفضله فهو الحليم الودود. وقوله تعالى: {والفجر} ، أي: فجر كل يوم قسم كما أقسم بالصبح في قوله تعالى: {والصبح إذا أسفر} (المدثر: 34) {والصبح إذا تنفس} (التكوير: 18) وقال قتادة: هو فجر أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، وقيل: ذلك على مضاف محذوف، أي: وصلاة الفجر. وقيل: ورب الفجر وتقدّم أنّ الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، واختلف في قوله تعالى: {وليال عشر} فقال مجاهد وقتادة: هو عشر ذي الحجة. وقال الضحاك: هو العشر الأوّل من رمضان. وعن ابن عباس: أنه العشر الأخير من رمضان. وعن يمان بن رباب هو العشر الأوّل من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم. فإن قيل: لم ذكر الليالي من بين ما أقسم به؟ أجيب: بأنّ ذلك للتعظيم. {والشفع} ، أي: الزوج {والوتر} ، أي: الفرد، وقيل: الشفع الخلق كلهم قال الله تعالى: {وخلقناكم أزواجاً} (النبأ: 8) والوتر هو الله تعالى. قاله أبو سعيد الخدري. وقال مجاهد ومسروق: الشفع الخلق كله، قال الله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} (الذاريات: 49) الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجنّ والإنس، والوتر هو الله تعالى {قل هو الله أحد} (الإخلاص: 1) . وقال قتادة: هما الصلوات منها شفع ومنها وتر. روى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعاً وعن ابن عباس الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب. وقال الحسين بن الفضل: الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع دركات. سئل أبو بكر الوراق عن الشفع والوتر فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل، والقدرة والعجز، والقوّة والضعف، والعلم والجهل، والبصر والعمى. والوتر انفراد صفات الله سبحانه وتعالى عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوّة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت. وعن عكرمة الوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر، واختاره النحاس وقال هو الذي صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيوم عرفة وتر لأنه تاسعها ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 وقال ابن الزبير: الشفع الحادي عشر والثاني عشر من أيام منى، والوتر الثالث عشر. وقال الضحاك: الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة. وقيل: الشفع والوتر آدم عليه السلام كان وتراً فشفع بزوجته حوّاء، حكاه القشيريّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ حمزة والكسائيّ بكسر الواو والباقون بفتحها وهما لغتان الفتح لغة قريش ومن والاها والكسر لغة تميم. وقوله تعالى: {والليل إذا يسر} قسم خامس بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص أقسم به على العموم، ومعنى يسر سار وذهب كما قال الله تعالى: {والليل إذا أدبر} (المدثر: 33) . وقال قتادة: إذا جاء وأقبل وقيل: معنى يسر، أي: يسري فيه كما يقال: ليل نائم ونهار صائم، ومنه قوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} (سبأ: 33) وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الراء وصلاً لا وقفاً، وأثبتها ابن كثير في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وإثباتها هو الأصل لأنها لام فعل مضارع مرفوع، ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل فلأنّ الوقف محل استراحة وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء فقال: الليل لا يسري ولكن يسري فيه فهو مصروف فلما صرفه تجنبه حظه من الإعراب كقوله تعالى: {وما كانت أمك بغياً} (مريم: 28) ولم يقل بغية، لأنه صرفه عن باغية وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم والجواب محذوف تقديره: لتعذبن يا كفار مكة بدليل قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى قوله تعالى: {فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إنّ ربك لبالمرصاد} وما بينهما اعتراض. وقوله تعالى: {هل في ذلك} ، أي: القسم والمقسم به {قسم} ، أي: حلف أو محلوف {لذي حجر} استفهام معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت أو المراد منه التأكيد لما أقسم عليه كمن ذكر حجة بالغة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة والمعنى: إنّ من كان ذا لب علم أنّ ما أقسم الله تعالى به هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه والحجر العقل لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما يسمى عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاه من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء: يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها. وقوله تعالى: {ألم تر} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به العموم والمراد بالرؤية العلم، أي: ألم تعلم يا أشرف رسلنا {كيف فعل ربك} ، أي: المحسن إليك بأنواع النعم {بعاد} {إرم} وهو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم إنهم جعلوا لفظ عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم: هاشم، ولبني تميم: تميم، ثم قيل: للأوّلين منهم عاد الأولى، وإرم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة. فإرم في قوله تعالى: {عاد إرم} عطف بيان لعاد وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. وقوله تعالى: {ذات} ، أي: صاحبة {العماد} فينظر فيه إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد وطوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة. وقيل: ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين وروي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها جل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل. وقوله تعالى: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} صفة أخرى لإرم فإن كانت للقبيلة فلم تخلق مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة. قال الزمخشري: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيقلبها على الحي فيهلكهم. وروي عن مالك أنه كانت تمرّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وإن كانت للبلدة فلم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنّ الله تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه، فلأن تكونوا مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم أولى وقد ذكركم الله تعالى ثلاث قصص هذه القصة الأولى. وأما الثانية: فهي في قوله تعالى: {وثمودا الذين جابوا} ، أي: قطعوا {الصخر} جمع صخرة وهي الحجر واتخذوها بيوتاً كقوله تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتاً} (الشعراء: 149) . {بالواد} ، أي: وادي القرى، قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. وقيل: سبعة آلاف مدينة كلها من الحجارة. تنبيه: أثبت الياء ورش وابن كثير وصلاً، وأثبتها وقفاً ابن كثير بخلاف عن قنبل. {س89ش10/ش14 وَفِرْعَوْنَ ذِى ا?وْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا? فِى الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا? فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وأما القصة الثالثة: فهي في قوله تعالى: {وفرعون} ، أي: وفعل بفرعون {ذي الأوتاد} واختلف في تسميته بذلك على وجهين: أحدهما: أنه سمي بذلك عل كثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا. والثاني: أنه كان يتد أربعة أوتاد يشدّ إليها يدي ورجلي من يعذبه وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنّ فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت امرأة وهي امرأة خازنه حزقيل، وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذا سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك إله غير أبي؟ فقال: إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي، قال: ما يبكيك؟ فقالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السموات والأرض واحد لا شريك له، فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وأقرّي بأني إلهك، قالت: لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب، وقال لها: اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت له: لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعة فقالت: لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عز وجل، فأتى بابنتها فلما اضجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 فانطق الله تعالى لسان ابنتها فتكلمت، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً وقالت: يا أمّاه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فاسكنها الله تعالى الجنة قال: وبعث في طلب زوجها حزقيل: فلم يقدروا عليه، فقيل: لفرعون: إنه قد زوى في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون خلفه، فلما رأيا ذلك انصرفا فقال حزقيل: اللهم أنت تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل في عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون: وهل معك غيرك؟ قال: نعم فلان فدعى به، فقال: حق ما يقول هذا؟ قال: لا ما رأيت كما قال شيئاً فأعطاه فرعون فأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه. قال: وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي من فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت: يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت على الماشطة فقتلتها، فقال: لعل بك الجنون الذي كان بها؟ قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فمزق ما عليها وضربها وأرسل على أبويها فدعاهما فقال لهما: ألا تريان أنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها. قالت: أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها: يا آسية ألست من خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق، قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أن يتوّجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهما فرعون: أخرجاها عني فمدّها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله} (التحريم: 11) فقبض الله تعالى روحها وأدخلها الجنة. وروي عن أبي هريرة أنّ فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحاً واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته. وقوله تعالى: {الذين طغوا} ، أي: تجبروا {في البلاد} في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على هم الذين طغوا في البلاد، أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون فالضمير يرجع لعاد وثمود وفرعون وقيل: يرجع إلى فرعون خاصة. {فأكثروا} ، أي: طغاتهم {فيها الفساد} ، أي: بالقتل والكفر والمعاصي قال القفال: وبالجملة فالفساد ضد الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله تعالى وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد. {فصب} ، أي: أنزل إنزالاً هو في غاية القوة {عليهم} ، أي: في الدنيا {ربك} ، أي: المحسن إليك بكل جميل {سوط} ، أي: نوع {عذاب} وقال قتادة: يعني ألواناً من العذاب صبه عليهم، وقال أهل المعاني هذا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 الاستعارة لأن السوط عندهم غاية العذاب. وقال الفراء: هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وأصل ذلك أنّ السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى إلى كلّ عذاب إذا كان فيه غاية العذاب. وقال الزجاج: جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب. وعن الحسن أنه كان إذا أتى على هذه الآية قال: إنّ الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شيء عذب الله تعالى به فهو سوط، وشبه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه. {إنّ ربك} ، أي: المحسن إليك بالرسالة {لبالمرصاد} ، أي: يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء ليجازيهم عليها والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهذا مثل لإرصاد العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل: له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه فقال: {إنّ ربك لبالمرصاد} يا أبا جعفر عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعده بذلك من الجبابرة. قال الزمخشري: فلله دره، أي: أسد فراس كان بين ثوبيه يدق الظلمة بإنكاره ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه. وقوله تعالى: {فأما الإنسان} متصل بقوله تعالى: {إنّ ربك لبالمرصاد} فكأنه قيل: إنّ الله تعالى يريد من الإنسان الطاعة والسعي للعاقبة، وهو لا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها {إذا ما ابتلاه} ، أي: اختبره بالنعمة {ربه} ، أي: الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره {فأكرمه} ، أي: جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال {ونعمه} ، أي: جعله متلذذاً مترفهاً بما وسع الله تعالى عليه. وقوله تعالى: {فيقول} ، أي: سروراً بذلك افتخاراً {ربي أكرمن} ، أي: فضلني بما أعطاني خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في أمّا من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتداء بالأنعام فيظن أنّ ذلك عن استحقاق فيرتفع به. وكذا قوله تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر} ، أي: ضيق {عليه رزقه} التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه، أي: بالفقر ليوازي قسيمه {فيقول} ، أي: الإنسان بسبب الضيق {ربي أهانن} فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ويكون أكبر همه، وهذا في حق الكافر لقصور نظره وسوء فكره فيرى الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته.Y { { وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في عتبة بن ربيعة. وقيل: أبي بن خلف. فإن قيل: كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء؟ أجيب: بأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء: 35) . فإن قيل: هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه؟ أجيب: بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً ومهيناً وغير مكرم ولا مهين. وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك. فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 قيل: قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمّه عليه كما أنكر قوله: {أهانن} وذمه عليه؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: إنما أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته، وهو قصده على أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً مستحقاً ومستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله: {إنما أوتيته على علم عندي} (القصص:78) وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استحباب منه له، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها. ثانيهما: أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله: {ربي أهانن} يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه يسمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان. قال الزمخشري: ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى: {فأكرمه} وقرأ {ما ابتلاه} في الموضعين حمزة بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وقرأ {ربي أكرمن} {ربي أهانن} نافع بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفاً ووصلاً، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. وقرأ ابن عامر {فقدّر عليه رزقه} بتشديد الدال والباقون بتخفيفها، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل: قدر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه. ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى: {كلا} ، أي: ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك {بل} لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم {لا يكرمون اليتيم} ، أي: لا يحسنون إليه مع غناهم، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت: {ولا يحضون} ، أي: يحثون حثاً عظيماً {على طعام} ، أي: إطعام {المسكين} فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: على بذل أو على إعطاء، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة. {ويأكلون} على سبيل التجدد والاستمرار {التراث} ، أي: الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة. {أكلاً لماً} ، أي: ذا لم واللمّ الجمع الشديد. يقال: لممت الشيء لماً، أي: جمعته جمعاً. قال الحطيئة: *إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا* والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون. ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى: {ويحبون} ، أي: على سبيل الاستمرار {المال} ، أي: هذا النوع من، أي: شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى {حباً جماً} ، أي: كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق. وقوله تعالى: {كلا} ردع لهم عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أخبر تعالى عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عز من قائل: {إذا دكت الأرض} ، أي: حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدّة المط لا عوج فيها بوجه {دكاً دكاً} ، أي: مرّة بعد مرّة، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء وينعدم. {وجاء ربك} قال الحسن: أمره وقضاؤه {والملك} ، أي: الملائكة. وقوله تعالى: {صفاً صفاً} حال، أي: مصطفين، أي: ذوي صفوف كثيرة فتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس. { { {وجيء} ، أي: بأسهل أمر {يومئذ} ، أي: إذ وقع ما ذكر {بجهنم} ، أي: النار التي تتجهم من يصلاها كقوله تعالى: {وبرزت الجحيم} (النازعات: 36) ويروى «أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه فأخبروا علياً فجاء فاحتضنه من خلفه وقبل ما بين عاتقيه، ثم قال: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيرك فتلا عليه الآية. فقال له علي: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لك ولي يا محمد إنّ الله تعالى قد حرم لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال: نفسي نفسي إلا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: رب أمّتي أمّتي» . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام كل زمام بيد ألف ملك لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش. وقوله تعالى: {يومئذ} ، أي: يوم يجاء بجهنم بدل من إذ وجوابها {يتذكر الإنسان} ، أي: يتذكر الكافر ما فرط أو يتعظ لأنه يعلم قبح معاصيه فيندم عليها {وأنى له الذكرى} ، أي: ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزمخشري: لا بد من حذف مضاف وإلا فبين {يتذكر} وبين {وأنى له الذكرى} تناف وتناقض. تنبيه: أنى خبر مقدّم والذكرى مبتدأ مؤخر وله متعلق بما تعلق به الظرف. وقرأ {وأنى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. وقرأ {الذكرى} أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح. {يقول} ، أي: يقول مع تذكره {يا} للتنبيه {ليتني قدّمت لحياتي} ، أي: في حياتي فاللام بمعنى في، أو قدّمت الإيمان والخير لحياة لا موت فيها، أو وقت حياتي في الدنيا. {فيومئذ} ، أي: يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ {لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر، والمعنى: لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى إلى غيره، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى. ولما وصف الله تعالى حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته وسلم أمره إليه فقال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} قال الحسن، أي: المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد: الراضية بقضاء الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بثواب الله تعالى. وقال ابن كيسان: المخلصة. وقال ابن زيد: التي بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع، ويقال لها: عند الموت. {ارجعي إلى ربك} ، أي: إلى أمره وإرادته وقال ابن عباس رضي الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 عنهما: على صاحبك وجسدك. وقال الحسن: إلى ثواب ربك. {راضية} ، أي: بما أوتيته {مرضية} ، أي: عند الله تعالى بعملك، أي: جامعة بين الوصفين لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، وهما حالان. قال القفال: هذا وإن كان أمراً في الظاهرة فهو خبر في المعنى، والتقدير: أنّ النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى في القيامة بسبب هذا الأمر. {فادخلي في} ، أي: في جملة {عبادي} ، أي: الصالحين والوافدين عليّ الذين هم أهل الإضافة إليّ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها. {وادخلي جنتي} ، أي: معهم، هي جنة عدن وهي أعلى الجنان ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقال سعيد بن زيد: «قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاية فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول الله فقال له: إنّ الملك سيقوله لك يا أبا بكر» . وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط فدخل نعشه لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الاية على شفير القبر لا يدرى من تلاها {يا أيتها النفس} الآية. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب. قال الزمخشري: والظاهر العموم. وقول البيضاوي تبعاً له أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة» حديث موضوع. سورة البلد مكية وهي عشرون آية واثنان وثمانون كلمة وثلاثمائة وعشرون حرفاً {بسم الله} الملك الذي لا راد لأمره {الرحمن} الذي عم سائر خلقه بفضله {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بجنته. واختلف في لا في قوله تعالى: {لا أقسم} فقال الأخفش: إنها مزيدة، أي: أقسم كما تقدّم في قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة: 1) وقد أقسم به سبحانه وتعالى. قال الشاعر: { { *تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع* أي: يتقطع، ودخل حرف لا صلة، وكقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} (الأعراف: 12) وقد قال تعالى في ص: {ما منعك أن تسجد} وأجاز الأخفش أيضاً أن تكون بمعنى إلا. وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، حكاه مكي. وأجمعوا على أن المراد بالبلد في قوله تعالى: {بهذا البلد} ، أي: الحرام وهو مكة، وفضلها معروف فإنه تعالى جعلها حرماً آمناً. وقال تعالى: {ومن دخله كان آمناً} (آل عمران: 97) وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب. فقال تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (البقرة: 144) وأمر الناس بحج البيت فقال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع} (آل عمران: 97) وقال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} (البقرة: 125) وقال تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} (الحج: و26) وقال تعالى: {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} (الحج: 27) وشرف مقام إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى {واتخذوا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 مقام إبراهيم مصلى} (البقرة: 125) وحرم صيده وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل وأكثر منها إنما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها. {وأنت} ، أي: يا أشرف الخلق {حل} ، أي: حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه {بهذا البلد} بأن يحل لك فتقاتل فيه. وقد أنجز الله له هذا الوعد يوم الفتح وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرم ما شاء قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان ثم قال: «إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر» . ونظير {وأنت حل} في معنى الاستقبال قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر: 30) ومثله واسع في كلام العرب، تقول لمن تعده الإكرام والحباء لأنت مكرم محبوّ، وهو في كلام الله تعالى واسع لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال وأنّ تفسيره بالحال محال أنّ السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة من وقت نزولها، فما بال الفتح والجملة اعتراض بين المقسم به وما عطف عليه. واختلف في قوله تعالى: {ووالد وما ولد} فقال الزمخشري: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. وقال البغويّ: هما آدم وذريّته، وقيل: كلُّ والد وولده. فإن قيل: هلا قيل: ومن ولد؟ أجيب: بأنّ فيه ما في قوله تعالى: {والله أعلم بما وضعت} (آل عمران: 36) أي: بأي شيء وضعت يعني، أي: بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن، أو أن ما بمعنى من. والذي عليه أكثر المفسرين هما آدم وذريّته؛ لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها. ولقد قال الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (الإسراء: 70) وقيل: هما آدم والصالحون من ذريته، وأما الطالحون فكأنهم بهائم كما قال تعالى: {إن هم كالأنعام بل هم إلا أضلّ} (الفرقان: 44) {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} (البقرة: 18) والمقسم عليه قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان} ، أي: الجنس {في كبد} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي: شدّة ونصب، وعنه أيضاً في شدّة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه وسائر أحواله. وعن عكرمة منتصباً في بطن أمّه، والكبد الاستواء والاستقامة، فهذا امتنان عليه في الحقيقة، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطنها أمّها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصاباً. وقال ابن كيسان: منتصباً في بطن أمه فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال يمان: لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق. قال بعض العلماء أوّل ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطاً وشدّ رباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته ضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ من اللطام، ثم يكابد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 الختان والأوجاع، ثم المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، وشغل الأولاد والخدم، وشغل المسكن والجيران، ثم الكبر والهرم، وضعف الركب والقدم، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين، وهمّ الدين، ووجع السنّ، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس من الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار، إما في الجنة وإما في النار، فدل هذا على أنّ له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال، ولو كان الأمر إليه ما أختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام. وقوله تعالى: {في كبد} ، أي: في وسط السماء. وقال مقاتل: في كبد، أي: في قوّة نزلت في أبي الأشدين، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديداً قوياً، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه، وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه نزل. {أيحسب} ، أي: أيظنّ الإنسان قويّ قريش، وهو أبو الأشدين بقوّته، قوله أبي الأشدين هكذا في النسخ بصيغة التثنية، وفي حاشية الجمل، والأشد هكذا بالإفراد في كثير من نسخ هذا الشرح، وكثير من عبارات المفسرين، وفي بعض نسخ هذا الشرح وكثير من من التفاسير الأشدين بصيغة التثنية فليحرّر اه. {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه {لن يقدر عليه} ، أي: خاصة {أحد} ، أي: من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل: نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي. {يقول} ، أي: يفتخر بقوّته وشدّته {أهلكت} ، أي: على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم {مالاً لبداً} ، أي: كثيراً بعضه على بعض. {أيحسب} ، أي: هذا الإنسان العنيد بقلة عقله {أن} ، أي: أنه {لم يره أحد} قال سعيد بن جبير:، أي: أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وقال الكلبي: إنه كان كاذباً في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال، والمعنى: أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته. وقرأ {أيحسب} في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى: أي: بما لنا من القدرة التامّة {له عينين} يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر مايريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئاً، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ماترون، وأودعناهما البصر على كيفيةٍ يعجز الخلق عن إدراكهما. {ولساناً} يترجم به عن ضمائره {وشفتين} يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. قال قتادة: نِعَمُ الله تعالى عليه متظاهرة فيقررّه بها كي يشكره. قال البغوي: وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول: «يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق» . {وهديناه} ، أي: أتيناه من العقل {النجدين} قال أكثر المفسرين: بيّنا له طريق الخير والشر والهدى والضلال والحق والباطل كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً} (الإنسان: 3) وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً، فصار موضعاً للتكليف. روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 الناس هلموا إلى ربكم فإنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، يا أيها الناس إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ فلم جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» . قال المنذري: النجد هنا الطريق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بيّنا له الثديين، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وأصله المكان المرتفع. {فلا اقتحم العقبة} ، أي: فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين والأيتام بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله تعالى، لا أن يهلك مالاً لبداً في الرياء والفخر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا الوجه {كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم} (آل عمران: 117) الآية. وقيل: معناه لم يقتحمها ولاجاوزها والاقتحام الدخول في الأمر الشديد، وذكر العقبة مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البرّ فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله تعالى لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهذا معنى قول قتادة وقيل: إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها وروى عن ابن عمر أنّ هذه العقبة جبل في جهنم، وقال الحسن: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله تعالى ومجاهدة النفس.w وقال مجاهد: هي الصراط يضرب على متن جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة صعوداً وهبوطاً واستواء، وإنّ بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان، فناجٍ مسلم وناجٍ مخدوش، ومكردس في النار منكوس، وفي الناس من يمرّ كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ كالرجل يعدو، ومنهم من يمرّ كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم الزالون، ومنهم من يكردس في النار. وقال ابن زيد: فهلا سلك طريق النجاة. وقوله تعالى: {وما أدراك} ، أي: أعلمك أيها السامع لكلامنا الراغب فيما عندنا {ما العقبة} تعظيم لشأنها والجملة اعتراض قال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه {وما أدراك} فإنه أخبر به وما كان، قال: {وما يدريك} فإنه لم يخبر به، ثم بين سبب جوازها بقوله تعالى: {فك} ، أي: الإنسان {رقبة} ، أي: خلصها من الرق وذلك بأن يعتق رقبة في ملكه أو يعطي مكاتباً ما يصرفه في فك رقبته. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه» . قال الزمخشري: وفي الحديث: «أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا إعتاقها أن تنفرد بعتقها، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم، والعتق والصدقة من أفضل الأعمال» . وعن أبي حنيفة أن العتق أفضل من الصدقة، وعن صاحبيه: الصدقة أفضل. قال الزمخشري: والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق. وقال عكرمة: يعني فك رقبته من الذنوب. وقال الماوردي: ويحتمل أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، ولا يمنع الخبر من هذا التأويل وهو أشبه بالصواب. {أو إطعام} ، أي: دفع الإطعام لشيء له قابلية ذلك. {في يوم ذي مسغبة} ، أي: مجاعة، والسغب: الجوع. {يتيماً} ، أي: إنساناً صغيراً لا أب له {ذا مقربة} ، أي: ذا قرابة لك بأن كان بينك وبينه قرابة، يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي. {أو مسكيناً} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 وهو من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته، ولا يكفيه. {ذا متربة} ، أي: لصوق بالتراب لفقره. يقال: ترب إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى، أي: صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل: أثرى. وعنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ذا متربة} : «الذي مأواه المزابل» قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هو المطروح على الطرق الذي لا بيت له» . وقال مجاهد: وهو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: أنه ذو العيال. واحتج بهذه الآية على أنّ المسكين يملك شيئاً لأنه لو كان لا يملك شيئاً لكان تقييده بقوله تعالى: {ذا متربة} تكريراً. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة برفع الكاف وجرّ رقبة وكسر همزة إطعام وفتح العين وبعدها ألف ورفع الميم منوّنة، والباقون فك بنصب الكاف رقبة بالنصب أطعم بفتح الهمزة والعين والميم بغير تنوين، ولا ألف بين العين والميم. فإن قيل: قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} إلى آخره ذكر لا مرّة واحدة. قال الفرّاء والزجاج: والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد لا كقوله تعالى: {فلا صدّق ولا صلى} (القيامة: 31) . أجيب: بأنه إنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} قائماً مقام التكرير فكأنه قال: {فلا اقتحم العقبة} ولا آمن. وقال الزمخشري: هي متكرّرة في المعنى: لأنّ معنى فلا اقتحم العقبة فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. قال أبو حيان: ولا يتيم له هذا إلا على قراءة فك فعلاً ماضياً. وعن مجاهد: أنّ قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} يدل على أن: لا بمعنى لم ولا يلزم التكرير مع لم فإن كرّرت لا كقوله تعالى {فلا صدّق ولا صلى} فهو كقوله تعالى: {لم يسرفوا ولم يقتروا} (الفرقان: 67) تنبيه: ثم كان معطوف على اقتحم وثم للترتيب، والمعنى: كان وقت الاقتحام من الذين آمنوا. وقال الزمخشري: جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به. {وتواصوا} ، أي: وصبروا وأوصى بعضهم بعضاً {بالصبر} ، أي: على الطاعة وعن المعصية والمحن التي يبتلى بها المؤمن. {وتواصوا بالمرحمة} ، أي: بالرحمة على عباده بأن يكونوا متراحمين متعاطفين، أي: بما يؤدّي إلى رحمة الله تعالى. {أولئك} ، أي: الموصوفون بهذه الصفات {أصحاب الميمنة} ، أي: الجانب الذي فيه اليمن والبركة والنجاة من كل هلكة. وقال محمد بن كعب:، أي: الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقال ميمون بن مهران: لأنّ منزلتهم عن اليمين. وقال الزمخشري: الميمنة اليمين أو اليمن. {والذين كفروا} ، أي: ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم {بآياتنا} ، أي: على ما لها من العظمة بالإضافة إلينا، والظهور الذي لا يمكن خفاؤه من القرآن وغيره {هم أصحاب المشأمة} ، أي: الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان قال محمد بن كعب:، أي: الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقال يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر عليه السلام. وقال ميمون: لأنّ منزلتهم عن اليسار. وقال الزمخشري: المشأمة الشمال أو الشؤم. قال القرطبي: ويجمع هذه الأقوال أصحاب الميمنة هم أصحاب الجنة وأصحاب المشأمة هم أصحاب النار. {عليهم} ، أي: خاصة {نار مؤصدة} ، أي: مطبقة وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة بالهمزة، والباقون بغير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 همزة، أي: بواو ساكنة، وهما لغتان. يقال: أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، وقيل: معنى المهموز المطبقة، وغير المهموز المغلقة. وإذا وقف حمزة أبدل على أصله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» حديث موضوع. سورة الشمس مكية وهي خمس عشرة آية وأربع وخمسون كلمةومائتان وسبعة وأربعون حرفاً {بسم الله} الذي له الأسماء الحسنى {الرحمن} الذي يعلم السرّ وأخفى {الرحيم} الذي خص خواصه بالفردوس الأعلى. وقوله تعالى: {والشمس} ، أي: الجامعة بين النفع والضرّ، بالنور والحرّ {وضحاها} قسم وقد تقدّم الكلام على أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وقيل: التقدير ورب الشمس إلى تمام القسم. واختلف في قوله تعالى: {وضحاها} فقال مجاهد والكلبي: ضوءها وقال قتادة: هو النهار كله. وقال مقاتل: هو حرّها، وقال لقوله تعالى في طه: {ولا تضحى} (طه: 119) ، أي: لا يؤذيك الحرّ. وقال البريدي: انبساطها. قال الرازي: إنما أقسم بالشمس لكثرة ما يتعلق بها من المصالح، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر الصبح في المشرق صار ذلك الضوء كالروح الذي تنفخ فيه الحياة فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في القوّة والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحوة، وذلك يشبه استقرار أهل الجنة. {والقمر} ، أي: المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول {إذا تلاها} ، أي: تبعها، وذلك إذا سقطت رؤى الهلال. قال الليث: يقال تلوت فلاناً إذا اتبعته. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. وقال الفرّاء: تلاها، أي: أخذ منها يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال الزجاج: تلاها، أي: حين استوى ودار وكان مثلها في الضياء والنور وذلك في الليالي البيض. {والنهار} ، أي: الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار {إذا جلاها} ، أي: الشمس بارتفاعه لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء وقيل: الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء. {والليل} ، أي: الذي هو ضدّ النهار فهو محل السكون والانقباض {إذا يغشاها} ، أي: يغطيها بظلمته فتغيب وتظلم الآفاق وقيل: الكتابة للأرض، أي: يغشى الدنيا بالظلمة فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور، وجيء يغشاها مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع. تنبيه: إذا في الثلاثة لمجرّد الظرفية والعامل فيها فعل القسم. {والسماء وما} ، أي: ومن {بناها} ، أي: خلقها على هذا السقف المحكم. أقسم تعالى بنفسه وبأعظم مخلوقاته. وقوله تعالى: {والأرض} ، أي: التي هي فراشكم {وما} ، أي: ومن {طحاها} ، أي: بسطها وسطحها على الماء كذلك. وكذا قوله تعالى: {ونفس} ، أي: أي نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره {وما} ، أي: ومن {سوّاها} ، أي: عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها، وما فيها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. فإن قيل: لم نُكرت النفس؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أنه يريد نفساً خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم عليه السلام، كأنه قال تعالى: وواحدة من النفوس. ثانيهما: أنه يريد كل نفسٍ، ونكره للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله تعالى: {علمت نفس} (التكوير: 14) وإنما أوثرت ما على من فيما ذكر لإرادة الوصفية بما ضمنا وإن لم يوصف بلفظها؛ إذ المراد أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثلوا بقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم} (النساء: 3) وقدّروها بأنكحوا الطيب، وهذا تنفرد به ما دون من. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم الله تعالى بأنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمّل المكلف فيها ويشكر عليها، لأنّ الذي يقسم الله تعالى به يحصل به روح في القلب فتكون الدواعي إلى تأمّله أقرب. {فألهمها} ، أي: النفس {فجورها وتقواها} قال ابن عباس رضي الله عنهما: بين لها الخير والشرّ، وعنه: علمها الطاعة والمعصية. وعن أبي صالح: عرّفها ما تأتي وما تتقي. وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها. وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان. قال البغوي: وهذا بين أنّ الله تعالى خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور وعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم؟ قلت: بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، فقال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً وقلت: إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} (الأنبياء: 23) فقال لي سدّدك الله إنما سألتك لأختبر عقلك. إنّ رجلاً من جهينة أو مزينة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضى الله عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به الحجة، فقال: في شيء قد مضى عليهم، قال فقلت: ففيم العمل الآن؟ قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها} » . وعن جابر قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل؟ قال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا وكل ميسر لما خلق له» . واختلف في جواب القسم فأكثر المفسرين على أنه: {قد أفلح} ، أي: ظفر بجميع المرادات، والأصل: لقد وإنما حذفت لطول الكلام. وقيل: إنه ليس بجواب وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، والجواب محذوف تقديره: ليدمدمن الله عليهم، أي: أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود؛ لأنهم قد كذبوا صالحاً أو لتبعثن وقيل: هو على التقديم والتأخير من غير حذف. والمعنى: {قد أفلح من زكاها} ، أي: طهرها من الذنوب ونماها وأصلحها، وصفاها تصفية عظيمة مما يسره الله تعالى له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة {وقد خاب} ، أي: خسر {من دساها} ، أي: أغواها إغواءً عظيماً أو أفسدها وأهلكها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 بخبائث الاعتقادات، ومساوئ الأعمال وقبائح السيئات. {والشمس وضحاها} وفاعل زكاها ودساها ضمير من، وقيل: ضمير الباري سبحانه، أي: قد أفلح من زكاها بالطاعة، {وقد خاب من دساها} ، أي: خسرت نفسٌ دساها الله تعالى بالمعصية. وأنكر الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه، ولكن قال بعض المفسرين: الحق أنه خلاف الظاهر لا كما قاله الزمخشري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خابت نفس أضلها الله تعالى وأغواها، وأصل الزكاة النموّ والزيادة، ومنه زكى الزرع إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي الشاهد؛ لأنه يرفعه بالتعديل. وأصل دساها دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء فأبدل من السين الثانية ياء، والمعنى: أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية، وعن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهمّ» . وفي رواية: «والهرم وعذاب القبر اللهمّ آت نفسي تقواها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها» . {كذبت ثمود} وهم قوم صالح، كذبوا رسولهم صالحاً عليه السلام وأنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم؛ لأنّ كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم {بطغواها} ، أي: أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى، أي: طغيانها. وقيل: إن الباء للاستعانة. قال الزمخشري: مثلها في كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واواً في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزياً وصدياً، يعني: فعلت التكذيب بطغيانها كما تقول: ظلمني بجراءته على الله تعالى. وقيل: كذبت بما أوعدت به من عذاب ذي الطغوى كقوله تعالى: {فأهلكوا بالطاغية} (الحاقة: 5) {إذ} ، أي: تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين {انبعث أشقاها} ، أي: قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحاً عليه السلام انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً فعقر الناقة، وعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « {إذ انبعث أشقاها} انبعث لها رجل عزيز عارم متبع في أهله مثل أبي زمعة» . وقوله: عارم، أي: شديد ممتنع. قال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعة. والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. تنبيه: إذ منصوب بكذبت أو بطغواها. { { {فقال لهم} ، أي: بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى {رسول الله} ، أي: صالح عليه السلام، وعبر بالرسول لأنّ وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا، ولذلك قال تعالى مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى. وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة {ناقة الله} ، أي: الملك الأعظم الذي له الأمر كله، وهي منصوبة على التحذير كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي بإضمار اتقوا أو احذروا ناقة الله. {وسقياها} ، أي: وشربها في يومها، وكان لها يوم ولهم يوم؛ لأنهم لما اقترحوا الناقة فأخرجها لهم من الصخرة جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم فشق عليهم. وإضافة الناقة إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله. {فكذبوه} ، أي: صالحاً عليه السلام بطغيانهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 في وعيدهم بالعذاب {فعقروها} ، أي: عقرها الأشقى بسبب ذلك التكذيب، وأضيف إلى الكل؛ لأنهم رضوا بفعله، وإن كان العاقر جماعة فواضح. وقال قتادة: بلغنا إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. وقال الفرّاء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم ولهذا لم يقل أشقياها. {فدمدم} أي فأطبق {عليهم ربهم} ، أي: الذي أحسن إليهم فغمرهم إحسانه فقطعه عنهم بسبب تكذيبهم فأهلكهم وأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدمت عليه القبر أطبقته عليه {بذنبهم} ، أي: بسبب كفرهم وتكذيبهم وعقرهم الناقة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {دمدم عليهم ربهم بذنبهم} ، أي: بجرمهم. وقال القشيري: وقيل: دمدمت على الميت التراب، أي: سوّيته عليه. فالمعنى على هذا: فجعلهم تحت التراب، {فسوّاها} ، أي: فسوّى عليهم الأرض فجعلهم تحت التراب وعلى الأوّل فسوّى الدمدمة عليهم، أي: عمهم بها فلم يفلت منهم أحداً. وقرأ {ولا يخاف} نافع وابن عامر بالفاء، والباقون بالواو فالفاء تقتضي التعقيب، والواو يجوز أن تكون للحال، وأن تكون للاستئناف الإخباري. وضمير الفاعل في يخاف الأظهر عوده على الله تعالى؛ لأنه أقرب مذكور، وهو قول ابن عباس، ويؤيده قراءة الفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية والهاء في قوله تعالى: {عقباها} ترجع إلى الفعلة، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحقَ. وكل من فعل فعلاً يحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله. وقيل: المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك. وقيل: المعنى أنه تعالى بالغ في الإنذار إليهم مبالغة كمن لا يخاف عاقبة عذابهم. وقيل: يرجع ذلك إلى رسولهم صالح عليه السلام، أي: لا يخاف عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم ونجاه الله وأهلكهم. وقال السدّي: يرجع الضمير إلى أشقاها، أي: انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء. وقرأ الكسائي جميع رؤوس آي هذه السورة بالإمالة محضة، وقرأها أبو عمرو بين بين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وأمال حمزة مثل الكسائي إلا تلاها وضحاها ففتحهما، والباقون بالفتح واتفقوا على فتح فعقروها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدّق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» حديث موضوع. سورة والليل مكية وهي إحدى وعشرون آية وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف {بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} الذي عمّ رزقه العالمين {الرحيم} الذي خص بجنته المؤمنين. وقوله تعالى: {والليل} ، أي: الذي هو آلة الظلام {إذا يغشى} قسم. وقد مرّ الكلام على ذلك، ولم يذكر تعالى مفعولاً للعلم به، فقيل: يغشى بظلمته كل ما بين السماء والأرض، وقيل: يغشى النهار، وقيل: الأرض، وقيل: الخلائق. قال قتادة: أوّل ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً مضيئاً مبصراً. وقوله تعالى: {والنهار} ، أي: الذي هو سبب انكشاف الأمور {إذا تجلى} ، أي: تكشف وظهر قسم آخر. قال الرازي: أقسم بالليل الذي يأوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب، ويغشاهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى؛ لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاء الوقت الذي تتحرّك فيه الناس لمعايشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوامّ من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذّر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة، لكن المصلحة في تعاقبهما كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} (الفرقان: 62) وقال تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} (إبراهيم: 33) .u {وما} بمعنى من أي، ومن {خلق الذكر والأنثى} ، أي: فيكون قد أقسم بنفسه، أو مصدرية، أي: وخلق الله الذكر والأنثى وجاز إضمار اسم الله تعالى لأنه معلوم لانفراده بالخلق؛ إذ لا خالق سواه والذكر والأنثى آدم وحوّاء عليهما السلام، أو كل ذكر وأنثى من سائر الحيوانات. والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله تعالى غير مشكل معلوم بالذكورة أو الأنوثة، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً كان حانثاً، لأنه في الحقيقة ذكر أو أنثى وإن كان مشكلاً عندنا. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته. وقوله تعالى: {إنّ سعيكم} ، أي: عملكم {لشتى} جواب القسم، والمعنى: أنّ أعمالكم لتختلف، فعامل للجنة بالطاعة وعامل للنار بالمعصية، ويجوز أن يكون محذوفاً كما قيل في نظائره المتقدّمة، وشتى: واحده شتيت مثل: مريض ومرضى، وإنما قيل: للمختلف شتى: لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أي: إنّ عملكم المتباعد بعضه من بعض لشتى؛ لأنّ بعضه ضلال وبعضه هدى، أي: فيكم مؤمن وبر وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: لشتى، أي: لمختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار. وقيل: لمختلف الأخلاق فمنكم راحمٌ وقاسٍ وحليمٌ وطائشٌ وجوادٌ وبخيل قال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان بن حرب. وروى أبو مالك الأشعري «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» ، أي: مهلكها. وقوله تعالى: {فأمّا من أعطى} ، أي: وقع منه إعطاء على ما حدّدناه له وأمرناه به {واتقى} ، أي: ووقعت منه التقوى، وهي إيجاد الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا. {وصدّق بالحسنى} تفصيل مبين لتشتيت المساعي. واختلف في الحسنى فقال ابن عباس:، أي: بلا إله إلا الله. وقال مجاهد: بالجنة لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى} (يونس: 26) . وقال زيد بن أسلم: الصلاة والزكاة والصوم. { { {فسنيسره} ، أي: نهيئه بما لنا من العظمة بوعدٍ لا خلف فيه {لليسرى} ، أي: لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل فعلها. وقال زيد بن أسلم: لليسرى، أي: للجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من نفس منفوسة إلا كتب الله تعالى مدخلها، فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ميسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ {فأمّا من أعطى وأتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى} » . {وأمّا من بخل} ، أي: أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه. {واستغنى} ، أي: طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب، أو وجده بما زعمت له نفسه الخائنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 وظنونه الكاذبة فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى. {وكذب} ، أي: أوقع التكذيب لمن يستحق التصديق {بالحسنى} ، أي: فأنكرها وكان عامداً مع المحسوسات كالبهائم. {فسنيسره} ، أي: نهيئه {للعسرى} ، أي: للخلة المؤدية إلى العسرة والشدة كدخول النار. وعن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف، وعنه فسنيسره للعسرى، أي: سأحول بينه وبين الإيمان بالله ورسوله وعنه أيضاً. {وأمّا من بخل} ، أي: بماله واستغنى عن ربه {وكذب بالحسنى} ، أي: بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله سبحانه: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ: 39) وقال مجاهد: {وكذب بالحسنى} ، أي: بالجنة، وعنه بلا إله إلا الله ويجوز في مافي قوله تعالى: {وما يغني عنه ماله} أن تكون نافية، أي: لا يغني عنه ماله شيئاً وأن تكون استفهاماً انكارياً، أي: شيء يغني عنه ماله {إذا تردّى} قال أبو صالح: أي إذا سقط في جهنم. وقيل: هو كناية عن الموت كما قال القائل: { { *نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداآن تطوى فيهما وحنوط* ولما عرفهم سبحانه أنّ سعيهم شتّى وبين للمحسنين من اليسرى وما للمسيئين من العسرى أخبرهم بأنّ عليه بيان الهدى من الضلال بقوله تعالى: {إنّ علينا} ، أي: بما لنا من القدرة والعظمة {للهدى} ، أي: للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا، أو بمقتضى حكمتنا فنبين طريق الهدى من طريق الضلال ليمتثل أمرنا بسلوك الأوّل، ونهينا عن ارتكاب الثاني. وقال الفراء: معناه إن علينا للهدى والإضلال فحذف المعطوف، كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) وهو معنى قول ابن عباس: يريد أرشد أوليائي للعمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي، وهو معنى الإضلال. وقيل: معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله تعالى سبيله كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل} (النحل: 9) {وإنّ لنا للآخرة والأولى} ، أي: لنا ما في الدنيا والآخرة فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق. وعن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة. وهو كقوله تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} (النساء: 134) {فأنذرتكم} ، أي: حذرتكم وخوّفتكم يا أيها المخالفون للطريق الذي بينته {ناراً تلظى} بحذف إحدى التاءين من الأصل، أي: تتلهب وتتوقد وتتوهج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم لظى. وقرأ البزي في الوصل بتشديد التاء وهو عَسِرٌ لالتقاء الساكنين على غير حدّهما، وهو نظير قوله تعالى: {إذ تلقونه} (النور: 15) والباقون بغير تشديد. { { {لا يصلاها} ، أي: لا يقاسى شدّتها على طريق اللزوم والانغماس {إلا الأشقى} ، أي: الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر فإنّ الفاسق وإن دخلها لم يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله تعالى: {الذي كذب} النبيّ صلى الله عليه وسلم {وتولى} ، أي: عن الإيمان، أو كذب الحق وأعرض عن الطاعة أو الأشقى بمعنى الشقي كقوله: لست فيها بأوحد، أي: واحد. والحصر مؤوّل لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) فيكون المراد الصليّ المؤبد. {وسيجنبها} ، أي: النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه {الأتقى} ، أي: الذي اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلاً أن يدخلها ويصلاها، ومفهوم ذلك على التفسير الأوّل أنّ من أتقى الشرك دون المعصية لا يتجنبها ولا يلزم ذلك صليها ولا يخالف الحصر السابق، أو الأتقى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 بمعنى التقى على وزان ما مرّ. {الذي يؤتي ماله} ، أي: يصرفه في وجوه الخير لقوله تعالى: {يتزكى} فإنه بدل من يؤتى أو حال من فاعله فعلى الأوّل: لا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلة لا محل لها. وعلى الثاني: محله نصب. قال البغوي: يعني أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه في قول الجميع. قال ابن الزبير: كان يبتاع الضَعَفَة فيعتقهم، فقال له أبوه: أي بنيّ لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فأنزل الله تعالى {وسيجنبها الأتقى} إلى آخر السورة. وذكر محمد بن إسحاق قال: كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال ابن رباح واسم أمّه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول: وهو في ذلك أحد أحد. قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: مرّ به أبو بكر يوماً وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين، قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: أفعل عندي غلام أسود أجلد منه، وهو على دينك أعطيكه، قال: قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه. وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر وبلال سابعهم، وهم عامر بن هبيرة قوله ابن هبيرة: هكذا في النسخ والذي في حاشية الجمل ابن فهيرة بالفاء والهاء اه شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأعتق أمّ عميس فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله تعالى بصرها وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأةٍ لبني عبد الدار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبداً، فقال أبو بكر: كلا يا أمّ فلان، فقالت: كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرّتان. ومرّ بجارية من بني المرسل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها. وقال سعيد بن المسيب: بلغني أنّ أمية بن خلف قال له أبو بكر في بلال: أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بقسطاس عبدٍ لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ وكان مشركاً، حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى، فأبغضه أبو بكر فلما قال له أمية: أبيعه بغلامك قسطاس اغتنمه أبو بكر وباعه به. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: عذب المشركون بلالاً وبلال يقول أحد أحد، فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أحد يعني الله تعالى ينجيك، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً قال: نعم فاشتراه فأعتقه، فقال: المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده» فأنزل الله تعالى: {وما لأحد عنده} ، أي: أبي بكر {من نعمة تجزى} » ، أي: يد يكافئه عليها. وقوله تعالى: {إلا ابتغاء} استثناء منقطع، أي: لم يفعل ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء {وجه ربه} ، أي: المحسن إليه {الأعلى} وطلب رضاه. ويجوز أن يكون متصلاً عن محذوف مثل {لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} لا لمكافأة نعمة {ولسوف يرضى} ، أي: بما يعطى من الثواب في الجنة. وروي عن عليّ قال: قال رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً» والآية تشمل من فعل مثل فعله فيبعد عن النار ويثاب. وقرأ حمزة والكسائيّ يغشى، تجلى، والأنثى، لشتى، من أعطى، وأتقى، وصدّق بالحسنى واستغنى بالحسنى، تردّى، للهدى، والأولى، تلظى، الأشقى، وتولى، الأتقى، يتزكى، تجزى، الأعلى، يرضى بالإمالة محضة في جميع ذلك، وأمال ورش جميع ذلك بين بين والفتح عنه قليل، وله في من أعطى الفتح وبين اللفظين سواء، وأمال أبو عمرو بين بين إلا من أعطى لأنه ليس برأس آية، والباقون بالفتح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي لليسرى للعسرى بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وأمال حمزة والكسائي يصلاها محضة ولورش الفتح وبين اللفظين وإذا فتح اللام وإذا أمال رققها، وأمّا الأشقى والأتقى فلا يمالان إلا في الوقف دون الوصل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والليل أعطاه الله تعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر» حديث موضوع. سورة الضحى مكية وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وسبعون حرفاً ولما نزلت كبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فسنّ التكبير آخرها وروى الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها وهو الله أكبر أو لا إله إلا الله والله أكبر. {بسم الله} الملك ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بنعمته الخاص والعام {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بإتمام الإنعام. وقوله تعالى: {والضحى} قسم، وقد مرّ الكلام على ذلك وخصه بالقسم لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام وألقى السحرة فيها سجداً، وهو صدر النهار كله بدليل أنه قابله بالليل في قوله تعالى: {والليل} ، أي: الذي به تمام الصلاح {إذا سجى} ، أي: سكن وركد ظلامه يقال ليلة ساجية ساكنة الريح وقيل: معناه سكون الناس والأصوات فيه، وسجى البحر: سكنت أمواجه، وطرف ساج فاتر. وقال قتادة: أقسم بالضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى وبليلة المعراج التي عرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى قدّم هنا الضحى وفي السورة التي قبلها الليل؟ أجيب: بأنّ لكل منهما أثراً عظيماً في صلاح العالم. ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1) وللنهار فضيلة النور فقدّم سبحانه هذا تارة وهذا أخرى، كالركوع والسجود في قوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (الحج: 77) وقوله تعالى: {واسجدي واركعي مع الراكعين} (آل عمران: 43) أو أنه قدّم الليل في سورة أبي بكر لأنّ أبا بكر سبقه كفر، وقدّم الضحى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه نور محض ولم يتقدّمه ذنب، أو أنّ سورة الليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجعل بينهما واسطة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه. { { فإن قيل: ما الحكمة في كونه تعالى ذكر الضحى، وهو ساعة وذكر الليل بجملته؟ أجيب: بأنّ في ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 إشارة إلى أن ساعة من نهار توازن جميع الليل كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم يوازن جميع الأنبياء عليهم السلام، وأيضاً الضحى وقت السرور والليل وقت الوحشة ففيه إشارة إلى أنّ سرور الدنيا أقل من شرورها، وأنّ هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإنّ الضحى ساعة والليل ساعات. ويروى أنّ الله تعالى لما خلق العرش أظلت عمامة سوداء ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت: أن امطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً، وقدّم ذكر الضحى وأخر الليل؛ لأنه يشبه الموت. وقوله تعالى: {ما ودّعك} ، أي: تركك يا أشرف الرسل تركاً تحصل به فرقة كفرقة المودّع، ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع {ربك} ، أي: المحسن إليك جواب القسم {وما قلى} ، أي: وما أبغضك بغضاً ما، وتركت الكاف لأنه رأس آية كقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} (الأحزاب: 35) أي الله. تنبيه: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال أحدها ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب، فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث» فنزلت. ثانيها: ما روى أبو عمرو قال: «أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية» . ثالثها: ما روي «أنّ خولة كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه السلام لا يأتيني قالت خولة: فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة. ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخير فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» . رابعها: ما روي «أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف؟ فقال صلى الله عليه وسلم سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23) فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت {ما ودّعك ربك} » واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه. فقال ابن جرير: اثنا عشر يوماً. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً. وقال مقاتل: أربعون يوماً. قالوا: وقال المشركون: إنّ محمداً ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك؟ فقال جبريل عليه السلام: إني كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} » (مريم: 64) {وللآخرة} التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خاصة عن شوائب الكدر {خير لك} ، أي: لما فيها من الكرامات لك {من الأولى} ، أي: الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص وقيد تعالى بقوله سبحانه: {لك} لأنها ليست خيراً لكل أحد. قال البقاعي: إنّ الناس على أربعة أقسام: منهم من له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم: من له الشرّ فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشرّ في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شرّ في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أهل البيت أختار الله لنا الآخرة على الدنيا» . {ولسوف يعطيك} ، أي: بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة {ربك} ، أي: المحسن إليك بسائر النعم في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلاً {فترضى} ، أي: به فقال صلى الله عليه وسلم «إذاً لا أرضى وواحد من أمّتي في النار» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال: «اللهمّ أمّتي أمّتي وبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً» وعن عوف بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني آت من عند ربي يخبرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً» . وعن شريح قال: سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ يقول: إنكم معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر: 53) وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وفي هذا موعد لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من الفتح والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وأنهبتهم من كنوز الأكاسرة وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين. ولما أعطاه في الآخرة من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. قال ابن عباس: له الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. فإن قيل: ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ أجيب: بأنها لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم ابتداء، ولام الابتداء، لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر فلا بدّ من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك. فإن قيل: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ أجيب: بأن معناه: أنّ العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة على أنه تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحال التي كان عليها. فقال جل ذكره: {ألم يجدك} وهو استفهام تقرير، أي: وجدك {يتيماً} وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وقيل: مات قبل ولادته وماتت أمّه وهو ابن ثمان سنين. {فآوى} ، أي: بأن ضمك إلى عمك أبي طالب فأحسن تربيتك. وعن مجاهد: هو من قول العرب درة يتيمة إذا لم يكن لها نظير، فالمعنى: ألم يجدك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 يتيماً واحداً في شرفك فآواك الله تعالى بأصحاب يحفظونك ويحوطونك. وهذا خلاف الظاهر من الآية، ولهذا قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنه من قولهم: درة يتيمة، وأنّ المعنى: ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك. فإن قيل: كيف أنّ الله تعالى يمنّ بنعمه والمنّ بها لا يليق، ولهذا ذمّ فرعون في قوله لموسى عليه السلام: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء: 18) أجيب: بأنّ ذلك يحسن إذا قصد به تقوية قلبه ووعده بدوام النعمة، فامتنان الله تعالى زيادة نعمة بخلاف امتنان الآدمي. واختلفوا في قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} فأكثر المفسرين على أنه كان ضالاً عما هو عليه الآن من الشريعة فهداه الله تعالى إليها، وقيل: الضلال بمعنى الغفلة كقوله تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} (طه: 52) ، أي: لا يغفل. وقال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف: 3) . وقال الضحاك: المعنى: لم تكن تدري القرآن وشرائع الإسلام فهداك إلى القرآن وشرائع الإسلام. وقال السدي: وجدك ضالاً، أي: في قوم ضلال فهداهم الله تعالى بك، أو فهداك على إرشادهم. وقيل: وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها. وقيل: ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك كقوله تعالى: {أن تضل إحداهما} (البقرة: 282) . وقيل: وجدك طالباً للقبلة فهداك إليها. كقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} (البقرة: 144) الآية، ويكون الضلال بمعنى الطلب لأنّ الضال طالب وقيل: وجدك ضائعاً في قومك فهداك إليهم، ويكون الضلال. بمعنى المحبة كما قال تعالى: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} (يوسف: 95) ، أي: محبتك. قال الشاعر: *هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... والعارضين ولم أكن متحققا* *عجباً لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا* وروى الضحاك عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير فرآه أبو جهل منصرفاً من أغنامه فردّه إلى عبد المطلب. وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة عبد خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة ناقة فجاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل بها عن الطريق فجاء جبريل عليه السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة وردّه إلى القافلة، فمنّ الله تعالى عليه بذلك وقيل: وجدك ضالاً نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك. وقال كعب: إنّ حليمة لما قضت حق الرضاع جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه على عبد المطلب فسمعت عند باب مكة هنيأ لك يا بطحاء مكة اليوم يرد إليك النور والبهاء والجمال قالت: فوضعته لأصلح شأني فسمعت هدّة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً فصحت وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصا، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم فإن شاء أن يرده إليك فعل ثم طاف الشيخ بالصنم وقبل رأسه، وقال: يا رب لم تزل منتك على قريش وهذه السعدية تزعم أنّ ابنها قد ضلّ فردّه إن شئت فانكب على وجهه وتساقطت الأصنام، وقالت إليك عنا أيها الشيخ فهلاكنا على يد محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد، وقال: إنّ لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 على مهل فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع مكة فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً وتضرّع إلى الله تعالى أن يرده، وقال: *يا رب ردّ ولدي محمداً ... اردده ربي واصطنع عندي يدا* فسمعوا منادياً ينادي من السماء معاشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد رباً لا يخذله ولا يضيعه وإنّ محمداً بوادي ثمامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان وبالورق. وفي رواية ما زال عبد المطلب يردّد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك فقال عبد المطلب: ولم؟ فقال: إني أنخت الناقة وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة. قال ابن عباس: ردّه الله تعالى إلى جده بيد عدوّه كما فعل موسى عليه السلام حين حفظه عند فرعون. وقيل: وجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق فهداك إلى ساق العرش. وقال بعض المتكلمين إذا وجدت العرب شجرة منفردة من الأرض لا شجرة معها سموها ضالة فيهدى بها إلى الطريق، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وجدك ضالاً} ، أي: لا أحد على دينك بل أنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إليّ. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره فقوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} ، أي: وجد قومك ضلالاً فهداهم بك، وقيل: غير ذلك. قال الزمخشري: ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنة فإن أراد أنه كان على خلوّهم من العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على كفرهم ودينهم فمعاذ الله والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، وكفى بالنبيّ نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر. {ووجدك عائلاً} ، أي: فقيراً {فأغنى} قال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق واختاره الفراء، وقال: لم يكن غني عن كثرة المال ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه، وذلك حقيقة الغني. قال صلى الله عليه وسلم «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وقال صلى الله عليه وسلم «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» . وقيل: أغناك بمال خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر ولما اختل ذلك أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم. روى الزمخشري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» . وقال الرزاي: العائل ذو العيلة ثم أطلق على الفقير، ويجوز أن يراد ووجدك ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم فأغناك بما جعل لك من ربح التجارة، ثم من كسب الغنائم. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت: يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكاً عظيماً، وآتيت فلاناً كذا قال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك، قلت: بلى يا رب. قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب» . وفي رواية «ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قلت بلى يا رب» . ثم أوصاه باليتامى والمساكين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 والفقراء فقال تعالى: {فأمّا اليتيم} ، أي: هذا النوع {فلا تقهر} قال مجاهد: لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً. وقال الفراء: لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه كما كانت العرب تفعل في أموال اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بإصبعيه: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وهو يشير بإصبعيه» . اليتيم منصوب بتقهر، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل، ألا ترى أنّ اليتيم منصوب بالمجزوم وقد تقدّم على الجازم، ولو تقدّم على لا، لامتنع؛ لأنّ المجزوم لا يتقدّم على جازمه كالمجرور لا يتقدّم على جاره وفي الآية دلالة على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، وقال صلى الله عليه وسلم «من ضمّ يتيماً وكان في نفقته وكفاه مؤنته كان له حجاباً من النار يوم القيامة» . وقال: «من مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة» . وقال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم اليتم؟ أجيب: بوجوه: أحدها: أن يعرف حرارة اليتيم فيرفق باليتيم. ثانيها: يشاركه في الاسم فيكرمه لأجل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه ووسعوا له في المجلس» . ثالثها: ليستند من أوّل عمره على الله تعالى فيشبه إبراهيم عليه السلام في قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي. رابعها: أنّ اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا عيباً لم يجدوا فيه مطعناً. خامسها: جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته ابتداء من الله تعالى لا من تعليم، لأن من له أب فإنه يؤدّبه ويعلمه. سادسها: اليتم والفقر نقص في العادة فكونه صلى الله عليه وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة فيكون معجزة. {وأما السائل} ، أي: الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال {فلا تنهر} ، أي: فلا تزجر، يقال نهره وأنهره إذا زجره وأغلظ عليه القول ولكن ردّه رداً جميلاً قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وقيل: المراد بالسائل هنا الذي يسأل عن الدين. وروى الزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رددت السائل ثلاثاً فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» . وقيل: أما أنه ليس السائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره. {وأما بنعمة ربك} ، أي: المحسن إليك بالنبوّة وغيرها {فحدّث} بها فإن التحدّث بها شكرها، وإنما يجوز لغيره صلى الله عليه وسلم مثل هذا إذا قصد به اللطف وأن يقتدي به غيره وأمن على نفسه الفتنة والستر أفضل ولو لم يكن في الذكر إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفي. والمعنى: إنك كنت يتيماً وضالاً وعائلاً فآواك الله وهداك وأغناك، فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، واقتد بالله فتعطف على اليتيم وآوه فقد ذقت اليتم وهوانه ورأيت كيف فعل الله تعالى بك، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر، وحدث بنعمة الله كلها. ويدخل تحت هدايته الضلال وتعليمه الشرائع، والقرآن مقتد بالله تعالى في أن هداه من الضلالة. وقال مجاهد: تلك النعمة هي القرآن، والتحديث به أن يقرأ ويقرئ غيره. وعنه أيضاً: تلك النعمة هي النبوّة، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك. وقيل: تلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 النعمة هي أن وفقك الله سبحانه وتعالى فراعيت حق اليتيم والسائل فحدّث بها ليقتدي بك غيرك. وعن الحسن بن علي قال: إذا عملت خيراً فحدّث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء وظن أنّ غيره يقتدي به كما علم مما مرّ. وروي «أنّ شخصاً كان جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فرآه رث الثياب فقال له صلى الله عليه وسلم ألك مال؟ قال: نعم. فقال له صلى الله عليه وسلم إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله جميل يحب الجمال» ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده» . فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى أخر حق نفسه عن حق اليتيم والسائل؟ أجيب: بكأنه يقول: أنا أغنى الأغنياء وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم وأختار قوله سبحانه وتعالى: فحدث على قوله تعالى فأخبر ليكون ذلك حديثاً عنه لا ينساه ويعيده مرّة بعد أخرى. وقرأ {والضحى} ، {سجى} ، {قلى} ، {الأولى} ، {فترضى} ، {فآوى} ، {فهدى} ، {فأغنى} ، حمزة والكسائيّ بإمالة محضة لكن حمزة لم يمل سجى، وأمال ورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل، والباقون بالفتح. وروى أبيّ بن كعب «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغ الضحى كبر بين كل سورتين إلى أن يختم القرآن، ويفصل بينهما بسكتة» . وكان المعنى: في ذلك «أنّ الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه السورة فقال صلى الله عليه وسلم الله أكبر» . قال مجاهد: قرأت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأمرني به، وأخبر أنه صلى الله عليه وسلم أمره به. وبعض القرّاء لا يكبر لأنّ ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن. وقال القرطبي: القرآن ثبت نقله بالتواتر سوره وآياته وحروفه بغير زيادة ولا نقصان فالتكبير ليس بقرآن. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل» حديث موضوع. سورة ألم نشرح مكية وهي ثمان آيات وتسع وعشرون كلمة ومائة وثلاثة أحرف. {بسم الله} الظاهر الباطن الملك العلام {الرحمن} الذي عمّ المخلوقين بالإنعام {الرحيم} الذي خص أولياءه بدار السلام. وقوله تعالى: {ألم نشرح} استفهام تقرير، أي: شرحنا بما يليق بعظمتنا {لك} يا أشرف الخلق {صدرك} بالنبوّة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق، أو فسحناه بما أودعنا فيه من الحكم والعلوم وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي كان يكون معه العمى والجهل. وعن الحسن: ملىء حكمة وعلماً. وقيل: إنه إشارة إلى ما روي أنّ جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صباه أو في يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيماناً وعلماً. فإن قيل: لم قال تعالى صدرك ولم يقل قلبك؟ أجيب: بأن محل الوسوسة هو الصدر كما قال تعالى: {يوسوس في صدور الناس} (الناس: 5) { { وأبدلها بدواعي الخير فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب. وقال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، والشيطان يجيء إلى الصدر الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكاً أغار فيه وثبت جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، فإذا طرد العدوّ في الابتداء حصل الأمن وانشرح الصدر. فإن قيل: لم قال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} ولم يقل: ألم نشرح صدرك؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: كأنه تعالى يقول لام بلام فأنت إنما تفعل جميع الطاعة لأجلي، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك. ثانيهما: أنّ فيه تنبيهاً على أنّ منافع الرسالة عائدة إليك لأجلك لا لأجلنا. واختلف في قوله تعالى: {ووضعنا} ، أي: بما لنا من العظمة {عنك وزرك} فقال الحسن ومجاهد: حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية وهو قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2) وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو. وقيل: ذنوب أمتك، وأضافها إليه لاشتغال قلبه بها. {الذي أنقض} ، أي: أثقل {ظهرك} قال أبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوّة والقيام بها حتى لا تثقل عليك وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي حتى يكاد يرمي نفسه من شاهق إلى أن جاءه جبريل عليه السلام، وأزال عنه ما كان يخاف من تغير العقل وقيل: عصمناك من احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوّة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر. {ورفعنا} ، أي: بما لنا من القدرة التامّة {لك ذكرك} روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يقول الله عز وجل: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، ومشارق الأرض ومغاربها. ولو أنّ رجلاً عبد الله تعالى، وصدّق بالجنة والنار، وكل شيء ولم يشهد أنّ محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء، وكان كافراً وقيل: أعلينا ذكرك فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات. وقال الضحاك: لا تقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به. وقال مجاهد: يعني التأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت: *أغرّ عليه للنبوّة خاتم ... من الله مشهور يلوح ويشهد* *وضم الإله اسم النبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد* *وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد* وقيل: رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله. وقيل: عام في كل ما ذكر، وهذا أولى وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة: 62) . وقوله تعالى: {ومن يطيع الله ورسوله فقد فاز} (الأحزاب: 71) . وقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (المائدة: 92) ولما كان المشركون يعيرونه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، ذكره ما أنعم الله به عليه من جلائل النعم، ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدّة فقال تعالى: {فإن مع العسر} ، أي: ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم {يسراً} ، أي: كالشرح والوضع والتوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً. فإن قيل: إنّ مع للصحبة فما معنى اصطحاب العسر واليسر؟ أجيب: بأن الله تعالى أراد أن يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب. وقوله تعالى: {إنّ مع العسر ويسراً} استئناف وعد الله تعالى بأن العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة، كقولك: للصائم فرحة، ثم فرحة، أي: فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب، ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم أيام الخلفاء وقيل: تكرير. فإن قيل: ما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين، وقد روي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم «خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين» أجيب: بأن هذا حمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وأنّ موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول عنه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر في قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15) لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، وكما تكرر المفرد في قولك: زيد زيد. وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف. وإنما كان العسر واحد لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك: إنّ مع زيد مالاً إنّ مع زيد مالاً، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضاً. وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر فقد تناول بعضاً غير البعض الأوّل بغير إشكال، أو بأن لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين فيها واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي: لا يجتمعان في الغلبة كقوله صلى الله عليه وسلم «شهرا عيد لا ينقصان» ، أي: لا يجتمعان في النقصان. فإن قيل: فما معنى التنكير؟ أجيب: بأنه للتفخيم، كأنه قيل: إنّ مع العسر يسراً عظيماً وأي يسر. روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه» . وللطبراني عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر لدخل اليسر حتى يخرجه» . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية» . ولما عدد تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السابقة ووعده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة بقوله تعالى: {فإذا فرغت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرغت من صلاتك المكتوبة {فانصب} ، أي: انصب في الدعاء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الشعبيّ: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وقال الحسن وزيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب في عبادة ربك وصل. وقال ابن حيان عن الكلبيّ: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب {استغفر لذنبك وللمؤمنين} (محمد: 19) . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة. {وإلى ربك} ، أي: المحسن إليك بفضائل النعم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 خصوصاً بما ذكر في هاتين السورتين {فارغب} ، أي: اجعل رغبتك إليه خصوصاً، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه. وقيل: تضرع إليه راغباً في الجنة راهباً من النار عصمنا الله تعالى وأحبابنا منها بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتمّ ففرج عني» حديث موضوع. سورة التين والزيتون مكية وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة مدنية وهي ثمان آيات وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسون حرفاً. {بسم الله} الذي له الملك كله {الرحمن} الذي وسع الخلائق عدله {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وفضله. وقوله تعالى: {والتين والزيتون} قسم وتقدّم نظائر ذلك أقسم بهما لأنهما عجيبتان من بين أصناف الأشجار المثمرة، روي أنه «أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه، وقال لأصحابه: كلوا فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه» لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة» . وسمعته يقول: «هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو تينكم هذا الذي تأكلون وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت. وقال عكرمة: هما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً؛ لأنهما منبتا التين والزيتون. وقيل: التين جبال ما بين حلوان وهمدان، والزيتون جبال الشام لأنها منابتهما، كأنه قيل: ومنابت التين والزيتون. وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيليا. وقال الضحاك: مسجدان بالشام. وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، وحسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة. وقيل: التين مسجد نوح عليه السلام الذي بناه على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس. { { {وطور سينين} ، أي: الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه عز وجل، وسينين وسيناء اسمان للموضع الذي هو فيه فأضيف الجبل إلى المكان الذي هو فيه. وقال مقاتل والكلبيّ: سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط ولم ينصرف سينين كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض، ولو جعل اسماً للمكان أو للمنزل، أو اسم مذكر لانصرف لأنك سميت مذكراً بمذكر وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدّسة، وقد بارك فيها قال الله تعالى: {إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله} (الإسراء: 1) ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه. {وهذا البلد الأمين} ، أي: الآمن، من أمن الرجل أمانة فهو أمين، وهي مكة حرسها الله تعالى؛ لأنها الحرم الذي يأمن الناس فيه في الجاهلية والإسلام، لا ينفر صيده ولا يعضد ورقه، أي: شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله. قال الزمخشريّ: ومعنى القسم بهذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر منها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومولد عيسى عليه السلام ومنشؤه والطور المكان الذي نودي منه موسى عليه السلام، ومكة البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه اه. وقوله تعالى: {لقد خلقنا} ، أي: قدّرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة والقدرة التامّة {الإنسان} جواب القسم والمراد بالإنسان: الجنس الذي جمع فيه الشهوة والعقل، وفيه من الإنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه الشامل لآدم عليه السلام وذريته. وقيل: نزلت في منكري البعث. وقيل: في الوليد بن المغيرة وقيل: كلدة بن أسيد. وقوله تعالى: {في أحسن تقويم} صفة لمحذوف، أي: في تقويم أحسن تقويم. وقال أبو البقاء: في أحسن تقويم في موضع الحال من الإنسان، وأراد بالتقويم القوام لأن التقويم فعل وذاك وصف للخالق لا للمخلوق، ويجوز أن يكون التقدير في أحسن قوام التقويم فحذف المضاف، ويجوز أن تكون في زائدة، أي: قومناه أحسن تقويم اه. وأحسن تقويم أعدله لأنه تعالى خلق كل شيء منكباً على وجهه وخلق الإنسان مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها. قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإنّ الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً وهذه صفات الله تعالى وعبر عنها بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» يعني: على صفاته المتقدّم ذكرها. وفي رواية على صورة الرحمن ومن أين يكون للرحمن صورة شخصية فلم تكن إلا معاني. وروي أنّ عيسى بن يوسف الهاشميّ كان يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني فبات بليلة عظيمة فلما أصبح غدا إلى دار المنصور فأخبره الخبر، فاستحضر الفقهاء واستشارهم، فقال جميع من حضر قد طلقت إلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً، فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم، فقال الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم {والتين والزيتون} إلى قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} يا أمير المؤمنين فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى: الأمر كما قال الرجل فأقبل على زوجتك، فأرسل المنصور إليها أطيعي زوجك فما طلقك. وهذا يدل على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى ولذلك قيل: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات اجتمع فيه. {ثم رددناه} أي: بعض أفراداه بما لنا من القدرة الكاملة {أسفل سافلين} أي: إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، فقوس ظهره بعد اعتداله، وأبيض شعره بعد اسوداده، وكل بصره وسمعه وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوّته ضعف وشهامته خرف. وقيل: ثم رددناه إلى النار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض. فقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي: الطاعات استثناء متصل على الثاني على أنّ المعنى: رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني: أقبح من قبح صورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 وأشوهه خلقة، وهم أهل النار وأسفل من سفل من أهل الدركات. فالاتصال على هذا واضح، وعلى الأوّل منقطع، أي: لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى {فلهم} أي: فتسبب عن ذلك أن كان لهم {أجر غير ممنون} أي: ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم وصبرهم على ابتلاء الله تعالى لهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم وفي الحديث: «إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل» . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إلا الذين قرؤوا القرآن، وقال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. ثم قال تعالى إلزاماً للحجة: {فما يكذبك} أي: أيها الإنسان الكافر {بعد} أي: بعد ما ذكر من خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يستوي ويكمل ويصير في أحسن تقويم، ثم يردّ إلى أرذل العمر الدال على القدرة على البعث، فيقول: إنّ الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني فما سبب تكذيبك أيها الإنسان {بالدين} أي: الجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكون المعنى: فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء أو البعث بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت وقوله تعالى: {أليس الله} أي: الملك الأعظم على ما له من صفات الكمال {بأحكم الحاكمين} أي: بأقضى القاضين. وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وفي الحديث: «من قرأ التين إلى آخرها فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» . وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والتين أعطاه الله تعالى خصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» حديث موضوع. سورة العلق مكية وهي عشرون آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وسبعون حرفاً {بسم الله} الذي له صفة الكمال المستحق للإلهية {الرحمن} الذي عم جوده سائر البرية {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بألطافه السنية. عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: أنّ أوّل سورة نزلت من القرآن. {اقرأ باسم ربك} وأوّل ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله تعالى: {ما لم يعلم} وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة» ولمسلم «الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق» . وفي رواية «حتى فجاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ،. قلت: ما أنا بقارئ،. قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ،. قلت: ما أنا بقارئ،. قال: فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك} حتى بلغ {ما لم يعلم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله تعالى أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني أكون فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجيّ هم؟ فقال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي» زاد البخاري قال: «وفتر الوحي حتى حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل عليه السلام فقال له: يا محمد إنك لرسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا مثل ذلك، فإذا وافى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك» . ففي الحديث دليل صحيح على أن سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن، وفيه ردّ على من قال: إنّ المدثر أول ما نزل من القرآن، وعلى من قال: إنّ الفاتحة أوّل ما نزل ثم سورة القلم. وفي هذا الحديث من مراسيل الصحابة، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. وإنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك فيأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأوائل علامة النبوّة توطئة للوحي. تنبيه: محل {باسم ربك} النصب على الحال، أي: اقرأ مفتتحاً باسم ربك أو مستعيناً به، قل: بسم الله ثم اقرأ. وقال أبو عبيدة: مجازه اقرأ اسم ربك، يعني: أنّ الباء زائدة، والمعنى: اذكر اسمه، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تعالى تأديباً. وقيل: الباء بمعنى على، أي: أقرأ على اسم ربك كما في قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها} (هود: 41) قاله الأخفش. فإن قيل: كيف قدم هذا الفعل على الجاررّ وقدر مؤخراً في بسم الله الرحمن الرحيم، أي: على سبيل الأولوية كما في {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 4) ولأنه تعالى مقدم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فيقدم ذكراً؟ أجيب: بأن هذا في ابتداء القراءة وتعليمها لما مرّ أنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض، وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه. وذكرت أجوبة غير هذا في مقدّمتي على البسلمة والحمدلة وقوله تعالى: {الذي خلق} يجوز أن لا يقدّر له مفعول، ويراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وأن يقدّر له مفعول ويراد خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض. وقوله تعالى: {خلق الإنسان} أي: هذا الجنس الذي من شأنه الإنس بنفسه، وما رأى من أخلاقه وحسنه وما ألفه من أبناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 جنسه تخصيص بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لأنّ التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان كما قال الله تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان} (الرحمن: 1 ـ 2) فقيل: الذي خلق مبهماً، ثم فسره بقوله: {خلق الإنسان} تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته وقوله تعالى: {من علق} جمع علقة وهي الدم الجامد، فإذا جرى فهو المسفوح ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق، ولمشاكلة رؤس الآي أيضاً وقوله تعالى: {اقرأ} تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبيلغ، أو في الصلاة قال البيضاوي: ولعله لما قيل له: {اقرأ باسم ربك} قال ما أنا بقارئ فقيل له اقرأ: {وربك الأكرم} أي: الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي في إطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم حيث قال الأكرم: {الذي علم} أي: بعد الحلم عن معاجلتهم بالعقاب جوداً منه تعالى من غير مانع من خوف عاقبة، ولا رجاء منفعة {بالقلم} أي: الخط بالقلم. {علم الإنسان ما لم يعلم} فدل على كمال كرمه بأنه علَّم عباده مالم يعلموه، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم: *وروا قم رقش كمثل أراقم ... قطف الخطا نيالة أقصى المدى* *سود القوائم ما يجدّ مسيرها ... إلا إذا لعبت بها بيض المدى* وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى، ولولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش فدل على كمال كرمه تعالى. وروى عبد الله بن عمر قال: «قلت: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث قال: نعم فاكتب فإنّ الله تعالى علم بالقلم» . ويروى أنّ سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال: ريح لا يبقى،. فقال: فما قيده؟ قال: الكتابة. وعن عمر قال: خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده، ثم قال تعالى لسائر الحيوان: كن فكان، وهي القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه السلام. وفيمن علم بالقلم ثلاثة أقوال: أحدها: قال كعب: أوّل من كتب بالقلم آدم عليه الصلاة والسلام. ثانيها: قال الضحاك: إدريس عليه السلام. ثالثها: أنه جميع من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله تعالى. وقال القرطبي: الأقلام ثلاثة في الأصل: القلم الأوّل: الذي خلقه الله تعالى بيده وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ، والثاني: قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير والكوائن، والثالث: أقلام الناس يكتبون بها كلامهم ويصلون بها إلى مآربهم. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة» . قال بعض العلماء: وإنما حذرهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعاً إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سبباً للفتنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 لأنها قد تكتب لمن تهوى، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب، والخط إشارة اليد وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، فهي أبلغ من اللسان فأحب صلى الله عليه وسلم أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصيناً لها. وقوله تعالى: {كلا} ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، {إن الإنسان} أي: هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه {ليطغى} أي: من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته. { { {أن رآه} أي: رأى نفسه {استغنى} أي: وجد له الغنى بالمال وقيل: أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل، فقال: يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل: {أن رآه استغنى} بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله تعالى: {أن رآه} كما يقال إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم، فرأى علمية واستغنى مفعول ثان، وأن رأى مفعول له. {إنَّ إلى ربك} أي: المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره {الرجعى} مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه. وقوله تعالى: {أرأيت} في مواضعها الثلاث للتعجب {الذي ينهى} أي: على سبيل التجدد والاستمرار وهو أبو جهل. { { {عبداً} أي: من العبيد وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {إذا صلى} أي: خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقالوا: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب،. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيده، فقيل: له: مالك؟، فقال: إن بيني وبينه خندقاً من النار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وفي رواية «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد الترمذي: «عياناً» . وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة وفائدة التنكير في قوله تعالى: {عبداً} الدلالة على أنه كامل العبودية، كأنه قيل: ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبادة وهذا عين الجهل. وقيل: إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ولا يدخل في ذلك المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة ولا يدخل أيضاً منع السيد عبده والرجل زوجته عن صوم التطوّع وقيام الليل والاعتكاف، لأنّ ذلك مصلحة إلا أن يأذن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 فيه السيد والزوج. {أرأيت إن كان} أي: المنهي وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {على الهدى} وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء، وعن ورش إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق وقوله تعالى: {أو أمر بالتقوى} أي: بالإخلاص والتوحيد للتقسيم. تنبيه: قوله تعالى: {أرأيت} تكرير للأوّل وكذا الذي في قوله: {أرأيت إن كذب} وهو أبو جهل {وتولى} عن الإيمان. {ألم يعلم} أي: يقع له علم يوماً من الأيام {بأن الله} الذي له صفات الكمال {يرى} ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك، أي: أعجب منه يا مخاطب في نهيه عن الصلاة من حيث إنّ المنهي على الهدى آمر بالتقوى وفي وجه التعجب وجوه: أحدها: إنه صلى الله عليه وسلم قال «اللهمّ أعز الإسلام إمّا بأبي جهل وإمّا بعمر بن الخطاب» وهو ينهى عبداً إذا صلى. الثاني: إنه يلقب بأبي الحكم فقيل: أيلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة فيتعجب منه، ومن حيث أن الناهي مكذب متول عن الإيمان. الثالث: إنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته ثم إنه ينهى عن طاعة الله تعالى. وقوله تعالى: {كلا} ردع للناهي {لئن لم ينته} أي: عما هو فيه واللام لام قسم {لنسفعاً بالناصية} أي: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب: *قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع* والنقع الصوت. ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى باللام عن الإضافة، والآية وإن كانت في أبي جهل فهي عظة للناس وتهديد لمن يمنع غيره عن طاعة الله تعالى. وقوله تعالى: {ناصية} بدل من الناصية قال الزمخشري: وجاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت، أي: ب {كاذبة خاطئة} واستقلت بفائدة واعترض عليه بأنّ هذا مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال نكرة من معرفة إلا بشرط وصفها، أو كونها بلفظ الأوّل ومذهب البصريين لا يشترط شيء، والمعنى: لنأخذن بناصية أبي جهل الكاذبة في قولها الخاطئة في فعلها، والخاطئ معاقب مأخوذ والمخطئ غير مأخوذ ووصفت الناصية بالكاذبة الخاطئة كوصف الوجوه في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} (القيامة: 23) وإنما وصفت الناصية بالكاذبة لأنه كان يكذب على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وعلى رسوله في أنه ساحر وليس بنبي ووصفت بأنها خاطئة لأنّ صاحبها تمرّد على الله تعالى كما قال تعالى: {لا يأكله إلا الخاطئون} (الحاقة: 37) فهما في الحقيقة لصاحبها وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء. وروي أنّ أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك فأغلظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتنهرني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً، فوالله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت خيلاً جرداً ورجالاً مرداً فأنزل الله تعالى: {فليدع} أي: دعاء استغاثة {ناديه} أي: أهل ناديه ليعينوه فهو على حذف مضاف، لأنّ النادي هو المجلس الذي ينتدى فيه القوم قال تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} (العنكبوت: 29) أي: يتحدّثون فيه أو على التجوّز لأنه مشتمل على الناس كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 82) ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، والمعنى فليدع عشيرته فلينتصر بهم. {سندع} أي: بوعد لا خلف فيه {الزبانية} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدّة، جمع زبني مأخوذ من الزبن وهو الدفع. وقال الزمخشري: الزبانية في كلام العرب الشُّرط الواحد زبنية. وقال الزجاج: هم الملائكة الغلاظ الشداد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تعالى. وروي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: {لنسفعاً بالناصية} قال: أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك» . قال الله تعالى: {فليدع ناديه سندع الزبانية} فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً، فقيل: له: خشيت منه؟ قال: لا ولكن رأيت عنده فارساً وهدّدني بالزبانية فلا أدري الزبانية، ومال إليّ الفارس فخشيت منه أن يأكلني. قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته» . وقوله تعالى: {كلا} ردع لأبي جهل، أي: ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل {ولا تطعه} أي: فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كقوله تعالى: {ولا تطع المكذبين} وقوله تعالى: {واسجد} يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، وأن يكون سجود التلاوة في هذه السورة، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1) وفي {اقرأ باسم ربك الذي خلق} سجدتين، وهذا نص أن المراد سجود التلاوة، ويدل للأوّل قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله تعالى: {كلا لا تطعه واسجد} أي: ودم على سجودك. قال الزمخشري: يريد الصلاة لأنه لا يرى سجود التلاوة في المفصل والحديث عليه. {واقترب} أي: وتقرّب إلى ربك بطاعته وبالدعاء إليه. قال صلى الله عليه وسلم «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن ـ أي: فحقيق ـ أن يستجاب لكم» . «وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في سجوده من البكاء والتضرّع حتى قالت عائشة رضي الله عنها: قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود؟ وما هذا الجهد الشديد؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً» . وفي رواية: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» . وقرأ ليطغى، واستغنى، إذا صلى، على الهدى، بالتقوى، وتولى حمزة والكسائي جميع ذلك بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل، والباقون بالفتح. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» حديث موضوع. سورة القدر مدنية في قول أكثر المفسرين، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنتا عشر حرفاً. {بسم الله} الملك الأعظم الذي لا يعبد إلا إياه {الرحمن} الذي عمّ بجوده جميع خلقه أقصاه وأدناه {الرحيم} الذي قرّب أهل طاعته وأبعد من عداهم وأشقاه. وقوله تعالى: {إنا أنزلناه} أي: بما لنا من العظمة، أي: القرآن فيه تعظيم له من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره. والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 التنبيه عليه. والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه، وهو قوله تعالى: {في ليلة القدر} . {وما أدراك} أي: أعلمك يا أشرف الخلق {ما ليلة القدر} فإن في ذلك تعظيماً لشأنها. روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة، ولا بين جبريل وبين محمد صلى الله عليه وسلم واسطة، وعن الشعبي: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفاً، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه: خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن. وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم السلام، كقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} (الدخان: 4) وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وهذا يصلح أن يكون جمعاً بين القولين في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} فإنه قيل فيها: إنها ليلة النصف من شعبان وقيل: ليلة القدر وحينئذ لا خلاف، وقيل: سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} (الطلاق: 7) وقيل: سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها من قولهم: لفلان قدر، أي: شرف ومنزلة قاله الأزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لأن للطاعة قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال: أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة، ويعرّفهم إياه، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل قيل: للحسين بن الفضل: أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، قال نعم، قيل له: فما معنى ليلة القدر، قال: سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدّر. واختلفوا هل هي باقية أو لا؟ فقيل: إنها كانت مرّة ثم انقطعت، وقيل: إنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال: قلت لأبي بكر: زعموا أن ليلة القدر قد رفعت، قال: كذب من قال ذلك، قلت: هي في كل شهر رمضان أستقبله، قال: نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب، أم هي في كل عام، فقال: بل هي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم اثنان، واستدل من قال برفعها بقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان: «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم» وهذا غفلة من هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 القائل ففي آخر الحديث «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان، واحتجوا بقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة: 185) . وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} . فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض. وروي عن أبي بن كعب أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان حلف بذلك ثلاث مرات، وعن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال: «هي في كل رمضان» وقيل: هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف، يروى ذلك عن أبي حنيفة. وعن ابن مسعود أنه قال: من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان، أي: إلى أوّله فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين، وإن كان يوم الإثنين فليلة القدر إحدى وعشرين، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين. وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير قولان: أحدهما: أنها في كل شهره. واختلفوا في، أي: ليلة منه فقال ابن رزين: هي الليلة الأولى من رمضان، وقال الحسن البصري: السابعة عشر، وقال أنس: التاسعة عشر، وقال محمد بن إسحاق: الحادية والعشرون، وقال ابن عباس: الثالثة والعشرون، وقال أبيّ بن كعب: السابعة والعشرون. وقيل: التاسعة والعشرون، وقيل: ليلة الثلاثين، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه. والقول الثاني وهو ما عليه الأكثرون أنها مختصة بالعشر الأخير منه، واستدل لذلك بأشياء منها: ما روى عبادة بن الصامت «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر» . ومنها: ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها» . وعنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» . واختلفوا في أنها أي: ليلة من العشر، هل في ليلة من ليالي العشر كله، أو في أوتاره فقط، وهل تلزم ليلة بعينها، أو تنتقل في جميعه أقوال. والذي عليه الأكثر أنها في جميعه، ولكن أرجاها أوتاره وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين يدل للأوّل خبر الصحيحين وللثاني خبر مسلم وأنها تلزم عنده ليلة بعينها. وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة: أنها متنقلة في ليالي العشر جمعاً بين الأحاديث، قال النووي: وهو قويّ. وقال في مجموعه أنه الظاهر المختار وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر، وبعضهم بأشفاعه. وقال ابن عباس وأبيّ: هي ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات، وهي تسعة أحرف، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكن سبعة وعشرين، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 وقال: إنها ثلاثون كلمة وفاقاً، وقوله تعالى: {هي} السابع والعشرون، وهي كناية عن هذه الليلة فبان أنها ليلة السابع والعشرين، وهو استنباط لطيف وليس بدليل كما قيل: وفيها نحو الثلاثين قولاً وبضع وعشرون حديثاً وأفردت بالتصنيف، وفيما ذكرناه كفاية. وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوهاً: أحدها: أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها، أو جميع رمضان على القول به، أو جميع العشر الأخير على القول به، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعاً في إدراكها، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة. ثانيها: أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته، ويقول: تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون. ثالثها: ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها. ثم ذكر الله تعالى فضلها من ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكره بقوله سبحانه: {ليلة القدر} أي: التي خصصناها بإنزالنا فيها {خير من ألف شهر} ليس فيها ليلة القدر فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها ليلة قدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وتمنى ذلك لأمّته، فقال: يا رب، جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة» ، أي: فهي من خصائص هذه الأمة. وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له: عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد، وهي أفضل ليالي السنة، ويدخل في ذلك ليلة الإسراء فهي أفضل منها إن لم تكن ليلة الإسراء ليلة القدر، كما قيل: إن الإسراء كان في رمضان، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع فيكتب فيها جميع خير السنة وشرّها ورزقها وأجلها وبلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة، ولا يشكل ذلك بما قيل: إن الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى، لما ورد أنّ الله تعالى يأمر بنسخ ما يكون في السنة من الآجال والأمراض والأرزاق ونحوها في ليلة النصف من شعبان، فإذا كان ليلة القدر فيسلمها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 إلى أربابها. وقيل: يقدّر في ليلة النصف من شعبان الآجال والأمراض، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. الوجه الثاني: من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره. {تنزل} أي: تنزلاً متدرجاً متواصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء {الملائكة} أي: إلى الأرض. روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى {والروح} أي: جبريل عليه السلام {فيها} أي: في الليلة ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ولواء على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر سيناء، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم، يقول: يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله تعالى» . وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون، وظاهر الآية نزول الجميع وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجاً فوجاً كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجاً بعد فوج، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة، أي: ينزل فوج ويصعد فوج والله أعلم بذلك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى، وقال بعضهم: الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس أعظم من الدنيا، وفي كل رأس ألف وجه، وفي كل وجه ألف فم، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السموات السبع سجداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر. وعن عليّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي ملكاً رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى، ورأسه من السماء السابعة العليا، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحاً لا يسبحه العضو الآخر، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السموات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة، كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة، وهو رأس الملائكة» . وقيل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. {بإذن ربهم} أي: بأمر المحسن إليهم المربي لهم {من كل أمر} أي: قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان، ومن سببية بمعنى الباء. الوجه الثالث: فضائلها ما ذكره تعالى بقوله سبحانه: {سلام} أي: عظيم جدّاً، وهو خبر مقدّم والمبتدأ. {هي} جعلت سلاماً لكثرة السلام فيها من الملائكة لا يمرّون بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه وستمرّون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 على ذلك من غروب الشمس {حتى} أي: إلى {مطلع الفجر} أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. وقرأ الكسائي بكسر اللام على أنه كالمرجع، واسم زمان على غير قياس كالمشرق، والباقون بفتحها. ومن فضائلها أنّ من قامها غفرت له ذنوبه ففي الصحيحين: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» . قال النووي في «شرح مسلم» : ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله تعالى عليها فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. قال الأذرعي وكلام المتولي ينازعه حيث قال: يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه. وهذا أولى نعم حال من أطلق أكمل إذا قام بوظائفها. وعن أبي هريرة مرفوعاً «من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر» ، أي: أخذ حظاً منها. ويسنّ لمن رآها أن يكتمها، ويسنّ أن يكثر الدعاء والتعبد في ليالي رمضان وأن يكون من دعائه: «اللهمّ إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعف عني» . ومن علاماتها أنّ الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، رواه مسلم عن أبيّ بن كعب وعن ابن مسعود: قال: «إنّ الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر فإنها تطلع يومئذ بيضاء ليس لها شعاع» . فإن قيل: لا فائدة في هذه العلامة فإنها قد انقضت. أجيب: بأنه يستحب أن يجتهد في ليلتها ويبقى يعرفها كما مرّ عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» حديث موضوع. سورة لم يكن وتسمى القيامة، وتسمى المنفكين مكية في قول يحيى بن سلام، ومدنية في قول الجمهور، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة وثلاث مائة وتسعون حرفاً. {بسم الله} الذي لا يخرج شيء عن مراده {الرحمن} الذي عمّ بنعمه جميع عباده {الرحيم} الذي خص أولياءه بإسعاده. ولما كان الكفار جنسين أهل كتاب ومشركين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه: {لم يكن الذين كفروا} أي: في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال {من أهل الكتاب} أي: من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا. {والمشركين} أي: بعبادة الأصنام والنار والشمس، ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق، بأن لم يكن لهم كتاب. تنبيه: من للبيان. وقوله تعالى: {منفكين} خبر يكن، أي: منفصلين وزائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا تبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً من فك الكتاب والختم والعظم إذا أزيل ما كان ملتصقاً أو متصلاً به، أو عن الموعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به، فإنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون به، والمشركين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 إحدى الأمم. فإن قيل: لِمَ قال تعالى: {كفروا} بلفظ الماضي، وذكر المشركين باسم الفاعل؟ { { أجيب: بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وذلك يدل على الثبات على الكفر. وقوله تعالى: {حتى} أي: إلى أن {تأتيهم البينة} متعلق بيكن أو بمنفكين، والبينة الآية التي هي البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا طوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب، وهو القرآن. وقوله تعالى: {رسول} أي: عظيم جدّاً بدل من البينة بنفسه، أو بتقدير مضاف، أي: سنة رسول، أو مبتدأ وزاد عظمته بقوله تعالى واصفاً له: {من الله} أي: الذي له الجلال والإكرام وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سراجاً منيراً، ولأنّ اللام في البينة للتعريف، أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهم السلام. وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير وقد جمعها الله تعالى ههنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه: {ذو العرش المجيد فعال لما يريد} (البروج، الآيتان: 15 ـ 16) فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الانجيل أو القرآن، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي: لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي: حتى أتتهم البينة، وتبعه على ذلك الجلال المحلى. وقوله تعالى: {يتلو صحفاً} صفة الرسول، أو خبره والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أمّياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل: المراد جبريل عليه السلام وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي: القرطاس، والمراد فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة {مطهرة} أي: في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وأنها لا يمسها إلا المطهرون. {فيها} أي: تلك الصحف {كتب} أي: أحكام مكتوبة {قيمة} أي: مستقيمة ناطقة بالحق والعدل الذي لا مرية فيه ليس فيه شرك، ولا اعوجاج بنوع من الأنواع. {وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب} أي: عما كانوا عليه، وخص أهل الكتاب بالتفرق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لأنهم يظنون بهم علماً فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إلا من بعد جاءتهم البينة} أي: أتتهم البينة الواضحة، والمعنيّ به محمد صلى الله عليه وسلم أتى بالقرآن موافقاً للذي في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجمعين على نبوته فلما بعث صلى الله عليه وسلم جحدوا نبوّته وتفرّقوا، فمنهم من كفر بغياً وحسداً ومنهم من آمن كقوله تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} (الشورى: 14) . وقال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89) وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق لا تفرّقهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570 فيه. وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة، والباقون بالفتح. ولما كان حال من أضل على علم أشنع زاد في فضيحتهم فقال تعالى: {وما أمروا} أي: هؤلاء في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا الله} أي: يوحدوا الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره، واللام بمعنى أن كقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} (النساء: 26) . وقوله تعالى: {مخلصين له الدين} فيه دليل على وجوب النية في العبادات لأنّ الإخلاص من عمل القلب، وهو أن يراد به وجه الله تعالى لا غيره، ومن ذلك قوله: {إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} (الزمر: 11) . {حنفاء} أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصل الحنف في اللغة: الميل وخصه العرف بالميل إلى الخير، وسموا الميل إلى الشرّ إلحاداً والحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين. وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح، وهو مقام التقى، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأوّل من الورع، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعنى وهو المقام الثاني من الورع، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص. الناظر: أحدهما: إلى الحق، والثاني: إلى الخلق. ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرّد عن العوائق، فقال عز من قائل: {ويقيموا} أي: يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود {الصلاة} لتصير بذلك أهلاً بأن تقوم بنفسها، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى. ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى: {ويؤتوا الزكاة} أي: يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين، أي: ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى: {وممارزقناهم ينفقون} (البقرة: 3) . {وذلك} أي: والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور {دين القيمة} أي: الملة المستقيمة، وأضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث القيمة ردّاً بها إلى الملة. وقيل: الهاء للمبالغة فيه. وقيل: القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها، أي: وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به، كما قال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة: 213) . وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: {وذلك دين القيمة} فقال: القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد. قال البغوي: ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد. ثم ذكر تعالى ما للفريقين فقال سبحانه: {إنّ الذين كفروا} أي: وقع منهم الستر لمرأى عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك، وإن لم يكونوا عريقين فيه {من أهل الكتاب} أي: اليهود والنصارى {والمشركين} أي: العريقين في الشرك {في نارجهنم} أي: النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة {خالدين فيها} أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم لموجباتها. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع، بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته {أولئك} أي: هؤلاء البعداء البغضاء {هم} أي: خاصة بما لضمائرهم من الخبث {شر البرية} أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 571 الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم، وهذا يحتمل أن يكون على التعميم، وأن يكون بالنسبة لعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة: 47) أي: عالمي زمانهم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل من هو شرّ منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. ولما ذكر تعالى الأعداء وبدأ بهم لأنّ ذلك أردع لهم أتبعه الأولياء فقال تعالى مؤكداً ما للكفار من الإنكار: {إنّ الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: هذا النوع {أولئك} أي: هؤلاء العالو الدرجات {هم} أي: خاصة {خير البرية} أي: على التعميم، أو برية عصرهم يأتي فيه ما مرّ. وقرأ نافع وابن ذكوان بالهمز في الحرفين لأنه من قولهم برأ الله الخلق، والباقون بالياء المشدّدة بعد الراء كالذرية ترك همزه في الاستعمال. ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى: { { {جزاؤهم} أي: على طاعاتهم وعظمه بقوله تعالى: {عند ربهم} أي: المربي لهم والمحسن إليهم {جنات عدن} أي: إقامة لا يحولون عنها {تجري} أي: جرياً دائماً لا انقطاع له {من تحتها} أي: تحت أشجارها وغرفها {الأنهار خالدين فيها} أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم في موجباتها وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى: {أبداً رضي الله} أي: بما له من نعوت الجلال والجمال {عنهم} أي: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق {ورضوا عنه} لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء، ولا يقدره أحد حق قدره فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى: {لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر: 45) . وقال ابن عباس: ورضوا عنه بثواب الله عز وجل. {ذلك} أي: الأمر العالي الذي جوزوا به {لمن خشي ربه} أي: خاف المحسن إليه خوفاً يليق به فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير وهي للعارفين، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها: الخوف، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته، فإن اشتدّ سمي: وجلاً لجولانه في نفسه، فإن اشتدّ سمي: رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى. ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ووراء هذا الخشية {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) فمن خاف ربه هذا الخوف أنفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب. روى أنس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} قال أبيّ: وسماني لك؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نعم فبكى أبيّ» . قال البقاعي: سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، أي: خوفاً ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 572 وأنّ اليهود اختلفوا في السبت. وسورة لم يكن على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها وزيادة، وفيها التحذير من الشك بعد البيان، وتقبيح حال من فعل ذلك وأنّ حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد فيكون شر البرية فقرأها صلى الله عليه وسلم تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوّراً، فيكون أرسخ في النفس، وأثبت في القلب، وأعشق للطبع، فاختصه الله بالتثبيت، وأراد له الثبات فكان من المريدين المرادين لما وصل إلى قلبه بركة ضربة النبيّ صلى الله عليه وسلم لصدره، وصار كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بإذن قلبه إلى روح النبوّة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة، ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم «اقرؤكم أُبيّ» . قال القرطبي: وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. وقال بعضهم: إنما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبيّ ليعلم الناس التواضع، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على دونه في المنزلة. وقيل: إنّ أبياً كان أسرع أخذاً لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه ويعلم غيره وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ؛ إذ أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلاً» . حديث موضوع. سورة الزلزلة مدنية في قول ابن عباس وقتادة ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة ومائة وتسع وأربعون حرفاً. {بسم الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {الرحمن} الذي عمّ الخلق بنعمته الظاهرة قسماً {الرحيم} الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة عيناً واسماً. ولما قال تعالى: للمؤمنين {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} كأنَّ المكلف قال: متى يكون ذلك فقيل: له: {إذا زلزلت الأرض} أي: تحرّكت واضطربت لقيام الساعة، فالعاملون كلهم يكونون في الخوف وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك وتكون آمناً لقوله تعالى: {وهم من فزع يومئذ آمنون} (النمل: 89) . {زلزالها} أي: تحريكها الشديد المناسب لعظم جرم الأرض وعظمة ذلك كما تقول: أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال تعالى: { { {وأخرجت الأرض} أي: كلها، ولم يضمر تحقيقاً للعموم {أثقالها} أي: مما هو مدفون فيها من الكنوز والأموات. قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد: أثقالها أمواتها تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجنّ والإنس: الثقلان. وقيل: أثقالها كنوزها، ومنه الحديث: «تنفى الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 573 في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً» فيعطيها الله تعالى قوّة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوّة أن تخرج النبات الصغير اللطيف الطريّ الذي هو أنعم من الحرير، فتشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاويل شق النواة مع ما لها من الصلابة التي استعصت بها على الحديد، فتنفلق نصفين وينبت منها سائر ما يريده سبحانه وتعالى فالذي قدر على ذلك قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض، وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن، ويشق جميع منافذه من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل هناك بيكار ولا منشار، ثم يخرج من البطن. هكذا إخراج الموتى من غير فرق كل ذلك عليه هين سبحانه. ما أعظم شأنه وأعز سلطانه. {وقال الإنسان} أي: هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما أكده عنده من أمر البعث لما له من الإنس بنفسه، والنظر في عطفه على سبيل التعجب أو الدهش والحيرة أو الكافر كما يقول: {من بعثنا من مرقدنا} (يس: 52) فيقول له المؤمن: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} (يس: 52) . {ما لها} أي: أيّ شيء ثبت للأرض في هذه الزلزلة الشديدة التي لم يعهد مثلها ولفظت ما في بطنها. {يومئذ} أي: إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه وقوله تعالى: {تحدّث أخبارها} جواب إذا وهو الناصب لها عند الجمهور، ومعنى تحدّث، أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ يومئذ، ثم قيل: هو من قول الله تعالى، وقيل: من قول الإنسان، أي: يقول الإنسان ما لها تحدّث أخبارها متعجباً. روى الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يومئذ تحدّث أخبارها} قال: «أتدرون ما أخبارها قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا وكذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها» . في تحديثها بأخبارها ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك. ثانيها: أنّ الله تعالى يحدث فيها الكلام. ثالثها: أن يكون فيها بيان يقوم مقام الكلام. قيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره يومئذ تحدث أخبارها فيقول الإنسان مالها أي: تخبر الأرض بما عمل عليها. {بأن ربك} متعلق بتحدِّث، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها والباء سببية، أي: تحدّث بسبب أن ربك المحسن إليك بأنواع النعم {أوحى لها} أي: أذن لها أن تتكلم بذلك المذكور بالقال أو بالحال على ما مرّ. قال البقاعي: وعدل عن قوله إليها إلى قول الله تعالى: {لها} إيذاناً بالإسراع في الإيحاء. وقال البغوي: أوحى إليها واحد. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة،. وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {يومئذ} بدل من يومئذ قبله منصوب بقوله تعالى: {يصدر} أو بأذكر مقدّراً، أي: واذكر يوم إذ كان ما تقدّم وهو حين يقوم الناس من القبور يصدر {الناس} أي: يرجعون من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد الخالصة {أشتاتاً} أي: متفرّقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص. وعن ابن عباس: متفرّقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة، أو متفرّقين فأخذ ذات اليمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 574 على الجنة، وأخذ ذات الشمال إلى النار {ليروا} أي: يرى الله تعالى المحسن منهم والمسيء بواسطة من شاء من جنوده، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم {أعمالهم} فيعلموا جزاءها، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله تعالى مفصلاً الجملة التي قبله: {فمن يعمل} من محسن أو مسيء، مسلم أو كافر {مثقال ذرّة خيراً} أي: من جهة الخير {يره} أي: يرى ثوابه حاضراً لا يغيب عنه شيء منه، لأنّ المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة. {ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره} فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، أو على أنه جوزي في الدنيا فهو صورة بلا معنى ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس: من يعمل من الكفار خيراً يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة وفي بعض الأحاديث: إنّ الذرّة لا زنة لها، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيراً ولا كبيراً، وهو كقوله تعالى: {إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة} (النساء: 40) . وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذرأن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ، من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شررّ ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة» . وقال أبو إدريس: إنّ مصداقه من كتاب الله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى: 30) . وقال مقاتل: نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» وتحذرهم من اليسير من الذنب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «إياك ومحقرات الذنوب فإنّ لها من الله تعالى طالباً» وقال ابن مسعود: هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية. وقال كعب الأحبار: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره} . وكان صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الجامعة الفاذة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 575 حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة» : {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره} . وروى مالك في الموطأ أنّ مسكيناً استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويتعجب فقالت: أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة. قال الربيع بن خيثم مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال: حسبي قد انتهت الموعظة. تنبيه: قوله تعالى: {يره} جواب الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكون هاء يره وصلاً في الحرفين، والباقون بضمها وصلاً وساكنة وقفاً كسائر هاء الكناية. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ إذا زلزلت أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كله» ، رواه الثعلبي بسند ضعيف لكن يشهد له ما رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن» . سورة والعاديات مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ابن مالك، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفاً. {بسم الله} الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل {الرحمن} الذي نعمته أتم نعمة وأشمل {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل. وقوله سبحانه وتعالى: {والعاديات ضبحاً} قسم أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح، قال عنترة: *والخيل تكدح حين تض ... بح في حياض الموت ضبحا* وانتصاب ضبحاً على يضبحن أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات ضبحاً لأنّ الضبح يكون مع العدو، أو على الحال، أي: ضابحات، والعاديات جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو وهو المشي بسرعة. { { وعن ابن عباس: كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليّ رضي الله عنه، وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان؛ فرس للزبير وفرس للمقداد العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. قال الزمخشري: فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر وما أشبه ذلك. قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوان يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، ونقل غيره أنّ الضبح يكون في الإبل والأسود من الحيات والبوم والضرو والأرنب والثعلب والفرس. ثم اتبع عدوها ما ينشأ عنه فقال تعالى عاطفاً بأداة التعقيب: {فالموريات قدحاً} قال عكرمة والضحاك: هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة لا سيما عند سلوك الأوعار، وقدحاً منصوب لما انتصب به ضبحاً. قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 576 الزمخشري: ففيه الثلاثة أوجه المتقدّمة. وعن ابن عباس: أورت بحوافرها غباراً، وهذا إنما يناسب من فسر العاديات بالإبل. وقال ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى فتخرج منه النار أصل القدح: الاستخراج، ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد. وعن قتادة وابن عباس أيضاً: أنّ الموريات قدحاً الرجال في الحرب، والعرب تقول: إذا أرادوا أنّ الرجل يمكر بصاحبه والله لأمكرنّ بك ثم لأورين لك، وعن ابن عباس أيضاً: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل لحاجتهم وطعامهم، وعنه أيضاً: إنها نيران المجاهدين إذا كثرت إرهاباً ليظنهم العدوّ كثيراً قال القرطبي: وهذه الأقوال مجاز كقولهم: فلان يوري زناد الضلالة والأوّل الحقيقة وأنّ الخيل من شدّة عدوها تقدح النار بحوافرها. وقال مقاتل: تسمى تلك النار نار أبي حباب، وأبو حباب كان شيخاً من مضر في الجاهلية من أبخل الناس، وكان لا يوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون فيوقد نويرة تقد مرّة وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحداً أطفأها كراهة أن ينتفع بها أحد، فشبهت العرب هذه النار بناره لأنه لا ينتفع بها. ولما ذكر العدو وما يتأثر عنده ذكر نتيجته وغايته بقوله: {فالمغيرات} أي: بإغارة أهلها وقوله تعالى: {صبحاً} ظرف، أي: التي تغير وقت الصبح يقال أغار بغير إغارة إذا باغت عدوّه لنهب أو قتل أو أسر، قال الشاعر: *فليت لي بهم قوماً إذا اركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركبانا* وغار لغية. {فأثرن} أي: فهيجن {به} أي: بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدّة العدو {نقعاً} أي: غبار الشدّة حركتهنّ والنقع الغبار. تنبيه: عطف الفعل وهو فأثرن على الاسم لأنه في تأويل الفعل لوقوعه صلة لأل. وقال الزمخشري: معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن. {فوسطن به} أي: بذلك النقع أو العدو أو الوقت {جمعاً} من العدوّ، أي: صرن وسط العدو وهو الكتيبة، يقال: وسطت القوم بالتخفيف ووسطتهم بالتشديد، وتوسطتهم بمعنى واحد. وقال القرطبي: يعني جمع منى وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أنّ الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة وتعريضه بإبل الحج للترغيب فيه، وفيه تعريض على من لم يحج بعد القدرة عليه كما في قوله تعالى: {ومن كفر} أي: من لم يحج {فإنّ الله غنيّ عن العالمين} (آل عمران: 97) وجواب القسم قوله تعالى: {إنّ الإنسان} أي: هذاالنوع بما له من الإنس بنفسه والنسيان لما ينفعه {لربه} المحسن إليه بإبداعه ثم بإبقائه وتدبيره وتربيته {لكنود} قال ابن عباس: لكفور جحود لنعم الله تعالى. وقال الكلبي: هو بلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كندة وحضرموت العاصي. وقال الحسن: هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم وقال أبو عبيدة: هو قليل الخير والأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً، وفي الحديث عن أبي امامة هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده. وقال الفضيل بن عياض: الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة. {وإنه} أي: الإنسان {على ذلك} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 577 أي: الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه {لشهيد} أي: يشهد على نفسه ولا يقدّر أن يجحده لظهور أثره عليه، أو أن الله تعالى على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد. {وإنه} أي: الإنسان من حيث هو {لحب} أي: لأجل حب {الخير} أي: المال الذي لا يعدّ غيره لجهله خيراً {لشديد} أي: بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأنّ منفعته في الدنيا، وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأنّ أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه تعالى، ومع ذلك فهو لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة ربه وشكر نعمته ضعيف متقاعس. ثم سبب عن ذلك قوله تعالى: {أفلا يعلم} أي: هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه {إذا بعثر} أي: انتثر بغاية السهولة وأخرج {ما في القبور} أي: من الموتى. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه. قال محمد بن كعب: ذلك حين يبعثون. فإن قيل: لِمَ قال: {ما في القبور} ولم يقل من، ثم قال بعد ذلك: {إن ربهم بهم} أجيب: عن الأوّل بأنّ ما في الأرض غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأوّل ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء. {وحُصِّل} أي: أخرج وجمع بغاية السهولة {ما في الصدور} من خير وشر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال وهذا يدل على أن النيات يحاسب عليها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها. وتخصيص الصدر بذلك لأنه محله القلب. {إن ربهم} أي: المحسن إليهم بخلقهم وخلقهم وتربيتهم {بهم يومئذ} أي: إذا كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة {لخبير} أي: لمحيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم فكيف بظواهرها ومعنى علمه بهم يوم القيامة مجازاته لهم، وإلا فهو خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره فكيف ينبغي للعاقل أن يعلق آماله بالمال فضلاً عن أن يؤثره على الباقي. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر حسنات من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً» حديث موضوع. سورة القارعة مكية وهي إحدى عشرة آية وست وثلاثون كلمة ومائة واثنان وخمسون حرفاً {بسم الله} الملك الأعلى {الرحمن} الذي عمت نعمه إيجاده جميع الورى {الرحيم} الذي يخص أولياءه بالتوفيق لما يحب ويرضى. ولما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته بقوله تعالى: {القارعة} أي: الصيحة، أو القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار، والأشياء الثابتة بالانتشار. وقوله تعالى: {ما القارعة} تهويل لشأنها وهما مبتدأ وخبر، خبر القارعة، وأكد تعظيمها إعلاماً بأنه مهما خطر في بالك من عظمها فهي أعظم منه، فقال تعالى: {وما أدراك} أي: أعلمك {ما القارعة} أي: إنك لا تعرفها لأنك لم تعهد مثلها، وما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره، وما الثانية وخبرها في محل المفعول الثاني لأدري. { { واختلف في ناصب {يوم} على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 578 وجهين أحدهما أنه بمضمر دلّ عليه القارعة، أي: تقرعهم يوم. وقيل تقديره: تأتي القارعة يوم {يكون الناس} والثاني أنه أذكر مقدّراً فهو مفعول به لا ظرف. وقوله تعالى: {كالفراش المبثوث} يجوز أن يكون خبراً للناقصة وأن يكون حالاً من فاعل التامة، أي: يؤخذون ويحشرون شبه الفراش شبههم في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار، والفراش طائر معروف. قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة. وقال الفراء: هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما، وبه يضرب المثل في الطيش والهرج يقال: أطيش من فراشة. وأنشدوا: *فراشة الحلم فرعون العذاب وأن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب* وفي أمثالهم: أضعف من فراشة، وأذل وأجهل. وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره. وروى مسلم عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهنّ عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي» . وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى منها الطيش الذي يلحقهم وانتشارهم في الأرض، وركوب بعضهم بعضاً، والكثرة والضعف، والذلة والمجيء من غير ذهاب، والقصد إلى الداعي من كل جهة، والتطاير إلى النار. قال جرير: *إنّ الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى* والمبثوث المتفرق، وقال تعالى في موضع آخر: {كأنهم جراد منتشر} (القمر: 7) فإن قيل: كيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث؟ أجيب: بأنّ التشبيه بالفراش في ذهاب كل واحد إلى غير جهة الآخر، وأمّا التشبيه بالجراد فبالكثرة والتتابع. {وتكون الجبال} على ما هي عليه من الشدّة والصلابة وأنها صخوراً راسخة {كالعهن} أي: الصوف المصبوغ ألواناً لأنها ملوّنه قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر} (فاطر: 27) أي: وغير ذلك {المنفوش} أي: المندوف المفرّق الأجزاء فتراها لذلك متطايرة في الجوّ كالهباء المنثور، كما قال تعالى في موضع آخر: {هباءً منبثاً} (الواقعة: 6) حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمّتا. ثم سبب عن ذلك تعالى مفصلاً لهم: {فأمّا من ثقلت موازينه} أي: برجحان الحسنات، وفي الموازين قولان: أحدهما: أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، وهذا قول الفراء. والثاني: قال ابن عباس: إنه جمع ميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال، فتوزن فيه الصحف المكتوبة فيها الحسنات والسيئات أو الأعمال أنفسها، فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فإذا رجحت فالجنة له، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف ميزانه فيدخل النار. وقيل: إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار فيقتص منه على قدرها، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، أو يعفو الله عنه فيدخل الجنة بفضله ورحمته. وأمّا الكافر فقد قال الله تعالى في حقه: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} (الكهف: 105) ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 579 عليه السلام يزن به أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: موازين لكل حادثة ميزان، وقيل: الموازين الحجج والدلائل قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر: *قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة ... عندي لكل مخاصم ميزانه* {فهو} أي: بسبب رجحان حسناته {في عيشة} أي: حياة يتقلب فيها. قال البقاعي: ولعله ألحقها بالهاء الدالة على الوحدة، والمراد العيش ليفهم أنها على حالة واحدة في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا {راضية} أي: ذات رضا أو مرضية لأنّ أمّه جنة عالية. {وأمّا من خفت} أي: طاشت {موازينه} أي: غلبت سيئاته، أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا. {فأمّه} أي: التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض أم لأنها تقصد لذلك، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأمّ وكذا المسكن {هاوية} أي: نار نازلة سافلة جدّاً، فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً فهو في عيشة ساخطة فالآية من الاحتباك ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً وذكر الأمّ ثانياً، دليلاً على حذفها أوّلاً، والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة لا يدرك قعرها. وقال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال: هوت أمّه. وقيل: أراد أمّ رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. وروي عن أبي بكر أنه قال: وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباع الحق وثقله في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وخفته في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا السيئات أن يخف. {وما أدراك} أي: وأيّ شيء أعلمك وإن اشتدّ تكلفك {ماهيه} أي: الهاوية، والأصل ما هي فدخلت الهاء للسكت وقرأ حمزة في الوصل بغيرها بعد الياء التحتية ووقف بها، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً. فإن قيل: قال هنا: {وما أدراك ماهيه} وقال أوّل السورة: {وما أدراك ما القارعة} ولم يقل ما أدراك ما الهاوية؟. أجيب: بأنّ كونها قارعة أمر محسوس وكونها هاوية ليس كذلك فظهر الفرق. وقوله تعالى: {نار حامية} خبر مبتدأ مضمر، أي: هي، أي: الهاوية نار شديدة الحرارة. روى مسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءً من حرّ جهنم، قالوا: وإنها لكافية يا رسول الله؟ قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءً كلها مثل حرّها» وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة» حديث موضوع. سورة التكاثر مكية وهي ثمان آيات وثمانية وعشرون كلمة ومائة وعشرون حرفاً {بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام {الرحيم} الذي خص أولياءه بتمام الإنعام. ولما ختم القارعة بالشقي افتتح هذه بفعل الشقاوة ومبتدأ الحشر لينزجر السامع. فقال تعالى: {ألهاكم التكاثر} أي: شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 580 المال والعدد عن طاعة ربكم، وما ينجيكم من سخطه. {حتى زرتم المقابر} أي: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا، والاستباق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم، والعمل لآخرتكم، وزيارة القبر عبارة عن الموت. قال الأخطل: *لن يخلص العام خليل عشراً ... ذاق الضماد أو يزور القبرا* تنبيه: حتى غاية لقوله تعالى: {ألهاكم} وهو عطف عليه، والمعنى: حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زواراً ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار، يقال لمن مات: قد زار قبره. فإن قيل: شأن الزائر أن ينصرف قريباً والأموات ملازمون للقبور فكيف يقال: إنه زار القبر، وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل. أجيب: عن الأول: بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها، فإن كل آت قريب، وعن الثاني: لتحققه عبر عنه بالماضي كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 10) { { وقال أبو مسلم: إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً فكثرهم بنو عبد مناف، وقالت بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات، لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ثم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة. وقال قتادة: في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان عند تفاخرهم، والمعنى: ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر، والمقابر: جمع مقبرة بفتح الباء وضمها، ويسمى سعيد المقبري لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، واعترضه ابن عادل: بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى: {ثم أماته فأقبره} (عبس: 21) وهذا ممنوع فإنه قال المقابر، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال صلى الله عليه وسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» . وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوّارات القبور» . فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب الجلوس عليها. ويسلم إذا دخل المقابر فيقول: «السلام عليكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 581 دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» . وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً، وأتاه من قبل وجهه لأنه في زيارته كمخاطبه حياً، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم، وافترقت في التراب أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم، وأنّ حاله كحالهم وماله كمالهم. وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت» . وعن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان، ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» . وقرأ ألهاكم حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {كلا} ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بذنبه. وقوله تعالى: {سوف تعلمون} إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم وقوله تعالى: {ثم كلا سوف تعلمون} تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ كما يقال للمنصوع أقول لك لا تفعل، والمعنى سوف تعلمون والخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى، وإن هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. وعن عليّ كرم الله وجهه ورضي الله عنه {كلا سوف تعلمون} في الدنيا. {ثم كلا سوف تعلمون} في الآخرة فعلى هذا يكون غير مكرّر لحصول التغاير بينهما لأجل تغاير المتعلقين وثم على بابها من المهلة. وعن ابن عباس {كلا سوف تعلمون} ما ينزل بكم من العذاب في القبور {ثم كلا سوف تعلمون} في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالتكرار للحالتين. وروى زر بن حبيش عن علي كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة فأشار على أنّ قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون} في القبور. وقيل: {كلا سوف تعلمون} إذا نزل بكم الموت وجاءتكم رسل ربكم بنزع أرواحكم {ثم كلا سوف تعلمون} في القيامة أنكم معذبون، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة، من بعث وحشر وعرض وسؤال إلى غير ذلك من أهوال القيامة، وقال الضحاك: {كلا سوف تعلمون} يعني الكفار {ثم كلا سوف تعلمون} أيها المؤمنون فالأوّل وعيد والثاني وعد. ولما كان هذا أمراً صادقاً أشار تعالى إلى أنه يكفي هذه الأمّة المرحومة التأكيد بمرّة واحدة، فقال سبحانه مردّداً الأمر بين تأكيد الردع تالياً بالأداة الصالحة له، ولأن يكون بمعنى حقاً كما يقوله أئمة القراءة. {كلا} أي: ليشتدّ ارتداعكم عن التكاثر، فإنه أساس كل بلاء فإنكم {لو تعلمون} أي: أيها الكافرون {علم اليقين} أي: لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرّة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون فحذف الجواب أخوف ليذهب الوهم معه كل مذهب ولا يجوز أن يكون. {لترون الجحيم} جوابها الآن هذا مثبت، وجواب لو يكون منفياً ولأنه تعالى عطف عليه، ثم لتسألن وهو مستقبل لا بد من وقوعه وحذف جواب لو كثير. قال الأخفش: التقدير لو تعلمون علم اليقين لالهاكم بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد، وأوضح به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 582 ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً. وقوله تعالى: {ثم لترونها} تكرير للتأكيد، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها والمراد بالأولى المعرفة والثانية الإبصار. {عين اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. قال الرازي: واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة وأوّل خطرة الخاصة. قال صلى الله عليه وسلم «خير ما ألقي في القلب اليقين» وعلمه قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق. وقال قتادة: اليقين هنا الموت، وعنه أيضاً. البعث، أي: لو تعلمون علم الموت، أو البعث فعبر عنه الموت باليقين، والعلم من أشدّ البواعث على العمل. وقيل: لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت.. {لترونّ الجحيم} بعيون قلوبكم، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ لترونَ ابن عامر والكسائي بضم التاء، والباقون بالفتح. {ثم لتسئلنّ} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو لالتقاء الساكنين {يومئذ} أي: يوم رؤيتها {عن النعيم} وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} (الأعراف: 32) وقوله تعالى: {كلوا من الطيبات} (المؤمنون: 51) وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه، فقال صلى الله عليه وسلم «إنما ذلك للكفار ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وهل نجازي إلا الكفور} (سبأ: 17) » لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى، والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم. وقيل: السؤال عام في حق المؤمن والكافر لقوله صلى الله عليه وسلم «أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له: ألم نصحح جسمك، ألم نروك من الماء البارد؟» . وقيل: الزائد على ما لا بدّ منه، وقيل: غير ذلك. قال الرازي: والأولى على جميع النعم لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق وليس صرف اللفظ على البعض أولى من صرفه إلى الباقي، فيسأل عنها هل شكرها أم كفرها. وإذا قيل: إنّ هذا السؤال للكافر، فقيل: هو في موقف الحساب، وقيل: بعد دخول النار يقال لهم: إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» حديث موضوع إلا آخره، فرواه الحاكم بلفظ «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال: أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» . سورة العصر مكية وروي عن ابن عباس وعبادة أنها مدنية، وهي ثلاث آيات وأربع عشرة كلمة وثمانية وستون حرفاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 583 {بسم الله} الذي كل شيء هالك إلا وجهه {الرحمن} الذي عمّ الوجود بإنعامه فليس شيء شبهه {الرحيم} الذي أعز أولياءه فكانوا للدّهر غرّة ولأهله جبهه. وقوله تعالى: {والعصر} قسم، واختلف في المراد به. فقال ابن عباس: والدهر أقسم به لأنّ فيه عبرة للناظر بتصرّف الأحوال وتبدلها وما فيها من الدلالة على الصانع، وقيل: معناه ورب العصر ومرّ الكلام في أمثاله وقال ابن كيسان أراد بالعصر الليل والنهار، يقال لهما العصران وقال الحسن: بعد زوال الشمس إلى غروبها وقال قتادة: آخر ساعة من ساعات النهار وقال مقاتل: أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى، وهذا أشبه قال صلى الله عليه وسلم «من فاتته الصلاة الوسطى فكأنما وتر أهله وماله» ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بعشائهم. ونقل ابن عادل عن مالك أنّ من حلف أن لا يكلم الرجل عصراً لم يكلمه سنة. قال ابن العربيّ: إنما حمل مالك يمين الحالف على السنة لأنه أكثر ما قيل: فيه. ونقل عن الشافعي يبرّ بساعة إلا أن تكون له نية. وجواب القسم. { { {إن الإنسان} أي: الجنس {لفي خسر} أي: نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعمارهم في إغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر، والإعراض عن الغائب، والإغترار بالفاني. تنبيه: تنكير خسر يحتمل التهويل والتحقير، فإن حمل على الأوّل وهو الظاهر كان المعنى: أنّ الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، لأنّ الذنب يعظم أمّا لعظم من في حقه الذنب، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة، فلذلك كان الذنب في غاية العظم. وإن حمل على الثاني كان المعنى: إن خسران الإنسان دون خسران الشيطان ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكلّ لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك، وكان فيهم من خلصه الله تعالى مما طبع عليه الإنسان وحفظه عن الميل استثناهم بقوله عز من قائل: {إلا الذين آمنوا} أي: أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبيّ صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه، والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. {وعملوا} أي: تصديقاً لما أقرّوا به من الإيمان {الصالحات} أي: هذا الجنس من إيقاع الأوامر واجتناب النواهي، واشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية، فلم يلحقهم شيء من الخسران. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: المراد بالإنسان الكافر، وقال في رواية الضحاك: يريد به جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب. وقيل: لفي خسر غبن وقال الأخفش لفي هلكة وقال الفراء: لفي عقوبة. وقال ابن زيد: لفي شرّ. وروى ابن عوف عن إبراهيم قال: أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وأهرم لفي ضعف ونقص وتراجع إلا المؤمنين فإنه يكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم، ونظيره قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا} (التين: 4 ـ 6) ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر إلا بتكميل غيره، وحينئذ كان وارثاً لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل. قال تعالى مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة منبهاً على عظمه: {وتواصوا} أي: أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال والمقال {بالحق} أي: الأمر الثابت وهو كل ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 584 حكم الشرع بصحته ولا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته، واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة {وتواصوا} أيضاً {بالصبر} عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يبتلي الله به عباده من الأمراض وغيرها. ويروى عن أبيّ بن كعب أنه قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والعصر، ثم قلت: ما تفسيرها يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم «والعصر قسم من الله أقسم ربكم بآخر النهار أنّ الإنسان لفي خسر أبو جهل إلا الذين آمنوا أبو بكر، وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان، وتواصوا بالصبر عليّ» . وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفاً عليه. وقال قتادة: بالحق، أي: بالقرآن. وقال السدّي: الحق هنا الله عز وجل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعصر غفر الله له، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر» . حديث موضوع. سورة الهمزة مكية وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ومائة وثلاثون حرفاً {بسم الله} الحكم العدل {الرحمن} الذي عمّ جوده أهل البخل وأولي العدل {الرحيم} الذي خص أولياءه بزيادة الفضل وقوله تعالى: {ويل} فيه قولان: أحدهما: أنه كلمة عذاب، والثاني: أنه واد في جهنم {لكل همزة لمزة} قال ابن عباس: هم المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب، فعلى هذا هما بمعنى. وقال صلى الله عليه وسلم «شرّ عباد الله المشاؤون بالنميمةالمفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب» . وقال مقاتل: الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللمزة الذي يعيبك في الوجه. وقال أبو العالية والحسن: الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة الذي يغتابه من خلفه، وهذا اختيار النحاس. ومنه قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} (التوبة: 58) . وقال سعيد بن جبير: الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة الطعان عليهم. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري: يهمز بلسانه ويلمز بعينه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه. وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل في ذلك من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منهم. وأصل الهمز الكسر واللمز الطعن، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم حتى صار ذلك عادة، لأنه خلق ثابت في جبلتهم والذي دلّ على الاعتياد صيغة فعلة بضم ففتح، كما يقال: ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به. واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم. وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أنّ سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحيّ. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وقال مجاهد: هي عامّة في حق من هذه صفته. وقوله تعالى: {الذي جمع مالاً} بدل من كل، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 585 أو ذمّ منصوب أو مرفوع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد الميم على المبالغة والتكثير ولأنه يوافق قوله تعالى: {وعدّده} والباقون بتخفيفها، وهي محتملة للتكثير وعدمه، ومعنى عدّده: أحصاه وجعله للحوادث. وقال الضحاك: أعدّ ماله لمن يرثه من أولاده، وقيل: فاخر بعدده وكثرته: والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة كقوله تعالى: {مناع للخير} (ص: 5) وقوله تعالى: {جمع فأوعى} (المعراج: 18) {يحسب} أي: يظنّ لجهله {أنّ ماله أخلده} أي: أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا فيصير خالداً فيها لا يموت، أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض عمل من يظنّ أنّ ماله أبقاه حياً، أو هو تعريض بالعمل الصالح، أو أنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم، فأمّا المال فما أخلد أحداً فيه. وروي أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار، وقيل: عشرة آلاف دينار. وعن الحسن: أنه عاد موسراً فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال: لماذا؟ قال: لنبوة الزمان، وجفوة السلطان ونوائب الدهر، ومخافة الفقر. قال: إذاً تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها. وقوله تعالى: {كلا} ردع له عن حسبانه، وقيل: معناه حقاً. وقوله تعالى: {لينبذنّ} جواب قسم محذوف، أي: ليطرحن بعد موته {في الحطمة} أي: الطبقة من جهنم التي شأنها أن تحطم، أي: تكسر بشدّة وعنف كل ما طرح فيها يكون أخسر الخاسرين ويقال للرجل الأكول: إنه لحطمة. {وما أدراك} أي: وأيّ شيء أعلمك، ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الحكماء {ما الحطمة} أي: الدركة النارية التي سميت هذا الاسم بهذه الخاصة، وإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالاً لها، ثم فسرها بقوله تعالى: {نار الله} أي: الملك الأعظم الذي له الملك كله {الموقدة} أي: التي وجد وتحتم إيقاده، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقد فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتاً. روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» . {التي تطلع} أي: إطلاعاً شديداً {على الأفئدة} جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدّة ذكائه فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، وإطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالاً بليغاً سُمِّيَ بذلك لشدّة توقدّه وخُصَّ لأنه ألطف ما في البدن وأشدّ تألماً بأدنى شيء من الأذى، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة، ومعدن حبّ المال الذي هو منشأ حبّ الفساد والضلال، وعنه تصدر الأفعال القبيحة. وقيل: معنى {تطلع على الأفئدة} أي: تعمل ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب يقال: اطلع على كذا، أي: علمه. ثم أشار إلى خلودهم فيهابقوله تعالى مؤكداً لأنهم يكذبون بها: {إنها عليهم مؤصدة} قال الحسن: مطبقة، أي: بغاية الضيق. وقال مجاهد: مغلقة بلغة قريش، يقال: أصدت الباب، أي: أغلقته ومنه قول عبد الله بن قيس: *إنّ في القصر لو دخلنا غزالاً ... مفتناً مؤصداً عليه الحجاب* ثم بين حال عذابهم بقوله تعالى: {في} أي: في حال كونهم موثوقين في {عمد} قرأ حمزة والكسائي وشعبة بضم العين والميم جمع عمود نحو رسول ورسل، وقيل: جمع عماد ككتاب وكتب، والباقون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 586 بفتحهما فقيل: هو اسم جمع لعمود، وقيل: بل هو جمع له. قال الفراء: كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة: هو جمع عماد. {ممددة} أي: معترضة كأنها موضوعة على الأرض في غاية المكنة فلا يستطيع الموثوق بها على نوع حيلة في أمرها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله يبعث عليهم ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار، فيطبق عليهم بتلك الأطباق، وتسدّ بتلك المسامير، وتمدّ بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل منه روح ولا يخرج منه غم فيكون كلامهم فيها زفيراً وشهيقاً» . وقال قتادة: عمد تعذبون بها، واختاره الطبريّ. وقال ابن عباس: إنّ العمد الممدّدة أغلال في أعناقهم. وقال أبو صالح قيود في أرجلهم. وقال القشيري: العمد أوتاد الأطباق. وقيل: المعنى في دهور ممدودة لا انقطاع لها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه» حديث موضوع. سورة الفيل مكية وهي خمس آيات وعشرون كلمة وستة وتسعون حرفاً {بسم الله} الذي قدّر به في كل شيء عاملة {الرحمن} الذي له النعمة الشاملة {الرحيم} الذي يخص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة: وقوله تعالى: {ألم تر} استفهام تعجب، أي: أعجب {كيف فعل ربك} أي: المحسن إليك {بأصحاب الفيل} فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها، وإنما قال تعالى: كيف لأن المراد ذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت قصة الفيل ما روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة، فخرج إليها فدخلها ليلاً فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من أجترأ علييّ فقيل: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع الذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوّة فبعث به إليه فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معه بالفيل واثنى عشر فيلاً غيره، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: كان معه ألف فيل. وقيل: كان وحده، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذونفر بمن أطاعه من قومه فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذانفر، فقال له: أيها الملك استبقني فإن استبقائي خير لك من قتلي فاستبقاه فأوثقه، وكان أبرهة رجلاً حليماً. ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلاً، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب وهاتان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 587 يداي على قومي بالسمع والطاعة فاستبقاه، وخرج معه يدله حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه فبعثوا أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مسعود على مقدمة خيله وأمره بالغارة على نعم الناس فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير. ثم إنّ أبرهة بعث بحناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت. فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك إنه لم يأت لقتال إنما جئت لأهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا به يدانا سنخلي بينه وبين ما جاء إليه، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوّة. قال: فانطلق معي إلى الملك، قال بعض العلماء: أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا، فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه صديق لي فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له: إنّ هذا سيد قريش صاحب عين مكة يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي أحبّ ما وصل إليه من الخير. فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش صاحب عين مكة يطعم الناس في السهل والوحوش على رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحبّ أن تأذن له فيكلمك وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على السرير، وأن يجلس تحته فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه. ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ إليّ مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك، قال لِمَ؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه. قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه، وقيل: عرض عليه عبد المطلب أموال تهامة ليرجع فأبى فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشعاب، ويتحرّزوا في رؤوس الجبال تخوّفاً عليهم من معرّة الجيش، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول: *يا رب لا أرجو سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حماكا* *إنّ عدوّ البيت من عاداكا ... أمنعهم أن يخربوا قراكا* الجزء: 4 ¦ الصفحة: 588 وقال أيضاً: *لا هم إن المرء يمنع ... رحله فامنع حلالك* *لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك* *جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك* *عمدوا حماك بكيدهم ... جهلاً وما رقبوا جلالك* *إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك* ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه فأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه وهيأ فيله، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال: أبرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام مهرولاً، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فضربوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم وخرج عبد المطلب يشتدّ حتى صعد الجبل فأرسل الله تعالى عليهم ما قصه في قوله سبحانه: {ألم يجعل} أي: جعل بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش {كيدهم} أي: في هدم الكعبة {في تضليل} أي: خسارة وهلاك. {وأرسل عليهم} أي: خاصة من بين ما هناك من كفار العرب {طيراً} أي: طيوراً سوداء، وقيل: خضراء وقيل: بيضاء {أبابيل} أي: جماعات بكثرة متفرّقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة أما كل فرقة منها طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق. وقيل: أبابيل كالإبل المؤبلة. قال الفراء: لا واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها إبالة. وقال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون: واحدها أبول كعجول وعجاجيل. وقال ابن عباس: كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال سعيد بن جبير: خضر لها مناقير صفر وقال قتادة: طير سود. {ترميهم} أي: الطير {بحجارة} أي: عظيمة في الكثرة والفعل، صغيرة في المقدار والحجم مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بالحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففرّوا فهلكوا في كل طريق ومنهل وأمّا أبرهة فتساقطت أنامله كلها كلما سقطت أنملة اتبعها مدّة وقيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه، وانفلت وزيره أبويكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه لأن تلك الحجارة كانت {من سجيل} أي: طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو ولما تسبب عن هذا الرمي هلاكهم، وكان ذلك بفعل الله تعالى لأنه الذي خلق الأثر قطعاً، لأنّ مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك قال الله تعالى: {فجعلهم} أي: ربك المحسن إليك بإحسانه على قومك لأجلك بذلك {كعصف مأكول} أي: كورق زرع أكلته فراثته فيبس وتفرّقت أجزاءه شبه قطع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث. قال مجاهد: العصف ورق الحنطة. وقال قتادة: هو التبن. وقال عكرمة كالحبّ إذا أكل وصار أجوف، لأنّ الحجر كان يأتي في الرأس فيحرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 589 بما له الحرارة وشدّة الوقع كلما مرّ به حتى يخرج من الدبر، ويصير موضع تجويفه أسود لما له من من النارية. وقال ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له، وروي أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة وعن عكرمة: من أصابه جدره وهو أوّل جدري ظهر. وعن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن الطير فقال: حمام مكة منها، وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم. واختلف في تاريخ عام الفيل، فقيل: كان قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل: بثلاث وعشرين سنة. والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن عائشة قالت: رأيت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقال عبد الملك بن مروان: لعتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسنّ منه، ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، بل قيل: لم يكن بمكة أحد إلا رأى قائد الفيل وسائسه أعميين يتكففان الناس لأنّ عائشة مع صغر سنها رأتهما. وقال ابن إسحاق لما ردّ الله تعالى الحبشة عن مكة المشرّفة عظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوّهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم. وقال بعض العلماء: كانت قصة الفيل مما نعدّه من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله، لأنها كانت توكيداً لأمره وتمهيداً لشأنه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ» حديث موضوع. سورة قريش مكية في قول الجمهور ومدنية في قول الضحاك والكلبيوهي أربع آيات وسبع عشرة كلمة وثلاثة وسبعون حرفاً {بسم الله} الذي له جميع الكمال {الرحمن} ذي النعم والأفضال {الرحيم} الذي خص أولياءه بالقرب والإجلال. وقوله تعالى: {لإيلاف قريش} في متعلقه أوجه أحدها: أنه ما في السورة قبلها من قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} . قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل، وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأولى والتين اه. وإلى هذا ذهب الأخفش. وقال الرازي: المشهور أنهما سورتان ولا يلزم من التعلق الاتحاد لأنّ القرآن كسورة واحدة. ثانيها: أنه مضمر تقديره فعلنا ذلك، وهو إيقاعهم للإيلاف وهو الفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم وقيل: تقديره اعجبوا لئلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب هذا البيت. ثالثها: أنه متعلق بقوله تعالى: {فليعبدوا} أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين لأنهما أظهر نعمة عليهم، وهذا هو الذي صدر به الزمخشري كلامه، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه لأنّ التدبير كله له يخفض من يشاء، وإن عز، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 590 ويرفع من يشاء وإن ذل، وقريش هم ولد النضر بن كنانة ومن ولده النضر فهو قرشيّ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشيّ. قال صلى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» وأخرج الحاكم وصححه البيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فضل الله قريشاً بسبع خلال أني منهم، وأنّ النبوّة فيهم، وأنّ الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم وأنّ الحجابة والسقاية فيهم، وأنّ الله أنزل فيهم سورة من القرآن» وسموا قريشاً من القرش وهو التكسب والجمع، يقال: فلان يقرش لعياله ويقترش، أي: يكتسب، وهم كانوا تجاراً حرّاصاً على جمع المال، وقا أبو ريحانة: سأل معاوية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لم سميت قريش قريشاً؟ قال: لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار يقال لها: القرش، ولا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى،. قال: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها، قال: نعم فأنشده شعر الجمحي: *وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشاً* *تأكل الغث والسمين فلا تت ... رك فيه لذي الجناحين ريشاً* *هكذا في الكتاب حي قريش ... يأكلون البلاد أكلاً كميشا* *ولهم آخر الزمان نبيّ ... يكثر القتل منهموا والخموشا* وقيل: هو من تقرش الرجل إذا تنزه عن مدانس الأمور، أومن تقارشت الرماح في الحرب إذا دخل بعضها في بعض. وقوله تعالى: {إيلافهم} بدل من الإيلاف الأول، وقرأ ابن عامر لإلاف بغير ياء بعد الهمزة، والباقون لإيلاف بياء بعدها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو إيلافهم بالياء بعد الهمزة. قال ابن عادل: ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء، وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطاً، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منها خطاً، وهذا أدل دليل على أنّ القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرّد الخط. وقوله تعالى: {رحلة الشتاء} منصوب بإيلافهم مفعول به كما نصب يتيماً بإطعام، وهي التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون منهامتاجر الحبوب. {والصيف} التي يرحلونها إلى الشام في زمنه؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الثمار، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المعظم وبيت الله، والناس يتخطفون من حولهم ولا يجترىء أحد عليهم. والإيلاف من قولك: آلفت المكان أولفه إيلافاً إذا بلغته فأنا مؤلف، والأصل رحلتي الشتاء والصيف ولكنه أفرد ليشمل كل رحلة كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يتمكنون من الرحلة إلى أي بلاد أرادوا لشمول الأمن لهم. قال مالك: الشتاء نصف السنة والصيف نصفها. وقال قوم: الزمان أربعة أقسام شتاء وربيع وصيف وخريف، وقيل: شتاء وصيف وقيظ وخريف. قال القرطبي: الذي قاله مالك أصح لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً، وروى عكرمة عن ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 591 عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف، وقال آخرون: كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة إحداهما: في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ولولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وفي ذلك يقول الشاعر: *قل للذي طلب السماحة والندى ... هلا مررت بآل عبد مناف* *هلا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من ضر ومن اتلاف* *الرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف* *والخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي* *والقائلين بكل وعد صادق ... والراحلين برحلة الإيلاف* *عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف* *سفرين سنهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف* وتبع هاشماً على ذلك إخوته فكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هذه الإخوة، أي: بعهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي. ولما كان هذا التدبير لهم من الله تعالى كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن، وكان شكر المنعم واجباً، قال تعالى: {فليعبدوا} أي: قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى، لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران {رب هذا البيت} أي: الموجد له والمحسن إلى أهله بحفظه من كل طاغ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم، وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة، والمراد به الكعبة عبر عنها بالإشارة تعظيماً لشأنها. ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت بقوله تعالى: {الذي أطعمهم} أي: قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين إطعاماً مبتدأ {من جوع} أي: عظيم فيه غيرهم من العرب، أو كانوا هم فيه قبل ذلك؛ لأنّ بلدهم ليس بذي زرع فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع فكفاهم ذلك وحده، ولم يشركه أحد في كفايتهم فليس من الشكر إشراكهم غيره معه في عبادته، ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه السلام الذي دعا لهم بالرزق بقوله عليه السلام: {وارزقهم من الثمرات} (إبراهيم: 37) ونهى أشدّ النهي عن عبادة الأصنام ولم يقل أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب {وآمنهم} أي: تخصيصاً لهم {من خوف} أي: شديد جدّاً من أصحاب الفيل الذين أرادوا خراب البيت الذي به نظامهم، وما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات، ومن الجذام بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 592 ومن الطاعن والدخان بتأمين النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضهم بعضاً فأمنت قريش ذلك لمكان الحرم. وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف فألقى الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً في السفن، فحملوا فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدّة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وقيل: إنّ قريشاً لما كذبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فاشتدّ القحط فقالوا: يا محمد، ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن فحملوا الطعام إلى مكة وأخصب أهلها» . وقال الضحاك والربيع في قوله تعالى: {وآمنهم من خوف} ، أي: من خوف الحبشة. وقال عليّ: {وآمنهم من خوف} أن تكون الخلافة إلا فيهم. قال الزمخشريّ: من بدع التفاسير {وآمنهم من خوف} أن تكون الخلافة في غيرهم اه. لكن إن ثبت ذلك عن علي كرم الله وجهه فليس كما قال وقيل: كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» حديث موضوع. سورة الدين وتسمى سورة الماعون مكية في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس رضي الله عنهما، ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة وغيره، وهي سبع آيات وخمس وعشرون كلمة ومائة وثلاثة وعشرون حرفاً. {بسم الله} الذي له كل كمال {الرحمن} الذي عم جميع عباده بالنوال {الرحيم} الذي خص أولياءه بنعمة الإفضال. وقوله تعالى: {أرأيت} استفهام معناه التعجب. وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش أيضاً إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائيّ. قال الزمخشريّ: وليس بالاختيار لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب ريت، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام، ونحوه: *صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب* وخففها الباقون، والمعنى: أرأيت {الذي يكذب} أي: يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان {بالدين} أي: بالجزاء والحساب، أي: هل عرفته أم لم تعرفه. {فذلك} بتقدير هو بعد الفاء، أي: البغيض البعيد المبعد من كل خير {الذي يدُّع} أي: يدفع دفعاً عظيماً بغاية القسوة {اليتيم} ولا يحث على إكرامه لأنّ الله تعالى نزع الرحمة من قلبه، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله تعالى، فكان التكذيب بجزائه مسبباً للغلظة عليه. وقال قتادة: يقهره ويظلمه فإنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام. وقال صلى الله عليه وسلم «من ضم يتيماً من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 593 الجنة» . واختلف فيمن نزل ذلك فيه، فقال مقاتل: في العاص بن وائل السهمي. وقال السديّ: في الوليد بن المغيرة. وقال الضحاك: في عمرو بن عابد المخزومي. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: في رجل من المنافقين. وقيل: في أبي جهل. { { {ولا يحض} أي: يحث نفسه ولا غيره {على طعام المسكين} أي: بذله له وإطعامه إياه، بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه، وقد تضمن هذا أنّ علامة التكذيب بالبعث إيذاء الضعيف، والتهاون بالمعروف ولما كان هذا مع الخلائق أتبعه حاله مع الخالق بقوله تعالى: {فويل} أي: عذاب، أو واد في جهنم {للمصلين الذين هم} أي: بضمائرهم وخالص سرائرهم {عن صلاتهم} التي هي جديرة بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها {ساهون} أي: عريقون في الغفلة عنها وتضييعها، وعدم المبالاة بها، وقلة الالتفات إليها. وروى البغويّ بسنده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «هو إضاعة الوقت» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس ويصلونها في العلانية مع الناس إذا حضروا» لقوله تعالى: {الذين هم} أي: بجملة سرائرهم {يراؤون} أي: بصلاتهم وغيرها الناس، لأنهم يفعلون الخير ليراهم الناس لا لرجاء الثواب، ولا لخوف العقاب من الله تعالى، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس. وقال إبراهيم: هو الذي يلتفت في صلاته. وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين. وقال عطاء: الحمد لله الذي قال تعالى: {عن صلاتهم ساهون} ولم يقل في صلاتهم ساهون فدل على أنّ الآية في المنافقين وقال قتادة: ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصلّ. وقال مجاهد: غافلون عنها متهاونون بها. وقال الحسن: هو الذي إن صلاها صلاها رياء، وإن فاتته لم يندم، وقيل: هم الذي يسهون عنها قلة مبالاة بها حتى تفوتهم، أو يخرج وقتها، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف، ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع، ولا اجتناب لما يكره فيها من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السورة، وكما ترى صلاة أكثر من ترى من الذين عادتهم الرياء بأعمالهم، ومنع حقوق أموالهم والمعنى: أنّ هؤلاء أحق أن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين. والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام علماً على أنهم مكذبون بالدين، وكم ترى من المتسمين بالإسلام بل بالعلم من هو منهم على هذه الصفة فيا مصيبتاه. فإن قيل: كيف جعل المصلين قائماً مقام ضمير الذي يكذب، وهو واحد؟ أجيب: بأن معناه الجمع لأنّ المراد به الجنس. فإن قيل: أي: فرق بين قوله تعالى: {عن صلاتهم} وقولك في صلاتهم؟ أجيب: بأن معنى عن أنهم ساهون عنها سهو ترك وقلة التفات إليها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين، ومعنى في أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. وعن أنس الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم، وقد مرّت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 594 الإشارة إلى بعض ذلك. فإن قيل: ما معنى المراآة؟ أجيب: بأنها مفاعلة من الإراءة، لأن المرائي يري الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله صلى الله عليه وسلم «ولا غمة في فرائض الله» لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين، ولأنّ تاركها يستحق الذم والمقت فوجب إناطة الهمة بالإظهار، وإن كان تطوّعاً فحقه أن يخفي لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصداً للاقتدار به كان جميلاً. وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلاً في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطال، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك، وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة على أنّ اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود» . ثم بين أن من هو بهذه الصفة يغلب عليه الشح بقوله تعالى: {ويمنعون} أي: على تجدد الأوقات {الماعون} أي: حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الماعون الفأس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال مجاهد: الماعون أعلاها الزكاة المفروضة، وأدناها عارية المتاع. وعن عليّ أنها الزكاة. وقال محمد بن كعب الكلبيّ: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم. وقال قطرب: أصل الماعون من القلة، تقول العرب: ما له سعنة ولا معنة، أي: شيء قليل فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعوناً لأنه قليل من كثير وقيل: الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة أرأيت غفر له إن كان للزكاة مؤدّياً» حديث موضوع. سورة الكوثر وتسمى سورة النحر مكية في قول ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة، وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفاً {بسم الله} الذي لا حد لفائض فضله {الرحمن} الذي شمل الخلائق بجوده فلا رادّ لأمره {الرحيم} الذي خص حزبه بالاعتصام بحبله وقوله تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أعطيناك} أي: خوّلناك مع التمكين العظيم يا أشرف الخلق {الكوثر} أي: نهراً في الجنة هو حوضه صلى الله عليه وسلم ترد عليه أمّته، لما روي عن أنس أنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزل عليّ آنفاً سورة فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: فإنه نهر وعدنيه ربي خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمّتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك» . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 595 والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» . وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن، وأحلى من العسل، وحافتاه خيام الدر، فضربت بيدي فإذا الثرى مسك أذفر،. فقلت لجبريل: ما هذا؟ قال: الكوثر أعطاكه الله تعالى» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها لا يظمأ أبداً» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلىّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: إي: رب أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» . وعن ثوبان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عرضه فقال: «من مقامي إلى عمان» وسئل عن شرابه فقال: «أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق» . وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي» ، أو قال: «من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول: أي: رب أصحابي، فيقول إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك كإنهم ارتدّوا على ادبارهم القهقرى» . ولمسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ترد عليّ أمّتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبيّ الله تعرفنا قال: نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، وليصدنّ عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي فيجيبني فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك» . وأحاديث الحوض كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية لأولي الألباب فنسأل الله تعالى أن يروينا منه نحن وأحبابنا، ويدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب. قال القاضي عياض: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان. وقال ابن عادل: وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأوّل ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة اه. وقيل: الكوثر القرآن العظيم، وقيل:: هو النبوّة والكتاب والحكمة وقيل: هو كثرة أتباعه. وقيل: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: الكوثر الخير الكثير. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: إن ناساً يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه. وأصل الكوثر فوعل من الكثرة والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثراً قيل: لأعرابية رجع ابنها من السفر: آب ابنك، قالت: آب بكوثر، وقال الشاعر: *وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا* وقيل: الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضلها على جميع الخلائق. تنبيه: لا منافاة بين هذه الأقوال كلها فقد أعطيها النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعطي صلى الله عليه وسلم النبوّة والحكمة والعلم والشفاعة والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الاتباع، وإظهاره على الأديان كلها، والنصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه إلى يوم القيامة، وأولى الأقاويل في الكوثر وهو الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 596 عليه جمهور العلماء أنه نهر في الجنة. ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها سبب عنه قوله تعالى آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر: {فصلِّ} أي: بقطع العلائق عن الخلائق بالوقوف بين يدي الله تعالى في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم، خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها. {لربك} أي: المحسن إليك بأنواع النعم مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك {وأنحر} أي: أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنعهم الماعون، والنحر أفضل نفقات العرب لأنّ الجزور الواحد يغني مائة مسكين، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل. وقال محمد بن كعب: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله تعالى، وينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة: {فصل لربك} صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، واقتصر على هذا الجلال المحلي وقال سعيد بن جبير ومجاهد: فصل الصلاة المفروضة بجمع، أي: مزدلفة، وانحر البدن بمنى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. وعن علي: أنّ معناه أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وقال الكلبيّ: استقبل القبلة بنحرك. وعن عطاء أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره. {إنّ شانئك} أي: مبغضك والشانىء المبغض، يقال: شنأه يشنؤه، أي: أبغضه {هو الأبتر} أي: المنقطع عن كل خير، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين فاجتمعت لك العطيتان السنيتان إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم، أو المنقطع العقب لا أنت لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكرك ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة وقال الرازي: هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون وذكر ههنا في مقابلة البخل {إنا أعطيناك الكوثر} وفي مقابلة الصلاة {فصلّ} أي: دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء {لربك} أي: لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون {وانحر} أي: تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى: {إنّ شانئك هو الأبتر} أي: أنّ المشاقق الذي اتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل. واختلف المفسرون في الشانىء فقيل: هو العاص بن وائل وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر فقيل: إنّ العاص وقف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفاً مع ذلك الأبتر، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا أبتر فلان فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال: بتر محمد فنزلت. وقال السديّ: إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر محمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 597 فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت. وقيل: لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا قريش إلى الإيمان قالوا: أبتر منا محمد، أي: خالفنا وانقطع عنا فنزلت. تنبيه: قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيراً من كثير ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه، ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 1) ومنها: تأكيد الجملة بأن. ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين. ومنها: الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة. ومنها: حذف الموصوف بالكوثر لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته، ومنها تعريفه بأل الجنسية الدالة على الاستغراق. ومنها: فاء التعقيب الدالة على السبب فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة، ومنها التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى، ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها، ومنها حذف متعلق انحر إذ التقدير فصل لربك وانحر له، ومنها مراعاة السجع فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف، ومنها قوله تعالى: {لربك} في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربي له والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كل خير إلا منهن ومنها الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى: {لربك} ومنها الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة، ولو كان المراد شخصاً معيناً لعينه الله تعالى. ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئاً البتة، لأنّ من يشنأ شخصاً قد يؤثر شنؤه شيئاً. ومنها: تأكيد الجملة بأن المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم وتقدير القسم يصلح هنا. ومنها الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد؛ إذ يصير الإسناد مرّتين. ومنها: تعريف الأبتر بأل المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة كأنه قيل: الكامل في هذه الصفة. ومنها إقباله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبه العباد في يوم النحر، أو يقرّبونه» حديث موضوع. سورة الكافرون مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، وتسمى أيضاً سورة المعابدة والإخلاص لأنها في إخلاص العبادة والدين كما أن {قل هو الله أحد} في إخلاص التوحيد، واجتماع النفاق فيهما محال لمن اعتقدهما وعمل بهما. ويقال لها ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أي: المبرئتان من النفاق. قال الشاعر: *أعيذك بالمقشقشتين مما ... أحاذره ومن نظر العيون* الجزء: 4 ¦ الصفحة: 598 وهي ست آيات وستة وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفاً. {بسم الله} الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره {الرحمن} الذي عمّ برحمته من أوجب عليهم شكره {الرحيم} الذي وفق أهل ودّه فالتزموا نهيه وأمره وقوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف الخلق {يا أيها الكافرون} إلى آخر السورة نزل في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف. قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في امرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظاً منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: معاذ الله أن نشرك به غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، قال: حتى أنظر ما يأتي إليّ من ربي فأنزل الله تعالى هذه السورة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا منه عند ذلك وأذوه وأصحابه، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم، ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علم من أعلام النبوّة. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في التحريم: {يا أيها الذين كفروا} (التحريم: 7) وههنا قال: {قل يا أيها الكافرون؟} . أجيب: بأنّ في سورة التحريم إنما يقال لهم يوم القيامة، وثم لا يكون رسولاً إليهم فأزال الواسطة فيكونون في ذلك الوقت مطيعين لا كافرين فلذلك ذكره تعالى بلفظ الماضي، وأمّا هنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول رسولاً إليهم فقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون} ، أي: الذي قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدلّ عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردّوها من أدناس الحظ وهم كفرة مخصوصون، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، ودل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرق اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، والتعبير بالجمع الذي هو أصل في القلة، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى له: {قل يا أيها الكافرون} لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159) وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} (آل عمران: 159) وقال تعالى: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} (آل عمران: 159) ثم كان مأموراً بأن يدعوهم إلى الله تعالى بالوجه الأحسن، فلذا خاطبهم بيا أيها فكانوا يقولون: كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق، فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي. ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم قال: {لا أعبد} أي: الآن {ما تعبدون} من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادات في سرّ ولا علن؛ لأنه لا يصلح للعبادة بوجه. {ولا أنتم عابدون} أي: الآن {ما أعبد} وهو الله تعالى وحده. {ولا أنا عابد} ، أي: في الاستقبال ما عبدتم} من دون الله تعالى. {ولا أنتم عابدون} ، أي: في الاستقبال {ما أعبد} وهو الله وحده لا شريك له، وهذا خطاب لمن علم الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 599 منهم أنهم لا يؤمنون. وإطلاق ما على الله تعالى على جهة المقابلة، وبهذا زال التكرار ووجه التكرار كما قال أكثر أهل المعاني: هو أن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجارى خطابهم ومن مذاهبهم التكرار لإرادة التأكيد والإفهام، كما أنّ من مذاهبهم الاختصار لإرادة التخفيف والإيجاز فالقائل بالتأكيد يقول قوله تعالى: {ولا أنا عابد ما عبدتم} تأكيد لقوله تعالى: {لا أعبد ما تعبدون} (التكاثر: 3 ـ 4) وقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ثانياً تأكيد لقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ومثله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن: 77) و {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15) في سورتيهما و {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} وفي الحديث: «فلا أذن ثم لا أذن إنما فاطمة بضعة مني» وفائدة التأكيد هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الأخبار وهو إقامتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً وعلى الأوّل قد تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر قال ابن عادل: وفيه نظر كيف يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان، وهذا مما لا يصح اه. وقد يردّ هذا بأنه صلى الله عليه وسلم نفى في الجملة الأولى الحال، وفي الثانية الاستقبال وقول البيضاوي: فإن لا، لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أنّ ما لا تدخل إلا على المضارع بمعنى الحال جرى على الغالب فيهما ولما أيس منهم صلى الله عليه وسلم قال: {لكم دينكم} أي: الذي أنتم عليه من الشرك {ولي دين} أي: الذي أنا عليه من التوحيد وهو دين الإسلام، وفي هذا معنى التهديد كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} (القصص: 55) أي: إن رضيتم بدينكم فقد رضينا بديننا، وهذا كما قال الجلال المحلي: قبل أن يؤمر بالحرب، وقيل: السورة كلها منسوخة وقيل: ما نسخ منها شيء لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم، أي: جزاء دينكم ولي دين، أي: جزاء ديني وسمي دينهم ديناً لأنهم اعتقدوه، وقيل: المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي لأنّ الدين الجزاء، وحذفت ياء الإضافة من دين للتبعية وقفاً ووصلاً. قرأ نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه بفتح الياء والباقون بإسكانها. فائدة: قال الرازي: جرت العادة بأنّ الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز، لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه فيعمل بموجبه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكافرين فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، ويعافى من الفزع الأكبر» حديث موضوع إلا الجملة الأولى منه فرواها الترمذي. سورة النصر مدنية بالإجماع وتسمى سورة التوديع، وهي ثلاث آيات وستة عشر كلمة وتسعة وسبعون حرفاً {بسم الله} الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم {الرحمن} الذي أرسلك رحمة من الله العليّ العظيم {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بفضله العميم. وقوله تعالى: {إذا} منصوب بسبح {جاء نصر الله} ، أي: الملك الأعظم الذي لا مثل له، ولا أمر لأحد معه بإظهاره إياك على أعدائك ومعنى جاء استقرّ وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 600 إلى اسم الذات. { { وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة والباقون بالفتح، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة، روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع {والفتح} ، أي: فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوزان وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فيأ فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران: 85) وقيل: المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم. فإن قيل: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ أجيب: بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها قال الشاعر: *إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي ... بلاد تميم وانصري آل عامر* ويروى: *إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر* والفتح فتح البلاد، وقال الرازي: الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به، والنصر كالسبب فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه. فإن قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً منصوراً بالدلائل والمعجزات فما المعنى: بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة؟. أجيب: بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل: النصر لا يكون إلا من الله تعالى، قال الله تعالى: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (آل عمران: 126) فما فائدة التقييد بنصر الله؟ أجيب: بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى، كما يقال هذا صنعة زيد إذا كان مشهوراً بإحكام الصنعة والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا. فإن قيل: الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم نصر الله فما السبب في ذلك؟ أجيب: بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث وهو من الله تعالى، فإن قيل: فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّماً على فعل الله تعالى، وهذا بخلاف النصر لأنه تعالى قال: {إن تنصروا الله ينصركم} (محمد: 7) فجعل نصره مقدّماً على نصره لنا؟ أجيب: بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله تعالى، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية. ولما عبر عن المعنى: بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى: {ورأيت} ، أي: ببصرك ((الناس)) ، أي: العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس كما دلت عليه لام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 601 الكمال، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً بالنسبة إليهم رعاعاً حال كونهم {يدخلون} شيئاً فشيئاً متجدّداً دخولهم مستمرّاً {في دين الله} ، أي: شرع من لم تزل كلمته هي العليا {أفواجاً} ، أي: جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً واثنين اثنين. وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً» . وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. قال أبو هريرة لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان، والفقه يمان والحكمة يمانية» وقال: «أجد نفس ربكم من قبل اليمن» وفي هذا تأويلات: أحدها: أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً. الثاني: أنّ الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن وهم الأنصار. وعن الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: أمّا إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال أمّة بعد أمّة. قال الضحاك: والأمة أربعون رجلاً. تنبيه: دين الله تعالى هو الإسلام لقوله تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19) وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران: 85) وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية إشارة على أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً وللدّين أسماء أخر منها الصراط قال تعالى: {صراط الله} (الشورى: 53) ومنها النور {يريدون ليطفئوا نور الله} (التوبة: 32) ومنها الهدى قال تعالى: {هدى الله يهدي به من يشاء} (الأنعام: 88) ومنها العروة الوثقى قال تعالى: {ومن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} (البقرة: 256) ومنها الحبل المتين قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله} (آل عمران: 103) ومنها صبغة الله، ومنها فطرة الله. تنبيه: جمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين على أنّ إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية قالوا: إنّ الله تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ولإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولإثبات الصفات والتنزيهات بالدليل والعلم بأنّ أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري فعلمنا أنّ إيمان المقلد صحيح. فإن قيل: إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأنّ أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل كانوا جاهلين بالتفاصيل؟. أجيب: بأنّ الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإنّ الدليل إذا كان مثلاً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها وكان في المقدّمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة. ولما كمل الدين أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يشتغل بنفسه فقال عز من قائل: {فسبح} ، أي: نزه بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها تسبيحاً ملتبساً {بحمد ربك} ، أي: الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين المحسن إليك بجميع ذلك، لأنّ هذا كله لكرامتك وإلا فهو عزيز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 602 حميد على كل حال تعجباً لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه، أو فصل له حامداً على نعمه قاله ابن عباس. روي أنه صلى الله عليه وسلم «لما دخل مكة بدأ بالسجود فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات» . {واستغفره} ، أي: اطلب غفرانه لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني، فإنّ الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى، والمحل الأقدس، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول: استغفر الله وأتوب إليه، قال: فإني أمرت بها، ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخرها» . وقال عكرمة: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمّ؟ قال: نعيت إليك نفسك،. قال: إنه كما قلت، فعاش بعدها ستون يوماً ما رؤى ضاحكاً مستبشراً» وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: هذا يوم فرح، فقالا: لا بل فيه نعي النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (المائدة: 3) فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزلت {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: 128) فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزل: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة: 281) فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل: سبعة أيام، وقيل: غير ذلك. وقال الرازي: اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لوجوه: أحدها: أنهم عرفوا ذلك لما خطب صلى الله عليه وسلم عقب السورة وذكر التخيير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة: «إنّ عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله فقال أبو بكر رضي الله عنه: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا» . ثانيها: أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يستعقبه الزوال كما قيل:: *إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم* ثالثها: أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يقتضي انقضاء الأجل إذ لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة وذلك غير جائز وعن ابن عباس: أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله؟ فقال: إنه من قد علمتم. قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} ولا أراه سألهم إلا من أجلي، فقال بعضهم: أمر الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 603 تعالى نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقلت ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلوموني عليه بعد ما ترون. وروي أنه صلى الله عليه وسلم «دعا فاطمة رضي الله عنها فقال: يابنتاه إني نعيت إلى نفسي فبكت، فقال: لا تبكي فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي» وعن عائشة «كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك اشتغفرك وأتوب إليك» وعنها أيضاً «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: سبحانك اللهمّ وبحمدك اللهمّ اغفر لي» . وقالت أم سلمة رضي الله عنها: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: «سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه. قال: فإني أمرتُ بها ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا آخرها» . وقيل: استغفره هضماً لنفسك واستصغاراً لعملك واستدراكاً لما فرط منك بالالتفات على غيره وعنه عليه الصلاة والسلام: «إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» وقيل: استغفر لأمّتك وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله. ولما أمره الله تعالى بالتسبيح والاستغفار أرشده إلى التوبة بقوله تعالى: {إنه} ، أي: المحسن إليك بالنصر والفتح وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر {كان} ، أي: ولم يزل {تواباً} ، أي: رجاعاً بمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات، فأيدك الله تعالى بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً إلى أن دخلت مكة بعشرة آلاف، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحالة التي يزداد بهاظهور رفعتك في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4) فتفوز بتلك السعادات العالية. وعن ابن مسعود: أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع. قال قتادة ومقاتل: عاش النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين وهذا بناء على أنها نزلت قبل فتح مكة، وهو قول الأكثر فإنّ الفتح كان في سنة ثمان، وأمّا من قال: عاش دون ذلك كما مر فبناء على أنها نزلت في حجة الوداع كما مرّ أيضاً. تنبيه: في الآية سؤالات أحدها أنّ قوله تعالى: {كان تواباً} يدل على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل. ثانيها: هلا قال غفاراً كما قال في سورة نوح عليه السلام. ثالثها: أنه قال تعالى: {نصر الله} وقال تعالى: {في دين الله} وقال تعالى {بحمد ربك} ولم يقل بحمد الله؟ أجيب: عن الأوّل بوجوه: أحدها: أنّ هذا أبلغ كأنه يقول إني تبت على من هو أقبح فعلاً منكم كاليهود، فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة كفلق البحر ونتق الجبل ونزول المنّ والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح، ولما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك وهم دونكم أفلا أقبل توبتكم وأنتم خير أمّة أخرجت للناس. ثانيها: إني شرعت في توبة العصاة، والشروع ملزم على قول النعمان فكيف في كرم الرحمن. ثالثها: كنت تواباً قبل أمركم بالاستغفار، أفلا أقبل وقد أمرتكم. رابعها: كأنه أشار إلى تخفيف جنايتهم، أي: لستم أوّل من جنى وتاب، والمعصية إذا عمت خفت. خامسها: كأنه نظير ما يقال لقد أحسن الله إليك فيما مضى، كذلك يحسن إليك فيما بقي. وأجيب: عن الثاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 604 بوجهين: أحدهما لعله خص هذه الأمة بزيادة الشرف لأنه لا يقال في صفات العبد: غفار، ويقال: تواب إذا كان آتياً بالتوبة فيقول تعالى: كنت لي سمياً من أوّل الأمر أنت مؤمن وأنا مؤمن، وإن كان المعنى: مختلفاً فتب حتى تصير سمياً في آخر الأمر، وأنت تواب وأنا تواب ثم التوّاب في حق الله تعالى إنه يقبل التوبة كثيراً. فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً. وثانيهما: أنه تعالى إنما قال تواباً لأنّ القائل قد يقول استغفر الله وليس بتائب كقوله عليه الصلاة والسلام: «المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزئ بربه» . فإن قيل: قد يقول أتوب وليس بتائب؟ أجيب: بأن ذا يكون كاذباً لأنّ التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه فصار تقدير الكلام: واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أنّ خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار فكذا خواتيم الأعمار. وأجيب عن الثالث: بأنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرّتين، وذكر اسم الفعل مرّتين أحدهما الرب، والثاني التوّاب. ولما كانت التربية تحصل أولاّ والتوبة آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التوبة آخراً فنسأل الله تعالى من فضله وكرمة أن يمنّ علينا بتوبة نصوح لا ننكث بعدها أبداً، فإنه كريم رحيم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة {إذا نصر الله} «أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» حديث موضوع. سورة تبت مكية وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وسبعة وسبعون حرفاً {بسم الله} المتكبر الجبار المضل الهاد {الرحمن} الذي عمّ خلقه بنعمه بعد الإكرام بالإيجاد {الرحيم} الذي خص بتوفيقه أهل الوداد وقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} دعاء عليه، وسبب نزول ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء: 214) صعد صلى الله عليه وسلم الصفا جعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا عنده، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقون؟ قالوا: بلى/. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك لهذا دعوتنا جميعاً فنزلت» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ونادى: «يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش وذكر نحوه» . وفي رواية فصعد الصفا فهتف: «يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ فقالوا: محمد فاجتمعوا إليه فقال صلى الله عليه وسلم أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك أما جمعتنا إلا لهذا فنزلت» . وعن أبي زيد أنّ ابا لهب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد فقال صلى الله عليه وسلم «كما يعطى المسلمون فقال ما لي عليهم فضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم وأيّ شيء تبتغي قال: تباً لهذا من دين أن أكون وهؤلاء سواء فنزلت» . ومعنى تبت قال ابن عباس: خابت. وقال قتادة: خسرت. وقال عطاء: صلت. وقال ابن جبير: هلكت والتباب الهلاك، ومنه قولهم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 605 أشابة أم تابة، أي: هالكة من الهرم والتعجيز، والمعنى: هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجراً ليرمي به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: رماه به فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم: خسرت يده، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، أو عبر باليدين لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما. وقال يمان بن رباب: صفرت من كل خير حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفاً يقول: *لقد خلوك وانصرفوا ... فما آبوا ولا رجعوا* *ولم يوافوا نذورهم ... فتباً للذي صنعوا* وقيل: المراد باليدين دينه ودنياه، أو أولاه وعقباه، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة وبالأخرى دفع المضرّة، أو لأنّ اليمين سلاح واليسرى جنة. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى. فإن قيل:: لماذا كني بذلك ولم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم؟ أجيب: عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسماً كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم، أو لتلهب وجنتيه وكان مشرق الوجه أحمره؟ وأجيب عن الثاني بوجوه: أحدها: أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم، ثانيها: أن اسمه، كان عبد العزى كما مرّ فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم. ثالثها: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته فكان جديراً بأن يذكر بها، كقولهم: أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه، أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم. وقال الزمخشري: فإن قلت: لما كناه والكنية تكرمة، ثم ذكر ثلاثة أجوبة إمّا لشهرته بكنيته، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اه. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص وهو عكس قول تقدّم. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء، والباقون بفتحها وهما لغتان بمعنى نحو: النهر والنهر وقوله تعالى: {وتب} خبر كما يقال: أهلكه الله وقد هلك، فالأول: أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني: أخرج مخرج الخبر فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، وقيل: المراد ماله وملكه كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وبالثاني نفسه. ولما دعا صلى الله عليه وسلم أقربيه إلى الله تعالى وخوّفهم، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي بمالي وولدي فأنزل الله تعالى: {ما أغنى عنه} أي: عن أبي لهب {ماله} ، أي: الكثير الذي جرت العادة أنه منج من الهلاك، فإنه كان صاحب مواش كثيرة. {وما كسب} ، أي: من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يؤذي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ سلط عليه كلباً من كلابك فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة، لا بدّ أن تدركه فسافر إلى الشأم فأوصى به الرفاق لينجوه من هذه الدعوة فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها، والركاب محيطة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 606 بهم، فلم ينفعهم بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه» وإنما كان الولد من الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم «أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه، وإنّ ولده من كسبه» . تنبيه: ما في {ما أغنى} يجوز فيها النفي والاستفهام فعلى الاستفهام، تكون منصوبة المحل بما بعدها التقدير: أي شيء أغنى المال وقدم لكونه له صدر الكلام، ويجوز في ما في قوله تعالى: {وما كسب} أن تكون بمعنى الذي فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، أي: وكسبه وأغنى بمعنى يغني. ثم أوعده سبحانه بالنار فقال تعالى: {سيصلى} أي: عن قريب بوعد لا خلف فيه {ناراً} يندس فيها وتنعطف عليه وتحيط به {ذات لهب} ، أي: لا تسكن ولا تخمد أيداً لأنّ ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها بذات وذلك بعد موته. ولما أخبر تعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار زاده تحقيراً بذكر من يصونها بأزرى صورة وأشنعها بقوله تعالى: {وامرأته} وهو عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته، وهي أمّ جميل وهي أخت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، مثل زوجها في التباب والصليّ من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب، وعدل عن ذكرها لأنّ صفتها القباحة وهي ضدّ كنيتها. قال البقاعي: ومن هنا يؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفاً بما دل عليه لقبه. وقوله تعالى: {حمالة الحطب} فيه وجهان: أحدهما: هو حقيقة. قال قتادة: وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيرت بالبخل، وقال ابن زيد: كانت تحمل العضاه والشوك تلقيه في الليل في طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير، وقال برّة الهمداني: كانت أمّ جميل تأتي في كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها في طريق المسلمين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة عييت فقعدت على حجر تستريح فجذبها الملك من خلفها فأهلكها. الوجه الثاني: أنّ ذلك مجاز عن المشي بالتسمية ورمي الفتن بين الناس، ويقال للمشاء بين الناس بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب منهم، أي: يوقد بينهم ويثير الشر قال الشاعر: *من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب* جعله رطباً ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ. وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا والذنوب من قولهم: فلان يحتطب على ظهره قال تعالى: {يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 31) وقرأ عاصم بنصب التاء من حمالة على الشتم، قال الزمخشري: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب شتم أمّ جميل اه. والباقون برفعها على أنها صفة امرأته فإنها مرفوعة باتفاق إما بالعطف على الضمير في سيصلى كما مرّ، ويكون قوله تعالى: {في جيدها حبل} حالاً من امرأته، أو على الابتداء ففي جيدها حبل هو الخبر وحبل فاعل به، ويجوز أن يكون في جيدها خبراً مقدّماً وحبل مبتدأ مؤخراً، والجملة حالية أو خبر ثان. والجيد العنق ويجمع على أجياد. وقوله تعالى: {من مسد} صفة لحبل والمسد ليف المقل، وقيل: الليف مطلقاً، وقال أبو عبيد: هو حبل يكون من صوف، وقال الحسن: هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسدد، وكانت تفتله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 607 وقال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف فخنقها الله عز وجل به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار. فإن قيل: إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق كما يبقي اللحم والعظم أبداً في النار. وعن ابن عباس قال: هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً تدخل فيها وتخرج من أسفلها، ويلوي سائرها على عنقها. وقال قتادة: هو قلادة من ودع. وقال الحسن: إنما كان خرزاً في عنقها. وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت: واللات والعزى لانفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة. وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيده بحبل من مسد والمسد الفتل، يقال: مسد حبله يمسده مسداً، أي: أجاد فتله والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة: * ... مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما ترى ما رأتك قال صلى الله عليه وسلم «ما رأتني لقد أخذ الله تعالى بصرها» عني وكانت قريش إنما تسمي محمداً صلى الله عليه وسلم مذمما ثم يسبونه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ألاتعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش يهجون مذمماً وأنا محمداً» . انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الأذى ويحلم عليهم فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) تنبيه: احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار، فإنه قد صار مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه. وقد تضمنت هذه الآيات الأخبار عن الغيب بثلاثة أوجه: أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسران وقد كان ذلك. ثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان ذلك. ثالثها: الإخبار عنه بأنه من أهل النار وقد كان ذلك، لأنه مات على الكفر هو وامرأته ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفاً من بعيد مخافة عدوى العدسة وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون، ثم احتملوه إلى أعلى مكة وأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة. وقيل: إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم، أو من الضريع وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه. وقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 608 البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» . حديث موضوع. سورة الإخلاص مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّي، وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفاً. {بسم الله} الذي له جميع الكمال ذي الجلال والجمال {الرحمن} الذي أفاض على جميع خلقه عموم الأفضال {الرحيم} الذي خص أهل وداده من نور الإنعام بالإتمام والأكمال. واختلف في سبب نزول سورة {قل هو الله أحد} فروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب: أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلى من تدعنا يا محمد؟ فقال: إلى الله تعالى، قال: صفه لنا، أمن ذهب هو أم من فضة أم من حديد أم من خشب فنزلت، واهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامر من الطفيل بالطاعون. وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإنّ الله تعالى أنزل صفته في التوراة فأخبرنا من أي: شيء هو، وهل يأكل ويشرب، ومن ورث ومن يرثه فنزلت. { { تنبيه: هو ضمير الشأن وهو مبتدأ وخبره الله، وأحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله تعالى على جميع صفات الكمال؛ إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن التركيب والتعدّد وما يستلزم أحدهما كالجسيمة والتحيز والمشاركة في الحقيقة، وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامّة المقضية للألوهية. فائدة: جاء في الواحد عن العرب لغات كثيرة، يقال: واحد وأحد ووحد ووحيد ووحاد وأحاد وموحد وأوحد، وهذا كله راجع إلى معنى الواحد، وإن كان في ذلك معان لطيفة ولم يجيء في صفات الله تعالى إلا الواحد والأحد. وقوله تعالى: {الله} ، أي: الذي ثبتت إلهيته وأحديته لا غيره مبتدأ خبره {الصمد} وأخلى هذه الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى، أو الدليل عليها. والصمد: السيد المصمود إليه في الحوائج، والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلوهية ولا يشارك فيها وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق لا يستغنون عنه، وهو الغني عنهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الصمد هو الذي لا جوف له، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب، وقال الربيع: هو الذي لا تعتريه الآفات، وقال مقاتل بن حبان: هو الذي لاعيب فيه، وقال قتادة: هو الباقي بعد فناء خلقه، وقال سعيد بن جبير: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقال السدّي: هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب. تقول العرب: صمدت فلاناً أصمده صمداً بسكون الميم إذا قصدته. وعن أبيّ بن كعب: هو الذي {لم يلد} لأنّ من يلد سيموت، ومن يرث يورث عنه ففسر الصمد بما بعده. وينبغي أن تجعل هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 609 التفاسير كلها تفسيراً واحداً فإنه متصف بجميعها فكونه لم يلد لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى من يعينه، أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه لدوامه في أبديته، والاقتصار على الماضي لوروده ردّا على من قال الملائكة بنات الله، أو العزيز أو المسيح أو غيره. ولما بين أنه لا فصل له ظهر أنه لا جنس له فدل عليه بقوله تعالى: {ولم يولد} لأنه لو تولد عنه غيره تولد هو عن غيره كما هو المعهود والمعقول، فهو قديم لا أوّل له، بل هو الأوّل الذي لم يسبقه عدم لأنّ الولادة تتكوّن ولا تتشخص إلا بواسطة المادّة وعلاقتها وكل ما كان مادّياً أو كان له علاقة بالمادة كان متولداً عن غيره، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك. {ولم يكن} ، أي: لم يتحقق ولم يوجد بوجه من الوجوه ولا بتقدير من التقادير {له} ، أي: خاصة {كفواً} ، أي: مثلاً ومساوياً {أحد} على الإطلاق، أي: لا يساويه في قوّة الوجود لأنه لو ساواه في ذلك لكانت مساواته باعتبار الجنس والفصل، فيكون وجوده متولداً عن الازدواج الحاصل من الجنس الذي يكون كالأمّ، والفصل الذي يكون كالأب، وقد ثبت أنه لا يصح بوجه من الوجوه أن يكون في شيء من الولادة، لأنّ وجوب وجوده لذاته فانتفى أن يساويه شيء. وكان الأصل أن يؤخر الظرف؛ لأنه صلة لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم تقديماً للأهمّ، ويجوز أن يكون حالاً من الممتكن في كفؤاً، أو خبراً، أو يكون كفؤاً حالاً من أحد وعطف هاتين الجملتين على الجملة التي قبلهما، لأنّ الثلاث شرح الصمدية النافية لأقسام الأمثال فهي كالجملة الواحدة. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤاً أحد» . وقرأ حمزة بسكون الفاء والباقون بضمها، وقرأ حفص كفواً بالواو وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة وقف بالواو. وروي في فضائل هذه السورة أحاديث كثيرة منها ما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري «أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} يردّدها فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقللها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» . فإن قيل: لم كانت تعدل ثلث القرآن؟ أجيب: بأن القرآن أنزل أثلاثاً ثلث أحكام، وثلث وعد ووعيد، وثلث أسماء وصفات فجمعت هذه السورة أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات. وقيل: إنها تعدل القرآن كله مع قصر متنها وتقارب طرفيها، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى بذلك دليلاً لمن اعترف بفضلها. ومنها ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ في صلاتهم فيختم ب {قل هو الله أحد} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله تعالى يحبه» . ومنها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} فقال صلى الله عليه وسلم وجبت قلت: ما وجبت؟ قال: الجنة» . ومنها ما روى أنس أيضاً «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 610 قال: من قرأ {قل هو الله أحد} خمسين مرة «غفرت ذنوبه» . ومنها ما روى سعيد بن المسيب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرّات بنى الله له قصراً في الجنة، ومن قرأها عشرين مرّة بنى الله له قصرين في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرّة بنى الله له ثلاث قصور في الجنة، فقال عمر: إذن تكثر قصورنا فقال صلى الله عليه وسلم أوسع من ذلك» . ومنها ما رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ {قل هو الله أحد} بعد صلاة الصبح اثنتى عشرة مرّة فكأنما قرأ القرآن أربع مرّات، وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {قل هو الله أحد} «في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة» . وقد أفردت أحاديثها بالتأليف وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب. ولها أسماء كثيرة، وزيادة الأسماء تدل على شرف المسمى. أحدها: أنها سورة التفريد، ثانيها: سورة التجريد، ثالثها: سورة التوحيد، رابعها: سورة الإخلاص، خامسها: سورة النجاة، سادسها: سورة الولاية، سابعها: سورة النسبة، لقولهم: أنسب لنا ربك، ثامنها: سورة المعرفة، تاسعها: سورة الجمال، عاشرها: سورة المقشقشة، حادي عشرها: سورة المعوذة، ثاني عشرها: سورة الصمد، ثالث عشرها: سورة الأساس، قال: أسست السموات السبع والأرضين السبع على {قل هو الله أحد} ، رابع عشرها: المانعة لأنها تمنع فتنة القبر ونفحات النار، خامس عشرها: سورة المحتضر لأنّ الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت، سادس عشرها: المنفرة لأن الشياطين تنفر عند قراءتها، سابع عشرها: سورة البراءة لأنها براءة من الشرك، ثامن عشرها: المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد، تاسع عشرها: سورة النور لأنها تنوّر القلب المكمل للعشرين سورة الإنسان قال صلى الله عليه وسلم «إذا قال العبد: الله، قال الله: دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي» . فنسأل الله تعالى أن يجيرنا من عذابه، ويدخلنا الجنة نحن وجميع الأحباب بغير حساب؛ لأنه كريم حليم وهاب. وما رواه البيضاوي من أنها تعدل ثلث القرآن فرواه البخاري، ومن أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرؤها الخ فرواه الترمذي والنسائي وغيرهما. سورة الفلق مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة، وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفاً. {بسم الله} الذي له جميع الحول {الرحمن} الذي استجمع كمال الطول {الرحيم} الذي أتم على أهل ودّه جميع النول. " واختلف في سبب نزول سورة {قل أعوذ برب الفلق} فقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم: كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فدنت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم وعدّة أسنان من مشطه وأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هذه و {قل أعوذ برب الناس} فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 611 وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طب، أي: سحر حتى كأنه يخيل إليه أنه صنع شيئاً وما صنعه، وأنه دعى ربه ثم قال: أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، فقالت عائشة رضي الله عنها: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيماذا، قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في ذروان، وذروان بئر بني زريق، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأنّ ماءها نقاعة الحناء ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين، قالت: فقلت: يا رسول الله هل أخرجته؟ قال: أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس منه شراً» . وعن زيد بن أرقم قال: «سحر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى ذلك أياماً فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك وعقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال، قال: فما ذكر ذلك اليهودي ولا أرى وجهه قط» . وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة فإذا فيها مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم وأسنان مشطه» . وعن مقاتل والكلبي: كان ذلك في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة، وقيل: كانت مغروزة بالإبرة فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشر آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها فقام صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال. وروي: أنه لبث فيه ستة أشهر اشتدّ عليه بثلاث ليال فنزلت المعوّذتان، وروي: أنه كان يخيل له أنه يطأ زوجاته، وليس بواطىء قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السحر. وعن أبي سعيد الخدري: «أنّ جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، اشتكيت، قال: نعم، قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شرّ كل نفس أو عين حاسد، والله يشفيك بسم الله أرقيك» . فإن قيل: المستعاذ منه هل هو بقضاء الله وقدره، أو لا فإن كان بقضاء الله وقدره فكيف أمر بالاستعاذة مع أن ما قدر لا بدّ واقع؟ وإن لم يكن بقضاء الله وقدره فذلك قدح في القدرة؟ أجيب: بأنّ كل ما وقع في الوجود فهو بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالتعوّذ والرقي من قضاء الله يدل على صحة ذلك ما روى الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل يردّ من قضاء الله شيئاً؟ قال: هو من قدر الله» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن عمر: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، ومعنى أعوذ: أستجير وأعتصم وأحترز، والفلق: الصبح في قول الأكثرين، ومنه قوله تعالى: {فالق الإصباح} (الأنعام: 96) لأنه ظا هر في تغير الحال، ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفناء، والهلاك بالبعث والأحياء. وقال الملوي: الفلق بالسكون والحركة كل شيء انفلق عنه ظلمة العدم، وأوجد من الكائنات جميعاً. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سجن في جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال الضحاك: يعني الخلق، وقيل: المطمئن من الأرض وجمعه: فلقان مثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 612 خلق وخلقان، وقيل: الفلق الجبال والصخور وتنفلق بالمياه، أي: تنشق وقيل: هو التفليق بين الجبال لأنها تنشق من خوف الله تعالى. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى، لأن الإعادة من المشارّ تربية. ولما كانت الأشياء قسمين: عالم الخلق وعالم الأمر، وكان عالم الأمر خيراً كله فكان الشر منحصراً في عالم الخلق خصه بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها: {من شر ما خلق} فخص عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشر فيه يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول ما وغيره من سائر الحيوانات كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم، وتارة طبيعياً كإحراق النار، وإهلاك السموم. وقيل: المراد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقاً شراً منه، ولأنّ السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل: من شر كل ذي شر. وقوله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} فيه أوجه: أحدها: ما روي عن عائشة قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح حسن فعلى هذا المراد به القمر إذا خسف وأسود وذهب ضوءه، أو إذا دخل في المحاق وهو آخر الشهر، وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة. ثانيها: ما روي عن ابن عباس: أنّ الغاسق الليل إذا وقب، أي: أقبل بظلمته من المشرق، وسمي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار. والغسق: البرد، وإنما أمر بالتعوّذ من الليل لأنّ فيه الآفات ويقل: الغوث، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: أعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العدوّ، وفيه يتم السحر، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه. ثالثها: إنه الثريا إذا سقطت وغابت، ويقال: أنّ الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها، فلهذا أمر بالتعوّذ من الثريا عند سقوطها. رابعها: أنه الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه والوقب الثقب، ومنه: وقبت الثريد. ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك عقب ذلك بقوله تعالى: {ومن شرّ النفاثات في العقد} ، أي: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين عليها، والنفث: النفخ مع ريق. وقال أبو عبيدة: النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل: ما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ أجيب: بثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهنّ في ذلك. ثانيها: أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهنّ. ثالثها: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى: {إنّ كيدكنّ عظيم} (يوسف: 28) تشبيهاً لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك. تنبيه: اختلف في النفث في الرقي، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ويدل عليه حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين» . وروى محمد بن حاطب: «أنّ يده احترقت فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام زعم أنه لم يحفظه» . وروى «أنّ قوماً لدغ رجل منهم فأتوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 613 وسلم فقالوا: هل فيكم من راق؟ قالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ، فأخذوه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما يدريك أنها رقية خذوا واضربوا لي معكم بسهم» . وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي، وأجازوا النفخ بلا ريق. وقال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وقيل: إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان فلا يضر، وليس بمذموم ولا مكروه بل هو مندوب إليه. ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد، وهو تمني زوال نعمة المحسود للحاسد، أو غيره قال تعالى: {ومن شرّ حاسد} ، أي: ثابت الاتصاف بالحسد معروف فيه، وأعظم الحساد الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات، ثم قيد ذلك بقوله تعالى: {إذا حسد} ، أي: إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره. وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وفي إشعار الآية إدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأنّ خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً. فإن قيل: لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ أجيب: بأنّ النفاثات عرفت لأنه كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض وكذلك كل حاسد لا يضر. وربّ حسد محمود وهو الحسد في الخيرات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين» الحديث. وقال أبو تمام: وما حاسد في المكرمات بحاسد. وقال آخر: إن العلا حسن في مثلها الحسد. فائدة: قال بعض الحكماء: الحاسد بارز ربه من خمسة أوجه: أولها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة. ثالثها: إنه ضاد فعل الله تعالى إن فضل ببره من شاء، وهو يبخل بفضل الله تعالى. رابعها: أنه خذل أولياء الله تعالى، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. خامسها: أنه أعان عدوّ الله إبليس، والحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة، ولا ينال في الدنيا إلا جزعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً واحتراقاً، ولا ينال من الله تعالى إلا بعداً ومقتاً. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين» . وقيل: المراد بالحاسد في الآية اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل: قوله تعالى: {من شر ما خلق} تعميم في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ أجيب: بأنه قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمرهم، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به، وقالوا: شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر وأخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوّام أنه صلى الله عليه وسلم قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، ألا والبغضاء هي الحالقة» . فنسأل الله تعالى أن يحفظنا ومحبينا منه إنه كريم جواد. وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما» . وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وإنك إن تقرأ سورتين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 614 لا أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوّذتين» . وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوّذون؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم قال: {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ بربّ الناس} . وما رواه الزمخشري ولم يقله البيضاوي هنا لكن قال في آخر السورة الآتية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى» حديث موضوع. سورة الناس مكية وهي ست آيات وعشرون كلمة وتسعة وتسعون حرفاً {بسم الله} المحيط بكل ما بطن كإحاطته بكل ظاهر {الرحمن} الذي عمت نعمته كل باد وحاضر {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بإتمام النعمة في جميع أمورهم الأوّل منها والأثناء والآخر. ولما أمر الله تعالى نبيه بالاستعاذة مما تقدّم أمره أن يستعيذ من شر الوسواس بقوله تعالى: {قل} ، أي: يا أشرف المرسلين {أعوذ} ، أي: اعتصم والتجئ {برب} ، أي: مالك وخالق {الناس} وخصهم بالذكر وإن كان رب جميع المحدثات لأمرين: أحدهما: أنّ الناس يعظمون فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: أنه أمر بالاستعاذة من شرهم فاعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم. قال الملوي: والرب من له ملك الرق، وجلب الخيرات من السماء والأرض وإنقاذها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب. { { وقوله تعالى: {ملك الناس} إشارة إلى أنّ له كمال التصرف ونفوذ القدرة، وتمام السلطان فإليه الفزع، وهو المستغاث والملجأ والمنجا والمعاد. وقوله تعالى: {إله الناس} إشارة إلى أنه تعالى كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في ألوهيته أحد، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، فإنّ الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة الذي هو بمعنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال. والملك هو الآمر والناهي المعز المذل إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال، وأمّا الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى، ولتضمنها لجميع معاني الأسماء الحسنى كان المستعيذ جديراً بأن يعاذ، وقد يوقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الواحدانية لأنّ من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة علم أنّ له مربياً، فإذا درج في العروج في درج معارفه سبحانه علم أنه غني عن الكل والكل إليه محتاج، وعن أمره تعالى تجري أمورهم فيعلم أنه ملكهم، ثم يعلم بانفراده بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها. فائدة: قد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من مالك، بخلاف الفاتحة كما مضى لأنّ المالك إذا أضيف إلى اليوم أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، وأنه لا أمر لأحد معه، ولا مشاركة في شيء من ذلك، وهو معنى الملك بالضم. وأمّا إضافة المالك إلى الناس فإنها لا تستلزم أن يكون ملكهم، فلو قرئ به هنا لنقص الملك بالضم، وأطبقوا في آل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 615 عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه، لأنّ المقصود من السياق أنه سبحانه يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء. والملك بكسر الميم أليق بهذا المعنى، وأسرار كلام الله تعالى أعظم من أن تحيط بها العقول، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها. تنبيه: يجوز في ملك الناس وإله الناس أن يكونا وصفين لرب الناس، وأن يكونا بدلين، وأن يكونا عطف بيان، واقتصر عليه الزمخشري قال: كقولك: سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس، ثم زيد بياناً بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره: رب الناس كقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} (التوبة: 31) وقد يقال: ملك الناس. وأمّا إله الناس فخاص لا شركة فيه فجعل غاية للبيان. فإن قيل: هلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ أجيب: بأنّ عطف البيان للبيان فكان مظنة للإظهار دون الإضمار. {من شر الوسواس} وهو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به شيطان سمي بالمصدر كأنه وسوس في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي، ويقال لحس الصائد، والكلاب، وأصوات الحلي: وسواس. «والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» . كما في الصحيح فهو الذي يوسوس بالذنب سراً ليكون أحلى، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يوقع الإنسان، فإذا أوقعه وسوس لغيره إن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك، فإذا افتضح ازداد جراءة على أمثال ذلك كأنه يقول: قد وقع ما كنت أحذر من إيقاعه فلا يكون شيء غير الذي كان فيجترئ على الذنب. ولما كان الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل دواء غير السأم وهو الموت، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره تعالى فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه الموسوس عند استعماله الدواء بقوله تعالى: {الخناس} ، أي: الذي عادته أن يخنس، أي: يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرّة بعد مرّة كلما كان الذكر خنس وكلما بطل عاد إلى وسواسه، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً كما حكي عن بعض السلف أنّ المؤمن يضني شيطانه كما يضني الرجل بعيره في السفر. قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه، فإذا ذكر الله تعالى خنس ورجع ووضع رأسه فذلك قوله تعالى: {الذي يوسوس} ، أي: يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير {في صدور الناس} ، أي: المضطربين إذا أغفلوا عن ذكر ربهم من غير سماع. وقال مقاتل: إنّ الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله تعالى على ذلك. وقال القرطبي: وسوسته هي الدعاء إلى إطاعته بكلام خفيّ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت. تنبيه: يجوز في محل {الذي يوسوس} الحركات الثلاث، فالجرّ على الصفة والرفع والنصب على الشم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين. وقوله تعالى: {من الجنة} ، أي: الجنّ الذين هم في غاية الشر والتمرد، والخناس {والناس} ، أي: أهل الاضطراب والذبذبة بيان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 616 للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وأنسي كما قال تعالى: {شياطين الإنس والجنّ} (الأنعام: 112) ويجوز أن يكون بدلاً من الذي يوسوس، أي: الموسوس من الجن والإنس، وأن يكون حالاً من الضمير في يوسوس، أي: حال كونه من هذين الجنسين. وقيل: غير ذلك. قال الحسن: هما شيطانان لنا أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإنّ من الإنس شياطين. فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس. وعن أبي ذر قال لرجل هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس، فقال: أومن الإنس شياطين؟ قال: نعم لقوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ} الآية. وذهب قوم إلى أنّ المراد بالناس هنا الجن سموا ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى: {وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ} (الجن: 6) وكما سموا نفراً في قوله تعالى: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن} (الجن: 1) وكما سموا قوماً نقل الفراء عن بعض العرب أنه قال: وهو يحدّث جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فعلى هذا يكون والناس عطفاً على الجنة ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. والجنة جمع جني كما يقال: أنس وأنسي والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إنّ إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الناس فعلى هذا يكون في صدور الناس عاماً في الجميع. و {من الجنة والناس} بياناً لما يوسوس في صدروهم. وقيل: معنى {من شر الوسواس} الوسوسة التي تكون {من الجنة والناس} وهو حديث النفس. قال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» . وعن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات نزلت الليلة لم ير مثلهنّ قط {أعوذ برب الفلق} و {أعوذ برب الناس} a. وعنه أيضاً أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذ؟ قلت: بلى، قال: {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهم وقرأ {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه ووجه وما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرات» . وعنها أيضاً «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأهما عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها» . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأطراف النهار» . وعن ابن عباس قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي: الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحال المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل» . وعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أذن الله لأحد ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» . لطيفة: نختم بها كما ختم بها الفخر الرازي رحمه الله تعالى تفسيره، وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأمّا في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرب والملك والإله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 617 والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة. والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أنّ مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت. وهذا آخر ما يسره الله تعالى من السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير فدونك تفسيراً كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد جمع من التفاسير معظمها ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها محرّر الدلائل في هذا الفنّ مظهراً لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جنّ، فإذا ظفرت بفائدة شاردة فادع لي بالتجاوز والمغفرة، أو بزلة قلم أو لسان فافتح لها باب التجاوز والمعذرة: *فلا بدّ من عيب فإن تجدنه ... فسامح وكن بالستر أعظم مفضل* *فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له ال ... محاسن قد تمت سوى خير مرسل* وأنا أعوذ بجميع كلمات الله الكاملة التامّة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامّة من كل ما يكلم الدين ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر مستشفعاً إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلاً إليه بسيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وبالتوبة الممحصة للآثام وبما عنيت به من مصابرتي على تواكل من القوي، وتخاذل من الخطأ، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين، وعرق الجبين في عمل هذا التفسير المبين عن حقائقه المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه، المكتنز بالفوائد التي لا توجد إلا فيه المحيط بما لا يكتنه من بديع ألفاظه، ومعانيه مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول متوسط الحجم، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها. هذا ولسان التقصير في طول مدحه قصير: أعيذه بالمصطفى ... من حاسد قد هما بذمّه وقد غدا ... من أجله مهتما فليس يبغي ذمّه ... إلا بغيض أعمى كفاه ربي شرهم ... وزان منه الرسما وزاد في تدبيرهم ... تدميرهم والغما وردّهم بغيظهم ... فلم ينالوا غنما وزاده سعادة ... ولازمته النعمى فنسأل الله الكريم الذي به الضر والنفع، والإعطاء والمنع أن يجعله لوجهه خالصاً، وإن يداركني بألطافه إذ الظل أضحى في القيامة قالصاً، وأن يتجاوز عني إنه السميع العليم، وأن يرفع به درجتي في جنات النعيم، وأن يجعله ذخيرة لي عنده إنه ذو الفضل العظيم، وأن ينفع به من تلقاه بالقبول إنه جواد كريم، وأن يخفف عني كل تعب ومؤنة، وأن يمدّني بحسن المعونة، وأن يهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 618 لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، وأن يتجاوز عن فرطاتي يوم التناد، ولا يفضحني بها على رؤوس الأشهاد أنا ووالدي وأولادي، وأقاربي وأحبابي، ويحلنا دار المقام من فضله بواسع طوله وسابغ نوله إنه هو الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم، وهذا شيء ما كان في قدرتي فإني والله معترف بقصر الباع، وكثرة الزلل، ولكن فضل الله وكرمه لا يعلل بشيء من العلل. فلهذا رجوت أن أكون متصفاً بإحدى الخصال الثلاث التي إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا منها، بل أرجو من الله الكريم، اجتماعها إنه جواد كريم حليم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وكان الفراغ من تأليفه يوم الاثنين المبارك، ثالث عشر صفر الخير، من شهور سنة ثمان وستين وتسعمائة من الهجرة النبوّية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، على يد مؤلفه فقير رحمة ربه القريب محمد بن أحمد الشربيني الخطيب غفر الله تعالى له ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه والمسلمين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين، والمرسلين والصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. * * * يقول المتوسل إلى الله بالجاه الصديقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي، مصحح دار الطباعة جمل الله طباعه قد تم طبع السراج المنير بعون الله الملك القدير، وهذا الكتاب العجيب المنسوب للإمام الخطيب قد اعتنت بتحريره دار الطباعة، وبذلت في تنقيره غاية الاستطاعة، فأزالت عنه ربقة التحريف، وأطلقته من أسر التصحيف بمراجعة أصول أساليبه، والبحث عن صواب تراكيبه، فحصلت بركاته وعمت نفحاته، وأنار الآفاق بدر وجوده، وروى الظماء قاموس فضله وجوده، وتحلت بصحاح جواهر معانيه أجياد مباشريه ومبتاعيه، ثم إنّ تمام بيعه في اثنا طبعه أوّل دليل على عموم نفعه، وهذا كما يقع في خلدي ويقيني من كرامات مؤلفه محمد بن أحمد الشربيني وكان تمام طبعه بدار الطباعة العامرة الكائنة ببولاق مصر القاهرة على ذمّة هذه المصلحة الميمونة التي هي بطالع السعد مقرونة في سنة خمس وثمانين ومائتين وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف، مشمولاً بنظر المجدّ في نفع أوطانه، الباذل مروءته في قضاء حاج إخوانه من عليه أحاسن أخلاقه تثنى حضرة حسين بك حسني، فإنه لا يزال باحثاً عن عموم المنافع عند وجود المقتضيات، وزوال الموانع في ظل من تعطرت الأفواه بطيب ثنائه، وبلغ من كل وصف جميل حدّ انتهائه، ومحا ظلم الظلم بسنا صورته، وأثبت مراسم العدل بحسن سيرته، وأفاض على أهل مملكته غيوث إنعامه وإحسانه، وشملهم بعظيم رأفته ومزيد امتنانه، وبسط لهم بساط عدله، وحلاهم بحلي جوده وفضله. عزيز الديار المصرية، وحامي حمى حوزتها النيليه بشدّة بأسه وعزمه الجلي، سعادة أفندينا إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي لا زال ملحوظاً بعين العناية الإلهية، موفقاً لسائر الآراء الخيرية محفوظ الجناب، مقصود الأعتاب، مسروراً بسائر الأنجال بجاه خاتم رسل ذي الجلال. ولما تهيأ للتمام والكمال، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 619 ولبس من حسن الطبع حلة الجمال انطلق لسان اليراع يقرظه، وبعين الإطراء يلحظه فقال: *كلام الله أفضل ما رواه ... رسول الله عن جبريل قطعا* *عجائبه يحار اللب فيها ... وليست تنقضي بدعاً وصنعا* *وخادمه بتفسير المعاني ... أجل الناس منقبة ووضعا* *ولا سيما الخطيب أبو المعالي ... مبين الآي أفذاذاً وشفعا* *هو التفسير إيضاحاً وبسطاً ... ومتبعوه أرقى الناس طبعا* *ولما تم حسناً قلت أرخ ... وفي أوب الخطيب وتم طبعاً* فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المؤيد بباهر المعجزات، وعلى أصحابه الكرام البررة، وآل بيته المنتخبين الخيرة ما توالى الجديدان وتعاقب النيران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 620