الكتاب: الإنجاد في أبواب الجهاد وتفصيل فرائضه وسننه وذكر جمل من آدابه ولواحق أحكامه المؤلف: محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ، أبو عبد الله بن المناصف الأزدي القرطبي (المتوفى: 620هـ) المحقق: (مشهور بن حسن آل سلمان ومحمد بن زكريا أبو غازي) (ضبط نصه وعلق عليه ووثق نصوصه وخرج أحاديثه وآثاره) الناشر: دار الإمام مالك، مؤسسة الريان عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الإنجاد في أبواب الجهاد ابن المناصف الكتاب: الإنجاد في أبواب الجهاد وتفصيل فرائضه وسننه وذكر جمل من آدابه ولواحق أحكامه المؤلف: محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ، أبو عبد الله بن المناصف الأزدي القرطبي (المتوفى: 620هـ) المحقق: (مشهور بن حسن آل سلمان ومحمد بن زكريا أبو غازي) (ضبط نصه وعلق عليه ووثق نصوصه وخرج أحاديثه وآثاره) الناشر: دار الإمام مالك، مؤسسة الريان عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] كتاب الانجاد في أبواب الجهاد تصنيف الإمام المجاهد أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي القرطبي المعروف بابن المناصف -رحمه الله تعالى- (563-620هـ) ضبط نصّه وعلّق عليه ووثق نصوصه وخرّج أحاديثه وآثاره مشهور بن حسن آل سلمان ومحمد بن زكريا أبو غازي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم صلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله وسلَّم تسليماً الحمد للِّه ربِّ العالمين، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت؛ وإليه أنيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ونسألُ الله الصلاة على رسول الله وخاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الإمام المهدي (1) ، وعن الأئمة الخلفاء الراشدين. أمَّا بعد: فإن تقوى الله والتزام أمره هو جماع الخير، ومِلاكُ الأمر، وفوزٌ في الدَّارين، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] . ولمَّا آتى الله في ذلك عبده: السيّد الأجل، المجاهد في سبيل الله، الحريص (2) في التزام حدود الله أبا عبد الله ابن السيّد الأجلِّ أبي حفصٍ ابن الإمام الخليفة أمير المؤمنين -رضي الله عنهم-، أوفر حظٍّ، وهداه من ذلك إلى أرشد سبيل، فاعتصم -في مراقبة حدود الشرع فيما يأتي ويذر (3) - بالعُروة التي لا انفصام لها، وكان مما يسَّره الله له واستعمله فيه ملازمة أجلّ الأعمال، وأفضل أنواع الطاعات: جهاد عدو الله في عقر دورهم، وحراسة المسلمين في أقصى ثغورهم، تقبَّل الله قصده وعمله، وأبلغه من مراتب السعادة أمله؛ أجدّ في العزم، وأحفى في الإرشاد على تقييد مجموعٍ في الجهاد وأبوابه، وتفصيل فرائضه وسننه، وذكر   (1) في هامش النسخة عبارة لم أستطع قراءتها، إلا أنه في أولها: يعني بالمهدي .... (2) في هامش النسخة عبارة لم أستطع قراءتها. (3) في هامش النسخة كلمة لم أستطع قراءتها، وبعدها: أو كلمة نحوها بالأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 جُملٍ من آدابه ولواحق أحكامه، استظهاراً على ما يخصه من ذلك فيما وليه وأخلص فيه عمله، وسباقاً لإحراز الأجرين والجمع بين الحسنيين. فانتدبت لذلك موجهاً قصدي وعملي في سبيل الله، ومشاركاً قدر وسعي ولو بالنية والقول في جهاد عدو الله، وأضرع مع ذلك إلى الله ربنا -جل جلاله- في قبول ذلك لوجهه الكريم، وأن يوفر (1) الأجر، ويجزل المثوبة لسيدنا المبارك، فيما دعا من ذلك إليه، ودلَّ برأيه الموفق عليه، فجمع له بكرمه -تعالى- فضيلة العلم إلى الجهاد، وتوخّي القول في الطاعة إلى العمل {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت: 33] . ومِنَ الله ربِّنا جلَّت قدرته نرجوا الإجابة وكمال الزُّلْفَى (2) بِمَنِّه. ولمّا توخيتُ أن يكون هذا المجموع مبنياً على دلائل الكتاب والسُّنّة، مُنزَّهاً عن شبه التقليد واتباع مذهبٍ بغير دليل، قدّمت في عُمَدِ أبوابه، وأصول مسائله، ذِكْرَ ما بُنِيَتْ عليه من الكتاب والسنة وتجرَّد، وما يكون فيه من ذلك خلافٌ سَوْقَ (3) المشهور من مذاهب العلماء، والإشارةَ إلى مستند كل فريقٍ من وجوه الأدلة، بأقرب اختصار يمكن، وربما نَبَّهتُ في مواضع من ذلك على الأرجح عندي، ووجه الترجيح متى أمكن، مالم تدع في كشف وجهِ الترجيح الضرورة لإطالةٍ، أو لم يظهر عندي للترجيح وجهٌ، فأترك القول فيه، وقد أقْتَصِر تارة في فروع المسائل، فلا أتعرض في بعضها لذكر الخلاف، إمّا لأن المذكور أظهر دليلاً، وتتبع الخلاف فيه يُفْضي إلى التطويل، وإما لأن خلافاً في ذلك لا أقف عليه، وهو مع ذلك حَرِيٌّ أن يكون؛ لأن ما لا خلاف فيه: إما لأنه إجماع، أو لأنَّ الخلاف في مثله غير معروف عند أهل العلم، فقد أُنبّه على أنه كذلك -إن شاء الله-.   (1) بعدها في هامش المنسوخ كتب الناسخ: «كلمة متآكلة» . (2) في منسوخ أبي خبزة: «الرِّضا» ، ثم صحَّحها في الهامش إلى: «الزُّلْفى» . (3) سَوْقَ، معطوف على ذِكر. كما في هامش المنسوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ومهما ذكرت دليلاً أو توجيهاً لقولٍ فهو على ضربين: منه ما وقفت عليه نقلاً، ومنه ما استدللت عليه انتزاعًا من أصولهم (1) ، وإنما نبهت على هذا رفعاً لعمدة الحمل فيه. وأكثر ما أوردته دليلاً في هذا من حديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو حجّة ثابتة؛ لأني قد خرَّجته من «الصحيحين» : البخاري ومسلم، أو مما هو صحيحٌ من غيرهما، وإن كان قد يكون في بعضها اختلاف بين أهل الحديث في إثبات القول بصحَّته؛ لاختلافهم في بعض رجال سنده، إلاّ أن ما هذه سبيلهُ، مما لم يَتَرقَّ إلى الصِّحَّة المتفق عليها عندهم؛ فله مع ذلك درجة في العلو والحُجَّة عن كثير مما يتسامح به بعض أصحاب المذاهب في كتبهم، ثم أرجو أن يكون وقوعُ هذا النوع الذي اعتذرتُ منه في هذا المجموع قليلاً جداً، وأكثر ما يقع إن وجد في أبواب الرَّغائب والآداب، مما لا يقع مواقع الفصل في الأحكام من الحلال والحرام، والواجب والمحظور (2) . ومع هذا؛ فأنا -إن شاء الله- أنسبُ كل حديثٍ إلى الأصل الذي نقلته منه، كالبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبي داود، والترمذي، وغيرهم؛ ليكون ذلك سهلاً لمن أراد الوقوفَ عليه هنالك، بحول الله وقوّته، وسَمَّيْتُ هذا المجموع، ملاءمة لِقصدي، وملاحظةً لما أرجو أن تبلغ به عند الله نِيَّتي: كتاب «الإنجاد في أبواب الجهاد» . وقَسَّمتُ فصوله ومسائله على عشرة أبواب: الباب الأول: في حدِّ الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه: من فرضٍ على الأعيان، وعلى الكفاية، ونَفْلٍ، وصِفَةِ مَنْ يجب ذلك عليه، وهل تجب الهجرة؟   (1) بعدها في الأصل كلمة مَمْحُوَّة. وكذا في هامش نسخة أبي خبزة. (2) بيّنَّا درجة هذه الأحاديث، وكلام الأئمّة النقاد عليها، مع ذكر عللها، على وجه فيه إيجاز، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الباب الثاني: في فضل الجهاد والرِّباط، والنفقة في سبيل الله، وماجاء في طلب الشهادة وأجر الشهداء. الباب الثالث: في صحة الجهاد، وما يَحِقُّ فيه من طاعة الإمام، ومياسرة الرفقاء، وما جاء في آداب الحرب، والدعوة (1) قبل القتال. الباب الرابع: في وجوب الثبوت والصبر عند اللقاء، وحكم المبارزة، وما يحرم من الإنهزام، وهل يباح الفرار إذا كثر عدد الكفار؟ الباب الخامس: فيما يجب، وما يجوز أو يحرم من النكاية في العدو، والنيل منهم، ومعرفة أحكام الأسرى والتصرف فيهم. الباب السادس: في الأمان وحكمه، وما يلزم من الوفاء به، والفرق بينه وبين مواقع الخديعة في الحرب، وهل تجوز المهادنة والصلح؟ الباب السابع: في الغنائم وأحكامها، ووجه القسم، ومن يستحق الإسهام، وبم يستحق، وسهمان الخيل، وما جاء في تحريم الغُلول. الباب الثامن: في النَّفَل والسَّلَب، وأحكام الفئ والخمس، ووجوه مصارفهما، وتفصيل أحكام الأموال المستولى عليها من الكفار. الباب التاسع: في حكم ضرب الجزية، وشرط قبولها، وممَّن يحق أن تُقبل من أصناف الكفر، ومقاديرها على الرؤوس، وما يجب لأهلها وعليهم. الباب العاشر: في المرتدين والمحاربين، وقتال أهل البغي، وتفصيل أحكامهم، وذكر ما يتعلق بجناياتهم، ويلزم من عقوباتهم. وبالله -تعالى- نستعين، وعليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. *****   (1) كذا في الأصل والمنسوخ -وهو في الكتاب (ص 133) -: «والأمر بالدعوة قبل القتال» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الباب الأول في حدِّ الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه من فرض على الأعيان وعلى الكفاية، ونَفل، وصفة من يجب ذلك عليه، وهل تجب الهجرة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 قال الله -ربنا جل جلاله-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10-13] . وخرَّج النَّسائي وأبو داود كلاهما عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» ، قال النسائي: «بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» (1) . *****   (1) أخرجه النسائي في «المجتبى» (6/7 رقم 3096) ، وأبو داود في «سننه» (رقم 2504) ، وأحمد في «المسند» (3/124، 153، 251) ، والدارمي في «مسنده» (رقم 2436) ، وابن حبان (1618- موارد) ، والحاكم في «المستدرك» (2/81) ، وابن عدي في «الكامل» (3/916) ، والجصّاص في «أحكام القرآن» (4/314) ، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/233) ، والبغوي في «شرح السنة» (12/378) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/20) ، وابن عساكر في «الأربعين في الحث على الجهاد» (ص 103) الحديث رقم (31) ، والضياء في «المختارة» (1902 و1905) من طرقٍ عن أنس بن مالك. وأخرجه النسائي (6/51) بدون لفظ «المشركين» . وفي بعض روايات الحديث: «جاهدوا المشركين بأيديكم» . وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فصلٌ: في معنى الجهاد وحدِّه لغة وشرعاً قال الله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، وقال -تعالى-: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] ، وقال -تعالى-: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] . فالجهاد في اللغة، أصله: الجَهْد (1) ، وهو: المَشَقَّة، يقال: جهدتُ الرجلَ: بَلغْتُ مشقته، وكذلك الجهاد في الله -تعالى-؛ إنما هو بذل الجهدِ في إذلالِ النفس وتذليلها في سُبلِ الشرع، والحملِ عليها بمخالفة الهوى، ومن الركون إلى الدَّعة واللذات، واتباع الشهوات (2) . خرَّج الترمذي عن فضالة بن عُبيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المجاهد من جاهد نَفْسَه» (3) .   (1) الجِهاد -بكسر الجيم- مصدر: جاهدت العدوَّ مجاهدة، وجهاداً، وأصله: جيهاد، كقيتال، فخُفِّفَ بحذف الياء، وهو مشتق من الجَهْد -بفتح الجيم- وهو التّعب والمشقة، لما فيه من ارتكابها، أو من الجُهد -بالضّم- وهو الطاقة، لأنّ كل واحد منهما بذل طاقته في دفع صاحبه، قاله القسطلاني في «إرشاد الساري» (5/30) . (2) انظر: «لسان العرب» (3/134) ، و «المحيط في اللغة» (3/369) ، و «المصباح المنير» (ص 155) مادة (جهد) . وانظر تعريفه الاصطلاحي في: «تحفة الفقهاء» (3/293) ، «بدائع الصنائع» (6/57) ، «اللباب في شرح الكتاب» (114) ، «شرح الزرقاني على الموطأ» (1/424) ، «فتاوى البرزلي» (2/8) ، «بلغة السالك» للصاوي (1/354) ، «تهذيب الأسماء واللغات» (3/56) ، «فتح الباري» (6/3) ، «شرح منتهى الإرادات» (1/617) . وانظر: «تفسير النيسابوري» (11/126) ، «المفردات» للراغب (101) ، «حاشية الجمل على الجلالين» (3/441) ، «دستور العلماء» (1/291) ، «طلبة الطلبة» (165) ، «القاموس الفقهي» (71) ، «معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية» (1/543-544) ، «أحكام المجاهد بالنفس» (1/26-27) ، «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (1/38-39) . (3) أخرجه الترمذي (رقم 1621) ، وابن حبان (6424) ، وأحمد (6/20) ، والحاكم (2/ 144) من حديث فضالة بن عبيد به. وهو قطعة من حديث أخرجه أحمد (6/21) وابن المبارك في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وخرَّج النسائي عن سبرة بن أبي فاكِهٍ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:.. فذكر حديثاً طويلاً في وسوسة الشيطان للمؤمن، وفيه: «ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد. فهو جهد النفس والمال ... » (1) الحديث. والجهاد في الشرع يقع على ثلاثة أنْحاء: جهادٍ بالقلب، وجهادٍ باللسان، وجهادٍ باليد. والدليلُ على هذه القسمة، وتسمية كل واحدٍ منها جهاداً: ماخرَّجه مسلم (2) ، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحابٌ، يأخذون بسُنَّته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخْلفُ من بعدهم خُلوفٌ، يقولون مالايفعلون، ويفعلون مالايؤمرون، فمن   = «الزهد» (826) -ومن طريقه ابن حبان (4862) ، والبغوي في «شرح السنة» (14) -، وابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص 277) ، ويعقوب بن سفيان الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/341-342) ، والطبراني في «الكبير» (18/ رقم 796) ، والحاكم (1/10-11) ، والبيهقي في «الشعب» (11123) . وأخرجه مطولاً ومختصراً: ابن ماجه (3934) ، والبزار في «مسنده» (3752) وابن منده في «الإيمان» (315) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (131) . والحديث صحيح، انظر: «المشكاة» (34- التحقيق الثاني لشيخنا الألباني -رحمه الله-) ، و «التعليق الرغيب» (2/150) ، و «الصحيحة» (549) ، و «صحيح أبي داود» (1258) . (1) أخرجه النسائي في «المجتبى» (6/21/ رقم 3134) ، وأحمد (3/483) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/187-188) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (5/293) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1043 و 2675) ، وفي «الجهاد» (13) ، وابن حبان (4593) ، والطبراني في «الكبير» (6558) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4246) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (10/ 202) ، من حديث سبرة بن أبي فاكه. وإسناده قوي. وانظر: «صحيح سنن النسائي» (41432) لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. وسبرة بن أبي فاكِه. قال ابن الأثير: هو سبرة بن الفاكِهِ. ويقال: ابن أبي الفاكِه. قيل: إنه مخزومي، وذكر ابن أبي عاصم أنه أسدي، من أسد بن خزيمة، يُعدُّ في الكوفيين. (2) في الهامش: «متآكل في الأصل» . والحديث في «صحيح مسلم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خَرْدل» (1) . فالقول أولاً: في معنى جهاد القلب، وذلك راجعٌ إلى مغالبة الهوى، ومدافعة الشيطان، وكراهية ما خالف حدود الشرع، والعقدِ على إنكار ذلك، حيث لا يستطيع القيام في تغييره بقول ولا فعل، وهذا الضرب واجب على كل مسلم إجماعاً، وهو مما يتناوله قوله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، وقوله -سبحانه-: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] ، وقال -سبحانه-: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل» (2) . الثاني: جهادٌ باللسان، وذلك كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر (3) ، وزجرِ   (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) (50) (80) ، وأحمد في «المسند» (1/458 و 461) ، وأبو عوانة (1/35، 36) ، وابن منده في «الإيمان» (183و 184) ، والطبراني في «الكبير» (9784) ، والبيهقي في «الكبرى» (10/90) ، من حديث أبي رافع، عن ابن مسعود، به. قال السندي: قوله: «ما من نبيٍّ ... » إلخ: لا بُدَّ من تخصيص الكلام بمن آمن من أمته قوم، وإلاّ فقد جاء أنَّ بعضهم ما آمن به أحد، أو آمن به واحد. وكلمة: خُلوف، كعُدُول: جمع خَلْف -بالسكون- كَعَدْل. والخَلْفُ: كل مايجيء بعد من مَضَى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر، وجمع المتحرك أخلاف، والمعنى: يجيء بعد أولئك السَّلف الصالح أناسٌ لا خير فيهم، والله أعلم. (2) سبق تخريجه قريباً. (3) ذكر المصنف في كتابه: «تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام» (320-323) ، أن مراتب تغيير المنكر على خمسة أقسام: 1) التعريف والبيّنة. ... ... 2) الوعظ والتخويف. ... ... 3) الزجر والتقريع باللسان. 4) التغيير بمباشرة اليد. ... 5) التغيير بالضرب وإيقاع التنكيل والعقوبة بالفاعل، وذلك في حقِّ من تلبَّس ولم يقدر على دفعه عنه إلا بذلك. وفصّل في هذه الأقسام الخمسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أهل الباطل، والإغلاظ عليهم، وما أشبه ذلك، مما يجب إبراء القول فيه. وهذا الضرب واجب على المكلَّف بشروط: منها: أن يكون عالماً بطرق الإنكار، ووجه القيام في ذلك، من التَرَفُّقِ تارة، والغلظة أخرى، بحسب المُنكر في نفسه، والأحوال التي تَعترض، فإنْ لم يكن كذلك لم يجب، بل قد يحرم عليه القيام؛ لأنه ربما وقع في أَشدّ مما أنكر (1) ، قال   (1) قرر ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في كتابه المستطاب: «إعلام الموقعين» (4/339-340- بتحقيقي) أنّ إنكار المنكر أربع درجات، هي: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يُزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شرٌّ منه. قال: «فالدرجتان الأولتان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة» . قال: «فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشّطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى الله ورسوله كرمي النّشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاءٍ وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ماهم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها وخِفتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسّحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع؛ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه ونوّر ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التّتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنّما حرّم الله الخمر لأنها تصدّ عن ذكر الله وعن الصّلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم» وانظر في هذا: «الاستقامة» (2/165-168) ، و «مجموع الفتاوى» (20/57-61) ، و «الأمر بالمعروف» (ص 17-18) كلها لابن تيمية. وفصّل المصنف في ذلك في كتابه المفيد «تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام» (ص 320) فقال: «فأمّا إن خيف مع الرّفق فوات عين المنكر، أو اتّصال الاستطالة على مثله لاستخفاف المقوّم عليه وقلّة التفاته ومبالاته، وعلم أن الرّفق لا ينفع في مثل ذلك، وأمن أن يثير الإغلاظ منكراً أشدّ من الحاضر، فينبغي المعالجة بما يقاومه ويصلح به ذلك الأمر من الشدّة والعنف، وبحسب عظم المنكر= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الله -تعالى-: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] ، وقال -سبحانه-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] . ومنها: أن تكون له قوة في نفسه، وحالة يأمن معها أن يُسْطَاع ذلك، فإن لم يكن كذلك لم يجب عليه، لكنه إن فعل صابراً محتسباً قيامه في ذلك عند الله -عز وجل-: صحَّ، وكان مأجوراً. قال الله -عز وجل-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] ، وقال -تعالى-: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] . وخرَّج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر» (1) ، قال فيه: حسن غريب.   = وما يليق في مثله، ويؤدّي إلى إزالة فعله، قال الله -تعالى- في صفة القوم يحبهم ويحبونه ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} » . ثم نقل -رحمه الله- عن شيخه المشتهر بابن أبي درقة -رحمه الله- قال: «كنت مرَّةً في غرَّة الشباب، ومبادي الطلب، فتشاغلت عن إحدى صلاتي العشاء إلى أن شارفت الفوات، فأتيت عَجِلاً إلى بعض المساجد، واعتمدت بعض زواياه، فصلّيتها مبادراً متجوّزاً في بعض أركانها، وإذا بعض الشّيوخ يسارقني النَّظر، بحيث لم أشعر به، فلمّا أتممت صلاتي، وهممت بالانصراف استدعاني، فأتيته، فسألني قليلاً، ثم قال: يا بنيّ، رجلٌ تسلّف دراهم إلى وقتٍ، فلمّا حلّ الأجل، والغريم موسر قادرٌ على الأداء، تهاون بذلك واستخفّ، ولم يزل يتراخى به إلى أن استحق ذمّ التأخير، ثم أتاه بها بعد ذلك ناقصةً، زيُوفاً، فجميعٌ بين جنسي الإساءة في القضاء، فهل يكون لهذا حظٌّ في القبول؟ فما أتم كلامه حتى فهمت مقصده وتعريضه بما فعلت في صلاتي، فخجلت، ثم قلت له: فهمت يا عمّ، فما زاد على أن قال: قم يا بنيّ بارك الله فيك، فعدت لإتمام صلاتي، وأثّر ذلك عندي خير تأثير» . ثم قال: «فهذا النوع من الرِّفق والتلطّف في التّعليم بحسب فهم صاحب النّازلة وما يليق به، أوقع في النفوس وأقرب إلى الإجابة من كثير من العنف والشِّدَّة» . (1) أخرجه الترمذي في «الجامع» (رقم 2174) ، وأبو دواد في «سننه» (رقم 4344) ، وابن ماجه في «سننه» (رقم 4011) ، والخطيب في «التاريخ» (7/238) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (17/405) من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، به. وفيه زيادة عند أبي داود، والخطيب: «أو أمير جائر» . وقال الترمذي: «حسن غريب من هذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومنها: أن يرجو في قيامه كَفَّ ذلك المنكر وإزالته، فإن أَيِسَ من ذلك، فقد قيل: لا يجب عليه -أيضاً- إلا تبرُّعاً. والأظهر عندي في هذا الوجه: أنه يجب عليه القول، وإن كان يائساً من كفّ ذلك المنكر؛ لأن الإنكار أخصُّ فريضةً، لا يسقطه عدم تأثر المنكر عليه، ألا ترى أنّ إنكار القلب حيث لا يستطاع الإنكار بالقول واجبٌ باتفاق، وهو لا أثَرَ له في دفع ذلك المنكر! فكذلك يجب القول إذا أمكنه، وإن لم يؤثر، وأيضاً ففي إعلان الإنكار تقريرُ معالم الشرع، فلو وقع التَّمالؤ في مثل هذا على التَّرْكِ حيث لا [يغني الكف] (1) والإقلاع، لأوشك دروسها. قال الله -عز وجل-: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] ، فالقول إذا قدر عليه واجب، أثّر أو لَم يؤثر (2) .   = الوجه» . وعطية: هو ابن سعد بن جنادة: صدوق يخطئ كثيراً ويدلس، وكان شيعياً مدلساً. كما قال الحافظ في «التقريب» (4616) . فإسناده ضعيف؛ لضعف عطية هذا. ولكن تحسين الترمذي له؛ لأحاديث الباب؛ ففي الباب عن أبي أمامة صدي بن عجلان -رضي الله عنه-. انظر: «صحيح الترمذي» (2174) ، و «صحيح أبي داود» (4344) كلاهما لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (1) كتب أبو خبزة في هامش نسخته: «كلمة غير ظاهرة» ، ولعلها كما أثبتنا. (2) اختلف العلماء فيما إذا كان القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متأكداً من عدم التأثير؛ أو إنَّ أمره ونهيه لا يفيد، ولا يعود بطائل، على قولين: الأول: لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة، وهو قول أبي حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين» (2/280) ، إذ قال -رحمه الله تعالى-: « ... أنْ يعلم أنه لا يفيد إنكاره، ولكنه لا يخاف، فلا تجب عليه الحسبة، لعدم فائدتها، ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين» ، وهو اختيار عزالدين عبد اللطيف بن عبد العزيز المعروف بابن ملك (ت 797هـ) في «مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار» (1/50) حيث قال: «وأما النهي عن المنكر فلوجوبه شرائط منها: أنْ يغلب على ظنه أنَّ نهيه مؤثر لاعبث» ، وإليه مال التفتازاني في «شرح المقاصد» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = (2/281) ، بقوله وهو يتحدث عن شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «منها تجويز التأثير، بأن لا يعلم عدم التأثير قطعاً، لئلا يكون عبثاً واشتغالاً بما لا يعني، فإن قيل: يجب، وإن لم يؤثر، إعزازاً للدين، قلنا: ربما يكون إذلالاً» . الثاني: ويرى بعض العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب في هذه الحالة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وصححه أبو يعلى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وعزاه ابن رجب إلى أكثر العلماء، كما في «لوامع الأنوار البهية» (2/435) ، وهو اختيار المصنّف. يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في «شرح صحيح مسلم» (2/23) : «قال العلماء: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله -عز وجل-: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [المائدة: 99] » . والذي أراه راجحاً في هذه المسالة القول الثاني؛ لما يلي: أولاً: إذا جرى الحديث عن تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدم تأثيره، أريد به ظهور المعروف حينما أمر به، وانتفاء المنكر حينما نهى عنه، وبالعكس، ولكن لننظر في الأمر من وجهة نظر أخرى، وهي أن المسلم -ولو لم يؤثر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأثيراً عاجلاً- لا بدَّ أن يتأثر في شعوره إلى حدٍّ ما، ومن الممكن أن يصير هذا التأثير، سبباً لفعله المعروف، وتركه المنكر فيما بعد، ومن هذه الناحية درس الإمام محمد بن الحسن الشيباني في «شرح السير الكبير» (3/239-240) ، نفسيَّة الأمة المسلمة، مراعاة كاملة، فقال: «وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسعه الإقدام، وإن كان يعلم أن القوم يقتلونه، وأنَّه لا يتفرق جمعهم بسببه؛ لأنَّ القوم هناك مسلمون، معتقدون لما يأمرهم به، فلا بد من أنَّ فعله ينكئ في قلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك» . ثانياً: إذا أهمل السعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة عدم جدواه، تقطعت أسباب الرجاء عن الإصلاح، وهلك المجتمع كله. ثالثاً: لا يصح بناء الحكم الفقهي على (التأثير) و (عدمه) فنقول: يجب الأمر بالمعروف عند حصول التأثير والإفادة، والعكس بالعكس؛ لأن التأثير وعدمه أمر غير ظاهر وغير منضبط، فكم من مأمور بالمعروف يُرجى فيه الخير ومنهيٍّ عن المنكر لا يرجى فيه ذلك، ولا يستجيب الأول ويستجيب الثاني. رابعاً: إن صح القول الأول فيحمل على أنَّ العامة عليهم أن يحافظوا على دينهم وإيمانهم، ولا يصح أن يلقى عليهم أعباء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الخاصة منهم -أيضاً- إن لم يتقدموا إلى ذلك ظلموا أنفسهم وقدراتهم وإمكاناتهم. وانظر بسطاً للمسألة في: «أحكام القرآن» (2/797) ، و «مختصر الفتاوى المصرية» (58) ، و «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/148، 149) ، و «طبقات الحنابلة» (2/280) ، و «الآداب الشرعية» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 خرَّج مسلم، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيِّرُه بيده، فإن لَمْ يستطع فبلسانه، فإن لَمْ يستطع فبِقلْبِه، وذلك أضعف الإيمان» (1) . وعلى هذا الضَّرب حَمَلَ جماعةٌ من العلماء ما أمر الله -تعالى- به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من جهاد المنافقين في قوله -تعالى-: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] ، فهذا إنما يكون في المنافقين بالقول من الزجر والوعيد والتهديد، وما أشبه ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بقتلهم؛ لِمَا كانوا يظهرونه من الإسلام، قال ابن عباس (2) ،   = (1/178) ، و «نصاب الاحتساب» (313) ، و «أضواء البيان» (1/175) ، و «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (ص: 157 ومابعدها) لجلال العمري، و «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواقع المسلمين اليوم» (ص: 103 ومابعدها) لصالح الدرويش، و «الأمر بالمعروف» لعبد الرحمن المقيط (ص 50) ، و «الأمر بالمعروف» (ص 386) لخالد السبت، و «الجواب الأبهر لمن سأل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (ص 57-61) ، و «أصول الدعوة» (190، 312) لعبد الكريم زيدان. (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) (رقم 49) . (2) أخرجه ابن جرير في «التفسير» (10/183) عن ابن جريج عن ابن عباس قال: الكفار بالقتال، والمنافقين: أن تغلظ عليهم بالكلام. وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/1841/ رقم 10301) ، وابن جرير في الموطن السابق، والبيهقي في «السنن الكبرى» (9/11) عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله -تعالى-: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال: فأمره الله أن يجاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/239) إلى ابن المنذر، وابن مردويه. ولكن علي بن أبي طلحة: قال دُحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس. وقال الفسوي: روى عن ابن عباس الناسخ والمنسوخ، ولم يره. وقال أبو حاتم: علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: مرسل، إنما يروي عن مجاهد والقاسم بن محمد. انظر: «جامع التحصيل» (ص 240 رقم542) ، و «تحفة التحصيل» (ص 234) . ولكن ابن أبي طلحة يروي من صحيفة عن ابن عباس. قال الحافظ ابن حجر في «العجاب» (1/207) : «وعليٌّ صدوق، لم يَلْق ابن عباس، لكنه إنَّما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وغيره (1) : معناه: «جاهد الكفار بالسَّيف، والمنافقين باللسان» . وبسْط الكلام في ذلك، وفي الكفّ عن قتل المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي مأخذاً واسعاً غير ما قُصد له في هذا الباب. الثالث: جهاد باليد، وهو أنواع: منه ما يرجع إلى إقامة الحدود، ونحوها من التعزيرات، وذلك إنما يجب على الولاة والحُكَّام، ومنه: مايدخل في باب تغيير المناكر، وذلك يجب حيث لا يُغني التغيير بالقول، وعلى الشروط التي قدَّمنا في حق القائم في ذلك، والقيام فيه بحسب الأحوال، وتدريج الانتقال. ومنه: قتال الكفار، والغزو. ويقتضي أنَّ لفظ الجهاد إذا أُطلق، إنما يُحمل على هذا النوع بخاصَّة، وهو الذي نُصِبَ له هذا المجموع، فَلنأْخُذ في ذلك على حسب ما يرزقنا الله فيه من الإمداد بالمعونة والتوفيق، لا ربَّ غيره.   = وابن أبي حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة» . فالأثر صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنه-. انظر: تفسير ابن عباس المسمى «صحيفة علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس» (ص 268/ رقم 582) ، «فتح الباري» (8/438-439) . وابن جريج: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل كما في «التقريب» (4193) . وقال العلائي في «جامع التحصيل» (229/ رقم 472) : ذكر ابن المديني أنه لم يَلقَ أحداً من الصحابة. (1) كقتادة والضحاك والحسن البصري. أخرجه عنهم: ابن جرير في «التفسير» (6/183-184) ، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/240) إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة. وأخرج ابن جرير (10/183) وابن أبي حاتم (6/184/رقم 10300) في «تفسيريهما» ، وابن المبارك في «الزهد» (1377) ، والطبراني -كما في «مجمع الزوائد» (7/276) -، وابن أبي الدنيا في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (رقم 109) ، وعبد الغني المقدسي في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (18) ، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه في «تفاسيرهم» -كما في «الدر المنثور» (6/ 239) - بأسانيد ضعيفة نحوه عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. وانظر: «الكشف والبيان» (5/69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فصلٌ: في ابتداء الأمر بالقتال والتدريج فيه قال الله -عز وجل-: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ، وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُعطيتُ خَمْساً لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كلّ نبيٍّ يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى كل أحمر وأسود» الحديث. خرَّجه مسلم (1) . فَثَبتَ بالبراهين القاطعة والآيات البيِّنة ومن الكتاب والسنَّة والإجماع القاطع المتواتر: أنَّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق أجمعين؛ إنْسِهم وجِنِّهم، أحمرهم وأسودهم، عَربهم وعجمهم، من كان منهم في عصره، ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة، قال الله -تعالى-: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] . فذكر أهل العلم والنقل، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه الله -عزّ وجل -وهو على رأس أربعين سنة-، أقام بمكة يدعو إلى الله -تعالى-، ويُبيِّن عن ربه -عز وجل- ما أرسله به من الهدى، ويتلو عليهم القرآن، وينهاهم عن الشِّركِ وعبادة   (1) في «صحيحه» في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (رقم 521) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، وتتمة الحديث: « ... وأُحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحدٍ قبلي، وجُعلت لي الأرض طيبة؛ طهوراً ومسجداً، فأيما رجلٍ أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يديَّ مسيرة شهر، وأُعطيت الشفاعة» . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب التيمم (الطهارة) (باب التيمم) (رقم 335) ، وفي كتاب الصلاة (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ) (رقم 438) ، وفي كتاب فرض الخمس (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُحلت لي الغنائم» ) (رقم 3122) مختصراً ومقتصراً على العبارة المذكورة في الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الأوثانِ، والفواحش -التي حرّم الله تعالى- مدّة طويلةً، لم يُؤمر في شيءٍ من تلك المدّة بقتال؛ بل كان يؤمر بالإعراض عنهم، وبالصَّفح الجميل، والصَّبرِ على أذاهم؛ إمهالاً من الله -تعالى-، وإبلاغاً في الحجَّة، وإعذاراً في المُدَّة. قال الله -تعالى-: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، وقال -تعالى-: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] ، وقال -سبحانه-: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَهُمْ} [الأحقاف: 35] . ولم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُعلناً بالرسالة والنَّذارة، صابراً على ما يناله في ذلك من الأَذى، ناصِحاً لهم، مُحتسباً ما أصابه فيهم، إلى أن آمن بالله وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أراد الله -تعالى- به خيراً، وجعل له نوراً، وعاندَ من شاء الله -تعالى-، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بمكة عشر سنين، وقيل: ثلاث عشر سنة، وفي ذلك يقول أبو قيس صِرمة بن أبي أنس بن صِرمة؛ من بني النَّجار (1) :   (1) قال ابن هشام في «السيرة النبوية» (ص 510) في نَسَبِه: أبو قيس، صِرمة بن أبي أنس بن صِرمة بن مالك بن عَديِّ بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. وقال ابن إسحاق: وكان رجلاً قد ترهَّب في الجاهلية، ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وتطهّر من الحائض من النساء، وهمَّ بالنصرانية، ثم أمسك عنها، ودخل بيتاً له، فاتخذه مسجداً، لا تدخل عليه طامث ولا جنب، وقال: أعبد ربَّ إبراهيم، حين فارق الأوثان وكرهها، حتَّى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأسلم وحَسُنَ إسلامه، وهو شيخٌ كبير، وكان قوَّالاً بالحق، معظماً لله -عز وجل- في جاهليته، يقول أشعاراً في ذلك حِساناً. أخرج الحاكم في «المستدرك» (2/683/ رقم 4255- ط دار الكتب العلمية) -وعنه البيهقي في «دلائل النبوة» (2/513) - عن إبراهيم بن ديزيل، عن إبراهيم بن المنذر، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار؛ قال: قلت لعروة بن الزبير: كم لبث النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: عشر سنين. قلت: فإن ابن عباس يقول: لبث بضع عشرة حجة. قال: إنما أخذه من قول الشاعر. قال سفيان بن عيينة: ثنا يحيى بن سعيد؛ قال: سمعتُ عجوزاً من الأنصار تقول: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يتعلم منه هذه الأبيات ... » وساق سبعة أبيات، أولها البيت المذكور. قلت: وهذا إسناد ضعيف من أجل المبهم الذي فيه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ثَوَى في قريشٍ بِضْعَ عشرةَ حِجَّةً ... يذكِّر لو يَلْقى صديقاً مُواتيا (1) ثم لما أراد الله -تعالى- إنفاذَ الوعيد فيمن أهلكه من كفار قريش، وعظماء أهل الشرك بمكة: أذِن الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة منها إلى المدينة، فخرج، ولمَّا يؤمر حينئذٍ بقتال، ثم أذن له في القتال بَعْدُ. خرّج النسائي (2) عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة؛ قال أبو بكر:   = وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . قلت: خرَّجه مسلم في «صحيحه» (4/1825-1826) مختصراً هكذا: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو؛ قال: «قلتُ لعروة: كم لبث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة؟ قال: عشراً. قلت: فإنَّ ابن عباس يقول: بضع عشرة. قال: فغفَّره. وقال: إنما أخذه من قول الشاعر» . وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (2/513) عن عبد الله بن الزبير الحميدي، والشجري في «أماليه» (1/74) عن أبي مطرف محمد بن أبي الوزير؛ والدينوري في «المجالسة» (رقم 779- بتحقيقي) من طريق إبراهيم بن المنذر، كلهم عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، به. وقال ابن إسحاق -وهو في «سيرة ابن هشام» (2/158) - ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (2/515) -: «وقال صرمة بن قيس ... » ، وذكر البيت ضمن أبياتٍ يذكر فيها ما أكرمهم الله -تبارك وتعالى- به من الإسلام، وما خصَّهم الله به من نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والخبر في: «المعارف» (ص 61، 151) ، و «التعازي والمراثي» (126) للمبرد، و «أسد الغابة» (3/18) ، و «الإصابة» (2/183) ، و «سيرة ابن كثير» (2/283) ، و «منح المدح» (129-130) . (1) ثَوى: أي: أقام. ومواتياً: موافقاً. (2) في «المجتبى» في كتاب الجهاد (باب وجوب الجهاد) (6/2/رقم 3085) ، وفي «الكبرى» : كتاب «التفسير» ، تفسير سورة الحج (144/363) . وأخرجه أحمد (1/216) ، والترمذي (3171) -وقال: هذا حديث حسن-، وابن جرير في «التفسير» (17/172) ، وابن حبان (4710) ، والحاكم (2/66، 246، 390 و3/7-8) ، والطبراني (12336) ، والبزار في «البحر الزخار» (1/69/ رقم 16) ، من طرق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به. ولم يرد عندهم قول ابن عباس: هي أول آية نزلت في القتال. وقال الحاكم: على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. وهو كما قالا. وأخرجه الترمذي (3172) ، والطبري (17/172) عن سعيد بن جبير مرسلاً. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 «أَخْرَجُوا نبيَّهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكنّ» ؛ فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] . قال: «فَعَرفْتُ أنه سيكون قتال» . قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال. وكذلك روى القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن» (1) عن عروة بن الزبير: أنها أوَّل آيةٍ نزلت في القتال، وقاله قتادة وغيره (2) . وقد روي عن الربيع بن أنس (3) وغيرهِ أن أول آيةٍ نزلت في القتال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ   = وعزاه ابن كثير في «التفسير» (3/225) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/57) إلى ابن أبي حاتم. وهو في «تفسيره» (8/2496/ رقم 13961) . وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/39) مقتصراً على قول ابن عباس. وذكره الدارقطني في «العلل» (1/214-215/ السؤال 22) ، ومال إلى ترجيح الوصل. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/57) إلى ابن المنذر، وابن مردويه، والطبراني. وانظر: «الإقناع» لابن المنذر (2/447) ، و «لباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي (ص 150) ، و «الصحيح المسند من أسباب النزول» للشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله تعالى- (ص 101) . (1) قال الذهبي في «السير» (13/340) عنه: «لم يسبق إلى مثله» . قلت: ومنه قطعة لا بأس بها في الزيتونة بتونس، ولم ينشر الكتاب بعد، يسّر الله له جادّاً من طلبة العلم. وأثر عروة، أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (8/2496) رقم (13963) ولم يعزه السيوطي في «الدر» (6/57) إلاَّ له، وهو عند ابن إسحاق في «السيرة» (2/467-468- ط. حميد الله) ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (1/286) ، وسنده صحيح. وذكره الزرقاني في «شرح المواهب اللدنية» (1/317، 387) ، وهو في «مغازي عروة» (ص 124/ رقم 107) تجميع سلوى الطاهر. (2) أخرج عبد الرزاق في «تفسيره» (2/39) عن معمر عن قتادة قال: هي أول آية نزلت في القتال، وأذن لهم أن يُقاتلوا. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/58) إلى ابن المنذر وعبد الرزاق، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (3) أخرجه ابن جرير في «التفسير» (2/189) عن أبي جعفر، عن الربيع قوله. وأخرجه ابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] ، أي: قاتلوا من قاتلكم، وكُفَّوا عمَّن كفَّ عنكم، لا تعتدوا بقتاله. هذا أحد التأويلات في الآية. قال إسماعيل: إنما أَذِنَ الله -تبارك اسمه- للنبي - صلى الله عليه وسلم - في القتال بعد قدومه المدينة، ثم أُمِرَ - صلى الله عليه وسلم - بالقتال على أحوالٍ كانت؛ كان يؤمر فيها بالقتال، فمنها -والله أعلم- هذه الآية وغيرها، يعني: قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، ثُمَّ نسِخ ذلك كلُّه، وأمر بقتال المشركين كافَّة. وإلى ما ذكر القاضي إسماعيل ذهبَ كثيرٌ من أهل العلم في حمل الآيات الواردة في ذلك على أحوال؛ فمنها قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} [البقرة: 190] ، فهذا لم يؤذن فيه في قتال من لم يقاتل، بل قال -تعالى-: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء: 90] ، وقال -تعالى- فيمن يقاتل: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 91] ، وكذلك قوله -تعالى-: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، فلم يؤمروا أن يبدؤوهم عند المسجد الحرام بقتال، حتى يكونوا هم يقاتلون، وكذلك قوله -تعالى-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ، ففي هذا بعض التوسيع عمّا تضمَّنتهُ الآي قبل هذا؛ من أنه لا يُقاتلُ إلا من قاتل، فكان الأمر هنا أعمَّ في الكفار الأدْنَين، فالآية تتضمن قتالهم على كل حال؛ قاتلوا أو لم يُقاتلوا، ثم نَسَخَ الله -تعالى- كلَّ كفٍّ ومهادنةٍ بقي في أمر الكفار بعد الإمهال والإعذار، وإيعاب البلاغ والإنذار، فقال -تعالى-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] ، وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ   = أبي حاتم في «تفسيره» (1/325/ رقم 1719) عن الربيع، عن أبي العالية، من قوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] ، وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] (1) . فصلٌ: في بيان ما استقرّ عليه الأمر بالجهاد اختلف أهل العلم في مقتضى الآيات الواردة بالتشديد والتعميم في الأمر   (1) ذكر الإمام ابن جرير في «التفسير» (2/189-190) قول من قال بالنسخ، وقول من قال: يقاتل من قاتله، ويكفّ عمَّن كفَّ عنه، حتى نزلت آية التوبة. وأخرج بسنده إلى سعيد بن عبد العزيز قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطاة: إني وجدت آية في كتاب الله {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء، والصبيان، والرهبان. ثم قال: وأولى هذين القولين بالصواب: القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز؛ لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحد. فتأويل الآية إذا كان الأمر على ماوصفنا: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله، وسبيله: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده، يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي، وعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من ولى عنه، واستكبر بالأيدي والألسن، حتى ينيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صغاراً إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم -تعالى ذكره- بقتال من كان فيه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن فيه قتال من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخول لهم إذا غلب المقاتلون منهم فقهروا، فذلك معنى قوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ؛ لأنه أباح الكفّ عمن كفّ، فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب، على إعطاء الجزية صغاراً. فمعنى قوله {وَلاَ تَعْتَدُواْ} : لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} : الذين يجاوزون حدوده. فيستحلون ماحرمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم. وانظر: «تفسير ابن كثير» (1/242) . وسيأتي في الباب كلام للمصنف أنه لا نسخ في آية القتال ولا آية الكف، ولا المنّ ولا الفداء، وأنها كلها محكمة، وأن إعمال بعض الآيات دون بعض يكون في بعض المواطن في القتال دون بعض، وأن هذا راجع إلى رأي الإمام في ذلك، وهو الصواب، والله الموفّق والهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بالقتال من قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، وقوله -تعالى-: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] ، و {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة: 39] ، و {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} [التوبة: 120] ؛ فقيل: كان فرض الجهاد في أول الأمر على جميع المسلمين كافة؛ إلا من عَذَرَه الله -تعالى-، ثم نسخ ذلك بالكفاية، قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ، رُوي ذلك عن ابن عباس؛ خرَّجه عنه أبو داود (1) .   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في نسخ نَفير العامَّة بالخاصة) (رقم 2505) ، ومن طريقه ابن الجوزي في «نواسخ القرآن» (ص 175) من حديث عكرمة، عن ابن عباس. وقال شيخنا الألباني -رحمه الله- في «صحيح سنن أبي داود» : «حسن» . وأخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (ص 205/ رقم 385) -ومن طريقه ابن المنذر في «التفسير» (2/785-786) (رقم 1985) من حديث عطاء الخراساني، عن ابن عباس. وفيه زيادة أن ابن عباس قال: تنفر طائفة وتمكث طائفة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فالماكثون: هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو بما نزل من قضاء الله وكتابه وحدوده. اهـ. وروى نحوه ابن أبي حاتم في «التفسير» (3/998) (رقم 5582) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/47) في كتاب السير (باب النفير وما يستدل على أن الجهاد فرض على الكفاية) . فمذهب ابن عباس ومقصده في النسخ فيما إذا خرجت سرية للجهاد، ولكن إذا احتيج للمسلمين: لم يسع أحداً التخلف عن الجهاد. وما ذهب إليه المصنف من عدم النسخ هو الصواب، وهو مذهب جمهور العلماء. قال أبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 209) في قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} [التوبة: 120] قال: مذهب ابن زيد أنه نسخها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122] ، ومذهب غيره أنه ليس ها هنا ناسخ ولا منسوخ، وأن الآية الأولى توجب إذا نفر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو احتيج إلى المسلمين واستنفروا: لم يَسع أحداً التخلف، وإذا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية تخلَّفت طائفة، وهذا مذهب ابن عباس والضحّاك وقتادة. اهـ. كلامه. ومذهب ابن زيد ذكره ابن العربي المالكي في «الناسخ والمنسوخ» (ص 263) ، وابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/18) . وذهب إلى النسخ -أيضاً-: الإمام المازري كما في «الذخيرة» (3/385) ، والنحاس في «معاني القرآن» (1058) ، وغيرهم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وروي عن عطاء (1) ، أن الجهاد إنما كان فرضاً على الصحابة، قيل: يعني على الأعيان، فلما استقرَّ الشرعُ صار على الكفاية، وقال الجمهور: بل كذلك كان فرض القتال على الكفاية في أوّل الإسلام، وحملوا ما وقع في ذلك من التشديد والتعميم على أحوال، وذلك إذا احتيج إلى الجميع، إمَّا لقلة المسلمين، كما كان ذلك في أول الإسلام، أَوْ لما عَسَى أنْ يَعْرض، أوْ يكونَ ذلك خاصاً بأهل النَّفير   = وهذا مذهب أبي عبيد في «الناسخ والمنسوخ» . وقال ابن الجوزي في النَّسْخ: إنه روي عن الحسن وعكرمة، وهذا ليس بصحيح. وذهب إلى إحكام الآيتين، وقال: وقد ذهب إلى إحكام الآيتين، ومنع النسخ جماعة: منهم: ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، وحكى القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس ها هنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو، ففرض على الناس النفير إليهم، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم، عذر القاعدون عنهم. وانظر: «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص 206) ، و «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» لمكي بن أبي طالب (ص 314-315) ، و «الناسخ والمنسوخ» لابن العربي (ص 263) . (1) قال النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 38) : وأما قول عطاء أنها فرض على الصحابة فقول مرغوب عنه، وقد ردَّه العلماء، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/493) إلى ابن أبي حاتم، وإلى آدم بن أبي إياس في «تفسيريهما» عن أبي العالية في الآية {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ؛ قال: لأصحاب محمد، أمروا بقتال الكفار. وأخرج أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (ص 204) (رقم 381) -ومن طريقه الجصاص في «أحكام القرآن» (4/311) - عن حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس؟ فقال هو وعمرو بن دينار: ما علمناه. وأخرجه -أيضاً- عبد الرزاق في «المصنف» (5/171) (رقم 9271) . وقال الجصاص (4/312) : «وجائز أن يكون قول ... عطاء ... في أن الجهاد ليس بفرض، يعنون به أنه ليس فرضه متعيناً على كل أحد، كالصلاة والصوم، وأنه فرض على الكفاية» . وأخرجه ابن جرير (2/190) ، وابن أبي حاتم (1/325/رقم 1720) عن مجاهد قوله. وهو مذهب الأوزاعي، نقله عنه الطبري في «التفسير» (3/38) ، وهو أحد قولي الشافعي، والمشهور عنه خلافه، كما هو مذهب الجمهور. انظر: «الهداية» (2/135) ، «شرح الدردير» (2/173) ، «مغني المحتاج» (4/209) ، «المغني» (10/364- مع الشرح الكبير) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/471) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الذين يُعيِّنُهمُ الإمامُ في الاستنِفار، وإذا لم يكن شيءٌ من ذلك فهو على أصل الكفاية، ولا نَسْخَ على هذا في شيءٍ من الآيات، بل هو راجعٌ إلى الأحوال، وما يجبُ في مقاومة الكفار، وهذا الأرجح، والله أعلم؛ لأن النَّسخ لا يُصارُ إليه إلا بتوقيفٍ أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين، ويعلم مع ذلك المتأخّر، فيكون هو الناسخ، وإلاَّ فلا. وعلى كلا القولين، فلم يُختلف في أنَّ فرض الجهاد استقرَّ في الجملة على الكفاية، يحمله من قام بهِ من المسلمين عن سائرهم، هذا هو المشهور المعروف الذي عليه جماعة أهل العلم (1) .   (1) قال الإمام الشافعي في «الأم» (4/176) : «قال الله -تبارك وتعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] ، مع ما أوجب من القتال في غير آية، قال: فكان فرض الجهاد محتملاً لأن يكون -كفرض الصلاة وغيره- عاماً، ومحتملاً لأن يكون على غير العموم، فدل كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به، حتى يجتمع أمران: أحدهما: أن يكون بإزاء العدو والخوف على المسلمين من يمنعه. والآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية؛ حتى يسلم أهل الأوثان، أو يعطي أهل الكتاب الجزية. فإذا قام بهذا من المسلمين من فيه كفاية له، خرج المتخلف منهم من المأثم، وكان الفضل للذين وُلُّوا الجهاد على المتخلفين عنه، قال الله -تبارك وتعالى-: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] . قال الشافعي: فبين إذ وعد الله القاعدين غير أولي الضرر الحسنى: أنهم لا يأثمون بالتخلف، ويوعدون بالحسنى في التخلف؛ بل وعدهم بما وسع لهم من التخلف الحسنى، إذا كانوا مؤمنين لم يتخلفوا شكاً ولاسوء نية، وإن تركوا الفضل في الغزو. قال الشافعي: ولم يغز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزاة علمتها إلا تخلف عنه فيها بشر، فغزا بدراً وتخلف عنه رجال معروفون، وكذلك تخلف عنه عام الفتح وغيره من غزواته. وقال في غزاة تبوك، وفي تجهيزه في الجمع للروم: «ليخرج من كل رجلين رجل، فيخلف الباقي الغازي في أهله وماله» ، قال الشافعي: ففرض الجهاد على ما وصفت، يُخرج المتخلفَ من المأثم القائمُ فيه بالكفاية، ويأثمون معاً إذا تخلفوا معاً» ا. هـ كلامه -رحمه الله-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يحكي القاضي أبو محمد عبد الوهاب (1) أنه لا خلاف بين الأمة في وجوب الجهاد، يعني: على الكفاية. وقد نقل غيره في ذلك قولين شاذين: أحدهما: أنه فَرْضُ عينٍ مرّةً في العُمر على كل مستطيع كالحج. قال أبو بكر بن المنذر: روينا عن داود بن أبي عاصمٍ أنه قال: الغزو واجبٌ على الناس أجمعين، غزوة كهيئة الحج (2) . قال ابن المنذر: وقال مَعْمر: كان مكحول يستقبل القبلة، ثم يَحلِف عشر أيمان: أنَّ الغزو واجب، ثم يقول: إن شِئتُم زِدتكم.   = وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن نَصْر المروزي في كتابه «السنة» (132) بعد كلام: « ... فوجدنا الكتاب والسنة قد دلا على أن الجهاد غير مفروض على كل مسلم في خاص نفسه، فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ، فدل ذلك على أن فرض الجهاد إنما هو على أن ينفر من فيه الكفاية، فإذا نفر من فيه الكفاية سقط المأثم عنهم جميعاً، وإن لم ينفر من فيه الكفاية أثموا معاً؛ لقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] . قال بعض أهل العلم: يعني: إنكم إن تركتم النفير كلكم عذبتكم» . وانظر: «رسالة الإرشاد إلى بيان الحق في أحكام الجهاد» لأحمد بن يحيى النَّجمي (ص 62- وما بعدها) . وانظر: «أحكام القرآن» (4/372-373) للجصاص، «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لبدر الدين بن جماعة (ص 154) . (1) في كتابه «المعونة» (1/601، 602) . وانظر: «التلقين» له (1/238) ، و «التفريع» لابن الجلاَّب (1/357) ، و «الرسالة» لابن أبي زيد القيرواني (189) ، «فتاوى البرزلي» (2/8) ، و «بداية المجتهد» لابن رشد (6/5) ، و «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص 119) . (2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/171/رقم 9272) عن ابن جريج عن داود بن أبي عاصم، به. وهو مذهب سعيد بن المسيب. انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (5/351) ، «المغني» (13/6) ، و «النوادر والزيادات» (3/18) ، و «الذخيرة» (3/385) ، «فتاوى البرزلي» (2/7، 8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قال ابن المنذر: وهذا لايصح عن مكحول؛ لأن بين معمر وبين مكحول رجلاً. حدثناه إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن رجلٍ، عن مكحول: أنه قال ذلك (1) . والقول الآخر: أن الجهاد نَفْلٌ. قال النَّحَّاس (2) : هو قول ابن عمر، وابن   (1) أخرجه عبد الرزاق (5/174 رقم9281) عن رجل، عن مكحول. ثم قال عبد الرزاق: وسمعت الأوزاعي -أو: أخبرتُ عنه- أنه سمعه من مكحول. وأخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (ص 204 رقم 382) -ومن طريقه الجصاص في «أحكام القرآن» (4/312) - من طريق ابن جريج، قال: قال معمر: كان مكحول يستقبل القبلة ... إلخ، فلم يذكر رجلاً بين معمر ومكحول. وكلام ابن المنذر المذكور لم أجده في كتبه المطبوعة إلى غاية تدوين هذه السطور، وهي: «الأوسط» ، و «الإشراف» ، و «الاقناع» ، و «التفسير» . وانظر: «أحكام القرآن» (4/311-312) للجصاص، «مصنف ابن أبي شيبة» (5/351) ، «تكملة المجموع الثالثة» (19/269) ، «فقه مكحول» (181) . (2) في «الناسخ والمنسوخ» (ص 38) . وزاد: ومن حجتهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه ابن عمر: «بني الإسلام على خمس.. الحديث» . وفيه أن رجلاً سأله فقال: ألا تغز؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكر الحديث -وأصله في البخاري-. ثم قال: قال أبو جعفر -يعني نفسه-: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه قد روي عن ابن عمر أنه قال: استنبطت ذلك، ولم يَرْفَعْهُ، ولو كان رَفْعُهُ صحيحاً لما كان فيه -أيضاً- حجة؛ لأنه يجوز أن يترك ذكر الجهاد ها هنا؛ لأنه مذكور في القرآن.. إلى آخر كلامه -رحمه الله-. وانظر: «أحكام الجصاص» (4/314) ، «فتاوى البرزلي» (2/7) . وذكر ابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/13) قال: وروى ابن وهب قال: قال نافع في تخلُّف ابن عمر عن الغزو ولزومه الحج: إنه إنما ترك الغزو لوصايا عمر، ولِصبْيةٍ وضَيْعَةٍ كثيرة لا يصلحها إلا التعاهد، وقد كان يُغزي بنيه، ويرى أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الصلاة. ومذهب سفيان الثوري، ذكره أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (ص 205 رقم 384) ولم يسنده؛ قال: وأما سفيان الثوري فكان يقول: ليس بفرض، ولكن لايسع الناس أن يجمعوا على تركه، ويجزئ فيه بعضهم عن بعض. قال أبو عبيد -بعد أن ارتضى هذا القول-: وإنما وسعهم هذا للآية الأخرى، قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122] فإنه فيما يقال: ناسخة لفرض الجهاد. ا. هـ كلامه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 شُبرمة، وسفيان الثوري (1) . وذُكر عن عطاء، أن الجهاد إنما كان فرضاً على الصحابة (2) ، وهذا يحتمل أن يريد فَرْضَ عين، فلما استقرَّ الشرع، صار على الكفاية، ويحتمل أن يذهب بذلك إلى قول من زعم أنه الآن نافلة، يَعْنُون: بعد فتح مكة. ولم يختلفوا أنَّ الإمام إذا اسْتَنْفَرَ أحداً للغزو، فإنه يجب ذلك عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنْفِرْتُم فانفروا» . خرَّجه   = قوله: ناسخة لفرض الجهاد، أي الجهاد الذي على الأعيان، فهو على الكفاية إلا إذا احتيج إلى الجميع، كما ذكر ذلك المصنف -رحمه الله-. وقال الجصاص في «أحكام القرآن» (4/311) : «فحُكِيَ عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أن الجهاد تطوع وليس بفرض» . وقال ابن العربي في «أحكام القرآن» -أيضاً- (1/103) : «وقال جماعة من الفقهاء: إن الجهاد بعد فتح مكة ليس بفرض إلا أن يستنفر الإمام أحداً منهم. قاله سفيان الثوري، ومال إليه سحنون، وظنه قوم بابن عمر حين رأوه مواظباً على الحجّ تاركاً للجهاد، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا هِجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا. ثبت ذلك عنه. وهذا هو دليلنا؛ لأنه أخبر أن الجهاد باقٍ بعد الفتح، وإنما رفع الفتح الهجرة، وذلك لقوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؛ يعني: كفراً {وَيَكُونَ الدِّينُ لله} . ومواظبة ابن عمر -رضي الله عنه- على الحجّ لأنه اعتقد الحق، وهو أن الجهاد فرضٌ على الكفاية إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين. ويحتمل أن يكون رأى أنه لا يجاهد مع ولاة الجور. والأول أصح؛ لأنه قد كان في زمانه عدول وجائرون، وهو في ذلك كله مُؤْثِرٌ للحج، مواظبٌ عليه» . وقال الجصاص في «أحكامه» (4/315) بعد كلام: «وهذا يدل على أن مذهب ابن عمر في الجهاد فرض على الكفاية، وأن الرواية التي رويت عنه في نفي فرض الجهاد إنما هي على الوجه الذي ذكرنا من أنّه غير متعيّن على كل حالٍ في كل زمان» . وانظر: «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص 203، 206) ، «فتح القدير» (5/189) ، «تفسير القرطبي» (3/39) ، «الذخيرة» (3/385) . (1) ونقل ابن عبد السلام عن سحنون أنه سُنَّة، وأنكر شيخنا عليه نقله؛ لكونه غير معروف. قاله البرزلي في «فتاويه» (2/8) . ويُذكر هذا عن ابن دينار -أيضاً-. كما في «فتاويه» -أيضاً-. (2) مضى ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 البخاري وغيره (1) . وكلا القولين محجوجٌ بالكتاب والسنة. أمّاَ من ذهب إلى أن فرض الجهاد إنما كان على الصحابة، فلا مستند له، فإن (2) زعم أنّ الخطابَ بإيجاب القتال والوعيدَ عليه والتشديدَ فيه إنما هو بصيغة المواجهة، واختصاص الحاضرين، كقوله -تعالى-: {انْفِرُواْ} و {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة: 39] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] ، وما أشبه ذلك، لم يكن ذلك دليلاً؛ لأن عُرْفَ الشَّرْعِ المقطوعَ عليه في ذلك وأمثاله: أنه لهم ولمن بعدهم، إلاّ أن يُبين أنّه شيءٌ اختُصَّ به بعض المكلفين دون بعض. قال الله -تعالى-: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] . وأيضاً، فيقال لمدَّعي ذلك: فيلزم أن كلَّ إيجابٍ أو حظْرٍ وردَ في القرآن، أو في السنة على صيغة مثله أن يكون ذلك مخصوصاً بالصحابة، كقوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ، و {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] ، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، ولعلَّ أكثر الشرع على ذلك، وفي هذا ما لا خفاء به. وأيضاً، فالأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دالةٌ على بقاء ذلك إلى يوم القيامة.   (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (1834، 2783، 2825، 3077، 3189) ، ومسلم في «صحيحه» (1353) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرجه البخاري (3080، 3899، 4311) ، ومسلم (1864) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه أبو داود في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الهجرة: هل انقطعت؟) (رقم 2480) . وورد نحوه عن صفوان بن أمية؛ أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2352) ، والنسائي (7/145-146) ، وأحمد (3/401، 465، 466) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/16-17) ، والطبراني في «الكبير» (11/18/رقم 10898) . ونحوه -أيضاً- عن غزية بن الحارث. وانظر: «كتاب الجهاد» لابن أبي عاصم (261، 262، 263) . (2) في الأصل والمنسوخ: «إن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 روى مالك في «موطئه» (1) ، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . فسَّره العلماء أنه في الغزو، وكذلك جاء في بعض طرقه. خرَّج البخاري (2) عن عروة البارقي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير: الأجْر والمَغْنمُ إلى يوم القيامة» . وخرَّج مسلم (3) ، عن جابر بن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يبرح هذا الدين قائماً، تقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين، حتى تقوم الساعة» . وأما من ذهب إلى أنه فرضٌ كالحج على الأعيان، فظاهر الكتاب والسنة يدلان على خلاف ذلك؛ قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122] ، وقال -تعالى-: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] . فهذا بيّنٌ في سقوط المأثم في القعود عن الغزو إذا قام به بعض المسلمين. وخرّج مالك في «موطئه» (4) عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لولا أن   (1) (رقم 474- ط. دار إحياء التراث) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (رقم 2849 و3644) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (96) (1871) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (رقم 2850 و2852) ، وفي كتاب فرض الخمس (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحلت لي الغنائم» ) (رقم 3119) ، وفي كتاب المناقب (باب منه) (رقم 3643) . ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (1873) . (3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لاتزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم» ) (172) (1922) . (4) (رقم 470) وفي الأصل: «ولكن لم أجد ... » ، وفي المنسوخ: «ولكن لا» ، والمثبت من مطبوع «الموطأ» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أشقّ على أمتي، لأَحبَبْتُ أن لا أتخلَّف عن سريةٍ تخرج في سبيل الله، ولكني لا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يتحمَّلون عليه فيخرجون، ويشقُّ عليهم أن يتخلَّفوا بعدي ... » الحديث. قال أهل العلم: فلو كان فرضاً معيَّناً ما تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أباح لغيره التخلّف عنه. وأُبينُ من هذا بياناً: ما خرَّجه البخاري (1) ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جَلَسَ في أرضه التي وُلِدَ فيها» ، قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشِّر الناس؟ قال: «إن في الجنة مئة درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض؛ فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، أُرى: وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الدنيا» . قوله في «الموطأ» : «عن سَريَّةٍ» ، السَّرية: الجماعة من الخيل نحو أربع مئة، ويُحتمل أن يُسَمَّى ما دون ذلك سَرِيَّة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير السرايا أربع مئة» (2) ؛ خرَّجه الترمذي، وأبو دواد.   = وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب الجعائل والحملان) (2972) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله) (103) (1876) . (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي) (رقم 2790) . وفي كتاب التوحيد (باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ) (رقم 7423) ، وفيه: «هاجر» بدل «جاهد» . (2) أخرجه أبو داود في «سننه» (رقم 2611) ، والترمذي (رقم 1555) ، وابن خزيمة (رقم 2538) ، وابن حبان (1663) ، وأحمد (1/294) ، والحاكم (1/443 و2/101) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» (رقم 652) ، ومحمد بن مخلد في «المنتقى من حديثه» (2/3/2) ، والضياء في «المختارة» (62/292/2) ، وأبو يعلى في «مسنده» (4 رقم 2587) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/156) ، من طريق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فصلٌ واستقرَّ الفرضُ في قتال الكفار أنه عامٌّ في كل زمان ومكان، سواء في ذلك الحَرَمُ، والأشهر الحُرُم، وغيرها، كلُّ ذلك لا يمنع من قتالهم ابتداءً، وإن لم يبدؤوا بذلك، وعلى هذا جمهور العلماء. ورُوي عن مجاهدٍ وطاوسَ (1) : أنه لا يحلُّ لأحدٍ أن يقاتل أحداً في الحرَم إلا أن   = وهب بن جرير، عن أبيه، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا يُغلب اثنا عشر ألفاً من قِلَّة» . قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، لخلافٍ بين الناقلين فيه عن الزهري» . ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لايسنده كبير أحدٍ غير جرير بن حازم، وإنما رُوي هذا الحديث عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وقد رواه حبَّان بن عليٍّ العنزي، عن عُقيل، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وقال أبو داود: والصحيح أنه مرسل. قلت: أخرجه في كتابه «المراسيل» (رقم 313) : حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن حيوة، عن عقيل، عن الزهري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:.. وذكر الحديث. وهو في «سنن سعيد بن منصور» (رقم 2387) . وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (رقم 9699) عن الزهري، به مرسلاً. قال شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «الصحيحة» (رقم 986) : قلت: «جرير بن حازم ثقة، احتجَّ به الشيخان، وقد وصله، وهي زيادة يجب قبولها، ولايضره رواية من قصر به على الزهري، ولذلك قال ابن القطان -كما في «الفيض» -: هذا ليس بعلَّة، والأقرب صحَّته، وقد تابعه حبان بن علي العنزي، على وصله، كما ذكره الترمذي، ووصله لوين في «حديثه» (رقم 11) -قلت: وكذا وصله أبو يعلى (5/ رقم 2714) -، حدثنا حبان بن عليٍّ، به. وهكذا وصله ابن عدي في «الكامل» (108/1) - أو (2/ 427) - من طريق أخرى عنه، ووصله -أيضاً- الطحاوي في «المشكل» (1/238) ، والدارمي (2/ 215) . فالحديث صحيح مرفوعاً» انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. وانظر: «صحيح أبي داود» . قلت: ثم تراجع الشيخ عن تصحيحه. انظر: «الضعيفة» (6180) (1) مذهب مجاهد: أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (2/192) ، وذكر مذهبه -أيضاً- الجصاص في «أحكام القرآن» (1/268 و4/268) ، وابن العربي في «أحكام القرآن» (1/107) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يقاتله، فحينئذٍ يكون له قتاله، واستدلَّ من ذهب إلى ذلك بقول الله -تعالى-: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، وزعموا أن الآية مُحْكمة، وحُجَّة الجمهور: قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شِركٌ {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] ، وقوله -تعالى-: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] ، ومعلوم أنَّ هذه الآية نزلت بعد آية الأمر بالكفّ عند المسجد الحرام، فحملوها على أنَّها ناسخةٌ لها، كما نسخت جميع ما كان من مهادنةٍ قبل ذلك، واستدلوا على صحة ذلك بحديث مالكٍ (1) ، عن ابن شهاب، عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، ابنُ خطَل متعلّق بأستار الكعبة! فقال: «اقتلوه» . وكذلك قتال الكفار في الأشهر الحرم، نُسِخَ الحظْرُ فيه؛ الذي يدل عليه قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] ،   = وأسنده عن مجاهد: ابن جرير (14 رقم 16364- ط. شاكر) ، وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (رقم 363) ونقله مجاهد عن علي. وأما طاوس فذكر مذهبه القرطبي في «تفسيره» (2/ 351) ، عند الآية (191) من (سورة البقرة) . وقال: «وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه» . وانظر لنصرته: «أحكام القرآن» للجصاص (1/321) ، و «أحكام القرآن» (1/102-103، 107-108) لابن العربي. (1) أخرجه في «الموطأ» (رقم 1447- رواية أبي مصعب الزهري، ورقم 262- رواية يحيى الليثي، ورقم 2 - رواية ابن القاسم، ورقم 621- رواية الحدثاني) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الحج (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) (رقم 1846) ، وفي كتاب الجهاد والسير (باب قتل الأسير وقتل الصَّبر) (رقم 3044) ، وفي كتاب المغازي (باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟) (رقم 4286) ، وفي كتاب اللباس (باب المغفر) (رقم 5808) . ومسلم في «صحيحه» في كتاب الحج (باب جواز دخول مكة بغير إحرام) (450) (1357) من طرقٍ عن مالكٍ، بهِ. وأخرجه جمعٌ كبير عن مالك -أيضاً-. فانظر تحقيقنا لكتاب «الحنائيات» (رقم 1) ، فقد فصَّلنا -في التعليق عليه- بيان ذلك، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 نسخ ذلك كلَّه آيةُ السيفِ في (براءة) : {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، فأبيحَ القتالُ في الأشهر الحرم وغيرها، وعلى هذا جماعة أهل العلم، إلا أن عطاءً ذهب إلى أنَّ الآية في الحَظْر مُحكمة، ولا يجوز عنده قتالٌ في الأشهر الحرم (1) . والحجة فيما صار إليه الجمهور، أنَّ كل مهادنةٍ كانت، فقد نسختها آية السَّيفِ في (براءة) ، وهي آخر ما أنزل في ذلك. قال النحَّاس (2) : «نُقلِ إلينا أن هذه الآية -يعني: قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]- نزلت في جمادى الآخرة -أو في رجب-، في السنةِ الثانية من هجرةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقد قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن بحُنينٍ، وثقيفاً بالطائف، في شوال، وذي القعدةِ، وذو القعدةِ من الأشهر الحرم، وذلك في سنة ثمانٍ من الهجرة» (3) ؛ يريد الاستدلال على أن الكفَّ في الأشهر الحرم منسوخٌ، والأشهر الحرم هي التي قال الله -عز وجل- فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] .   (1) قال أبو جعفر النحَّاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 39) بعد ذكر مذهب عطاء أن الآية محكمة، قال: ويحتجُّ بما حدثناه.. وذكر حديثاً بسنده إلى جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقاتل في الشهر الحرام، إلا أن يُغزى أو يغزو، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ. قال أبو جعفر: وهذا الحديث يجوز أن يكون قبل النسخ للآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} . والحديث صحيح، فهو من رواية الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر. وأخرجه من طريق الليث: ابن جرير في «التفسير» (2/346-347) ، وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (ص 207/ رقم 389، 390) ، وفي مطبوع «الناسخ والمنسوخ» للنحاس أبو الأزهر بدل: أبو الزبير، وهو خطأ فليصَحَّح. ونقل ابن العربي في «أحكام القرآن» (2/27) قول عطاء، وردَّه بقوله: «وهذا القول من عطاء مسبوق بالإجماع من الصحابة، والأخبار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتاله في الأشهر الحرم، وإرساله سراياه فيها» . (2) في «الناسخ والمنسوخ» (ص 41) . (3) هذا الذي عليه المحققون من العلماء، ورجَّحه وانتصر له ابن القيم في «زاد المعاد» (3/ 340) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 قال أهل العلم والنَّقل: هي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وفي ذلك أثر مرفوع (1) ، وهو مما لا خلاف فيه (2) ، أنها هذه الأربعة. وأما قوله - تعالى-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] ؛ فليس المراد بها هذه الأربعة التي تردد في كل عام، إنما ذلك أربعة أشهر مخصوصة، يقال لها: أشهرُ السياحة، أولها: يوم الحج الأكبر من سنةِ تِسعٍ من الهجرة، وآخرها: انقضاءُ عشرٍ من ربيع الآخر سنة   (1) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السَّنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرمٌ؛ ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، ورجب مضر الذي بين جُمادى وشعبان» . أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ ... } ) (رقم 4662) من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-. وأخرجه -أيضاً- في كتاب بدء الخلق (باب ماجاء في سبع أرضين) (رقم 3197) . وفي كتاب المغازي (باب حجة الوداع) (رقم 4406) . وفي كتاب الأضاحي (باب من قال: الأضحى يوم النحر) (رقم 5550) . وفي كتاب التوحيد (باب قول الله -تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ) (رقم 7447) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين (باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) (29) (1679) . * (فائدة ماتعة ومهمة) : قال الجصاص في «أحكام القرآن» (4/306) شارحاً الحديث: «ذلك أنهم كانوا يجعلون صفر عاماً حراماً وعاماً حلالاً، ويجعلون المحرم عاماً حلالاً وعاماً حراماً، وكان النسئ من الشيطان، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الزمان يعني زمان الشهور قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وأن كل شهر قد عاد إلى الموضع الذي وضعه الله به على ترتيبه ونظامه. وقد ذكر لي بعض أولاد بني المنجم أن جده -وهو أحسب محمد بن موسى المنجم- الذي ينتمون إليه حسب شهور الأهلة منذ ابتاء خلق الله السموات والأرض فوجدها قد عادت في موقع الشمس والقمر إلى الوقت الذي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد عاد إليه يوم النحر من حجة الوداع؛ لأن خطبته هذه كانت بمنى يوم النحر عند العقبة، وإنه حسب ذلك في ثماني سنين، فكان ذلك اليوم العاشر من ذي الحجة على ما كان عليه يوم ابتداء الشهور، والشمس والقمر في ذلك اليوم في الموضع الذي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد عاد الزمان إليه مع النسيئ بالذي قد كان أهل الجاهلية ينسئون وتغيير أسماء الشهور، ولذلك لم تكن السنة التي حج فيها أبو بكر الصديق هي الوقت الذي وضع الحج فيه» . (2) وكذلك قال الجصاص في «أحكام القرآن» (4/267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 عشر، قاله مجاهد (1) والسدي (2) وغيرهم (3) ، وقَّتها الله -تعالى- أجلاً، وجعلها مدَّة يسيح فيها المشركون، ولا يبقى لهم بعدها عهد، ولامهادنة، إلا السَّيف، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك علياً، فقرأ عليهم سورة (براءة) يوم الحج الأكبر (4) . -واختُلف   (1) أخرجه عنه: ابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/1746 رقم 9220) قال: هي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات؛ عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشرة تخلو من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم. ونحوه عند ابن جرير في «التفسير» (6/79) . وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/122، 131) إلى أبي الشيخ، وابن أبي شيبة، وابن المنذر في «تفاسيرهم» . وانظر: «تفسير مجاهد» (1/272) ، و «أحكام القرآن» (4/268) للجصاص. (2) أخرجه عنه: ابن أبي حاتم (6/1752/ رقم 9251) ، وابن جرير (6/79) في «تفسيريهما» ، وانظر: «تفسير السدي الكبير» (ص 287، 292) جمع وتوثيق محمد عطا يوسف. (3) مثل: قتادة، وعمرو بن شعيب، وابن زيد، وابن إسحاق؛ أخرجه عنهم ابن جرير (6/78-79) . وأخرج ابن أبي حاتم (6/1752/رقم 9252) عن الضَّحَّاك قال: «عَشرٌ من ذي القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ سبعون ليلة» ، وانظر: «تفسير الضحاك» (1/397) . وذكر السيوطي في «الدر» (6/131-132) عن قتادة قال: «كان عهد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش أربعة أشهر بعد يوم النحر، كانت تلك بقية مدتهم، ومن لا عهد له، إلى انسلاخ المحرم، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا مَضَى هذا الأجل أن يقاتلهم في الحِلِّ، والحرم، وعند البيت، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» . وعزاه إلى ابن المنذر في «تفسيره» . وانظر من القسم المطبوع منه (2/823) . وانظر لمذاهب السابقين: «المحرر الوجيز» (6/401) ، «زاد المسير» (3/394) ، «ناسخ القرآن ومنسوخه» (423) . (4) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ) (رقم 4655) بسنده إلى حُميد بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة، في مؤذنين بعثهم يوم النحر، يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حُميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعليِّ بن أبي طالب، وأمره أن يؤذِّن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذَّن معنا عليٌ يوم النحر في أهل مِنىً ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. وأخرجه في كتاب الصلاة (باب مايستر العورة) (رقم 369 و1622 و4363 و4656 و4657) ولم يذكر فيه علياً -رضي الله عنه-، ولا التأذين ببراءة. ونحوه من حديث مِقسم عن ابن عباس، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فيه؛ فقيل: يوم النحر (1) ، وقيل: يوم عرفة (2) -، ونبذ إليهم عهدهم، قال الله   = أخرجه الترمذي (3091) ، وابن أبي حاتم (6/1745 رقم 9215) ، ونحوه عن زيد بن يُثَيعْ عن أبي بكر عند أحمد (1/3) . وأخرجه الترمذي (871 و3092) ، والحميدي (48) ، وأحمد (1/79) ، والدارمي (1925) ، من حديث زيد بن يُثيع عن عليّ. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/240) ، ومن طريقه ابن أبي حاتم (6/1745 رقم 9948) من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وعزاه السيوطي في «الدر» (4/123) إلى ابن المنذر من هذا الطريق. وأخرجه النسائي في «المجتبى» (5/247) ، والدارمي (1921) ، وابن خزيمة (2974) من حديث أبي الزبير، عن جابر. وذكره السيوطي في «الدر» (4/122) من حديث علي، وعزاه إلى أبي الشيخ، وابن مردويه، وذكره (4/123) من حديث سعد بن أبي وقاص، وعزاه إلى ابن مردويه، وابن أبي حاتم، وذكره من حديث أبي هريرة، وعزاه إلى ابن مردويه، وابن المنذر. وعزاه -أيضاً- إلى ابن مردويه، من حديث ابن عمر. وللحديث طرقٌ كثيرة جداً. انظر: «الدر المنثور» (4/123-125) . (1) وهو الصواب؛ فقد أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الجزية والموادعة (باب كيف يُنْبَذُ إلى أهل العهد) (رقم 3177) من طريق حميد بن عبد الرحمن -وهو الحديث المذكور في الهامش السابق- وفيه قال: ويوم الحج الأكبر يوم النَّحر، وإنما قيل: الأكبر؛ من أجل قول الناس: الحج الأصغر. وعنده -أيضاً- (رقم 4657) : فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة. وانظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (6/1747/رقم 9226) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الحج (باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وبيان يوم الحج الأكبر) (435) (1347) . وهو مذهب أبي بكر، وابن عمر، وأبي هريرة، والمغيرة ابن شعبة، وأبي جحيفة، وعبد الله بن أبي أوفى، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن شداد، وسعيد بن جبير -على اختلاف فيه-. وقاله ابن مردويه. انظر: «تفسير ابن جرير» (6/69-74) ، و «أحكام القرآن» (4/ 268) للجصاص، و «الدر المنثور» (4/127-128) ، و «زاد المعاد» (2/252) . (2) وهو مذهب عمر -رضي الله عنه-، وابن عباس، وابن الزبير، وأبي جُحيفة، والمسور بن مخرمة، ومحمد بن قيس بن مخرمة، وعطاء، وكيسان والد طاوس. واختلف فيه عن عليٍّ؛ فقيل: يوم النحر، وقيل: يوم عرفة. أخرج الترمذي (957) مرفوعاً، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 -تعالى-: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ. وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [التوبة: 1-2] ، إلى قوله -تعالى-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} الآية [التوبة: 5] ، وإنما سميت هذه حُرماً؛ لأنها كُفَّ عنهم فيها، وحرم قتالهم إلى انسلاخها، وكلّ ذلك منقول مشهور عند أهل العلم. فصلٌ: في بيان فرضِ الجهاد، وتفصيل أحكامه على الأعيان وعلى الكفاية، وما هو من ذلك نفلٌ بحسبِ الأحوال قال الله -تبارك وتعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، وقال -تعالى-: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] ، وقال -سبحانه-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ. إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة: 38-39] . وخرَّج مسلم (1) ، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مات ولم يَغْزُ،   = و (958) موقوفاً عن علي، قال: يوم الحج الأكبر: يوم النحر. والموقوف والمرفوع ضعيفان؛ لأنه من رواية الحارث الأعور، عن علي. والحارث ضعيف. وانظر: «تفسير الطبري» (6/67-68) ، و «أحكام القرآن» (4/268) للجصاص، و «الدر المنثور» (4/128-129) . وعن سعيد بن المسيب أنه قال: «الحج الأكبر: اليوم الثاني من يوم النحر» . انظر: «الدر المنثور» . وقال مجاهد وسفيان الثوري: أيام الحج كلها، نقله الجصاص (4/268) . (1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب ذم من مات ولم يَغزُ، ولم يحدث نفسه بالغزو) = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ولم يحدّث نفسه بغزو؛ مات على شعبةٍ من نفاق» . وخرَّج أبو داود (1) ، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ لم يَغْزُ أو يُجهِّزْ غازياً أو يَخْلُف غازياً في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعةٍ قبل يوم القيامة» . وخرَّج -أيضاً- عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم» (2) .   = (158) (1910) . ومن طريقه ابن حزم في «المحلَّى» (7/291) . (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب كراهية ترك الغزو) (رقم 2503) بسنده إلى الوليد بن مسلم، عن يحيى بن الحارث الذماري، عن القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة. وأخرجه من طرقٍ عن الوليد به: الدارمي (2423) ، وابن ماجه (2762) ، والطبراني في «الكبير» (8/211/7747) ، وفي «مسند الشاميين» (رقم 883) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/48) ، وأبو الفرج المقرئ في «الأربعين في فضل الجهاد والمجاهدين» (ق 177/ب) ، وشمس الدين المقدسي في «فضل الجهاد والمجاهدين» (28) ، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 99) . والوليد بن مسلم؛ قال الحافظ في «التقريب» (7456) : «ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية» . وقد صرَّح الوليد عند ابن ماجه، والدارمي، والطبراني، وأبي الفرج بالسماع من يحيى، لكنه لم يصرح بتحديث القاسم ليحيى -ولابد من ذلك-؛ لأنه كما سبق يدلس تدليس التسوية. ولكن أخرج الحديث: الروياني في «مسنده» (2/279 رقم 1201) فقال: حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم به. فصرّح بتحديث القاسم ليحيى، وبتحديث أبي أمامة للقاسم، فزالت شبهة تدليسه. وعلي بن سهل، هو الرملي: «صدوق» . كما في «التقريب» (4741) . ومن طريق الروياني: أخرجه ابن عساكر في «الأربعين في الحث على الجهاد» (ص 84-85) . وعلى أيٍّ، فالحديث حسن -إن شاء الله-. انظر: «صحيح أبي داود» (2/97) لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. وله شاهد من حديث مكحول، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ أخرجه عبد بن حميد (1432) ، والطبراني في «الشاميين» (رقم 287) بإسناد ضعيفٍ، مع إرساله. وأخرجه -أيضاً- ابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 98) ، والطبراني في «الشاميين» (رقم 796) بإسناد ضعيف -أيضاً-. لكن يشهد له حديث أبي أمامة المذكور آنفاً، والله الموفق. (2) في الأصل علامة إلحاق، ولايوجد شيء في الهامش، ولعلَّ الناسخ أراد إلحاق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فإذا تقرَّر ذلك، فللقيامِ بالجهاد من حيث الحاجة والاستغناء؛ ثلاثة أحوال: حالٌ يكون فيها الجهادُ فَرضاً في الجملة على الكفاية، وحالٌ يكون فيها فرضاً على الأعيان، وحالٌ يكون فيها نَفْلاً. فأما الحالة الأولى: حيث يكون الجهاد فرضاً في الجملة؛ فهي حالة الأصل التي تَقدَّم فرضُ القتال فيها على الكفاية، وذلك مالم يَعْرض عارضٌ ينقل الفرضَ إلى التعيين، فواجبٌ على المسلمين في الجملة غزو الكفار ابتداءً، وجهادهم على الإيمان؛ ولتكون كلمة الله هي العليا؛ حتى يقهروهم، ويضطروهم إلى أَوْكَسِ الأحوال، المرَّة بعد المَرَّة، قال بعض أهل العلم (1) : وأَقلُّه مرةً في العام، وهذا عندي صحيح (2) ؛ لأنه قد تقدم أن الجهاد فرضٌ يتكرر على الكفاية، ولم يجعل الله -تعالى- لمن أبَى على مرِّ الأعصار غايةً يتعقبها الكَفُّ إلا بأحدِ أمرين: إما أن يدخلوا في الإسلام، وإمّا أن يُؤدُّوا الجزية، -على خلافٍ فيمن تُقبل الجزية منهم، نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى-. قال الله -سبحانه-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} -أي: شركٌ-: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] ، وقال -تعالى-: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ   = كلمة «وألسنتكم» ؛ لأنها تتمة لفظ الحديث. وقد مضى تخريجه في أول الباب. فانظره هناك. وهو صحيح. (1) هو مذهب الحنابلة، انظر: «المغني» (13/10- ط. هجر) ، و «المقنع» ، و «الشرح الكبير» و «الإنصاف» (10/12- كلها مطبوعة مع بعضها- ط. هجر) . قالوا: لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام، وهي بدلٌ عن النُّصرة، فكذلك مُبْدلُها وهو الجهاد، فيجب في كل عام مَرَّةً، إلا من عُذرٍ. وهذا -أيضاً- مذهب الشافعية كما في الهامش الآتي. (2) قال بدر الدين بن جماعة في كتابه: «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» (ص 155) : ثم إن كان المسلمون مستظهرين على عدوهم، فأقل ما يجزيء في كل سنة غزوة، فلا يجوز خلوّ دين الإسلام عنها، إمّا بنفس الإمام أو نائبه، في سريةٍ أو جيشٍ ونحوه، فإن عطّل السلطان سنة من غير عذرٍ أثم، وإن دَعَت الحاجة إلى أكثر من غزوةٍ في السنة وجب بقدر الحاجة. ا. هـ كلامه -رحمه الله-. وانظر: «المهذب» للشيرازي (2/227) ، «روضة الطالبين» (10/208) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . فدلَّ ذلك كلُّه على أنه مَهما بقي من الكفار أحدٌ يمكن التوصُّل إليه، فواجبٌ على المسلمين قتالهم حتَّى يسلموا، أو يؤدُّوا الجزية إن كانوا من أهلها. وإذا تقرَّر هذا، فلم يَبقَ إلا أن يكون ذلك متوالياً مُتَّصلاً، لا يفترُ المسلمون عنه، وفي ذلك إجحافٌ، قد عُلم في الشَّرع التَّخفيف دونه، أو أن يتكرر ذلك على أوقاتٍ يَتَّسعُ الناس في أثنائها، فلا تجد ذلك أقلَّ من مرَّةٍ في العام، قال الله -تعالى- في المنافقين وتقريعهم: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126] . فأَعْلَمَنا -سبحانه- أن فتون أهل الكفر وإصابتهم في كلٍّ عامٍ مرَّة مقنعٌ في العقاب، ومذكِّرٌ لأولي الألباب. وقال كثيرٌ من أهل العلم (1) في حدِّ الأَداء لوجوب القيام بفرض الجهاد: هو أن يُدفع العدو، وتُحمى الثغور، ويُستظهر على أهل دار الحرب، فإذا قيم بذلك سقط الفرض، ومن قام به من المسلمين أجزأ، وهذا صحيح ما دام بالمسلمين حاجةٌ إلى ذلك، وإنما يكون القول بإيجابِ المرَّة بعد الخلو والتَّفَرّغ من ذلك كلِّه، ومُضيِّ السنين، من غير احتياجٍ إلى شيءٍ منه، ومهما احتيج في سدِّ الثغور، وصلاح أحوال المسلمين إلى التعهُّد بأكثر من ذلك، فهو يجب بحسب ما تدعو إليه الحال، كما عُلِمَ من فعلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتواتَرَ من موالاته غزو الكفار المرّة بعد المرّة. خرّج مسلم (2) عن بُريدة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة، قاتل في   (1) انظر: «الوسيط» للغزالي (7/6) ، «البحر الرائق» (5/120) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب عدد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -) (143) (1254) ، من حديث بريدة -رضي الله عنه-. وعن زيد بن أرقم قال: «غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة، وغزوت معه سبع عشرة غزوة» . أخرجه أحمد (4/347) من طريق ميمون أبي عبد الله، عن زيد، به. ونحوه عن أبي إسحاق عن زيد؛ أخرجه البخاري (3949) ، ومسلم (143) (1254) ، والترمذي (1676) ، وأحمد (4/368، 370، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ثمانٍ مِنهنّ. قال أبو محمد بن حزم (1) : غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه خمساً وعشرين غزوة -ذكرها واحدةً واحدةً- أوَّلها: ودَّان، -وهي: الأبْواء-، وآخرها: غزوة تبوك، قال: وكانت له - صلى الله عليه وسلم - بعوثٌ (2) كثيرة جداً. ففي ذلك كلِّه أدلُّ دليلٍ على موالاة غزو الكفار مع الإمكان، وإن لم تَدْعُ إلى ذلك ضرورة. وأما الحالة الثانية: حيثُ يتعين فرضُ الجهاد، فهو إذا أَظلَّ العدو بلداً، أو جانباً من ثغور المسلمين مُقاتلاً لهم، فيتعيَّن فرض الجهاد حينئذٍ على كل واحد ممَّن هنالك من المسلمين في خاصَّته، وعلى قدْرِ طاقته، إلى أن تقع الكفاية،   = 371، 373) ، وعبد بن حميد (261) . وعن البراء بن عازب قال: «غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة» . أخرجه أحمد (4/290، 301) من طريق الجراح -والد وكيع- عن أبي إسحاق، عن البراء. وفي رواية عند البخاري (4471) ، وأحمد (4/292) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق عنه، قال: «غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة» . وهذا يفسر الرواية السابقة أن البراء غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة، لا أن غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي قاتل فيها والتي لم يقاتل فيها هي خمس عشرة غزوة، وإنما هي تسع عشرة غزوة، كما قال بريدة وزيد بن أرقم -رضي الله عنهما-. (1) في «جوامع السيرة» (ص 16) . وأورد (غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -) في ثَبَتٍ مستقلٍّ كل من الواقدي (2-8) ، وابن حبيب (110-125) ، وابن الجوزي في «تلقيح الفهوم» (22-36) ، وابن القيم في «زاد المعاد» (1/66) ، وأبي نعيم في «دلائل النبوة» (173) ، وابن كثير في «السيرة النبوية» (2/352) . وأوْرَدَتْها سائر كتب السيرة على التفصيل. وفي ترتيب هذه الغزوات اختلافٌ بين العلماء، وابن حزم أقرب أهل السيرة إلى ما اختار ابن هشام، إلا أنه جعل غزوة العشيرة رابعة في الترتيب، وجعلها ابن حزم -كما فعل ابن حبيب- ثالثة، وعَدَّ ابن هشام الغزوات سبعاً وعشرين، بينما عدَّها ابن حزم خمساً وعشرين. (2) جمعها الدكتور بريك العمري في دراسته المنشورة في مجلدة بعنوان: «السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ويحصلَ الاستقلال بقتال العدو ودفعه، فإنْ قصَّر عددُ من هنالك، أو قوَّتهم عن دفاعهم؛ وجَبَ كذلك على كل من صاقبهم وقرُبَ منهم من المسلمين إعانتهم والنفير إليهم، ثم كذلك أبداً إن غارّهم العدوُّ، حتى يعُمَّ الفرض جميع المسلمين، أو يقع الاستغناءُ من دون ذلك بمقاومتهم ودفعهم (1) ، والدليل على صحة ذلك: قوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقوله -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، فمن ترك دفاع كافرٍ عن مؤمنٍ تثاقلاً من غير عذرٍ يُسْقط به عنه القيام، فقد ترك المعاونة على البرِّ والتقوى، وجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين، وقد نفى الله -تعالى- ذلك أن يكون من الشَّرع؛ ففعل ذلك معصيةٌ، وتعدٍّ لحدود الله -تعالى-. خرَّج أبو داود (2) ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول   (1) ولا يجزيء فيه أحدٌ عن أحد، ولا يجب في هذه الحال استئذان العبد سيده، ولا الولد والده، ولا من عليه الدَّينُ صاحبه. وانظر: «الأم» للشافعي (4/91) ، «الوجيز» للغزالي (2/114) ، «بدائع الصنائع» للكاساني (4300) ، «الإفصاح» (2/273) لابن هبيرة، «بداية المجتهد» (1/397) لابن رشد، «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لبدر الدين بن جماعة (ص 156) ، «الاعتصام» للشاطبي (3/27- بتحقيقي) . (2) في «سننه» في كتاب الديات (باب أَيُقاد المسلم بالكافر؟) (رقم 4531) ، وفيه زيادة: «ويردُّ مشدّهم على مضعفهم، ومُتَسرِّيهم على قاعدهم» . وأخرجه في كتاب الجهاد (باب في السرية تردُّ على أهل العسكر) (رقم 2751) وفيه زيادة -أيضاً-. وأخرجه ابن ماجه (2685) ، وأحمد (2/192) ، وابن الجارود (1073) ، والطيالسي (2258) ، والبغوي (2532) ، والبيهقي (8/29) من طرقٍ عن عمرو بن شعيبٍ، به. وهو قطعة من حديث خطبة الفتح الطويل؛ أخرجه الترمذي (1413 و1585) ، وأبو داود (1591) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (570) ، وأحمد (2/180، 205، 215، 216) ، وابن ماجه (2659) ، وابن الجارود (1052) ، وابن خزيمة (2280) ، والبيهقي (8/29) ، والبغوي (2542) . ... والحديث صحيح. انظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم» . وذلك مما لا يُعرف فيه خلاف (1) .   (1) هذا النوع يسمى عند غير واحد من الفقهاء (جهاد الدّفع) . وهو: «أصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، كما قال الله -تعالى-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} [الحج: 39] » قاله ابن القيم في «الفروسية» (ص 187- بتحقيقي) ، وزاد: «فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمّ وجوباً، ولهذا يتعيّن على كل أحد يقم، ويجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق. ولا يُشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضِعْفَي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجباً عليهم؛ لأنه حينئذٍ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرّته؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد. ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالباً مطلوباً أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين. وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رجلين: إمّا عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلّه لله، وإما راغب في المغنم والسَّبي. فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالبا مطلوباً؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظّفر» . ونفي الخلاف في هذا الوجوب العيني في هذا النوع مسبوق به المصنف، وهو مشهور في كتب العلماء، قال الجصاص في «أحكام القرآن» (4/312) : «ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو، ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة: أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، إذ ليس من قول أحدٍ من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسَبْيَ ذراريهم» . وقال القرطبي في «تفسيره» (8/51) : «إذا تعيّن الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار ... وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا، ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً. كلٌّ على قدر طاقته ... ، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قوله: «تتكافأ دماؤهم» ، أي: هم في القصاص سواء؛ الشريف والمشروف، والرجل والمرأة. ومعنى: «يسعى بذمتهم أدناهم» : إنَّ كلَّ مسلمٍ أمَّن حرْبياً، فأمانه جائز على سائر المسلمين، سواء كان شريفاً أو وضيعاً، حراً أو عبداً، رجلاً أو امرأة. ونحوٌ منه قوله في هذا الحديث: «ويجير عليهم أقصاهم» ، أي: يلزمهم ذلك، وإن بَعُدَ، وروي هذا الحرف في غير هذا الحديث: «ويردُّ عليهم أقصاهم» (1) . قيل: هو في السَّرِيَّة تخرج من العسكر فَتَغْنَم، فيكون ذلك لها، وللعسكر الذي خرجت منه، وإن بعدت في المغزى (2) . ومعنى:: «وهم يدٌ على من سواهم» : أن عليهم التعاون في دفع العدو، إذا نزلَ على أحدٍ منهم، فواجب عليهم أن يكونوا يداً واحدةً في ذلك على الكفار. ويلحق (3) هذه الحالة في تعيين الجهاد -أيضاً- للأمر يَعْرض: حالةُ استنقاذ الأسرى إذا حازهم العدو، وكان بالمسلمين قدرة على استنقاذهم بالقتال، قال   (1) = على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أنّ منهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم. وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه -أيضاً- الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم» . () وهذا اللفظ -أيضاً- عند أبي داود، والمعنى الذي ذكره المصنف هو الذي بوَّب به أبو داود. (2) قال الخطابي في «معالم السنن» (2/314) : «ومعناه: أن يخرج الجيش، فينيخوا بقرب دار العدو، ثم ينفصل منهم سرية فيغنموا، فإنهم يردُّون ما غنموه على الذين هم ردءٌ لهم لا ينفردون به، فأمّا إذا كان خروج السريّة من البلد، فإنهم لا يردّون على المقيمين في أوطانهم شيئاً» . وانظر «حاشية السندي على سنن ابن ماجه» (رقم 2659، 2685) . (3) ويتعيّن الجهاد: إذا تقابل الصفّان، فيحرم في حق من شهده الانصراف، لقوله -تعالى-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ} [الأنفال: 45] ، وكذا إذا عيّن إمام المسلمين شخصاً بعينه للجهاد، وعلى هذا يكون الجهاد فرض عين على العسكر المعيّنين من قبل الإمام في ديوان الجند، وكذا إذا كان النفير عاماً، كأن يستنفر الإمام أهل بلد أو قرية إلى الجهاد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استنفرتم فانفروا» . أخرجه البخاري (2825) ، ومسلم (1353) من حيث ابن عباس. وانظر: «المغني» (13/8) ، «معونة أولي النهى» (3/588) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الله -تعالى-: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] ، قيل: يريد قتال أهل مكة لاستنقاذ من فيها من المستضعفين (1) ، وكذلك يدل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وهم يدٌ على من سواهم» . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فُكُّوا العاني» ؛ خرَّجه البخاري (2) . ولا خلاف في ذلك أعلمه. قيل: فإن لم تكن لهم قدرة على استنقاذهم بالقتال، وكانت هنالك أموالٌ يُفدَون بها؟! وَجبَ فداؤهم بالمال، وإن كانت لهم قدرةٌ، وهناك أموالٌ، كانوا بالخيار بين القتال والفداء، واجبٌ عليهم أن يمتثلوا أحدَ الأمرين (3) . وأما الحالة الثالثة (4) : فهي ما وراء القيام بالفريضة في الحالتين المتقدمتين،   (1) أخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/1002/ رقم 5610) بسنده إلى مجاهد في تفسير هذه الآية، قال: «أمرَ المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة» . وأخرجه ابن جرير في «التفسير» (4/168) ، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (2/593) إلى عبد بن حميد في «تفسيره» . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسِّير (باب فكاك الأسير) (رقم 3046) ، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فكّوا العاني -يعني: الأسير- وأطموا الجائع، وعودوا المريض» . وأخرجه في كتاب النكاح (باب حقّ إجابة الوليمة والدعوة، ومَن أولم سبعة أيام ونحوه) (رقم 5174) . وفي كتاب الأطعمة (باب وقول الله -تعالى-: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ) (رقم 5373) . وفي كتاب المرضى (باب وجوب عيادة المريض) (رقم 5649) . وفي كتاب الأحكام (باب إجابة الحاكم الدعوة) (رقم 7173) . (3) وسيأتي تفصيل (أحكام الأسرى والتصرف فيهم) في (الباب الخامس) -إن شاء الله تعالى-. (4) بقيت (حالة رابعة) ، وهي مهمة جداً، وهي تخصُّ نوازل الجهاد في هذا الزمان، فقد تقع وستجدّ ملابسات، ما كانت في حسبان فقهائنا الأقدمين، تؤثر على الحكم العيني أو الكفائي، تجعل الموفَّق من (المفتين) يأخذها بعين الاعتبار، كما وقع تماماً لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لما ذكر أنَّ الناس كانوا في وقت الشدائد يطوفون بالقبور، ويستنجدون بهم، ويطلبون منهم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = النصر، قال في كتابه «الاستغاثة والرد على البكري» (2/623) بعد أن قرر هذا: «ولهذا كان أهل المعرفة بالدِّين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة، لمن عرف هذا وهذا، وإن كان كثير من المقاتلين الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أُجروا على نياتهم» في كلام مهم تنظر تتمته. قال أبو عبيدة: هذا من دقة شيخ الإسلام ابن تيمية المتناهية في المسائل الفقهية؛ فالجهاد في الظروف الصعبة، والأحوال غير الطبيعية يحتاج إلى أحكام تراعى فيه ظروفه، وما يحيط به من مستجدات، وهو ليس كالصلاة، لابد من أدائه على أية حال! كما يعتقد بعض الداعين إليه، والمتحمسين له! ولست مبالغاً إن قلت: إنّ أبرز آثار (الفوضى) في (الفتوى) اليوم تظهر علينا في (الجهاد) وأحكامه! والعجب من المفتين التناقض الشديد بينهم في هذا الميدان، واختلافهم في الجملة على حسب البلدان، ويدور مع مصالحهم دون النظر إلى مآلات الأفعال، وقد بلونا جملة من الوقائع، سمعنا فيها عجباً من أناس يشار لهم بالبنان، يتكلمون على أنهم علماء الأمة، ويطلقون التكفير بمراهقة الشبان، وهم كبار كبار؛ في أسنانهم، ودعواتهم، ومناصبهم، ولكنهم -والله! - ليسوا كذلك في تقعيدات العلماء وأصولهم! وأكبر مثال وأشهره -وهو ما زال ماثلاً للعيان-: الجهاد في العراق لصد العدوان الأمريكي؛ فكثير من الناس أفتى بالوجوب العيني على الشباب، بناءً على أن أمريكا هي أصل الشر، و ... ، و ... ، و ... ، دون اعتبار جميع الأوصاف والقيود التي لها أثر في الفتوى؛ فالنتائج محسومة، والأمور محسوبة، والأمن للمجاهدين غير حاصل، والنظام القائم بَعْثيٌّ لا شرعي، ولو قيل بالجواز لهان الخطب، أمّا الوجوب، والوجوب العيني؛ فهذ -والله! - غفلة عما نبه شيخ الإسلام ابن تيمية على ما هو دونه، ووصف غير المقاتلين للتتر آنذاك «أهل المعرفة بالدين» ! والخلط والخبط في الأزمات يشتدّ، ولا سيما في أحكام الجهاد؛ فهذا قائل بوجوب القتال مع العراق، وآخر بوجوب القتال ضدّه، وكلا الصنفين ينعت وجوبه بـ: «الشرعي» ، وتكرر هذا الخلط عدة مرات، ابتداءً من الحرب ضد إيران، ومروراً باحتلال الكويت، وأخيراً عند قدوم الأمريكان!! -والله أعلم بما سيكون في قابل الزمان- ووراء كل صنف إعلام ومؤسسات وهيئات للفتوى! و (الشباب) متحمّس ومتوثّب ومتثبّت، ومواقفهم -ما لم يعصمهم الله- متذبذبة، وسماع الوجوب العيني مع عدم فعله له آثار تربوية سيئة مدمرة! لا يقدّره إلا الراسخون المربون من العلماء. أما آن للمفتين قبل استدعاء النصوص -التي يعرفها كل طالب علم- فحص المكان والواقع الذي ستنزّل عليه، والنظر إلى المآلات؟! وأخيراً ... إنّ إماتة لفظة (الجهاد) من مشاعر المسلمين، سواء بسوء استخدامها، ووضعها في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فمن جاهد بعد ذلك، وقد قيم بفرض الكفاية، وتَمَّ الدفاع عن المسلمين؛ فهو له نافلةٌ، وفيه فضلٌ كثير، وأجرٌ عظيم، وهو من أفضل أعمال البر، وأعلى درجات الطاعة، قال الله -تعالى-: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] ، ثم قال -تعالى-: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] ، فمعلومٌ أن عِدَةَ الحُسنى لا تكون لمن ترك الفرض {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 95] . فصلٌ: في صفة من يجب عليه الجهاد ومن لا يجب اتفق أهل العلم، أن الحرَّ البالغ المطيق للقتال هو من أهل الجهاد الذين يتوجَّه تكليف ذلك عليهم، بعد وجوبه بحسب الأحوال التي قدَّمناها، واتفقوا كذلك أن المرأة ومن لم يبلغ، والمريض الذي لا يستطيع القتال، لاجهاد فَرْضاً عليهم، وكذلك الفقير الذي لا يقدر على زادٍ، لا خِلاف في (1) شيءٍ من ذلك كلِّه. قال الله -تعالى-: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] .   = غير مكانها، أو بإيجابها على عاجزين، لا يقل سُوءاً عن صنيع تلك الثلة التي تعمل على إخماد نورها وإطفاء لهيبها! والمحصّلة والثمرة واحدة، فهل من مدكر؟! والذي أراه ضرورةً؛ مراعاة المفتين إعادة (الهيبة) إلى هذا (المصطلح) ؛ بترك ابتذاله، وسوء إسقاطه، وكذا من الخطباء والوعاظ؛ بترك استخدامه زينةً -فحسب- لخطب رنانة، وكذا من الدعاة والأحزاب؛ بترك توظيفه للوصول إلى أعناق الجماهير، والمجالس النيابيّة، وتزيينه بالبيانات الحزبية، وإنما العمل على التكامل بينهم للنهوض بواجب الوقت، والوصول بالأمة إلى ذورة السنام، وترك التآكل، والبعد عن السذاجة وتفويت فرص التربّص، والتربية الشرعية الجادة الموصلة للولاية لله ورسوله والمؤمنين. (1) في الأصل بعدها علامة إلحاق، وكتب أبو خبزة في هامش نسخته بعدها: هنا كلمة أخرجت بهامش الأصل، أصابها القطع ولعلَّها (شيء من) . قلت: وهي تليق في هذا المحل؛ ولهذا أثْبَتُّها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 واختلفوا في العبد ومن له أبوان، هل يستأذنهما؟ ومن عليه دينٌ، هل يخرج بغير إذن غُرمائه؟ فأمًّا العبد: فالجمهور على أنَّه ليس من أهل الفرضِ في الجهاد، وأنه لم يخاطب بذلك إلاَّ الأحرارُ؛ لأنَّ فِعلَ الجهاد تُصابُ (1) فيه النفس والمال بالإتلاف، وهو مقصورٌ عن ذلك بالشرع (2) . قال قوم: ولو غزا مع سيده ليخدمه، فلا يقاتل إلا بإذنه، إلا أن يدخل العدوَّ عسكرَ المسلمين، فليقاتل ويدفعْ (3) . فمنعوه من القتال ابتداءً؛ لأن في ذلك الهلاكَ غالباً، وهو مالٌ لمالكه محظورٌ في الشرع تصرُّفٌ فيه بما يُعرِّضه للهلاك من غير إذن سيِّده، فأما في ضرورة الاقتحام ونحوه، فذلك أمرٌ يتعيَّن فيه القتال على كلِّ مكلفٍ قادرٍ، ولا أعلم الآن من يقول بإيجاب الجهاد عليه -أعني: الذي هو فرض كفاية، كما يكون ذلك على الأحرار- إلا ما تأتي عليه أصول (4) أهل الظاهر، فإنهم يرون الخطاب الواردَ في الشرعِ مَوْرِدَ العموم يتناول الحُرَّ والعبدَ على حدٍّ سواء، إلاّ أن يخصَّصَ شيئاً من   (1) في هامش نسخة أبي خبزة: «في الأصل بقية كلمة، وكلمة أخرى أصابتها الأرضة» . (2) قال بدر الدين بن جماعة في «تحرير الأحكام» (ص 156) : «الجهاد الذي هو على الكفاية: إنما يجب على المسلمين، البالغين، الذكور، العقلاء، الأحرار، والأصحّاء المستطيعين، ومتى فقد هذه الأوصاف السبعة لم تجب عليه» . وانظر: «الأم» (4/85، 86) ، «والوجيز» (2/113) ، «روضة الطالبين» (10/209، 210) ، «المهذب» (2/228) . (3) لا يشترط إذن السيد في قتال العبد عند تعيّنه عليه، ويشترط فيما دون ذلك دون خلاف، انظر: «شرح السير الكبير» (4/1455) ، «بداية المبتدي» (2/135، 137) ، «فتح القدير» (5/442) ، «التاج والإكليل» (3/349) ، «الشرح الكبير» (2/175) ، «روضة الطالبين» (10/214) ، «مغني المحتاج» (4/ 217، 219) ، «الإنصاف» (4/117) ، «كشاف القناع» (3/33) ، «أحكام إذن الإنسان في الفقه الإسلامي» (2/627) . (4) كلام المصنف دقيق، فهو يخرّج على أصول الظاهرية، وهذا يدلل على أنه (فقيه نفس) ، والمنقول عن داود أن العبد إذا خالف أمر سيده، وأحرم بالتطوع أو النذر فلا ينعقد إحرامه خلافاً للجماهير، والمسالة مبسوطة في «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (رقم 715- بتحقيقي) ، ونقل فيها مذهب داود الظاهري، ونقله -أيضاً- النووي في «المجموع» (7/37، 47) ، وانظر: «فقه داود» (577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ذلك قرآن، أو سُنَّة ثابتةٌ، أو إجماعٌ صحيحٌ، وكذلك أوجبوا عليه الحجَّ بهذا الاعتبار مع الاستطاعة، ورأوا ذلك إذا فعله مُجزءاً عنه إذا عُتِقَ بعدُ؛ لأنه كان مخاطباً بذلك في حال الرِّق، فإذا فعله سقط عنه الفرضُ. وأمَّا من له أبوان؛ فإن كانا يضيعان بخروجه إلى الجهاد، فهو إجماعٌ على أن فرض الجهاد ساقِطٌ عنه، ذكره أبو محمد بن حزم في «مراتب الإجماع» (1) . وإن كانا ممَّن لا يضيع، فذهب الجمهور إلى أن عليه أن يستأذنهما، فإن أذنا له خرج، وإن أبَيَا عليه لم يَجُزْ له أن يخرج، رُوي ذلك عن مالكٍ، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أهل العلم. قال أبو عمر بن عبد البر (2) : «لا خلاف أعلمه أن الرجل لا يجوز له الغزو ووالداه كارهان، أو أحدهما» . قلت: ذلك إذا لم يتعيَّن الفرض، مثل أن يفْجأ العدو (3) ، فيُحتاج إليه في الدفع، ونحو ذلك مما يتعيَّن فيه؛ لأنه مالم يتعيَّن، يعصي والديه ويعقّهُما في غير شيء أوجبه الشرع، فذلك حرامٌ عليه، وأما إذا تعيَّن الفرض، فلايستأذنهما في ترك الفرائض (4) ، قال الله -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ   (1) (ص 138-139) ، وانظر الإجماع في: «المحلى» (5/341) ، «رحمة الأمة» (528) ، «مشارع الأشواق» (1/99) ، «الفروع» (4/261) . (2) في «الاستذكار» (14/96- ط. قلعجي) . وتتمة كلامه: «لأنَّ الخلاف لهما في أداء الفرائض عقوق، وهو من الكبائر، ومن الغزو ما قلت» . (3) هل حضور الولد الصّف بعد الإذن، يؤثر فيه رجوع الأبوين عن الإذن؟ خلاف بين أهل العلم، بخلاف رجوعهما قبل حضور الصف، فالواجب على الولد الرجوع ما لم يتعين عليه الجهاد، انظر بسط المسألة في: «روضة الطالبين» (10/212) ، «أسنى المطالب» (4/177-178) ، «مغني المحتاج» (4/218) ، «كشاف القناع» (3/40) ، «أحكام إذن الإنسان» (2/624-625) ، «رسالة الإرشاد إلى بيان الحق في حكم الجهاد» (ص 74- وما بعدها) . (4) انظر: «المعونة» (1/602-603) ، «الرسالة» (ص 191) ، «الكافي» (ص 206) ، «بداية المجتهد» (1/397) ، «المقدمات» (1/351) ، «بلغة السالك» (1/356) ، «حاشية الخرشي» (4/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8] . خرَّج البخاري (1) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» . وخرَّج النسائي (2) عن معاوية بن جاهمة السَّلمي، أنَّ جاهمة جاء إلى النبي   = 11) ، «الأم» (4/91) ، «الوجيز» (2/114) ، «روضة الطالبين» (10/214) ، «مغني المحتاج» (4/ 219) ، «الإفصاح» (2/273) ، «بدائع الصنائع» (430) ، «تبيين الحقائق» (3/241) ، «فتح القدير» (5/442) ، «الفتاوى الهندية» (2/189) ، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (ص 156) ، «المغني» (8/ 358) ، «الإنصاف» (4/117) ، «كشاف القناع» (3/39، 40) . (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب الجهاد بإذن الأبوين) (رقم 3004) . وفي كتاب الأدب (باب لا يجاهد إلاّ بإذن الأبوين) (رقم 5972) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب البر والصلة (باب بر الوالدين وأنهما أحقّ به) (رقم 2549) . (2) في «المجتبى» (6/11/رقم 3104) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن طلحة -وهو ابن عبد الله بن عبد الرحمن- عن أبيه طلحة، عن معاوية بن جاهمة، به. وهذا إسناد حسن، محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن: أي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وقد روى عن محمدٍ جَمْعٌ، وذكره ابن حبان في «الثقات» (7/367) . وقال الحافظ في «التقريب» : صدوق، وحديثه عند النسائي وابن ماجه، وأبوه طلحة روى عنه جَمْعٌ، وذكره ابن حبان في «الثقات» (4/392) ، وقال ابن حجر في «التقريب» : مقبول، وقال الذهبي في «الكاشف» : صدوق. ومعاوية بن جاهمة، قال الحافظ: لأبيه وجده صحبة، وقيل: إن له صحبة. وابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز، وهو مُدلِّس، وقد صرح بالتحديث هنا، فانتفت شبهة تدليسه. وأخرجه ابن ماجه (2781) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2132) ، والحاكم (2/104) ، والبيهقي في «السنن» (9/26) ، وفي «الشعب» (7833) و (7834) من طريق حجاج بن محمد، وأحمد (3/429) عن روح -وهو ابن عبادة-، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1371) ، والطحاوي (2132) ، والحاكم (4/151) من طريق أبي عاصم ثلاثتهم عن ابن جريج، به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (2133) عن أبي أمية، قال: حدثنا أبو عاصم وحجاج = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ابن محمد، عن محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن معاوية بن جاهمة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. قلت: وهذه رواية مرسلة؛ لأنَّ صحابي الحديث هو جاهمة كما سلف. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (2202) من طريق سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن محمد ابن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن معاوية بن جاهمة، عن جاهمة، به. قال البيهقي: ورواية حجاج عن ابن جريج أصح، قلنا: وقد تابعه أبو عاصم، وروح بن عبادة. وقد خالف ابنَ جريج محمدُ بنُ إسحاق: فأخرجه ابن ماجه (2781) من طريق محمد بن سلمة الحراني، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1372) من طريق المحاربي، كلاهما عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة، عن أبيه، عن معاوية بن جاهمة السلمي، قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجعله من حديث معاوية، وقد وهم في ذلك. وأخرجه ابن أبي شيبة (12/474) عن عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة، عن أبيه طلحة بن معاوية السُّلمي، قال: جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر نحوه، وجعله من حديث طلحة بن معاوية. قال الحافظ في «الإصابة» : وهو غلطٌ نشأ عن تصحيف وقلب، والصواب عن محمد بن طلحة، عن معاوية بن جاهمة، عن أبيه، فصحف «عن» فصارت «ابن» ، وقدَّم قوله: عن أبيه، فخرج منه أن لطلحة صحبة، وليس كذلك. وجماعُ القول في هذا الحديث ما قاله الحافظ في «تهذيب التهذيب» (4/105- ط. مؤسسة الرسالة) من أن الصحبة لجاهمة، وأنه هو السائل، وأن رواية معاوية ابنه عنه صواب، وروايته الأخرى مرسلة، وقول ابن إسحاق في روايته عن معاوية: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهمٌ منه؛ لأن ابن جريج أحفظ من ابن إسحاق وأتقن، على أن يحيى بن سعيد الأموي قد روى عن ابن جريج مثل رواية ابن إسحاق، فوهم، وقد نبَّه على غلطه في ذلك أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» ، والله -تعالى- أعلم. قلت: وانظر «الإصابة» في ترجمة جاهمة، فقد بسط الحافظ ابن حجر القول في هذا الحديث. قال السندي: قوله: «إِلزمها» : من لَزِمَ، كَسَمِعَ. قوله: «فإن الجنة» ، أي: نصيبك منها، لا يصلُ إليك إلا برضاها، بحيث كأنه لها وهي عليه قاعدة، فلا يصل إليك إلا من جهتها، فإن الشيء إذا صار تحت رجلِ أحدٍ فقد تمكَّن منه، واستولى عليه، بحيث لا يصل إلى الآخر إلا من جهته، والله -تعالى- أعلم. وانظر: «الكبائر» للذهبي (رقم 49- التحقيق الثاني) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله، أردْتُ أن أغزو، وقد جئتُ أسْتَشِيرُكَ، فقال: «هل لك من أمٍّ» ؟ قال: نعم. قال: «فَالْزَمْهَا؛ فإن الجنة عند رجليها» . وخرّج أبو داود (1) ، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركتُ أبويَّ يبكيان، قال: «ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما» . وفيه (2) عن أبي سعيد الخدري، أن رجلاً هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن فقال: «هل لك أحدٌ باليمن» ؟ فقال: أبواي. قال: «أذنا لك» ؟ قال: لا. فقال:   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان) (رقم 2528) . وأخرجه عبد الرزاق (9285) -وعنه أحمد (2/160، 194، 198، 204) -، والنسائي في «المجتبى» (7/143) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (13) ، والحميدي (584) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (2332) ، والحاكم (4/152) ، والبغوي (2639) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/26) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/25) ، وفي «تاريخ أصبهان» (2/248) ، وابن الجوزي في «كتاب البر والصلة» (ص45) من طرقٍ عن عبد الله بن عمرو بن العاص. والحديث صحيح. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (2) في «سننه» (الباب السابق) (رقم 2530) من طريق عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج بن سَمْعان، عن أبي الهيثم سليمان بن عمرو العُتْواري، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. وأخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2334) ، وابن حبَّان (422) ، والحاكم (2/103-104) ، والبيهقي في «السنن» (9/26) ، من طريق عمرو بن الحارث، به. وأخرجه أحمد (3/75) ، وأبو يعلى (1402) ، وابن الجوزي في «كتاب البر والصلة» (ص 46) ، من طريق ابن لهيعة، عن دَرَّاج، به. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما اتفقا على حديث عبد الله بن عمرو: «ففيهما فجاهد» » ، وتعقبه الذهبي بقوله: «درَّاجٌ واهٍ» . ومع هذا، فقد قال الهيثمي في «المجمع» (7/137-138) : «رواه أحمد وإسناده حسن» . وفاتَه أن ينسبه إلى أبي يعلى. فإسناد هذا الحديث ضعيف، فمداره على دراج هذا، ومنهم من مشَّى روايته إن لم تكن عن أبي الهيثم خاصة، انظر: «تهذيب الكمال» (8/478-479) . ولكن يشهد له حديث عبد الله بن عمرو السابق ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 «ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرَّهمَا» . وقال الحسن البصري (1) -رحمه الله-: «إذا أذنَتْ له أُمُّه في الجهاد، وعلِمَ أنَ هواها أن يجلس؛ فليجلس» . وقيل للأوزاعي (2) فيمن غزا بإذن والديه، واشترطا عليه أن لا يقاتل، فلقوا العدو، فقال: «لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض، والجُمع، والحجِّ، والقتال» ، وهذا صحيح (3) كما تقدم؛ وذلك أن القتال يتعيَّن عند لقاء العدو، فلم يكن للوالدين ثَمَّ طاعة. واختلفوا في الأبوين إذا كانا مشركين؛ فقيل: لا يغزو إلا بإذنهما؛ لعموم الأمر في ذلك، رُوي ذلك عن سفيان الثوري (4) . وقال به سحنون (5) وغيره، قيل: إلا أن يكون يعلم أنهما يمنعانه لعداوة الإسلام. وقال الشافعي (6) : له أن يغزو بغير إذنهما إذا كانا مشركين، فَخُصِّص الأمر في ذلك بالمسلمين. قال ابن المنذر (7) : والأجداد آباء، والجدَّات أمهات، فلايغزُ المرء إلا بإذنهم.   (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/176 رقم 9288) ، وانظر: «النوادر والزيادات» (3/ 21-22) ، و «فقه الحسن البصري» (1/107، 302) . (2) انظر: «المغني» (13/26-27- ط. هجر) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/393) . (3) وهذا أظهر قولي الشافعية، وبه قالت الحنابلة، انظر: «مغني المحتاج» (4/218) ، «كشاف القناع» (3/40) . (4) انظر: «المغني» (13/26) ، و «النوادر والزيادات» (3/23) ، واختاره ابن المنذر. (5) «النوادر والزيادات» (3/23) ، «حاشية الخرشي» (4/11-12) ، «بلغة السالك» (1/ 356) ، «الفواكه الدواني» (1/627) . وقاله الأوزاعي -أيضاً-، وهو مذهب الحنفية، انظر: «البحر الرائق» (5/122) ، «شرح السير الكبير» (1/135) ، «حاشية ابن عابدين» (6/202) ، «أحكام الإذن» (2/621) ، «أحكام المجاهد بالنفس» (1/318-323) . (6) انظر: «مختصر المزني» (ص 269) ، «الحاوي الكبير» (18/134، 136) ، «المهذب» (2/229) ، «روضة الطالبين» (10/211) ، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (ص 158) ، «حلية العلماء» (7/646) . وهومذهب الحنابلة. انظر: «المغني» (13/26) . وهذا إذا كان الجهاد فرض كفاية. (7) لعلَّه في «الأوسط» (القسم المفقود منه) . وسوَّى كذلك بينهم أبو حنيفة، خلافاً للمالكية، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وأما المِدْيان فاختلفوا فيه، فرُوي عن الأوزاعي (1) أنه أرخص في خروجه إلى الجهاد من غير إذن صاحب الحق، وروي عن الشافعي أنه ليس له أن يغزو بحالٍ إلا بإذن أهل الدَّيْن، وسواء كان الدَّين لمسلم أو كافر (2) ، وفرَّق مالكٌ بين أن يجد قضاءً أو لا يجد، واختلفت مع ذلك فيه الروايات عنه (3) ، والأصل في هذا ما خرَّجه مالك في «الموطأ» (4) عن أبي قتادة، أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله   = فلا يبلغ الجدُّ والجدة أن يلحقا بالوالدين. وقال سحنون: وأمّا الجدُّ والجدَّةُ فبرُّهما واجب، ولا يلحقان في هذا بالأبوين. انظر: «النوادر» (3/23) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/465) ، «الذخيرة» (3/395) . وقال الماوردي في «الحاوي الكبير» (18/137) : «فأما استئذان الجد والجدَّة، فإن كان الأبوان معدومين، أو مشركين، أو منافقين، قاما مقام الأبوين في وجوب استئذانهما، وإن كان الأبوان باقيين مسلمين، ففي وجوب اسئتذان الجد والجدة وجهان: لا يجب استئذانهما؛ لحجبهما عن الولاية والحضانة بالأبوين. والثاني: يجب استئذانهما لوجود إشفاق الأبوين فيهما» . (1) نقله عن القرطبي في «تفسيره» (8/150) ، وابن النحاس في «مشارع الأشواق» (1/ 100) ، وانظر: «أحكام إذن الإنسان» (2/632، 635) . (2) انظر: «الأم» (4/86) -ونقل كلامه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (13/124) - «مختصر المزني» (ص 269) ، «الحاوي الكبير» (18/132-133) ، «روضة الطالبين» (10/211، 214) ، «مغني المحتاج» (4/217، 219) ، «أسنى المطالب» (4/177) ؛ لأن فرض الجهاد على الكفاية -مالم يتعيَّن عليه-، وفرض الدَّيْن متعينٌ عليه، وفروض الأعيان مقدمة على فروض الكفاية، ولأن الجهاد من حقوق الله، وهي أوسع من حقوق الآدميين، وهي أضيق، فقدّم الأضيق على الأوسع، وهذا إذا لم يخلِّف المجاهد وفاءً، والله أعلم. نعم؛ لا يجوِّزون الخروج إلى الجهاد بغير إذن الدائن إلا إذا ترك وفاءً، أو أقام كفيلاً، أو وثّق الدّين بِرَهْن، وبهذا قالت الحنابلة -أيضاً-، انظر: «المحرر» (2/170) ، «كشاف القناع» (3/39) . (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/23) ، «الكافي» (1/464) ، «المقدمات الممهدات» (1/ 351) ، «التاج والإكليل» (3/349) ، «الخرشي» (3/111) ، «حاشية الدسوقي» (2/175) . (4) (ص 285) . وأخرجه مسلم (117) (1885) ، والترمذي (1712) ، والنسائي في «المجتبى» (6/34، 35) ، والدارمي (2417) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» (192) ، والحميدي في «مسنده» (425) من طرقٍ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنْ قُتِلتُ في سبيل الله صابراً محتسباً، مُقْبِلاً غير مُدبرٍ، يُكفِّر الله عَنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم» ، فلمَّا أدْبَرَ الرجل، ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -أو: أمر به فنودي له- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف قُلْت» ؟ فأعاد عليه قوله، فقال: «نعم، إلاّ الدَّيْن، كذلك قال لي جبريل» . وخرَّج مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُغفر للشهداء كُلُّ ذنب، إلاَّ الدَّيْن» . وقد جاء في أمر الدَّيْن تشديد كثير غير هذا؛ فأقول: إنّ تعلق المأثم بالدَّين، إنما يكون حيث التقصيرُ المُتْلِفُ لذلك الحقِّ، إمَّا بالمَطْل أو بالجحود، أو ترك أن يوصي به، وإمَّا أن يَدَّانَ في غير الواجب، وهو ممنَّ لا يقدر على الأداء، وما أشبه ذلك. وللمِدْيان عند إرادة الغزو حالان: مَلاَءٌ أو عَدمٌ. فأما المليء، فإن كان حلَّ دينه، فالظاهر أنه لا يجوز أن يغزو بغير إذن صاحب الحَقّ، فإن كان دينه لم يحلَّ بعد، فهذا له أن يغزو (2) ، وعليه أن يوكِّل من يقضيه عنه عند حلوله، والدليل على ذلك أنَّ من كان مليئاً، وقد حلَّ الحقُّ عليه،   = عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، به. وأخرجه مسلم (118) (1885) ، والحميدي (426) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (2553) ، من طريق محمد بن قيس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسلاً. (1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب من قتل في سبيل الله كُفِّرت خطاياه، إلا الدَّين) (119 و120) (1886) . (2) هذا مذهب الحنفية والمالكية، وهو أصح الوجوه عند الشافعية، وهو قول عند الحنابلة. انظر: «شرح السير الكبير» (4/1450) ، «البحر الرائق» (5/121) ، «الفتاوى الهندية» (2/ 190) ، «حاشية ابن عابدين» (4/126) ، «المقدمات الممهدات» (1/351) ، «حاشية الدسوقي» (2/ 175) ، «بلغة السالك» (1/356) ، «الذخيرة» (3/395) ، «روضة الطالبين» (10/211) ، «مغني المحتاج» (4/217) ، «الإنصاف» (4/122) ، «المبدع» (3/315) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فهو مأمورٌ كل وقت بالقضاء، ففعله ما يحول بينه وبين ذلك من غير إذن صاحب الحق لا يحلُّ له. خرَّج مسلم (1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَطْلُ الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فَلْيتبَعْ» . وأما إذا لم يَحُلْ، فلا حَقَّ عليه الآن في الأداء (2) ، فلا يتَّصف بالمطلِ، فليس عليه أن يستأذنه، لكن عليه باتفاقٍ أن يوصي به، ويُوكِّل على قضائه، فإذا فعل ذلك فقد أدَّى ما لزِمه ساعتئذٍ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فَلْيتْبَعْ» (3) . وأما إن كان عديماً لا يجد قضاءً، ولا يرجو كسباً، فهذا روي عن مالك أنه سُئِل عنه فلم يرَ بجهاده بأساً، يعني: وإن لم يستأذن غريمه، وهذا ظاهر؛ لأنه لا منفعة له في منعه، وليس ممّن عليه حبسٌ ولا سلطان، بل هو مخلًّى بإنظار الله -عز وجل- إيَّاه، فلا يجب له عليه شيءٌ، ما دام على حالته تلك. قال بعض المتأخرين: ولعله يُرزق في الغزو ما يؤدي به دَينه، ففي الغزو خيرٌ لهما (4) .   (1) في «صحيحه» في كتاب المساقاة (باب تحريم مطل الغنيِّ، وصحَّة الحوالة، واستحباب قبولها إذا أُحيل على مليء) (33) (1564) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الحوالات (باب في الحوالة، وهل يرجع في الحوالة) (رقم 2287) . وفي الباب الذي بعده (رقم 2288) ، وفي كتاب الاستقراض (باب مطل الغني ظلم) (رقم 2400) -مختصراً-. (2) استدل المانعون -وهم الشافعية، ويدل عليه كلام الإمام الشافعي في «الأم» (4/86) - أنه إنْ خرج ولم يترك وفاءً أو وثّق الدين برهن، أو أقام كفيلاً، فإن خروجه يعرّضه للقتل، فلا يؤمن أن يقتل فيضيع دينه، ويدل عليه صنيع عبد الله بن عمرو بن حرام -والد جابر-، فإنه خرج إلىأُحد وعليه دين كثير، واستشهد، وقضاه عنه ابنهُ بعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذمه النبي على ذلك، ولم ينكر فعله، بل مدحه، وقال: «ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه» أخرجه مسلم (2471) . (3) سبق تخريجه قريباً. (4) انظر: «الذخيرة» (3/395) ، «المقدمات الممهدات» (1/351) ، «حاشية الخرشي» (4/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقد رُوِيَ -أيضاً- عن مالك ما ظاهره، أنه يجب الاستئذان على من لم يجد وفاءً من دَيْنِهِ (1) ، ولا استئذان على من ترك وفاءً. ذكر أبو الوليد بن رُشد (2) قال: حكى ابن حبيب في «الواضحة» عن مالكٍ، أنه كان يوسِّع لمن عليه دينٌ أن يغزو إذا خلَّف وفاءً من دينه، أو: أذن له غرماؤه بالخروج (3) إن لم يَدَعْ وفاءً من دَيْنِهِ، قال أبو الوليد: وذلك بعيد. فأقول: يحتمل أن يكون وجهه أنه إذا خلَّف وفاءً، فلم يتعرض لإتلاف حقٍّ الغريم بتعرِّضه للقتل في الجهاد، وإذا لم يُخلِّف وفاءً، وذِمَّتُه بالحق معمورة، والغزو مظنة الهلاك، ففي ذلك تلفٌ لحق الغريم، فوجب ألاّ يجوز إلا بإذن صاحب الحق، وهذا ظاهر، وعليه يجيء مذهب الشافعيِّ في مَنْع المديان على الإطلاق من الغزو (4) ، والله أعلم. والقول في استئذان المِدْيان -كما تقدم فيمن له أبوان-: هو إذا لم يتَعيَّن الفرض، فإذا تعيَّن؛ لم يكن لأحدٍ في دفعه اختيار. *****   = 11) ، وهو قول الشافعية على الصحيح، انظر: «روضة الطالبين» (10/210) ، «حاشيتا قليوبي وعميرة» (4/328) . (1) هذا اختيار ابن عبد البر في «الكافي» (1/464) . وانظر: «الفواكه الدواني» (1/627) ، وهو مذهب الحنفية والحنابلة. انظر: «البحر الرائق» (5/121) ، «حاشية ابن عابدين» (6/204) ، «كشاف القناع» (2/372) ، وبعدها في المنسوخ: «أو: أذن له غرماؤه بالخروج» . وفوقها علامة الحذف. (2) في «البيان والتحصيل» (2/530) . (3) في مطبوع «البيان والتحصيل» : «وإن لم يدع وفاء من دينه» . بواو العطف في (إن) . وبعدها: «فظاهر قوله أنه ليس عليه أن يستأذن غريمه، إلا إذا لم يدع وفاءً» . ثم قال: «وذلك بعيد» . (4) الصحيح من مذهبهم عدم اشتراط إذن الدائن، إذا حلّ عليه الدين وهو معسر، والاشتراط وجه عندهم فحسب. انظر: «المهذب» (2/229) ، «روضة الطالبين» (10/210، 211) ، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (ص 158) ، «حاشيتا قليوبي وعميرة» (4/328) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فصلٌ: في بيان الهجرة، وما يجب من ذلك قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] ، وقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 97] . ذكر أهل العلم أنّه لمَّا فرض الله -عز وجل- الجهاد على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أوجَبَ على من كان تخلَّف من المسلمين بمكة الخروج منها، وأنْ يهجروا دار الشرك، ويلحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقال: إنَّ قوماً ممن كان بمكة أسلموا، وأقاموا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فنزلت فيهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] ، إلى آخر الآية (1) .   (1) أخرجه بنحو هذا اللفظ: عبد الرزاق في «التفسير» (1/171) -ومن طريقه ابن جرير في «التفسير» (9/106-107 رقم 10266) -، وسعدان بن نصر في «جزئه» (رقم 47) -ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (9/14- ط. الهندية أو 9/24-25 رقم 17759- ط. العلمية) -؛ كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، به. ورواه محمد بن شريك عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، وزاد: عن ابن عباس. أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (3/1046 رقم 5863) ، وابن جرير في «التفسير» (9/ 102-103 رقم 10260) من طريق أحمد بن منصور الرمادي، والبزار (4 رقم 2204- زوائده) من طريق أبي نعيم؛ كلاهما عن محمد بن شريك، به. قال البزار: «لا نعلم أحداً يرويه عن عمرو إلا محمد بن شريك» . وقال الهيثمي في «المجمع» (7/12-13) : «رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير محمد ابن شريك، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين، وأبو زرعة والدارقطني. وقال أبو حاتم والنسائي والفسوي: ليس به بأس» ، وانظر له: «تهذيب الكمال» (25/369) . وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (2/205) -أيضاً- لابن المنذر في «تفسيره» -وهو ليس في القسم المطبوع منه-، وابن مردويه. واقتصر في «لباب النقول» (ص 107) عزوه على ابن المنذر وابن جرير. وكذلك فعل -قبله- ابن حجر في «الفتح» (8/263) ، وسكت عنه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فكانت الهجرة حينئذٍ فرضاً، يجب على كل من أسلم أن يلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مجاهداً، ومؤازراً، ومعيناً، إلا من كان له عذرٌ عذره الله -تعالى- به، قال الله -سبحانه-: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 98] . ولا خلاف في وجوب الهجرة حينئذٍ على مَنْ كان من المسلمين بمكة،   = وورد نحوه من طريق أخرى عن ابن عباس عند الطبراني في «الكبير» (11/272 رقم 11708) ، وعن الضحاك عند ابن أبي حاتم (3/1046 رقم 5866) ، وابن جرير (9/108 رقم 10268) . وأصح ما ورد في هذا: ما أخرجه البخاري (4596، 7085) ، والنسائي في «الكبرى» : كتاب التفسير (رقم 139) ، والطبراني في «الكبير» (11 رقم 11505، 11506) ، و «الأوسط» (358، 8638) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (3 رقم 5862) ، وابن جرير (9 رقم 10261، 10262) ، وأبو الليث السمرقندي في «بحر العلوم» (1/381) ، وابن حجر في «تغليق التعليق» (4/198) عن عبد الرحمن ابن عبد الرحمن أبي الأسود قال: قطع على أهل المدينة بَعْثٌ، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأتي السهم فيُرْمى به، فيُصيب أحدهم فيقتُلُه، أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] الآية، وهذا لفظ البخاري. وقوله: «قطع على أهل المدينة بعث» أي: أُلزموا بإخراج جيشٍ لقتال أهل الشام في خلافة عبد الله بن الزبير على مكة. قال ابن حجر في «الفتح» (8/263) : «واستنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية» . وانظر -غير مأمور-: «أسباب النزول» (ص 131) ، «سيرة ابن هشام» (2/294-295) ، «الكشف والبيان» (3/371-372) ، «الوسيط» للواحدي (2/105-106) ، «تفسير القرطبي» (5/ 345) ، «تفسير ابن كثير» (4/226-228- ط. أولاد الشيخ) ، «المعتمد من المنقول فيما أوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -» (1/301) ، «المصنف الحديث في أسباب النزول» (ص 120-121) ، «الصحيح المسند من أسباب النزول» (ص 51) . * فائدة: نقل البغوي في «شرح السنة» (14/399) -وعنه حيدر القاشي في «المعتمد من المنقول» (1/301) -: عن مالك قال: إني لأكره المقام بالبلدة التي يُعصى الله فيها علانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وإنما اخْتُلِف فيمن أسلم من غير أهل مكة، فقيل: كانت الهجرة لهم نافلةً، ومُرَغَّباً فيها، ولم تكن واجبة، وقيل: إنما كانت الهجرة واجبةً على من أسلم، فأما إذا أسلم كلُّ مَنْ في الموضع، فلا هجرة عليهم، واستدلَّ من صار إلى هذا بما كان من تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره، ونهيه؛ لوفدِ عبدِالقيس حين أسلموا، ولم يأمرهم بالهجرة، بل أقرَّهم بأرضهم (1) . فالهجرة -على هذا- تقع على أمرين: أحدهما: ماكان مخصوصاً بمؤازرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاونته، والجهادِ معه، حتى أعْلَى الله -تعالى- كلمة الإسلام، وأظهَرَ دين نبيه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ الذي أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدّين كلِّه، ولو كره المشركون، فهذا هو الذي وَرَدتْ فيه الآثار الصحيحة: أنه نُسخ بعد فتح مكة، وعُلوِّ الإسلام وأهله. خرَّج البخاري (2) عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح بمكة: «لاهجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا» . فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استنفرتم فانفروا» بيانٌ أن الهجرة التي نُسِخَتْ هي ماكان من مهاجرة أرضهم وديارهم في اللِّحاق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لإقامة الجهاد معه، فلما علا الدِّينُ، وتمَّ وعد الله؛ رُفعَ ذلك عنهم، وأوجب إجابة النفير متى احتيج في أمر الجهاد إلى طائفة تستنفر من المسلمين.   (1) أخرج قصتهم البخاري (53) ، ومسلم (17) ، ومطولة أحمد (3/432 و4/206) ، وابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/586-591) ، وكانوا يسكنون البحرين، وينسبون إلى عبد القيس بن أَفْصى بن دُعْمي بن جليلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، ولهم وفادتان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الفتح سنة خمس أو قبلها، وأما الوفادة الثانية فكانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذٍ أربعين رجلاً، ويدل على ما ذكره المصنف من إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقائهم بأرضهم، قولهم: «بيننا وبينك كفار مضر» . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب فضل الجهاد والسّير) (رقم 2783) . وفي (باب وجوب النفير، ومايجب من الجهاد والنية) (رقم 2825) ، وفي (باب لا هجرة بعد الفتح) (رقم 3077) ، وفي كتاب الجزية والموادعة (باب إثم الغادر للبرّ والفاجر) (رقم 3189) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 والثاني: هجرة دار الكفر إذا أسلم هنالك أحدٌ، وكان سائرهم على الكفر (1) . خرَّج أبو داود (2) ، عن أبي هند، عن معاوية، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) انظر: «النوازل الجديدة الكبرى» لأبي عيسى الوزّاني (3/38-42) ، «الرخص الشرعية، أحكامها وضوابطها» (حكم الهجرة، ص 139- وما بعدها) لأسامة الصلابي. (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الهجرة: هل انقطعت؟) (رقم 2479) . وأخرجه النسائي في «الكبرى» (5/217/ رقم 7811) ، وأحمد (4/99) -ومن طريقه المزي في «تهذيب الكمال» في ترجمة عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي-، والدارمي (2516) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (9/80) ، وأبو يعلى (7371) ، والطحاوي في «المشكل» (2634) ، والطبراني في «الكبير» (19/ رقم 907) ، وفي «مسند الشاميين» (1064 و1065) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 17) من طرقٍ عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوفٍ الجُرشي، عن أبي هندٍ البجلي، عن معاوية، به. وأبو هند البَجَلي: قال الحافظ في «التقريب» (8427) : «شامي، مقبول» . أي: إذا توبع، ولم يتابع؛ فهو لين الحديث. وقد انفرد بالرواية عنه عبد الرحمن بن أبي عوف، فهو مجهول. لذا قال عنه الذهبي في «الميزان» (4/583) ،: لا يُعرف، وقال ابن القطَّان: مجهول. واحتج به النسائي. والحديث مرويٌّ من غير وجه؛ فقد أخرجه النسائي في «الكبرى» من طريق عبد الله بن السعدي، عن محمد بن حبيب المصريِّ قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وذكر حديثاً طويلاً، وفي آخره: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» . ثم قال النسائي بعده: محمد بن حبيب هذا: لا أعرفه. وقال الحافظ في «التقريب» : محمد بن حبيب النَّصري -بالنون- صحابي، مختلف في إسناد حديثه. وذكره في «الإصابة» (7771) وقال: قال ابن منده: لا يُعرف في الشاميين، ولا في المصريين ذكره في الصحابة. لكن أخرجه أحمد (5/270) من حديث ابن محيريز، عن عبد الله بن السَّعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ليس فيه محمد بن حبيب. وعبد الله بن السَّعدي: صحابي. يقال: مات في خلافة عمر، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية. وأخرجه النسائي في «المجتبى» (7/147) ، وفي «الكبرى» (5/216/رقم 8708) من طريق أبي إدريس الخولاني، عن حسَّان بن عبد الله الصخري، عن عبد الله بن السعدي، به. وقال في حسَّان: ليس بالمشهور. لكن روايته مقبولة. ولكنه أخرجه في «المجتبى» (7/146) ، و «الكبرى» (5/216/رقم 8707) من طريق أبي إدريس الخولاني، عن عبد الله بن السعدي، به. ليس فيه حسان بن عبد الله. وأخرج نحوه أحمد (1/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» . وخرَّج -أيضاً- (1) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . فهو فرض واجبٌ على كل من كان في دار الكفر من المسلمين أن يخرج منها، ويهجرها لله -تعالى- ولدين الإسلام، وحكم الفرضية في ذلك باقٍ مستمرٌ إلى يوم القيامة. قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ، وقال -تعالى-: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، وقال -تعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام 68] ، وقال -تعالى-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140] ، وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . ومعلوم أن في الإقامة معهم موالاةً لهم، ومشاهدةً لكفرهم واستهزائهم   = 192) من طريق مالك بن يَخامر، عن ابن السعدي. ومالك: مخضرم، وقيل: له صحبة. وأخرجه أحمد (5/363) من طريق رجاء بن حيوة، عن الرسول الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة فقال: «لا تنقطع ما جوهد العدوّ» . وللحديث شاهد -أيضاً- من حديث عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقُرن بهما معاوية؛ أخرجه أحمد (1/192) ، والبزار (1054) من حديث عبد الرحمن بن عوف -وحده-؛ بإسناد حسن. فالحديث بهذه الشواهد صحيح. والله الهادي. وانظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (1) في «سننه» (رقم 2481) . وأخرجه البخاري (رقم 10 و6484) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وخوضهم في حدود الله وآياته، وإمكاناً لسبيلهم عليه؛ بجريان أحكامِهم هنالك وسلطانهم، وكلّ ذلك حرام بنصِّ القرآن. وخرَّج أبو داود (1) عن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريَّةً إلى خثعم، فاعتصم ناسٌ منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأمر لهم بنصف العقل. وقال: «أنا بريءٌ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» ، قالوا: يا رسول الله، لمَ؟! قال: «لا تُراءى ناراهما» . وخرَّج -أيضاً- (2) عن سمرة بن جندب: أما بعد، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود) (رقم 2645) . وأخرجه الترمذي (رقم 1604) مرسلاً، ليس فيه ذكر جرير. وقال: وهذا أصح، ورجّح البخاري وغيره المرسل. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (رقم 2261 و2262) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/12-13) ، وفي «الشعب» (7/39/9373) مختصراً بلفظ: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذِّمة» . وأورده الهيثمي في «المجمع» (5/253) من حديث خالد بن الوليد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى ناس من خثعم ... الحديث. وقال: «رواه الطبراني، ورجاله ثقات» . قلت: رواه الطبراني في «الكبير» (4/134 رقم 3836) . والحديث صحيح. انظر: «السلسلة الصحيحة» (2/228/رقم 636) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الإقامة بأرض الشرك) (رقم 2787) ، والطبراني في «الكبير» (رقم 7023، 7024) ، من طريق سليمان بن موسى أبي داود، عن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خُبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة، به. وإسناده ضعيف. ففيه: سليمان بن سمرة. قال الحافظ: «مقبول» . وفيه ابنه خبيب: مجهول. وجعفر بن سعد بن سمرة: ليس بالقوي. وسليمان بن موسى أبو داود: فيه لين. وأخرجه البزار (ق 253- الكتانية) ، والطبراني في «الكبير» (رقم 6905) ، والحاكم (2/ 141-142) ، والبيهقي (9/142) ، عن إسحاق بن إدريس، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/123) ، عن أبي العباس الشعراني، عن إسحاق بن سيَّار، عن محمد بن عبد الملك، كلاهما (إسحاق، ومحمد) عن همَّام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً، نحوه. فالحديث حسن بهذين الطريقين. وانظر: «السلسة الصحيحة» (رقم 2330) ، و «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. والحديث السابق يشهد لهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 جامعَ المشرك وسكن معه؛ فإنه مثله» . وبالجملة؛ فلا خلاف في وجوب الخروج من دار الكفر، واللّحاق بدار المسلمين (1) .   (1) قد اتفق الفقهاء على وجوب الهجرة من ديار الكفار إلى ديار المسلمين في حالة خوف الافتتان في الدين؛ فتجب الهجرة حين لايجد المسلم مستقراً لدينه في أرضٍ يفتتن فيها ويمْتَحَنُ في دينه، فلم يَعُد في وُسعهِ إظهار ما كلَّفه الله به من أحكامٍ شرعية، خشية أن يُفتن في نفسه من بلاءٍ يقع عليه، أو مسِّ أذىً يصيبه في بدنه، فينقلب على عقبيه. قال الإمام النووي في «روضة الطالبين» (10/282) : «المسلم إذا كان ضعيفاً في دار الكفر، لا يقدر على إظهار الدِّين حَرُمَ عليه الإقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام ... » . اهـ. وحين يجد المسلم موضِعاً -داخل القطر الذي يعيش فيه- يَأمنُ فيه على نفسه ودينه وأهله، وينْأى فيه عن الفتنة التي حلَّت به في مدينته، أو في قريته، فعليه -إن استطاع- أن يهاجر إلى ذلك المكان داخل قطْره نفسه، وهذا أولىَ -وبلا شك- من أن يهاجر إلى خارج قطره، إذ يكون أقرب إلى بلده ليُسرع بالرجوع إليه بعد زوال السَّبب الذي من أجله هاجر. وقد هاجر أشرف إنسان وأعظمه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، من أشرف بقعة وأعظمها؛ مكة المكرمة، وكل إنسان -منذ خلق الناس إلى الساعة-، دون محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ منزلةً، وكل بقاع الأرض، دونها؛ شرفاً وقُدسيةً. والهجرة كما أنها مشروعة من قُطر إلى قُطر، فهي مشروعة من قرية أو من مدينة إلى قرية أو مدينةٍ داخل القطر نفسه، والمهاجرُ يعرف من نفسه ما لا يعرفه منه غيره. والهجرة من قُطر إلى قُطر لا تشرع إلا بدواعيها وأسبابها، ومن أعظم هذه الأسباب: أن تكون الهجرة للإعداد واتخاذ الأهبة التي أمر الله بها {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... } ؛ لإجلاء الأعداء عن أرضٍ من أرضِ المسلمين، وتخليصها من أيديهم؛ ليعود إليها حكم الإسلام كما كان من قبل. فالهجرة -إذن- من الإعداد الذي أمر الله به وحضَّ عليه، ومن أبطأ فيها -وقد تهيأت أسبابها ودواعيها- فقد عصى الله، ونأى بجانبه عن أمره. فإن علم المسلم -أو المسلمون- أنهم ببقاءهم في ديارهم يزدادون وهناً إلى وهن، وضعفاً إلى ضعف، وأنهم إن هاجروا ذهب الوهن عنهم، وزال الضعف منهم، وبقوا -بعد علمهم هذا- ولم يهاجروا -إن استطاعوا-؛ فهم آثمون عاصون أمر الله، وربما عوقبوا بمعصيتهم هذه عقوبة أعظمَ وأشدَّ نُكراً، تتلاشى فيها شخصيتهم، وتغيبُ معها صورتهم، وتضل بها عقيدتهم، ثم لا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وما صار إليه المسلمون في الأندلس، وفي غيرها من البلاد، شاهدٌ منظورٌ يقصُّ علينا من نبئه ما يبعث مَنْسِيَّ الشَّجن، ويُنسي لذة الوَسَن، ويُذكر محظور السُّنن! فهل من مدَّكِر؟! فقد كانت محنة المسلمين بالأندلس من أشد المحن التي شهدها العالم الإسلامي، وفيها أفتى كثير من الفقهاء بوجوب الهجرة. ومن أشهر من أفتى في هذا الموضوع: الفقيه الونشريسي الذي رأى أن هجرة المسلمين من الأندلس واجبة، ومن لم يهاجر مع قدرته على الهجرة فهو آثم، في رسالة له عنوانها: «أسنَى المتاجر في بيان أحكام من غلَبَ على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر» -وهي ضمن كتابه «المعيار المعرب والجامع المُغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب» - (2/119-132) . وقد حدَّدَ المخاطرَ التي تهدد حياة المسلم المقيم بأرض الكفر فيما يلي: أولاً: الخوف من تعطيل الدين، كتعطيل الزكاة، والحج، والجهاد. ثانياً: الحط من قدر الإسلام بالتعرض للاستغراق في مشاهدة المنكرات. ثالثاً: الخوف من نقض النصارى لعهودهم. رابعاً: الخوف من الفتنة في الدين. خامساً: الخوف على الأبضاع والفروج. سادساً: الخوف من غلبة عاداتهم ولغتهم ولباسهم على المقيمين بينهم. سابعاً: الخوف من التسلط على المال بإحداث الوظائف الثقيلة والمغارم المجحفة. وقد رأى بعض الباحثين -وهو الدكتور حسين مؤنس في دراسته لفتوى الونشريسي في صحيفة: «معهد الدراسات الإسلامية» (ص 129-191 العدد 1 سنة 1957م/1377هـ) -، في رأي الونشريسي نوعاً من التجني والظلم، ورأى أن المصلحة تقتضي إقامة القادرين على الهجرة من أجل العاجزين عنها، يقول: «ولو أقام الرؤساء والأعيان ونقباء أهل المهن وشيوخ الدين؛ لَمَا انحلَّ أمرُ هذه الجماعات، ولكان لها شأن آخر، شأنها في ذلك شأن المستعربين، فقد أقام معهم تحت ذمة الإسلام أغنياؤهم ورؤساؤهم وقساوستهم، فظلت لجماعاتهم شخصيتها؛ وإن قلَّت أعدادها، وظل فيها دائماً من يتكلم باسمها ويخاطب رجال الدولة في شأنها، فلم تتلاش أبداً. وربما عزى معظم ما أصاب المدجنين إلى تخلي رؤسائهم ورجال دينهم عنهم، ونرى مسؤولية الشيوخ واضحة، إذ لم يكفهم أن يفروا بأنفسهم مُخَلِّفين أهل دينهم، بل حرَّموا البقاء على من أراده من الرؤساء، وطلبوا إليهم الهجرة، ومعنى ذلك ترك الضعفاء وحدهم يفعل العدو بهم ما يريد» . إلا أنه قد فات الدكتور أنه لايمكن قياس حال المسلمين المقيمين تحت سلطة الكفار بحال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = أهل الذمة المقيمين تحت سلطة المسلمين، ذلك أنَّ الإسلام يتميز برعايته الخاصة لأهل الذمة وبضمانه لكافة حقوقهم، والتاريخ شاهد بأن أهل الذمة عاشوا دائماً تحت السلطة الإسلامية معززين مكرمين، ولم يتعرضوا أبداً لتلك الإبادة الوحشية التي تعرض لها المسلمون بالأندلس، والذين وجدوا أنفسهم أمام اختيارين لا ثالث لهما، فإما أن يهاجروا وإما أن يتنَصَّرُوا. ومن ثم كان من المنطقي أن يدعو الونشريسي وغيره من المسلمين إلى الهجرة صيانة للدين الإسلامي وإنقاذاً للمسلمين، وكان من المنطقي -أيضاً- أن يكفروا من قدر على الهجرة ولم يهاجر؛ لأن إقامته بأرض الكفر تعرض الدين لمخاطر كثيرة. ويعتبر هذا الحكم الذي رآه الونشريسي وغيرهُ من الفقهاء موقفاً معقولاً وواقعياً، إلا أن الغريب حقاً هو أنهم لم يهتموا اهتماماً كافياً بالطرف الآخر من المشكلة وهو: إلى أين يهاجر هؤلاء؟ وواجب المسلمين الآخرين في استقبالهم وإيوائهم وحمايتهم، ومن الذي يتحمل هذه المسؤولية، هل الأقرب أم الأقوى؟ فهل كان الأمر عندهم مفروغاً منه ولا يحتاج إلى إفتاء؟ أم أنهم لم يرغبوا في إثارته لأسباب خاصة؟! والواقع أن أمر الهجرة لم يكن أمراً يسيراً على كل حال، فقد اعترضت المهاجرين عراقيل مختلفة، كان منها ماتكلفه هذه الهجرة من تضحيات مادية، ومايحسه المهاجر من فروق بيئته القديمة التي هاجر منها، والبيئة الجديدة التي هاجر إليها. إلا أن هذه العراقيل لا ينبغي أن تكون مسوِّغاً للقول بالإقامة بأرض الكفر وعدم الهجرة منها؛ لأن حل المشكلة يكمن في القضاء على تلك العراقيل وتذليلها وليس في العدول عن الهجرة بالمرة، ويخطيء من يثير قضية الوطن في هذا الموضوع، فالمسلم لا يرتبط بالأرض، ولكنه يرتبط بدينه، فأينما تحققت مبادىء الإسلام وضمنت الحقوق الإسلامية فثمة وطن المسلم، وهذا لا يعني أننا ننكر مشاعر الإنسان ولا إحساسه تجاه وطنه، ولكننا ننكر أن ينتفخ هذا الإحساس ويتضخم إلى درجة أن يصبح في حجم الدين بالنسبة للمسلم. ففكرة الوطنية كانت من أشد ما ابتلي به الإسلام في الحقبة الأخيرة، إلى جانب القوميات القائمة على أساس الجنس. وكما نرى، فالإمام الونشريسيُّ لم يقم أي وزن لاعتبار المصلحة في فتواه، بينما يرى الإمام المازريُّ مراعاة المصلحة في ذلك؛ فقد سئل عن أحكام قاضي صقلية وشهادة عدولها، ولايدري السائل إقامة المسلمين هنالك تحت الكفر: اختيارية أم ضرورية؟ فكان من ضمن ما أجاب به المازري قوله: «وهذا المقيم ببلد الحرب، إن كان اضطراراً فلا شكَّ أنه لا يقدح في عدالته؛ وكذا إن كان اختياراً، جاهلاً بالحكم، أو معتقداً للجواز، إذ لا يجب عليه أن يعلم هذا الطَّرف من العلم وجوباً يقدح تركه في عدالته. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وكذا إن كان متأولاً، وتأويله صحيحاً، كإقامته بدار الحرب؛ لرجاء افتكاكها وإرجاعها للإسلام، أو لهداية أهل الكفر أو نقلهم عن ضلالةٍ ما ... » . ومما لا شك فيه أن هذا كله منوط بالقدرة والاستطاعة؛ لقوله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، ولقوله -سبحانه-: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، فإن لم يجد المسلم أرضاً يأوي إليها غير الأرض التي هو فيها؛ يأمنُ فيها على دينه، وينجو من الفتنة الواقع فيها، أو حيل بينه وبين الهجرة بأسباب مانعةٍ قاهرةٍ لا يستطيعُ تذليلها، أو استوت الأرض كلها في الأسباب والدواعي الموجبة للهجرة، أو علم في نفسه أن بقاءه في أرضه آمن لدينه ونفسه وأهله، أو لم يكن من مُهاجَر إلا إلى أرض يحكم فيها بالكفر الصّراح علانية، أو كان بقاؤه في أرضه المأذون له بالهجرة منها محققاً مصلحة شرعية، سواءٌ أكانت هذه المصلحة للأمة، أم بإخراج أهل الكفر من كفرهم، وهو لا يخشى الفتنة على نفسه في دينه، فهو في هذه الأحوال كلّها، وفي الأحوال التي تحاكيها، ليس في وسعه إلا أن يبقى مقيماً في أرضه، ويُرجَى له ثواب المهاجرين، فراراً بدينهم، وابتغاء مرضاة ربهم. قال البرزلي في «فتاويه» (2/30) فيما نقله عن ابن الحاج في كتابه «النوازل» ، قال: «من خرج من وطنه فاراً بنفسه وماله وولده مخافة العدو وفرضته، فلما اتصل ببلد الإسلام أراد الرجوع لوطنه المذكور وهو على ما ذُكر من الخوف من العدو، وهل يكون في رجوعه من المرابطين، أو من المغرّر بنفسه، أو بقاؤه في موضعه أفضل، أو في زعمه أنه يكون مرابطاً وأفضل لزيارة أهله؟ جوابها: رجوعه لوطنه وتلافيه المخافة وتكثير عدد المسلمين أفضل من بقائه في الموضع الذي هو فيه. ولزومه للموضع المخوف من أبواب الرباط، والترغيب فيه مأثور. فقد روي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «كل الميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله ويؤمن من فتان القبر» . قلت: رجوعه لوطنه بنفسه لا بأهله لقوله في السؤال (بنفسه) وقوله: وأفضل له لزيارة أهله؛ لأن الرواية عن مالك أنه لا يكون مرابطاً إذا كان بأهله. وحكى ابن رقيق في ترسيم القيروان أنها دون ما تقصر فيه الصلاة من العدو من أجل أن يكتب لهم فضل الرباط. وكذا ما حكى أن أهل تونس كانوا يكبرون بعد العشاء الآخرة والصبح قبل هذا الزمان، ويقولون إنّ مالكاً نصّ على أنها الرباط في كتاب الحبس منها. فظاهر هذا أنه مرابط، ولو كان بأهله. وإن كان بعضهم أنكر هذا الأخذ، ويحملها على من ليس له بها أهل. وقال شيخنا الفقيه الإمام: يختار إن سكنها برسم الرباط وجلب الأهل للإعانة عليه فهو مرابط، وإن سكن بغير أهل أفضل، وإن اتخذها وطناً من غير هذه النية؛ فليس بمرابط. ورسم الرباط هو موضع الحرس في الأوقات التي يتوقع فيها العدو. فلو كان العدو حاضراً أو توقع حضوره فهو الحرس» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وقال الإمام النووي في «الروضة» (10/282) -متمماً كلامه الذي نقلته عنه قبل-: « ... فإن لم يقدر على الهجرة فهو معذور إلى أن يقدر» . قلت: ولا تعارض بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة» ، وقوله: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو» . فأنقل إليكم ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين، وأنه لا تعارض بينهما، فقال في «مجموع الفتاوى» (18/281- وما بعدها) : «وكلاهما حق، فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه؛ وهي الهجرة إلى المدينة من مكة وغيرها من أرض العرب؛ فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام، ودخلت العرب في الإسلام، صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام، فقال: «لا هجرة بعد الفتح» ، وكون الأرض دار كفر ودار إيمان، أو دار فاسقين، ليست صفة لازمة لها: بل هي صفة عارضة بحسب سكانها، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت، فإن سكنها غيرُ ماذكرنا، وتبدلت بغيرهم فهي دارهم. وكذلك المسجد إذا تبدَّل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أو كنيسة، يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه، وكذلك دار الخمر والفسوق ونحوها إذا جعلت مسجداً يعبد الله فيه -جل وعز- كان بحسب ذلك، وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقاً، والكافر يصير مؤمناً، أو المؤمن يصير كافراً، أو نحو ذلك، كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال، وقد قال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] الآية، نزلت في مكة لما كانت دار كفر، وهي ما زالت في نفسها خير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، وإنما أراد سكانها، قد روى الترمذي مرفوعاً أنه قال - صلى الله عليه وسلم - لمكة وهو واقف بالحزورة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك لَمَا خرجت» [وإسناده صحيح، انظر: «المشكاة» (2725) ] . وفي رواية: «خير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ» ، فبيَّن أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله، وكان مقامه بالمدينة ومقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم؛ ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في «الصحيح» : «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً، مات مجاهداً، وجرى عليه عمله، وأجرى رزقه من الجنة، وأمن الفتان» [رواه مسلم] . وفي «السنن» عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» [حسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم والذهبي] . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وقال أبو هريرة: «لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إليّ من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود» . [بل هو مرفوع، رواه ابن حبان وغيره بسندٍ صحيح. انظر: «الصحيحة» (1068) ] . قلت: ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرضٌ يكون فيها أطوعَ لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل، وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لاتقدس أحداً، إنما يقدس العبد عمله [صحيح، وخرَّجته مفصلاً في تعليقي على «المجالسة» (1238) ] . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا. وقد قال الله -تعالى- لموسى -عليه السلام-: {سَأوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] ، وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين، وهي الدار التي دلَّ عليها القرآن من الأرض المقدسة، وأرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل، فأحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلماً، وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة براً تقياً، وتارة فاسقاً، وتارة فاجراً شقياً. وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة؛ كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة، والله -تعالى- قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} [الأنفال: 75] . قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة، وهكذا قوله -تعالى-: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110] ، يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية، ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو، وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله -سبحانه وتعالى- أعلم» . وأنقل لك -أخي القارئ- فتوى ابن عربي الصوفي الحاتمي الطائي في كتابه «الوصايا» (ص 58-59) في مسألة الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، قال ما نصُّه: «وعليك بالهجرة ولا تقم بين أظهر الكفار، فإن في ذلك إهانة دين الإسلام، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، فإن الله ما أمر بالقتال إلا لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وإياك والإقامة أو الدخول تحت ذمة كافر ما استطعت، واعلم أن المقيم بين أظهر الكفار -مع تمكنه من الخروج من بين ظهرانيهم- لاحظّ له في الإسلام (!!) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبرأ منه، ولا يتبرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسلم، وقد ثبت عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا برئ من مسلم يقيم بين أظهر المشركين» ، فما اعتبر له كلمة الإسلام، وقال الله -تعالى- فيمن مات وهو بين أظهر المشركين {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 97] ، فلهذا حَجَرْنا في هذا الزمان على الناس زيارة بيت المقدس والإقامة فيه؛ لكونه بيد الكفار، فالولاية لهم والتحكم في المسلمين، والمسلمون معهم على أسوء حال -نعوذ بالله من تحكم الأهواء-، فالزائرونَ اليوم البيت المقدَّس، والمقيمون فيه من المسلمين، هم الذين قال الله فيهم: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] ، وكذلك فلتهاجر عن كل خلق مذموم شرعاً قد ذمّه الحق في كتابه، أو على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» ا. هـ. وأذكر -هاهنا- فتوى دَنْدَنَ حولها كثير من الشانئين، وأوقعت بعض المُحبِّينَ في حيرة، وهي فتوى لشيخنا محدِّث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- حول قضية خروج أهل فلسطين منها! وهذه قصَّتُها؛ نسجِّلها هنا تأدية لبعض حق شيخنا -رحمه الله- علينا، ولشهادة التاريخ، وللإنصاف والمسؤولية العلمية، فنقول: ضمَّ الشيخ -رحمه الله- وآخرَ مثله في السِّن- لا في العلم- مجلسٌ، وسأل المُسِنُّ القادمُ من فلسطين الشيخَ -رحمه الله- عن مسائل، وقع ضمنها توَجُّعٌ وشكاية وتألم من حال المسلمين الساكنين في فلسطين، فأفتى الشيخ -كعادته وبصراحته وجرأته فيما يعتقد- أن مكة خير من فلسطين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لم يستطع إقامة الدين فيها هاجر منها، فعلى كل مسلم لا يستطيع أن يقيم دينه في أي بقعة أن يتركها وينتقل إلى بلدة يستطيع فيها ذلك، فكان ماذا؟ وقعت هذه الفتوى لبعض (الأشاعرة) (الصوفيين) في بلادنا، وأخذ يدندن فيها، متّهماً الشيخ بأنه (يهودي) ! مستدلاً بكلامه هذا! وأثارت (الصحف) و (الجرائد) هذه القضية، وكتب فيها العالم والجاهل، والسفيه والحقير والوضيع، وصرح بعضهم أنه لا يبغض (الألباني) ولا يعاديه! وإنما يعمل على محاربة (منهجه) فحسب! اللهم يا مقلب (العقول) ثبت (عقلي) على دينك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -. ويا ليت هؤلاء تكلموا بأدلة، أو بِلُغةِ أهل العلم، وإنما بلغة (الجرائد) : السباب، وعرض (العضلات) ، وعدم التعرض للمسألة: بتأصيل أو تكييف أو تدليل أو تأريخ، وإنما لامَسَتْ شيئاً في نفوسهم من (نفورٍ) أو (حسد) أو (حقد) ، ففرَّغوا مافيها، فارتاحوا وانتعشوا، وظنوا أنهم نهوا وأمروا! وفازوا وظفروا! حقاً؛ إنها -أي: المقالات- مكتوبة بلغة، لا يربأ صاحبُ القلمِ الحرِّ العلميِّ إلا السكوت عنها، أو القول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلقد سئل الشيخ -رحمه الله- عن بعض المدن التي احتلها اليهود عام 1948م، وضربوا عليها صبغة الحكم اليهودي بالكلية، حتى صار أهلها فيها إلى حال من الغُرْبَةِ المُرْمِلَةِ في دينهم، وأَضْحَوا فيها عبدةً أذلاء؟ فقال: هل في قرى فلسطين أو في مدنها قريةٌ أو مدينةٌ يستطيع هؤلاء أن يجدوا فيها = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = دينهم، ويتخذونها داراً يدرءون فيها الفتنة عنهم؟ فإن كان؛ فعليهم أن يهاجروا إليها، ولايخرجوا من أرض فلسطين، إذْ أنَّ هجرتهم من داخلها إلى داخلها أمرٌ مقدورٌ عليه، ومحقِّقٌ الغاية من الهجرة. وهذا -والله- تحقيقٌ علميٌّ دقيقٌ يَنْقضُ زعم من شوّش وهوَّش، مُدَّعياً أنّ في فتوى الشيخ إخلاءً لأرض فلسطين من أهلها، أو تنفيذاً لمخططات يهود!! {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . أفٍّ لكم أيها الناقدون الحاقدون! هل علمتم هذا التفصيل أم جهلتموه؟! إن كنتم علمتوه فلِم أخفيتموه وكتمتموه؟! وإن كنتم جهلتموه! فلماذا رضيتم لأنفسكم الجهل، وللشيخ الظلم، وللناس التضليل؟! أم أنَّ هذه تجارتكم تخشون كسادها؟! بِئْسَتِ البضاعة، وبِئْسَت التجارة! وليعلم المسلم أن الحفاظ على الأرض والنفس، ليس أولى من الحفاظ على الدين والعقيدة، بل إن استلاب الأرض -ممن يظل مقيماً فيها رجاءَ الحفاظ عليها، غير واضع في حسابه الحفاظ على دينه أولاً- قد يكون أيسرَ، وأشدَّ إيذاءً، وأعظم فتنة. والعدو الكافر الذي يحتلُّ أرضاً -وأهلها مقيمون فوقها- يملك الأرض ومن عليها وما عليها، فالكفر لايحفظ للإسلام عهداً، ولا يرعى للمسلمين إلاًّ ولا ذمة، ولا يقيم لهم في أرضهم وخارج أرضهم وزناً. قال أبو عبيدة: وتكلم الشيخ -رحمه الله تعالى- على هذه المسألة بإسهاب في كتابه «السلسلة الصحيحة» عند حديث رقم (2857) فانظره هناك،، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. وقد فصَّلت في مسألة الهجرة -بعامة- ومن أرض فلسطين -بخاصة-، ونقلت كلام الشيخ -رحمه الله-، وذكرت المسألة بتأصيل وتقعيد، ونَقْلِ كلام أهل العلم في ذلك، وذكرت حكم عمليات الاقتحام بالنفس، التي تسمَّى اليوم: بالعمليات الفدائية -أو الاستشهادية- بكلام لا مزيد عليه، في كتابي: «السَّلفيون وقضية فلسطين» فانظره هناك. مع أن المصنّف سيتعرض لهذه المسألة -وهي الاقتحام بالنفس- في الأبواب القادمة، لكن دون التفصيل الذي ذكرته في كتابي هذا، والله المسدِّد. وأخيراً؛ نحيل على دراسات مفردة لمن رام الاستزادة في هذا الموضوع، -وهو الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام- وهي مهمة: الأولى: لمصطفى بن رمضان البولاقي (ت1263هـ-1847م) : «رسالة فيما إذا كان يحل للمسلمين العيش تحت حكم غير المسلمين والتعايش معهم» . الثانية: لعلي الرسولي رسالة في الموضوع نفسه، وبالعنوان السابق، وهي والتي قبلها ضمن مجموع منسوخ في القرن (13هـ/ 19م) في جامعة ييل بأمريكا، تحت رقم [405-L (970) ] . انظر «المخطوطات العربية في مكتبة جامعة ييل» (106) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وأمّا قوله: «لا تُراءى ناراهما» ، فسببه قولان؛ ذكرهما أبو عبيد (1) :   = الثالثة: لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914هـ-1508م) : «أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر» ، نشرت بتمامها في «المعيار المعرب» (2/119-141) ، ونشرها -قديماً- حسين مؤنس في صحيفة «معهد الدراسات الإسلامية في مدريد» (المجلد 5) ، سنة 1975م، (ص 129-182) -وقد سبق الإشارة إليها-، وأعاد نشرها المحقق نفسه في مجلة «معهد المخطوطات العربية» (مجلد5/ الجزء 1 ذو القعدة 1959) (ص 147-184) ، ثم ظهرت عن دار البيارق في طبعة رديئة! غير مقابلة على نسخ خطية، ومنها نسخة في شنقيط [370 أش] في (17 ورقة) ، كما في «فهرس مكتبة شنقيط وودان» (160) ، وأخرى في مكتبة قاريونس، تحت رقم (845) ، كما في «فهارس مكتبة جامعتها» (2/31) . الرابعة: «بيان وجوب الهجرة وتحريم موالاة الكفرة ووجوب موالاة مؤمني الأمة» لعثمان بن محمد بن فودي، منه ثلاث نسخ في نيجيريا في جامعة أحمد وبلو، بأرقام [1/127. P و6/8. P و43/7.k] ، ورابعة في قاريونس/ ليبيا في (77 ورقة) ، تحت رقم (1917) ، كما في «فهر س مكتبة جامعة قاريونس» (2/27) . الخامسة: «سفر المسلمين إلى بلاد النصارى» منه نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، ضمن مجموع (163) في (7) ورقات. السادسة: «الشمس المنيرة الزَّهْرَا في تحقيق الكلام فيما أدخله الكفار دارهم قهرا» للحسين ابن ناصر المهلاّ، منه نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، تحت رقم (1471) في (21) ورقة. السابعة: للأستاذ الحسن اليوبي كتاب: «الفتاوى الفقهية من أهم القضايا من عهد السعديين إلى ماقبل الحماية» / دراسةٌ وتحليل. تَعرَّض في (المبحث الأول) من (الفصل الثاني) منها (ص 203-213) لمبحث: (هجرة الأراضي المحتلة) ، مع مناقشةٍ لفتوى الإمام المازري والإمام الونشريسي حول هذه القضية. الثامنة: فتوى الإمام المازري؛ حيث سئل عن أحكام قاضي صقلية وشهادة عدولها، ولا يدري إقامة المسلمين هنالك تحت أهل الكفر: اختيارية أم ضرورية. وهي ضمن كتاب: قضايا ثقافية من تاريخ العرب الإسلامي (نصوص ودراسات) / للدكتور: عبد المجيد التركي (ص 72-75) . التاسعة: «إعلام الزُّمرة بأحكام الهجرة» للشيخ العلامة: حماد بن محمد الأنصاري -رحمه الله-. العاشرة: «الفصل المبين في مسألة الهجرة ومفارقة المشركين» للشيخ حسين العوايشة -حفظه الله-. (1) في «غريب الحديث» (2/88-89) . وانظر: «عون المعبود» (7/305) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أحدهما: أنه لا يحل لمسلمٍ أن يسكن بلادَ المشركين، فيكون منهم بقدر ما يرى كلُّ واحدٍ منهما نار صاحبه، قال: فجعل الرؤية للنار، وإنما الرؤية لصاحبها، ومعناه: أن تدنو هذه من هذه. والوجه الآخر، يقال: إنه أراد بقوله: «لا تراءى ناراهما» ؛ يريد نار الحرب، قال الله -تعالى-: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] ، فيقول: فناراهما مختلفتان؛ هذه تدعو إلى الله، وهذه تدعو إلى الشيطان، فكيف يتفقان؟ ‍‍!، وكيف يساكن المسلم المشركين في بلادهم، وهذه حال هؤلاء وهؤلاء؟! هذا الوجه الثاني أوقع في معنى الحديث، وما سيق له التعليل بذلك في تحريم المساكنة، والله أعلم. وأما أمره - صلى الله عليه وسلم - بنصْف العقل، فيحتمل أن يكون إنما أهْدَر النِّصْفَ الثاني؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، حيث أقاموا بدار الكفر، وعَرَّضوا أنفسهم بذلك للقتل، والله أعلم. وفي هذا الحديث ردٌّ على من زَعمَ أنْ لا دِيَةَ لمن أقام من المسلمين بدار الحرب، مع إمكان الخروج، حتى أصابه المسلمون في مَعَرَّة الاقتحام، وإليه ذهبت المالكية (1) . *****   (1) انظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (4/139) ، «تفسير القرطبي» (16/243) وهو مذهب الحنفية، انظر: «تبيين الحقائق» (3/243) ، «بدائع الصنائع» (6/63) . وقال ابن القيم في «تهذيب سنن أبي داود» (7/304) : «قال بعض أهل العلم: إنما أقر لهم بنصف العقل بعد علمه بإسلامهم؛ لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره. وهذا حَسَن جداً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الباب الثاني في فضل الجهاد والرباط والنفقة في سبيل الله، وما جاء في طلب الشهادة، وأجر الشهداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قال الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] ، وقال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] ، وقال -تعالى-: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 95] . وخرَّج البخاري (1) عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: دُلَّني على عمل يَعْدِل الجهاد، قال: «لا أجده» ، قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تَفْتر، وتصوم ولا تُفطر؟» ، قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: إنَّ فرس المجاهد ليَسْتَنُّ في طِوَلِهِ، فتكتب له حسنات. معنى «يستنُّ» : يعدو، أي: يجول ويُسْرع في طِوَلِهِ مقبلاً ومدبراً. والطِّوَلُ   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب فضل الجهاد والسير) (رقم 2785) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الشهادة في سبيل الله -تعالى-) (رقم 1878) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والطِّيَلُ لغتان، ما أطال فيه من الحَبْل وغيره. قال طرفة (1) : لعمركَ إنَّ الموتَ ما أخطأ الفتى ... لَكَالطِّوَلِِ المُرخَى وثِنْيَاهُ باليدِ وخرَّج البخاري (2) -أيضاً- عن أبي سعيدٍ قال: قيل: يا رسول الله؛ أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مؤمنٌ يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» ، قالوا: ثم من؟ قال: «مؤمنٌ في شِعْبٍ من الشِّعاب، يتقي الله، ويَدعُ الناس من شَرِّه» . وخرَّج -أيضاً- (3) عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لغدوةٌ في سبيل الله، أو روحة، خيرٌ من الدنيا وما فيها» . وخرَّج -أيضاً- (4) عن أبي عَبْسٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما اغْبَرَّتْ قدما   (1) في «معلقته» . البيت رقم (66) . يقول: أقسم بحياتك أن الموت في مدة إخطائه الفتى، أي: مجاوزته إيّاه، بمنزلة حبل طِوَلٍ للدابة ترعى فيه، وطرفاه بيد صاحبه، يريد: أنه لا يَتخلَّص منه، كما أن الدابة لا تفلت مادام صاحبها آخذاً بطرفي طِوَلِها. ولما جعل الموت بمنزلة صاحب الدابة التي أَرْخَى طِوَلَها، قال: متى شاء الموت؛ قاد الفتى لهلاكه، ومن كان في حَبْل الموت؛ انقاد لقوده. وانظر: «شرح المعلَّقات السبع» للزوزني (ص 91) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) (رقم 2786) . وفي كتاب الرقاق (باب العزلة راحةٌ من خلاّط السوء) (رقم 6494) . وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة (باب فضل الجهاد والرباط) (رقم 1888) . (3) البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم من الجنة) (رقم 2792، ورقم 2796 و6568) بأطول منه. وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله -تعالى-) (رقم 1880) . (4) في كتاب الجهاد والسير (باب من أغبَرت قدماه في سبيل الله) (رقم 2811) . -واللفظ فيه: «ما اغبرت ... » -، وفي كتاب الجمعة (الصلاة) (باب المشي إلى الجمعة) (رقم 907) بلفظ: «من اغبرت ... حرّمه الله على النار» . وصحابي الحديث هو: أبو عَبْس: عبد الرحمن بن جبر بن عمرو بن زيد بن جُشم بن مجدعة بن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 عبدٍ في سبيل الله فتمسَّهُ النار» . وخرَّج النسائي والترمذي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يلجُ النارَ رجلٌ بكى من خشية الله، حتَّى يعودَ اللَّبَنُ في الضّرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنَّم» (1) ، زاد النسائي (2) : «في مِنْخَرَيْ مسلمٍ أَبداً» ، قال فيه الترمذي:   = حارثة بن الحارث بن الخزرج. وهو معدود في كبار الصحابة من الأنصار. مات سنة أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة. وفي منسوخ الأصل: ابن عبس، وصُوِّبت في الهامش إلى: عَنْبَس، والصواب كما أثبتناه. (1) أخرجه الترمذي (رقم 1633 و2311) ، والنسائي في «المجتبى» (6/12) ، والحميدي (1901) ، وأحمد (2/505) ، وعبد الله بن المبارك في «كتاب الجهاد» (30) ، وهنّاد في «الزهد» (465) ، والطيالسي في «مسنده» (2443) ، والحاكم (4/260) ، وابن حبّان (4607) ، وأبو القاسم الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (488 و829) ، والبيهقي في «الشعب» (800) ، والبغوي في «شرح السنّة» (14/ 364) ، وفي «التفسير» (4/189) ، من طرقٍ عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي» . والصواب أنه حسن فقط؛ فإنه من رواية المسعودي عن محمد عبد الرحمن -مولى آل طلحة- عن عيسى بن طلحة، به. والمسعودي: صدوق، اختلط قبل موته. كما في «التقريب» (3919) . لكن جعفر بن عون، ممن سمع منه قبل الاختلاط -كما في إسناد الحاكم-. ذكره ابن الكيَّال في «الكواكب النيِّرات» (ص 293) . فالحديث كما قال الترمذي: حسن صحيح. وروي موقوفاً من طريق يونس بن بكير، عن المسعودي، به؛ أخرجه هنّاد في «الزهد» (466) ؛ ويونس متكلمٌ فيه. وروي -أيضاً- من طريق جعفر بن عون، عن مِسعر، عن محمد بن عبد الرحمن -مولى آل أبي طلحة- عن عيسى، به؛ أخرجه البيهقي في «الشعب» (801) . والصوَّاب رفعه عن المسعودي. وقد صححه شيخنا الألباني -رحمه الله-. انظر: «صحيح سنن الترمذي» . وروايات الحديث مطولة ومختصرة، وألفاظها متقاربة. وللحديث شواهد من حديث أبي عَبْسٍ بن جَبْر -تقدم قبل هذا-، ومن حديث جابر بن عبد الله، وغيره. وانظر: «كتاب الجهاد» لابن أبي عاصم (رقم 112 و113 و115 و116 و117) وتعليق محققه -حفظه الله تعالى-. (2) في «المجتبى» (6/12) ، وهذه الزيادة عند غيره ممن تقدم ذكرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 حسن صحيح. وخرَّج مسلم (1) عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجتمع كافرٌ وقاتله في النار أبداً» . وخرَّج مسلم (2) -أيضاً- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يُخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمانٌ بي، وتصديقٌ برسلي، فهو عليَّ ضامنٌ أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مَسْكنِهِ الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة. والذي نفسُ محمدٍ بيده! ما من كَلْمٍ يُكلَمُ في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلِم، لونه لونُ دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمدٍ بيده! لولا أن يشقَّ على المسلمين؛ ما قعدتُ خلافَ سريَّةٍ تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعةً فأحمِلُهُم، ولا يجدون سعةً، ويَشُقُّ عليهم أن يَتخلفوا عَنِّي، والذي نفسُ محمدٍ بيده! لوَدِدْتُ أني أغزو في سبيل الله فأُقتلُ، ثم أغزو فأُقتلُ، ثم أغزو فأُقتل» . في فضلِ من جهَّز غازياً أو خلَفَه بخير في «الصحيحين» (3) البخاري ومسلم، عن زيد بن خالد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَفَ غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا» . قال ابن عباس في قوله -تعالى-: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ   (1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب من قتل كافراً ثم سدَّد) (رقم 1891) . (2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله) (رقم 1876) . وأخرج البخاري نحو هذا اللَّفظ مختصراً بالأرقام (36، 2787، 2797، 2972، 3123، 7226، 7227، 7457، 7463) . (3) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب فضل من جهَّز غازياً أو خلفه بخير) (رقم 2843) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله) (رقم 1895) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ؛ معناه: لا تُمسكوا عن الإنفاق في سبيل الله فتهلكوا. وقال -أيضاً-: إن لم يجد الرجل شيئاً إلا مِشْقَصاً (1) فليُجَهِّزْ به في سبيل الله، ولا تقولن: لا أجد شيئاً، وقد هلكت (2) . وأكثر المفسرين على أنَّ قوله -تعالى-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] في تَرك النَّفقة (3) . في حرمة نساء المجاهدين خرَّج مسلم عن بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حرمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمةِ أمهاتِهم، وما من رجلٍ من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه (فيهم) (4) ؛ إلا وُقِفَ له يوم القيامة؛ فيأخذ من عمله ما شاء، فما   (1) المشقص: نصل السَّهم، إذا كان طويلاً غير عريض. انظر: «النهاية» (2/23) . (2) أخرج نحوه سفيان الثوري في «تفسيره» (ص 59 رقم 70) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (5/331) ، وابن جرير (2/200-201) ، وابن أبي حاتم (1/330 رقم 1741) في «تفسيريهما» عن ابن عباس -رضي الله عنه-. (3) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ) (رقم 4516) بسنده إلى حذيفة قال: نزلت في النفقة. وأخرج نحوه من حديث أبي أيوب الأنصاري في قصة الرجل الذي حمل على العدو وحده: أبو داود (2512) ، والترمذي (2972) ، والنسائي في «الكبرى» (11029) ، والطيالسي (599) ، وابن جرير (3/590 رقم 3719، 3720) ، وابن أبي حاتم (1/330-331) ، والحاكم (2/275) وغيرهم. وانظر: «موارد الظمآن» (ص 401 رقم 1667) . وللاستزادة، انظر: «مشارع الأشواق إلى مصارع العشَّاق، ومثير الغرام إلى دار السلام في الجهاد وفضائله» (ص 291 و295 و527) . وهذا قول عكرمة، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، والضحَّاك، والسُّدي، ومقاتل بن حيَّان، وقتادة. وانظر تفاسير: ابن جرير (2/200-202) ، وسفيان الثوري (ص 58) ، وابن أبي حاتم (1/ 331) ، والواحدي (1/293-294) ، والقرطبي (2/362) ، وابن كثير (1/229 أو 2/220-222- ط. أولاد الشيخ) ، والشوكاني (1/170) ، و «الدر المنثور» (1/499-500) . (4) كلمة (فيهم) ساقطة من الأصل، وهي في «صحيح مسلم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ظنكم؟!» . قال في النسائي: «نُصِب له يوم القيامة فيقال: يا فلان، هذا فلان، خُذ من حسناته ما شئت، ثم التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه، فقال: ما ظنكم؟! تَرَوْن يَدعُ له من حسناته شيئاً؟» (1) . فضل الجهاد على الحج إذا أُدِّيت الفريضة خرَّج مسلم (2) عن زيد بن أرقم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا تسع عشرة غزوة، وحَجَّ بعدما هاجر حَجَّةً، لم يَحجَّ غيرها، حَجَّة الوداعِ. وخرَّج مسلم (3) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمانٌ بالله» ، قال: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» ، قال: ثم ماذا؟ قال: «حجٌّ مبرور» . البخاري (4) عن عائشة قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا   (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب حرمة نساء المجاهدين، وإثم من خانهم فيهنّ) (رقم 1897) . والزيادة التي عند النسائي: في «المجتبى» في كتاب الجهاد (باب من خان غازياً في أهله) (6/51) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فما ظنكم؟!» قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (13/42) : «معناه: ما تظنون في رغبته في أخذ حسناته، والاستكثار منها في ذلك المقام؟ أي: لا يُبقي منها شيئاً إن أمكنه» . وللتوسع في روايات وألفاظ الحديث. انظر: تحقيقنا لكتاب «الحنائيات» (رقم 84) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب عدد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -) (1254) (144) . وقد مضى من حديث بريدة في الباب الأول. (3) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب كون الإيمان بالله -تعالى- أفضل الأعمال) (83) (135) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب من قال: إن الإيمان هو العمل) (رقم 26) . وفي كتاب الحج (باب فضل الحج المبرور) (رقم 1519) . وعند البخاري: إيمان بالله ورسوله. (4) في «صحيحه» في كتاب الحج (باب فضل الحج المبرور) (رقم 1520) . وفي كتاب الجهاد والسير (باب فضل الجهاد والسير) (رقم 2784) ، وأخرج نحوه (رقم 1861) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 نجاهد؟ قال: «لكن أفضل الجهاد: حجٌّ مبرور» . معنى ذلك -إن شاء الله- في حقِّ النساء؛ لأنهن ممَّن لا غناء عندهن، ولا طاقة لهن بالقتال (1) ، مع ما كتب عليهن من الحجاب، وتَرْك التعرُّض لمواطن الرّجال (2) ، ولهذا المعنى؛ قد يروي هذا الحَرْفَ بعض الرواة (3) : «لكُنَّ أفضل الجهاد: حجٌّ مبرور» ، فجَعَل (لَكُنَّ) ضميرَ النساء، ويدل على ذلك ما خرَّجه البخاري (4) عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: استأذنت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، فقال: «جهادكنَّ الحج» .   (1) نقل غير واحد الإجماع على أنه لا يجب على النساء القتال الكفائي. انظر: «شرح السير الكبير» (1/200) ، «قوانين الأحكام الشرعية» (ص 163) ، «مغني المحتاج» (4/209) ، «حاشية ابن عابدين» (4/25) ، «بداية المجتهد» (1/281) ، «مراتب الإجماع» (ص 119) . وصرح بالحكمة المذكورة جمع، قال السرخسي في «المبسوط» (10/16) : «لأنهنَّ عاجزات عن القتال بُنْيَةً» . وقال الكاساني في «بدائع الصنائع» (9/4301) : «ولا جهاد على الصبي والمرأة، لأنَّ بُنْيَتَهُمَا لا تحتمل الحرب عادة» ، ومثله في «الهداية» (5/242- مع شرحه «فتح القدير» ) ، و «مغني المحتاج» (4/216) ، و «المهذب» (2/227) ، و «المغني» (8/347) . (2) مثله كلام ابن رشد في «المقدمات الممهدات» (1/267) : «إنّ الجهاد لا يتأتى للمرأة إلا بضد ما أمرت به من الستر، والقرار في بيتها» ، وكلام الشوكاني في «النيل» (7/272) : «وإنما لما يكن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال، فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد» ، ونحوه في «مواهب الجليل» (3/347) . وذكر بعض الفقهاء شيئاً زائداً، وهو: إن إسقاط القتال عن المرأة لانشغالها بحق الزوج، نص عليه المرغيناني وابن الهمام، انظر: «فتح القدير» (5/194) ، وانظر مناقشة هذه التعليلات عند هيكل في «الجهاد والقتال» (2/1020-1021) . (3) قال القاضي عياض في «مشارق الأنوار» (1/358) : «يروى (لكن) بضم الكاف وكسرها، وتشديد النون وسكونها، وهو ضبط أكثرهم، وكان في كتاب الأصيلي مهملاً، وكلاهما صحيح المعنى، فإذا كان بضمٍّ الكاف اختصّ به النساء تصريحاً، وعليه يدل أول الحديث، والحديث الآخر: «جهادكن الحج» ، وإذا كان بكسر الكاف، فبمعناه، أي: لكِنْ أفضل الجهاد، لَكُنَّ وفي حَقِّكُنَّ، وقد بينا هذا في كتاب «الإكمال» » ، ولخص كلامه بإيجاز شديد ابنُ قُرْقول في «مطالع الأنوار» (ق 301- المكتبة العامة/ السعودية) . (4) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جهاد النساء) (رقم 2875) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وخرَّج -أيضاً- (1) عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سأله نساؤه عن الجهاد، فقال: «نِعْم الجهاد الحج» . قلت: فأمَّا الرجلُ أو الإمام يغزو بالمرأة، أو النساء؛ لما يعرض من المصالحِ، والرِّفق بالجرحى في المداواة، والقيام عليهم، وغيرِ ذلك من ضرورات الجيش عند القتال (2) ، فذلك من السُّنَّة، إلاَّ أن يكون في الجمع قِلَّةٌ وخوفٌ أن ينالهنَّ   (1) نفس الكتاب والباب السابقين (رقم 2876) . (2) دليله: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» (1809) عن أنس بن مالك: أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً، وسألها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا الخنجر؟ قالت: اتّخذتُه إن دنا مني أحد من المشركين، بَقَرْتُ به بطنه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك. وبوّب البخاري في «صحيحه» (غزو النساء وقتالهن مع الرجال) ، وأخرج برقم (2880) عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُليم وإنهما لمُشمِّرتان، أرى خَدَمَ سُوقهما -أي: الخلاخيل، وكانت هذه قبل الحجاب- تَنْقُزَانِ -تسرعان المشي كالهرولة- القِرَب، وقال غيره: تنقلانِ القرب على متونهما، ثم تفرغانِهِ في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان، فتفرغانها في أفواه القوم. وأخرج البخاري في «صحيحه» (رقم 2883) عن الرُّبيِّع بنتِ مُعوِّذ قالت: كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونَرُدُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة. وسيأتي في (الباب السابع: في الغنائم وأحكامها ووجه القسم ومن يستحق الإسهام ... ) كلام للمصنف في غنيمة المرأة إذا باشرت القتال. يدلُّ جميع ما تقدم على مشروعية قيام المرأة على معاونة أو مساندة الرجال في القتال، في ميادين متنوّعة، فيشمل ذلك الخدمات الطبيّة، من إسعاف المرضى ومداواة جراحهم، وإخلاء ساحات المعركة منهم، ولها أن تدافع عن نفسها بالسلاح إن قصدها الأعداء. وأما سنّ الدول قانوناً تخضع فيه المرأة للتدريب البدني الإجباري، فليس هذا بمشروع، وإن قال به بعض المعاصرين كما تراه في «الجهاد والحقوق الدولية في الإسلام» (ص 378) لظافر القاسمي. وقال شيخنا الألباني -رحمه الله- في «الصحيحة» (6/549) تحت حديث رقم (2740) -في معرض حديثه عن مشاركة النساء في المعركة- قال: « ... وأما تدريبهن على أساليب القتال وإنزالهن إلى المعركة يقاتلن مع الرجال كما تفعل بعض الدول الإسلامية اليوم، فهو بدعة عصرية، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 العدوُّ، فيجبُ التوقِّي والإمساكُ عن حضورهنَّ (1) . خرَّج مسلم (2) عن أنس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بأمِّ سليمٍ، ونسوةٍ من الأنصار معه إذا غزا؛ فَيَسْقِينَ الماء، ويداوين الجرحى» . في زيادة الأجر للمجاهدين عند الإخفاق خرَّج مسلم، والنسائي، وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون غنيمةً؛ إلاَّ تعجَّلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمةً؛ تمَّ لهم أجرهم» (3) .   = وقرمطة شيوعية، ومخالفة صريحة لما كان عليه سلفنا الصالح، وتكليف للنساء بما لم يخلقن له، وتعريض لهن لما لا يليق بهن إذا ما وقعن في الأسر بيد العدو، والله المستعان» . وانظر في المسألة: «العلاقات الخارجية في دولة الخلافة» (ص 118-119) لعارف أبو عيد، «الجهاد والقتال» (2/1023) لهيكل. (1) دليله: ما أخرجه عبد الرزاق (5/162) (رقم 9250) ، وأبو عبيد في «الغريب» (3/ 325) بسندٍ حسن عن عمر قال: «فرِّقوا عن المنيَّة، واجعلوا الرأس رأسين، ولا تُلِثُّوا بدار معجزة، وأصلحوا مثاويكم، وأخيفوا الهوامَّ قبل أن تخيفكم» . والشاهد منه قوله: «ولا تلثوا» -وتحرّف في مطبوع «المصنَّف» إلى «تلبثوا» ‍فليصوب- والإلثاث: الإقامة، قال أبو عبيد: أراد الإقامة بالثغور مع العيال، يقول: ليس هذا بموضع ذريّة، فهذا هو الإلثاث بدار معجزة. وانظر كلاماً جيداً في هذا المعنى للإمام أحمد، فصّل ابن رجب في «فضائل الشام» (ص 49) بذكره. وانظر: «شرح السير الكبير» (1/210-211) ، «المغني» (8/357) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب غزوة النساء مع الرجال) (135) (1810) . وانظر: «صحيح البخاري» في كتاب الجهاد. الأبواب (غزو النساء وقتالهنَّ مع الرجال) (رقم 2724) ، و (حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو) (رقم 2725) ، و (مداواة النساء الجرحى في الغزو) (رقم 2726) ، و (ردّ النساء الجرحى والقتلى) (رقم 2727) . (3) أخرجه مسلم (153) (1906) ، وأبو داود (2497) ، والنسائي (6/17-18) ، وابن ماجه (2785) ، والحاكم (2/78) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/169) ، وفي «الشعب» (4245) ، وابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص 430) من طرقٍ، عن أبي هانيء الخولاني، عن عبد الرحمن الحُبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ظاهر هذا الحديث أن من غزا فغنِمَ نقصَ أجرُ جهاده -كما ذهب إلى ذلك قوم (1) -، وليس معنى ذلك كذلك عند أهل العلم والتحقيق، بل أجر الجهاد كاملٌ لكلِّ واحدٍ منهم، بفضل الله -تعالى-، وإنما يفترقون في زيادة الأجر فوق ثواب الجهاد (2) ؛ فأمّا من غنم، فقد حَصَل له في الحال من السرور، ونشاط النفس بالظهور، والغُنْم، ما يَدْفع عنه آثار الجهد في الغزو، وتخلف المال في النفقة، ونحو ذلك مما تَفترق فيه حالهُ مِنْ حال مَنْ غزا فلم يُصبْ شيئاً، ولا عفَّى على كدِّه ونفقته خَلَفٌ، فلهؤلاء زيادةُ أجرٍ فوق أجر الجهاد، من حيثُ تضاعف آثار الجَهدِ   (1) ذهب إلى ذلك القاضي عياض في «إكمال المعلم» (6/330-331) ، وتبعه عليه النووي في «شرح صحيح مسلم» (13/78-ط. قرطبة) ، وردَّ مذهبهما ابن عبد البر -ولم يذكر أعيانهما- في كتابه «الاستذكار» (14/11-12) ، ثم قال: «فيحتمل أن يكون الأجر مضاعفاً لها -أي: السرية- بما نالها من الخوف، وعلى ما فاتها من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب بماله مضاعفاً، فيؤجر على ما يتكلَّفه من الجهاد أجرَ المجاهدِ، وعلى ما فاته من الغنيمة أجراً آخر، كما يؤجر على ما يذهب من ماله، ونحو ذلك» . ا. هـ كلامه. وذكر قبله حديث أبي أمامة الباهلي، مرفوعاً: «ثلاثة كلهم ضامنٌ على الله -عز وجل-: من خرج غازياً في سبيل الله، ... الحديث» . أخرجه أبو داود (2494) ، وابن حبان (499) -وصحَّحه-، والحاكم (2/73) ، والبيهقي (9/166) . ثم قال ابن عبد البر: «وفي هذا دليلٌ على أن الغنيمة لا تنقص من أجر المجاهد شيئاً، غَنِمَ، أو لم يَغْنَم» ، وقال: «لو كانت تحبط الأجر، أو تنقصه، ما كانت فضيلةً له» . وانظر: «التمهيد» (11/35- مع ترتيبه «فتح البر» ) . ومالت صفاء العدوي في شرحها على سنن ابن ماجه المسمَّى: «إهداء الديباجة» (4/63) إلى ما ذهب إليه القاضي عياض، والنووي. وقالت في حديث عبد الله بن عمرو -وهوحديث الباب-: «هو صريح في ما ذهب إليه النووي، وهو الأرجح، والله أعلم» . قلت: ما ذكره ابن عبد البر من أن الغنيمة لو كانت تنقص الأجر، ما كانت فضيلةً له، أقوى في الاستدلال، وفيه إعمال جميع النصوص الواردة في الباب. وهو ما رجحه المصنف، وهو الأَوْلى بالصواب، والله أعلم. (2) انظر: «التمهيد» (11/35-مع ترتيبه: «فتح البر» ) ، «الاستذكار» (14/10) ، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (26/19-20) ، «الدين الخالص» (2/283) للسبكي، «مقاصد المكلفين» (457-459) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والكرب بفوت المغنم، كما يؤجر من أصيب بجهدٍ في نفسه، أو تَلفِ شيءٍ من ماله، وذلك أنَّ حالَهم بالإضافة إلى من غَنِمَ حالُ من أصيب بفوتِ مثل ذلك (1) . وقد خرّج مسلم (2) في بعض طرقه ما يُتنَبَّهُ به على هذا المعنى؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنْ غازية -أو: سريَّةٍ- تغزو فتغنم وتَسْلَمُ؛ إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازيةٍ -أو: سريّةٍ- تُخْفِقُ وتصاب؛ إلاَّ تمَّ أجورهم» . فعلى نحو هذا تترتَّبُ زيادةُ الأجرِ لمن لم يغنم، ويَتَّصِفُ من غَنِمَ بنقصان الأجر إذا أضيف أجره في ذلك إلى الحَظِّ الذي زِيدَ في ثواب من لم يغنم، والله أعلم. وقد روي في نحو ذلك حديثٌ آخر؛ ذكره أبو عبيد في «غريب الحديث» (3) له مقطوعاً، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيُّما سريَّة غزت فأخفقت؛ كان لها أجرها مرتين» ، قال: حدثناه مروان بن معاوية، عن إبراهيم بن أبي حُصين، عمَّن حدثه، يرفع الحديث. فهذا يَدُلُّك أنه زيادة أجرٍ فوق الجهاد، لا نُقصان منه، وأدَلُّ دليلٍ في ذلك وأوضحه: قوله - صلى الله عليه وسلم - -وقد ذكر مافضَّله الله -تعالى- به، وخصَّه من كرمه-: «أُعطيت خمساً لم يُعطهنّ أحدٌ قبلي؛ كان كلُّ نبيٍّ يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعثتُ إلى كل أحمر وأسود، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي» ... الحديث؛   (1) انظر تفصيل الكلام على الحديث: «إكمال المعلم» للقاضي عياض (6/330-331) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (13/78- ط. قرطبة) ، «عون المعبود» (7/174) . (2) في «صحيحه» (154) (1906) . (3) «غريب الحديث» (1/188- ط. دار الكتاب العربي) . وإسناده ضعيف. وأخرجه ابن أبي شيبة (4/567- ط. دار الفكر) قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن حسَّان بن عطية، عن عروة اللَّخمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيّما سريةٍ خرجت فرجعت وقد أخضعت -كذا-، فلها أجرها مرتين» . وهذا مرسل. وعروة اللخمي هو: عروة بن رُوَيم أبو القاسم اللخمي. صدوق يرسل كثيراً. قاله الحافظ في «التقريب» (4560) . وانظر: «الجرح والتعديل» (6/396) ، «طبقات ابن سعد» (7/460) ، «الحلية» (6/120) ، «تاريخ دمشق» (40/228) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ثبت في «الصحيحين» ؛ البخاري ومسلم (1) . فلو كانت الغنيمة تُحبطُ أجرَ الجهاد أو تُنْقِصُه، ما كانت فضيلة، وهذا ظاهر. قال أبو عبيد (2) : «الإخفاق: أن تغزو فلا تغنم شيئاً، وكذلك كل طالبِ حاجة إذا لم يقضها؛ فقد أخفق إخفاقاً، وأصلُ ذلك في الغنيمة» . ما جاء في فضل الرِّباط والحراسةِ في سبيل الله قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . قال الحسن وقتادة وغيرهما: معناه: رابطوا في سبيل الله (3) . وقد قيل غير ذلك (4) .   (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 335 و438 -مطولاً و3122- مختصراً) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 521) . (2) في «غريب الحديث» (1/189) ، وفيه: (تغزو) و (تغنم) بمثناة من تحت. (3) أخرجه عن الحسن وقتادة: ابن جرير في «التفسير» (3/221) ، وابن المبارك في «كتاب الجهاد» (رقم 170 و171) . فعن الحسن قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدَّة ولا رخاء، ولا سرَّاء ولا ضرَّاء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين. ونحوه عند ابن أبي حاتم (3/847- 848) ، وعبد بن حميد (ق 101- «المنتخب» ) ، وابن المنذر (2/543 رقم 1291) في «تفاسيرهم» ، وانظر: «الدر المنثور» (2/418) . وعن قتادة قال: أي: صابروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله. وعنه -أيضاً-: صابروا المشركين، ورابطوا في سبيل الله. ونحوه عند ابن أبي حاتم (3/848) ، وابن جرير (7/502 رقم 8387- ط. شاكر) ، وعبد بن حميد (ق 101- «المنتخب» ) ، وابن المنذر (2/544 رقم 1295) في «تفاسيرهم» ، وانظر: «الدر المنثور» (2/418) . وأخرجه ابن جرير (7/502 رقم 8391 و7/510 رقم 8399) ، وابن أبي حاتم (3/847 رقم 4689) ، وابن المنذر (2/543 رقم 1292) في «تفاسيرهم» عن محمد بن كعب القرظي. وروي ذلك عن الضحاك -أيضاً-. انظر: «تفسير ابن كثير» (1/481) . (4) انظر هذه الأقوال في «تفسير ابن جرير» (3/221-222) ، و «تفسير ابن المنذر» (2/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 والرّباط عمل من أعمال الجهاد، مختصٌّ بحراسة المسلمين في الثغور، وملازمتها لذلك، وهو من أفضل العبادات، والأجر فيه على قدر الخوف في ذلك الثغر، وحاجة من فيه من المسلمين إلى ذلك. خرَّج البخاري (1) ، عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رِباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والرَّوحة يروحها العبدُ في سبيل الله -أو: الغدوة- خيرٌ من الدنيا وما عليها» . وخرّج النسائي (2) عن عثمان بن عفَّان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ربِاطُ يومٍ في سبيل اللهِ خيرٌ من ألفِ يومٍ فيما سواه من المنازلِ» . وخرَّج مسلم (3) ، عن سلمان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «رباط يومٍ   = 544-545) ، و «تفسير ابن أبي حاتم» (3/847-848) ، و «المستدرك» (2/301) ، و «أسباب النزول» (ص 173) ، و «الدر المنثور» (3/418) . (1) كتاب الجهاد والسير (باب فضل رباط يوم في سبيل الله) (رقم 2892) . ونحوه -مختصراً - (رقم 2794 و6410) . وأخرجه مسلم (1881) -أيضاً-. (2) في «المجتبى» (6/40) وأخرجه الترمذي (1667) ، وابن أبي شيبة (5/327) ، وعبد بن حميد (51) ، وأحمد (1/ 62، 65، 75) ، وابنه عبد الله في «زوائد المسند» (1/66) ، والدارمي (2429) ، وابن المبارك في «كتاب الجهاد» (72) -ومن طريقه النسائي (6/40) -، والطيالسي (87) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/2/184) ، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (299، 300) ، والبزار (406) ، وابن حبان (4609) ، والحاكم (2/68، 143) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/39) ، وفي «الشعب» (4233) من طرقٍ عن أبي صالح مولى عثمان، عن عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه-، به. بألفاظٍ مختلفة. وأبو صالح يقال اسمه: الحارث، ويقال: تركان. ذكره ابن حبان في «الثقات» (4/136) ، ووثقه العجلي (ص 501) . وقال ابن حجر: مقبول. ووثقه الهيثمي في «المجمع» (1/297) . وحسَّن الحديث: الترمذي. وصححه: ابن حبان والحاكم. وانظر: «صحيح سنن الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (3) في كتاب الإمارة (باب فضل الرباط في سبيل الله) (163) (1913) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وليلة خير من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات جَرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأُمنَ الفَتَّان» . وخرَّج أبو داود (1) ، عن فضالة بن عُبيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل الميت يُختم على عمله، إلا المرابط؛ فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فَتَّان القبر» . وقد روي عن بعض أهل العلم اختلافٌ في الجهاد والرباط، أيهما أفضل؟ قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: «الغزو على الصواب -يعني: السُّنَّة- أحبُّ إليَّ من الرباط، والرِّباط أعجبُ إليَّ من الغزوِ على غير الصَّواب» (2) .   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (بابٌ في فضل الرباط) (رقم 2500) من طريق أبي هانئ، عن عمرو بن مالك، عن فضالة بن عُبيد، به. وأخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2414) ، وأبو عوانة في «صحيحه» (5/91) ، والبزار في «مسنده» (2/ ق 164- نسخة الرباط) ، والطحاوي في «المشكل» (3/102) ، والطبراني في «الكبير» (18/311 رقم 803) ، والحاكم في «المستدرك» (2/79) ، والبيهقي في «الشعب» (رقم 4287) ، وفي «إثبات عذاب القبر» (143) ، وابن عساكر في «الأربعين في الحث على الجهاد» (ص 85-86) من طرقٍ عن عبد الله بن وهب، عن أبي هانئ، به. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي. قلت: عمرو بن مالك -وهو أبو علي الجَنْبي، بفتح الجيم وسكون النون بعدها موحَّدة- لم يخرج له البخاري ولا مسلم شيئاً في «صحيحيهما» ، وإنما أخرج له البخاري في «الأدب المفرد» ، وهو بصريٌّ ثقة -كما في «التقريب» (5742) - وكذلك أبو هانئ: هو الخولاني، واسمه حميد بن هانئ. قال الحافظ في «التقريب» (1708) : «لا بأس به. وهو أكبر شيخ لابن وهب» . ولم يخرج له البخاري إلا في «الأدب» -أيضاً-. وأخرجه عبد الله بن المبارك في «كتاب الجهاد» (174) ، ومن طريقه كلٌّ من: أحمد في «المسند» (6/20) ، والترمذي في «الجامع» (رقم 1621) ، وابن حبان في «صحيحه» (رقم 4605) ، والطبراني في «الكبير» (18/311/ رقم 802) ، والحاكم في «المستدرك» (2/144) ، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 317) ، عن حيوة بن شُريح، عن أبي هانئٍ، به. وانظر «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/13) ، و «البيان والتحصيل» (2/521، 522) ، وفي أصله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ورُوي عن عبد الله بن عمر، في تفضيل الرِّباط، أنه قال: «فُرِضَ الجهادُ لِسفْكِ دماءِ المشركين، والرباط لحقنِ دماء المسلمين، فَحقْنُ دماءِ المسلمين أحبُّ إليَّ من سفكِ دماءِ المشركين» (1) . قلت: لعلَّه إنما يعني مثل قول مالكٍ في فساد الغزو، ومحدثات الأمور فيه، حتَّى لا يُحْلَى منه إلا سفكُ دماء المشركين مُجَرَّداً، دونَ الاهتمامِ بحدود ذلك، وحقوقه الواجبة في الجهاد، أو إنما يعني حالة يضطر فيها أهل ثغرٍ من المسلمين إلى الحراسة؛ لِشدة الخوف عندهم، وتوقع هجومِ العدو في اهْتِبال غَفْلةٍ، أو إصابةِ غُرَّة، والله أعلم. فأمَّا أنْ يكون ذلك على الإطلاق، فلايستقيم أن يقال: الرِّباط أفضل من الجهاد؛ لأنَّ الجهادَ فرضٌ برأسه، كسائر الأركان، والرِّباط لايجبُ إلاَّ لعارضِ الخوف. وأيضاً، فلا نقول: إن الجهاد فُرِضَ لسفك دماء المشركين، حتى إذا قوبل بحقن دماء المسلمين كان الرباط أولى، لكن نقول: فُرِضَ الجهاد لأن تكون كلمة الله هي العُليا، وتلك خصوصيةٌ لا تُعَادل، ولا يُفَاضَلُ عليها بحالٍ، وفي كلِّ ذلك -والحمد لله- أجرٌ كبير، وفضلٌ عظيم. ما جاء في ارتباط الخيلِ في سبيل الله، وفضل الرَّمي (2)   = «العُتْبِيَّة» : سئل مالك: أيُّ ذلك أعجب إليك: الرباط أو الغارات في أرض العدو؟ قال: أمَّا الغارات، فلا أدري كأنه كرهها؛ وأمَّا السَّير في أرض العدو على الإصابة -يعني: إصابة السُّنة- فإنه أعجب إليَّ. (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/14) ، و «البيان والتحصيل» (2/522) . (2) يشمل جميع أنواع الرمي، والتحريض على الرمي بالنشاب في النصوص كان في الزّمن الماضي، وأما اليوم؛ فينبغي أن يكون على تعلّم استعمال الآلات التي شاعت في زماننا. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ومن الغباوة الجمود على ظاهر الحديث؛ فإنّ التحريض عليه ليس إلا للجهاد، وليس فيه معنى وراءه، ولما لم يبق الجهاد بالنشاب والأقواس؛ لم يبق فيها معنى مقصود، فلا تحريض فيها. ومن هذه الغباوة ذهبت سلطنة (بخارى) ، حيث استفتى السلطان علماء زمانه بشراء بعض الآلات الكائنة في زمنه، فمنعوه، وقالوا: إنّها بدعة! فلم يدعوه أن يشتريها، حتى كان عاقبة أمرهم أنهم انهزموا، وتسلّط عليهم الروس، ونعوذ بالله من الجهل. قاله الكشميري في «فيض الباري» (3/435) ، ونحوه عند المطيعي في «تكملة المجموع» (15/ 203) ، وعند الساعاتي في «الفتح الرباني» (13/130) . بقي بعد هذا: التنبيه على إلحاق العلماء على (الرمي بالمنجنيق) قديماً: الرمي بالمدافع والطائرات والدبابات والصواريخ. قال فقيه الزمان الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في «الشرح الممتع» (8/27) : «المنجنيق بمنزلة المدفع، ففي الوقت الحاضر لا يوجد منجنيق، لكن يوجد ما يقوم مقامه، من الطائرات، والمدافع، والصواريخ، وغيرها» . وجاء في «توضيح الأحكام» (5/399) : « ... النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى أهل الطائف بالمنجنيق، ومثله غيره من المدافع والصواريخ وغيرها» . ونحوه في «العلاقات الدولية في الإسلام» (ص 47) للزحيلي. وكادت أن تجمع كلمة الفقهاء على جواز تحريق الكفار بالنار في حال القتال إذا لم يقدر عليهم المسلمون بغير ذلك، وحصل هذا مع بعض السلف، كما تراه في «سنن سعيد بن منصور» (رقم 2647، 2648- ط. الأعظمي) . ذلك أن المقصود كبت العدو، وكسر شوكتهم، بل توسع بعض أهل العلم، كالحنفية والشافعية، فجوزوا تحريقهم بالنار، ولو قدرنا عليهم بغيرها‍! وعليه، فيجوز الرمي بالسهام المسمومة، ولا وجه لكراهية ذلك، كما تراه في بعض كتب المالكية، مثل: «مواهب الجليل» (4/545) ، «الخرشي» (4/18) . ويعجبني كلام الماوردي في «الحاوي الكبير» (14/184) : «يجوز أن يُلقى عليهم -أي: العدو- الحيات والعقارب، ويفعل بهم جميع ما يفضي إلى إهلاكهم» . أما بالنسبة إلى استخدام الرمي بالأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية، فالواجب على المسلمين معرفة كل جديد من الأسلحة، ومعرفة طريقة استخدامها، وكيفية تصنيعها، ولكن الأصل عدم الإفساد في الأرض، وإتلاف النفوس. وبناءً عليه، فلا تستعمل هذه الأسلحة إلا في الضرورات، بحيث لا يمكن التغلب على العدو إلا بواسطتها، ولا سيما إذا كان ذلك من باب المعاملة بالمثل، ورحم الله الشوكاني فإنه قال في «السيل الجرار» (4/504) : «قد أمر الله بقتل المشركين، ولم يعيّن لنا الصّفة التي يكون عليها، ولا أخذ علينا أن لا نفعل إلا كذا دون كذا، فلا مانع من قتلهم، بكل سبب للقتل من رمي، أو طعن، أو تحريق، أو هدم، أو دفع عن شاهق، ونحو ذلك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . خرَّج مسلم (1) ، عن عقبة بن عامر قالٍ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهو على المنبر- يقول: « {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ألا إنَّ القوة الرَّمي، ألا إنَّ القوة الرَّميُ، ألا إنَّ القوة الرَّميُ» . وخرَّج الترمذي (2) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخيل معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة، الخيل لثلاثة: هي لرجلٍ أجرٌ، وهي لرجلٍ سِترٌ، وعلى رجلٍ وزر؛ فأما الذي له أجرٌ، فالذي يتخذها في سبيل الله، فيعِدُّها له، هي له أجرٌ، لايغيب في بطونها شيءٌ، إلا كتب الله له أجر ... » الحديث. وقال فيه: «حديث حسن صحيح» . أبو داود (3) ، عن عقبة بن عامرٍ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الله   (1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من عَلِمَه ثم نسيه) (167) (1917) ، وانظر: «فضائل الرمي» للقراب (رقم 11- بتحقيقي) . (2) في «جامعه» في أبواب فضائل الجهاد (باب ماجاء في فضل من ارتبط فرساً في سبيل الله) (رقم1636) ، وفيه قصَّة. وأخرجه البخاري (2849، 2850، 2852، 3119، 3643، 3644، 3645) ، ومسلم (1871، 1873) ، ومالك (901) ، وأبو داود (1658، 1659) ، وابن ماجه (2788) ، والنسائي في «المجتبى» (6/215، 216) ، وابن أبي شيبة (12/484) ، وأحمد (2/101، 262، 276، 423) ، وابن خزيمة (2252، 2253، 2291) ، وأبو يعلى (2641) ، وابن حبان (4671، 4672) ، والطبراني في «الأوسط» (2090) ، والبيهقي في «الكبرى» (4/98، 119، و10/15) . والروايات مطولة ومختصرة. (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الرمي) (رقم 2513) . وأخرجه النسائي في «المجتبى» (6/28) ، والترمذي في «الجامع» (4 رقم 1637) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (10 رقم 19522) ، وأحمد في «المسند» (4/144 و146 و148 و222) ، وأبو عوانة في «المسند» (5/103 و104) ، والطيالسي في «المسند» (رقم 1006) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/502) ، وابن أبي شيبة في «المصنّف» (5/349-350) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (رقم 2450) ، والدارمي في «السنن» (2/204-205) ، والطحاوي في «المشكل» (1/119، 368) ، والروياني في «مسنده» (رقم 184، 185، 188، 247) ، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 563) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يُدخلُ بالسَّهم الواحد ثلاثة نفرٍ في الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرَّامي به، ومنبِّله، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا. ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبْلِهِ، ومن ترك الرمي بعد ما علمه، رغبةً عنه، فإنَّها نعمةٌ تركها» ، -أو قال: «كَفَرَها» -.   = والطبراني في «المعجم الكبير» (17 رقم 939-942) ، وابن الجارود في «المنتقى» (رقم 1062) ، والحاكم في «المستدرك» (2/95) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/13، 13-14، 218) ، و «الشعب» (4 رقم 4306) ، والآجري في «تحريم النرد والشطرنج» (رقم 1، 2، 3) ، وابن عساكر في «الأربعين في الحث على الجهاد» (رقم 29) ، و «تاريخ دمشق» (ص 572- «ترجمة عبد الله بن زيد» ) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (2/647) ، و «شرح السنة» (10 رقم 2641) ، وابن حبان -كما في «فتح الباري» (6/91) - والخطيب في «الموضح» (1/113-114) ، وأبو نعيم في «رياضة الأبدان» (رقم 8) ، وعفيف الدين المقرئ في «الأربعين في الجهاد والمجاهدين» (رقم 35) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (8/75-76) ، وأعلّه العراقي في «تخريج الإحياء» وتبعه شيخنا في «تخريج فقه السيرة» (225) بعلّتين: الأولى: الاضطراب الواقع في السند، حيث رواه أبو سلام تارة عن خالد بن زيد، وأخرى عن عبد الله بن زيد الأزرق. والأخرى: جهالة كل من خالد بن زيد، وعبد الله بن الأزرق. قلت: خالد بن زيد وعبد الله واحد، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (5/93) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/58) : «عبد الله بن زيد الأزرق، ويقال: خالد بن زيد» ، فانتفت علة الاضطراب وبقيت جهالة الحال، إذ لم يوثق خالد بن زيد إلا ابن حبان كما في «التهذيب» (5/226) وتساهله معروف. وقال السيوطي في حديث عقبة بن عامر بعد عزوه لمالك في «الموطأ» وغيره: «حسن» . وانظر: «كنز العمال» (4 رقم 10860) . وقال الهيثمي في «المجمع» (4/329) : «رجاله ثقات» وصححه ابن خزيمة، كما في «فتح الباري» (11/91) . وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/279) : «رواه الطبراني بإسناد جيّد» . ولكن أصل الحديث صحيح مرفوعاً، إذ في الباب أحاديث كثيرة، تنظر مع تخريجها في «فضائل الرمي» للقراب، وهو مطبوع ضمن كتابي «مجموعة أجزاء حديثية» (1/275-305) ، ولا سيما لفظ: «من عَلِمَ الرَّمي، ثم تركه فليسَ مِنَّا، أو: قد عَصَى» . فقد أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الرَّمي) (169) (1919) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قوله: «ومُنبّلُه» ، المُنَبِّل: الذي يناول الرَّامي النَّبلَ واحداً بعد واحد، أو يَردُّ عليه النَّبلَ المرميَّ. وقوله: «ليس من اللهو إلا ثلاث» ، أي: ليس يثبت من اللهو في الشرع إلا ثلاث، يريد: إن ما عَدا ذلك من اللهو فهو باطل (1) . ووقع في الترمذي (2) هذان الحرفان مفسَّرين؛ قال: «في السهم (3) ، والرامي به، والمُمِدّ به» ، وقال: «كلُّ ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رَمْيَه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهنَّ من الحقّ» . ما جاء في فضل الإنفاق في سبيل الله قال الله -تعالى-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] .   (1) في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الخلال من جملة ما حرّم منها؛ لأنّ كل واحدة منها، إذا تأمّلْتها وَجَدْتها مُعينة على حق، أو ذريعة إليه. ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسّلاح، والشدّ على الأقدام، ونحوهما، مما يرتاض به الإنسان، فيتوقّح بذلك بدنه، ويتقوّى به على مجالدة العدو. فأمّا سائر ما يتلهى به البطّالون من أنواع اللهو، كالنرد والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حقٍّ، ولا يُستجمُّ به لدرك الواجب فمحظور كلّه، قاله ابن القيم في «تهذيبه على سنن أبي داود» (3/371) ، ونحوه في «شرح السنة» (10/383) للبغوي. وللشاطبي كلمات مهمة في «الموافقات» حول هذا المعنى، وذكر هذا الحديث في مواطن منه (1/202، 205، 228، و3/516، 519- بتحقيقي) ، وقال (1/205) : «يعني بكونه باطلاً، أنه عَبَثٌ أو كالعبث، ليس فيه فائدة ولا ثمرة تُجنى، بخلاف اللعب مع الزوجة، فإنه مباح يخدم أمراً ضروريّاً، وهو النسل، وبخلاف تأديب الفرس، وكذلك اللعب بالسِّهام، فإنهما يخدمان أصلاً تكميلياً وهو الجهاد، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل» . (2) في «جامعه» في كتاب فضائل الجهاد (باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله) (رقم 1637) من مرسل عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وفي سنده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعن، والحديث السابق يشهد له، وورد في الباب -أيضاً- أحاديث عديدة تراها مع تخريجنا لها في «فضائل الرمي» للقراب. (3) لفظ الترمذي: «صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 خرَّج النسائي (1) ، عن خُريم بن فاتكٍ الأسديِّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أنفق نفقةً في سبيل الله، كُتبت بسبع مئة ضعف» . البخاري (2) ، عن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده؛ فإنَّ شَبَعَهُ وَرِيَّهُ ورَوْثَه وبولَه في ميزانه يوم القيامة» . وفيه (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله؛ دعاه خزنة الجنة، كُلُّ خزنة بابٍ: أي فُلُ هَلُمَّ» . قال أبو بكر: يا رسول الله، ذلك الذي لا تَوَى عليه! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي لأرجو أنْ تكون منهم» . قوله: «أي فُل» : نداء مخصوص، كما تقول: أي هذا، يقال: فلانٌ وفُلُ، محذوف -لُغتان-، وليس على طريق الترخيم. قال الشاعر (4) :   (1) في «المجتبى» في كتاب الجهاد (باب فضل النفقة في سبيل الله) (6/49 رقم 3186) ، وفي «الكبرى» -كما في «التحفة» (3256) -. وأخرجه الترمذي (1625) ، وأحمد (4/345، 346) ، والبخاري في «التاريخ» (8/423) ، وابن أبي شيبة في «المسند» (ق 38- ق39- نسخة الرباط) ، وفي «المصنف» (5/318) -وعنه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (رقم 1047- مطولاً) ، وفي «كتاب الجهاد» (رقم 71، 72) -، والطبراني في «الكبير» (4/244، 245/ رقم 4151، 4152) ، والحاكم (2/87) ، وابن حبّان في «صحيحه» (رقم 4628) ، -وكما في «الموارد» (396 رقم 1647) -، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 34) ، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (رقم 628) ، والبيهقي في «الشعب» (رقم 4268) مطولاً ومختصراً. وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» (2/167) ، والمناوي في «التيسير» (2/406) ، وكذا شيخنا الألباني في «صحيح أبي داود» ، وفي تعليقه على «المشكاة» (3826) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب من احتبس فرساً) (رقم 2853) . (3) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب فضل النفقة في سبيل الله) (رقم 2841) . وفي كتاب بدء الخلق (باب ذكر الملائكة) (رقم 3216) . ونحوه مطولاً برقم (1897، 3666) ، وهو الحديث الآتي بعده. (4) هو أبو النجم، في أرجوزةٍ طويلة جداً. موجودة بتمامها في مجلة المجمع العلمي بدمشق (ص 472-479/ سنة 1928م) . وقال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة» (4/447) : ورخَّمه أبو النجم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 في لَجَّةٍ أمْسِكْ فلاناً عن فُلِ وقوله: «لا تَوَى عليه» ، أي: لا هلاك عليه (1) ، ورجلٌ تَوٍ، مثل: عم (2) . وفي «الموطأ» (3) ، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله؛ نُودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصلاة، دُعي   = ... والشاهد مذكور في الأرجوزة، في قوله: إذا عَصَبتْ بالعَطنِ المُغربلِ ... تدافعَ الشيبُ ولم تقْتلِ في لجةٍ أمْسِكْ فلاناً عن فُلِ واللجَّة من اللجاج، واللجاج والتجاج الظلام: اختلاطه، وهو مشبَّه بالتجاج البحر، ويستعار هذا فيقال: عين ملتجّة: شديدة السواد. وانظر: «جمهرة اللغة» (ص 407) ، «لسان العرب» [ (1/605) (عصب) ، (2/355) (لجج) ، (11/533) (فلل) ، (13/324، 325) (فلن) ] ، «الطرائف الأدبية» (ص 66) ؛ «المنصف» (2/225) ، «الممتع في التصريف» (2/640) ، «خزانة الأدب» (2/389) ، «الدرر» (3/37) ، «سمط الآلي» (ص 257) ، «شرح أبيات سيبويه» (1/439) ، «شرح التصريح» (2/180) ، «شرح المفصل» (5/ 119) ، «شرح شواهد المغني» (1/450) ، «الصاحبي في فقه اللغة» (ص 228) ، «الكتاب» (2/248، 3/ 452) ، «المقاصد النحوية» (4/228) ، «تهذيب اللغة» (2/48) ، «تاج العروس» (3/382) (عصب) ، (فلن) ، «مقاييس اللغة» (4/447، 5/202) ، «مجمل اللغة» (4/61) ، «أوضح المسالك» (4/43) ، «شرح الأشموني» (2/460) ، «شرح ابن عقيل» (ص 527) ، «شرح المفصل» (1/48) ، «المقتضب» (4/238) ، «المقرب» (1/182) ، «همع الهوامع» (1/177) . (1) في هامش المنسوخ: هنا علامة إلحاق، وليس في الهامش شيء. (2) انظر: «لسان العرب» (14/106-ط. دار الفكر) . (3) «الموطأ» (ص 290) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الصوم (باب الريّان للصائمين) (رقم 1897) ، وكتاب المناقب (باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) (رقم 3666) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب من جَمعَ الصدقة وأعمال البر) (1027) ، والترمذي (3674) ، والنسائي في «المجتبى» (4/168 و5/9، 22 و6/47) ، وابن خزيمة (2480) ، وأحمد (2/366) ، والبيهقي (9/171) ، وابن أبي شيبة (3/7) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/323 رقم 20522- ط. قلعجي) . والألفاظ متقاربة المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الرَّيَّان» ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما عَلى من يُدْعى من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدْعى أحدٌ من هذه الأبواب كلِّها؟، قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» . النسائي (1) ، عن صَعْصَعة بن معاوية قال: لقيتُ أبا ذر، قال: قلت: حدثني،   (1) في «المجتبى» (6/48) . وفيه: «اسْتَقْبَلَتْهُ» بدل: «اسْتَبَقَتْهُ» . والحديث مرويٌّ مطولاً. فعن الحسن، عن صعصعة بن معاوية، قال: أتيت أبا ذر، قلت: ما لك؟ قال: لي عملي. قلتُ: حدِّثني. قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة من أولادهما لم يبلغوا الحنث، إلا غفر الله لهما» . قلت: حدّثني، قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم ينفق من كل مالٍ له زوجين في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده» ، قلت: وكيف ذاك؟، قال: «إن كانت رجالاً فرجلين، وإن كانت إبلاً فبعيرين، وإن كانت بقراً فبقرتين» . وهذا الحديث صحيح، وصعصعة بن معاوية، روى له البخاري في «الأدب المفرد» ، والنسائي، وابن ماجه، وله صحبة، وقيل: إنه مخضرم. وصرح الحسن -وهو البصري- بسماعه من صعصعة في الرواية عند أحمد (5/159) . وأخرجه أحمد (5/151 و153 و159 و163) ، والبزار في «مسنده» (3909) ، و (3910) ، والنسائي (4/24-25 و6/48-49) ، والطبراني في «الكبير» (1645) ، والحاكم (2/86-87) ، والبيهقي (9/171) من طرق عن الحسن، به. واقتصر النسائي في موضعه الأول على الشطر الأول من الحديث، والنسائي في موضعه الثاني، والطبراني والحاكم على الشطر الثاني منه، وصححه الحاكم. وأخرجه بتمامه: البزار (3910) و (3911) و (3912) و (3913) ، وأبو عوانة (7484) و (7485) و (7486) ، وابن حبان (4643) ، والطبراني في «الكبير» (1644) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/326) ، والبيهقي (9/171) ، والمزي في ترجمة صعصعة من «التهذيب» (13/ 172-173) من طرق عن الحسن البصري، به. وأخرج الحديث الأول مفرداً: البخاري في «الأدب المفرد» (150) ، وابن حبان (2940) ، والطبراني في «الصغير» (895) من طرق عن الحسن، به. وزاد البخاري: «وما من رجل أعتق مسلماً إلا جعل الله كل عضو منه فكاكه لكل عضو منه» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنْ عبدٍ مسلمٍ يُنفق من كل مالٍ له زوجين في سبيل الله؛ إلا اسْتَبَقَتْهُ حَجَبةُ الجنَّة، كلّهم يدعوه إلى ما عنده» ، فقلت: وكيف ذلك؟، قال: «إن كانت إبلاً فبعيرين، وإن كانت بقراً فبقرتين» . وروي نحو هذا التفسير عن الحسن البصري (1) قال: اثنين من جنسٍ واحد، كدرهمين -أو: دينارين- وقد قيل: إنه يدخل في ذلك -أيضاً- سائر الطاعات، مثل: أن يصوم ويصلي نفلين، ويغزو مرَّتين، وماأشبه ذلك. ويحتمل أن يكون قوله: «من كان من أهل الصلاة، من كان من أهل الجهاد» ، إشارةً إلى هذا المعنى؛ نُسبَ إلى الأعمال المتكررة منه. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك العملُ أغلبَ عليه، وأكثر في عباداته، وهذا يرجع إلى ما قلناه، مِن أنه: العمل الذي يكثر تكراره في نوعه، والله أعلم (2) . وأمّا قوله في حديث «الموطأ» : «هذا خير» ، فقيل (3) : معناه: هذا خيرٌ نِلْتَهُ وأدركته بعملك، هو هنا معدٌّ لك، وليس معناه: هذا أفضل.   = وأخرج الحديث الثاني مفرداً: أبو عوانة (7487) ، وابن حبان (4644) ، والطبراني في «الكبير» (1645) من طرق عن الحسن، به. والشطر الأول من الحديث مرويٌّ ضمن قصة وفاة أبي ذر، من طريق إبراهيم بن الأشتَرْ، عن أبيه، عن أمٍّ ذر، عن أبي ذر. أخرجه أحمد (5/155) ، والبزار (4060) ، وابن حبان (6670، 6671) ، والحاكم (3/344- 346) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/169-170) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/401-402) . ومرويٌّ من طريق إبراهيم بن الأشتر -أيضاً- مرسلاً. أخرجه أحمد (5/166) ، وابن سعد في «الطبقات» (4/232-233) . (1) أخرجه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/326/ رقم 20534) عنه قال: «زوجين، درهمين، دينارين، عَبْدين، من كل شيءٍ اثنين» . ثم قال ابن عبد البر: «تفسير الحسن جيدٌ حسن» . (2) انظر: «الاستذكار» (14/323-325) . (3) هذا قول ابن عبد البر (14/327) . وبعد كلمة: «خير» في الأصل علامة إلحاق، وهو غير واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قلت: ولا يبعد أن يكون بمعنى: هذا أفضل، يُراد: أنَّ ما أعدَّ لك ها هنا خيرٌ مما أَنْفَقْتَ في الدنيا، يُغبط بفعله، ويُعَرَّفُ قدر نعمة الله -تعالى- وفضله في تضعيف الجزاء له، كما قال -تعالى-: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] ، فهم يستبقون إلى تبشيره بذلك، كلُّ خازنٍ بما عنده، والله أعلم. ما جاء في طلب الشهادة، وأجر الشهداء في «الموطأ» (1) ، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَدِدْتُ أني أقاتِلُ في سبيل الله، فأُقتل، ثم أُحيا فأُقتل، ثم أُحيا فأقتل» . البخاري (2) ، عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أحدٌ يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيءٍ إلا الشهيد؛ يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتَلَ عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة» . الترمذي (3) ، عن المقدام بن معدي كَرِبَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للشهيد   (1) (رقم 463- ط. إحياء التراث) . وفيه: فكان أبو هريرة يقولهنَّ ثلاثاً: أشهد بالله. ونحوه (رقم 470- مطولاً) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب التَّمَنِّي (باب ماجاء في التمنِّي، ومن تمنَّى الشهادة) (رقم 7227) . ونحوه (رقم 36 و2797 و2972 و7226) ، ومسلم (1876) (106) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسِّير (باب تمَنِّي المجاهد أن يرجع إلى الدنيا) (رقم 2817) . وأخرجه بنحوه (رقم 2795) ، ومسلم في كتاب الإمارة (باب فضل الشهادة في سبيل الله) (1877) (108) . (3) في «جامعه» في كتاب فضائل الجهاد (باب في ثواب الشهيد) (رقم 1663) . وأخرجه ابن ماجه (2799) ، وأحمد (4/131) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (5/265 رقم 9559) ، والطبراني في «الكبير» (20/266 رقم 629) ، وفي «مسند الشاميين» (ق 224) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (2563) ، والهيثم بن كليب الشاشي في «مسنده» (3/174 رقم 1259) ، وابن أبي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عند الله سِتّ خصال؛ يُغْفَر له في أول دَفعة، ويُرَى مقعده من الجنة، ويُجار من عذابِ القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسهِ تاج الوقار، الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوَّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين من أقاربه» . قال فيه: حسن صحيح غريب. وفي «الموطأ» (1) ، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغَّب في الجهاد، وذَكرَ الجنة، ورجلٌ من الأنصار يأكل تمراتٍ في يده، فقال: إني لحريص على الدنيا إن جلستُ حتى أَفْرُغ منهنَّ، فرمى ما في يده، فحمل بسيفِه، فقاتل حتى قُتِل. أبو داود (2) ، عن معاذ بن جبل، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قاتل في   = عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 204 و206) ، وابن بشران في «الأمالي» (رقم 761) ، والبيهقي في «الشعب» (4/205 رقم 4254) ، وشمس الدين المقدسي في «فضل الجهاد والمجاهدين» (10) من طرقٍ عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب. وفي «فضل الجهاد والمجاهدين» للمقدسي: «تسع خصال» ، وفي «مسند الشاميين» : «تسع خصال أو عشر خصال» ، وفي «كتاب الجهاد» لابن أبي عاصم (رقم 204) : «سبع خصال» . وفي «تحفة الأشراف» (8/507) ، و «تحفة الأحوذي» (3/117- ط. الهندية) قول الترمذي: صحيح غريب. والحديث صحيح. وانظر: «صحيح سنن الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (1) (رقم 472) وهو مرسل. وقد وصله البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله. أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب غزوة أحد) (رقم 4046) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب ثبوت الجنة للشهيد) (1899) (143) ، والنسائي في «المجتبى» (6/33) ، والحميدي (1249) ، وأحمد (3/308) في «مسنديهما» ، والبيهقي في «السنن» (9/43، 99) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/296 رقم 20406) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب فيمن سأل الله -تعالى- الشهادة) (رقم 2541) . وأخرجه الترمذي (1657) ، وابن ماجه (2792) ، والنِّسائي في «المجتبى» (6/25) ، والدارمي (2399) ، وأحمد (5/230، 235، 243، 244) ، وعبد بن حميد (119) ، وعبد الرزاق (9534) ، والطبراني (20 رقم 203، 204، 205، 206، 207) ، وابن حبان (4618- «الإحسان» ) ، والحاكم (2/77) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/170) ، وفي «الشعب» (4250) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 سبيل الله فُواقَ ناقةٍ، فقد وَجَبتْ له الجنة، ومن سأل الله القتلَ من نفسه صادقاً، ثم مات -أو: قُتِلَ-، فإنَّ له أجرَ شهيد» . الترمذي (1) ، عن معاذ بن جبل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل الله القتل في سبيله صادقاً من قلبه، أعطاه الله أجرَ الشهادة» قال فيه: حسنٌ صحيح. مسلم (2) ، عن سهل بن حنيف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» . وفيه (3) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من طلبَ الشهادة صادقاً؛ أُعطيها، ولو لم تُصبه» . أبو داود (4) ، عن أبي مالك الأشعري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:   = وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وانظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. و (فُواق الناقة) : هو مابين الحَلبتين من الرَّاحة، وتُضمُّ فاؤه وتُفْتَح. وانظر: «النهاية في غريب الحديث» (3/479) لابن الأثير، و «غريب الحديث» لأبي عبيد (4/ 82 و176) . (1) في «جامعه» في أبواب فضائل الجهاد (باب من جاء فيمن سأل الشهادة) (رقم 1654) ، وهو طرفٌ من الحديث الذي قبله بنحوه. (2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله -تعالى-) (157) (1909) . (3) نفس الكتاب والباب السابقين (156) (1908) . (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب فيمن مات غازياً) (رقم 2499) : حدثنا عبد الوهاب ابن نَجْدة، والطبراني في «الكبير» (3/282-283رقم 3418) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/166) ، وفي «الشعب» (2/ق 93/ب) من طريق عبيد بن شريك، قالا: حدثنا بقية بن الوليد، عن ابن ثوبان -وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان- عن أبيه، يردّ إلى مكحول، إلى عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أنَّ أبا مالكٍ الأشعري قال: فذكره. وهذا إسنادٌ ضعيف؛ فبقية بن الوليد: صدوق، لكنه كثير التدليس، وقد عنعنه. ولكنه صرَّح بالتحديث؛ أخرجه الحاكم (2/78) ، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 «من فَصَلَ في سبيل الله فمات -أو: قتل- فهو شهيد، أو: وَقَصهُ فرسه -أو: بعيره-، أو: لدغته هامَّةٌ، أو: مات على فراشه بأي حتفٍ شاء الله، فإنَّه شهيد، وإنَّ له الجنة» . قلت: ومصداق ذلك في كتاب الله: قوله -تعالى-: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ} [النساء: 100] . ما جاء في الشهداء قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ... } الآية [آل عمران: 169] . خرّج مسلم (1) عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، قال: أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحهم في جَوفِ طيرٍ خُضرٍ، لها قناديل معلَّقةٌ بالعرش، تَسرحُ من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئاً؟، قالوا: أيُّ شيءٍ نشتهي، ونحن نسرحُ من الجنة حيث شئنا!، ففعل ذلك بهم ثلاث مرَّات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن   = 54، 235) . وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وردَّه الذهبي بقوله: «ابن ثوبان، لم يحتج به مسلم، وليس بذاك، وبقية ثقة، وعبد الرحمن بن غنم لم يدركه مكحول فيما أظن» . وعبد الرحمن بن ثابت: صدوق يخطئ، ورُمي بالقدر، وتغير بأخرة. قاله الحافظ في «التقريب» . لذا قال المنذري: في إسناده بقية بن الوليد، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهما ضعيفان. والعلماء في عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان بين موثق ومضعِّف، وبالجملة فلا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن، فالحديث حسن إن شاء الله، والله أعلم. (تنبيه) : كلمة (عتبة) لعلَّها تحرفت من (بقية) في مطبوع «الكبرى» للبيهقي. فاقتضى التنبيه. وفي الحديث: «فَصَلَ» ، أي: خَرَجَ. (1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب بيان أنَّ أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون) (121) (1887) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يسألوا، قالوا: يارب! نريد أن تَرَدُّ أرْواحَنا في أجسادنا؛ حتى نُقتلَ في سبيلكَ مرةً أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجةٌ؛ تُرِكوا» . الترمذي (1) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يجد الشهيد من   (1) في «جامعه» في كتاب فضائل الجهاد (باب ما جاء في فضل الرباط) (رقم 1668) من طريق صفوان بن عيسى، حدثنا ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فذكره. وأخرجه ابن ماجه في «سننه» في كتاب الجهاد (باب فضل الشهادة في سبيل الله) (رقم 2802) ، وأحمد (2/297) ، والدارمي (2/125 رقم 2413) ، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 190) ، وابن حبان في «صحيحه» (7/82 رقم 4636) ، وأبو إسحاق الثعلبي في «تفسيره» (2/ق 105/ب) ، وأبو الفرج المقرئ في «الأربعين في فضل الجهاد والمجاهدين» (ق 173/أ) ، وشمس الدين المقدسي في «فضل الجهاد والمجاهدين» (9) من طرقٍ عن صفوان بن عيسى، به. وأخرجه النسائي في «المجتبى» في كتاب الجهاد (باب مايجد الشهيد من الألم) (6/36) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/264-265) ، وابن بشران في «الأمالي» (2 رقم 1012) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/164) ، والبغوي في «شرح السنة» (10/365) ، وفي «تفسيره» (1/450) ، والتيمي الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (رقم 819) من طرقٍ أخرى عن ابن عجلان -وهو محمد بن عجلان-، به. وقال الترمذي في إثر الحديث: «هذا حديث حسن صحيح غريب» . وقال أبو نعيم: «ثابت مشهور من حديث القعقاع عن أبي صالح» . وقال البغوي: «هذا حديث غريب» . قلت: ومحمد بن عجلان، قال عنه الحافظ في «التقريب» : صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة. وذكره في (المرتبة الثالثة) من «طبقات المدلسين» (ص 32) . فحديثه حسن -إن شاء الله-. وللحديث شاهد من حديث أبي قتادة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشهيد لايجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم مسَّ القرصة» . أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1/ق 18/أ) حدثنا أحمد بن رشدين: حدثنا عيسى بن حمَّاد زُغبة: حدثنا رشدين بن سعد، عن الحسن بن ثوبان وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن رباح، عن أبي قتادة. وعلي بن رباح هو اللخمّي: ثقة. وكذلك يزيد بن أبي حبيب. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 مسِّ القتل، إلا كما يجد أحدكم مسَّ القَرْصة» . قال فيه: حسن صحيح. وفيه -أيضاً- (1) ، عن أبي يزيد الخولاني، أنه سمع فُضالة بن عبيد يقول: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الشهداء أربعة؛   = والحسن بن ثوبان، قال أبو حاتم -كما في «الجرح والتعديل» لابنه (1/2/3) -: «لا بأس به» . وذكره ابن حبان في «الثقات» (6/162) . وأما رشدين بن سعد. قال الذهبي في «الميزان» : «كان صالحاً عابداً سيء الحفظ غير معتمد» . وضعفه الحافظ في «التقريب» . وشيخ الطبراني مختلفٌ فيه؛ وهو أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد، لكن قال ابن عدي في «الكامل» (1/201) : « ... وهو مِمَّن يكتب حديثه مع ضعفه» . وانظر: «الميزان» (1/133) ، واللسان (1/257-258) . والحديث بهذا الشاهد صحيح -إن شاء الله-. وحكم شيخنا على حديث الترمذي بأنه حسن صحيح. (1) في «جامعه» في أبواب فضائل الجهاد (باب ما جاء في فضل الشهداء عند الله) (رقم 1644) ، وفي «العلل الكبير» (رقم 502) ، حدثنا قتيبة: حدثنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن أبي يزيد الخولاني، به. وأخرجه أحمد في «المسند» (1/22-23) ، وعبد الله بن المبارك في «كتاب الجهاد» (126) -ومن طريقه أبو داود الطيالسي في «المسند» (ص10) ، وعبد بن حميد في «المسند» (27) -، وابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص 276-277) ، وابن أبي حاتم في «العلل» (1/346) ، وأبو يعلى الموصلي في «مسنده» (3/216 رقم 252) ، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 186 و187) ، والبزار في «البحر الزخار» (رقم 246) ، والطبراني في «الأوسط» (رقم 361) -وفيه: «الشهداء ثلاثة» -، والبيهقي في «الشعب» (4/29 رقم 4262) ، والحربي في «غريب الحديث» (2/630) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (34/407) ، من طرقٍ عن ابن لهيعة، به. ورواية أبي يعلى من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، ورواية ابن عبد الحكم وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن وهب، فهذا من رواية العبادلة عن ابن لهيعة. وهي مقبولة. وصرَّح ابن لهيعة بالتحديث عند عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد، وأبي يعلى. أمَّا أبو يزيد الخولاني. فهو مجهول. قال الذهبي في «الميزان» (4/588) : «لا يعرف» . وقال الحافظ في «التقريب» (8449) : «مجهول» . فالحديث ضعيف. وانظر: «السلسلة الضعيفة» (رقم 2004) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 رجل مؤمن جَيِّد الإيمان، لقي العدوَّ، فَصَدق الله حتى قُتِلَ، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا» ، ورفع رأسه حتى وقعت قُلُنْسُوَتُه، -قال: فما أدري! أقلنسوة عمر، قال، أم قلنسوةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - -؟ قال: «ورجل مؤمن جَيِّد الإيمان لقي العدوَّ، فكأنما ضُرِبَ جِلدُه بشوكِ طَلْحٍ من الجُبنِ، أتاه سهمٌ غَرْبٌ فَقَتله، فهو في الدرجة الثانية، ورجلٌ مؤمن؛ خَلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لقي العدوَّ، فصدق الله حتى قُتِلَ، فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمنٌ أسْرَفَ على نفسه، لقي العدوَّ، فَصَدقَ الله حتى قُتِلَ، فذلك في الدرجة الرابعة» . قال فيه: «حسن غريب» . قوله: «سَهْمٌ غربٌ» ؛ أي: لا يُعرفُ راميه. قال أبو عبيد (1) : قال الكسائي والأصمعيّ: إنما هو سَهمُ غَرَبٍ، بفتح الراء، قال: والمحدثون يُحدِّثونه بتسكين الراء، والفتحُ أجود، وأكثرُ في كلام العرب. وقال ابن هشام في «المغازي» (2) لابن إسحاق: سهمُ غَرْبٍ، وسهمٌ غَرْبٌ، بإضافةٍ وغير إضافة: لا يُعرف من أين جاء، ولا منْ رمى به. البخاري ومسلم (3) ، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشهداء خمسةٌ: المَطعون، والمَبْطونُ، والغَرِقُ، وصاحبُ الهَدْمِ، والشهيدُ في سبيل الله» . «الموطأ» (4) ، عن جابر بن عتيك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشهداء سبعة،   (1) في «غريب الحديث» (4/344-345) . (2) انظر: «شرح السيرة النبوية» لأبي ذر بن محمد بن مسعود الخشني (1/347) . (3) البخاري في كتاب الجهاد والسير (باب الشهادة سبع سوى القتل) (رقم 2829) ، ومسلم في كتاب الإمارة (باب بيان الشهداء) (1914) . وأخرجه البخاري في كتاب الأذان (الصلاة) (باب فضل التهجير إلى الظهر) (رقم 653) ، وفيه: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدوا إلاَّ أن يستهموا؛ لاستهموا، ولو يعلمون مافي التهجير؛ لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصُّبح؛ لأتوهما ولو حَبْواً» ، و (رقم 720) . وكتاب الأذان (الصلاة) (باب الصف الأول. وليس فيه: «والشهيد في سبيل الله» ) و (رقم 5733) -مختصراً-. (4) (رقم 279) في كتاب الجنائز. وهو قطعة من حديث طويل، فيه عيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله ابن ثابت ... الحديث. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 سِوى القتلِ في سبيل الله: المطعون شهيد، والغَرِقُ شهيد، وصاحبُ ذاتِ الجَنْب شهيدٌ، والمبطون شهيد، والحَرِقُ شهيدٌ، والذي يموت تحت الهدْمِ شهيد، والمرأة تموت بجُمعٍ شهيد» . قوله: «المطعون» : هو الذي يموت في الطاعون. وفي حديثٍ عن عائشة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن فناء أمَّتي بالطعن والطاعون» ، قالت: الطَّعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «غُدَّةٌ كغدة البعير، تخرج في المراقِّ والآباط، من مات منه مات شهيداً» (1) .   = ومن طريق مالك أخرجه كلٌّ من: أبي داود (3111) ، والنسائي في «المجتبى» (4/13) ، وفي «الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (3173) -، وأحمد (5/446) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2141) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (رقم 248) ، والطحاوي (4/291) ، وابن حبان (3189، 3190- مع «الإحسان» ) ، والحاكم (1/352) ، والشافعي في «المسند» (362) ، والطبراني في «الكبير» (4/208 رقم 1779) ، والبيهقي في «الكبرى» (4/69-70) ، والبغوي في «شرح السنة» (1532) ، وأبي نعيم في «معرفة الصحابة» (رقم 1510) ، وأبي القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (رقم 293) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (1/258) . وأخرجه النسائي (6/51-52) ، وابن أبي شيبة (5/332-333) ، وابن ماجه (2703) ، والطبراني في «الكبير» (رقم 1780) ، وعبد الرزاق (6695) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (رقم 249) ، من طرقٍ أخرى عن جابر بن عتيك، به. والحديث صحيح. وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (2829، 5833) ، ومسلم (1914) ، ومن حديث أنس: أخرجه البخاري (5732) ، ومن حديث عمر: أخرجه الحاكم (2/109) ، ومن حديث عائشة: أخرجه البخاري (5734) . وغيرهم، رضي الله عنهم. وقوله: «المرأة تموت بجُمْعٍ» . قال أبو عبيد في «غريب الحديث» (1/125) . قال أبو زيد: يعني أن تموت وفي بطنها ولد، وقال الكسائي مثل ذلك. قال: وقال غيرهما: وقد تكون التي تموت بجُمعٍ أن تموت ولم يَمْسَسْها رجل؛ لحديثٍ آخر يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّما امرأةٍ ماتتْ بجُمعْ، لم تطمث؛ دخلت الجنة» . (1) أخرجه أحمد في «المسند» (6/133 و145 و255) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (64/ 56) من طرقٍ عن جعفر بن كيسان، قال: سمعت معاذة العدوية تحدث عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذكره. وفيه: «غدة كغدة الجمل، المقيم فيها كالشهيد، والفارُّ منها كالفار من الزحف» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقوله: «صاحب ذات الجنب» ، قيل: هو الذي تصيبه الشُّوصة. وجاء في بعض الآثار (1) : «المجنوب شهيد» ، يريد: صاحب ذات الجنب. و «المبطون» ؛ قيل: هو المَحْبون. والحبن: داءٌ يعظُم له البطن، وقيل: المبطون: الذي غَلبَ عليه الإسهالُ حتى قتله، فهو شهيد. وقوله في المرأة: «تموت بجُمْعٍ» ، قال أهل اللُّغة: هو إذا ماتت وفي بطنها ولد، يقال: هي بجُمْع؛ إذا كانت مُثقلةَ الحَمْل، وقال بعض أهل العلم: وإذا ماتت من النَّفاس فهي كذلك شهيد، سواء بقي في بطنها، أو وضعته ثم ماتت عقب ذلك. وفيه لأهل اللغة معنى آخر: وهو أنه كذلك -أيضاً- يقال للبِكْر التي لم تُفْتَضَّ: هي بجُمعٍ، وقاله بعض أهل العلم في معنى الحديث، والمعنى الأول أقرب؛ توجهاً إلى رتبة الشهادة، وزيادة الأجر على ما فهم من الشرع، والله أعلم. وأما الحَرقُ بالنار، والغرق في الماء، والذي يموت تحت الهدم، فكل ذلك ظاهر، وأرى -والله أعلم- أنَّ هؤلاء لشدة أسباب موتهم؛ كتبهم الله في الشهداء برحمته.   = وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم ثقات؛ جعفر بن كيسان، ذكره ابن حجر في «تعجيل المنفعة» (ص 70) ، ووثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في «الثقات» . ورواه أحمد (6/82 و255) ، وأبو يعلى في «المسند» (رقم 4408) ، وابن خزيمة -كما ذكر ذلك ابن حجر في «بذل الماعون في فضل الطاعون» (ص 278) -، والطبراني في «الأوسط» -كما في «مجمع البحرين» (1203) -، وذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (6/212) . وللحديث طرق عن عائشة، وعن ابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله. انظر: «كشف الأستار» (3/396) ، و «مجمع البحرين» (2/362 ومابعدها) ، و «مجمع الزوائد» (2/314-315) ، و «بذل الماعون في فضل الطاعون» للحافظ ابن حجر (ص 277-280) ، و «ما رواه الواعون في أخبار الطاعون» (ص 144، 146) ، و «إرواء الغليل» (6/70-73) . وللحديث أصل صحيح من حديث عائشة، فقد أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء في باب منه (رقم 3474) ، وفي كتاب الطب (باب أجر الصابر في الطاعون) (رقم 5734) . وفي كتاب الأيمان والنذور (باب {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ) (رقم 6619) . (1) سبق قريباً نحوه من حديث جابر بن عتيك -رضي الله عنه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 * مسألة في غَسل الشهداءِ، والصلاة عليهم: اختلف أهل العلم في غسل من قُتِل شهيداً في جهاد الكفار، والصلاة عليهم: فأما الغسلُ: فذهب جمهور أهل العلم إلى أنهم لا يُغسَّلون إذا ماتوا في المعركة، وممَّن قال بذلك: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، وغيرهم (1) ، وخالفهم سعيد بن المسيّب، والحسنُ   (1) في مسألة غسل الشهيد، والصلاة عليه -كما سيأتي-، انظر في مذهب المالكية: «المدونة» (1/258) ، «الذخيرة» (2/474) ، «التلقين» (1/146) ، «شرحه» (3/1185) ، «مختصر خليل» (55) ، «الشرح الصغير» (1/247) ، «أسهل المدارك» (1/356) ، «المعونة» (1/351) ، «الرسالة» (151) ، «التفريع» (1/368) ، «بداية المجتهد» (1/191) ، «الكافي» (1/279) ، «الإشراف» (2/69- بتحقيقي) ، «قوانين الأحكام الشرعية» (110) ، «مواهب الجليل» (2/247) ، «حاشية الدسوقي» (1/ 425-426) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/263) ، «جامع الأمهات» (ص 141) ، «تفسير القرطبي» (4/ 270-271، 299) . وفي مذهب الشافعية، انظر: «الأم» (1/267) ، «روضة الطالبين» (2/418) ، «مغني المحتاج» (1/350، 361) ، «المهذب» (1/135) ، «الوجيز» (1/70) ، «التنبيه» (ص 36) ، «المجموع» 5/ 218، 219) ، «الحاوي الكبير» (3/201) . وفي مذهب الحنفية، انظر: «الأصل» (1/410) ، «رؤوس المسائل» (193) ، «القدوري» (19) ، «مختصر اختلاف العلماء» (1/396-398) ، «المبسوط» (2/49) ، «تحفة الفقهاء» (1/405) ، «الهداية» (1/94) ، «مختصر الطحاوي» (41) ، «اللباب» (1/360-362) ، «النتف في الفتاوى» (1/ 120) ، «رمز الحقائق» (1/67) ، «إعلاء السنن» (8/306) . وفي مذهب الحنابلة، انظر: «المغني» (3/467- ط. هجر) ، «المقنع» (6/95) . وانظر: «مختصر الخلافيات» (2/400/رقم 192) ، «معرفة السنن والآثار» (5/250) ، «الفقه على المذاهب الأربعة» (1/526-527) ، «الفقه الإسلامي وأدلته» (2/552-562) . وقد ذكر مذاهب العلماء في مسألة غسل الشهيد: ابن المنذر في «الأوسط» (5/346 المسألة رقم 860) ، قال: «وقد اختلفوا في غسل الشهيد، فقال عامة أهل العلم: لا يغسَّل، كذلك قال مالك بن أنس، ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الحكم، وحماد، وأصحاب الرأي، ومن وافقهم من أهل الكوفة، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 البصريُّ (1) ، وغيرهما (2) ، فقالوا: يغسل الشهداء وغيرهم.   = وبه قال الشافعي، وأصحابه، وكذلك قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وكذلك قال عطاء، وسليمان ابن موسى، ويحيى الأنصاري، وإبراهيم النخعي» . قلت: مذهب عطاء: رواه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (3/542 رقم 6638) . ومذهب إبراهيم النخعي: أخرجه عنه ابن أبي شيبة (3/140) ، وعبد الرزاق (3/545 رقم 6647) في «مصنَّفيهما» . (1) مذهب سعيد والحسن، أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (3/139- ط. دار الفكر) ، وعبد الرزاق (3/545 رقم 6650) في «مصنفيهما» من طريق قتادة، عن الحسن، وسعيد بن المسيّب، أنهما قالا: يغسَّل الشهيد، فإن كلّ ميتٍ يجنب. وحكاه عنهما ابن المنذر في «الأوسط» (5/347) ، وابن قدامة في «المغني» (3/467- ط. هجر) ، والنووي في «المجموع» (5/264) ، والكاساني في «بدائع الصنائع» (1/324) ، وابن حجر في «الفتح» (3/212) . وانظر: «موسوعة فقه الحسن البصري» (2/570) ، و «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (2/1213) . وفي «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (1/179-180) : قال: «وروي عن الحسن وسعيد: إنما لم يغسل شهداء أُحد لكثرتهم، والشغل عن ذلك» . ثم قال: «وليس على هذا القول أحد من فقهاء الأمصار غير عبيد الله بن الحسن» . وقال القرطبي في «التفسير» (4/270-271) : «وليس ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أُحد علّة؛ لأن كل واحدٍ منهم كان له وليٌّ يشتغل به، ويقوم بأمره. قال: والعلة في ذلك -والله أعلم- ما جاء في الحديث من دمائهم «أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك» ، فبان أن العلة ليست الشغل، كما قال من قال في ذلك، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا» ا. هـ. (2) وهو مذهب ابن عمر. أخرج ابن أبي شيبة (3/140) من طريق نافعٍ عن ابن عمر قال: كُفِّن عمر وحُنِّط وغُسِّل، وقال: وكان من أفضل الشهداء. وقال ابن المنذر في «الأوسط» (5/346) : «وسئل ابن عمر عن غسل الشهيد فقال: قد غُسِّل عُمر ... » . ونقله عنه النووي في «المجموع» (5/264) ، والماوردي في «الحاوي الكبير» (6/201) . قلت: وهذا محمول على غير شهيد المعركة، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بأنه يموت شهيداً. فقد = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ودليل ما ذهب إليه الجمهور: ما خرَّجه أبو داود (1) ، عن ابن عباسٍ قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أُحدٍ؛ أَنْ يُنزع عنهم الحديد، والجُلود، وأن يُدفنوا بدمائهم، وثيابهم. وفيه -أيضاً- (2) عن جابر قال: رُمي رجلٌ بسهم في صدره -أو: في حَلْقِهِ-   = أخرج البخاري في «صحيحه» (رقم 3675، 3686، 3699) من حديث أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَعِد أُحداً، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجَفَ بهم، فقال: «أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان» ، والله أعلم. (1) في «سننه» في كتاب الجنائز (باب في الشهيد يُغسَّل) (رقم 3134) . وأخرجه أحمد (1/247) ، وابن ماجه (1515) ، والبيهقي (4/14) ، عن طريق علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. فذكره. وهذا إسناد ضعيف. وقال المنذري: « ... في إسناده علي بن عاصم الواسطي، وقد تكلم فيه جماعة، وعطاء بن السائب، وفيه مقالٌ» . وقال الحافظ في «التقريب» (5340) في علي بن عاصم الواسطي: صدوق يخطئ، ويصرّ، ورمي بالتشيع. قلت: فهو ضعيف، ويعتبر حديثه عند المتابعة. ولم يتابع. وعطاء بن السائب: صدوق اختلط. وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» ، و «ضعيف سنن ابن ماجه» ، و «الإرواء» (3/165/710) ، جميعها لشيخنا الألباني -رحمه الله-. لكن للحديث شاهد من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ادفنوهم في دمائهم» . يعني: يوم أحد. ولم يُغسِّلهم. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (باب من لم يَرَ غسل الشهيد) (رقم 1346) ، وأخرجه كذلك (الأرقام 1343 و1347 و1353 و4079) . وشاهد آخر من حديث أنس عند أبي داود (3135، 3136) بإسنادٍ حسن: أن شهداء أُحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصلِّ عليهم. وصححه الحاكم (1/365-366) على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وسيأتي تخريجه بأطول من هذا، والكلام عليه. وأما فقه المسألة، فالمقرر عند العلماء أن الشهيد يدفن بدمه وثيابه، إلا أنه ينزع منه ما لا يصدق عليه بأنه من الثياب، كالسّاعة في معصمه، والسلاح الذي عليه، فإنه يُنزع منه، انظر تعليقي على «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (2/71) . (2) في كتاب الجنائز (باب في الشهيد يُغسَّل) (رقم 3133) . وأخرجه أحمد (3/367) ، والبيهقي (4/14) من طرقٍ عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر. وأبو الزبير مدلس، وقد عنعنه. ولكن الحديث حسن بشواهده. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فمات، فأدرج في ثيابه كما هو، قال: ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي البخاري (1) ، في قتلى أحد: ولم يغسلوا؛ نذكره فيما بعد. ومستند من رأى الغَسْل: أن ذلك هو الأصل في موتى المسلمين، وحَمَلوا ما وقع في شهداء أحدٍ على الخصوصية بهم، واستدلوا على صحَّة هذا التأويل بما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لشهداء أحد: «هؤلاء أشهد عليهم» ، ذكره مالك في «موطئه» (2) مقطوعاً، وأسنده البخاري (3) وغيره (4) ، فوصله بمعناه، قالوا: هذا يدل على أنهم ليسوا كغيرهم. وأما الصلاة على الشهداء: فاختلفوا -أيضاً- في ذلك بنحو هذا المعنى؛ ولاختلاف الروايات -أيضاً- فيه؛ فذهب مالك، والشافعي، والليث، وأحمد (5) إلى أنه لا يصلَّى عليهم، ودليلهم: ما خرَّج البخاري (6) ، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمعُ بين   (1) رقم (1346) وقد مضى. (2) «الموطأ» (رقم 467- ط. إحياء التراث) . (3) في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب من قتل من المسليمن يوم أحد) (رقم 4079) . وفيه: وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة» . وفي كتاب الجنائز (باب الصلاة على الشهيد) (رقم 1343) . و (باب من يقدم في اللَّحد) (رقم 1347) . و (باب اللَّحد والشقُّ في القبر) (رقم 1353) من حديث جابر -رضي الله عنه-. (4) كالترمذي (رقم 1036) ، والنسِّائي في «المجتبى» (4/62) ، وابن ماجه (رقم 1514) ، وأبي داود (رقم 3138 و3139) ، وعبد بن حميد (رقم 1119) ، وغيرهم. (5) وعنه رواية أخرى أنه يصلَّى عليه، واختارها الخلال من أصحابه، وهو قول سفيان الثوري، وأبي حنيفة -كما سيأتي-. قال ابن قدامة في «المغني» (3/467) : «إلا أن كلام أحمد في هذه الرواية يشير إلى أن الصلاة عليه مستحبة، غير واجبة» . قال في موضع: «إن صُلِّي عليه، فلا بأس به» . وفي موضع آخر، قال: «يُصلَّى عليه» . وانظر: «كشاف القناع» (2/113-115) ، و «المقنع» (6/95-مع «الشرح الكبير» ، و «الإنصاف» ) . (6) مضى قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الرجلين من قتلى أحدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقول: «أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما، قَدَّمه في اللَّحد، وقال: «أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة» ، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسَّلُوا، ولم يُصلِّ عليهم. وخرَّج أبو داود (1) ، عن أنس، أن شهداء أحد لم يُغسَّلوا، ودُفنوا بدمائهم، ولم يُصلَّ عليهم. وذهبَ أبو حنيفة وأصحابه (2) ؛ إلى أنه يُصلَّى على الشهيد، ولا تتركُ الصلاة على مسلم، كان شهيداً أو غير شهيد، وهو قول ابن أبي ليلى، والثوري، والحسن ابن صالح، والأوزاعي، وغيرهم، واستدلوا على ذلك بما وجب في الأصل من الصلاة على من مات من المسلمين، وعارضوا الروايات الواردة في شهداءِ أحدٍ؛ أنهم لم يُصلَّ عليهم برواياتٍ أُخر فيها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على شهداء أحد (3) ، وفي بعضها أنه صلَّى على حمزة سبعين صلاة (4) .   (1) في «سننه» في كتاب الجنائز (باب في الشهيد يغسل) (رقم 3135) . وهو حديث حسن. (2) «الأصل» (1/410) ، «رؤوس المسائل» (193) ، «القدوري» (19) ، «المبسوط» (2/ 49) ، «تحفة الفقهاء» (1/405) ، «الهداية» (1/94) ، «مختصر الطحاوي» (41) ، «اللُّباب» (2/49) ، «مختصر اختلاف العلماء» (1/396-398) ، «النتف في الفتاوى» (1/120) ، «رمز الحقائق» (1/ 67) ، «إعلاء السنن» (8/306) . (3) ودليل ذلك حديث عقبة بن عامر، قال: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحد بعد ثماني سنين، كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: «إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإنَّ موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها» . قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري في المغازي (باب غزوة أحد) (رقم 4042) ، ومسلم في كتاب الفضائل (باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته) (رقم 2296) . وأخرج البخاري نحوه (1344 و3596 و6426 و6590) . (4) رواه أبو داود في «المراسيل» (46) ، وابن أبي شيبة (3/116) ، والدارقطني (2/78) -ومن طريقه ابن الجوزي في «التحقيق» (4/236 رقم 1011) -، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (5/7435) ، وفي «السنن الكبرى» (4/12) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/290) ، من طرقٍ عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ، قال: كان يُجاء بقتلى أحدٍ، تسعة وحمزة عاشرهم، فيُصلِّي عليهم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 والآثار في ذلك مختلفة جدًّا، وقع من ذلك في كتاب «السنن» للدارقطني رواياتٌ اختلفت على أربع صفات: إحداها: أنه لم يصلِّ على شهداء أحد (1) . والثانية: أنه صلَّى على حمزة، ولم يُصلِّ على غيره (2) .   = النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدفنون التسعة، ويَدَعون حمزة، ويجاء بتسعة، وحمزة عاشرهم، فيُصلِّي عليهم، فيَرْفَعون التسعة، ويَدَعون حمزة. وحصين هو: ابن عبد الرحمن الكوفي، أحد الثقات المخرج لهم في «الصحيحين» ، وأبو مالك الغفاري: اسمه: غزوان، وهو تابعي ثقة، روى عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، ووثقه يحيى بن معين. ولكن الحديث مرسل. فهو ضعيف. كما أن الحديث قد أخرجه الدارقطني (ص 193- ط. الهندية) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/116) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/290) ، والبيهقي في «الكبرى» (4/12) . وقد رد ابن التركماني في «الجوهر النقي» تضعيف الحديث فقال: قد جاء في هذا الباب حديث صحيح، فروى جابر قال: فقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة، فذكر حديثاً طويلاً، وفيه: ثم جيء بحمزة، فصلَّى عليه، ثم يجاء بالشهيد، فيوضع إلى جانب حمزة فيُصلِّي عليه، ثم يرفع، ويترك حمزة، حتى صلّى على الشهداء كلهم. الحديث الذي أخرجه الحاكم بطوله؛ في كتاب الجهاد من «المستدرك» ، وقال: صحيح الإسناد، وذكر البيهقي في «الخلافيات» أن الشافعي قال منكراً لهذا الحديث: شهداء أحد اثنان وسبعون، فإذا صلى عليهم عشرة عشرة لا تكون الصلاة أكثر من سبع أو ثمان، فنجعله صلَّى على اثنين صلاة، وعلى حمزة صلاة، فهي تسع صلوات، فمن أين جاءت سبعون؟. ثمَّ تابع ابن التركماني في «الجوهر النقي» ، فقال: والذي في «مراسيل» أبي داود، عن أبي مالك: أَمَر -عليه السلام- بحمزة فوضع، وجيء بتسعة، فصلَّى عليهم، فرفعوا، وتُرِك حمزة، ثم جيء بتسعة، فوضعوا، فصلى عليهم سبع صلوات، حتى صلى على سبعين، وفيهم حمزة، في كل صلاة صلاها. فصرح بأنه صلَّى سبع صلوات على سبعين رجلاً، فزال بذلك ما استنكره الشافعي، وظهر أن ما رواه أبو داود؛ ليس بمعنى ما رواه البيهقي. ا. هـ. كلامه. وقال الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (ص 159) : «أنه صلى على سبعين نفساً، وحمزة معهم كلهم، فكأنه صلى عليه سبعين صلاة» . (1) مضى من حديث جابر. أخرجه البخاري وغيره. (2) أخرجه الدارقطني في «سننه» (4/116-117) ، أو: (ص 474-ط. الهندية) ، -ومن طريقه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 والثالثة: أنه صلَّى عليهم وعلى حمزة؛ يجاء بهم واحداً واحداً، فيصلِّي عليه وعلى حمزة، حتَّى أكمل على حمزة سبعين صلاة (1) ، وكان القتلى يوم أحدٍ سبعين. الرابعة: أنه كان يجاء بهم تسعة وحمزة عاشرهم، فإذا صلَّى عليهم دُفنَ التسْعة، وتُركَ حمزة، ويجاء بتسعةٍ أخرى، وحمزة عاشرهم كذلك -أيضاً- (2) .   = ابن الجوزي في «التحقيق» (4/239 رقم 1014) - من طريق عثمان بن عمر، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بحمزة، وقد مُثِّل به، ولم يُصلِّ على أحدٍ من الشهداء غيره. وأخرجه أبو داود في «سننه» (رقم 3137) عن عباس العنبري، عن عثمان، به. ولفظه: «ولم يصلِّ على غيره» . وقال الدارقطني: «لم يقل هذه اللفظة غير عثمان بن عمر، وليست بمحفوظة» . انظر: «تنقيح التحقيق» (2/1193-1194) ، «نصب الراية» (2/310) . على أن حديث أنس المعروف، قال فيه: إنَّ شهداء أحد لم يغسَّلوا، ودُفِنوا بدمائهم، ولم يصلّ عليهم. أخرجه أحمد (3/128) ، وعبد بن حميد (1164) ، وأبو يعلى (3568) في «مسانيدهم» ، وأبو داود (رقم 3135، 3136) ، والترمذي (1016) ، والدارقطني (4/116) ، والبيهقي (4/10-11) ، في «سننهم» ، والطحاوي في «المشكل» (4050، 4913) ، و «شرح معاني الآثار» (1/502) ، والحاكم في «المستدرك» (1/365-366 و3/196) -وقال: «على شرط مسلم» -، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 226) من طرقٍ عن أسامة بن زيد اللَّيثي، عن الزهري، عن أنس. قال البخاري: «حديث أسامة بن زيد هو غير محفوظ، غلط فيه أسامة» . نقله البيهقي في «السنن الكبرى» (4/10) . وانظر: «العلل الكبير» (252) للترمذي، «فتح الباري» (3/310) . (1) أخرجه الدارقطني في «سننه» (4/118) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الملك بن أبي عتبة -ولعله مُصحَّفٌ من: «غَنيَّة» ، بغين معجمة، ثم نون-، أو غيره، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس ... وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم حمزة فكبَّر عليه عشراً، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلَّى عليه سبعين صلاة ... الحديث. ثم قال الدارقطني: «لم يروه غير إسماعيل بن عياش، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين» . (2) مضى تخريجه قريباً من حديث أبي مالك الغفاري، وهو مرسل ضعيف. وأخرجه البيهقي في «الكبرى» (4/12) ، وفي «المعرفة» (5/7438) ، والحاكم في «المستدرك» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال ابن عبد البرّ: أكثر الروايات بالصلاة على قُتلى أحد مراسيل (1) . وخرَّج مسلم (2) ، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خرج يوماً، فصلَّى على أهل أحدٍ صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر ... الحديث. قال في «كتاب الدارقطني» (3) عن عقبة بن عامر: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد بعد ثمان سنين. وفي الصلاة على الشهيد قولٌ ثالث؛ قال أبو محمد بن حزم (4) في الشهيد   = (3/198) ، وابن ماجه في «السنن» (رقم 1513) -ومن طريقه ابن الجوزي في «التحقيق» (4/ 238-239 رقم 1013) - من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: «أُتي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فجعل يصلِّي على عشرة عشرة، وحمزة كما هو، يُرفعون، وهُوَ كما هُوَ موضوع» . ويزيد بن أبي زياد. قال ابن المبارك: «ارْم به» ، وقال البخاري: «منكر الحديث ذاهب» . وقال النسائي: «متروك الحديث» . وانظر: «التاريخ الكبير» (8/334) ، و «الصغير» (1/293 و2/39، 41) للبخاري، و «ضعفاء النسائي» (رقم 651) ، و «الجرح والتعديل» (9/265) ، و «المجروحين» لابن حبان (3/99) ، وغيرها. ولكن له شاهد من حديث ابن الزبير، أخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (1/290) بإسناد حسن، رجاله ثقات. وانظر: «أحكام الجنائز» (ص 106-108) . وفي الباب من حديث سعيد بن ميسرة، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على جنازة، كبَّر عليها أربعاً، وإنه كبّر على حمزة سبعين تكبيرة. وسعيد بن ميسرة البكري، ذكره ابن حبان في «المجروحين» (1/312) ، وقال: يقال: إنه لم يَرَ أنساً، وكان يروي الموضوعات التي لا تشبه موضوعه، كأنه كان يروي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يسمع القصاص يذكرونه في القصص. وانظر: «الميزان» (2/160) ، «مختصر الخلافيات» (2/403-404) ، «فتح الباري» (3/210) . (1) انظر: «الاستذكار» (14 رقم 20295) . ومن المراسيل: ما رواه عبد الرزاق في «المصنف» (5/277 رقم 9599) عن الشعبي قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة يوم أحدٍ سبعين صلاة، كلما صلَّى على رجل؛ صلَّى عليه. (2) مضى قريباً. (3) أي: السنن (2/78) . (4) في «المحلى» (5/115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المقتول في المعركة بأيدي المشركين: «إنْ صُلِّي عليه؛ فحسنٌ، وإن لم يُصَلَّ عليه؛ فحسن» . وأرى مستند قوله هذا، ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بالشهداء من أُحد، أن يدفنوا من غير صلاةٍ عليهم (1) ، فدلَّ على أنه ليس بفرض، ثم صلَّى عليهم بعد مدّةٍ صَلاتَهُ على الميت، وكذلك صلاته على حمزة دون غيره، فدلَّ على أنه ليس بمحظور، فثبت أن الصلاة والتَّرْكَ كلُّ ذلك جائزٌ حَسَن، وهذا القول يترجح؛ لأن فيه استعمال ماثبتَ من هذه الأحاديث، من غير أن يَكِرَّ أحدُهُما على الآخر. وأيضاً؛ لمَّا كانت الصلاة على موتى المسلمين مشروعةً بيقين، ولم يكن في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ على قتلى أحدٍ ما يدل على أن الفعل محظور، كان كلُّ ذلك سائغاً، والله أعلم (2) . واتفق العلماء على أن الشهيد إذا لم يمت في المعترك، وحُمل حيًّا، وعاش حتى أكل وشرب، ثم مات، فإنه يغسَّل، ويصلَّى عليه، كسائر المسلمين، وكذلك فُعِل بعمر (3) وعلي (4) -رضي الله عنهما-.   (1) مَضَى من حديث جابر في «صحيح البخاري» وغيره. وانظر: «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (2/223 وما بعدها) . (2) قال ابن القيم في «تهذيب السنن» (4/295) : «والصواب في المسألة أنه مخيَّرٌ بين الصلاة عليهم وتركها؛ لمجيء الآثار بكل واحدٍ من الأمرين، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد، وهو الألْيَقُ بأصوله ومذهبه» ا. هـ. وقال شيخنا الألباني -رحمه الله- في «أحكام الجنائز» (ص 108) : «ولا شكَّ أن الصلاة عليهم أفضل من الترك إذا تيسَّرت؛ لأنها دعاءٌ وعبادة» . (3) أخرجه ابن أبي شيبة (3/254) ، وعبد الرزاق (3/544) في «مصنَّفيهما» ، ومالك في «الموطأ» (2/463) ، وعنه الشافعي في «المسند» (564) ، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (4/ 16) ، وإسناده صحيح. وانظر: «المجالسة» (رقم 196) ؛ وتعليقي عليه. (4) أخرجه عبد الرزاق (3/544) ، والبيهقي (4/17) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 واختلفوا فيمن قُتِلَ مظلوماً، كقتيل الفئة الباغية، وقطَّاع السُّبل، وما أشبه ذلك (1) ؛ فقال مالك (2) ، والشافعي (3) : هم كسائر الموتى من المسلمين، يُغسَّلون، ويُصلَّى عليهم، وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري: من قُتِل مظلوماً لا يُغسَّل، ولكن يُصلَّى عليه، وعلى كل شهيد (4) ، وهذا كما تقدم من مذهبهم في الشهيد في   = ... وأخرج عبد الرزاق (3/471) ، وأحمد (1/74) ، وابن سعد (3/78، 79) ، وابن شبة في «تاريخ المدينة» (4/1239-1241) ، خبراً مفاده: أن جُبير بن مطعم صلَّى على عثمان. وانظر: «المجالسة» (رقم 240م) ؛ وتعليقي عليه. وأخرج عبد الله في «زوائد المسند» (1/73) ، و «زوائد الفضائل» (1/497) خبراً -بسند ضعيف-، فيه أن عثمان لم يُغسَّل. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/191) بعد كلام: «وزعم بعضهم أنه (أي: عثمان) لم يغسَّل ولم يكفّن، والصحيح الأول» . يقصد: أنه غُسِّل وكُفِّن. وقال الشافعي في «الأم» (1/268) : «الغسل والصلاة سنة في بني آدم، لا يخرج منها إلا من تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين قتلهم المشركون خاصَّة في المعركة» . وانظر لسائر المذاهب والآثار في المسألة: «مصنف عبد الرزاق» (3/545) ، و «مصنف ابن أبي شيبة» (3/253) ، و «الأوسط» (5/348) لابن المنذر، و «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي (2/75 مسألة رقم 398- بتحقيقي) . (1) كمن قُتل دون ماله؛ أو عرضه. (2) انظر: «المدونة» (1/259) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/264) ، «التفريع» (1/368- 369) ، «التلقين» (1/146) ، «شرح التلقين» (3/1189-1191) ، «المعونة» (1/352) ، «الذخيرة» (2/476) ، «الإشراف» (2/75 مسألة رقم 399، 400- بتحقيقي) ، «تفسير القرطبي» (4/271) . (3) وهو أشهر القولين عنه. ووقع في كتب المتأخرين من الشافعية: «بلا خلافٍ عندنا» . وانظر: «الأم» (1/306) ، و «مختصر المزني» (ص 37) ، و «مغني المحتاج» (1/350) ، و «حلية العلماء» (2/360) ، و «نكت المسائل» (223) ، و «الحاوي الكبير» (3/207) ، و «المجموع» (5/220) . (4) انظر: «الأصل» (1/405) ، «الاختيار» (1/97) ، «مختصر الطحاوي» (41) ، «تحفة الفقهاء» (1/258) ، «عيون المسائل» (2/36) ، «النتف في الفتاوى» (1/120) ، «اللباب» (1/135) ، «إعلاء السنن» (8/315) ، «مختصر اختلاف العلماء» (1/180) ، «حاشية ابن عابدين» (3/312) . وعن أحمد روايتان. انظر: «المغني» (3/475-476 -ط. هجر) . ونقل مذهب سفيان: ابن المنذر في «الأوسط» (5/348) وقال: «وكذلك قال الأوزاعي ... » . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 معركة الكفار، أنه لا يغسل، ولكن يصلَّى عليه. والدليل على ما ذهبَ إليه مالك، والشافعيُّ، أن السنة المُجتَمَع عليها في موتى المسلمين، أنهم يغسلون ويصلَّى عليهم، إلا ما خرج من ذلك بدليل، والذي خرج من ذلك بالآثار الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمْرُ قتيل الكفار في المعترك، فبقي ما عداه على الأصل، وهذا ظاهر، وليس لأبي حنيفة ومن قال بقوله مستندٌ في إلحاق قتيل أهل البغي، والظلم، بالشهداء؛ إلا القياس عليهم، وآثار وردت عن بعض من قتل في حرب الخوارج، ونحوه، أوصى بعضهم أن يدفن بدمائه في ثيابه التي قتل فيها، ولا يغسَّل (1) .   = وقال -بعد ذكر مذهب مالك، والشافعي-: «وهذا الذي قاله مالك والشافعي؛ حسن، وروِّينا عن أسماء بنت أبي بكر أنها غَسَّلت عبد الله بن الزبير بعدما تقطعت أوصاله» . (1) أخرج البيهقي في «الكبرى» (4/17) عن قيس بن أبي حازم، يقول: قال عمار: «ادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم» . وهذا لما قاتل أهل صفين، وقُتل. وأخرج من طريق الشعبي، أن علياً صلى على عمار بن ياسر، وهاشم بن عتبة، فجعل عماراً مما يليه، وهاشماً أمامه، فلما أدخله القبر جعل عماراً أمامه، وهاشماً مما يليه. قال ابن التركماني: «وقال الحاكم: الشعبي لم يسمع من علي، ثم لو ثبتَ أنَّ علياً صلَّى عليهما، فالشهيد يصلى عليه عند أهل الكوفة وأهل الشام. وقال: ولهذا قال صاحب «الاستيعاب» (3/231) : دفنَ عليٌّ عماراً في ثيابه، ولم يغسِّله، ويروي أهل الكوفة أنه صلَّى عليه، وهو مذهبهم: في أن الشهداء لا يُغسلون، ولكنهم يصلَّى عليهم» ا. هـ. كلام ابن التركماني. وأيضاً فمن قُتِل من الفئة الباغية؛ فإنه يغسَّل ويصلَّى عليه، وهذا مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة، كما سبق قريباً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-في «منهاج السنة النبوية» (2/232) : «وقد تواتر عن عليٍّ يوم الجمل لمَّا قاتلهم أنه لم يتبع مدبرهم، ... » إلى أن قال: «ونقل عنه أنه صلَّى على قتلى الطائفتين» . وفي هذا ردٌّ على الحنفية القائلين بعدم الغسل، ولا الصلاة عليهم. قال الزمخشري في «رؤوس المسائل» (مسألة 97) ، دليلنا: أن علياًّ صلى على أصحابه، ولم يصلِّ على الطائفة التي بغت عليه، فقيل: أكفارٌ هم؟ قال: «لا؛ ولكنهم إخواننا بغوا علينا، قتلناهم لبغيهم» . وهذا الأثر قال فيه الزيلعي في «نصب الراية» (2/319) : «إنه غريب» ، وقال ابن حجر في «الدراية» (2/245) : «لم أجده» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مسائل من أحكام النفقة في سبيل الله * مسألة: من أخرج شيئاً في سبيل الله، فإمَّا أن يُعيِّن فيقول: يوضع في كذا، يذكر وجهاً من وجوه البرِّ: صدقةً أو عتقاً أو جهاداً أو حَجَّاً، وما أشبه ذلك. وإمّا أن يُطلق؛ فيقول: هذا في سبيل الله، ولا يزيد على ذلك، فإن كان عَيَّن، فهو على ما سمَّى، لا يحتمل ذلك خلافاً، ولا يسوغ فيه، وإن أطلق ولم تكن له نيَّة، أو كانت فلم تُعْلم؛ لأنه مات، أو غاب، وما أشبه ذلك، فقيل: إنَّ إطلاق هذا القولِ وعُرْفَه يقتضي الجهاد، فهو يُحملُ عليه، فيكون مَصْرَفُه إلى الغُزاةِ وأهلِ القتال، وفي وجوه الحرب، لا يتعدَّى به ذلك؛ روُي هذا عن مالكٍ (1) ، والشافعيّ (2) ، وغيرهما (3) . وقد يحتمل أن يقال: إنه سائغٌ أن يوضع في الأهمّ فالأهمّ من وجوه البرّ، جهاداً كان أو غيره؛ لأن ذلك كله في سبيل الله، ويدلُّ على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أنفق زوجين في سبيل الله ... » ثم ذكر الصلاة، والجهاد، والصدقة، والصيام، وقد تقدم هذا الحديث (4) . قال جماعة من أهل العلم في ذلك: إنه يتناول من جاهد مرتين، أو: صام يومين، أو: صلَّى نفلين، وما أشبه ذلك، فإطلاق اللفظ «في سبيل الله» لا يختص بواحدٍ من سُبل الخير، والله أعلم (5) .   (1) انظر: «أحكام القرآن» (2/957) لابن العربي، «بداية المجتهد» (1/284) ، «الشرح الصغير» (1/663) للدردير، «البيان والتحصيل» (2/589، 598) . (2) انظر: «الأم» (2/62) ، «نهاية المحتاج» (6/158) ، «حاشية القليوبي» (3/198) ، «روض الطالب» (2/398) . (3) وهو مذهب الحنابلة. انظر: «المغني» (8/209) ، و «كشاف القناع» (2/283) ، «المبدع» (2/422) . (4) مضى قريباً. (5) قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/58- ط. الريان) : «وقوله: «زوجين» ، أي: شيئين من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ومثل ذلك رُوي عن ابن عمر، وقاله مجاهد (1) .   = أي نوعٍ كان مما يُنفَق، والزوج يُطلق على الواحد، وعلى الاثنين، وهو هنا على الواحد جَزْماً» . وقال (7/34) : «قوله: «في سبيل الله» ، أي: في طلب ثواب الله، وهو أعمُّ من الجهاد وغيره من العبادات» . وقال بعض الحنفية: «سبيل الله» : طلبة العلم، وقال الرازي في «تفسيره» (16/113) : «ظاهر اللفظ في قوله -تعالى-: {فِي سَبيلِ اللَّهِ} لا يوجب القصر على الغزاة، فلهذا نقل القفال في «تفسيره» عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المسجد، لأن سبيل الله عامٌّ في الكل» ، وانظر: «أحكام القرآن» (3/164) للجصَّاص، «بدائع الصنائع» (2/46) ، «فتح القدير» (2/205) ، «حاشية ابن عابدين» (2/60) ، «محاسن التأويل» (7/3181) للقاسمي، «الإسلام عقيدة وشريعة» (124) لشلتوت، «تفسير المنار» (10/504، 506) ، «إنفاق الزكاة في المصالح العامة» (101-107) لمحمد أبو فارس، «الموسوعة الفقهية الكويتية» (24/166) ، «مقالات الكوثري» (ص 188-189) . ويؤثر عن أحمد وإسحاق أنهما قالا: «سبيل الله» : الحج. انظر: «مسائل عبد الله» (134) ، «الإنصاف» (3/235) ، «الإرواء» (3/377) ، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/274) ، «الهداية» للكلوذاني (1/80) ، «المحلى» لابن حزم (3/151) . (1) أما مذهب ابن عمر، فقد أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (رقم 1784) بسندٍ صحيح عنه قال: «أما إنّ الحج من سبيل الله» ، وانظر: «الإرواء» (3/377) . وأما مذهب مجاهد، فقد علّق البخاري عنه وعن طاوس: «إذا دُفع إليك شيء تخرج به في سبيل الله؛ فاصنع به ما شئت، وضعه عند أهلك» . وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (6/522) ثنا وكيع: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد في الرجل يُعطَى الشيء في سبيل الله، فيفضل منه الشيء، قال: هو له. وإسناده لين. وانظر: «تغليق التعليق» (3/452) ، «فتح الباري» (6/124) . وأخرج ابن أبي شيبة (6/522) بسندٍ صحيح عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير: «كان ابن عمر -رضي الله عنه- إذا حمل على فرس أو بعير في سبيل الله؛ قال: إذا جاوزت وادي القرى -يعرف اليوم بـ (وادي العلا) شمال المدينة على قرابة (350) كم، كذا في «معجم المعالم الجغرافية» (250) - أو مثلها في طريق مصر، فاصنع بها ما بدا لك» . وأخرج مالك في «الموطأ» (286 رقم 520- ط. إحياء التراث) عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا أعطى شيئاً في سبيل الله يقول لصاحبه: «إذا بلغتَ وادي القرى فشأنك به» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 * مسألة: من حَمَلَ على فرسٍ في الغزو، فقال: خُذ هذا في سبيل الله، فإما أن يقول: هوَ لكَ، أو: شأنك به، وما أشبه ذلك، ممَّا ظاهره التمليك، أو يقول: هو حَبْسٌ، أو: وَقْفٌ في سبيل الله، أو: لا يزيد على ذكر السّبيل شيئاً. فأمَّا الأول حيث يُمَلِّكه إياه في سبيل الله، فله بَيْعُه عند مالكٍ، وأكثر أهل العلم (1) ، والانتفاعُ بثمنه إن شاء، يعني: بعد أن يغزو به، أو يستعمله في نوع من الجهاد ولو مَرَّةً، والله أعلم. أو: يكون بيعه لاستغناءٍ به عن ركوبه، فهو يتجهز بثمنه في أسباب الغزو، وقد قيل: ليس له بيعه، وهو في سبيل الله (2) . وأما الوجه الثاني حيث يقول: هو حبسٌ في سبيل الله، فهو وقفٌ على ذلك، لا يحل بيعه، ولا تَمَلُّكُهُ، ولا تصريفه في غير ما حُبِسَ عليه، مادام فيه منفعةٌ في ذلك، لا خلاف يعلم في هذا الوجه (3) .   = وأخرجه عبد الرزاق (5/227) وسعيد بن منصور، والفزاري في «السير» (130 رقم 76، 77) عن نافعٍ، به. وهو مذهب سعيد بن المسيب فيما أخرجه عنه مالك (رقم 521) ، وابن أبي شيبة (6/522) ، والفزاري في «السير» (130 رقم 79) . وكذلك هو مذهب الليث بن سعد. انظر: «الاستذكار» (14/92) . وتنظر المسألة وتفصيلها في «أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة» (2/823-847) تحت عنوان (معنى كلمة (سبيل الله) في مصطلح القرآن) ، و «القول العطر في مصارف الزكاة وصدقة الفطر» (ص 25 وما بعد) . (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/408) ، «البيان والتحصيل» (3/68-69) ، «الاستذكار» (9/ 325، 326 و 14/92) ، «مواهب الجليل» (6/27) ، «منح الجليل» (4/57) ، «الخرشي» (7/88) ، «حاشية الدسوقي» (4/84) ، «البحر الرائق» (5/205) ، «روضة الطالبين» (5/322) . (2) وذهب إليه عبيد الله بن الحسن؛ كما في «الاستذكار» (9/326 و14/93) . (3) انظر: «البحر الرائق» (5/205-206) ، «الخرشي» (7/88-89) ، «حاشية الدسوقي» (4/ 84) ، «روضة الطالبين» (5/322) ، «نهاية المحتاج» (4/269) ، «المغني» (6/190- مع «الشرح الكبير» ) ، «أحكام الوقف» للكبيسي (1/148- وما بعد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وأما الوجه الثالث حيثُ يُطْلِقُ، فلا يزيد على ذكر السَّبيل؛ فعن مالكٍ: أنه لا ينتفع بشيءٍ من ثمنه في غير سبيل الله، وإذا ركبه في ذلك ردَّه بَعدُ (1) ، وقال الأوزاعيُّ: إن لم يقل المُعْطي: هو حبسٌ، أو: موقوف، كان للمعطَى كسائر ماله (2) . وقال الليث مثله: يصنع به ما شاء، بعد أن يبلغ به مغزاه (3) ، وكذلك ذهب الشافعي (4) ، وأبو حنيفة (5) إلى أنه مِلْكٌ للمحمول عليه. وفي كتاب البخاري (6) : وقال طاوس، ومجاهد: إذا دُفِعَ إليكَ شيءٌ تخرج به في سبيل الله، فاصنع به ما شئت؛ وَضَعْه عند أهلك. فدليل من منع أن يتملَّكَهُ، ورأى أن لا يُصرف إلا في سبيل الله، أنه الوجه الذي فيه سَوَّغه مالكه، فوجب أن لا يُتمَلَّك في غيره، ودليل من رآه ملكاً بذلك للمحمول عليه حديث عمر بن الخطاب قال: حَمَلْتُ على فرسٍ عتيقٍ في سبيل الله، وكان الرجلُ الذي هو عنده قد أضاعَهُ، فأردت أن أشتريه منه، وظننْتُ أنه بائعهُ برخصٍ، فسألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تشتره، وإن أعطاكه   (1) «الاستذكار» (14/92) ، «النوادر والزيادات» (3/410) . (2) انظر: «الاستذكار» (14/92-93) . (3) وتتمة كلامه: «إلا أن يكون حبساً فلا يباع» . وقال ابن عمر لرجل -في فرس حبَّسه في سبيل الله-: «إذا بلغت به واد القرى؛ فشأنك به» . وقال سعيد بن المسيب: «إذا بلغَ به رأس مغزاته؛ فهو له» -وقد مضى ذكر مذهبهما-. انظر: «الموطأ» (449) ، «النوادر والزيادات» (3/411-412، 418) ، «البيان والتحصيل» (2/518، 541) ، «الاستذكار» (9/325 و14/93) . (4) انظر: «الأم» (2/64- باب ابتياع الصدقة) ، «الاستذكار» (9/326 و14/93) ، «المهذب» (1/442) ، «مغني المحتاج» (2/382) ، «روضة الطالبين» (5/322) . وهو مذهب الحنابلة. انظر: «الشرح الكبير» (10/456) . (5) انظر: كتاب «الوقف» لهلال الرأي (ص 151-152) ، «البحر الرائق» (5/205-206) ، «الإسعاف» (ص 9) . (6) في كتاب الجهاد والسير (باب الجعائل والحملان في السبيل) معلقاً، وسبق تخريجه قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بدرهم واحد؛ فإنَّ العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» (1) . خرَّجه مالك في «الموطأ» (2) . فموضع الدليل منه إقراره - صلى الله عليه وسلم - حين لم يُنكر عليه بيعه، وإنما أنكر شراء المتصدق لصدقته. * مسألة الجعائل في الغزو: خرَّج أبو داود (3) ، عن أبي أيوب الأنصاري، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سَتُفتحُ عليكم الأمصار، وستكون جنودٌ مجنَّدةٌ، يُقطع عليكم فيها بُعوثٌ، فيكره   (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة (باب هل يشتري صدقته) (رقم 1490) . وفي كتاب الهبة (باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته) (رقم 2623) . و (باب إذا حَمَلَ رجلٌ على فرسٍ، فهو كالعُمرى والصدقة) (رقم 2636) . وفي كتاب الجهاد والسير (باب الجعائل والحُملان في السبيل) (رقم 2970) . و (باب إذا حمل على فرسٍ فرآها تُباع) (رقم 3003) . وأخرجه مسلم في كتاب الهبات (باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به، ممن تصدَّق عليه) (رقم 1620) . (2) (ص 189) . (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (بابٌ في الجعائل في الغزو) (رقم 2525) من طريقين عن محمد بن حرب الخولاني، قال: حدثنا أبو سلمة، سليمان بن سليم، عن يحيى بن جابر، عن ابن أخي أبي أيوب، عن أبي أيوب الأنصاري، به. وأخرجه أحمد (5/413) ، والشاشي (1130) في «مسنديهما» ، والطبراني في «مسند الشاميين» (1380) ، والبيهقي (9/27) من طرق عن محمد بن حرب، به. وإسناده ضعيف. ففيه ابن أخي أبي أيوب: وهو أبو سَوْرة الأنصاري. قال البخاري: منكر الحديث. يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليها. وقال -أيضاً-: عنده مناكير، ولا يُعرف. وقال: لا يعرف له سماع من أبي أيوب، وانظر: «ميزان الاعتدال» (4/535 رقم 10282) . وقال الترمذي في «جامعه» في كتاب صفة الجنة (باب ما جاء في صفة خيل الجنة) بعد رقم (2553) : «يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين جداً» . وذكره الدارقطني في «الضعفاء» (رقم 612) وقال: «مجهول» . وقال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (رقم 9510) : «ضعيف» . وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الرجل منكم البَعْثَ فيها، فيتخلَّص من قومه، ثم يتصَفَّحُ القبائل يَعرض نفسه عليهم، يقول: من أكفيه بعثَ كذا؟ من أكفيه بعث كذا؟ ألا وذلك الأجيرُ إلى آخر قطرةٍ من دمه» . وخرَّج -أيضاً- (1) في باب: الرخصة في الجعل في الغزو، عن عبد الله بن عمرو، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي» . فأقول: الوجه الذي أُرْخِصَ فيه غير الوجه الذي كُرِه، فإذا كان الانبعاث لله؛ لم يكن بالمعاونةِ على ذلك والجُعْل فيه بأسٌ، بل كلاهما مأجور، كما في الحديث، وإذا كان انبعاثه إنما هو لما يعطاه، لا غَرَض له غير ذلك؛ فهو أجير يَسفِك دمه على غير وجه الشرع، كما جاء في الحديث الأول. وفي البخاري (2) : «وقال مجاهد: قلت لابن عمر: أُريد الغزو. قال: إنِّي أُحِبُّ أنْ أُعينكَ بِطائفةٍ من مالي، قلتُ: قد أَوْسَعَ (3) الله عليَّ، قال: إنَّ غناك لك، وإني أحبُّ أن يكون من مالي في هذا الوجه» . وهذا موضع اختلف فيه أهل العلم؛ فرُوي عن مالكٍ أنه قال: لا بأس بالجعائل، ولم يزل الناس يتجاعلون بالمدينة عندنا، وذلك لأهل العطاء، ومن له   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (في الباب المذكور) (رقم 2526) . وأخرجه أحمد في «المسند» (2/174) ، والطحاوي في «المشكل» (3264) ، والبغوي في «شرح السنة» (2671) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/28) ، وفي «شعب الإيمان» (4275) . والحديث صحيح. انظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا -رحمه الله-. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «للجاعل أجره، وأجر الغازي» . قال الخطابي في «معالم السنن» (2/244) : «في هذا ترغيب للجاعل، ورخصة للمجعول له» ، وانظر: «عون المعبود» (7/201-202) . (2) في كتاب الجهاد والسير (باب الجعائل والحملان في السبيل) تعليقاً. ووصله البخاري بمعناه في كتاب المغازي (باب غزوة الفتح) ؛ أفاده ابن حجر في «فتح الباري» (6/124) ، و «تغليق التعليق» (3/451) . (3) كذا في الأصل، و «صحيح البخاري» ، وفي مطبوع «تغليق التعليق» (3/451) : «فلا، قد وسَّع ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ديوان، وكره مالك أن يؤاجر دابَّته أو فرسه في سبيل الله -عز وجل-، وكره أن يعطيه الوالي الجُعل على أن يتقدم إلى الحِصن فيقاتل (1) . قال: ولا يكره لأهل العطاء الجعائل؛ لأن العطاء نفسه مأخوذٌ على هذا الوجه. وقال الشافعي (2) : لا يجوز أن يغزو بجُعلٍ من رجلٍ يجعله له، وإن غزا به فعليه أن يردَّه، ولا بأس أن يأخذ الجعائل من السلطان دون غيره؛ لأنه يغزو بشيءٍ من حقه. وقال أبو حنيفة (3) : تُكره الجعائل ما كان بالمسلمين قوّة، وكان في بيت المال ما يَفي بذلك، فأمَّا إذا لم تكن بهم قوةٌ ولا مال؛ فلا بأس أن يجهّز بعضهم بعضاً، يجعل القاعد للناهض. وكره الثوريُّ والليثُ الجُعلَ، وقال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على   (1) انظر: «المدونة» (1/527) ، «النوادر والزيادات» (3/408) ، «الاستذكار» (14/115) ، «الكافي» (1/465) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/468) ، «الذخيرة» (3/406) ، «مواهب الجليل» (4/552) ، «جامع الأمهات» (ص 244) ، «عيون المجالس» (2 رقم 467) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/182) ، «جواهر الإكليل» (1/256) . (2) في «الأم» في كتاب الجهاد (باب العذر الحادث) (4/173) . وانظر: «مختصر المزني» (ص 269) ، «الحاوي الكبير» (18/141) ، «المهذب» (2/227) ، «روضة الطالبين» (10/240) ، «معالم السنن» (3/37) ، «تحفة المحتاج» (6/155) ، «مغني المحتاج» (3/ 461) ، «أسنى المطالب» (2/210) ، «حاشية القليوبي» (4/218) ، «الاستذكار» (14/115-116) . وهذا مذهب الحنابلة. انظر: «المغني» (10/527) ، «الفروع» (6/231) ، «كشاف القناع» (2/ 412) ، «المبدع» (3/370) ، «الإنصاف» (4/180) . (3) انظر: «شرح السير الكبير» (1/98 و3/22) «الهداية» (2/427) ، «المبسوط» (16/40) ، «البناية» (5/647، 6/495) ، «شرح فتح القدير» (5/194، 443) ، «تبيين الحقائق» (3/242، 5/124) ، «إعلاء السنن» (12/14) ، «حاشية ابن عابدين» (5/127) ، وانظر: «الاستذكار» (14/ 116) ، «شرح السنة» (11/17) ، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (ص 157) ، «الاستئجار على فعل القربات الشرعية» (181-186) ، «أخذ الأجرة على أعمال الطاعات والمعاصي» (ص 109-113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الغزو فلا بأس أن يُعان، وقال الكوفيون: لا بأس لِمَنْ أحَسَّ من نفسه جُبناً أن يُجهِّز الغازي، ويَجْعَلَ له جُعْلاً لغزوته في سبيل الله (1) . قال ابن عبد البر (2) : «لمّا كان الغازي يستحقّ سهماً من الغنمية من أجل حضوره (3) القتال، استحال أن يجب له جعلٌ فيما فعله لنفسه، وأدَّى به ما عليه من فرض الجهاد» . وفيما قاله نظر؛ لأن غزو الغازي إن كان لإصابة الغنيمة فهو باطل، جُعِلَ له، أو لم يُجعلْ؛ لما يأتي بَعْدُ من الأدلة على ذلك، وإن كان على سُنَّة الغزو في سبيل الله، فالغنيمة إن كانت هنالك فبالعرضِ لا تَبطُل البَتَّة، ولا يستحيل بسببها التعاونُ على الغزو؛ لأن العمل لله لا للغنيمة. وأما قوله: «وأدَّى به ما عليه من فرض الجهاد» ؛ فالمجعول لهم، ضَرْبان: فقيرٌ -فهذا لا فرض جهاد عليه؛ لأنه غير مستطيع- وغنيٌّ؛ فهو إن كان لم يخرج إلا للجعل، عاد القول في فساده إلى المعنى الأول، من حيثُ إنه لم يُرِدْ وجه الله، لا من حيث الإعانة على ذلك، وإن كان خارجاً على كل حال، فليس ما أُعطي يكون جُعلاً على أداء فرضه. وبالجملة، فالأظهر، والذي عليه الجماعة من أهل العلم، أن ما أُعْطِيه الفقير عوناً على الغزو، وتقرباً به من غير مسألة،   (1) انظر: «الاستذكار» (14/116) ففيه مذاهب المذكورين. (2) في «الاستذكار» (14/116) . (3) في هامش النسخة كتب الناسخ: كلمة متآكلة، لعلها: حضوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وكان ذلك سبب انبعاثه لا لنفس العطاء، لكن لإمكان القدرة، إذ كان بالعدم عاجزاً؛ فهو جائز، لا أعلم فيه خلافاً، وكلاهما مأجور -إن شاء الله-، كما قد وقع في الحديث المتقدم: «للغازي أجره، وللجاعل أجره، وأجر الغازي» (1) ، وأما إن كان غنياً فأعطي كذلك من غير مسألة، فمن العلماء من كره له ذلك، وإليه ذهب مالكٌ (2) ، وهو الأوْلَى؛ لأنه قادرٌ على الغزو بماله، فلم يكن له اضطرارٌ في إقامة تلك العبادة إلى ما أعطي مثل ما كان للفقير، ومنهم من قال: لا بأس أن يَقْبل -وهم الأكثر- (3) ، قالوا: فإن احتاج إليه أنْفَقَه، وإن استغنَى عنه فرَّقه في سبيل الله، ولم يختلفوا أنَّ المسألة في ذلك للغنيِّ والفقير مكروهة (4) ؛ قالوا: من كان غنيًّا فَلْيَغْزُ بماله، ومن كان فقيراً فليجلس في بيته، وبالله تعالى التوفيق. *****   (1) مضَى تخريجه. (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/408) ، «البيان والتحصيل» (2/531) ، «الذخيرة» (3/ 406) ، «مواهب الجليل» (4/552) . (3) انظر: «شرح السير الكبير» (1/98) ، «فتح القدير» (5/194) ، «شرح السنة» (11/17) ، «الحاوي الكبير» (14/128) ، «كشاف القناع» (2/399) ، «إعلاء السنن» (12/14) . (4) «النوادر والزيادات» (3/409) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الباب الثالث في شرط صحة الجهاد وما يحق فيه من طاعة الإمام، ومياسرة الرفقاء، وما جاء في آداب الحرب، والأمر بالدعوة قبل القتال فصلٌ: في صحة الجهاد، وما لا يتم العمل إلا به قال الله -تعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّين. أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2-3] ، وقال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البيّنة: 5] . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيّة، وإنما لامرئٍ (1) ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . خرجه مسلم (2) ، وغيره. قال الترمذي (3) : قال عبد الرحمن بن مهدي: «ينبغي أن نضع هذا الحديث في كلِّ بابٍ» . وإنما يعني بذلك: أنه أصلٌ في صحة كلِّ عبادة، وما يتقرب به إلى الله -تعالى- من قولٍ وعمل، فَمِن شرط الجهاد وفرضه وصحة كونه عملاً لله، وجهاداً في سبيل الله، أن يُقصد به وجه الله -تعالى-، وإعلاء كلمته، يجاهد   (1) وضع الناسخ علامة إلحاق، ولم يثبت شيئاً في الهامش، وهي كذلك دون «كل» عند مسلم، وعند البخاري: «وإنما لكل امرئٍ ... » . (2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنية» ، وإنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال) (1907) (155) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 1 و54 و2529 و3898 و5070 و6689 و6953) . (3) في «جامعه» في أبواب فضائل الجهاد (باب ما جاء فيمن يقاتل رياءً وللدنيا) (تحت رقم 1647) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الرجل غضباً في الله، وانتصاراً لدينه -تعالى-: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] . خرَّج البخاري (1) عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِّكْر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» . النسائي (2) ، عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذِّكر، ما لَهُ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا شيء له» ، فأعادها ثلاث مرّات، يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا شيء له» ، ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل؛ إلا ما كان خالصاً له، وابتغي به وجهه» . مسلم (3) ، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أوَّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه: رجلٌ استُشهد، فأُتي به، فَعرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشْهِدْتُ، قال: كَذبْتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهه، فألقي في النار ... » الحديث. أبو داود (4) ، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الغزو غزوان،   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) (رقم 2810) ، ورواه بالأرقام (123 و3126 و7458) . وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) (رقم 1904) . (2) في «المجتبى» في كتاب الجهاد (باب من غزا يلتمس الأجر والذكر) (6/25رقم 3140) . وقال شيخنا الألباني -رحمه الله-: «حسن صحيح» . وانظر: «أحكام الجنائز» (63) ، و «الصحيحة» (52) ، و «صحيح الترغيب» (1/6/6) . (3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب من قاتل للرياء والسمعة) (1905) (152) . (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (بابٌ فيمن يغزو ويلتمس الدنيا) (رقم 2515) من طريق بقية ابن الوليد، حدثني بَحِير (بن سعد) ، عن خالد بن معدان، عن أبي بحرية، عن معاذ بن جبلٍ؛ مرفوعاً. وأخرجه النسائي في «المجتبى» (6/49 و7/155) ، وفي «الكبرى» (8730) ، والدارمي (2422) ، وأحمد (5/234) ، والحاكم (2/85) ، والطبراني في «الكبير» (20رقم 176) ، وفي «مسند = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فأمَّا من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفقَ الكريمة، وياسَرَ الشَّريك، واجْتَنبَ الفساد، فإنَّ نومه ونُبْهَهُ؛ أجرٌ كلُّه، وأما من غزا فخراً، ورياءً، وسمعةً، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف» . فصلٌ: في طاعة الإمام، والغزو مع كلِّ أمير، برًّا أو فاجرًا قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، قيل: هم أمراء السَّرايا، وقيل: أهل الفقه والدِّين (1) .   = الشاميين» (1159) ، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (133 و134) ، والشاشي في «مسنده» (1394) ، وابن عدي في «الكامل» (2/511) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/168) ، وفي «الشعب» (4265) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/220) ، وأبو العباس الأصم في «حديثه» (ج3 رقم 97) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (27/43 و44) ، من طرقٍ عن بقية بن الوليد، به. ورجاله ثقات. وبقية بن الوليد مدلس تدليس التسوية. ولكنه صرّح بالتحديث في بعض الروايات، كما في رواية أبي داود، والشاشي، وأبي العباس الأصم، وابن عساكر، وغيرهم. فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر: «الصحيحة» (1990) . (1) القول أنهم أهل الفقه والدين هو قول جَمْعٍ من الأئمة، وعلى رأسهم جابر بن عبد الله، وابن عباس، ثم من بعدهما مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية، ومالك، والضحَّاك، وغيرهم. والقول بأنهم أمراء السرايا؛ هو قول أبي هريرة، أخرجه عنه ابن جرير (8/497 رقم 9856) ، وسعيد بن منصور (652) ، وابن المنذر (1925، 1926) ، وابن أبي حاتم (3/988 رقم 5530) في «تفاسيرهم» ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/212-213، 214-215 رقم 12577، 12585) ، بسند صحيح، وأخرج عن ميمون بن مهران، وغيره؛ نحوه. وهو ظاهر الأحاديث التي ذكرها المصنف في الباب، وهو ظاهر اختيار البخاري، حيث بوَّب عليه في «صحيحه» في كتاب التفسير، قال: (باب {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ} ، ذوي الأمر) . وأسند البخاري برقم (4584) ، ومسلم (1834) ، وابن المنذر (1924) وغيرهم، إلى ابن عباس في الآية، قال: «رنزلت في عبد الله بن حذافة السهمي» ، ورجَّح الإمام الشافعي القول بأن المراد بهم الأمراء، واحتجَّ له بأن قريشاً كانوا لا يعرفون الإمارة، ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن وَلِي الأمر. وتبويب البخاري بأنهم أولي الأمر، هو تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى في «مجاز القرآن» (1/130) هذه الآية، وزاد: والدليل على ذلك أن واحدها (ذو) ، أي: (واحد أولي) ؛ لأنها لا واحد لها من لفظها. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وفي «الموطأ» (1) عن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في العسر؛ واليسر، والمَنْشَطِ؛ والمَكْرَهِ، وألاَّ ننازعَ الأمرَ أهلَه، وأن نقول -أو: نقوم- بالحَقِّ حيثُ ما كُنَّا، لا نخاف في الله لومةَ لائمٍ» . البخاري (2) ، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السمع والطاعة حقٌّ ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة» . وفيه (3) ، عن أبي هريرة قال: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن عصاني؛ فقد عصى الله، ومن يطع الأمير؛ فقد أطاعني، ومن يَعصِ الأمير؛ فقد عصاني، وإنما الإمام جُنَّة، يُقاتَل من ورائه، ويُتَّقى به، فإن أمرَ بتقوى الله وعَدل؛ فإنَّ له بذلك أجراً، وإن قال بغيره، فإنَّ عليه مِنْهُ» . مسلم (4) ، عن أم الحُصين [قالت] : حَجَجْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّة   = والظاهر أن الآية عامة في كلِّ أولي الأمر من الأمراء والعلماء، واختاره ابن جرير. وانظر: «تفسير الطبري» (5/260) ، «مصنف ابن أبي شيبة» (12/212-213) ، «تفسير ابن المنذر» (2/764-767) ، «تفسير ابن كثير» (1/689-ط. جمعية إحياء التراث) ، «فتح الباري» (8/ 102- ط. دار الريان) . (1) (رقم 449- ط. دار إحياء التراث) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 18 و2892 و2893 و3999 و4894 و6784 و6801 و6873 و7055 و7199 و7213 و7468) ، ومسلم في «صحيحه» (1709) ، وابن ماجه (2866) ، والنسائي (7/138 و139) ، وأحمد (3/441 و5/318) ، من طرقٍ عن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه عبادة، به. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب السمع والطاعة للإمام) (رقم 2955) . وفي كتاب الأحكام (باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية) (رقم 7144) . (3) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب يقاتل من وراء الإمام ويُتّقى به) (رقم 2957) . وفي كتاب الأحكام (باب قول الله -تعالى -: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (رقم 7137- مختصراً) . (4) في «صحيحه» في كتاب الحج (باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً. وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخذوا مناسككم» ) (1298) (311) . وفي كتاب الإمارة (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية) (1838) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الوداع، وسمعته يقول: «إن أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجَدَّعٌ، يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا» . أبو داود (1) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجهاد واجب عليكم، مع كلِّ أمير، برّاً كان أو فاجراً» . في المياسرة والمرافقة في الغزو قوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، [وقوله -تعالى-] : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . وفي حديث معاذ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد؛ فإن نومه ونُبْهَهُ؛ أجرٌ كُلُّه» (2) . قيل في قوله: «وأنفق الكريمة» ، يعني: النفيس من المال، الذي له قَدْرٌ يكرم على أهله. وقيل: يعني الحلال الطَّيِّب. مسلم (3) ، عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الأشعريِّين إذا أرْمَلُوا   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الغزو مع أئمة الجَور) (رقم 2533) ، من طريق مكحول، عن أبي هريرة. وتمامه: «والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برًّا كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم برًّا كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر» . والقسم الأخير -وهو: «الصلاة واجبة خلف كل مسلم ... » - أخرجه في كتاب الصلاة (باب: إمامة البر والفاجر) (رقم 594) بنفس الإسناد. وهذا إسناد ضعيفٌ؛ لانقطاعه. فمكحول لم يسمع من أبي هريرة. انظر: «جامع التحصيل» (285) ، و «تحفة التحصيل» (ص 314) ، و «المراسيل» لابن أبي حاتم (211) ، و «تاريخ ابن معين» -رواية الدوري- (2/584) . (2) مَضَى تخريجه؛ رواه أبو داود (رقم 2515) ، وغيره. وهو في «الصحيحة» (1990) . (3) في «صحيحه» في كتاب فضائل الصحابة (باب من فضائل الأشعريين) (2500) (167) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّويِّة، فهُم مِنِّي وأنا منهم» . قوله: «أرملوا» . قال في «مختصر العين» (1) : أَرْملَ القوم: فَنِي زادهم. وخرَّج أبو داود (2) ، عن جابر بن عبد الله، حدَّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد أن يغزو، قال: «يا معشرَ المهاجرين والأنصار، إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال، ولا عشيرة، فليَضُمَّ أحدكم إليه الرَّجلين -أو: الثلاثة-» . فما لأحدنا من ظهرٍ يَحْمِلُهُ، إلا عقبةٌ كعُقبة -يعني: أحدهم-، قال: فضممتُ إليَّ اثنين -أو: ثلاثةً- وما لي إلا عُقبة، كعقبةِ أحدهم من جملي. آداب السفر والجهاد * ما يحق على الإمام في مراعاة أحوال من معه، ومعاونتهم، والرفق بهم. قوله -تعالى-: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] . مسلم (3) ، عن عائشة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: «اللهم من   = وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الشركة (باب الشركة في الطعام والنَّهد والعروض) (رقم 2486) . (1) لم أرَ من «مختصر العين» للزُّبيدي إلا المجلد الأول، طبع بالعراق، وليس فيه هذه المادة، ونحوه المذكور في «الصحاح» (4/1713) ، «معجم مقاييس اللغة» (2/442) ، «لسان العرب» (11/296) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب الرجل يتحمَّل بمالِ غيره يغزو) (رقم 2534) . وأخرجه أحمد في «المسند» (3/358) ، والحاكم في «المستدرك» (2/90) ، والبيهقي (9/172) . والحديث صحيح. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. وفي الباب عن أبي موسى الأشعري عند البخاري (4128) ، ومسلم (1816) ، وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهما-. (3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر) (رقم 1828) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَلِيَ مِن أمْرِ أمتي شيئاً؛ فشَقَّ عليهم؛ فاشقُق عليه، ومَنْ ولي من أمرِ أمَّتي شيئاً؛ فرفِقَ بهم؛ فارفق به» . وفيه -أيضاً- (1) ، عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان ... الحديث. وقال في الترمذي (2) ، عن أبي هريرة: مارأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب غزوة بدر) (1779) (83) . (2) في كتاب الجهاد (باب ما جاء في المشورة) (تحت رقم 1714) قال: ويروى -هكذا بصيغة التضعيف- عن أبي هريرة قال: ... وذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/801رقم 4413) من طريق معمر، عن ابن شهاب الزهري، عن أبي هريرة.. فذكره. وإسناده ضعيف؛ لانقطاعه. قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص 269 رقم 712) -في ترجمة الزهري-: «وروَىَ عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وذلك مرسل» . ونقله عنه أبو زرعة العراقي في «تحفة التحصيل» (ص 289) . وقال الحافظ المنذري: «روى عن أبي هريرة، ولم يسمع منه» . وانظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (189) ، و «تهذيب الكمال» (26/419) . وللحديث شاهد من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما رأيت رجلاً أكثر استشارةً للرجال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . أخرجه أبو الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (رقم 763) ، ومن طريقه أبو محمد البغوي في «تفسيره» المسمى «معالم التنزيل» (1/572-573) ، حدثنا علي بن العباس المُقانعي، عن أحمد بن محمد بن ماهان، عن أبيه، عن طلحة بن زيد، عن عُقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. ففي هذا السَّند: أحمد بن محمد بن ماهان. قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (2/73) : «مجهول» . ووالده: محمد بن ماهان، أبوحنيفة الواسطي، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولا سَنَة وفاة -أيضاً-، وقال: «هو مجهول» . انظر: «الثقات» للعجلي (ص 412 رقم 1497) ، «الثقات» لابن حبان (9/150) ، «الجرح والتعديل» (8/105) ، «سؤالات الحاكم» للدارقطني (135) ، «الميزان» (4/23) ، «لسان الميزان» (4/484) ، وغيرها. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أبو داود (1) ، عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلَّف في المسير، فيُزجِي الضعيفَ ويُردفُ، ويدعو لهم» . قوله: «يُزجي» أي: يسوق برفق، والإزجاء: دفعُ الشيء وسَوْقُه. قال الله -تعالى-: {يُزْجِي سَحَاباً} (2) [النور: 43] . قال مالك (3) : «ينبغي لإمام الجيش ألاَّ يعجل على أصحابه، وأن يكون في وسطهم، ويبعث سراياه؛ لئلاَّ يقطع بالناس، وهو يستحب أن يكون في آخرهم، ويقدِّم الناس، وقد كان عمر بن الخطاب إذا كان في السَّفر، كان في آخر الناس، حتى يقدِّم المعتلّ بعيره والضعيف» .   = وطلحة بن زيد القرشي، أبو مسكين. قال أحمد: «ليس بذاك، قد حدَّث بأحاديث مناكير، وقال: ليس بشيء، كان يضع الحديث» ، وقال أبو حاتم: «منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يعجبني حديثه» . وقال البخاري، والنسائي: «منكر الحديث» ، وقال النسائي -أيضاً-: «ليس بثقة» . وقال الحافظ ابن حجر: «متروك» . وانظر: «التهذيب» (5/15) ، و «التقريب» (282) ، و «المجروحين» (1/383) ، و «الجرح والتعديل» (4/479) ، وغيرها. قلت: فهذا إسناد مسلسل بالضعفاء؛ من مجاهيل، ومتروكين، فهو ضعيف جداً، لا يصلح شاهداً، ولا يُفرح به. ولكن ثبت من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يشاور أصحابه، كما في غزوة أحد، والأحزاب. تصديقاً منه لقول الله -تعالى- {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} . وانظر: «الدر المنثور» (2/358-359) . (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في لزوم السّاقة) (رقم 2639) من طريق أبي الزبير، أن جابر بن عبد الله حدثهم به. وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/115) . وهو صحيح. انظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (2) انظر: «المفردات» للراغب (212) ، «عمدة الحفاظ» للسّمين (ق 218) ، «غريب الحديث» (1/168) للحربي. (3) انظر: «البيان والتحصيل» لابن رشد (2/552-553) ، «النوادر والزيادات» (3/32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 * ما يحق على أمير الجيش من طاعة الله -تعالى- والتحفظ بمن معه، والحزم. مسلم (1) ، عن بريدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميراً على جيش أو سَرِيَّة، أوصاه في خاصَّته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية بين يديه عيناً له من خزاعة، يخبره عن فَرَس (2) . وقال يوم الأحزاب: «من يأتيني بخبر القوم؟» قال الزبير: أنا (3) . وأوصى بعض السَّلَف (4) أمير جيشه، فقال له: «كنْ كالتاجر الكيِّس، الذي   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها) (رقم 1731) مطولاً. (2) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب غزوة الحديبية) (رقم 4178 و4179) ، والعين الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو بُسْر بن سفيان الكعبي الخزاعي، كما صرَّح به ابن إسحاق في «السيرة» وغيره. وهو بضم الموحدة وسكون المهملة على الصحيح. وذكر الحديث -ضمن قصة طويلة- الصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (5/36-37) وعزاه إلى الخرائطي في «الهواتف» . قلت: أخرجه الخرائطي في «هواتف الجنان» (رقم 5- ضمن رسالة «نوادر الرسائل» لإبراهيم صالح) . دون ذكر الشاهد من القصة. ولكن في إسناده شيخه عبد الله بن محمد البَلَوي. قال الدارقطني: يضع الحديث. والحديث عنده من طريق الزهري، عن عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب عن أبيه، عن ابن عباس، به. وانظر: «سيرة ابن هشام» (4/309- ط. مؤسسة علوم القرآن) ، و «فتح الباري» (5/334) و (7/454) ، و «شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» للعلامة القسطلاني (3/174) و «السيرة الحلبية» (2/690) . (3) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب) (رقم 4113) . وفي كتاب الجهاد والسير (باب فضل الطليعة) (رقم 2846) . وانظر الأرقام (2847 و2997 و4113 و7261) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب فضائل الصحابة (باب من فضائل طلحة والزبير -رضي الله عنهما-) (رقم 2415) . (4) هو عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس (ت 199هـ) ، له بلاغة وفصاحة، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لا يطلب رِبْحاً؛ إلا بعد إحراز رأس ماله» . وكتب أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- إلى عمرو بن العاص: «أما بعد، فقد جاءني كتابك، يذكر ما جَمَعت الروم من الجموع، وإنَّ الله -عز وجل- لم ينصرنا مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - بكثرة عددٍ، ولا بكثرة خيلٍ، ولا سلاح، ولقد كُنّا ببدر، وما معنَا إلا فرسَان، وإنْ نحن إلا نتعاقب الإبل، وكنا يوم أحدٍ، وما معنا إلا فرسٌ واحد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركبه، ولقد كان الله -عزَّ وجل- يُظْهِرُنا، ويُعِينُنَا على من خالَفَنا، فاعلم يا عمرو، أنَّ أطوعَ الناسِ لله -عز وجل- أشدُّهم بغضاً للمعصية، ومن خاف الله -عز وجل- ورَّعه خوفه عن كل ما فيه معصية، فأطِع الله -تعالى-، وأْمُرْ أصحابك بطاعته؛ فإن المغبون من حُرِمَ طاعة الله -تعالى-، واحذر على أصحابك البياتَ، وإذا نزلت منزلاً فاستعمل على أصحابك أهل الجَلَدِ والقوة؛ ليكونوا هم الذين يحرسونهم ويحفظونهم، وقدِّم أمامك الطلائع، حتى يأتوا بالخبر، وشاور أهل الرأي والتجربة، ولا تستبدَّ برأيك دونهم، فإن في ذلك احتقاراً للناس، ومَغْضَبَةً لهم، فقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في الحرب، وإيّاك والاستهانة بأهل الفضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرفتَ وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار عند موته حين قال: «أحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» (1) ، فقرِّبهم منك وأَدْنِهِمْ، واستشرهم، وأَشْرِكْهم في أمرك،   = ذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» (2/268) ، وابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/188) ، والقلعي في «تهذيب الرياسة» (ص 240) ، أنه قال في وصية له لقائدٍ في مُقدّم جيش مضى إلى بلاد الروم: «إنك تاجر الله لعباده. فكن كالمضارب الكيّس، إن رأيت ربحاً لا يُشكّ فيه اتّجرت، وإلا احتفظت برأس المال، لا تطلبْ الغنيمة حتى تحرز السلامة» . (1) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» ) (رقم 3799 و3800 و3801) بأطول من هذا. وأخرجه في كتاب الجمعة (باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أمَّا بعد) (رقم 927) . وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة (باب من فضائل الأنصار -رضي الله عنهم-) (رقم 2510) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ولا يَغِبْ عنِّي خبرك كل يوم بما فيه إن قدرتَ على ذلك، وأشبع الناس في بيوتهم، ولا تشبعهم عندك، وتعاهد أهل الدعارة والأحداث بالعقوبة، من غير تعدٍّ عليهم، وليكن تقدّمك إليهم فيما تنهى عنه قبل العقوبة، وتبرأ إلى أهل الذمة من معرتهم، واعلم أنك مسؤول عمّا أنت فيه، فالله الله يا عمرو فيما أوصيك به، جعلنا الله وإياك من رفقاء محمد - صلى الله عليه وسلم - في دار المقامة، وقد كتبتُ إلى خالد بن الوليد يُمِدّك بنفسه ومن معهُ، فله يُمْنٌ في الحروب، وهو ممن يعرفُ اللهَ -تعالى-، فلا تخالفه، وشاوره، والسلام عليك» (1) . ما يحق من التحفظ بالخيل وتعاهدها، وما يستحب أو يُكره منها في «الموطأ» (2) ، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رُئي يمسحُ وجه فرسه بردائه، فسُئل عن ذلك؟ فقال: «إنّي عُوتبتُ الَّليلة في الخيل» . النسائي (3) ، عن أنس قال: لم يكن شيء أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النساءِ من الخيل. وفيه (4) -أيضاً- عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله: «ما مِنْ فرسٍ عربيٍّ إلاَّ   (1) ذكر بعض هذه الوصية: البلاذري في «فتوح البلدان» (ص 129- ط. المنجّد) ، و «أنساب الأشراف» (ترجمة الشيخين- ص 110) ، وابن الأثير في «الكامل في التاريخ» (2/406-407) . وورد نحو هذه الوصية لأبي بكر في وصيته ليزيد بن أبي سفيان؛ خرَّجتها في تعليقي على «المجالسة» (1535) . (2) (ص 298 رقم 476-ط. دار إحياء التراث العربي) ، وهو مرسل. ولكن وصله ابن عبد البر من طريق عبيد الله الفهري، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أنس. أخرجه في «التمهيد» (24/100) ، وقال: ولا يصح إلا ما في «الموطأ» . وقد روي الحديث مسنداً من غير طريق أنس. انظر: «التمهيد» (24/101) ، و «الاستذكار» (14/315) . (3) في «المجتبى» (6/217 و7/62) . من حديث قتادة عن أنس -رضي الله عنه-. (4) في «المجتبى» (6/223) ، وفيه: «عند كلِّ سحرٍ» بدل «فَجْرٍ» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يؤذنُ له عند كلِّ فجرٍ بدعوتين: اللهم خوَّلتني من خوَّلتني من بني آدم، وجَعلتني له، فاجعلني أحبَّ أهله وماله إليه- أو: مِنْ أحبِّ أهله وماله إليه-» . أبو داود (1) ، عن أبي وهبٍ الجُشمي -وكانت له صُحبةٌ- قال: قال رسول الله   = وأخرجه أحمد في «المسند» (5/170) ، والحاكم (2/144) -وعنه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/330) -، والبزار في «مسنده» (3893) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/387) ، وهو صحيح مرفوعاً. وأخرجه أحمد (5/162) ، وابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص 143) عن أبي ذر موقوفاً، لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني في «العلل» (6/266-267) عن الموقوف: «وهو المحفوظ» . وانظر: «صحيح النسائي» (2/531) ، و «التعليق الرغيب» (2/161-162) ، كلاهما لشيخنا الألباني -رحمه الله-. قوله: «بدعوتين» ، قال السندي: أي: بمرَّتين من الدعاء، إحداهما: اجعلني أحبَّ أهله، والثاني: أحبَّ ماله. أما قوله: «اللهم خوَّلتني» : فتمهيدٌ لذلك، وهو من التخويل بمعنى: التمليك. و «خولتني» بالتشديد، أي: أعطيتني. (1) أخرجه أبو داود في «سننه» في كتاب الجهاد (باب فيما يستحبُّ من ألوان الخيل) (رقم 2543) من طريق محمد بن المهاجر الأنصاري، عن عَقِيل بن شبيب، عن أبي وهب الجُشَمي، به. وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة عقيل بن شبيب هذا، وقد تفرد محمد بن المهاجر بالرواية عنه، ولم يوثقه غير ابن حبان، وهو معروف بتساهله في التوثيق، فهو يوثق المجاهيل -كما هو معلوم عند علماء هذا الفن-، وقال الذهبي في ترجمته في «الميزان» (3/88) : «لا يعرف هو ولا الصحابي إلا بهذا الحديث، تفرد به محمد بن مهاجرٍ عنه» . قلت: الحديث الذي ذكره الذهبي هو حديث: «تَسَمُّوا بأسماء الأنبياء» . وحديث الباب مرويٌّ بلفظ أطول من هذا؛ أخرجه أحمد (4/345) ، والنسائي في «المجتبى» (6/ 218-219) ، وفي «الكبرى» (4406) ، وأبو داود (2553 و4950) مُقطَّعاً، والبخاري في «الأدب المفرد» (814) مختصراً، وفي «التاريخ الكبير» (9/78) ، والطبراني في «الكبير» (22 رقم 949) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/330 و9/306) ، وفي «الآداب» (469) ، والدولابي في «الكُنَى والأسماء» (1/59) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (14/102) . وقوله: «بكل كُميت» -بضم الكاف مصغَّر-: هو الذي لونه بين السَّواد والحُمْرة، يستوي فيه المذكر والمؤنث. انظر: «الخيل» (ص 51، 59) لابن جُزَيّ، «معجم أسماء خيل العرب» (249) لحمد الجاسر. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بكل كُميتٍ أغَرَّ مُحَجَّلٍ، أو: أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أو: أدهَمَ أغرّ مُحَجَّلٍ» . وفيه (1) عن ابن عباسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُمْنُ الخَيْلِ في شُقْرِهَا» . الترمذي (2) ، عن أبي قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيرُ الخيل: الأدهمُ،   = و «الأغر» : أي الذي في وجهه غُرَّة. أي: بياض، وقال ابن جزي في كتابه «الخيل» (ص 72) : «البياض الذي في جبهة الفرس لا يسمّى غُرَّة عند طائفة من أهل اللغة حتى يكون فوق الدرهم» . وانظر: «معجم أسماء خيل العرب» (ص 51) لحمد الجاسر. و «المُحجَّل» : اسم مفعول من التحجيل، بتقديم المهملة على الجيم، وهو الذي في قوائمه بياض. انظر: «الخيل» (ص 72) لابن جزي، «معجم أسماء خيل العرب» (ص 68) . و «الأشقر» : الشُّقرة في الخيل: هي الحُمرة الصَّافية، يحمَرُّ معها العُرْفُ والذَّنب. انظر: «الخيل» (ص 50، 56) لابن جزي، «معجم أسماء خيل العرب» (ص 42) . و «الأدهم» : الأسود الخالص، انظر: «الخيل» (ص 58) لابن جزي، «معجم أسماء خيل العرب» (ص 39) . (1) «سنن أبي داود» في كتاب الجهاد (باب فيما يستحب من ألوان الخيل) (رقم 2545) . وأخرجه الترمذي (1695) ، وأحمد (1/272) ، والطيالسي في «المسند» (2599) ، والخطيب في «التاريخ» (11/148) ، من طريق عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله ابن عباس، به. وإسناد الحديث حسن؛ عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، قال ابن معين: «لم يكن به بأس» . وقال ابن حجر: «صدوق، مُقلّ» . وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/958) من طريق شريك النخعي، عن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف، شريك سيء الحفظ، وداود بن علي لم يدرك جدَّه ابن عباس. وقال فيه الحافظ في «التقريب» : «مقبول» . وقوله: «يُمْنُ الخيل» ، قال السندي: «اليُمن: البركة. والشُّقر -بضم فسكون-: جمع أشقر» . (2) في «جامعه» في كتاب الجهاد (باب ما جاء فيما يُستحب من الخيل) (رقم 1696 و1697) ، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيح» . وأخرجه ابن ماجه (رقم 2789) ، والدارمي (رقم 2433) ، وأحمد (5/300) من طريق عُلَيّ ابن رباح اللخمي، عن أبي قتادة. وهو صحيح. وانظر: «صحيح الترمذي» ، و «صحيح ابن ماجه» كليهما لشيخنا الألباني -رحمه الله-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الأقرحُ، الأرْثمُ، ثم الأقرحُ، المُحجَّل، طَلْق اليمين، فإنْ لم يكن أدهمَ، فكُميتٌ، على هذه الشِّيةِ» . قال فيه: «حسن غريب صحيح» . مسلم، وأبو داود، كلاهما عن أبي هريرة، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الشِّكال من الخيل» (1) . والشِّكالُ: أن يكون الفرسُ في رجله اليمنى بياضٌ، وفي يده اليسرى، أو: يده اليمنى وبرجله اليسرى. قال أبو داود: «أي: مخالف» . قال النسائي: الشِّكال: أن تكون ثلاث قوائم منه محجَّلةً، وواحدةٌ مُطلقةً، أو: تكون الثلاث مطلقةً، والرِّجلُ مُحجَّلةً، وليس يكون الشِّكالُ إلا في الرِّجلِ، ولا يكون في اليد (2) . ما يجبُ من القيام على الدَّوابِّ والبهائم واعتمالها قوله -تعالى-: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ   = و (الأرثم) : الفرس الذي في شفته العليا بياض. قاله ابن جزي في «الخيل» (ص 51) ، وقال صاحب كتاب «الجواد العربي في الفروسية وتربية الخيل وبيطرتها» (ص 61) : «الرَّثم: كل بياض أصاب الجحفلة العليا قلّ أم كثر فهي رُثمة، إلى أن تبلغ المرسنَ ودونه، وربما دُعي بالرُّثمة إذا مالت إلى أحد المَنْخِرَيْن الأيمن أو الأيسر» ثم ذكر أنواع الرُّثمة. و (الأقرح) : ما في جبهته قرحة، وهي بياض يسير في وسط الجبهة، وانظر: «الخيل» (ص 73) لابن جزي. و (طلق اليمين) : إذا لم تكن مُحَجَّلة. و (الشِّيَة) : كل لون يخالف معظم لون الفرس، انظر: «الخيل» (ص 71) لابن جزي، «الجواد العربي» (ص 60) . (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب ما يكره من صفات الخيل) (1875) (101) ، وأبو داود في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يكره من الخيل) (رقم 2547) . وأخرجه ابن ماجه (2790) ، والترمذي (1698) ، والنسائي في «المجتبى» (6/219) ، وأحمد (2/250 و436 و457 و460) . (2) ذكر ابن جزي في كتابه «الخيل» (ص 74-75) اختلاف العلماء في معنى (الشِّكال) وقال: «والقول المعتمد هو ما قدمناه أولاً أنه البياض الذي يكون بيدٍ ورجلٍ من خلافٍ، قلَّ أو كثر» . وانظر: «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لابن جماعة (ص 137) ، «الجواد العربي» (ص 63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8-11] . خرَّج أبو داود (1) عن سهل ابن الحنظلية قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعيرٍ قد لَحِق ظهره ببطنه، فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المُعْجَمةِ، اركبوها صالحةً، وكلوها صالحة» . وفيه (2) ، عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فَأسرَّ إليَّ حديثاً، لا أحدِّث به أحدًا من الناس، وكان أحبُّ ما استَتَرَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هَدَفاً، أو حائِشَ نَخْلٍ، قال: فَدَخَلَ حائطاً لرجلٍ من الأنصار، فإذا جَمَلٌ، فلما رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَنَّ، وذَرَفَتْ عيناه، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فَمسَح ذِفْراهُ، فسَكَتَ، فقال: «من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل» ؟! فجاء فتىً من الأنصار   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم) (رقم 2548) وهو صحيح. وانظر: «صحيح أبي داود» ، «السلسلة الصحيحة» (23) . وأخرجه ضمن حديث طويل: أبو داود -أيضاً- (1629) ، وأحمد (4/180-181) ، وابن خزيمة (2545) ، وابن حبان (545، 3394) ، والطبراني (5620) . وبوّب عليه ابن خزيمة (استحباب الإحسان إلى الدّواب المركوبة في العلف والسقي، وكراهية إجاعتها وإعطاشها وركوبها والسير عليها جياعاً وعطاشاً) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم) (رقم 2549) . وهو صحيح. انظر: «صحيح أبي داود» . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الحيض (باب ما يُستتر به لقضاء الحاجة) (342) (79) -مختصراً. دون ذ كر دخوله - صلى الله عليه وسلم - الحائط ولا الجمل. وأخرجه مسلم -أيضاً-، في كتاب فضائل الصحابة (باب فضائل عبد الله بن جعفر) (2429) (68) - مختصراً مقتصراً على قوله: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ خلفه، فأسرَّ إليَّ حديثاً، لا أحدث به أحداً من الناس. وأخرجه تامّاً بنحوه: ابن أبي شيبة (11805) ، وأحمد (1/204، 205) ، وأبو عوانة (1/ 197) ، وأبو يعلى (6787، 6788) ، والحاكم (2/99، 100) ، والبيهقي (1/94 و8/13) ، وفي «الدلائل» (6/26-27) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر: «السلسلة الصحيحة» (20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فقال: لي يا رسول الله، قال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ اللهُ إيَّاها؟! فإنه شَكا إليَّ أنَّك تُجيِعُه وتُدْئِبُه» . قوله: «حائش نخل» . الحائش: جماعة النخل، و «الذّفرى من البعير» : مؤخّر رسَنِه، ومعنى «تُدْئبه» : تُكِدُّه وتُتْعِبُه. وفيه (1) ، عن أنس بن مالكٍ قال: «كُنّا إذا نزلنا مَنْزِلاً، لا نُسبِّح حتى تُحَلَّ (2) الرِّحال» . قوله: «لا نُسبِّح» ، يُريد: لا نُصَلِّي سُبحَة الضحى حتى تحطَّ الرِّحالُ، وتُراحَ المطيّ، وكان بعض العلماء يستحبُّ أن لا يتَطَعَّمَ الراكبُ إذا نَزَلَ المنزل، حَتَّى تُعلفَ الدَّابة (3) . أبو داود (4) ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياي أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخَّرها لكم؛ لِتُبلِّغكم إلى منزلٍ لم تكونوا بالغيه إلاَّ بشقِّ الأنْفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم» .   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في نزول المنازل) (رقم 2551) . وهو صحيح. انظر: «صحيح أبي داود» ، «مشكاة المصابيح» (3917) . (2) كذا في الأصل، وكذا وقعت في بعض نسخ «سنن أبي داود» ، وفي جل النسخ: «نَحُلّ» بنون أوله، وفي بعضها «تُحَطَّ» . انظر: «السنن» (3/239-ط. عوامة) . (3) ذكره السخاوي في «تحرير الجواب» (ص 145- بتحقيقي) ، وزاد عليه: «ولا يقصّر في سقيها» . (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الوقوف على الدابة) (رقم 2567) من طريق إسماعيل ابن عياش، عن يحيى بن أبي عمر السيباني -بالمهملة-، عن أبي مريم الشامي، عن أبي هريرة. وأخرجه الطحاوي في «المشكل» (38-39) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/255) ، و «الآداب» (934) ، والبغوي في «شرح السنة» (2683) ، وأبو القاسم السمرقندي في المجلس (128) من «أماليه» ، وعنه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (67/212) ؛ من طريق إسماعيل بن عياش، به. وإسماعيل بن عياش. قال الحافظ في «التقريب» (473) : «صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلِّطٌ في غيرهم» . وروايته هنا عن يحيى -وهو بَلَدِيُّه- فحديثه صحيح. وقد صححه شيخنا الألباني -رحمه الله- في: «صحيح أبي داود» ، و «السلسلة الصحيحة» (رقم 22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 مسلم (1) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سافرتم في الخَصْب فأَعطوا الإبل حَظَّها من الأرضِ، وإذا سافرتم في السَّنةِ، فأسرعوا عليها السَّيْر، وإذا عرَّستُم بالليل فاجتنبوا الطَّريق، فإنَّها مأوى الهوامِّ باللَّيْل» . قوله: «سافرتم في السَّنة» : يعني الجَدب، وكذلك وقع عند أبي داود (2) : و «إذا سافرتم في الجَدْبِ فأسرعوا السَّيْر» . ويقال: أصابت الناسَ سَنَةٌ، أي: قحطٌ وشدَّة. قال الله -عز وجل-: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130] . ما يُستحبُّ من الأوقات في السَّفَر والغَزو (3) خرَّج البخاري (4) ، عن كعب بن مالك، كان يقول: لقلَّما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إذا خرج في سفرٍ إلا يوم الخميس.   (1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب مراعاة مصلحة الدواب في السَّيْر، والنهي عن التعريس في الطريق) (1926) (178) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في سرعة السَّيْر، والنهي عن التعريس في الطريق) (رقم 2569) . وأخرجه -أيضاً-: الترمذي (2858) -وقال: «هذا حديث حسن صحيح» -، والنسائي في «السنن الكبرى» -كما في «تحفة الإشراف» (9/396) -، وأحمد (2/337، 378) ، وابن حبان (2703، 2705) ، وابن خزيمة (2550) ، والطحاوي في «المشكل» (115، 116) ، والبيهقي (5/ 256) ، والبغوي (2684) . وفي الباب عن جماعة. وهو صحيح. وورد في حديث أنس ما يدل على هذا المعنى -أيضاً-، وقد خرّجته في تعليقي على «تحرير الجواب عن ضرب الدواب» للسخاوي، وهو في «السلسلة الصحيحة» (682) . (3) انظر: «الغرر السوافر عمّا يحتاج إليه المسافر» (ص 54) للزركشي، «توشيح الأسفار في مديح الأسفار» (ص 16-18) للمرادي، «آداب السفر وأحكامه» (ص 38) ، «أنيس المسافر» (ص 81) ، «السفر وأحكامه» (ص 15-16) . (4) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسِّير (باب من أراد غزوةً فورَّى بغيرها، ومن أحبَّ الخروج يوم الخميس) (رقم 2949) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وفيه (1) : وكان يحب أن يخرج يوم الخميس. أبو داود (2) ، عن صخر الغامدي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لأمتي في   (1) (رقم 2950) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (بابٌ في الابتكار في السَّفر) (رقم 2606) ؛ من طريق يعلى ابن عطاء، عن عمارة بن حديد، عن صخر بن وداعة الغامدي، به. وأخرجه ابن ماجه (2236) ، والترمذي (1212) ، وأحمد (3/416 و417 و431 و432 و4/384 و390 و391) ، والدارمي (رقم 2440) ، والنسائي في «الكبرى» -كما في «تحفة الإشراف» (4852) -، وعبد بن حميد (432) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/516) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/363 رقم 2402) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/310) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (رقم 2382- ط. الأعظمي) ، وابن حبان (7/122-123 - ط. الحوت؛ أو رقم 4755- ط. الرسالة) ، والبغوي (رقم 2673) ، والبيهقي (9/151-152) ، وأبو القاسم البغوي في «مسند ابن الجعد» (رقم 2557) -ومن طريقه المزي في «تهذيب الكمال» (13/125-126) -، والطبراني في «الكبير» (8/28، 29 رقم 7275، 7277) ، و «الأوسط» (رقم 6883) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (26/387 و54/ 15) ، والسِّلفي في «المجالس الخمسة» (رقم 39- بتحقيقي) ، و «الأمالي» (رقم 331) ، وابن رُشَيْد في «ملء العَيْبة» (3/28-29) ، كلهم من طريق يعلى بن عطاء، به. وإسناده ضعيف؛ لجهالة عمارة بن حديد. قال أبو زرعة -كما في «الجرح والتعديل» (6/364 رقم 2008) -: «لا يُعرف» . وقال أبو حاتم: «مجهول» . وكذا قال ابن السكن، وقال ابن المديني: «لا أعلم أحداً روى عنه غير يَعلى بن عطاء» . وقال الحافظ ابن حجر: «مجهول» . ووثقه ابن حبان، والعجلي، وجنح ابن رشيد -أيضاً- إلى توثيقه، بناءً على توثيق ابن خلفون له. وقال السِّلفي: «حديث صخر هذا حديث حسن» . انظر: «تهذيب التهذيب» (7/414) ، و «التقريب» (4841) . لكن للحديث شواهد، من حديث ابن عمر، أخرجه عبد بن حميد (757) ، وابن ماجه (2238) ، والطبراني في «الكبير» (12 رقم 13390) و «الأوسط» (رقم 3312) ، بإسناد فيه ضعف. ومن حديث أبي هريرة، أخرجه ابن ماجه (2237) وزاد: «يوم الخميس» ، والمزي في «تهذيب الكمال» (26/544) ، بإسناد ضعيف. ومن حديث علي بن أبي طالب، أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (1/153، 154، 155، 156) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (64/231) ، والبزار (رقم 1248- «كشف = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بكورها» . وكان إذا بعثَ سريَّةً -أو: جيشاً- بعثهم من أول النهار، وكان صخرٌ   = الأستار» ) ، بأسانيد ضعيفة. ومن حديث ابن عباس، أخرجه البزار (1250، 1251- «كشف» ) ، والطبراني في «الكبير» (10 رقم 10679) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (69/170) ، بإسناد ضعيف؛ بالزيادة المذكورة، والطبراني (10 رقم 10966) ؛ بدون الزيادة. ومن حديث أنس بن مالك، أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» (55/63) ، والبزار (1249- «كشف» ) ؛ بإسناد ضعيف جداً. ومن حديث عبد الله بن سلام، أخرجه أبو يعلى (7500) ، والطبراني في «الكبير» (رقم 367- القطعة المفقودة) ، وابن عساكر في «التاريخ» (29/98) ؛ بإسناد ضعيف جداً. ومن حديث عائشة، أخرجه الطبراني في «الأوسط» (رقم 4829) بالزيادة المذكورة، بإسناد ضعيف. ومن حديث عمران بن الحصين، أخرجه الطبراني في «الكبير» (18/216/ رقم 540) ، وفي «الأوسط» (رقم 5751) بإسناد ضعيف جداً. ومن حديث أبي بكرة، أخرجه -أيضاً- الطبراني في «الأوسط» (رقم 2975) ، وفي «الصغير» (1/95-96) ، وفي إسناده رجلٌ اسمه: الخليل بن زكريا. وهو كذاب. ومن حديث نُبَيْط بن شريط، أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/30) ، بالزيادة المذكورة، بإسناد مظلم. ومن حديث جابر، أخرجه الطبراني في «الأوسط» (رقم 996) ؛ بإسناد رجاله ثقات. كما قال الهيثمي في «المجمع» (4/62) ، وقال: «إلا أن شيخ الطبراني أحمد بن مسعود المقدسي لم أجد من ترجمه» . قلت: هو من شيوخ الطحاوي، وأخرج عنه أبو عوانة في «صحيحه» . وهو صدوق. انظر: «بلغة القاصي والداني» (1/83-84) . ومن حديث كعب بن مالك، والنواس بن سمعان؛ بأسانيد ضعيفة جداً. ومن حديث عبد الله بن مسعود؛ بإسناد ضعيف. فالحديث صحيح بهذه الشواهد، قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (4/61-62) : «وقد اعتنى بعض الحفاظ بجمع طرقه، فبلغ عدد ما جاء عنه من الصحابة نحو العشرين نفساً» . وقد صححه شيخنا الألباني -رحمه الله- في «صحيح أبي داود» ، بل عده السيوطي في «قطف الأزهار» (رقم 72) ، والزَّبيدي في «لقط اللآلئ» (رقم 38) ، والكتاني في «نظم المتناثر» (رقم 218) متواتراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 رجُلاً تاجراً، وكان يبعث تجارته من أول النهار؛ فأَثْرَى وكَثُرَ مالُه. الترمذي (1) ، عن النعمان بن مُقَرِّنٍ قال: «شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، وَتَهُبَّ الرِّياحُ، ويَنْزلَ النَّصْر» . قال فيه: «حسن صحيح» . وفيه (2) ، عن النعمان -أيضاً- قال: «غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا طلَعَ الفجرُ أمسكَ حتى تطلع الشمس، فإذا طَلَعتْ قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك   (1) في «جامعه» في كتاب السِّير (باب ما جاء في الساعة التي يُستحبُّ فيها القتال) (رقم 1613) من حديث علقمة بن عبد الله المزني، عن معقل بن يسار، أن عمر بن الخطاب بعث النعمان بن مقرن إلى الهرمزان ... وفيه: فقال النعمان بن مقرن: « ... الحديث» . وقال فيه: «حسنٌ صحيح، وعلقمة بن عبد الله هو أخو بكر بن عبد الله المزني» . ونقل الآجري عن أبي داود أنه ليس بأخيه -كما في «تهذيب الكمال» (20/298) -، وهو ثقة؛ وثقه علي بن المديني، والنسائي. وأخرجه النسائي في «الكبرى» -كما في «تحفة الإشراف» (9/32/11647) -؛ أو رقم (8637) ، وأبو داود (2655) ، وأحمد (5/444) ، وابن أبي شيبة (12/368-369 و13/8-12) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1081) ، وخليفة في «تاريخه» (ص 148-149) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (3/144) ، وابن حبان (4757) ، والحاكم (2/116 و3/293-295) ، والبيهقي (9/153) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (5/343) ، والذهبي في «السير» (1/403) من طرقٍ عن معقل بن يسار، به. وأخرجه بنحوه: البخاري (3159 و3160) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1082) ، والطبري في «تاريخه» (4/117-120) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (3/145) ، وابن حبان (4756) ؛ من طريق جُبير بن حية، عن عمر، وفيه ذكر النعمان بن مقرن، وذكر قصة نهاوند، والهرمزان. وأخرجه ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/202-203) من طريق ابن سيرين أن النعمان قال لأصحابه: ... به. (2) في «جامعه» في كتاب السِّير (باب ما جاء في الساعة التي يُستحب فيها القتال) (رقم 1612) من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن النعمان بن مُقرِّن، به. قال الترمذي: «وقد رُوي هذا الحديث عن النعمان بن مقرن بإسنادٍ أوصل من هذا، وقتادة لم يدرك النعمان بن مقرِّن، ومات النعمان بن مقرِّن في خلافة عمر بن الخطاب» . قلت: يشير إلى الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 حتى تزولَ الشمسُ، فإذا زالت الشمس قاتل حتى العصر، ثم أمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل» . قال: «وكان يقال عند ذلك: تهيجُ رياح النصرِ، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم» . في آداب نزول العسكر في المنزل وفي حديث أبي هريرة، من طريق أبي داود (1) : «فإذا أردتم التعريس، فتنكَّبوا عن الطريق» . أبو داود (2) ، عن أبي ثعلبة الخشني قال: «كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرَّقوا في الشِّعاب والأودية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ تفرُّقكم في هذه الشعاب والأودية، إنما ذلكم من الشيطان» . فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً، إلا انضمَّ بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بُسط عليهم ثوبٌ لعمَّهم» . وفيه (3) -أيضاً-، عن معاذ الجهني قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة كذا وكذا، فَضَيَّق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فبعث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي   (1) «سنن أبي داود» (رقم 2569) ، وأصله في «صحيح مسلم» ، وقد مضى قريباً. (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته) (رقم 2628) . وأخرجه النسائي في «الكبرى» -كما في «التحفة» (9/133) -، وأحمد (4/193) ، وابن حبان (رقم 2690- «الإحسان» ) ، والحاكم (2/115) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/152) . والحديث صحيح. وانظر: «صحيح أبي داود» . (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته) (رقم 2629 و2630) من طريق سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه معاذ بن أنس، به. وأخرجه أحمد (3/440) ، والطبراني في «الكبير» (20/434) ، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (5/282 رقم 2109) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (13/4608 رقم 1733) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (9/152) من طريق سهل بن معاذ، به. وسهل بن معاذ بن أنس، نزيل مصر، قال الحافظ في «التقريب» (2667) : «لا بأس به؛ إلا في روايات زَبَّان عنه» . فإسناد هذا الحديث حسن -إن شاء الله-. وانظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 في الناس: «أنَّ من ضيَّقَ منزلاً، أو قطع طريقاً فلا جهاد له» . فاجتمع معنى الحديثين على أنَّ التضَامَّ في المنزل، بحيث لا يقطع ذلك حقوق المارَّة وغيرهم مُستحبٌ، والتفرُّق مكروه، وكذلك التضييق المخلُّ بالحقوق؛ لا يجوز (1) . في تعبئة الصفوف وآداب القتال قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] ، وقال -تعالى-: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] . خرَّج البخاري (2) ، عن حمزة بن أبي أُسيد، عن أبيه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدرٍ حين صففْنَا لقريشٍ وصفّوا لنا: «إذا أَكْثَبُوكمْ فَعَليكُمْ بالنَّبْلِ» . وفي كتاب أبي داود مثله (3) ، وزاد: «إذا أكثبوكم -يعني: غَشَوْكُم- فارموهم بالنَّبل، واسْتبقُوا نَبْلَكُم» . الكثب: القُرب، يقال: أكْثَب الشيء والصَّيْدُ، وأَكْثَبَكَ: قَرُبَ منكَ.   (1) انظر تفصيل ذلك في «البناية» (10/206) للعيني، «الفتاوى الخانية» (3/222) ، «تحصيل الطريق إلى تسهيل الطريق» (98-99) لابن الشّحنة، «رياض القاسمين» (ص 214-215) للأدَرْنوي الحنفي، «المعيار المعرب» (3/307 و8/448) ، «الإعلان بأحكام البنيان» (1/288- ط. دار إشبيليا؛ أو ص 88- ط. مركز النشر الجامعي المغربي) لابن الرامي، «البيان والتحصيل» (9/405-406) ، «الفوائد النفيسة الباهرة في بيان حكم شوارع القاهرة في مذاهب الأئمة الأربعة الزاهرة» (ص 23-26) لأبي حامد المقدسي الشافعي، «روضة الطالبين» (4/204) ، «حاشيتا قليوبي وعميرة» (4/ 207) ، «المقنع» (2/128) ، «الإنصاف» (5/255) ، «كشاف القناع» (3/406) . (2) في كتاب الجهاد والسِّير (باب التحريض على الرَّمي) (رقم 2900) . وفي كتاب المغازي (باب منه) (رقم 3984 و3985) . (3) في كتاب الجهاد (باب في الصفوف) (رقم 2663) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وخرَّج أبو داود (1) ، عن قيس بن عُبادٍ، قال: «كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون الصوت عند القتال» . وخرَّج مسلم (2) ، عن أبي هريرة، قال: «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المُجَنِّبَةِ اليمنى، وجعل الزبير على المُجَنِّبَةِ اليسرى،   (1) في كتاب الجهاد (باب فيما يؤمر به من الصَّمت عند اللّقاء) (رقم 2656) ؛ وهو صحيح موقوف. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (83 رقم 247) ، وأبو عوانة في «مسنده» (4/88) والحاكم (2/116) من طريق هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد. ورواه -أيضاً- عن هشام به مع زيادة على لفظه، وفيه: «يكرهون رفع الصوت عند الجنائز وعند القتال وعند الذكر» : وكيع في «الزهد» (رقم 211) ، وعنه ابن أبي شيبة (4/99) -ومن طريقه: البيهقي (4/74) ، والخطيب (8/91) -، وأبو نعيم (9/58) . ورواه عن هشام بالزيادة المذكورة: أبو نعيم الفضل بن دُكين -ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (5/389 رقم 3056) . وأخرجه أبو داود -أيضاً- (رقم 2657) ، وعنه أبو عوانة (4/88) ؛ عن عبيد الله بن عمر القواريري، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن همام، عن مطر، عن قتادة، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك. وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/116) ؛ من طريق القواريري، به. وقال: «صحيح على شرطهما» . قال الحافظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (10/102) : «إلا أنه معلول بطريق هشام المذكورة» . قلت: وقتادة. قال فيه يحيى بن معين: «ولا أعلمه سمع من أبي بردة» . انظر: «جامع التحصيل» (254-256) ، «تحفة التحصيل» (262-265) . ومطر: هو ابن طهمان الورَّاق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم متابعةً؛ وذلك لأنه كثير الخطأ، كما في «التقريب» (6699) . وقد خالف هشاماً -وهو ثقة ثبت- في روايته عن قتادة. فالحديث ضعيف مرفوعاً، صحيح موقوفاً. انظر: «ضعيف أبي داود» ، و «السلسلة الضعيفة» (4289) كلاهما لشيخنا الألباني -رحمه الله-. وأخرج نحوه ابن أبي شيبة، عن الحسن. مرسلاً. وانظر: «الدر المنثور» (4/76) . (2) في كتاب الجهاد والسير (باب فتح مكة) (1780) (86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وجعل أبا عبيدة على البياذِقَةِ. وفي بعض طرقه (1) : على الحُسَّر (2) ... » الحديث. قال بعض رواته (3) -في غير كتاب مسلم-: البياذقة (4) : هم الحُسَّر، وهم الذين ليس عليهم سلاح. البخاري (5) ، عن البراء بن عازبٍ، قال: «جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرَّجَّالة يوم أحدٍ -وكانوا خمسين رجلاً- عبد الله بن جُبير، فقال: «إن رأيتمونا تَخْطَفُنا الطيرُ،   (1) كما عند مسلم (1780) (84) ، وأحمد (2/538) ، وأبي عوانة (4/230) ، والطيالسي (2564- ط. تركي) ، وابن حبان (4760) ، والبيهقي (9/117) ، وفي «الدلائل» (5/55) . (2) بضم الحاء وتشديد السين المهملتين، أي: الذين لا دروع عليهم، قاله النووي في «شرح صحيح مسلم» (12/177- ط. قرطبة) . (3) هو عفان بن مسلم، وصرَّح بذلك ابن المنذر في «الأوسط» (12/36-38 رقم 6721) . (4) قال القاضي عياض في «المشارق» (1/108) : «كذا هو بباء بواحدة مفتوحة بعدها ياء بائنتين تحتها مخَفَّفة ودال معجمة مكسورة وقاف، كذا ضبطناه عن شيوخنا، وعند بعضهم: «الساقة» أي: آخر الجيش. وقال بعضهم: «على الشارفة» ، يعني: الذين يشرفون على مكة، والصواب: الأول، والبياذقة الرجالة، وهم أيضاً أصحاب ركائب الملك والمتصرفون له، والذي في السير: أن أبا عبيدة جاء بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا يردّ رواية من روى: «الساقة» ، وفي الأم -أيضاً- في الحديث الآخر: «وأبو عبيدة على الحُسَّر» » . وقال النووي في «شرح صحيح مسلم» (12/184) : «البياذقة: بباء موحدة ثم مثناة تحت وبذال معجمة وقاف، وهم الرجالة، قالوا: وهو فارسي معرب وأصله بالفارسية أصحاب ركاب الملك ومن يتصرف في أموره، قيل: سموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم، هكذا الرواية في هذا الحرف هنا وفي غير مسلم -أيضاً-، قال القاضي: هكذا روايتنا فيه، قال: ووقع في بعض الروايات (الساقة) وهم الذين يكونون آخر العسكر، وقد يجمع بينه وبين البياذقة بأنهم رجالة وساقة، ورواه بعضهم (الشارفة) وفسروه بالذين يشرفون على مكة، قال القاضي: وهذا ليس بشيء لأنهم أخذوا في بطن الوادي، والبياذقة هنا هم الحسر في الرواية السابقة، وهم رجالة لا دروع عليهم» . وانظر: «غريب الحديث» لابن الجوزي (1/ 96) ، «النهاية» (1/171) . قلت: ورواية (الساقة) عند الدارقطني في «سننه» (3/60) . (5) في كتاب الجهاد والسير (باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه) (رقم 3039) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتَّى أُرسلَ إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأَوْطَأناهُم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزموهم ... » الحديث بطوله. وكان يقال: لا تهمل التَّعبئَةَ (1) عند المناوشة؛ فإنَّ فساد التَّعبئة من أعظم الخلل (2) ، وقيل: لا تجعل النهر وراءك عند الزَّحف. يعني: لما يتقى من كَرَّة العدو، ومضايقة الزَّحف، فيكون في ذلك الهلاك، وكذلك كل شيء يُتقى منه ما يُتَّقى من كَرَّةٍ عند المضايقة والحاجة إلى التوسع، ومجال التَّحَيُّز، وما يُخشى من النُّكوصِ، وشبه ذلك، فالحزم بالإعداد لذلك كلِّه هو الأوْلى (3) . في كراهة الاستعانة بالمشركين قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] ، وقال -تعالى-: {وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء: 89] . وخرَّج مسلم (4) ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) التعبئة المقصودة هنا، هي: صف الجند في مواقفهم بين الميمنة والميسرة، وغيرهما من أجزاء الجيش؛ ليكون مستعداً للإشتراك فوراً في أي قتال إذا ألجأته الضرورة إليه، انظر تسمية أصول أجزائها في (الباب الحادي عشر) من «مختصر سياسة الحروب» للهرثمي صاحب المأمون (ص 26-27) . (2) قال الهرثمي في «مختصر سياسة الحروب» (ص 25-26) : «قالوا: إذا كان العدو منك على خمس مراحل أو نحوها، فلا يكونن مسيرك ونزولك إلا على تعبئة. كان أهل الحزم والتجربة يرون لصاحب الحرب، أن يكون نزوله ومسيره بالتعبئة في الأمن كما يرونه في الخوف، إلا أن يدع ذلك عن ضرورة، ويرون ألا يخلو مما تيسر من التعبئة في الأمن على كل حال. ذكروا عن بعض أهل الحزم والتجربة، أنه توجّه من الشام إلى الهند يريد المحاربة بها، فخندق في أول منزلةٍ بالشام، ثم لم يزل يسيرُ وينزل بالتعبئة والخنادق، إلى أن أظفره الله بعدوه» . (3) انظر: «مختصر سياسة الحروب» (ص 65) . (4) في كتاب الجهاد والسير (باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر) (1817) (150) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قِبَلَ بدر، فلما كان بِحَرَّة الوَبرَة (1) ؛ أدركه رجل قد كان يذكر منه جُرْأةٌ ونَجْدةٌ، فَفَرِح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه، فلما أدركه، قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئتُ لأتبعك وأُصيبَ معكَ، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تؤمن بالله ورسوله؟» قال: لا، قال: «ارجع، فلن أستعين بمشرك» ، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أول مرة، قال: لا، قال: «فارجع، فلن أستعين بمشرك» ، قالت: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: «تؤمن بالله ورسوله؟» قال: نعم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فانطلق» . وفي الترمذي (2) ، عن الزهري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم لقومٍ من اليهود قاتلوا معه. واختلف أهل العلم في ذلك: فالجمهورُ على كراهة الاستعانة بهم في شيء من الغزو، وهو الصحيح (3) ؛ لما دل عليه القرآن والسنة الثابتة. وأما ما رواه   (1) حَرَّة الوَبَرَة -مُحَرَّكة، وبعضهم جوّز التسكين- وهي حَرَّة على ثلاثة أميال من (المدينة) . قاله الفيروز آبادي في «المغانم المطابة» (2/756) . (2) في كتاب السير (باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين، هل يسهم لهم؟) (رقم 1558م) . وأخرجه أبو داود في «المراسيل» (باب ما جاء في الجهاد) (رقم 282) -ومن طريقه ابن الجوزي في «التحقيق» (10/147) -، وابن أبي شيبة (12/395) -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (9/53) -، وعبد الرزاق (5/188 رقم 9328) في «مصنفيهما» . والحديث -كما قال المصنّف -رحمه الله-: ضعيف الإسناد. وانظر: «ضعيف سنن الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (3) واشترط بعضهم في الاستعانة بهم إحسانهم الرأي في المسلمين، وأن يأمن المسلمون خيانتهم، وأن يكون المسلمون قادرين عليهم؛ لو اتفقو مع العدو. فإذا وجدت هذه الشروط الثلاثة، جازت الاستعانة بهم. وقيل: لا يجوز استصحابهم في الجيش، مع موافقتهم العدو في المعتقد، فعلى هذا تكون الشروط أربعة. انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/276) ، «مختصر المزني» (ص 270) ، «الحاوي الكبير» (18/144-145) ، «حلية العلماء» (7/647) ، «روضة الطالبين» (10/239) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/273) ، «مغني المحتاج» (4/221) ، «الوجيز» (2/114) ، «البيان» للعمراني = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الزهري في كتاب الترمذي؛ فمقطوع، لا يثبت بمثله دليل. وروي عن مالكٍ أنه أجاز أن يُستعان بهم في خدمةٍ أو صنعةٍ (1) . وعن ابن   = (12/116) ، «تحرير الأحكام» (ص 158-159) لابن جماعة، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص232) ، «فتح الوهاب شرح منهج الطلاب» (2/172) . وانظر: «نيل الأوطار» (8/42) ، «سبل السلام» (4/103) . وقد نقل ابن المنذر في «الأوسط» (11/176-177) عن الإمام الشافعي، في استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - بيهود بني قينقاع -وهو في «الأم» للشافعي في كتاب سير الواقدي (4/261) -. ثم قال: «لا يستعان بهم ... وما ذكره الشافعي من خبر يهود بني قينقاع؛ فليس مما يقوم به حجة؛ لأنا لا نعلمه ثابتاً، ولعله أخذ ذلك من أخبار المغازي، وعامة أخبار المغازي: لا تثبت من جهة الإسناد» . ومذهب الحنفية: جواز الاستعانة بهم، إذا كان حكم الإسلام هو الغالب. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 292) ، «الهداية» (2/439) ، «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف (39) ، «فتح القدير» (5/502) ، «بدائع الصنائع» (7/101) ، «شرح السير الكبير» (4/191) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/428) ، «إعلاء السنن» (12/51) . ولا يستعان بهم عند الحنابلة إلا للحاجة. انظر: «المغني» (13/98-ط. دار هجر) ، «الاقناع» (2/15) ، «منتهى الإرادات» (1/310-ط. عالم الكتب) ، «شرح الزركشي» (6/498) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/757 المسألة رقم 2001) ، «كتاب التمام» (2/220) ، «التحقيق» لابن الجوزي (10/143) . وجوازه للحاجة نقله ابن قدامة عن أحمد. قال: وكلام الخرقي يدل عليه -أيضاً- عند الحاجة. وقال: ويشترط أن يكون من يستعان به حَسَنَ الرأي في المسلمين. وجمهور الحنابلة يمنعون الاستعانة بهم، ونقل ذلك ابن قدامة عن ابن المنذر والجوزجاني، وقال ابن القاضي أبي يعلى في «كتاب التمام» (2/220) : «لاتختلف الرواية أنه لا يستعان بالمشركين على قتال العدو، ولا يعاونون على قتالهم» . انظر: «المغني» (8/414- ط. مكتبة الرياض الحديثة) . وجواز الاستعانة هومذهب الأوزاعي، فيما نقله عنه القرطبي في «التفسير» (8/99-100) . وانظر: «التاج والإكليل» (3/352- هامش «المواهب» ) ، «فقه الأوزاعي» (2/476) ، وهو مذهب سفيان الثوري، والزهري، وإسحاق. كما في «المغني» . (1) هذا قول ابن القاسم، وتكون الاستعانة بالخدمة دون القتال. انظر: «المدونة» (1/524) ، -ونقله عنه الجصاص في «مختصر اختلاف العلماء» (3/428) -، «جامع الأمهات» (ص 244) ، «الذخيرة» (3/405) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/468) ، «المنتقى» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 حبيب: أن يُستعانَ بهم في هدم الحصون ورَمْي المَنْجَنيق، وأنْ يُستعان بهم في القتال إذا كانوا ناحيةً، قال: ولا بأس أن يقوم بمن سالَمه من الحَرْبيِّينَ على من لم يُسالِمه (1) . وكلُّ هذا لا مُستندَ له، بل يَرُدُّه ظاهرُ القرآن والسنةِ، كما تقدم (2) . * مسألة: اختلف أهل العلم في الأسارى من المسلمين يقاتلون مع العدو عدوًّا غيرهم، فَرَخَّصَ الأوزاعي في ذلك إذا شَرطوا لهم أنْ يُخلُّوا سَبيلهم إذا فتح لهم، فإن لم يشترطوا لهم ذلك، لم يكن لهم أن يقاتلوا إلا أن يخافوا على دمائهم (3) ،   = للباجي (3/179) ، «عيون المجالس» (2/693 المسألة رقم 452) ، «شرح الدردير» (2/178) ، «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (3/114) ، «التاج والإكليل» (3/352) ، «تفسير القرطبي» (8/99) . (1) «النوادر والزيادات» (3/35) ، «الذخيرة» (3/406) . (2) قلت: فالاستعانة بالمشرك في القتال تجوز عند الحاجة إليه. قال ابن القيم في «الزاد» (3/301) في مَعْرِض كلامه على ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية: «ومنها: أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عَيْنَهُ الخزاعيَّ كان كافراً إذ ذاك -يشير المصنف إلى ما سبق أن ذكره (ص 288) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان بذي الحليفة أرسل عيناً له مشركاً من خزاعة يأتيه بخبر قريش- وفيه في المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم» . وقال العلامة صديق خان في «الروضة الندية» (2/482) : «ولا يستعان فيه -أي: في الجهاد- بالمشركين إلا لضرورة ... » ثم ساق -رحمه الله- الأدلة الدالة على تحريم الاستعانة والدالة على جوازها، ثم ذكر الجمع بينهما بقوله: «فيجمع بين الأحاديث بأن الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة، لا إذا لم تكن ثمَّ ضرورة» . وانظر: «الفتاوى الإسلامية» (3/814 و4/1425) الصادرة عن دار الإفتاء المصرية، «حكم الاستعانة بغير المسلمين في الجهاد» (ص 117- وما بعدها) المطبوع ضمن «ثلاث رسائل فقهية» للشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل. (3) انظر: «الأوسط» (12/69) ، «اختلاف الفقهاء» في كتاب الجهاد (196) للطبري (نشره المستشرق: يوسف شخت- ط. ليدن) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/454) ، «فقه الأوزاعي» (2/436) . وجوَّزه سفيان الثوري بدون شرط. كما في «مختصر اختلاف العلماء» (3/454) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وقال أحمد بن حنبل بنحوه (1) ، وكره مالكٌ أن يقاتلوا على مثل هذا، ولا ينبغي لمسلمٍ أن يُهْريق دمه إلا في حق (2) ، ونحوهُ قال أصحاب الرأي (3) : لا ينبغي للمسلمين المستأمنين أن يقاتلوا معهم إلا أن يخافوا على أنفسهم من قَبْل أنَّ حكم أهل الحرب هو الغالب، وكان الشافعي (4) يقول في الأسارى: يُشترط لهم أن يخلَّوا إذا قاتلوا معهم، قد قيل: يقاتلونهم. ولو قال قائل: يكره قتالهم، كان مذهباً. فأقول: إنَّ الوَجْهَ كراهةُ قتالهم معهم؛ لأن قتال الكفار إنما شُرِعَ لإعلاء كلمة الإسلام والدعاءِ إليه، لا لإعلاءِ كُفرٍ على كُفرٍ، بل لا يجوزُ لمجردِ الغَلبةِ والنَّيل منهم على الإطلاق، ألاَ ترى أنَّ الدعوة تَجِبُ قبلَ ذلك فيمن لم تبلغه باتفاق، فقتالهم معهم لم يكن لذلك، بل هو عونٌ للكفار على الكُفَّار، وذلك غير مشروع، إلا أن يكون عن أهلِ ذمَّةٍ من المسلمين، فيدافعُ عدوّهم عنهم، فذلك من إعلاء حُرمة الإسلام، والقيام بحدوده، وأما من أباح ذلك إذا شرطوا لهم أن يُخَلّوا عنهم، فتغليبٌ لأحد المكروهين على الآخر؛ لأن إقامتهم تحت أسر الكفار لا يحل لهم، متى أمكنهم سبيلٌ إلى التخلص، كبذل المال في الفداء ونحوه. في النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض الحرب قوله -تعالى-: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ. لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] .   (1) نقل ابن المنذر في «الأوسط» (12/70) عنه قوله: «إن قال لهم: أخلّي عنكم، فلا بأس، رجاء أن ينجون. قيل له: فإن قال: أُعطيكم وأحسن إليكم. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قاتل لتكون كلمة الله ... » لاأدري» . وانظر: «المغني» (13/185- ط. هجر) . (2) نقله ابن المنذر في «الأوسط» (12/69) عنه. (3) انظر: «مختصر اختلاف العلماء» (3/454) ، «الأوسط» (12/69) . (4) قال ابن المنذر في «الأوسط» (12/69) : «وكان الشافعي يقول: قد قيل: يقاتلونهم. وقيل: قد قاتل الزبير وأصحاب له ببلاد الحبشة مشركين عن المشركين، ولو قال قائل: يكره قتالهم، كان مذهباً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وفي «الموطأ» (1) ، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُسَافَرَ بالقرآن إلى أرض العدو» . قال مالك: وإنما ذلك مخافة أن يناله العدو. هكذا وقع هذا الحرف في «موطأ يحيى» من قول مالك، وهو في غيره مرفوع صحيح (2) . خَرَّج مسلم (3) ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو» . واتفق الفقهاء أنه لا يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر   (1) في كتاب الجهاد (باب النهي عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) (ص 285 رقم 450- ط. إحياء التراث العربي) . وأخرجه البخاري (رقم 2990) ، ومسلم (1869) (92) ؛ من طريق مالكٍ؛ به. دون ذكرهم قول مالك، وخرجته بتفصيل في تعليقي على كلٍّ من: «تالي تلخيص المتشابه» (2/569-570 رقم 346) للخطيب البغدادي، «جزء القاضي الأشناني» (رقم 2) ، «إعلام الموقعين» (5/52) . (2) كان مالك يشك في رفع آخر الحديث، فقال -كما عند أبي داود (2610) -: «أُراه: مخافة أن يناله العدو» ، وعند مسلم: «قال أيوب: فقد ناله العدو» . ولم يرفعا هذا اللفظ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال صاحب «عون المعبود» (2/341) : «واعلم أن هذا التعليل قد جاء في رواية ابن ماجه [ (2879، 2880) ، وأبي يعلى في «معجم شيوخه» (252) ، والخطيب في «تالي التلخيص» (رقم 346) ، بل هو عند مسلم (1869) (93) ] ، ورواياته مفصلة عند ابن أبي داود في «المصاحف» (ص 411-417- ط. الفاروق) إذ أورد له خمسة وثلاثين طريقاً، وغيرها مرفوعاً. وقال الحافظ [في «فتح الباري» (6/ 134) ] : ولعل مالكاً كان يجزم به، ثم صار يشك في رفعه، فجعله في نفسه» . ا. هـ كلام صاحب «العون» . ولكن الحفاظ وغير مالك أثبتوا رفعه، فارتفع الشك، قاله أحمد شاكر في تحقيقه «المسند» (6 رقم 4507) ، وانظر: «التمهيد» (10/43- ط. الفاروق) . (3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة (باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم) (1869) (94) . وأخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (48) ، وأبو داود (رقم 2610) ، وابن ماجه (رقم 2780 و2879) ، والنسائي في «فضائل القرآن» (85) ، وأحمد (2/6، 7، 10، 63، 76، 128) ، والحميدي (699) ، وعبد بن حميد (766، 768) ، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 592) ، وقال على إثره: «مشهور ثابت من حديث نافع» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الصغير المخوف عليه، واختلفوا في جواز السَّفر به في العسكر الكبير المأمون عليه، فقال مالك (1) : لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولم يُفَرِّق (2) . قال ابن المنذر (3) : «منع من ذلك مالك (4) ، وأحمد بن حنبل (5) ، وجاء منع ذلك عن عمر بن الخطاب (6) ، وعمر بن عبد العزيز (7) ، وقال أبو حنيفة (8) : لا بأس بذلك في العسكر العظيم. والصواب في ذلك قول مالك، ومَنْ منع مِن ذلك على كل حال، فإنَّ نَهْيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ وَقَعَ مطلقاً» . وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإني لا آمن أن يناله العدو» ، فذلك مما يمكن توقعه في   (1) انظر: «الموطأ» (ص 285 رقم 450-ط. دار إحياء التراث) ، «قدوة الغازي» (ص 170) ، «جامع الأمهات» (244) ، «النوادر والزيادات» (3/33-34) ، «الذخيرة» (3/405) ، «التفريع» (2/ 356) ، «منح الجليل» (3/153) ، «الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة» (ص 338) للرجراجي الشوشاوي، «مناهل العرفان» (1/403) . (2) المذكور بالحرف في «التمهيد» (10/43- ط. الفاروق) لابن عبد البر، وعنه ابن حجر في «الفتح» (6/134) . (3) في «الأوسط» (11/289) . (4) كما تقدم. (5) انظر: «المغني» (1/139- مع «الشرح الكبير» ) ، «المبدع» (1/176) ، «مطالب أولي النهى» (1/155) ، «كشاف القناع» (1/136) . (6) لم أظفر به عنه مسنداً، ولا وجود له في «موسوعة فقه عمر» ، ولا في «مسند الفاروق» ! (7) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/212 رقم 9411) ؛ عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو. قال: «وكتب فيه عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار» . وعبد الله بن عمر: هو العمري: ضعيف. قاله الحافظ في «التقريب» (3489) . وأسند ابن أبي داود في «المصاحف» (رقم 720) عن الحسن قال: كان يكره أن يسافر بالمصحف إلى أرض الروم. (8) انظر: «الهداية» (2/428) ، «البناية» (1/648، 5/659) ، «اللباب» (2/119) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/435 المسألة رقم 1583) ، «مختصر الطحاوي» (ص 292) ، «فتح القدير» (5/450) ، «بدائع الصنائع» (7/102) ، «إعلاء السنن» (12/ 22-23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 العسكر الكبير والصغير، وإن كان هو في الصغير أَمْكَن، فلا يقطع على السلامة في الكبير، بل قد يمكن سقوطه وإضاعته حتى يناله العدو، وإن كان عسكر المسلمين غالباً، فالعلَّة موجودة على كل حال. في لباس الحرير: هل يباح في الغزو؟ خرَّج الترمذي، وغيره (1) عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حُرِّمَ لباسُ الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحِل لإناثهم» ، قال فيه: «حسن صحيح» . وخرَّج البخاري (2) ، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّصَ لعبد الرحمن بن عوف، والزبير، في قميصٍ من حريرٍ؛ من حكَّةٍ كانت بهما. وفي رواية (3) : فأرخص لهما في الحرير، فرأيته عليهما في غزاة. واختلف أهل العلم في لباس الحرير في الحرب، فأجازته طائفة ومنعته طائفة؛ فمِمَّن أجازه: أنس، يُروى عنه أنه لبس الديباج في فزعةٍ فزعها الناس (4) ،   (1) أخرجه الترمذي في «جامعه» في كتاب اللباس (باب ما جاء في الحرير والذهب) (رقم 1720) . وقال: «هذا حديثٌ حسن صحيح» . وأخرجه النسائي في «المجتبى» (8/161، 190) ، وأحمد (4/394، 407) ، وعبد بن حميد (546) ، والطحاوي في «شرح المعاني» (4/251) . من طريق سعيد بن أبي هندٍ عن أبي موسى الأشعري. وأخرجه أحمد (5/392، 393) من طريق سعيد، عن رجلٍ من أهل البصرة، عن أبي موسى، نحوه. والحديث صحيح. انظر: «صحيح الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسِّير (باب الحرير في الحرب) (رقم 2919) . وأخرجه مسلم -أيضاً- في كتاب اللباس والزينة (باب إباحة لبس الحرير للرجل، إذا كان به حكة أو نحوها) (رقم 2076) . (3) البخاري (رقم 2920) ، ونحوه عند مسلم (2076) (26) . (4) أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (11/71 رقم 11942) بسند صحيح عن ثابت قال: رأيت أنس بن مالك يلبس رايتين من ديباج في فزعة فزعها الناس. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقال عطاء: الديباج (1) في الحرب سلاح (2) ، ورُوي إجازته عن عروة (3) ، ومحمد ابن علي (4) ، والحسن البصري (5) ، وهو قول الشافعي، وأبي يوسف (6) ، وقاله ابن الماجشون (7) ، ورواه -أيضاً- عن مالك. قال ابن الماجشون: وقد أجازه غير واحدٍ من الصحابة والتابعين، قال: وإنما أُجيزَ لما فيه من المباهاة والإرهاب على العدو؛   = وأخرج الطبراني في «الكبير» (1/240 رقم 666) عن فضيل بن كثير قال: رأيت على أنس بن مالك خزّاً أصفر. وفيه أبو ساسان، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في «المجمع» (5/144) . ونحوه عند عبد الرزاق (11/75، 76 رقم 19954، 19959، 19963) من وجهين آخرين. وانظر: «التمهيد» (14/261- ط. المغربية) ، «الاستذكار» (26/211 رقم 39287) . وأسند ابن أبي شيبة (8/164 رقم 4716) -وعنه ابن عبد البر في «الاستذكار» (26/212 رقم 39293) عن حميد قال: سئل أنس عن الحرير؟ قال: أعوذ بالله من شره، كنا نسمع أنَّ من لبسه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة. (1) الديباج: هو الثياب المتخذة من الأبريسم، فارسي معرَّب، وقد تفتح داله، ويجمع على دياييج، وديابيج بالياء والباء؛ لأن أصله: دبَّاج. انظر: «النهاية» (2/97) . (2) مذهبه في «الاستذكار» (26/207 رقم 39258) . (3) أسنده عنه عبد الرزاق (11/71، 75-76 رقم 11943، 19955) وذكر مذهبه: ابن عبد البر في «الاستذكار» (26/207) . (4) كذا في الأصل، ولعل صوابه: «الحسين بن علي» ، ومذهبه عند الطبراني، ورجاله ثقات، قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/145) . (5) مذهبه المحفوظ عنه المنع، ذكره ابن عبد البر في «الاستذكار» (26/209، 212 رقم 39272، 39273، 39295) ، وأسنده ابن أبي شيبة (8/165 رقم 4718) ، وانظر: «موسوعة فقه الحسن» (1/353) . (6) انظر في فقه الشافعية: «الأم» (1/253) ، «مختصر المزني» (ص 30) ، «منهاج الطالبين» (1/292) ، «روضة الطالبين» (2/65، 68) ، «الوسيط» (2/311) ، «الحاوي الكبير» (3/100) ، «المجموع» (4/324) ، «البيان» للعمراني (2/535) ، «نهاية المحتاج» (2/377) ، «حاشية الجمل» (3/32-ط. الكتب العلمية) . وفي مذهب أبي يوسف: «تحفة الفقهاء» (3/341) ، «اللباب» (4/157) ، «بدائع الصنائع» (5/131) ، «شرح السير الكبير» (4/194) . (7) انظر: «النوادر والزيادات» (1/227) ، «الخرشي» (1/252) ، «مواهب الجليل» (1/505) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 لما يقي عند القتال من النَّبل وغيره من السلاح (1) . ومِمَّن منع من ذلك: عمر بن الخطاب (2) ، ورُوي مثله عن ابن محيريز (3) ، وعكرمة (4) ، وابن سيرين (5) ، وهو قول أبي حنيفة (6) ، والمشهور عن مالك (7) . وأمّا اتخاذ الراية من الحرير، فلا خلاف في جواز استعمالها؛ لأن ذلك ليس من اللباس في شيء. فأما دليل من منع لباس الرجل الحرير على كلِّ حال: فعموم الحديث في تحريم ذلك على الرجال. وحديثُ الرخصة لأجل الحَكَّة، إمَّا أن يكون مختصاً بمن أباح ذلك له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون ذلك محمولاً على سبب الرخصة لا   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (1/227) ، «الاستذكار» (26/208) ، «التمهيد» (14/258) ، «مواهب الجليل» (1/505) ، «الخرشي» (1/252) . والجواز هو مذهب الحنابلة -أيضاً- عند الحاجة إليه. انظر: «المغني» (13/306-307- ط. هجر) . (2) يظهر مذهبه في غير ما قصة ثابتة عنه، انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (8/356) ، «مصنف عبد الرزاق» (11/78 رقم 19970، 19972) ، «التمهيد» (14/257-258) ، «الموطأ» (571) : كتاب اللباس: (رقم 18) ، «صحيح البخاري» (5841) ، «صحيح مسلم» (2068) . (3) مذهبه في «التمهيد» (14/258) ، «الاستذكار» (26/208) . (4) مذهبه في «مصنف ابن أبي شيبة» (8/356) ، «التمهيد» (14/258) ، «الاستذكار» (26/208) . (5) مذهبه في «مصنف ابن أبي شيبة» (8/356) ، «التمهيد» (14/258) ، «الاستذكار» (26/ 208) . (6) انظر في مذهب الحنفية: «مختصر الطحاوي» (431 و438) ، «تحفة الفقهاء» (3/341) ، «بدائع الصنائع» (5/131) ، «اللباب» (4/157) ، «تبيين الحقائق» (6/14) . وجوَّزوا لباس ما كان لحمته حريراً، وسداه غير حرير في الحرب. (7) ذكر ابن حبيبٍ عن مالكٍ جواز لبس الحرير في الحرب، وتعقبه ابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (1/227) ؛ فقال: «ليس بمذهب مالك» . وانظر: «الاستذكار» (26/208، 210) ، «التمهيد» (14/256، 257) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يُتَعَدّى به عِلَّة الحَكَّة (1) ، وليس أمر الحرب في شيءٍ من ذلك (2) ، وهذا هو الأرجح. ومستند من أباحهُ في الحرب: قياسهم موطنَ الحرب للضرورة إلى المباهاة والإرهاب، ولأن فيه قوةً، ودفعاً (3) للسهام ونحوها، كما قال عطاء في الديباج: «إنه في الحرب سلاح» ، فقاسوا هذا على الرُّخصةِ في حديث أنس، بِعلَّةِ أنه يَدْفَعُ من ضرر الغزو، إما بالإرهاب، وإما بكونه من السِّلاح مما هو أشدُّ من ضرر الحكَّة (4) . ما جاء في الأمر بالدعوة قبل القتال قال الله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، وقال -تعالى-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45-46] .   (1) الأصح عدم التخصيص، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى، تعدّت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى، إذ الحكم يعم بعموم سببه، فلا دليل على التخصيص، وهو على خلاف الأصل، أفاده ابن القيم في «زاد المعاد» (4/77) . (2) تحريم الحرير إنما كان سدّاً للذريعة، لهذا أبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع، فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، أفاده ابن القيم -أيضاً-، ولذا قال النووي في «المجموع» (4/329) : «لو خاف المرء على نفسه من حرٍّ أو برد أو غيرهما، ولم يجد إلا ثوب حرير، جاز لبسه بلا خلاف للضرورة، ويلزمه الاستتار به عن عيون الناس إذا لم يجد غيره بلا خلاف» . (3) في الأصل: ودَفْعٌ. (4) قال القاضي بدر الدين بن جماعة في كتابه «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» (ص 124) : «والديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح، يجوز لبسه في الحرب خاصة، وإذا ادعت إليه ضرورة ولم يجد غيره: كخوف الهلاك؛ من شدّة بردٍ، أو مفاجأة حرب، أو حصول حكة في جسده» . قلت: وإباحته في الحرب إن كان غيره لا يقوم مقامه؛ هو الصواب. ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: «مجموع الفتاوى» (28/27) ، «مختصر الفتاوى المصرية» (318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 خرَّج البخاري (1) ، عن سهلٍ، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: «لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ، فبات الناس ليلتهم: أيهم يُعطى، فغدوا، كُلُّهم يرجوه، فقال: «أين عليٌّ؟» ، فقيل: يشتكي عَيْنَيْهِ، فبصق في عينيه، ودعا له؛ فبرأ، كَأَنْ لم يكن به وَجَعٌ، فأعطاه، فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «اُنْفُذْ على رِسْلِكَ حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأَنْ يَهْدِيَ الله بك رجلاً، خيرٌ لك من أن تكون لك حُمْرُ النَّعمَ» . وخرّج مسلم (2) عن ابن عونٍ قال: كَتبتُ إلى نافعٍ أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إليَّ: إنما كان ذلك في أول الإسلام؛ قد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارُّون، وأنْعامُهم تُسقى على الماء، فقتلَ مُقَاتَلَتَهُمْ، وسبَى سَبيهم، وأصاب يومئذٍ جُويرية بنت الحارث. حدثني هذا الحديث: عبد الله بن عمر -وكان في ذلك الجيش-. فتضمَّن ظاهرُ القرآن، ونصُّ حديث سهلٍ الأمْرَ بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وجاء في حديث ابن عمر مباغَتَتُهم، والإغارةُ عليهم، وهم غارُّون، فوجب أن يرجع ذلك إلى اختلافِ أحوال الكُفّار، فيمن كان قد علِمَ بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما يقاتلهم عليه، داعياً إلى الله -تعالى-، وإلى دين الإسلام، أو كان لم يعلم شيئاً من ذلك، والدليل على ذلك قوله في الحديث: «إنما كان ذلك في أول الإسلام» ، يعني: دعاءهم قبل القتال، حيثُ كانوا جاهلين بأمرِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأحوالُ الكفار لا   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسِّير (باب فضل من أسلم على يديه رجلٌ) (رقم 3009) . وأخرجه -أيضاً- (رقم 2942، 3701، 4210) ، ومسلم (2406) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، من غير تقدم الإعلام بالإغارة) (1730) . وأخرجه البخاري في كتاب العتق (باب من مَلَكَ من العَربِ رقيقاً، فوهبَ وباعَ وجامعَ وفدَى وسبَى الذرية) (رقم 2541) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 تخلو من هذين الوجهين، فأمَّا مَنْ عُلِمَ، وتُحقِّق أنّه لم تبلغه دعوة الإسلام، ولا عُلِمَ ماذا يراد منه بالقتال، فلا خِلافَ (1) يُعرفُ أنه يجبُ أن يُدعَى قبلُ إلى الإسلام، ويعلم بما يجب في ذلك، فإن امتنعوا قوتلوا حينئذٍ. وأمّا من عُلِمَ أن الدعوة قد بلغتهم قَبْلُ، وعرفوا مايراد منهم، فهذا موضِعٌ اختلف فيه أهل العلم، فَرُوِيَ عن عمر بن عبد العزيز أنه أمرَ أن يُدعوا قبل أن يقاتلوا (2) ، وكذلك رَوَى ابن القاسم عن مالكٍ (3) أن يُدْعوا، ورُوي عنه -أيضاً- خلافُ ذلك (4) . قال ابن المنذر (5) : «وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يُدعوا، قالوا: قد   (1) حكى الإجماع في هذه الحالة غير واحد، انظر: «المبسوط» (10/6) ، «بداية المجتهد» (1/ 389) ، «المعونة» (1/604) ، «روضة الطالبين» (10/239) ، «كشاف القناع» (2/369) ، «رحمة الأمة» (292) . وينبّه هنا على أمرين مهمين: الأول: في حالة معالجة الكفار، فإنهم يقاتلون في هذه الحالة من غير دعوة، لضرورة الدفاع، أفاده غير واحد، انظر: «المدونة» (2/2) ، «المعونة» (1/604) ، «الذخيرة» (3/403) ، «زاد المعاد» (2/369) . الآخر: ذكر الشوكاني في «النيل» (7/231) ، والصنعاني في «سبل السلام» (4/89) أن دعوة الكفار قبل القتال لا تجب مطلقاً، ذكراه على أنه قول، ولم يعزياه لأحد، وقال النووي عنه في «شرح صحيح مسلم» (11/280) : «إنه باطل» . (2) انظر: «البيان والتحصيل» (3/83) ، «النوادر والزيادات» (3/41) . (3) كما في «المدونة» (1/496) . وانظر: «البيان والتحصيل» (3/83) ، «النوادر والزيادات» (3/41) ، «المعونة» (1/604) ، «جامع الأمهات» (244) ، «عقد الجواهر» (1/468) ، «الذخيرة» (3/402) ، «حاشية الدسوقي» (2/ 176) ، وغيرها. (4) يمكن أن يقال: إنهم فرقوا بين من يُطمع في استجابته فتجب دعوته، ومن لا يُطمع في استجابته فلا تجب دعوته، انظر: «أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله» (1/341) . (5) لعله في «الأوسط» في القسم المفقود منه، أو في القطعة المفقودة من كتابه: «الإشراف» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بلغتهم الدعوة، هذا قول الحسن البصري، وإبراهيم النَّخعيِّ، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والليث بن سعدٍ، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثورٍ، والنعمان؛ وأصحابه (1) » . قال: «واحتجَّ الليثُ بن سعدٍ، والشافعيُّ بقتل كعب بن الأشرف (2) ، واحتج الشافعيُّ -أيضاً- بقتل ابن أبي الحُقيق (3) ، واحتجَّ الليثُ بقتل الذي قتله عبد الله   (1) انظر في مذهب الحنفية: «مختصر الطحاوي» (ص 281) ، «شرح السير الكبير» (1/57) ، «النتف في الفتاوى» للسِّغدي (ص 709) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/425 رقم 1575) ، «المبسوط» (10/6) ، «اللباب» (4/116) ، «الهداية» (2/427) ، «تحفة الفقهاء» (3/ 294) ، «بدائع الصنائع» (7/100) ، «فتح القدير» (5/ 144) ، «إعلاء السنن» (12/15) . وفي مذهب الشافعية: «المهذب» (2/231) ، «روضة الطالبين» (10/239) ، «المجموع» (21/144) ، «البيان» للعمراني (12/120-121) ، «الإقناع» لابن المنذر (2/459) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (3- تحقيق يوسف شخت) ، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (172) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/30) ، «كشاف القناع» (2/369) . ومذهب الحسن البصري: أخرجه عنه ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/362 رقم 14007، و365 رقم 14014) ، وابن زنجويه في «الأموال» (رقم 1180) . ومذهب أبي ثور، نقله الطبري في «اختلاف الفقهاء» (ص 3) ، وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 771-772) . ومذهب النخعي في «مصنف عبد الرزاق» (5/217) ، «الخراج» (191) ، «الآثار» (144) ، وانظر: «موسوعة فقه إبراهيم النخعي» (2/169) . ومذهب يحيى بن سعيد في «الذخيرة» (3/402) . وانظر: «الخراج لأبي يوسف» (ص 228) ، «الاعتبار» (ص 211) . (2) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب: المغازي (باب قتل كعب بن الأشرف) (رقم 4037- مطولاً، ورقم 2510 و3031 و3032 - مختصراً) . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير (باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود) (1801) . (3) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب قتل النائم المشرك) (رقم 3022 و3023) . وفي كتاب المغازي (باب قَتْل أبي رافع عبد الله بن أبي الحُقيق) (رقم 4038 - مختصراً، 4039 و4040- مطولاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ابن أُنيسٍ (1) » . قال ابن المنذر: هو سفيان بن نُبيح، وقال غيره: خالد بن نُبيح. قال: وكان الشافعي، وأبو ثورٍ، يقولان: فإن كان قومٌ لم تبلغهم الدعوة، ولا عِلْمَ لهم بالإسلام، لم يقاتلوا حتى يُدعوا إلى الإسلام. قال ابن المنذر: «وكذلك نقول» . قلت: وهو الذي يشهد له الجمع بين الأحاديث في ذلك، ويعضده (2) النظر. قال أبو الحسن اللَّخْمي (3) في دعاء من قد بلغته الدعوة: ذلك على أربعة أوجه: واجبة، ومستحبة، ومباحة، وممنوعة، فأمًّا الجيوش العظام؛ تنزل بمن يرى أنه لا طاقة لهم بقتالهم، ويغلب على الظن؛ أنهم مَتَى دُعوا إلى الإسلام، أو إلى الجزية؛ أجابوا، وقد يجهلون ويظنون أنهم لا يقبل ذلك منهم الآن؛ لِمَا تقدَّمهم من تأخرهم عن دخولهم في الإسلام، فالدعوة واجبة، وإن كانوا عالمين بقبول ذلك منهم، ولا يغلب على الظنّ إجابتهم، كانت الدعوة مستحبة، وإنْ لم تُرجَ إجابتهم؛ كانت مباحة، وإن كان المسلمون قلَّة، ويخشى أن يكون في ذلك إنذار بالمسلمين، وأخذهم لحذرهم؛ كانت ممنوعةً، وهذا تقسيمٌ حسنٌ، ووجوهه ظاهرة، وعلى حسب هذا الاعتبار ذكر في جواز التَّبييت. قال: ذلك على ثلاثة أوجه: فمن كان تجب دعوته لا يجوز تَبْييتُهُ، ومن لا تجب وتستحب مع ذلك دعوته؛ كره تبييته، ومن كانت الدعوة مباحةً فيهم؛ كان التبييت جائزاً، إلا أن يُخشى على المسلمين إذا دخلوا ليلاً من جهلٍ بالبلد، وخَوفِ ما عسى أن يؤتى عليهم منه، وكل هذا قول صحيح حسن، وقد أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبييت فيمن بلغتهم الدعوة.   (1) سيأتي تخريجه مطولاً. (2) رسمها في الأصل: «ويعظمه» وأثبتها أبو خبزة: «ويعطيه» . (3) كلامه في «الذخيرة» (3/403) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 خرَّج مسلم (1) ، عن الصَّعب بن جثَّامة قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يُبَيَّتون، فيصيبون من نسائهم وذَراريِّهم، فقال: «هُمْ منهم» . وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفراً من الأنصار إلى ابن أبي الحُقَيْق وإلى كعب ابن الأشرف، فَهجَموا عليهما بالقتل في بيوتهما بخيبر (2) ، وكذلك بعث عبد الله ابن أنيس الجُهني من المدينة إلى ابن نُبيح الهذلي، فاغتاله بالقتل، وهو بِعُرنَة من جبال عرفات (3) . فدلَّ ذلك كلُّه على جوازه فيمن بلغته الدعوة.   (1) في كتاب الجهاد والسير (باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد) (1745) . وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (باب أهل الدار يبيتون، فيصلب الولدان والذراري) (رقم 3012) . (2) مضى تخريجه. (3) أخرجه أحمد في «المسند» (3/496) قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أُنَيس عن أبيه عبد الله بن أُنيس به مطولاً -وفيه قصَّةٌ-. قلت: ابن عبد الله بن أنيس: هو عبد الله بن عبد الله بن أنيس، كما جاء مبيناً من رواية محمد بن سلمة الحرَّاني، عن محمد بن إسحاق، عند البيهقي -كما سيأتي-. ترجم له البخاري في «التاريخ» (5/125) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/90) ، وابن حبان في «الثقات» (5/37) ، ولم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً. فهومجهول. فهذا الإسناد ضعيف، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، غير أن محمد بن إسحاق روى له البخاري تعليقاً، ومسلم متابعةً، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد المذكورة. ويعقوب: هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. وأخرجه أبو يعلى (905) ، وابن خزيمة (983) ، وابن حبان (7160) ؛ من طريق يعقوب بن إبراهيم، بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في «دلائل النبوة» (445) ؛ من طريق أحمد بن محمد بن أيوب، عن إبراهيم ابن سعد، به. وأخرجه أبو داود (1249) (مختصراً) ، وصححه ابن خزيمة (982) ؛ من طريق عبد الوارث، عن محمد بن إسحاق، به. وحسّن الحافظ إسناد أبي داود في «الفتح» (2/437) . وضعّفه شيخنا الألباني في «ضعيف سنن أبي داود» لجهالة ابن عبد الله بن أنيس -كما مضى-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وإذا توجه القتال فيمن لا تجب دعوتهم، إما لأنهم عالمون بدعوة الإسلام،   = وأخرجه البيهقي في «السنن» (3/256) ، وفي «الدلائل» (4/42) ؛ من طريق محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله يعني ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه عبد الله بن أنيس، به. وهو في «سيرة ابن هشام» (2/619-620) ؛ عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، -غير أنه سقط من إسناده ابن عبد الله بن أنيس-، به. وأخرجه بنحوه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2031) عن يعقوب بن حميد، عن عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن كعب قال: قال عبد الله بن أُنيس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً: «من لي من خالد ... » ، وهذا إسناد منقطع، محمد بن كعب -وهو القرظي- لم يدرك عبد الله بن أنيس. وأخرجه -مختصراً جداً- ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2032) ، وأبو يعلى في «مسنده» (2/203 رقم 906) ، والبغوي في «معجم الصحابة» (4/68 رقم 1606) ؛ عن صلت بن مسعود الجحدري، عن يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس، حدثني عمي الحسن بن يزيد، عن عبد الله بن أنيس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه سرية وحده. والحسن بن يزيد: مجهول. سئل أبو زرعة عنه فقال: «لا أعرفه» . انظر: «الجرح والتعديل» (1/2/42 رقم 178) ، «لسان الميزان» (2/480) . ووقع في مطبوع «معجم الصحابة» يحيى بن عبد الله بن يزيد، (عن) عبد الله بن أنيس -بإسقاط الحسن بن يزيد-، والصواب (ابن) عبد الله بن أنيس. وأورده الهيثمي في «المجمع» (6/203) وقال: «رواه أحمد، وأبو يعلى؛ بنحوه، وفيه راو لم يُسمَّ، وهو ابن عبد الله بن أنيس، وبقية رجاله ثقات» . وفي الباب عن عروة -مرسلاً- عند البيهقي في «الدلائل» (4/40) ، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أنيس ... وعن موسى بن عقبة عند البيهقي في «الدلائل» (4/40-41) - مرسلاً، قال: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أُنيس السلمي. وأشار إلى رواية موسى بن عقبة: ابن سيد الناس في «عيون الأثر» (2/55) ، وأبو نعيم في «الدلائل» (451) ، وابن كثير في «التاريخ» (4/141) ، والصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (6/36) . وعن موسى بن جُبير، عند الواقدي في «المغازي» (2/531) . وانظر: «المواهب اللدنية» (2/ 473) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أو لأنهم تُقُدِّم إليهم بالدعوة فلم يجيبوا؛ لم يُؤذنوا بحرب، بل تستعمل معهم المكيدة، والمكر، والخديعة الجائزة في الحرب، ولا يعلمون بوقت الهجوم عليهم؛ لأنه أنكى لهم وأبلغُ في عقوبتهم والنَّيلِ منهم، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببني المصطلق على ما في حديث ابن عمر (1) . وفي كتاب مسلم (2) ، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحرب خُدعة» . وفي البخاري (3) ، عن كعب بن مالك، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَلَّمَا يريد غزوة يغزوها؛ إلا ورَّى بغيرها. * مسألة: صفة الدعوة: أن يَعرِضَ عليهم الإقرارَ لله -تعالى- بالإلهية والوحدانية، إن   (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب العتق (باب من مَلَك من العرب رقيقاً، فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية) (رقم 2541) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، من غير تقدم الإعلام بالإغارة) (1730) . وفي مسألة اشتراط الدعاء قبل القتال خلاف -على ما ذكر المصنف-. قال الحافظ في «الفتح» (6/108) : «وهي مسألة خلافية: فذهب طائفةٌ منهم: عمر بن عبد العزيز، إلى اشتراط الدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وذهب الأكثر إلى أن ذلك كان في بَدْء الأمر قبل انتشار دعوة الإسلام، فإن وُجِد من لم تبلغه الدعوة، لم يقاتل حتى يُدعى، نصَّ عليه الشافعي. وقال مالك: من قربت داره؛ قوتل بغير دعوة؛ لاشتهار الإسلام، ومن بَعدت داره؛ فالدعوة أقطع للشَّك» ا. هـ. قلت: وكلام المصنّف في المسألة قويٌّ متّجهٌ. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز الخداع في الحرب) (1739) . وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (باب الحرب خدعة) (رقم 3030) كلاهما من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري (رقم 3028 و3029) ، ومسلم (1740) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وضبطت (خَدْعة) بفتح الخاء المعجمة وبضمها مع سكون المهملة فيهما، وبضم أوله وفتح ثانيه، قال النووي: اتفقوا على أنّ الأولى أفصح، انظر: «فتح الباري» (6/158) . (3) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب من أراد غزوةً فورَّى بغيرها، ومن أحبَّ الخروج يوم الخميس) (رقم 2948) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 كان كُفْرُهم تعطيلاً أو شركاً، وبإثباتِ النبوة والرسالة لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على كل أنواع الكفر، من كان منهم يُقرّ لله، أو يُشركُ، أو يُعطِّل، والإيمانَ بجميع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، وإبطالَ كل ما خالفه، فإذا هم أقرُّوا بذلك، صحَّ إيمانهم، ووجب الكَفُّ عنهم، فمن أبى بعد ذلك عن التزامٍ بشيءٍ من فروع الشريعة في حدود الإسلام، فإن كان جَحْداً؛ فهو ارتدادٌ، يُقتل على كل حال، إلا أن يُراجع الإسلام، وإن كان مقرًّا بثبوته ثم لا يفعله؛ فهو فاسق، وأحكام عقوبته تختلف بحسب الفرع الذي يترك. وأما إن أبَوْا من قبول الإسلام على ما وصفناه، فمن كان منهم من أهل الكتاب: اليهود، والنصارى، أو المجوس؛ دُعوا إلى أداء الجزية بلا خلاف، فإن أجابوا إلى ذلك -على الشروط التي نذكرها إن شاء الله في (باب الجزية) -، قُبِل منهم، وحَرُمَ قتالهم، وكذلك لو كانوا هم الذين سألوا قبول ذلك منهم، وَجَبَتْ إجابتهم والكفّ عنهم، فإن لم يجيبوا إلى شيءٍ من ذلك، فقد وجب السَّيف. وأمَّا إن كانوا من غير أهل الكتاب: اليهود، والنصارى، والمجوس، ففي قبول الجزية منهم خلاف؛ فمن رأى أنها تؤخذ منهم عَرَض ذلك -في الدعوة- عليهم، ومن لم يُجز قبول ذلك إلا من أهل الكتاب؛ لم يعرضه عليهم، ولم يجبهم إليه إن سألوه. والدليل على صحة ذلك كلِّه: ما خرَّجه مسلم (1) ، عن بُريدة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميراً على جيش أو سريَّة، أوصاه في خاصَّته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفرَ بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدُروا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تَقْتُلوا وَليداً، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو: خلال- فأيَّتهنَّ ما أجابوكَ فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسيّر (باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بأدابِ الغزو وغيرها) (1731) (3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 عنهم، ثم ادعهم إلى التَّحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا عنها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أَبَوا؛ فاسألهم (1) الجزية، فإن هم أجابوكَ فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، فإن هُم أَبَوا؛ فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرتَ أهل حصنٍ، فأرادوك أن تجعل لهم ذِمَّة الله وذمَّة نبيه، فلا تجعل لهم ذِمَّة الله ولا ذمَّة نبيه، ولكن اجعل لهم ذِمَّتك وذِمَّة أصحابك، فإنكم إن تُخْفِرُوا ذِممكم وذمَّة (2) أصحابكم، أهون من أن تُخفروا ذمَّة الله وذمَّة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصنٍ، فأرادوك أن تُنْزلهم على حكم الله، فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أو (3) لا» (4) . *****   (1) كذا في الأصل، وفي «صحيح مسلم» : فَسَلْهُمْ. (2) كذا في الأصل، وفي «صحيح مسلم» : ذِمَمَ. (3) كذا في الأصل، وفي «صحيح مسلم» : «أم لا» . (4) انظر في مسألة (صفة الدعوة) : «الذخيرة» (3/404) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الباب الرابع في وجوب الثبوت والصبر عند اللقاء، وحكم المبارزة، وما يحرم من الانهزام، وهل يباح الفرار إذا كثر عدد الكفار؟ قال الله -عز وجل-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46] . قد جمعت هاتان الآيتان من الأمر والنهي، في الوجوب والحَظْر، وآداب القيام بالحرب؛ ما هو العُمدة، ونظام الأركان، وسبب النَّصر والفوز بالأجر. أمر -سبحانه- بالثبوت والصبر، وهو مدَدُ الظفر والنَّصر، وبالإكثار من ذكر الله -تعالى- هنالك؛ حتى لا يغفل في عمله وجهاده عن تعاهد إرادة وجه ربِّه -سبحانه-، وفي ذلك دَرْكُ الفوز، وجماع البركة والخير (1) ، قيل: ويكون الذكر هناك بالنيِّة والقول؛ لأن رَفْعَ الصوت في موطن القتال مكروه، قيل: إلا عند الحملة الجامعة، يُراد بها استئصال قوة العدو، وقد يكون في ذلك تَزيُّدُ الإرهاب على العدو، واستجماعٌ لعزائم أهل الحملة. ثم أمرَ تعالى بالتزام طاعته، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك ملاكُ الأمر في العمل، وقوام الحكمة بطاعة الإمام في مواطن الحرب، ونهى -سبحانه- عن التنازع والخلاف، وهما سَبَبُ الفشل واختلال الأمر لا محالة، كما أعلم سبحانه في الآية، وقال الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .   (1) انظر: «الوابل الصيب» (ص 90- ط. الفرقان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قال الحسن وقتادة وغيرهما: معناه: مصابرة العدو، يعني: في الثبوت، إذا صبرَ هؤلاء، وصَبَر هؤلاء، ورابطوا أعداء الله في سبيله (1) . {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ، أي: لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى. وفي «الصحيحين» (2) ؛ البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَمنَّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا» . وفي «كتاب مسلم» وأبي داود، عن عبد الله بن أبي أوفى، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، قال: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنَّ الجنة تحت ظلال السيوف» (3) . فالثبوت في اللِّقاء، والصَّبر عند المسايفة فرضٌ مؤكدٌ بالقرآن والسنة والإجماع، إلا شذوذاً من الخلاف، لا وجْهَ له، نذكره بعد هذا -إن شاء الله تعالى-. وفي هذا الحديث: النهي عن تمنِّي لقاء العدو، وذلك مما يشكل في الظاهر؛ أن يقال: كيف يُنهى عن ذلك مع كون الجهاد طاعةً مأموراً بها، والطاعات يُثاب   (1) أخرجه ابن جرير في (3/221- ط. دار الفكر) ، وابن أبي حاتم (3/847 رقم 4690) ، وابن المنذر (رقم 1291، 1295) ، وعبد بن حميد (ق 101- «المنتخب» ) في «تفاسيرهم» . وانظر: «الدر المنثور» (2/417-418) . وقد مضى هذا الأثر عن الحسن وقتادة. (2) علَّقه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب لا تمنّو لقاء العدو) (رقم 3026) . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير (باب كراهة تمني لقاء العدو) (1741) (19) - مطولاً. (3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (باب لا تمنوا لقاء العدو) (3025) . و (باب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار أخّر القتال حتى تزول الشمس) (رقم 2966) . ومسلم في كتاب الجهاد والسير (باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء) (1742) (20) . وأبو داود في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في كراهية تمني لقاء العدو) (رقم 2631) . وأخرجه البخاري في مواطن متفرقة مختصراً، مقتصراً على بعض ألفاظ الحديث دون بعض (2818، 2833، 2965، 3024، 3026، 4115، 6392، 7237، 7489) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 على إرادتها وتَمنِّيها؟! فقيل: يحتمل أن يكون النهي عن ذلك لما يتقى وقوعه مع حالة التمني من إضاعة الحزم، وترك الإعداد للعدو، إذ يكون مع التمنِّي استسهالٌ للأمر، وتهاونٌ بالعدو، وتركٌ للحذر، وفي ذلك ضررٌ كبير، هذا معنى ما ذكره المازري في «المُعْلِم» (1) ، ولا يبعد عندي أن يقال: إنما نُهي عن ذلك؛ لأن لقاءَ العدو شِدَّة ومكروه ينزل به، وهو محلُّ ابتلاءٍ من الله -تعالى- وامتحانٌ للعبد، قال -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] ، وإذا كان كذلك، لم يؤمن أن يكون ثمَّ تَقْصيرٌ أو خذلانٌ ببعض ذنوبه، وعجزٌ عن القيام بواجب حقوقه، فقد يَفِرُّ ولاَ يصبر، وفي ذلك شقاؤه، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] . ثم هذا ليس من تمني الطاعات في شيء، إنما هو تمني المكاره، ليكون منه عليها صَبرٌ بزعمه، وذلك ما لا ينبغي أن يفعله أحد، هذا مع ما في تمنِّي ذلك من الاغترار، ومُشَاكَهةِ (2) أحوال البغي، وذلك مكروهٌ -أيضاً- (3) . رُوِي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال لابنه: يا بُنَيَّ، لا تَدعونَّ أحداً إلى المبارزة، ومن دعاك إليها فاخرج إليه؛ لأنه باغٍ، والله -تعالى- قد تضمَّن نصرَ من بُغي عليه (4) .   (1) «المُعلم بفوائد مسلم» لأبي عبد الله المازري (3/11 رقم 797) . (2) شاكَهَهُ مشاكهةً وشكاهاً: شابَهَهُ، وشاكَلَهُ، وقارَبَه. وتشاكها: تشابها. انظر: «القاموس المحيط» (ص 1124- ط. دار الفكر) . (3) قال الإمام النووي في «شرح صحيح مسلم» (12/68- ط. مؤسسة قرطبة) ما نصُّه: «إنما نَهَى عن تمني لقاء العدو، لما فيه من صورة الإعجاب، والاتكال على النفس، والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي، وقد ضمن الله لمن بُغي عليه أن ينصره، ولأنه يتضمن قلّة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهنا يخالف الاحتياط والحزم» ا. هـ. (4) ذكره ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/210) معلقاً عن العتبي عن أبيه قال: قال علي ... وذكره. وهذا إسناد تالف. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فَلِمِثْلِ هذا المعنى يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، ألا تَرَى إلى قوله: «واسألوا الله العافية» ، أي: لا تتمنوا المكاره، وأنتم لا تعلمون ما يؤول أمركم إليه فيها، ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - بالصَّبْر إذا وقع الابتلاء بذلك من الله -تعالى-، فذلك هو المنجاة والفوز في الآخرة والدنيا، فهذا وجهٌ ظاهرٌ حسنٌ، هو عندي أرجحُ وأَولَى وأَبْيَنُ في حملِ الكلام على هذا المعنى، والله أعلم. في دواعي الصبر والتفويض، وما يستحب من الشجاعة ويُذمُّ من الجُبن قال الله -تعالى-: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 51-52] ، وقال -تعالى-: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] ، وقال -تعالى-: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] ، وقال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] . خرَّج مسلم (1) ، عن أنسٍ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناس، وكان أجودَ الناس، وكان أشجعَ الناس، ولقد فزع أهلُ المدينة ذات ليلة، فانطلق ناسٌ قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرسٍ لأبي طلحة عُرْيٍ، في عُنقه السيف، وهو يقول: «لم تُراعوا، لم تُراعوا» . قال: «وجدناه بَحْراً -أو: إنه لَبَحْر-» . قال: وكان فرساً يُبَطَّأ.   = وهو -بغير إسناد- في «العقد الفريد» (1/94) . (1) في «صحيحه» في كتاب الفضائل (باب في شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدمه للحرب) (2307) (48) . وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (باب الشجاعة في الحرب والجبن) (رقم 2820) . و (باب الحمائل وتعليق السيف بالعنق) (رقم 2908) . و (باب إذا فزعوا بالليل) (رقم 3040) . وفي كتاب الأدب (باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل) (6033) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 البخاري (1) ، عن أنسٍ، [قال] : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر» . أبو داود (2) ، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «شَرُّ ما في رجلٍ: شُحٌّ هالعٌ (3) ، وجُبْنٌ خالعٌ (4) » . وفي «كتاب مسلم» (5) في حديث عباسٍ عن يوم حنين، قال: ... ، فلمَّا التقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مُدبرين، فَطَفِق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرْكِضُ بَغْلَتَه قِبَلَ الكفار ... الحديثُ. وفيه (6) في بعض طرق الحديث عن يوم حُنين، قال البراء: كُنّا والله إذا احمَّر البأسُ نتَّقي به، وإن الشجاع منَّا الَّذي يُحاذى به -يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - -.   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (رقم 2823) . وأخرجه بنحوه (رقم 4707، 6367، 6371) . وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء (باب التعوذ من العجز والكسل وغيره) (2706) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الجرأة والجبن) (رقم 2511) من طريق موسى بن عُلَيّ بن رباح، عن أبيه، عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (2/302، 320) ، وعبد بن حُميد (1428) ، وابن أبي شيبة (9/98) ، وإسحاق ابن راهويه (341) ، والجصاص في «أحكام القرآن» (1/228) ، وابن حبان (3250) ، والبيهقي (9/ 170) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/50) من طرقٍ عن موسى بن عُليٍّ، به، وأورده البخاري من طريق موسى بن علي في «التاريخ الكبير» (6/8-9) . وإسناده لا بأس به. وقد صححه شيخنا الألباني في «صحيح أبي داود» ، و «السلسلة الصحيحة» (560) . (3) هالع: أشدّ الجزع والضجر، انظر: «النهاية» (5/269) . (4) الخالع: أي الشديد، كأنه يخلع فؤاده من شدّة خوفه، وهو مجاز في (الخَلْع) ، والمراد به ما يعرض من نوازع الأفكار وضعف القلب عند الخوف، انظر: «النهاية» (2/64) . (5) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب في غزوة حنين) (1775) (76) . (6) مسلم (1776) (79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وروى أبو عبيد (1) ، عن علي -رضي الله عنه- قال: كُنَّا إذا احمرَّ البأسُ اتَّقينا   (1) في «غريب الحديث» (3/479- ط. دار الكتاب العربي) ؛ قال: حدثنيه أبو النضر، عن أبي خيثمة، عن أبي إسحاق -هو: السبيعي-، عن حارثة بن مضرب، عن علي. وأخرجه بهذا اللفظ نحوه: أحمد في «المسند» (1/156) ، والنسائي في «الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (7/357) -، وأبو يعلى في «المسند» (1/258رقم 302) ، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (رقم 104) ، وابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» (ص34) ، والحاكم في «المستدرك» (2/143) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/258) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (2/924/ 2655) -ومن طريقه أبو محمد البغوي في «معالم التنزيل» (1/205- ط. دار الفكر) ، وفي «شرح السنة» (13/257 رقم 3698) -، وابن أبي شيبة في «مسنده» -كما في «إتحاف الخيرة المهرة» (9/91 رقم 8622) -، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» -كما في «بغية الباحث» (942) ، و «إتحاف الخيرة» -، والطيالسي -كما في «الإتحاف» (رقم 8621) - من طرقٍ عن أبي إسحاق السبيعي، به. وأبو إسحاق السبيعي، وثقه: أحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي، وأبو حاتم، وغيرهم. وقال جرير عن مغيرة: ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق، والأعمش، وتعقبه الذهبي بقوله: لا يسمع قول الأقران بعضهم في بعض. وقال ابن الصلاح: «اختلط» ، ونفى ذلك الذهبي، فقال: «شاخَ ونسيَ ولم يختلط» . وقال ابن حجر: ثقة عابد، اختلط بأخرة. وقال في: «طبقات المدلسين» : مشهور بالتدليس، وهو تابعي ثقة، وصفه النسائي، وغيره بذلك. انظر: «الثقات» للعجلي (ص 366) ، و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (6/242) ، و «علوم الحديث» لابن الصلاح (ص 353) ، و «السير» (5/392) ، والميزان (3/270) ، كلاهما للذهبي، و «التقريب» (ص 403) ، و «الكواكب النيرات» (ص 341) ، و «تعريف أهل التقديس» (ص 101) . قلت: قد صرَّح بالسماع، كما في رواية الطيالسي. فحديثه حسن -إن شاء الله-، ويشهد له حديث البراء -وقد مضى قبله-. وقال علي -رضي الله عنه-: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشدِّ الناس بأساً» . أخرجه أحمد (1/86 و126) ، وابن أبي شيبة (12/233 و14/357 و358) -وعنه ابن أبي عاصم في «الجهاد» (رقم 251) -، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (رقم 103) ، وأبو يعلى في «المسند» (1/329 رقم 412) ، وابن سعد في «الطبقات» (2/23) ، والطبري في «التاريخ» (2/426) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (1/324 و3/69) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/258) ؛ من طرقٍ عن أبي إسحاق، به. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن أحدٌ مِنّا أقربَ إلى العدوِّ منه. وفي البخاري (1) ، عن جابر بن عبد الله، أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العِضَاه، فتَفرَّقَ الناس في العِضاه، يَسْتَظلون بالشجر، فنزل رسول الله تحت شجرة، فعلَّق بها سَيْفَه، ثم نام، فاستيقظ، ورَجلٌ عنده، وهو لا يشعر به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ هذا اخترَطَ سيفي، فقال: من يمنعك؟ قلت: الله، فَشَامَ السَّيْفُ، فها هو ذا جالسٌ» . ثم لم يعاقبه. وفي «الموطأ» (2) عن مالكٍ، عن يحيى بن سعيد، أنَّ عمر بن الخطاب قال:   = وقوله: «احمَرَّ البأس» ، أي: اشتد الحرب. يقال: موت أحمر، أي: شديد. وقوله: «اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -» ، أي: جعلناه واقيةً لنا من العدو. انظر: «شرح السنة» (13/258) . (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة، والاستظلال بالشجر) (رقم 2913) . وأخرجه في كتاب الجهاد والسير (باب من علّق سيفه بالشجر في السّفر عند القائلة) (رقم 2910) . وأخرجه (رقم 4134، 4135، 4136) ، ومسلم (843) . (2) في كتاب الجهاد (باب ما تكون فيه الشهادة) (ص 294 رقم 527- ط. دار إحياء التراث) . وأخرجه ابن أبي شيبة (8/520) ، وابن المرزبان في «المروءة» (رقم 15- مطولاً، ورقم 13، 14، 16، 17- مختصراً) -وكما في «كنز العمال» (3/789 رقم 8765) -، والبيهقي في «الكبرى» (10/195) ، و «الشعب» (4/160 رقم 4658) . وقال: هذا الموقوف إسناده صحيح. وقد روي عن سمرة بن جندب، مرفوعاً: «الحسب المال، والكرم التقوى» . أخرجه أحمد (5/10) ، وابن ماجه (4219) ، والترمذي (3271) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 190) ، وابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» (4) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (229) ، والطبراني في «الكبير» (6912 و6913) ، والدارقطني (3/302) ، والحاكم (2/163 و4/325) ، والبيهقي في «الكبرى» (7/135-136) ، والبغوي في «شرح السنة» (3545) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (21) ؛ من طرقٍ عن قتادة، عن الحسن -وهو: البصري-، عن سمرة، به. وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب» . وحسّنه البغوي، وصححه الحاكم! وفي رواية الحسن عن سمرة بن جندب؛ خلاف، ففي صحيح البخاري، عقب حديث رقم (5472) ؛ سماعه منه لحديث العقيقة، وقد روى عنه نسخة كبيرة، غالبها في «السنن الأربعة» ، وعند = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = علي بن المديني أن كلها سماع، وكذلك حكى الترمذي عن البخاري نحو هذا. وقال الذهبي في «السير» (4/587) : «اختلف النقاد في الاحتجاج بنسخة الحسن، عن سمرة، وهي نحو من خمسين حديثاً ... » . وقال يحيى بن سعيد القطان، وجماعة كثيرون: هي كتاب، وذلك لا يقتضي الانقطاع، وفي «مسند الإمام أحمد» : ثنا هشيم، عن حميد الطويل، قال: جاء رجل إلى الحسن البصري، فقال: عبداً له أَبَقَ، وأنه نذير إن قدر عليه أن يقطع يده، فقال الحسن: ثنا سمرة، قال: قَلَّما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا أمر فيها بالصدقة، ونهى عن المثلة» . وهذا يقتضي سماعه من سمرة، لغير حديث العقيقة. وانظر: «تحفة التحصيل» لأبي زرعة العراقي (ص 76) ، و «جامع التحصيل» (162) ، و «المراسيل» (31) ، و «تهذيب الكمال» (6/95) . وانظر -أيضاً- في مسألة سماع الحسن من سمرة: «نصب الراية» (1/89-90) ، و «معجم الطبراني الكبير» (7/193) . وفي الباب عن أبي هريرة، مرفوعاً: «كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحَسبُه خلقه» . أخرجه أحمد في «المسند» (2/356) ؛ من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. وإسناده ضعيف. فمسلم بن خالد: سيء الحفظ، كثير الأوهام. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» (رقم 1) ، وفي «العقل وفضله» (رقم 4) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (ص4) ، وابن حبان في «صحيحه» (483- الإحسان) ، وفي «روضة العقلاء» (229) ، وابن عدي في «الكامل» (4/1446 و6/2313) ، والدارقطني (3/303) ، والحاكم (1/123 و2/163) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (190) ، والبيهقي في «السنن» (7/136 و10/195) ، وفي «الشعب» (8008 و8030) ، وفي «الآداب» (199) ، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (ص 110) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1003) ، والنجم النسفي في «القند» (30) ، وابن اللمش في «تاريخ دُنيسر» (66-67) ، وابن أبي يعلى في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/140) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (15/245) ، من طريقين ضعيفين، في أحدهما مسلم بن خالد، وقد مضى الكلام عليه. وفي الآخرعبد الله بن زياد -وهو ابن سليمان بن سمعان- متروك الحديث. وصححه الحاكم على شرط مسلم، فتعقبه الذهبي في الموضعين بتضعيف مسلم بن خالد الزنجي، وبأن مسلماً لم يخرج له شيئاً. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (6682) من طريق روَّاد بن الجراح، عن أبي غسان محمد ابن مطرف، عن محمد بن عجلان، عن خالد بن اللجلاج، عن أبي هريرة. وخالد بن اللجلاج هذا الذي يرويه عن أبي هريرة يقال له -أيضاً-: حصين بن اللجلاج، وهو شيخ مجهول. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 «كَرَمُ المؤمن تقواه، ودِينُهُ حسبُهُ، ومروءته خُلُقهُ، والجُرأةُ والجبنُ غرائزُ يضعها الله حيثُ يشاء، فالجبانُ يَفِرُّ عن أبيه وأمِّهِ، والجريءُ يقاتل عمَّن لا يؤوبُ به إلى رَحْلِهِ، والقَتْلُ حتفٌ من الحُتُوفِ، والشَّهيدُ مَنِ احْتَسَبَ نَفْسَهُ على الله» . ويُروى أنا أبا بكر -رضي الله عنه- قال لخالدٍ حين وجهه إلى قتال أهل الردَّة: «احرص على الموت تُوهب لك الحياة» (1) . وأوصى بعض الأمراء (2) جيوشه فقال لهم: «أشْعِروا قلوبكم الجرأة على العدو؛ فإنها سببُ الظفر، وأكثروا ذكر الضغائن (3) ، فإنها تَحُضُّ على الإقدام، والزموا الطاعة؛ فإنها حصنُ المحارب» . وكان يقال: قوة النفس في الحرب؛ أبلغ من قوة البدن.   = وأخرجه البزار (3607- كشف الأستار) ، وأبو يعلى (6451) ، وابن حبان في «المجروحين» (3/41) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (297) من طريق معدي بن سليمان، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة. ولفظ البزار: «حسب المرء ماله، وكرمه تقواه» ، أو قال: «الحسب المال، والكرم التقوى» ، ولفظ أبي يعلى: «كرم المؤمن تقواه، ومروءته عقله، وحسبه دينه، والجبن والجرأة غرائز يضعها الله -عز وجل- حيث يشاء، فالجبان يفر من أبيه وأمه، والجريء يقاتل عما لا يبالي أن يؤوب به إلى أهله» ، ولفظ القضاعي: «كرم المؤمن تقواه، ومروءته خُلقه، ونسبه دينه، والجبن والجرأة يضعها الله حيث يشاء» . وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف معدي بن سليمان. وأخرجه التيمي في «الترغيب» (684) عن ابن عمر مرفوعاً، وأورد نحوه ابن عبد البر في «بهجة المجالس» (2/642) . وقال عقبه: «ويروى نحو هذا من كلام عمر -أيضاً-» . (1) هذا الخبر في «البيان والتبيين» (3/170) ، و «عيون الأخبار» (1/206، 208- ط. دار الكتب العلمية) ، و «أنساب الأشراف» (110-111- «أخبار الشيخين» ) - مطولاً. وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (رقم 671- بتحقيقي) ، قال: قال سفيان: وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لخالد بن الوليد -رحمه الله-: وذكره. وإسناده ضعيف، فبين سفيان وأبي بكر الصديق مفاوز. (2) هو أبو مسلم الخراساني، نسبه له ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/218) ، وابن عبد ربه في «العقد الفريد» (1/120) . (3) أثبتها الناسخ «الظعائن» ، وقال في الهامش: «الأولى: الضغائن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وما أحسن ما قال قَطَريُّ بن الفُجاءة (1) في استدفاع الجُبْنِ، واستعمال الصَّبْر والتَّأسِّي، يخاطب نفسه: أقول لها وقد طارت شَعاعاً ... مِنَ الأَبْطالِ وَيْحَكِ لا تُراعي فإنكِ لو سألتِ بقاءَ يَوْمٍ ... على الأَجَلِ الذي لك لَمْ تُطاعي ما يجوز للرجل من الحمل وحده على جيش العدو، وتأويل قول الله -تعالى-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} خرَّج أبو دواد (2) ، عن أسلم أبي عمران قال: غزونا المدينة -يريد   (1) قطري بن الفُجاءة. الأمير أبو نعامة التميمي المازني، البطل المشهور، رأس الخوارج. خرج زمن ابن الزبير، وهزم الجيوش، واستفحل بلاؤه، وله وقائع مشهودة، وشجاعة لم يُسمع بمثلها. وأبوه الفُجاءة: هو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل، حرقه أبو بكر -رضي الله عنه- وهو مقموط؛ لأنه زعم أنه أسلم، فجَهَّزه أبو بكر بجيش، فلما سار؛ جعل لا يمر بمسلم؛ ولا مرتدٍ؛ إلا قتله؛ وأخذ ماله. [انظر قصته في «البداية والنهاية» (6/344) ] . والبيتان منسوبان لقطري في: «عيون الأخبار» (1/207- ط. دار الكتب العلمية) ، و «العقد الفريد» (1/105) ، و «أمالي المرتضى» (1/636) ، و «شرح التبريزي» (1/96) ، و «المجالسة» (4/ 378-379- بتحقيقي) ، و «شرح نهج البلاغة» (3/277) ، و «حماسة الخالديين» (1/116) ، و «لباب الآداب» (224) ، و «التذكرة السعدية» (70-71) ، و «وفيات الأعيان» (4/94) ، و «السير» (4/151) ، و «التذكرة الحمدونية» (2/405) ، و «نهاية الأرب» (3/227) ، و «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» (1/106) . والثاني في: «حلية المحاضرة» (1/352) . وهما من مشهور شعر ابن الفجاءة، وهما مطلع قصيدة فريدة من الحماسة. وانظر: «ديوان شعر الخوارج» (122-123) -وفيه تخريج مسهب-. (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في قوله -تعالى-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ) (رقم 2512) . وأخرج نحو القصة: الترمذي في «جامعه» (رقم 2972) -وقال: «حسن صحيح غريب» -، والنسائي في «الكبرى» (6/298-299 رقم 11028) ، والطيالسي (599) ، وأبو يعلى (6451) ، والطبري (3179 و3180) ، وابن أبي حاتم (1/330) في «تفسيريهما» ، والبيهقي في (الكبرى» (9/ 99) ، وابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص 269-270) ، والجصاص في «أحكام القرآن» (1/ 327) ، وابن حبان في «صحيحه» (11/9-10 رقم 4711- «الإحسان» ) ، والطبراني في «الكبير» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = (4060) ، والحاكم (2/84، 275) ، والبيهقي (9/99) . وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/500) إلى ابن المنذر، وابن مردويه، وعبد بن حميد. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-، و «السلسلة الصحيحة» (13) . قال ابن تيمية في «قاعدة في الانغماس في العدو» (ص 61 وما بعد) : وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المُنْغَمِس في العدو ملقياً بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله ضد ما يتوهمه هؤلاء الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه؛ فإنهم يتأولون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. والآية إنما هي أمرٌ بالجهاد في سبيل الله، ونهيٌّ عما يصد عنه، والأمر في هذه الآية ظاهرٌ كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمّة؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُم وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 190-191] . وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 193-195] . فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل الله، فلا تُناسب ما يضاد ذلك من النّهي عمّا يكمل به الجهاد وإن كان فيه تعريض النفس للشهادة، إذ الموت لا بدَّ منه، وأفضل الموت موت الشهداء. فإن الأمر بالشيء لا يناسب النهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يُضلّ عنه؛ والمناسب لذلك: ما ذكر في الآية من النهي عن العدوان، فإنّ الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ والنفوس قد لا تقف عند حدود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] . فنهى عن العدوان؛ لأن ذلك أمرٌ بالتقوى، والله مع المتقين كما قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] . وإذا كان الله معهم نصرهم وأيّدهم على عدوهم فالأمر بذلك أيسر، كما يحصل مقصود الجهاد به. وأيضاً فإنه في أول الآية قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وفي آخرها قال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 القسطنطينية- وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلصِقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمَلَ رجلٌ على العدو، فقال الناس: مَهْ مَهْ، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار؛ لما نصر الله -عز وجل- نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأظهر الإسلام، قلنا: هَلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله -عز وجل-: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية. وقد اختلف في تأويل الآية؛ ذكر إسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» عن حفص، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء: قال: قلت: أرأيت قول الله -عز وجل-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، أهو الرجل يحمل على   = فدلَّ ذلك على ما رواه أبو أيوب من أن إمساك المال والبخل عن إنفاقه في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة. وأيضاً؛ فإنَّ أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلم فيها برأيه، وهذا من ثاني روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حجة يجب اتباعها. وأيضاً؛ فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما نهى الله عنه. فإذا ترك العباد الذي أُمِروا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه؛ من عمارة الدنيا؛ هكلوا في دنياهم بالذل وقهر العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، وردِّه لهم عن دينهم، وعجزهم حينئذٍ عن العمل بالدين، بل وعن عمارة الدنيا وفتور هممهم عن الدّين، بل وفساد عقائدهم فيه. قال -تعالى-: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] . إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة. فإنّ كل أمّة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكاً عظيماً باستيلاء العدو عليها وتسّلطه على النفوس والأموال. وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يشاهده الناس، وأما في الآخرة فلهم عذاب النّار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الكَتِيبة فيها أَلْفٌ؟ قال: لا، ولكن الرجل يذنب، فيلقي بيده ويقول: لا توبة (1) . وذكر إسماعيل -أيضاً- عن سهل (2) بن عوفٍ قال: قيل لعمر بن الخطاب: إن مدرك بن عوف سَرى بنفسه يوم نهاوند! قال: فقلتُ: يا أمير المؤمنين: ذلك خالي، وناسٌ يزعمون أنه ألقى بيده إلى التهلكة! فقال عمر: كذب أولئك، ولكنه من الذين اشتروا الآخرة بالدنيا (3) .   (1) أخرجه أبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 323) ، وابن أبي حاتم (1/332 رقم 1748) ، وابن جرير (2/202، 203) في «تفسيريهما» ، والبيهقي في «الكبرى» (13972- «مهذب السنن» ) ، وابن حزم في «المحلى» (7/294) ؛ من طرقٍ عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء -رضي الله عنه-. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/500) إلى وكيع، وسفيان بن عيينة، والفريابي، وعبد ابن حميد، وابن المنذر في «تفاسيرهم» . وصحَّحه الذهبي في «مهذب السنن» إلى شعبة عن أبي إسحاق. وقال ابن أبي حاتم: وعن النعمان بن بشير، وعبيدة السلماني، والحسن البصري، وأبي قلابة، ومحمد بن سيرين، نحو ذلك. وأثر النعمان بن بشير عند البيهقي في «الكبرى» (13973- «مهذب السنن» ) ، والشعب، والطبراني، وعزاه السيوطي في «الدر» (1/501) إلى ابن المنذر، وابن مردويه. وأثر عَبيدة السلماني أخرجه ابن جرير (2/203) ، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 324) ، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/501) إلى وكيع، وعبد بن حميد في «تفسيرهما» . وانظر: «أحكام القرآن» (1/327) للجصاص، و «تفسير مجاهد» (1/99) ، و «السير» للفزاري (ص 208-213) . (2) كتب الناسخ في الهامش: «لعلها في (الأصل) : سعيد، فإنها غير واضحة، أو شُمَيل» . قلت: وسيأتي الصواب في ذكره في التخريج. (3) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (9/45-46) ؛ من طريق يعلى بن عُبيد، وأحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (رقم 2195- مختصراً) ، عن هشيم، ورقم (2196) عن يزيد بن هارون، ورقم (2197) عن وكيع، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 316) جميعهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن مدرك بن عوف الأحمسي، عن عمر -ولم يذكر وكيع مدركاً-، به. وفيه: أن مدرك بن عوف هو الذي كان عند عمر، فذكروا رجلاً -وسماه الفزاري (عوف بن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وخرَّج أبو داود (1) عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:   = أبي فلان) - شرى نفسه يوم نهاوند، فقال: ذاك والله ياأمير المؤمنين خالي ... وصحَّح الذهبي إسناده في «مهذب السنن» (7/3563 رقم 13974) ، إلى يَعْلى بن عُبيد، وصحَّحه ابن حجر في «الإصابة» (3/122) وعزاه لابن أبي شيبة. وأخرجه البيهقي -أيضاً- (9/46) من طريق يعقوب بن سفيان، ثنا ابن عثمان، أنبأ عبد الله، أنبا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن حصين بن عوف، عن عمر، نحوه. وفيه أن الذي كان عند عمر اسمه: مالك بن عوف، وليس مدرك بن عوف. وقال البيهقي: قال يعقوب: مالك أشبه. وتعقبه التركماني في «الجوهر النقي» فقال: قلت: ذكره -أي: مدرك- ابن ابن أبي حاتم في كتابه [8/327] ، وابن حبان في «الثقات» [3/382، 5/445] ، وأبو عمر في «الاستيعاب» فقال: مدرك بن عوف، ولم يقل أحدٌ منهم: مالك. وعند البيهقي أن المقتول هو: عوف بن أبي حية، وهو: أبو شبل. وقال الذهبي في «مهذب السنن» (7/3563) : «ورواه ابن المبارك عن أبي خالد، وذكره» ، واستدل أحمد في «مسائل صالح» (2/469 رقم 1178) بأثر عمر هذا، وهذا يدل على صحته عنده. وأخرجه ابن جرير (4/249 رقم 4004- ط. شاكر) ، وابن أبي حاتم (2/369 رقم 1940) من طريق طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة، به. وعزاه في «كنز العمال» (11328) إلى وكيع وعبد بن حميد -أيضاً-. (1) كتاب الجهاد (باب في الرجل يشري نفسه) (رقم 2536) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد -هو ابن سلمة-، أخبرنا عطاء بن السائب، عن مُرَّة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، به. وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/112) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/49) ؛ من طريق حماد، به. وعطاء بن السائب. قال الحافظ في «التقريب» : «صدوق اختلط» . ورواية حماد عنه قبل اختلاطه، إذ سماعه منه قديم. انظر: «المعرفة والتاريخ» (3/84) . فحديثه حسن -إن شاء الله-. وانظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. وورد الحديث مطولاً من طرقٍ، عن حماد بن سلمة، به. بلفظ: «عجب ربنا من رجلين: رجلٌ ثار من فراشه ولحافه، من بين أهله وحَيِّه إلى صلاته، فيقول ربنا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه، ووِطَائِهِ، ومن بين حيِّه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، ورجلٌ غزا ... الحديث» . أخرجه أحمد (1/416) ، وابن أبي شيبة (5/313) -ومن طريقه ابن أبي عاصم في «الجهاد» (رقم 125) ، و «السنة» (رقم 569) ، والحسن بن موسى الأشيب في «أحاديثه» (رقم 2) ، والطبراني في «الكبير» (10 رقم 10383) -. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 «عجب ربنا من رجلٍ غزا في سبيل الله، فانهزم -يعني: أصحابه- فَعَلِمَ ما عليه، فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله -عز وجل- لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رَغْبَةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي، حتى أُهريق دَمُه» . واختلف أهل العلم في حمل الرجل وحده على الجيش والعدد الكثير من العدو؛ فأقول: أحوال الذي يحمل وحده ثلاث:   = وأخرجه أبو يعلى (9 رقم 5272، 5361) ، وعثمان بن سعيد الدارمي في «الرد على المريسي» (ص 202) ، وابن خزيمة في «التوحيد» (2/895) ، وابن حبان (4 رقم 2548، 2549) ، والشاشي في «مسنده» (رقم 876) ، وأبو نعيم (4/167) ، والبيهقي (9/164) ، وفي «الأسماء والصفات» (2 رقم 984) ، والبغوي في «شرح السنة» (4 رقم 930) ، وفي «التفسير» (5/225) ، والمقدسي في «فضل الجهاد والمجاهدين» (20) . قال أبو نعيم عقبه: «هذا حديث غريب، تفرد به عطاء عن مُرَّة، وعنه حماد بن سلمة» . قلت: عارض بعضهم رواية أبي عبيدة الموقوفة برواية حماد المرفوعة، وقدَّم الرفع ورجَّحه بقوة على الوقف!! وقفه خالد بن عبد الله عن عطاء. وروى هذا الحديث قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن مُرّة، عن عبد الله مرفوعاً، تفرَّد به يحيى الحِمَّاني، عن قيس. ورواه إسرائيل، واختلف عنه؛ فقال أحمد بن يونس: عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، وأبي الكنود، عن عبد الله موقوفاً، كما عند الدارمي في «الرد على المريسي» (ص 180) . وقال يحيى بن آدم: عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة وأبي الكنود موقوفاً، والصحيح هو الموقوف، قاله الدارقطني في «العلل» (5 رقم 869) . وأخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (رقم 867) من طريق أبي الأحوص، ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قوله. قلت: متابعة إسرائيل لشريك تقوي الموقوف، وكذا رواية معمر، عن أبي إسحاق، به، التي أخرجها عبد الرزاق في «المصنف» (11 رقم 20281) ، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (9 رقم 8798) . * فائدة مهمة: قال ابن النحاس في «مشارع الأشواق» (1/532) : «ولو لم يكن في الباب إلا هذا الحديث الصحيح؛ لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 - حال اضطرار، وذلك حيث يحيط به العدو، فهو يخاف تَغَلُّبَهم عليه، وأَسْرَهُم إياه، فذلك جائزٌ أن يحمل عليهم باتفاق. - وحالٌ يكون فيها في صفِّ المسلمين ومنعتهم، فيحمل؛ إرادةَ السُّمعة والاتصافَ بالشَّجاعة، فهذا حرام باتفاق. - وحالٌ يكون كذلك مع المسلمين، فيحمل غضباً لله، مُحتسباً نفسه عند الله، ففي هذا اختلف أهل العلم، فمنهم من كَرِهَ حَمْلَه وحده، ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومنهم من أجاز ذلك واسْتَحْسَنه، إذا كانت به قوة، وفي فِعله ذلك منفعةٌ، إمَّا لنكاية (1) العدوِّ أو تَجرئةِ المسلمينَ؛ حتَى يفعلوا مثل ما فَعَل، أو: إرهابِ العدوِّ؛ ليعلموا صلابة المسلمين في الدِّين (2) .   (1) مكتوب في هامش المنسوخ: «لعلها: بنكاية» . (2) تكاد تجمع كلمة الفقهاء على جواز ذلك، بل حكى ابن أبي زمنين في «قدوة الغازي» (ص 198) الإجماع عليه، ونصّ عبارته: «قال ابن حبيب: ولا بأس أن يحمل الرجل وحده على الكتيبة وعلى الجيش إذا كان ذلك منه لله، وكانت فيه شجاعة وجلدٌ وقوةٌ على ذلك، وذلك حسن جميل لم يكرهه أحد من أهل العلم، وليس ذلك من التهلكة، وإذا كان ذلك منه للفخر والذكر فلا يفعل وإن كانت به عليه قوة، وإذا لم يكن به عليه قوةٌ فلا يفعل وإن أراد به الله؛ لأنه حينئذٍ يلقي بيده إلى التهلكة» . وجاء في «البيان والتحصيل» (2/564) ما يلي: «قال أشهب: وسئل مالك عن رجل من المسلمين يحمل على الجيش من العدو وحده، قال: قال الله -تعالى-: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فجعل كل رجلٍ برجلين بعد أن كان كل رجل بعشرة، فأخاف هذا يلقي بيده إلى التهكلة وليس ذلك بسواءٍ أن يكون الرجل في الجيش الكثيف فيحمل وحده على الجيش، وأن يكون الرجل قد خلفه أصحابه بأرض الروم أحاطوه فتركوه بين ظهراني الروم، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم، فهذا عندي خفيف، والأول عندي في كثفٍ وقوة، وليس إلى ذلك بمضطر، يختلف أن يكون الرجل يحمل احتساباً بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب: الشهيد من احتسب نفسه على الله، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة. قال محمد بن رشد: أما إذا فعل ذلك إرادة السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك من الفعل المكروه، وأما إن اضطر إلى ذلك بإحاطة العدو به، ففعله مخافة الأسر، فلا اختلاف في أن ذلك من الفعل الجائز، إن شاء أن يستأثر، وإن شاء أن يحمل على العدو ويحتسب نفسه على الله، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وبالجملة، فكل من بَذَلَ نَفْسهُ لإعزازِ الدِّين، وتوهين أهل الكفرِ؛ فهو المقامُ   = وأما إذا كان في صف المسلمين وأراد أن يحمل على الجيش من العدو وحده محتسباً بنفسه على الله ليقوي بذلك نفوس المسلمين ويلقي الرعب في قلوب المشركين، فمن أهل العلم من كرهه ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء إلى التهكلة لقوله -عز وجل-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وممن روى ذلك عمرو بن العاص، ومنهم من أجازه واستحبه لمن كانت به قوة عليه وهو الصحيح» . فالخلاف في المسألة ضعيف، قال ابن تيمية في «قاعدة في الانغماس في العدو، وهل يباح» (ص 24) : «والرجل ينهزم أصحابه، فيقاتل وحده، أو هو وطائفة معه العدو، وفي ذلك نكاية في العدو، ولكن يظنون أنهم يُقْتلون، فهذا كله جائز عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ. وأما الأئمة المتبوعون كالشافعي وأحمد وغيرهما؛ فقد نصوا على جواز ذلك، وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما» ، ودلل عليه بتطويل من الكتاب والسنة وإجماع السلف، ونحوه في «مجوع الفتاوى» (28/540) له. وكلام الشافعي الذي أشار إليه في «الأم» (4/92) قال -رحمه الله-: «لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً، أو يبادر الرجل، وإن كان الأغلب أنه مقتول؛ لأنه قد بودر بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمل رجلٌ من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر، بعد إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في ذلك من الخير فقتل» . وانظر: «الأوسط» (11/306-307) . وكلام أحمد في «مسائل صالح» (2/469) قال: «قلت: الأسير يجد السيف أو السلاح فيحمل علهيم وهو لا يعلم أنه لا ينجو، أعانَ على نفسه؟ قال: أما سمعت قول عمر حين سأله الرجل فقال: إنّ أبي أو خالي ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال عمر: «ذلك اشترى الآخرة بالدنيا» » . وقال أبو داود في «مسائله» (247) : «سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا علم أنه يؤسر فليقاتل حتى يقتل أحب إليَّ» . وقال: «لا يستأسر، الأسر شديد» . وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سأل عن الأسير إذا أُسر؛ له أن يقاتلهم؟ قال: «إذا علم أنه يقوى بهم» . وانظر: «المغني» (9/176) ، و «كشاف القناع» (3/70) ، «الإنصاف» (4/125) . وانظر مذهب الحنفية في: «أحكام القرآن» للجصاص (1/327-328) ، «حاشية ابن عابدين» (4/127) . وانظر للمالكية: «الذخيرة» (3/410) ، «النوادر والزيادات» (3/52، 53) ، «الفروق» (4/ 1401- ط. دار السلام) ، «التاج والإكليل» (3/307) ، «الخرشي» (3/120) ، «تفسير القرطبي» (2/ 363-364) ، «حاشية الدسوقي» (2/178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الشريفُ الذي تتوجه إليه مدْحَةُ الله -تعالى-، وكريمُ وعده في قوله -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة: 111] ، وقال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] . وفي «الموطأ» (1) ذِكرُ الأنصاري: رَمَى مافي يده من تمراتٍ حين رغَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، فقال: إني لحريصٌ على الدنيا إن جلسْتُ حتى أفرغ منهن، فحمل بسيفه، فقاتل حتى قُتِلَ. ما جاء في المبارزة، وحكمها، وإذن الإمام رُوي عن علي وأبي ذر، أن قوله -تعالى-: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر؛ حمزة؛ وعلي؛ وعبيدة، مع عتبة بن ربيعة؛ وشيبة بن ربيعة؛ والوليد بن عتبة، وكان أبو ذر يقسم على ذلك (2) . خرّج أبو داود (3) ، عن عليٍّ، قال: تقدم -يعني: عتبةَ بن ربيعة، وتَبعه ابنه   (1) مَضَى. وقد أخرجه البخاري (4046) ، ومسلم (1899) . (2) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ) (رقم 4743) ؛ بسنده إلى قيس بن عُبادِ، عن أبي ذرٍ -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري في كتاب المغازي (باب قتل أبي جهل) (الأرقام 3966، 3968، 3969) ، ومسلم في كتاب التفسير (باب قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ ... } ) (3033) . وأخرجه البخاري في كتاب التفسير (باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ) (رقم 4744) ؛ بسنده إلى قيسٍ عن علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه-، قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ، قال: هم الذين بارزوا يوم بدرٍ: عليٌّ؛ وحمزة؛ وعُبيدة، وشيبة بن ربيعة؛ وعتبة بن ربيعة؛ والوليد بن عتبة. وأخرجه في كتاب المغازي (باب قتل أبي جهل) (رقم 3967) . (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في المبارزة) (رقم 2665) . وأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (3/276 و9/131) . ... وأخرجه مطولاً وفيه قصة: ابن أبي شيبة (14/362-364) ، وأحمد (1/117) ، والبزار في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وأخوه- فنادَى: من يُبارِزْ؟ فانتدب له شبابٌ من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمِّنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قم يا حمزة، قُمْ يا علي، قم يا عُبيدة بن الحارث» ، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلتُ إلى شيبة، واختلفت بين عُبيدةَ (1) والوليد ضربتان، فأثخن كل واحدٍ منهما صاحبه، ثم مِلْنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة. قال أبو بكر بن المنذر (2) : «أجمع كُل من يحفظ عنه من أهل العلم، على أن للمرء أن يبارز، ويدعو إلى البراز بإذن الإمام (3) ، غير الحسن البصري، فإنه كان يكره المبارزة ولا يعرفها» . قال: «واختلفوا في المبارزة بغير إذن الإمام؛ فكرهته طائفة، منهم: الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق (4) ، وأباحته طائفةٌ مطلقاً، لم يذكروا إذن الإمام ولا غير   = «البحر الزخار» (719) ، والطبري في «التاريخ» (2/424-426) ، وغيرهم. وقال الهيثمي في «المجمع» (6/76) : «رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير حارثة بن مضرّب، وهو ثقة» . وانظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. (1) في الأصل والمنسوخ: «عُتبة» . وهو خطأ ظاهر. (2) في كتابه «الإجماع» (ص 58 رقم 228) . وانظر: «المغني» (8/366) ، و «الإقناع» (66 ب) ، و «اختلاف الفقهاء» (3/12- تحقيق يوسف شخت) . (3) إلا أبا حنيفة؛ فإنه منع من البدء بالدعاء إلى المبارزة؛ لأنه تطاول وبغي. وجوّز ذلك الشافعي؛ لأن فيه إظهاراً لدين الله، ونصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى مثله، وحث عليه. ومنع من ابتداء المبارزة: الحسن البصري -رحمه الله-، كما ذكر ذلك المصنف. انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (12) ، «عمدة القاري» (14/274) ، «المغني» (10/394) ، «تحرير الأحكام» (ص 182) لابن جماعة -ففيها مذهب الحسن- «موسوعة فقة الحسن البصري» (1/304) . (4) انظر: «المغني» (10/394-396) ، «الإقناع» (66 ب) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (40) ، «اختلاف الفقهاء» (12- تحقيق يوسف شخت) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 315) . وحكى البغوي في «شرح السنة» (11/67) مذهب أحمد وإسحاق وسفيان، وكذا في «المغني» (10/394-395) ، و «نيل الأوطار» (8/87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 إذنه؛ منهم: مالك، والشافعي (1) ، واختلف في ذلك عن الأوزاعي: فرُوِي عنه الجواز والمنع» (2) . قلت: وجه ماذهب إليه من كره ذلك إلا بإذن الإمام، هو أن لا يتسارع إلى ذلك الضَّعيف، ومن يغترُّ من نفسه، فربَّما قُتل أو هُزم، فكان في ذلك تجرئةٌ للمشركين، وتوهينٌ على المسلمين، ووجه من أباح ذلك مطلقاً، أنه جهاد في الله، فإذا انبعثت لذلك نيّة المسلم، خالصةً لله -عز وجل-، لم يكن به بأس، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، ولم يُنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن ذلك في موطنٍ من المواطن، بل ظواهِر الأخبار في مواضِعَ من ذلك تدلُّ على أن بعضهم قد كان يبارز ولا يستأذنه، فلا يُنكر ذلك عليه؛ من ذلك: ما رُوي أن أبا قتادة قال: بارزتُ رجلاً يوم حُنين فقتلتُه، فأعطاني النبي - صلى الله عليه وسلم - سلَبَه (3) ، ذكره ابن المنذر مسنداً (4) ، وهذا الوجه أظهر، والله أعلم. * مسألة: اختلف العلماء في إعانة المسلمين الرجل منهم إذا بارز مشركاً، فأرخص   (1) انظر: «البيان والتحصيل» (3/63-64) ، «الذخيرة» (3/410) ، و «النوادر والزيادات» (3/28، 54-55) ، «منح الجليل» (3/167) ، «الأم» (4/160) ، «مختصر المزني» (274) ، «روضة الطالبين» (10/250) ، «مغني المحتاج» (4/226) ، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (ص 181) . (2) قال البغوي في «شرح السنة» (11/67) : «وحُكي عن الأوزاعي كل واحد من القولين» ، وحكى الطبري في «اختلاف الفقهاء» (ص 12) ، والقرطبي في «تفسيره» (3/258) ، والحطاب في «مواهب الجليل» (3/39) ، والشوكاني في «النيل» (7/217) عنه المنع، وحكى الخطابي في «معالم السنن» (2/279) والقرطبي عنه الجواز، وانظر: «فقه الأوزاعي» (2/394) . (3) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس (باب من لم يخمِّس الأسلاب، ومن قتل قتيلاً فله سَلَبه من غير أن يخمّس، وحكم الإمام فيه) (رقم 3142) . ومسلم في كتاب الجهاد والسير (باب استحقاق القاتل سلب القتيل) (1751) (41) . (4) في «الأوسط» (11/109 رقم 6493) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 في ذلك قوم؛ منهم: أحمد، وإسحاق (1) ، واحتجوا بإعانة حمزةَ وعليٍّ لعبيدةَ في المبارزة يوم بدر (2) ، وأَبَى ذلك قوم؛ منهم: الأوزاعي (3) ؛ قيل له في رجلٍ بارز علجاً فخافَ المسلمون على صاحبهم، قال: فلا يعينوه عليه، قيل: وإن لم يكن اشترط ألا يخرج إليه غيره؟ قال: وإنْ؛ لأن المبارزة لا تكون إلا هكذا، ولكن لو حجزوا بينهما، ثم خلُّوا سبيل العلج، قال: فإن أعان العدوُّ صاحبهم، فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم، وفرَّق الشافعي بين أن يكون ثَمَّ اشتراطُ ألاَّ يقاتل غيرُ المبارز، وكذلك إن كان ذلك يعرف من أحوال الدعاء إلى المبارزة، فتكون كالأمنِ بين الفريقين معاً سوى المتبارزين، فلم يرَ في مثل ذلك أن يعينه غيره، وبين ألاَّ يكون ثَمَّ اشتراط، ولا أمر يعرف ذلك منه، فلم ير بالإعانة في هذا الوجه بأساً، واحتجَّ بإعانة حمزة وعلي (4) . واختلف أصحاب مالكٍ في ذلك؛ قال عبد الملك بن حبيب: ولا بأس أن يُعضد إذا خيف عليه الغلبة مِمَّن بارزه، ولو بِقتلِ العلج، قال: وقد قيل: لا يُعضد؛ لأنه إن عُضدَ لم يُوف للمشرك، قال: وليس يُعجبنا، قال: ومن الدليل على ذلك، أنهم لو رأوه قد أُسِرَ، لحَقَّ عليهم إن قدروا على استنقاذه منهم أن يَسْتَنْقِذُوه، وَذَكرَ معاونة المتبارزين يوم بدرٍ، قال: فصلٌ حكى ابن سحنون: قال أصحابنا جميعاً؛ سحنون وغيره: لو أن عشرةً من المسلمين بارزوا مثلهم من المشركين، فقتل بعض العشرة صاحبه الذي يليه من   (1) انظر: «المغني» (10/396) . (2) مضى تخريج ذلك قريباً. (3) نقل مذهبه: الطبري في «اختلاف الفقهاء» (12) ، وابن قدامة في «المغني» (10/396) ، وانظر: «فقه الإمام الأوزاعي» (2/395) . (4) انظر: «مختصر المزني» (274) ، «تحرير الأحكام» (ص 182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 المشركين، فلا بأس أن يُعينَ أصحابه، ولا يجوز أن يُعينَ المبارز، ولا يعضُده من المسلمين من لم يخرج معه، ويبرز في المبارزة (1) . قلت: وإنما استندوا في ذلك إلى أن مبارزة الجملة للجملة، لها حكم الواحد للواحد، فمن فرغ من شيء رجع مع أصحابه الباقين، وعلى ذلك يُخَرَّجُ عندهم إعانةُ حمزة وعليٍّ لعُبيدة؛ فأمرهم في ذلك بخلاف من لم يتعيَّن للبراز؛ لأنه تَخلَّى، وأعطى من نفسه الأمان. والأظهر -إن شاء الله تعالى- أن يُعان المسلم إذا خُشي عليه الهلاك على كل حال، يعينه كل من تمكَّن له ذلك ممَّن بارز معه، أو كان في الجيش، وسواء شرط الكافر أن لا يعينه أحدٌ أو لم يشرط، ولا وفاء في معصية، إلا أنه إن قَدَرَ في إعانته على تخليصه من القِرْنِ إذا ظهرَ عليه، من غير التعرض لإصابة الكافر؛ لَمْ يَنْبَغِ التعدي عليه، وإنْ لم يمكن ذلك إلا بالحملِ عليه، فإنه يبلغ من ذلك إلى حيثُ يكون فيه خلاص المسلم، ولو أفضى إلى قتل من بارزه؛ قال الله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . وخرّج مسلم (2) ، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه» . وفي رواية عن أبي هريرة: «لا يظلمه، ولا يخذله» (3) .   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/55-56) ، «الذخيرة» (3/410) ، «منح الجليل» (3/ 167-168) . (2) في «صحيحه» في كتاب البر والصلة والآداب (باب تحريم الظلم) (2580) (58) . وأخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب (باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه) (رقم 2442) ، وفي كتاب الإكراه (باب يمين الرجل لصاحبه: إنه أخوه، إذا خاف عليه القتل، أو نحوه) (رقم 6951) . (3) مسلم في «صحيحه» في كتاب البر والصلة والآداب (باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله) (2564) (32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وفي حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنون يدٌ على من سواهم» (1) . وفي حديث أبي سعيدٍ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده» (2) . ولا منكرٌ أعظم وأكبر من قتل المسلم ظلماً. فأمّا ما لم يُخْشَ الهلاكُ على المسلم المبارز، فلا يعرض لهم بحال، كذلك فعلَ المسلمون يوم بدر. فصلٌ: في تحريم الانهزام، وما يجوز من التحيُّز عند القتال قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ   (1) هو قطعة من حديث أخرجه أبو داود في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في السرية تُردُّ على أهل العسكر) (رقم 2751) من طريقين عن ابن إسحاق، ويحيى بن سعيد، كليهما عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعاً: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم، يَرُدُّ مُشِدُّهم على مُضعِفِهم، ومُتسريِّهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده» . ولم يذكر ابن إسحاق القودَ والتكافؤ. وأخرجه الطيالسي (2258) ، وأحمد (2/192، 211) من طريق خليفة بن خياط، عن عمرو بن شعيب، به. وأخرجه مطولاً: أحمد (2/180) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/29) ، وابن الجارود في «المنتقى» (1052) ، والبغوي في «شرح السنة» (2542) ؛ من طرقٍ عن ابن إسحاق، به. وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد (رقم 2911 و3046) ، وعن أنس عند البخاري (2294) ، ومسلم (2529) ، وعن قيس بن عاصم عند أحمد (5/61) ، وعن علي عند أحمد (1/119) ، وعن جبير ابن مطعم عند مسلم (2530) ، وأحمد (4/83) ، وعن أم سلمة عند الطبري (9293) . والحديث صحيح. انظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (2) هو قطعة من حديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان) (49) (78 و79) ، وفيه قصة إنكار أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- على مروان ابن الحكم أمير المدينة آنذاك، في ابتدائه الخطبة -يوم العيد- قبل الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15-16] . في هذه الآية لأهل العلم ثلاثة أقوال: قول: إنَّها منسوخة؛ نسخها قوله تعالى: {يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] إلى تمام الآيتين، فنسخ بالتخفيف عنهم، وأطلق لهم أن يُوَلّوا عمَّن هو أكثر من هذا العدد، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح (1) .   (1) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (10/38- ط. دار الفكر) : حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن حبيب، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن عطاء، قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين، لا ينبغي أن يَفِرَّ منهما. ونقله عنه مكي بن أبي طالب في «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» (ص 297) ، وأبو بكر بن العربي في «الناسخ والمنسوخ» (2/228) ، وأبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 184) ، وابن البارزي في «ناسخ القرآن ومنسوخه» (35) ، وابن سلامة في «الناسخ والمنسوخ» (94) . وانظر: «المحرر الوجيز» (6/371) ، «زاد المسير» (3/377) ، «المحصول» للرازي (1/3/ 463) . وهو مذهب ابن عباس. فقد أخرج أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (رقم 358) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (5/ 1728 رقم 9140) بسنديهما إلى عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: {إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ..} الآية، قال: فنسخها قوله -عز وجل-: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنَّ فِيكُمْ ضَعفًا} [الأنفال: 66] إلى قوله {مَعَ الصَّابِريِن} . وروى نحوه الطبري في «التفسير» (14 رقم 16272- ط. شاكر) ؛ من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعليٌّ لم يسمع من ابن عباس. لكن لعليِّ بن أبي طلحة صحيفةٌ عن ابن عباس، يروي منها، فروايته صحيحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. انظر: «جامع التحصيل» (240) ، و «تحفة التحصيل» (234) ، «العجاب في بيان الأسباب» للحافظ ابن حجر (ص 58- ط. ابن حزم) ، «الإتقان» للسيوطي (2/470- ط. دار الكتاب العربي) . وروى نحوه الشافعي في «الرسالة» (ص 127-128) ، و «الأم» (4/92، 160) -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (9/76) ، و «أحكام القرآن» (ص 39) ، و «الشعب» (4001) -، وسعيد بن منصور «سننه» (رقم 1000- ط. الحميد ورقم 2537- ط. الأعظمي) ، وابن الجارود (1049) ، والطبراني = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وقولٌ ثانٍ: إنها مقصورة على أهل بدرٍ خاصة، وإليه ذهب الحسن، ورُوي مثل ذلك عن أبي سعيدٍ، وأبي نَضْرةَ، ونافعٍ، وعكرمةَ، وغيرهم، وكان الحسن يقول: ليس الفرار من الزحف من الكبائر (1) .   = (11211) ، وأصل الحديث عند البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب قوله -تعالى-: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُم} ) (رقم 4653) . وليس في رواية البيهقي، ولا البخاري ذِكْرُ النَّسْخ، وإنما فيهما ذكر التخفيف. والمعنى متقارب. والمراد -هنا- التخفيف، لا الفرار من الزحف. وأخرج سعيد بن منصور في «سننه» (1001- ط. الحميد، ورقم 2538- ط. الأعظمي) ، وابن المبارك في «الجهاد» (رقم 235) ، والشافعي في «الأم» (4/160) ، و «مسنده» (رقم 388) ، والبيهقي (9/76) من طريق سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس، قال: من فرَّ من ثلاثة فلم يفر، ومن فرَّ من اثنين فقد فرَّ. وسنده ضعيف، فابن أبي نجيح هو عبد الله بن يسار؛ مدلس، وقد عنعن، ثم هو لم يلحق أحداً من الصحابة. قاله علي بن المديني. انظر: «جامع التحصيل» (ص 218) . فالحديث منقطع. لكن يبدو أن في الإسناد سقطاً؛ فقد رواه البيهقي في «الكبرى» (9/76) ؛ من طريق أحمد بن شيبان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إن فرَّ رجلٌ من اثنين فقد فَرَّ، وإن فرَّ من ثلاثة لم يفر. وأحمد بن شيبان هو الرَّملي، ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/55) ، وقال: «صدوق» . وقال العقيلي: «لم يكن ممن يفهم الحديث، وحدَّث بمناكير» . وقال ابن حبَّان في «الثقات» : «يخطئ» . وقال صالح الطرابلسي: «ثقة مأمون، أخطأ في حديث واحد» . وقال الذهبي في «الميزان» (1/103) بعد ذكر كلام ابن أبي حاتم، وابن حبان، قال: «فالصدوق يخطئ» . وقد خالف أحمدُ بن شيبان الشافعيَّ في روايته، حيث زاد (عطاءً) في الإسناد، وإن سلَّمنا بزيادته، فإن ابن أبي نجيح مدلس. وقد عنعن. وقد صحَّح شيخنا الألباني -رحمه الله- في «الإرواء» (5/28-29) هذا الأثر، وجزم أن السقط الواقع في سند الشافعي إنما هو خطأ مطبعيٌّ. ثم قال: وهو إن كان موقوفاً، فله حكم المرفوع، بدليل القرآن وسبب النزول، الذي حفظه لنا ابن عباس. وحديث ابن عباس، رواه البخاري وغيره، وسيأتي تخريجه. (1) أخرجه أبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 184) بسنده إلى الربيع بن صبيح، عن الحسن. ونقله عنه مكي بن أبي طالب في «الإيضاح» (ص 297) . وانظر: «الآيات المنسوخة في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقولٌ ثالث: إنها محكمة عامَّةٌ في خطاب جميع المسلمين؛ أهل بدرٍ وغيرهم، ثابتة الحكم في ذلك إلى يوم القيامة، والفرارُ من الزحف كبيرةٌ من الكبائر، وإليه ذهب ابن عباسٍ (1) وجماعةٌ من أهل العلم. وهذا القول أولى الأقوال وأرجحها -إن شاء الله تعالى-.   = القرآن الكريم» للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي -رحمه الله- (ص 101) . ومذهب أبي سعيد الخدري، والحسن، وعكرمة؛ أخرجه عنهم أحمد -ولم أجده في «المسند» ، ولا في «مسائله» المطبوعة باختلاف رواتها-، ومن طريقه ابن الجوزي في «نواسخ القرآن» (ص 165) . وقال ابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/50) : «قال الحسن: لم يكن الفِرار من الزحف كبيرة إلا يوم بدرٍ، لأن تلك العصابة لو أصيبت ذهب الإسلام» . وانظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (5/1729رقم 9140) ، و «مرويات الإمام أحمد في التفسير» (2/263) . وقد ردَّ المصنف هذا القول، كما ردَّه ابن حزم وناقشه. فانظر: «المحلى» (7/293) . (1) أخرجه البخاري (رقم 4653) . وفيه التصريح بالتخفيف فقط، وأنها محكمة غير منوسخة. وقد مضى قريباً. وأخرج أبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 185) عن ابن عباس قال: «الفرار من الزحف من الكبائر» . ونقله عنه القاضي ابن العربي في «الناسخ والمنسوخ» (2/228) . والصحيح كما قال المصنف -رحمه الله- أن الآية على عمومها؛ لأنها ظاهر القرآن في قوله تعالى: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ... } يعني: يوم الزحف، وماثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه عدَّ الكبائر فقال: «والتولي من الزحف» . أخرجه البخاري (2766، 6857) ، ومسلم (89) . وهذا نصٌ لا غبار عليه، وسيذكره المصنف قريباً. وانظر: «الناسخ والمنسوخ» لابن العربي (2/229) ، ولأبي جعفر النحاس (ص 185) ، و «الإيضاح» لمكِّي بن أبي طالب (ص 297) ، و «نواسخ القرآن» لابن الجوزي (ص 166) ، و «تفسير ابن جرير» (9/38- وما بعدها) . وانظر تفصيل مناقشة هذه الأقوال في: «الآيات المنسوخة في القرآن الكريم» ، للشيخ عبد الله ابن محمد الأمين الشنقيطي (ص 99-104) . ومال فيها إلى النسخ، أي: التخفيف عن المؤمنين، وليس الفرار أو التحيز. وانظر: «البيان والتحصيل» لابن رشد (10/49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 أما دعوى النسخ فلا دليل عليه؛ لأن الجمع بين آية النهي عن التولية، وآية ثبوت المئة للمئتين واضح، بل لا تعارض بينهما البتَّة؛ لأن آية الثبوت للضِّعف لم يُبَحْ فيها بحالٍ الانهزامُ والتوليةُ أمام الكفار، وهل تَضَمَّنتْ من دليل الخطاب الترخيصَ فيما فوق الضِّعف؟ هذا فيه لأهل العلم خلاف نذكره بعد هذا -إن شاء الله-. فإذاً، حُكمُ الآية في النهي عن التولية باقٍ مُحْكم، وإنما كان يكون النَّسْخُ لو رُفِعَ حُكْمُ النّهي عن الفرار البتة، لكن تكون الآية المأمور فيها بالثبوت للضِّعف مخصصة عند قوم؛ لعموم النهي عن التولية مطلقاً، اللهم إلا أن يقال: إن آية النهي عن التولية كانت عامة في اللفظ والمعنى، فكان الفرض أولاً إيجاب الثبوت مطلقاً، والنهي عن التولية في لقاء الكثرة والقلَّة، ثم نسخ عموم ذلك بآية الثبوت للضِّعف دون ما زاد عليه، فهذا وجه من النَّسْخ صحيحٌ إن سَلِم فيه أمران: أحدهما: إن الفرض كذلك كان على العموم في أول الإسلام. والثاني: إن في آية الثبوت للضِّعف ما يدلُّ على إباحة التولية عمَّا فوق الضِّعف، وعلى هذا يجيء مذهب من قال بالنَّسخ؛ لأنه لا يصح القول به إلا كذلك، وإذا حُمِلَت الآية في النهي عن التولية على ظاهرها من الإطلاق والعموم في اللفظ والمعنى، فَعَنْه ينشأ الخلاف الذي أشرنا إليه، فيكون عند قوم ذلك باقياً مُحكماً على كل حال، ولا نسلِّم ما يُدَّعى في ذلك من نسخ ذلك العمومِ، أو تخصيصه عند قوم بأنه الثبوت للضِّعف؛ لأن آية الثبوت للضِّعف لم يُتعرَّض فيها لشيءٍ من ذلك بنسخٍ ولا تخصيص، فيكون هذا قولاً رابعاً في الآية، وعليه يجيءُ مذهب أهل الظاهر (1) . وأما قول من ذهب إلى أن الآية في أهل بدرٍ خاصَّة، وأن حكم ذلك لا يتناول غيرهم، فدعوى من غير دليل؛ لأنَّ الخطاب بذلك عامٌّ في جميع المؤمنين،   (1) انظر: «المحلى» (7/292-293) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وما رُوِي أن سبب نزولها وقعة بدرٍ ليس هو مما يوجب تخصيصها في الحكم بأهل بدر، وقصر ذلك عليهم؛ لأن أكثر أحكام القرآن والسُّنة إنما جاءت على أسباب، ثُمَّ هي بَعْدُ عامَّة، وقد قال الله -تعالى- في غير أهل بدر: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] ، فأخبر الله -تعالى- أن التولي معصية، واستزلالٌ من الشيطان، ثم منَّ عليهم سبحانه بالعفو. قال -تعالى-: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] ، فهذا هو معنى قوله -تعالى- في الموَلّي: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] ، معناه -والله أعلم-: إن لم يُغفر له. قال الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] ، فهذا يبين لك أن تحريم التولي ليس مخصوصاً به أهل بدر، بل هو في الجميع، والتولي كبيرة من الكبائر في جميع المسلمين إلى يوم القيامة. خرَّج مسلم (1) ، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» ، قيل: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . وإلى أن الآيةَ محكمةٌ، عامَّةُ الحكم في سائر المسلمين: ذهب مالك (2)   (1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب بيان الكبائر وأكبرها) (89) . من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري في كتاب الوصايا (باب قول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ... } ) (رقم 2766) . وفي كتاب الحدود (المحاربين) (باب رَمي المحصنات) (رقم 6857) . وفي كتاب الطب (باب الشرك والسحر من الموبقات) (رقم 5764- مختصراً) . (2) انظر: «قدوة الغازي» (ص 196-197) ، «أحكام القرآن» (2/878) لابن العربي، «البيان والتحصيل» (2/564 و17/30) ، «المقدمات» (263) ، «النوادر والزيادات» (3/50، 54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 والشافعي (1) ، وأبو حنيفة (2) ، وأهل الظاهر (3) ، وعامةُ أهل التحقيق، واختلفوا بعد ذلك في مواضع نذكرها في: (فصل: الثبوت للضِّعف) ، بعد هذا -إن شاء الله تعالى-. فصلٌ ذكر القاضي إسماعيلُ حديثَ عبدِالله بنِ عُمر؛ وخرَّجه أبو داود وغيره (4) ،   (1) انظر: «الرسالة» (ص 127-128) ، «الأم» (4/92) ، «أحكام القرآن» (ص 40) . (2) انظر: «أحكام القرآن» (4/227) للجصاص. (3) انظر: «الإحكام» (4/89) ، «المحلى» (7/292) ، «معجم فقه ابن حزم الظاهري» (2/ 252) . (4) أخرجه أبو داود (رقم 2647، 5223) ، وابن ماجه (3704) ، والترمذي (1716) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (972) ، والحميدي (687) ، وأحمد (2/23، 58، 70، 86، 99، 100، 110) ، وابن أبي شيبة (8/749، 750 أو 12/535-536- ط. الهندية) ، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 312) ، وابن سعد في «الطبقات» (4/145) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (رقم 2539- ط. الأعظمي، ورقم 985- ط. الحميد) ، والشافعي في «الأم» (4/180- ط. دار الفكر) ، وأبو يعلى (9 رقم 5596 و10 رقم 5781) ، وابن الجارود في «المنتقى» (رقم 1050) ، والطحاوي في «المشكل» (رقم 900 و901 و902) ، والنحَّاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 185) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/76-77) ، وفي «شعب الأيمان» (8/247-248 رقم 4002) ، والبغوي في «شرح السنة» (2708) ، وأبو نعيم (9/57) من طرقٍ عديدة عن يزيد بن أبي زياد، أن عبد الرحمن ابن أبي ليلىحدثه، أن عبد الله بن عمر حدَّثه، فذكره. وبعض الروايات مطولة، وبعضها مختصرة. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد» . وإسناده ضعيف؛ فيزيد بن أبي زياد الهاشمي، مولاهم، الكوفي: ضعيف. كبر فتغير، وصار يتلقَّن، وكان شيعياً. قاله الحافظ في «التقريب» . وضعفه أحمد، وابن معين، ولينه أبو زرعة، ووصفه ابن حبان بأنه: «كان يلقن فيتلقن» . وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. وقوله: «فحاص الناس حيصة» ، بحاء وصاد مهملتين، أي: جالوا جولة يطلبون الفرار. وفي بعض طرقه: «فجاض الناس جيضةً» -بجيم وضاد معجمتين-، قال ابن الأثير في «النهاية» (1/324) : جاض في القتال: إذا فرَّ، وجاض عن الحق: عدل. وأصل الجيض: الميل عن الشيء. وقوله: «بل أنتم العكَّارون» : هو بالعين المهملة وتشديد الكاف. قال ابن الأثير: أي: الكرارون = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قال: كنتُ في جيشٍ، فلقينا العدو، فحاصَ الناس حَيْصَةً، فكنتُ فيمن انحاز، فقلنا: لا ندخل المدينة، وننظر في وجوه الناس، وقد بؤنا بغضبٍ من الله، فأقمنا بجنبَاتِها، فقلنا: لو دخلناها فَنَتَثَبَّتُ منها -وفي رواية: فامْتَرْنا منها، وفي كتاب أبي داود: فنثبُتُ فيها (1) - نذهب فلا يرانا أحدٌ، فدخلناها ليلاً، فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كانت لنا توبةٌ تُبنَا، قال: فقعدنا له في الطريق، فخرج لصلاة الغداة، فقلنا: يارسول الله، نحن الفرَّارون، قال: «بل أنتم العَكَّارون» ، قال: قلنا: يا رسول الله، نحن الفرَّارون، قال: «بل أنتم العكَّارون» -ثلاث مرار- فأخبرناه ما أردنا أن نصنع، قال: «فلا تفعلوا، أنا فئتكم» ، وفي كتاب أبي داود: فأقبل إلينا فقال: «لا، بل أنتم العكّارون» ، قال: فَدَنونَا، فَقَبَّلْنا يده، فقال: «أنا فئة المسلمين» . ففي حديث ابن عمر هذا زيادةُ بيانٍ في عموم حكم آية النهي عن التولّي يوم الزحف، إلاّ إلى فئةٍ، وأن ذلك ليس مخصوصاً ببدر، وابن عمر لم يقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحرب، إلا بعد يوم بدر. قوله: «العكَّارون» هم الكرَّارون، الرَّاجعون. يقال: عَكَرَ واعْتكر إذا كرَّ ورجع، فكان رجوعهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى ما كانوا عليه من بذل أنفسهم في   = إلى الحرب، العطَّافون نحوها، يقال للرجل يولّي عن الحرب، ثم يكرُّ راجعاً إليها: عكر واعتكر، وعكرتُ عليه: إذا حَمَلْتُ. لطيفة: أسند الخطابي في «المعالم» (2/236) إلى الأصمعي، قال: رأيت أعرابياً يغلي ثيابه، فيقتل البراغيث، ويترك القمل، فقلت: لم تصنع هذا؟ قال: أقتل الفرسان، ثم أُعَكِّرُ على الرَّجَّالة. وقوله: «أنا فئتكم» . قال ابن الأثير: الفئة: الفرقة والجماعة من النَّاس في الأصل، والطائفة التي تقيم وراء الجيش، فإن كان عليهم خوفٌ أو هزيمة التجؤوا إليهم. (1) في الأصل: «منها» والكلمة التي قبلها محتملة، والمثبت من «سنن أبي داود» ، وفي رواية ابن الأعرابي: «فننبتُّ» ، وفي رواية ابن داسة: «فننبثّ» وفي بعضها: «فَنَتَثَبَّت» ، وفي بعضها: «فنبيت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الجهاد، وقبول ماجاء به - صلى الله عليه وسلم - هو معنى ذلك، والله أعلم. قاله النَّحاس (1) . وقال الترمذي: العكّار: الذي يفر إلى إمامه لينصره، ليس يريد به الفرار من الزَّحف (2) . واختلف أهل العلم في معنى التولِّي، وما الفئة التي يُتَحيَّزُ إليها إذا خيف العدو؟ فروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «أنا فئة كل مسلم» (3) . وروي عن الشافعي أنه قال (4) : التَّحرفُ للقتال: الاستطرادُ، إلى أن يُمكن المُسْتَطردُ الكَرَّةَ في أي حالٍ، ما كان الإمكان، والتَّحيزُ إلى فئة: الانضمامُ   (1) في «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم» (ص 185- بتصرف) . (2) قاله بعد الحديث (رقم 1716) . (3) رواه سفيان الثوري في «تفسيره» (ص 116-117 رقم 302) ، والشافعي في «الأم» (4/ 180) ، وعبد الرزاق (5/252 رقم 9524) ، وابن أبي شيبة (12/536 رقم 15535) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (3 رقم 2540- ط. الأعظمي، ورقم 986- ط. الحميّد) ، وابن المبارك في «كتاب الجهاد» (رقم 262) -ومن طريقه الطبري في «التفسير» (13/440 رقم 15815- ط. شاكر) -، والبيهقي في «الكبرى» (9/77) ؛ من طرقٍ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عمر. وذكر الماوردي في «الحاوي الكبير» (18/209) أنه قاله يوم القادسية. ومجاهد لم يدرك عمر. قال أبو زرعة وغيره: «مجاهد عن عمر: مرسل» . فالأثر ضعيف. وانظر: «تهذيب الكمال» (27/232- وما بعدها) ، «جامع التحصيل» (273) ، «تحفة التحصيل» (294) . وله طرق مرسلة كثيرة، فأخرجه ابن أبي شيبة (12/536 رقم 15534) ، وابن جرير (13/439 رقم 15812) من طريق ابن سيرين، وعبد الرزاق (5/252 رقم 9523) من طريق أبي الزبير عن غير واحد، وعبد الرزاق (9522) عن قتادة، وابن أبي شيبة (12/537 رقم 15539) عن براهيم النخعي. وأخرجه ابن المبارك في «الجهاد» (رقم 233) -ومن طريقه ابن جرير (رقم 15814) - من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر، فقال: يا أيها الناس أنا فئتكم، وسنده صحيح متصل. وأخرجه -أيضاً- البيهقي (9/77) بسندٍ صحيح على شرط مسلم، قاله شيخنا الألباني في «الإرواء» (5/28) . (4) في كتابه «الأم» (4/180- ط. دار الفكر) . وليس في المطبوع: والانضمام إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 إليها، أين كانت الفئة ببلاد العدو، أو ببلاد الإسلام، بَعُدَ ذلك أو قَرُبَ، إنما يأثم بالتولية مَنْ لم يَنْوِ واحداً من المَعنيَيْن. وقال بعض الشافعية (1) : التحرف للقتال: أن ينتقل من مكانٍ إلى مكان أمكن للقتال، والتحيز إلى فئة: أن يَنضم إلى قومٍ ليعود معهم إلى القتال. وروي عن مالكٍ (2) أنه كان يقول: ليس العمل عندنا على قول عمر: «أنا فئة من تحيَّز إلي» ، وهو بالمدينة، وإنما ذلك إلى ولاة الجيش، دون والي الصائفة، فَتَتَحيَّزُ السَّريةُ أو الخيل إلى الجيش، دون من هو أبعد منه، ومُتحيَّز الصوائف والجيوش إلى من بعدها، وهو أقرب إليها من أهل الإسلام. وقيل: التحيزُ المأذون فيه: إنما هو الانحيازُ إلى الجماعة الحاضرين قِبَالَ العدو، دون من وراءهم مِمَّن لم يحضر. وقال أبو محمد بن حزم (3) : «لا يحلُّ للمسلم الفرار أمام المشركين، وإن كثروا، إلا أن ينوي التَّحيُّزَ إلى جماعةٍ من المسلمين، إنْ رجا إدراك تلك الجماعة، قبل أن يلحقه الكفار، أو ينوي بانحرافه الكرَّ لقتالهم، وإلاَّ فهو عاصٍ لله -عز وجل- » . واختلفوا فيمن نكَصَ على عقبيه من غير أنْ يُولِّي العدوَّ ظهره، فقيل: إنه لا   (1) انظر: «الأم» (4/179) ، «الحاوي الكبير» (18/209) ، «نظم الدرر» (8/240) ، «محاسن التأويل» (8/296) ، «النكت والعيون» (2/89) . (2) انظر: «النوادر والزيادات» لابن أبي زيد القيرواني (3/51) ، و «الذخيرة» للقرافي (3/410) . واختار أبو الوليد بن رشد في «البيان والتحصيل» (17/31) أن التحيز إلى الفئة -في حديث ابن عمر المذكور آنفاً- هو خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة، فقال: «وهذا عندي من خواص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يكون الإمام فئةً للسرية إذا خرجت من عنده، فأقام هو -يعني: الإمام- في بلده، وإنما يكون فئة لها إذا أخرجها من عسكره، فلقيت جماعة، وإن كانت أقَلَّ من مِثْلَيْها فانحازت إلى الفئة التي خرجت منها. والله الموفق» . (3) في «المحلى» (7/292 المسألة رقم 923) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 يكون له حكم مُولِّي الدُّبر. وقال الشافعي (1) : إذا رجعَ القوم القَهْقَرَى بلا نيةٍ لأحد الأمرين، يعني: التحرف أو التحيز، كانوا كالمُولِّين؛ لأنه إنِّما أُريد بالتحريم: الهزيمةُ عن المشركين. فصلٌ: في الثبوت للضِّعف، وهل يباح الفرار إذا زاد على ذلك؟ قال الله -عز وجل-: {يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وإِن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ. الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكمُ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مائَتَيْنِ وإِن يَكُن مِنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذنْ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرينَ} [الأنفال: 65-66] . فاتفق أهل العلم (2) ، ومن يُعْتَدُّ برأيهم، على أن الثبوت إذا كان المشركون ضِعْفَ المسلمين فأقلَّ: واجبٌ، والفرارَ عنهم حرامٌ، أو: معصيةٌ، وكبيرةٌ من جملة الكبائر (3) . واختلفوا بعد ذلك في ثلاثة مواضع: أحدها: إذا زاد المشركون على الضِّعف، هل يباح الفرار أو لا؟ والثاني: هل يعتبر الضِّعف في العدد أو في القوة والجَلَد؟ والثالث: هل للجَمع الذي يُباح له الفرار عند الزيادة على الضِّعف حَدٌّ، إذا انتهى إليه كان الفِرارُ محرَّماً بَعْدُ على كلِّ حال، وإنْ زاد عدد المشركين أضعافاً، أو لا حَدَّ له؟   (1) في «الأم» (4/179- ط. دار الفكر) ، وانظر: «مشارع الأشواق» (1/566) . (2) جاء في «حاشية الروض المربع» (4/267) : «اتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان وجب على المسلمين الحاضرين الثبات، وحرم عليهم الانصراف والفرار» . (3) انظر كتاب «الكبائر» للذهبي (الكبيرة الحادية عشرة: الفرار من الزحف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فأمَّا الأول؛ وهو إذا كثر عدد المشركين، فكانوا فوق الضِّعف، فذهب قوم إلى أن الفرار محرمٌ -أيضاً- على كل حال، ولا يحلُّ التولي عنهم إلا لمتحرفٍ لقتال، أو متحيزٍ إلى فئةٍ يستنصر بها من المسلمين، وإليه ذهب أبو محمد بن حزم (1) ، وأظنُّه قول جماعة أهل الظاهر، ودليلهم على ذلك: عمومُ آية النهي عن التولِّي عند الزحف، وإطلاقُ الوعيد كذلك على من ولَّى عموماً، من أي عددٍ كان، ولم يَرَوْا آيتي التحريض في الصبر، ووعدِ الغلب تعرَّضتا لذلك بنسخٍ ولا تخصيص، بل هو عندهم باقٍ على عمومه، كما قد أشرنا إليه في الفصل قبل هذا. وذهب مالكٌ (2) ، والشافعي (3) ، وأبو حنيفة (4) ، وجمهور أهل العلم إلى أنه لا حَرجَ على من ولَّى أمام عَدَدٍ فوق ضِعْفَ المسلمين، إذا خشوا الغَلبة، وهم في سَعَةٍ من الفرار، إذا زاد المشركون على الضِّعف. ومستند هؤلاء ما دلَّ عليه ظاهر قوله -تعالى-: {إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مائَتَيْنِ} إلى قوله -تعالى-: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكمُ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مائَتَيْنِ وإِن يَكُن مِنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذنْ اللَّهِ} [الأنفال: 65-66] ، فحملوا هذا على أنه مخصوصٌ؛ لعموم النهي عن التولِّي عند الزحف، وبَيَّنَتْ عندهم هذه الآياتُ أن ذلك ليس على الإطلاق في لقاء كل عدوٍّ من الكفار، بل هو في حال كون العدد على مبلغ ما ذُكِرَ في الآيتين فأقلَّ، فأما ما زاد على ذلك، فظاهر الآية، وما ذُكِرَ من التخفيف يدل   (1) في «المحلى» (7/292) ، وقد مَضَى كلامه. (2) انظر: «الذخيرة» (3/410) ، «البيان والتحصيل» (17/30) ، «النوادر والزيادات» (3/ 50) ، «الخرشي» (4/19) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/178) . (3) انظر: «الأم» (4/169) ، «روضة الطالبين» (10/248) . (4) انظر: «شرح السير الكبير» (1/89) ، «أحكام القرآن» (4/227) للجصاص، «الفتاوى الهندية» (2/193) . وهذا مذهب الحنابلة، انظر: «المغني» (13/187) ، «كشاف القناع» (2/374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 على السَّعة في التولّي عنهم، وهذا مسلكٌ سديدٌ في حمل الآية في تحريم التولِّي على أنها مُحْكَمةٌ غير منسوخة، كما ذهب إليه عطاء، وأنها عامة في خطاب جميع المسلمين، لا مقصورة على أهل بدر، كما ذهب إليه جماعة (1) ، ثم كون الآيةُ بَعْدُ مخصصة الإطلاقِ بالآية الأخرى، في بيان ما أريد بها من مبلغ عدد الكفَّار الذين يحرم التولي عنهم. قال ابن عباس: «إنْ فَرَّ رجلٌ من رَجْلين فقد فَرَّ، وإن فَرَّ من ثلاثة فلم يَفرَّ» (2) . قال ابن شُبْرمة (3) : وكذلك النهي عن المنكر، لا يحلُّ له أن يَفِرَّ   (1) مضى تحقيق مذهب عطاء ومن قال: إنها مقصورة على أهل بدر. (2) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (رقم 1001- ط. الحميد، ورقم 2538- ط. الأعظمي) ، وابن المبارك في «الجهاد» (رقم 235) ، وأحمد بن منيع في «مسنده» -كما في «إتحاف الخيرة المهرة» (3/ ق 77/أ) -، والبيهقي في «الكبرى» (9/76) من طريق ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، به. ورواه الطبراني باللفظ الذي عند البيهقي عن ابن عباس مرفوعاً، ورجاله ثقات. قاله الهيثمي في «المجمع» (5/331) . قلت: ولا يصحَّ المرفوع. انظر: «الضعيفة» (رقم 6182) . وأخرجه عبد الرزاق (5/252/ رقم 9525) عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أنه بلغه أن ابن عباسٍ قال: جُعل على المسلمين على الرجل عشرة من الكفار، في قوله: {إِن يَكُن مِنكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإِن يَكُن مِنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} فإن لقي رجلٌ رجلين فَفَرَّ، أو رجلاً ففرَّ، فهي كبيرة، وإن لقي ثلاثة فَفَرَّ منهم، فلا بأس. وأخرجه سعيد بن منصور (رقم 1000- ط. الحميد، ورقم 2537- ط. الأعظمي) ، والشافعي في «الأم» (4/92) ، والطبراني (11211) ، وابن الجارود (1049) ، والبيهقي (9/76) ، وفي «الشعب» (8 رقم 4001) ، والطحاوي بسندٍ صحيح عنه، وكذا ابن أبي شيبة (12/537) ، وزاد: «يعني من الزحف» . (3) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب {يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنينَ عَلَى القِتَالِ ... } الآية) بعد رقم (4652) ، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن ابن عباس. في ذكر آية التخفيف. ثم قال: قال سفيان: وقال ابن شبرمة: «وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا» . قال الحافظ في «الفتح» (8/312) : «وهو موصول، ووهم من زعم أنَّه معلَّق، فإن في رواية ابن أبي عمر عن سفيان، عند أبي نعيم في «المستخرج» : قال سفيان: فذكرته لابن شبرمة، فذكر مثله» . وقول ابن شبرمة: «وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا» . قال الحافظ: «أي أنه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 من اثنين إذا كانا على منكر، وله أن يَفِرَّ من أكثر منهما. وأما الموضع الثاني الذي اختلفوا فيه من هذا الفصل؛ وهو اعتبار الضِّعف، هل يرجع إلى العَدَد أو إلى القوة؟ فقول أكثر أهل العلم أنه في العدد، واحدٌ لاثْنين، فيلزم المسلمين الثبوتُ لمثلي عددهم من الكفَّار، وإن كانوا أقوى في السلاح والشِّدَّة والجَلَد، وهو المرويُّ عن مالكٍ (1) ، وغيره من أهل العلم (2) ،   = عنده في حكم الجهاد، لجامع ما بينهما من إعلاء كلمة الحق، وإخماد كلمة الباطل» . وقال معلِّقاً على حديث الباب عند البخاري (8/313) : «واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلباه أو طلبهما، سواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر، وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس، ورجحه ابن الصباغ من الشافعية، وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في «الرسالة» الجديدة رواية الربيع ولفظه، ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت، قال بعد أن ذكر آيات في كتابه: أنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة، وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين، ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب، وساق الكلام عليه، لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة، جاز له التولي عنهما جزماً، وإن طلبهما فهل يحرم؟ وجهان: أصحهما عند المتأخرين: لا، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه، وهو ترجمان القرآن، وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار، أما المنفرد وحده بغير العسكر: فلا؛ لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر، فقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه سرية وحده. وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس، وفي غالبهما التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين، واستدل ابن عباس في بعضها بقوله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] ، وبقوله -تعالى-: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84] » . (1) انظر: «النوادر والزيادات» لابن أبي زيد القيرواني (3/50) ، و «الذخيرة» (3/410) ، و «البيان والتحصيل» (17/30) . (2) قاله الحنفية بقيد يأتي تنبيه المصنف عليه. انظر: «شرح السير الكبير» (1/89) ، «أحكام القرآن» (4/227) للجصاص، «الفتاوى الهندية» (2/193) ، والحنابلة، انظر: «كشاف القناع» (2/ 374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وهذا هو الصحيح؛ لأن نَصَّ القرآن إنما جاء بالعدد. وقيل: إن ذلك راجعٌ إلى الجَلَد والقوة، فإذا كان المشركون أشدَّ سلاحاً، وأظْهَرَ جَلَداً وقوة، والمسلمون في ضَعْفٍ من أبدانهم، ودوابهم، وسلاحهم، بالأمر البيِّنِ المجاوزِ لحدِّ المثلين في القوة، فخافوا أن يغلبوهم؛ لم يجب عليهم الثبوت، وكانوا في سعةٍ من التولِّي عنهم، وإن كان المشركون أقل من مثليهم عدداً، وهو قول ابن الماجشون، ورواية عن مالك، وبه قال عبد الملك بن حبيب (1) . وأما الموضع الثالث؛ وهو: هل لجمع المسلمين الذين يباح لهم الفرار عند زيادة المشركين على مثلهم (2) حَدٌّ (3) ، إذا انتهى المسلمون إليه، حَرُمَ الفرار أبداً، وإن عظمَ جمعُ الكفار، أو ذلك مطلق لكلِّ جَمعٍ من غير تحديد؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنَّ ذلك مُطْلق، وأنَّ كُلَّ جَمعٍ من المسلمين بالغاً من العدَّة والكثرة ما بلَغَ، إذا لاقوا أكثر من ضِعْفهم من الكُفَّار، لهم سَعَةٌ في أن يُوَلُّوا إذا خشوا الغلبة، وعليه مذهب الشافعي وأصحابه (4) ، ودليل هؤلاء، أن الله -تعالى- فَرضَ الصَّبر على المثلين دون ما زاد على ذلك فَرْضاً مُطلقاً، لا يختصُّ به عددٌ دون عدد، وذهب قومٌ إلى أنه لا يُباح الفرار عَمَّا فوق الضِّعف من الكفار، إلا لمن لم يبلغ جمعهم من المسلمين اثني عشر ألفاً، فإذا بلغ جمع المسلمين اثني عشر ألفاً، فقد انْحَتَم العَزْمُ، ولزم الصَّبْر، وحَرُمَ حينئذٍ الفرار، بالغاً   (1) انظر: «قدوة الغازي» (197-198) ، «النوادر والزيادات» (3/50) ، و «الذخيرة» (3/ 410) ، وإليه ذهب ابن الماجشون في «الواضحة» . نقله ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/387) ، والقرطبي في «تفسيره» (7/389) ، وانظر: «التحرير والتنوير» (21/215) . وهو مذهب الشافعية -أي: اعتبار الضعف راجع إلى الجلد والقوة-، انظر: «روضة الطالبين» (10/248-249) ، «مغني المحتاج» (4/226) ، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (ص 180) . (2) كذا في الأصل والمنسوخ، والأصوب أن يقال: «مثليهم» . (3) في الأصل: «حدًّا» ، ومصححة في المنسوخ: «حدٌّ» . (4) «الأم» (4/169) ، «روضة الطالبين» «10/248) ، «مغني المحتاج» (4/226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 عدد المشركين من الزيادة على الضِّعف ما بَلَغ، وهو قول محمد بن الحسن، وسائر أصحاب أبي حنيفة (1) . ودليل هؤلاء: ما خرَّجه الترمذيُّ، وأبو داود، كلاهما عن ابن عباسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الصحابة أربعة، وخير السَّرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة الآف، ولن يُغلب اثنا عَشَرَ ألفاً من قِلَّة» (2) . قال فيه الترمذي: «حسن غريب» .   (1) انظر: «شرح السير الكبير» (1/89) ، «أحكام القرآن» (4/227) للجصاص، «الفتاوى الهندية» (2/193) . وقال ابن القاسم: «.. وإن بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً؛ لا يجوز التولي، وإن كان العدد زائداً على الضعف» [ «الذخيرة» (3/411) ] . (2) أخرجه عبد بن حميد (652) ، وأبو داود (2611) ، والترمذي (1555) ، وأحمد (1/ 294) ، وأبو يعلى (2587) ، وابن خزيمة (2538) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/238) ، وابن حبان (4717) ، والحاكم (1/443 و2/101) ، والبيهقي (9/156) ، ومحمد بن مخلد في «المنتقى من حديثه» (2/3/2) ؛ من طرق عن وهب بن جرير، حدثنا أبي، قال: سمعت يونس يحدث عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، مرفوعاً. وقد اختلف في وصله وإرساله، قال أبو داود: «الصحيح أنه مرسل» ، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم، وإنما روي هذا الحديث عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً» ، وقال أبو حاتم الرازي -كما في «العلل» لابنه (1/347) -: «مرسل أشبه، لا يحتمل هذا الكلام أن يكون كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -» . وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه؛ لخلاف بين الناقلين فيه عن الزهري» ، ووافقه الذهبي، وقال البيهقي: «تفرد به جرير بن حازم موصولاً» ، وتعقبه ابن التركماني بقوله: «هذا ممنوع؛ لأن جريراً ثقة، وقد زاد في الإسناد فيقبل قوله، كيف وقد تابعه عليه غيره» ، وقال المناوي في «فيض القدر» (3/474) : «ولم يصححه الترمذي؛ لأنه يروى مسنداً ومرسلاً ومعضلاً» ، قال ابن القطان: «لكن هذا ليس بعلة، فالأقرب صحته» ، ونقل تصحيحَ ابن القطانِ: الحافظُ ابنُ حجر في «إتحاف المهرة» (3/60) ، قال: «وصححه ابن القطان؛ لأنه لا يرى الاختلاف في الإرسال والوصل علّة، كما هو رأي أبي محمد بن حزم» . قلت: وصححه -أيضاً- الضياء المقدسي في «المختارة» (62/292/2) . وأخرجه الدارمي (2438) من طريق حبان بن علي، عن يونس، عن الزهري، به، وقرن بيونس: عُقيل بن خالد. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ووجه الدليل من هذا الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفاً من قِلَّة» ، أنه يدلُّ على أنَّ مراعاة العدد فوق ذلك لا أثر له، إمَّا عادةً وإمَّا شرعاً، وأنه متى غُلِبَ هذا العدد، فلمْ يُؤت عليه من وجه القِلَّة، وإنما يكون ذلك من جهة التقصير، إما بالجُبن، أو التخاذل، وعدم الصدق، وفساد النِّيَّة، وتفرق الكلمة، وكلُّ ذلك ملوم صاحبه، فوجب أن لا يُعْذر، ولا يعتبر عند الانتهاء إلى هذا   = وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف حبان بن علي. وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/239) والقضاعي في «مسند الشهاب» (1237) من طريق مندلٍ، وحبانَ ابني علي، عن يونس بن يزيد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، به. وهذا إسناد ضعيف لضعف مندل وحبان. وأخرجه أحمد (1/299) وأيو يعلى (2714) عن حبان -وحده -، عن عقيل -وحده-، به. وأخرجه الدارمي (2438) عن محمد بن الصلت، ولُوين في «حديثه» (ق2/ 2) -ومن طريقه القضاعي (1239) -، وابن عدي في «الكامل» (2/833) من طريق داود بن عمرو، ثلاثتهم، عن عقيل بن خالد، به. وأخرجه أبو داود في «المراسيل» (314) ؛ من طريق عثمان بن عمر، عن يونس بن يزيد، عن عقيل، عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.. بمعناه مرسلاً. وقال: «قد أُسند هذا، ولا يصح» . وأخرجه عبد الرزاق (9699) عن معمر، عن الزهري، مرسلاً. وأخرجه كذلك سعيد بن منصور في «سننه» (2387) ، وعنه أبو داود في «المراسيل» (313) عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، مرسلاً، دون قوله: «لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قِلَّة» . ورجال المرسَلَيْن ثقات من رجال الشيخين. وأخرجه -أيضاً- الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/239) من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، مرسلاً. وعبد الله بن صالح حسن الحديث في المتابعات، ومن فوقه ثقات رجال الشيخين. وله شاهد من حديث أنس بن مالك عند ابن ماجه (2827) ، والقضاعي (1236) ، و (1238) ، وإسناده ضعيف جداً، وأورده ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/580) . وآخر من حديث أكثم بن الجون عند البيهقي (9/157) ، وإسناده ضعيف جداً. وعلى أيٍّ فالحديث لا يصح، وهو مرسل ضعيف. * تنبيه: كان شيخنا الألباني قد صحح الحديث في «الصحيحة» (986) ، و «صحيح أبي داود» و «صحيح الترمذي» ، ثم تراجع عن تصحيحه -رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 العدد (1) من مادة العدو على الضِّعف بحال، والحكمة في هذا ظاهرة في عُرْفِ القتال؛ لأن الجموع إذا انتهت إلى هذا القدر؛ لم يكن لمن زاد على ذلك أَثَرٌ في معالجة القتال؛ لأنهم كلهم لا يتمكنون من الكرِّ والحمل والمجالدة، بل لا يجدون مجالاً في الغالب، قال النابغة -يَصِفُ عظم الجيش، وتضييق بعضهم على بعض في النفوذ والسَّير-: جَمْعاً يظلُّ به الفضاءُ مُعَضِّلاً ... يَدَعُ الإكامَ كَأنَّهنَّ صَحارِي (2) فصار الزائدُ في محل اللقاء، كأنه لم يكن، إذْ لا أثر يوجد منه في المحاولة والمغالبة. فإن قيل: إنهم وإن لم يتمكنوا كلهم من القتال، فلهم من الغَناء أنَّ القَتْلَ إذا انْتَقَصَ شيئاً من عدد أصحابهم المقاتلين خَلَفه غيره، فلا يزالون موفورين، وينقُص عدد الآخرين، فلا يوجد من يَسُدُّ مكانه في القتال. قيل: إذا نقصوا عن اثني عشر ألفاً بالقتل ونحوه؛ لم يكن لمن بقي حكم الاثني عشر ألفاً، وعلى ماذهب إليه من ذلك أصحاب مذهب أبي حنيفة (3) هو ظاهر ما يروى عن مالكٍ، حُكي عنه أنَّ سائلاً سأله، فقال: أَيَسْعُنَا التخلُّف عن قتال من خرج عن أحكام الله -تعالى-، وحكم بغيرها؟ فقال له مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفاً مِثْلكَ؛ لم يَسعكَ التخلف، وإلا فأنت في سَعَة (4) .   (1) رَسَمها الناسخ: «الحدد» . (2) «ديوان النابغة» (ص 105- ط. دار الكتاب العربي) . المعضل: الضيِّق. والإكام: مرتفع من الأرض، الواحدة (أَكَمة) . وهو يصف قومه وكثرة عددهم، فالمعنى: إن هؤلاء القومَ يضيقُ الفضاء بهم لكثرة عددهم، وتصبح المرتفعات الوعرة أرضاً مستويةً كالصحراء، بكثرة مرورهم بها. (3) انظر: «شرح السير الكبير» (1/89) ، «أحكام القرآن» (4/227) للجصاص، «الفتاوى الهندية» (2/193) . (4) انظر: «الخرشي» (4/19) ، «حاشية الدسوقي» (2/178) ، وانظر توجيه الحديث في: «عون المعبود» (7/193) ، ورد ابن العربي في «العارضة» (7/44-45) الاستدلال بهذا الحديث بأنَّ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 * مسألة: إذا شَكَّ المسلمون في عدد عدوهم؛ هل زاد على الضِّعف أو لا؟ حَرُمَ التولّي -أيضاً-، حتى يقع اليقين الذي لا شكَّ فيه أنهم أكثر من مثليهم، والدليل على ذلك: أن الله -تعالى- أوجب الثبوت عند اللقاء، وحرَّم التولي، ولم يجعل في ذلك رخصةً إلا بعد الزيادة على الضِّعف، فما لم يُحقَّق ذلك فلم ينتقل عن الأصل، ولا وجد شرط الرخصة؛ فكان التولي ممنوعاً (1) . * مسألة: إذا زاد العدو على الضِّعف في العدد، إلا أنهم مع ذلك ضعفاء في أبدانهم، ودوابهم، وسلاحهم، ضَعْفاً بيِّناً، أو كانوا ممن لا يعرف الحرب، ولا كبير غناء عندهم، وما أشبه ذلك، مما يُعلم في العادة أن المسلمين الذين لَقوهم لا يشقُّ عليهم مغالبتهم مع كثرة عددهم، ولا يضعفون عن مقاومتهم، لما هم عليه من القوّة والشوكة والقيام بالحرب، وما أشبه ذلك؛ فالتولي عنهم والفرار أمامهم حرامٌ -أيضاً- (2) ، والدليل عليه: أن الله -تعالى- أمر بالثبوت عند اللِّقاء، وإنَّما أرخص فيما زاد على الضِّعف تخفيفاً، إذا كان في المسلمين الذين لقوهم ضعْفٌ عن مقاومتهم. قال الله -سبحانه-: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكمُ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] ، فإذا لم يكن فيهم ضَعْفٌ عن لقاء مثلهم، بل ربّما شهدت الحال باستيلاء المسلمين عليهم إذا صدفوهم، فالتولي حرام؛ لأن علَّة التخفيف هنا لم توجد، مع ما في الفرار عن مثل هؤلاء من التهاونِ بالدِّين، وتجرئةِ الكفار على المسلمين.   = المراد: لا يُغلب اثنا عشر ألفاً من قلة بالنسبة لزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاثنا عشر ألفاً في ذلك الزمن يعتبرون في حدّ الكثرة، ولذلك ضمن له النصر إذا صحّت النيات. (1) يخرَّج هذا الفرع على قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) . (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/50) ، وتقرير المصنف يدل على أنه يرجح أن الضِّعْفَ يكون في القوة والجَلَد، لا في العدد ... ، «الذخيرة» (3/411) -وفيه: «قال إمام الحرمين من الشافعية: إذا تيقن المسلمون أنهم لا يؤثرون شيئاً ألبتة، وأنهم يقتلون من غير نكاية العدو، ولا أثر أصلاً، وجبت الهزيمة من غير خلاف بين العلماء، وهو متّجه» -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ولهذا المعنى نقول: إن الفرار أبداً لا يحل، وإن زاد المشركون على الضِّعف، ما دام المسلمون بهم قوة عليهم، ولهم رجاء في الإحاطة بهم، والامتناع منهم؛ لأن التخفيف إنما جعل لما يكون من الضَّعْفِ عنهم، ورَفْعاً لتكليف ما يشق من الصَّبْر على مقاومتهم، والله أعلم. وروي عن مالكٍ أنه قال: «لا يجوز الانحياز إلا عن خوفٍ بَيِّنٍ وضَعف» (1) . وأما على مذهب من يعتبر في مراعاة المثلين: القوة والجَلَد (2) ، فلا يخفَى أن الثبوت واجبٌ في مثل هؤلاء، وإن زادوا في العدد على الضِّعف، والفرار عنهم حرام. * مسألة: إذا لَقي المسلمون مِثْلي عددهم من الكفار، دون زائدٍ عليهم، لكن كان لقاؤهم إياهم بأرض العدو، وفي موضع تكاثر جَمْعهم، وإمدادِ بعضهم بعضاً؛ لتعاقب ديارهم، وتضافر أعدادهم، فهم يخافون استجاشتهم عليهم وإجلابهم؛ فقد قيل: إن لهم في التولية سعَة (3) . وأقول: إنه لا يباح لهم الفرار، ولا سَعَة لهم في التولِّي عنهم، إلا أن يتزايد جمعهم، حتى يزيدوا على الضِّعف، والدليل على ذلك: أن التخفيف والرخصة في التولِّي إنما أبيح فيما زاد على الضِّعف، وما لم ينتهِ العدد إلى ذلك؛ فهم مخاطبون بالثبوت والصبر، والله أعلم. *****   (1) «النوادر والزيادات» (3/51) ، وفيه: «وقال ابن المواز، عن مالك: لا يجوز الانحياز إلا عن خوفٍ بَيِّن، وعن جيش مستطلع، وضعفٍ من السلطان، فأمَّا عن أمر متناصفٍ في الغلبة لهم طمع؛ فلا، ولا يكون لأمير الجيش ما يكون للسرايا من الانحراف والتولِّي عنهم. قال: ولهم سعةٌ أن يثبتوا لقتال أكثر من الضعفين والثلاثة، وأكثر من أضعاف كثيرة، وهم يجدون مصرفاً عنهم» . (2) كما هو مذهب الشافعية. وقد مضى ذكر ذلك. (3) «النوادر والزيادات» (3/50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الباب الخامس فيما يجب وما يجوز أو يحرم من النكاية في العدو والنيل منهم، ومعرفة أحكام الأسرى، والتصرف فيهم قال الله -عز وجل-: {وَلاَ يَطَئونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] . وقال الله -تعالى-: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] . وقال الله -تعالى-: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وخرج مسلم (1) ، عن عبد الله بن عمر: أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق، وهم غارُّون وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتَلَ مُقاتَلَتَهُم، وسَبَى سَبْيَهم. وعنه -أيضاً- (2) ، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَرَّق نخل بني النضير، وقَطَعَ، وهي   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز الإغارة على الكفار) (رقم 1730) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب العتق (باب من مَلَك من العرب رقيقاً، فوهب وباع وجامع وفدى وسَبى الذرية) (رقم 2541) . (2) أي ابن عمر. أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها) (1746) (29 و30) وفيه شعر حسَّان بن ثابت -رضي الله عنه-. وأخرجه بالشِّعر المذكور: البخاري في كتاب الحرث والمزارعة (باب قطع الشجر والنخل) (رقم 2326) . وأخرجه مختصراً دون الشعر (رقم 3021 و4031 و4884) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 البُوَيْرة. قيل: البويرة: اسم المكان الذي قطع وحرق، وفي ذلك يقول حسَّان: وهان على سراةِ بني لُؤَيٍّ ... حريقٌ بالبُويرةِ مُسْتَطيرُ فنقول: النكاية في العدو، والنيل منهم على ثلاثة أقسام؛ منها جائزٌ باتفاق، ومنها محظور باتفاق، ومنها مختلفٌ فيه. فأما الجائز باتفاق (1) ، فقتل مُقَاتَلَتِهِم في الزحف، وسَلْبُ أموالهم، ووطء بلادهم، وسَبْيُ أبنائهم وذراريهم، والإسار بعد الإثخان، على خلافٍ في استحياء الأسرى بعدُ أو قَتلهم، والدليل على هذا: ما تقدم من الكتاب والسُّنة، ولا خلاف فيه. وأما المحظور باتفاق (2) : فقتلُ النساء والصبيان، حيث لا يضطرُّ إلى ذلك، إمَّا في البيات أو المدافعة حال القتال، والدليل على هذا: قوله -تعالى-:   = وأخرجه البخاري في كتاب المغازي (باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في دية الرجلين) (رقم 4032) وفيه -بعد شعر حسَّان فيهم-، قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث. أدام الله ذلك من صَنيعٍ ... وحرَّق في نواحيها السَّعيرُ سَتَعْلَمُ أيُّنا منها بِنُزْهٍ ... وتَعْلَمُ أيُّ أَرْضَيْنا تَضيرُ وشعر حسّان في «ديوانه» (ص 247- ط: دار الكتاب العربي) . وسراة بني لؤي: أي: خيارهم. والبويرة: موضع بني قريظة. (1) قال ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/386) : «يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين» ، وانظر -غير مأمور-: «المبسوط» (10/5) ، «بدائع الصنائع» (6/64) ، «الذخيرة» (3/399) ، «روضة الطالبين» (10/243) ، «كشاف القناع» (2/ 378) -وعبارته: «لا نعلم خلافاً أن من قاتل ممن ليس آهلاً للقتال، فإنهم يقتلون» -، «الشرح الممتع» (8/27) ، «المحلى» (5/347) . (2) قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (11/292) : «أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا» ، وقال ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/386) : «ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم، ما لم يقاتل الصبي والمرأة» . وانظر: «المبسوط» (10/5) ، «فتح القدير» (5/202) ، «المعونة» (1/624) ، «روضة الطالبين» (10/243) ، «كشاف القناع» (2/377) ، «المحلى» (5/347) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، وهؤلاء ليسوا ممن يقاتل، فوجب الكفُّ عنهم، وكان القتل اعتداءً فيهم. وما خرَّجه البخاري ومسلم، عن ابن عمر قال: وُجِدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النِّساء والصبيان (1) . ولا خلاف -أيضاً- فيه. وأما المختلف فيه فأشياء؛ منها: قتلُ الرهبان والعُسَفاء ونحوهم، ممن ليسوا بصدد القتال، ومنها: قتل المرأة والصبي إذا قاتلا، ومنها: رمي الحصون بالمجانيق والنار، وفيهم النِّساءُ والصبيانُ وأسرى المسلمين، ومنها: القتل بغير السلاح، كالتحريق بالنار وشَبهه من ضروب القتل المعذّبة، ومنها: تحريقُ الديار وتخريبها، وتحريق الزرع والأشجار وقطعها، وقتلُ البهائم والحيوان. ونحن -إن شاء الله- نفصِّل الكلام في ذلك مسألةً مسألةً، ونشير إلى أدلة المذاهب وسبب الخلاف، والتنبيه على ما يظهر لنا أنه الأرجح، على حسب ما شرطناه، بحول الله -تعالى-. فصلٌ اختلفوا في قتل الرهبان والعُسَفاء ونحوهم، ممن لايتعرّض مثلهم للقتال، فذهب الشافعيُّ (2) -في أصح قوليه- إلى جواز قتل الجميع، وعليه يجيء مذهب   (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب قتل النساء في الحرب) (رقم 3015) . و (باب قتل الصبيان في الحرب) (رقم 3014) . ومسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب) (1744) (24 و25) . (2) انظر: «الأم» (7/350) ، «مختصر المزني» (272) ، «الوجيز» (2/189) ، «الإقناع» (176) ، «مختصر الخلافيات» (5/47 رقم 314) ، «مغني المحتاج» (4/222-223) ، «نهاية المحتاج» (8/ 64) ، «روضة الطالبين» (10/243) ، «المهذب» (2/299) ، «المجموع» (21/154-155) ، «حلية العلماء» (7/650) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الظاهر، وقاله أبو محمد بن حزم (1) ، ودليلهم: عموم قوله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لاإله إلا الله» . خرَّجه مسلم وغيره (2) . وفي حديث بريدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ... ثم قال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ... » . الحديث، وقد تقدم بطوله من رواية مسلم (3) . فلما كانوا سواءً في الكفر الذي به حلَّت دماؤهم، وتناولهم عموم القرآن والسنة بذلك من غيرتفريقٍ؛ وجب استواؤهم في القتل المشروع في أهل الكفر، وهذا ظاهر راجح، ويزيد ذلك وضوحاً حديثُ أبي داود، عن سمرة بن جندب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم» ، وخرجه الترمذي عنه، وقال: «واستحيوا شرخهم» (4) . والشرخ: الغلمان الذين لم يُنْبِتوا.   (1) في «المحلى» (7/296/ المسألة رقم 928) . (2) مضى تخريجه. (3) مضى تخريجه -أيضاً-. (4) أخرجه أبو داود (رقم 2670) ، وأحمد (5/12، 20) ، وابن أبي شيبة (12/388/رقم 33138) ، والطبراني في «الكبير» (6900) ، وسعيد بن منصور في «السنن» (2624) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/92) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (رقم 18099) ، وأبو عبيد في «غريب الحديث» (3/ 16) ، والروياني في «مسنده» (رقم 802) من طريق حجاج بن أرطاة، والترمذي (1583) ، والطبراني في «الكبير» (6902) ، وفي «مسند الشاميين» (2641) من طريق سعيد بن بشير؛ كلاهما عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة مرفوعاً، والبزار في «مسنده» (253- الكتَّانية) ، وأبو طاهر المخلص في «فوائده» (175/ب) من طرقٍ عن قتادة، به. والحجاج بن أرطاة: صدوق كثير الخطأ والتدليس. كما قال الحافظ في «التقريب» وقد عنعنه، لكنه صرح بالتحديث في رواية سعيد بن منصور. وسعيد بن بشير -وهو الأزدي- مولاهم: ضعيف. وانظر: «ضعيف أبي داود» و «ضعيف الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. واختلف العلماء في سماع الحسن من سمرة، والراجح أن الحسن يروي عن سمرة وجادة من كتاب. وانظر: «المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس» للشريف حاتم العوني -حفظه الله- (ص 1301) . فكلا الطريقين ضعيف، لكن الحديث يتقوى بهما، فهو حسن -إن شاء الله-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قال فيه: حسن صحيح غريب. فالشيوخ: البالغون (1) . وقد أمر بقتلهم عموماً، ولم يَستثنِ أحداً منهم، ولو كان يجب استبقاء صِنْفٍ منهم؛ لاستثناه حين علَّمهم حدود ما يجب في ذلك عليهم، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في استثناء الشرخ: وهم الصغار دون البلوغ، وكذلك وقع مفسراً في رواية الترمذي. وشرخ الشباب: أَوَّله. وذهب مالك (2) إلى أنه لا يُقْتَلُ الهَرِمُ، ولا الأعمى، ولا المعتوه، ولا المُقعد،   = ولذا قال الترمذي: حسن صحيح غريب. ثم قال: ورواه الحجاج بن أرطاة عن قتادة. فلعلَّه من أجل ذلك حسَّنه. وأخرج نحوه: الطبراني (7037) ، من طريق جعفر بن سعد بن سمرة، عن خُبَيْب بن سُليمان ابن سمرة، عن أبيه، عن سمرة. وهذا إسناد ضعيف، ففيه غير واحدٍ ضعيف أو مجهول. (1) انظر: «غريب الحديث» لأبي عُبيد (3/16-17) ، و «النهاية» لابن الأثير (2/456-457) . (2) «المدونة» (1/370) ، «الرسالة» (189) ، «المعونة» (1/624) ، «أسهل المدارك» (2/ 16) ، «الكافي» (208) ، «قوانين الأحكام» (164) ، «بداية المجتهد» (1/384) ، «فتح الجليل» (3/ 144-146) ، «حاشية الدسوقي» (2/177) ، «شرح الزرقاني» (3/111-112) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/468) ، «الذخيرة» (3/397) ، «جامع الأمهات» (ص 246) ، «النوادر والزيادات» (3/ 57-58) ، «الاستذكار» (14/72 رقم 19435) ، «الإشراف» (4/419 مسألة رقم 1739- بتحقيقي) . وانظر: «التحقيق» لابن الجوزي (10/149 رقم 728) . واستدلَّ المالكية على عدم قتل الشيوخ ولا أهل الصوامع؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقتلوا شيخاً فانياً» ، وقوله: «لا تقتلوا أهل الصوامع» . قلت: أما الحديث الأول، فأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/383) -ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (7/472) -، وأبو داود في «سننه» (2612) ، والبيهقي في «سننه» (9/90) عن أنس بن مالك رفعه، ضمن حديث، وفيه خالد بن الغرْز: مقبول؛ أي: إذا توبع، ولم يتابع. وانظر: «جامع الأصول» (2/596) ، «نيل الأوطار» (7/261) ، «نصب الراية» (3/386) ، «مختصر سنن أبي داود» (3/419) . والحديث الثاني أخرجه ابن أبي شيبة (12/378 رقم 14078) ، وأحمد في «مسنده» (1/ 300- ط. شاكر) ، وأبو يوسف في «الخراج» (رقم 209) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 225) ، والبيهقي (9/90) ، وابن حزم في «المحلّى» (7/473) عن ابن عباس ضمن حديث. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولا أصحاب الصوامع الذين لا يخالطون الناس، يعني: أنه لا أذىً عندهم بقتال ولا مشاركة رأيٍ؛ لانفرادهم، ونحو ذلك، وروي (1) عن أبي حنيفة وأصحابه (2) . وقال الأوزاعي (3) : لا يقتل الحراث، ولا الراهب، ولا الشيخ الكبير، ولا المجنون. قلت: أمَّا المجنون، فلا ينبغي أن يكون فيه خلافٌ أنه لا يقتل، لاسيّما إن كان كذلك بَلَغ، فهو غير مكلفٍ باتفاق، ولا يَنْطَلِقُ عليه وصف الكفر، ودليل هؤلاء في تخصيص من خصَّصوه من هذه الأصناف: ما يُنتزع من قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، فمن غلب على نظره في صنف من هؤلاء العاجزين عن القتال غالباً كالزَّمْنَى والهَرْمَى والمنقطعين من الرهبان، وأهل الخدمة والامتهان، أنهم لا يُعتدُّون فيمن يقاتل؛ جعلهم مخصوصين من القتل، ورأى ذلك ممنوعاً بقوله -تعالى-: {وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، أي: لا تقتلوا من ليس من أهل القتال، وقياساً على النساء؛ بعلَّة العجز عن القتال. وأيضاً، فقد رووا في بعض ذلك آثاراً تعترض من جهة الإسناد، وأرجح ما في ذلك: ما خرَّجه أبو داود (4) ، عن رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة،   = وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة. وانظر: «المحلّى» (7/473) ، «نيل الأوطار» (7/262) . (1) في الأصل والمنسوخ: روي. بدون واو. (2) انظر: «شرح معاني الآثار» (3/220-225) ، «المبسوط» (10/29، 64) ، «تحفة الفقهاء» (3/295) ، «فتح القدير» (5/452) ، «الاختيار» (4/120) ، «السير الكبير» (5/1807- مع «شرحه» ) ، «بدائع الصنائع» (7/101) ، «تبيين الحقائق» (3/245) ، «البحر الرائق» (5/130-ط. دار الكتب العلمية) ، «مجمع الأنهر» (2/414-415) ، «البناية شرح الهداية» (5/662) . (3) واستثنى المريض إذا كان شابًّا، فيقتل. انظر: «النوادر والزيادات» (3/58) ، و «الاستذكار» (14/72) ، «معالم السنن» (2/280) ، «المغني» (10/543) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/397) . (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في قتل النساء) (رقم 2669) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فرأى الناسَ مُجْتَمعينَ على شيءٍ، فبعث رجلاً فقال له: «انظر، علامَ اجتمع هؤلاء؟» ، فجاء فقال: امرأةٌ قتيل، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل!» ، قال: وعلى المقدمة: خالد بن الوليد، فبعثَ رجلاً فقال: «قُلْ لخالد: لا تَقتُلنَّ امرأةً ولا عسيفاً» . فهذا الخبر عند من صححه حجةٌ في استثناء العسيف، وأصلٌ لمن سواه من ذوي الأعذار، والعجزِ عن القتال، إذا كان ممن يقول بالقياس. والعَسيفُ: الأجير. والجَمع: العُسفاء، كالأجَراء. وذكر مالك في «موطئه» (1)   = وأخرجه النسائي في «الكبرى» (8625 و8628) ، وابن ماجه (2842) ، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/221، 222) ، وفي «المشكل» (6138) ، وأحمد (3/488 و4/178، 346) ، وابن حبان (4789) ، والحاكم (2/122) ، والطبراني في «الكبير» (4617، 4618، 4619، 4620، 4621، 4622) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/314) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/82 و91) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (16/140) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2751) ، وأبو يعلى (1546) من حديث رباح بن الربيع، أخي حنظلة الكاتب. واختلف في اسمه، فقيل: رباح، بالموحدة، وفيل: رياح، بالياء المثناة من تحت. قال البخاري في «التاريخ» (3/314) : وبعضهم قال: رياح. ولم يثبت. وتحرف اسم رباح بن الربيع في مطبوع «شرح معاني الآثار» إلى: رباح بن حنظلة الكاتب. والحديث صحيح بطرقه. وانظر: «صحيح أبي داود» لشخينا الألباني -رحمه الله-. وفي الباب عن ابن عمر بلفظ: نهى عن قتل النساء والصبيان. أخرجه البخاري (3015) ، ومسلم (1744) (25) . وعن ابن عباس، وعن الأسود بن سُريع، وعن حنظلة الكتاب، وعن بريدة بن الحصيب، وعن النعمان بن مقرن، وعن أنس بن مالك. وفي الباب أحاديث أخر انظرها في «مجمع الزوائد» (5/315-318) . (1) أخرجه في «الموطأ» (2/447- ط. عبد الباقي) - ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (9/86) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (13 رقم 18076) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (5/199 رقم 9375 و9376) ؛ من طريق يحيى بن سعيد، عن أبي بكر قوله. ويحيى بن سعيد لم يسمع أبا بكر، فإسناده منقطع. وأخرجه سعيد بن منصور (2384) ، والبيهقي (9/86) في «سننهما» ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (108-109- ترجمة الشيخين) من طرقٍ أخرى عن أبي بكر. وانظر: «المجالسة» (1535- بتحقيقي) ، «جامع الأصول» (2/599) . وفي الباب عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقّها سأله الله عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 عن أبي بكرٍ -رضي الله عنه- أنه قال في وصيته لبعض أمراء جيوشه (1) : «إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قوماً فحَصوا عن أوساط رؤوسهم من الشَّعَر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسَّيف، وإني موصيك بعشرٍ: لا تَقْتُلَنَّ امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هَرماً ... » إلى آخر القصة (2) ، فمن رأى أن مثل هذا لا يكون من أبي بكر إلا عن   = قتله» . قيل: يا رسول الله! وما حقُّها؟ قال: «أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فترمي بها» . أخرجه أحمد (2/166، 197، 210) ، والطيالسي (2279) ، والشافعي (1766) ، والحميدي (587) في «مسانيدهم» ، وعبد الرزاق في «المصنف» (8414) ، والفسوي في «المعرفة» (2/208، 703) ، والطحاوي في «المشكل» (1/372) ، والحاكم في «المستدرك» (4/233) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (1620) ، والبغوي في «شرح السنة» (11/225) ، والبيهقي في «سننه» (9/86) . وفي إسناده صهيب مولى عبد الله بن عامر -وفي مطبوع «المصنف» : مولى ابن عباس!! فليصحح-، لم يوثقه غير ابن حبان. وانظر: «التلخيص الحبير» (4/154) . وفي الباب عن القاسم مولى عبد الرحمن مرسلاً: «ولا تقطع شجرة مثمرة، ولا تقتل بهيمة ليست لك بها حاجة، واتق أذى المؤمنين» . أخرجه أبو داود في «المراسيل» (316) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (2384) ، وسنده حسن. (1) وكان أمير الجيش: يزيد بن أبي سفيان. (2) وتمامها: « ... ولا تقطعنَّ شجراً مثمراً، ولا تخربنَّ عامراً، ولا تعقرنَّ شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقنَّ نحلاً، ولا تُفَرِّقَنَّه، ولا تَغْلُل، ولا تَجْبُن» ، وسبق تخريجها قريباً. قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/75) : «وقد خالف مالكٌ في ذلك: فقال: لا بأس بقطع نخل الكفار وثمارهم، وحرق زروعهم، وأمَّا المواشي فلاتحرق. والحجة له في خلافة أبي بكر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النضير وحرَّقها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تعذيب البهائم، وعن المُثلة، وأن يتخذ شيءٌ فيه روحٌ» . وقد تأول جماعة من العلماء في حديث أبي بكر المذكور، قالوا: إنما ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وعدهم أن يفتحها الله عليهم. وانظره: (14/76-77) . ولكن قال أبو محمد بن حزم في «المحلى» (7/294 المسألة رقم 924) : «وقد ينهى أبو بكر عن ذلك اختياراً؛ لأن ترك ذلك -أيضاً- مباح، كما في الآية المذكورة، ولم يقطع - صلى الله عليه وسلم - نخل خيبر، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 توقيفٍ جعله دليلاً (1) . فصلٌ اختلفوا في قتل النساء والصبيان إذا قاتلوا؛ فجمهور العلماء على أنهم إذا قاتلوا قتلوا، منهم: مالك (2) ، والشافعي (3) ، .......................................   = فكل ذلك حَسَنٌ، وبالله تعالى التوفيق» . أهـ ويقصد بالآية: قول الله -تعالى-: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} . وَمَنَعَ من عقر شيء من حيوانهم البتة إلا للأكل فقط، حاشا الخنازير فتعقر، وحاشا الخيل في حال المقاتلة فقط» . (1) إذاً فالسبب الموجب لاختلاف العلماء في المسألة: اختلافهم في العلة الموجبة للقتل، فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي: (الكفر) ، لم يستثن أحداً من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك هي (إطاقة القتال) للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار، استثنى من لم يطق القتال، ومن لم ينصب نفسه إليه، كالفلاح والعسيف، ويقوى إعمال النظر وردها لهذين الأصلين، عند ضعف ما ورد من آثار فيها، والقول بما قرره المصنف أقيس. قال الشوكاني في «النيل» (7/262) بعد أن قرر ضعف حديث ابن عباس السابق -وهو الذي مضى ذكره في التخريج مرفوعاً: «لا تقتلوا أهل الصوامع» -: «لكنه معتضد بالقياس على الصبيان والنساء بجامع عدم النفع والضرر، وهو المناط» ، قال: «ويقاس على المنصوص عليهم بذلك الجامع من كان مقعداً، أو أعمى، أو نحوهما ممن لا يرجى نفعه، ولا خيره على الدوام» . ويقاس عليهم -أيضاً- كل من له صفة حيادية فعلاً عن معاونة العدو، كالملحقين العسكريين الأجانب، ومراسلي الصحف، ورجال الدين التابعين للقوات الحربية، انظر: «آثار الحرب» (ص 480) للأستاذ وهبة الزحيلي. وهذا اختيار ابن تيمية في «السياسة الشرعية» (132-133) ، و «مجموع الفتاوى» (28/354) -وفيه: «من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم، فلايقتل عند جمهور العلماء؛ إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر» -. (2) «المدونة» (1/370) ، «الرسالة» (189) ، «المعونة» (1/624) ، «أسهل المدارك» (2/ 16) ، «الكافي» (208) ، «قوانين الأحكام» (164) ، «بداية المجتهد» (1/384) ، «فتح الجليل» (3/ 144- 146) ، «حاشية الدسوقي» (2/177) ، «شرح الزرقاني» (3/111-112) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/468) ، «الذخيرة» (3/399) ، «جامع الأمهات» (ص 246) ، «تفسير القرطبي» (1/ 348) ، «النوادر والزيادات» (3/57) ، «الاستذكار» (14/60، 74) . (3) «الأم» (7/350) ، «مختصر المزني» (272) ، «الإقناع» للماوردي (176) ، «الإقناع» لابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وأبو حنيفة (1) ، والثوري، والليث، والأوزاعي، وأحمد (2) ، وإسحاق وأبو ثور (3) . وقاله أبو محمد بن حزم (4) ، والحجة في ذلك عموم قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ، وهؤلاء قد قاتلوا، وتخصيص نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان، بأنَّ ذلك ما داموا على الحال التي هي غالب جنسيتهم من العجز وعدم أهلية القتال، بدليل ما وقع في حديث رباح بن ربيع، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال -وقد وجدت امرأةٌ مقتولةٌ في بعض المغازي-: «ماكانت هذه لتقاتل» (5) . وقد روي في ذلك ما هو أوضح. أسند ابن المنذر (6) إلى ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بامرأةٍ مقتولة يوم الخندق، فقال: «من قتل هذه؟» قال رجل: أنا يا رسول الله، قال: «ولِمَ؟» ، قال:   = المنذر (2/463) ، «مغني المحتاج» (4/222-223) ، «نهاية المحتاج» (8/64) ، «روضة الطالبين» (10/243) ، «المهذب» (2/299) ، «الوجيز» (2/189) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (41) ، «المجموع» (21/154-155) ، «البيان» للعمراني (12/129) . (1) «شرح معاني الآثار» (3/220-225) ، «المبسوط» (10/29، 64) ، «تحفة الفقهاء» (3/ 295) ، «فتح القدير» (5/201-202) ، «الاختيار» (4/120) ، «البناية» (5/664) ، «السير الكبير» (5/1807- مع «شرحه» ) ، «بدائع الصنائع» (7/101) ، «تبيين الحقائق» (3/245) ، «البحر الرائق» (5/84) ، «مجمع الأنهر» (2/636-637) . (2) «المغني» (12/179) ، «المقنع» لابن البنا (3/1186) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/ 581) ، «شرح الزركشي» (6/542، 545) ، «الواضح» (2/274) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/703 رقم 1957) . (3) انظر: «تفسير الطبري» (2/188-ط. دار الفكر) ، «اختلاف الفقهاء» له -أيضاً- (ص 3- تحقيق يوسف شخت) ، «المغني» (12/179-180) ، «شرح السنة» (7/12) ، «تفسير القرطبي» (1/ 348) ، «نيل الأوطار» (7/207) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 315-316) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/396) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 772) . (4) انظر: «المحلَّى» (7/296 المسألة رقم 926) . (5) مضى تخريجه. (6) في «الأوسط» ، القسم المفقود منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 نازعتني قائم سيفي، قال: فَسَكَتَ (1) . وأيضاً فقد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةً من بني قريظة لحدثٍ أحدثته، في جملة من قَتَل من رجالهم. خرَّجه أبو داود وغيره (2) .   (1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/388/رقم 12082) من طريق حفص بن غياث، عن الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مِقْسم، عن ابن عباس، به. وأخرجه أحمد في «المسند» (8/256) من طريق أبي خالد الأحمر: سليمان بن حيان، عن حجاج، به. غير أنه قال: «فنهى عن قتل النساء» ، بدل: «فسكت» . وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في «المصنف» (14/470) عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، به. قال الهيثمي في «المجمع» (5/316) : «وفي إسنادهما -أي أحمد والطبراني- الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس» . وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/381) مختصراً. ويشهد له حديث ابن عمر في النهي عن قتل النساء والصبيان، عند البخاري (رقم 3014 و3015) ، ومسلم (رقم 1744) ، وأحمد (2/23) وغيرهم. وحديث عكرمة مرسلاً عند أبي داود في «المراسيل» (333) . وانظر: «التمهيد» (16/139) . (2) وتمام الحديث: عن عائشة أم المؤمنين، قالت: لم يُقتل من نسائهم إلا امرأةٌ واحدة. قالت: والله إنها لعندي تحدَّثُ معي، تضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسوق، إذ هتف هاتفٌ باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله، قالت: قلت: ويلك، ومالَكِ؟ قالت: أُقتل. قالت: قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته. قالت: فانْطُلِقَ بها، فضُربت عنقها، وكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبي من طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. أخرجه أبو داود (رقم 2671) ، وأحمد (6/277) ، وابن جرير في «التاريخ» (2/589) ، والحاكم (3/35-36) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/82) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (18018) من طريقين عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، به. وهذا إسناده حسن من أجل ابن إسحاق -وهو محمد- وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. وهو في «السيرة النبوية» لابن هشام (2/242) ، من حديث ابن إسحاق، بهذا الإسناد. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. قلت: لم يحتج مسلم بمحمد بن إسحاق، إنما أخرج له في المتابعات. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقال ابن هشام (1) في كتاب «المغازي» لابن إسحاق: هي التي طرحت الرَّحى على خلاد بن سويد فقتلته. قال ابن إسحاق (2) : استشهد يوم بني قريظة من المسلمين، ثم من بني الحارث بن الخزرج: خَلاَّد بن سويد، طرحَتْ عليه رحىً فشدخته شدخاً شديداً، فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن له أجر شهيد» (3) . ومن طريق النَّظَر: إن من تعرَّض للقتال، لو تُرك ولم يُدفع ويقاتَل؛ لأَفضىَ إلى الاستكثار من أذى المسلمين وقتلهم، وذلك باطل، لايَحِلُّ إقراره باتفاق، ولكان يكون في ذلك لو ترك تسليطٌ على المؤمنين، والله -تعالى- يقول: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . وهذا من النظر الصحيح الذي يُقِرُّ بِهِ ويستعمله أهل الظاهر وغيرهم؛ لأنه ردٌّ إلى كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو من القياس في شيء. وذكر ابن المنذر (4) قال: حكى أشهب، عن مالكٍ، أنه سئل عن نساء العدو   = ونقل البيهقي عن الشافعي قوله: فحدثني أصحابنا أنها كانت دَلَّتْ على محمود بن مسلمة رحىً، فقتلته، فقتلت بذلك. ونقل -أيضاً- قوله: قد جاء الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل القرظية، ولم يصح خبر على أي معنى قتلها، وقد يحتمل أن تكون أسلمت، ثم ارتدت ولحقت بقومها، فقتلها لذلك، ويحتمل غيره. وانظر: «عيون الأثر» (2/73) ، «السيرة النبوية» لابن كثير (3/242) ، «البداية والنهاية» (4/ 136) ، «مغازي موسى بن عقبة» (ص 176- جمع سلوي مرسي) . قولها: «لم يُقتل من نسائهم» ، أي: نساء بني قريظة حين قتلوا بعد الأحزاب. قولها: «ظهراً وبطناً» ، أي: تنقلب من كثرة الضحك ظهراً لبطن، وبطناً لظهر. (1) «السيرة النبوية» (2/243) . (2) «سيرة ابن هشام» (2/254) ، وعزاه الحافظ في «الإصابة» (2/340) لموسى ابن عقبة. (3) في الأصل والمنسوخ: «أجر شهيد» ، وفي «الإصابة» عن ابن اسحاق وموسى بن عقبة: «أجر شهيدين» . (4) لم أجده في شيءٍ من كتبه المطبوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وصبيانهم يكونون على الحصون، يرمونهم بالحجارة، ويعينون على المسلمين، أيقتلون؟ فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان. ونحو ما رَوَى ابنُ المنذر من قول مالكٍ يقول جماعة من أصحابه (1) . وقال ابن حبيب في النساء والصبيان: إن كان قتالهم بالسيف والرمح ونحوه قتلوا في حال المدافعة، وإن كان بالحجارة ونحوها من فوق الحصن لم يقتلوا (2) . وقاله غيره من أصحاب مالك. فأقول: إنه ليس لأحدٍ يذهب إلى أنهم لا يقتلون في حال الدفاع إذا ما قاتلوا حجَّة، وإن تعلَّقَ متعلِّق بظاهر العموم في النهي عن قتل النساء والصبيان؛ لم يصح له ذلك بعد قيام الدليل على تخصيصه. ثم اختلف الذين رأوا قتل من قاتل من النساء والصبيان: هل يكون الحكم كذلك فيهم إذا قاتلوا ثم قُضي القتال وقد أُسِروا؟ فقيل: إنه يجوز قتلهم، كالحال في أسرى الرجال، ومستند من ذهب إلى ذلك أنهم قد استوجبوا القتل لقتالهم، وخرجوا من أن يكونوا فيمن وقع النهي عن قتله، فحكمهم بَعْدُ في القتل أو التَّرك كحكم سائر الأسرى، حسبما نذكره بَعدُ بحول الله -تعالى- (3) . وقيل: إنهم لا يقتلون إلا في المدافعة وحال القتال فقط، ودليل من ذهب إلى ذلك: عموم النهي عن قتلهم، وأن التخصيص إنما يُتناول بيقينٍ حال المدافعة، فبقي ماوراء ذلك على عمومه، وهذا أرجح. والله أعلم. وكلا القولين مرويٌّ عن أصحاب مذهب مالك (4) .   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/58) ، «الذخيرة» (3/397-398) . (2) انظر: «الذخيرة» (3/399) . (3) انظر ما سيأتي (ص 239) . (4) ذكر ابن الحاجب في «جامع الأمهات» (ص 246) القولين، وحاصل كلام الدسوقي في «حاشيته» (2/176) : أن المرأة إذا قتلت أحداً جاز قتلها، أو قاتلت بسلاح كالرجال، ولو بعد أسرها؛ فإن قاتلت برمي الحجارة فلا تقتل بعد الأسر اتفاقاً ولا في حال المقاتلة على الراجح. وانظر: «منح الجليل» (3/145-146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فصلٌ اختلفوا في رمي حصون العدو بالمنجنيق ونحوه من المُهْلِكات، وفيهم النساء والذُّرِّيَّة (1) وأُسارى المسلمين؛ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم إلى جواز ذلك في الجملة على ما نفصّله عنهم، وقيل: لا يجوز ذلك. ذَكرَ فَضْلٌ أن ابن القاسم من أصحاب مالكٍ رَوَى عنه المنعَ من رميهم بالمجانيق، أو إرسال الماء عليهم ليغرقوا إذا كان معهم النساء والأطفال (2) . فأما أبو حنيفة، فذهب إلى جواز رميها وتحريقها عليهم بالنار، وإن كان   (1) وهم من يُسَمَّوْن اليوم: المدنيون. (2) انظر: «قدوة الغازي» (172-173) ، «الذخيرة» (3/409) ، «الخرشي» (4/17) ، «البيان والتحصيل» (3/31-32) ، وحكى فيه أربعة أقوال، قال ما نصه: « ... وفيما يجوز في ذلك كله ومما لا يجوز اختلافٌ كثيرٌ في المذهب، تحصيله أن الحصون إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فأجاز في المدونة أن يرموا بالنار، ومنع من ذلك سحنون، وقد روى ذلك عن مالك من رواية محمد بن معاوية الحضرمي، ولا خلاف فيا سوى ذلك من تغريقهم بالماء ورميهم بالمجانيق وما أشبه ذلك، وأما إن كان فيهم مع المقاتلة النساء والصبيان ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يجوز أن يرموا بالنار ويرموا بالمجانيق، وهو قول أصبغ فيما حكاه عن ابن مزين. والثاني: أنه لا يجوز أن يفعل بهم شيء من ذلك كله، وهو قول ابن القاسم فيما حكاه عنه الفضل. والثالث: أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق ويغرقوا بالماء ولا يجوز أن يرموا بالنار، وهو قول ابن حبيبٍ في «الواضحة» . والرابع: أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق ولا يجوز أن يغرقوا ولا يحرَّقوا، وهو مذهب مالك في «المدونة» . وأما إذا كان فيه مع المقاتلة أسارى المسلمين فلا يرموا بالنار ولا يغرقوا بالماء، واختلف في قطعه عنهم ورميهم بالمجانيق، فقيل: ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم وأشهب في سماع سحنون، وقيل لا يجوز، وهو قول ابن حبيب في «الواضحة» ، وحكاه عن مالك وأصحابه المدنيين والمصريين» . وانظره: (3/44، 52) . وهو مروي -أيضاً-عن أصحاب مالك المصريين والمدنيين. كما في «الذخيرة» . وانظر: «الإقناع» لابن المنذر (2/465-466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فيها الأسارى والأطفال، وكذلك عنده: لو تَتَرَّسوا بالمسلمين، رُموا -أيضاً-. قال: ويُقصد بذلك من فيها من الكفار، فإن أصابوا في ذلك مسلماً فلا دية ولا كفارة (1) . وقال الشافعي: لا بأس برمي الحصن بالمنجنيق والنار، وكل ما فيه نكاية، وفيه النساء والأطفال، ولم يَرَ رميهم إذا تترسوا بالمسلمين إلا في حال الاضطرار حيث يخافهم المسلمون على أنفسهم إن كَفُّوا عنهم، فحينئذٍ يقاتلون، ولا يُتَعَمَّدُ قَتْلُ مسلم. وقد قيل: يكف عنهم على كل حال إذا لم يكن بُدٌّ من إصابة المسلم، وأي مسلم أصيب ممن لم يقصد الرامي قصده بالرمية ولم يره، فعليه تحرير رقبة، ولا دية له، وإن كان رآه، وعَرَف مكانه ورمى، وهو مضطرٌ إلى الرَّمي، فعليه دية وكفارة، وإن تعمده ولم يكن مضطراً فالقصاص (2) . وقال الأوزاعي (3) : يرمى الحصن بالمنجنيق والنار، وإن كان فيه أسرى   (1) لأنهم غير مقصودين بالرمي، لذا فإن الرمي يصير مباحاً، ولا يبقى على الرامي تَبِعة؛ لأن المباح لا يوجب كفارة ولا دية. انظر: «المبسوط» (5/64-65) ، «تحفة الفقهاء» (3/295) ، «بدائع الصنائع» (7/100-101) ، «اللباب» (4/118) ، «الرد على سير الأوزاعي» (ص 16) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/395-396) ، «الهداية شرح بداية المبتدي» (2/428) ، «البناية في شرح الهداية» (5/656) ، «فتح القدير» (5/447- 448) ، «مجمع الأنهر» (2/413) ، «رد المحتار» (3/179) ، «البحر الرائق» (5/128) ، «تبيين الحقائق» (3/243) . وهذا قول جمهور الحنفية، سوى الحسن بن زياد، صاحب أبي حنيفة، انظر: «بدائع الصنائع» (7/101) . وبجواز الرمي مطلقاً قال الثوري. (2) «الأم» (4/257) ، «روضة الطالبين» (10/244-245) ، «أسنى المطالب» (4/191) . (3) انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (ص 5- تحقيق يوسف شخت) ، «الأم» (7/369) ، «المغني» (13/142) ، «الاستذكار» (14/66/رقم 19412) ، «حاشية القليوبي» (4/219) . وعنه رواية أخرى، وهي عدم جواز رمي حصن المشركين إذا كان فيه أسرى من المسلمين، وكذلك إذا تترسوا بهم. نقل ذلك عنه: ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/416- ط. دار الحمامي بمصر) ، وانظر: «فقه الإمام الأوزاعي» (2/400) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المسلمين، فإن أصيب أحدٌ من المسلمين؛ فهو خطأ تكون فيه الكفارة والدِّيَة، ورأى أن يُكف عنهم، إذا تترسوا بالمسلمين. وعن مالك إجازة الرمي بالمنجنيق، ومنع التحريق بالنار، إلا أن يكون الحصن ليس فيه إلا المقاتلة فقط، فعنه في ذلك روايتان: الإجازة والمنع، ولا أعلم له في التترس قولاً، وظاهر مذهبه المنع (1) . فأما دليل جواز رمي الحصون في الجملة، وفيها الذراري: فما خرَّجه مسلم والبخاري عن الصعب بن جثّامة قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يُبيَّتون، فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: «هُم منهم» . زاد البخاريُّ، قال: وسمعته يقول: «لاحِمىً إلا لله ولرسوله» (2) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -   (1) انظر: «عقد الجواهر الثمينة» (1/469) -ونقله عنه القرافي في «الذخيرة» (3/408) -، «البيان والتحصيل» (3/44) ، «النوادر والزيادات» (3/66) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/178) ، «الكافي» (1/466-467) ، «القوانين الفقهية» (ص 98) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (4/1696) ، «تفسير القرطبي» (16/286-287) ، «حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل» (3/146) ، «حاشية العدوي على شرح الخرشي» (3/114) . والمنع في حال التترس هو الراجح من مذهب المالكية. وهو -أيضاً- مذهب الحنابلة. انظر: «المغني» (13/141) ، «الإنصاف» (4/129) ، «المبدع» (3/324) ، «مطالب أولي النُّهى» (2/518-519) . وهو قول الحسن بن زياد -صاحب أبي حنيفة- كما أشرنا إليه آنفاً. وكذلك قول الليث بن سعد. كما في «المغني» (13/142) . وكلام المصنف السابق في «الاستذكار» لابن عبد البر (14/65-66) . (2) أخرجه البخاري -بالزيادة التي ذكرها المصنف- في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب أهل الديار يُبيَّتون، فيصاب الولدان والذراري) (رقم 3012) . وأخرجه برقم (3013) من طريقين إحدَيْهما بلفظ: «هم منهم» ، والأخرى: «هم من آبائهم» . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير (باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد) (رقم 1745) باللفظين السابقين. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 -وقد قيل له: لو أن خيلاً أغارت من اللَّيل، فأصابت من أبناء المشركين- قال: «هم من آبائهم» . خرَّجه مسلم (1) . فهذا في نساء المسلمين وأبنائهم ظاهر، فأما الأسرى من المسلمين يكونون معهم في الحصون، فدليل من أجاز ذلك هو من طريق المعنى، وذلك أن قوله في أبناء المشركين: «هم من آبائهم» ليس على معنى أنهم كفار؛ لأنهم لم يبلغوا، فلم يخاطبوا بَعْدُ بالإيمان، ولم يَجْرِ عليهم التكليف، فلا يصح إطلاق وصف الكفر عليهم، لكن معنى: «هم منهم» : رفع الحرج عن المسلمين في إصابتهم بحكم الاضطرار، ومعرَّة الاقتحام، أي: لا مأثم يلحق في إصابتهم، فكذلك يجري المعنى في حكم الأسرى من المسلمين إن أصيب منهم أحدٌ في أثناء الاقتحام، ووجه المنع في الجملة على نحو ما رُوِي عن ابن القاسم -أن لا يُرموا بالمجانيق إذا كان معهم النساء والأطفال- عُموم النهي عن قتلهم؛ ولأن الحديث في إرخاص ذلك إنما جاء في البيات والغارات، حيث تدعو الضرورة إلى المباغتة، ولا يوقن بالذراري أن يصابوا. وأما رمي الحصون، وقد علم مافيها من الذرية، والأمر فيهم على الرَّوية وعدم الاضطرار، فليس مما أبيح من ذلك، وهذا ونحوه هو الذي يتوجه لهذا القول. والأَوْلَى -إن شاء الله- والذي نختاره التفصيل في ذلك، فنقول: أمَّا إن لم يُعلم في الحِصنِ أحدٌ من أُسارى المسلمين، فالأظهر جواز رميهم، مع كون النساء والذرية في جملتهم، بدليل الحديث في قوله: «هم منهم» ، إذا لم يُقصدوا، وكان إصابتهم لضرورة الاقتحام؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «لا حِمىً إلا لله ولرسوله» ، وأما إن كان في الحصن أحدٌ من أسارى المسلمين، يُعلم ذلك،   = وأخرجه البخاري في كتاب المساقاة (باب لاحِمىً إلا لله ولرسوله) (رقم 2370) . (1) (1745) (28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فالأظهر توقي استعمال ما لا يؤمن فيه إصابتهم، فإن علم أن ذلك لا يصيب الأسرى، فلا بأس، وذلك لأن حديث الصَّعب بن جثَّامة لم يجرِ فيه ذكر مُسلمٍ، إنما هو في نساء المشركين وأبنائهم، فلا يستباح بذلك الاجتراء في أمر المسلمين، وأظهرُ من هذا والأتمُّ حُجَّةً قول الله -تعالى- في تأخير القتال عن أهل مكة عام الحديبية {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] . فهذا نصٌّ في وجوب التَّوقِّي، فإن قيل: إنَّ ذلك خاصٌّ بأهل مكة، فهودعوى؛ لأن الله -تعالى- إنما جعل الحرمة في ذلك للإيمان لا للبلد، وهذا التفصيل والفرق الذي اخترناه إنما نَعْني به الحُكمَ في قتال الحصون، وحيث لا ضرورة تدعو المسلمين لكسر العدو ومدافعتهم (1) ، وأما عند لقاء جيوش المشركين، وفيهم أُسارى من المسلمين، فأرجو -إن شاء الله- أن يكون كل شيءٍ مما يُنْكَى به العدو سائغاً، سواء أُمن أن يصيب الأسرى من ذلك شيءٌ أوْ لا، إلا أنهم لا يُتَعَمَّدون، ويُتحفَّظ عنهم بقدر الوسع، وذلك أنَّ في الكفِّ عن القتال، وترك الدفاع في مثل هؤلاء الذين بَرزوا للمسلمين هلاكاً للناس، وتمكيناً لأهل الكفر من الإسلام {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، وهذا كلّه ما لم يتترس الكفار بالمسلمين، فإن تترسوا بهم، بحيث لا يمكن قتالهم إلا من وراء قتل مسلم، فالأرجح الذي نختاره الكفُّ جُملةً، والقتال لا نراه على حال من غير تفصيلٍ في قتال الحصون أو الجيوش؛ لأن ذلك إن لم تكن ضرورة، فلا خفاء به، وإن كانت ضرورة بحيث يُبْقي المسلمون على أنفسهم في الكفِّ عن القتال، فذلك -أيضاً- موجودٌ إذا قاتلوا بقتلهم المسلمين الذين تترس بهم العدو، من غير حقٍّ وجب عليهم مُبيحٍ لدمائهم، وليس لأحدٍ أن يقتل   (1) وكذا للحاجة، وكما هو مقرر في القواعد الفقهية أن «الحاجة تنزل منزلة الضرورة» . انظر: «شرح القواعد الفقهية» لأحمد الزرقا (ص 155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 مسلماً بريئاً لينجو بذلك من القتل (1) . وأما ما وقع الاختلاف فيه مِن رَمْي الحصون بالنار، فنذكر وجهه، والأرجح منه -إن شاء الله- في الفصل بعد هذا. وأما اختلافهم في إيجاب دية من أصيب في ذلك من أسرى المسلمين فسببه: هل يحمل ذلك على الخطأ المحض، فتجب فيه الدية؟ أو لمَّا كان القتال مباحاً مأذوناً فيه على الأدلة المتقدمة، كانت الإصابة فيمن أصيب مستندةً إلى الإذنِ الشرعي، فلم يكن له حكم الخطأ؟ وهذا ضعيف؛ لأن إصابة المسلم لم يكن فيها إذن بحال، والقول بإثبات الدية أَوْلَى، ويُبيِّن ذلك حديث جرير بن عبد الله، خرَّجه أبو داود -وقد تقدم- قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريةً إلى خثعم، فاعتصم ناسٌ منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر لهم بنصف العَقْلِ، وقال: «أنا بريءٌ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» (2) ، فيحتمل -والله أعلم- أن يكون أهدرَ النصف الثاني؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم   (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى» (28/546) : «وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين، وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون، وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم» . وقال: «وهؤلاء المسلمون -أي المتترَّس بهم- إذا قتلوا كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيداً» . ورجَّح الدكتور حسن أبو غدة في كتابه «قضايا فقهية في العلاقات الدولية حال الحرب» (ص 151) مذهب الحنفية وهو جواز رمي العدو المتترسين والمتحصنين بالمسلمين حال وجود مصلحة وحاجة إلى الرمي، وإن لم تكن هناك ضرورة. وانظر: «المبسوط» (10/65) ، «بدائع الصنائع» (6/63) ، «البناية» (5/128) ، «تبيين الحقائق» (3/243) ، «تفسير القرطبي» (16/287-288) ، «المستصفى» للغزالي (1/141-142) ، «السياسة الشرعية» لشيخ الإسلام (ص 114) . (2) أخرجه أبو داود (رقم 2645) ، والترمذي (1604) من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-. وفيه أمره - صلى الله عليه وسلم - لهم بنصف العقل. وهو صحيح دون الأمر بنصف العقل. كما قال شيخنا الألباني -رحمه الله-. وقد مضى تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 بالإقامة مع المشركين، ألا ترى إلى قوله في الحديث: «أنا بريءٌ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» . فأما الأسرى فلا إعانة منهم على أنفسهم، ففيهم الدية كاملة إن أصيبوا (1) ، وبالله التوفيق.   (1) هذا قول المالكية -كما في «تفسير القرطبي» (16/287) -، وهو وجوب الدية والكفارة، لا فرق بين الرمي حال الضرورة وبين الرمي في غير حال الضرورة، وهو الراجح عند الشافعية من قولين لهم. انظر: «مواهب الجليل» (4/548) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (4/139) ، «حاشية الدسوقي» (2/178) ، «الخرشي» (4/15) ، «بلغة السالك» (1/356) ، «روضة الطالبين» (10/246) ، و «حاشية ابن قاسم على تحفة المحتاج» (9/242) ، «تكملة المجموع» (20/418) ، «رحمة الأمة» (ص 530) . وبه قال الحنابلة في قول مرجوح لهم. انظر: «المحرر» (2/136) ، «الإنصاف» (4/129) ، «مطالب أولي النهى» (2/519) . وهو مقتضى ما ذهب إليه الأوزاعي والليث. انظر: «أحكام القرآن» للجصاص (3/395) ، «المغني» (13/142) . وبه قال الحسن بن زياد صاحب أبي حنيفة. انظر: «بدائع الصنائع» (7/101) . ودليلهم قول الله -تعالى-: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، ووجه الدلالة: أن الرامي قتل مؤمناً معصوماً خطأ بغير عمد مَحْض، فوجب موجبه؛ لهذه الآية. وكذا قول الله -تعالى-: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ ... فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25] ، على قول بعض المفسرين: أن المراد بالمعرة في هذه الآية: الكفارة والدية. انظر: «تفسير الماوردي» (4/64) ، «زاد المسير» لابن الجوزي (4/440) . خلافاً للحنفية، فهم لا يوجبون كفارة ولا دية. وقد ذكره المصنف عنهم آنفاً. وقد ضعَّف ابن عطية في «تفسيره» تفسير «المعرَّة» بأنها الدية -كما هو قول ابن إسحاق-؛ لأنه لا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب. أما تفسير «المعرَّة» بأنها الكفارة -كما قاله الكلبي ومقاتل والطبري- فضعيف. قال الحنفية: لأن الحرب عندنا تمنع وجوب ما يندرئ بالشبهات. انظر: «روح المعاني» (9/114) ، «تبيين الحقائق» (3/ 244) . وقول الحنفية هذا وجيهٌ وقوي، والقتل -هنا- ليس من باب القتل الخطأ المحض، ولا من باب القتل العمد وشبه العمد. وانظر: «قضايا فقهية في العلاقات الدولية حال الحرب» لحسن أبو غدة (ص 159-167) . والقول الآخر للشافعية -وهو المرجوح عندهم-، وبه قال الحنابلة -في القول الآخر الصحيح = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فصلٌ اختلفوا في قتل العدو بغير السلاح، كالتحريق بالنار والتغريق، وما أشبه ذلك من ضروب القتل التي فيها تعذيبٌ أو تمثيل، فأما المقدور عليه منهم فلا أعلم في ذلك خلافاً (1) ، وأنه لا يجوز تحريق أعيان العدو إذا أمكن قتلهم بغير ذلك، ولم يكونوا هم حرقوا أحداً من المسلمين، والأصل في ذلك حديث البخاري (2) ، عن أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعثٍ فقال: «إن وجدتم فلاناً وفلاناً (3) فأحرقوهما بالنار» ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: «إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النَّار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما؛ فاقتلوهما» . وخرَّج مسلم (4) ، عن شداد بن أوسٍ قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلةَ، وإذا   = عندهم-، وهو ما ذهب إليه سفيان الثوري، أنه تجب الكفارة ولا تجب الدية على الرامي إن قتل مسلماً مُتَتَرَّساً به، سواء كان الرمي للضرورة أو لغيرها. واستدلوا بعموم قول الله: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وقالوا: إن الآية لم تذكر دية، ولهذا تجب الكفارة ولا تجب الدية. انظر: «المغني» (13/142) . (1) انظر: «المبسوط» (10/31) ، «بدائع الصنائع» (6/62) ، «المدونة» (2/25) ، «الذخيرة» (3/408) ، «الخرشي» (4/15) ، «الأم» (4/243) ، «روضة الطالبين» (10/244) ، «المبدع» (3/ 321) ، «كشاف القناع» (3/377) ، «فتح الباري» (6/185) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب لا يُعذب بعذاب الله) (رقم 3016) . وفي (باب التَّوديع) (رقم 2954) . (3) هما: هبّار بن الأسود، ونافع بن عبد قيس، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أُسر أبو العاص بن الربيع، زوج ابنته زينب يوم بدر أطلقه من المدينة، وشرط عليه أن يجهز له ابنته زينب فجهزها، فتبعها هبار ونافع، فنخسا بعيرها، فأسقطت ومرضت من ذلك. انظر: «سيرة بن هشام» (2/654) ، «فتح الباري» (6/184) . (4) في «صحيحه» في كتاب الصيد والذبائح (باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة) (1955) (57) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته» . وفي كتاب أبي داود، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَعَفُّ الناسِ قِتلةً: أهلُ الإيمان» (1) .   (1) أخرجه أبو داود في «سننه» (رقم 2666) من طريق هشيم بن بَشير، أخبرنا مغيرة، عن شباك الضَّبِّي، عن إبراهيم النخعي، عن هُنيِّ بن نويرة، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، به. وأخرجه أبو يعلى (4973) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/183) ، والشاشي في «مسنده» (353) ، والبيهقي في «السنن» (9/71) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (30/318) من طريق هُشَيم بن بَشير، به. وهُشَيم بن بَشير. قال الحافظ: «ثقة ثَبْت كثير التدليس والإرسال الخفي» . ولكنه صرَّح بالتحديث. والمغيرة بن مِقسم، بكسر الميم، الضَّبي مولاهم. قال الحافظ: «ثقة متقن إلا أنه كان يدلس، ولاسيما عن إبراهيم» . ولكن عرفت الواسطة بينه وبين إبراهيم، وهو شباك الضَّبِّي. وشباك: ثقة، له ذكر في «صحيح مسلم» ، وكان مدلساً. كما قال الحافظ في «التقريب» . وهُنَيُّ بن نويرة، قال الحافظ: مقبول. أي إذا توبع، ولم يتابع، فهو ليِّن الحديث. فالإسناد ضعيف. وأخرجه الطيالسي (274) ، والشاشي (352) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/61) من طريق أبي عوانة، وابن حبان (5994) من طريق جرير، كلاهما عن المغيرة، به. وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى» (840) عن زياد بن أيوب، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا المغيرة، لعلّه قال: عن شباك، عن إبراهيم، به. وأخرجه أحمد (1/393) من طريقين عن المغيرة، عن إبراهيم، به. دون ذكر شباك. وذكر الدارقطني في «العلل» (5/142) طريق زياد بن أيوب، وذكر فيها: «عن شباك» على الجَزْم. وهي رواية أبي داود التي ذكرها المصنف. وأخرجه ابن ماجه (2681) عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن هشيم، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، به، لم يذكر هُنياًّ. وتابع الدورقيَّ سريجُ بنُ يونس فيما ذكره الدارقطني في «العلل» (5/141-142) . وأخرجه عبد الرزاق (18232) ، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (9737) عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود موقوفاً، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه ابن أبي شيبة (9/420) من طريق حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، أنه مرَّ على ابن مكعبر وقد قطع زياد يديه ورجليه، فقال: سمعت عبد الله يقول: إن أعفَّ الناس قِتلةً أهلُ الإيمان. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وفيه عن سمرة بن جندب، وعن عمران بن حصينٍ -أيضاً-، كلاهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المُثلة (1) .   = وأخرجه عبد الرزاق (18231) عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: يقال: ليس أحدٌ أحسنَ قِتلةً من المسلم. وفي الباب عن شداد بن أوس عند مسلم (1955) وقد مضى قبل هذا الحديث مباشرة. قوله: «أعفُّ الناس قِتلة أهل الإيمان» : قال المناوي في «فيض القدير» : هم أرحم الناس بخلق الله، وأشدهم تحرياً عن التمثيل والتشويه بالمقتول، وإطالة تعذيبه؛ إجلالاً لخالقهم، وامتثالاً لما صدر عن صدر النبوة من قوله: «إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة» ، بخلاف أهل الكفر وبعض أهل الفسوق ممن لم تذق قلوبهم حلاوة الإيمان، واكتفوا من مُسَمَّاه بلقلقة اللسان، وأُشْربوا القسوة، حتى أبعدوا عن الرحمن، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، و «من لا يرحم لا يُرحم» . (1) أخرجه أبو داود (رقم 2667) قال: حدثنا محمد بن المثنى: ثنا معاذ بن هشام: حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن الهياج بن عمران، أن عمران أبق له غلام، فجعل لله عليه: لئن قدر عليه؛ ليقطعن يده! فأرسلني لأسأل، فأتيت سمرة بن جندب فسألته؟ فقال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة. فأتيت عمران بن حصين فسألته؟ فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة. قال شيخنا الألباني -رحمه الله- في «صحيح سنن أبي داود» (7/419-421-ط. غراس) ، ما نصُّه [وما بين المعقوفتين من زياداتي على كلام الشيخ -رحمه الله-] : «قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير الهياج بن عمران -وهو ابن فُضيل التميمي-، وثقه ابن سعد وابن حبان (3/283) ، لكن لم يذكروا راوياً عنه غير الحسن هذا -وهو البصري-؛ فهو مجهول على قواعدهم. وقد أشار إلى تضعيف هذا التوثيق الذهبيُّ بقوله في «الكاشف» : «وُثِّق» . وصرح بذلك في «الميزان» ، فقال: «وثقه ابن سعد، وقال علي بن المديني: مجهول. فصدق علي» . وأشار إلى هذا الحافظ بقوله في «التقريب» : «مقبول» . قلت: وعليه؛ فالإسناد ضعيف، وإن قوَّاه الحافظ في «الفتح» ، كما كنت ذكرت في «الإرواء» (7/291) ! [وقد أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (8/436 رقم 15819) عن معمر، عن قتادة نحوه، وأحمد في «مسنده» (4/428) ، والطبراني (18/217 رقم 543) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/69) من طريق همام، عن قتادة نحوه، وأيضاً من طريق عبد الرزاق نحوه، والطبراني في «الكبير» (18/216 رقم 541) من طريق عبد الرزاق نحوه، والبزار في «البحر الزخار» (9/75 رقم 3605) ، والطبراني (18/217 رقم 542) من طريق سعيد (بن أبي عروبة) عن قتادة] . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وفي حديث بريدة، من طريق مسلم (1) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لأمراء   = قال الشيخ -رحمه الله-: لكن ذكرت له هناك [أي في «الإرواء» ] بعض الطرق والشواهد، مما يجعل الحديث صحيحاً لغيره، من ذلك أن الإمام أحمد أخرجه في رواية (4/440) من طريق المبارك عن الحسن: أخبرني عمران بن حصين قال: ... فذكره مرفوعاً. فأسقط (هياجاً) من السند، وصرح بسماع الحسن من عمران، فاتصل السند. [لذا قال البزار عقبه: وهذا الحديث قد رُوي عن عمران بن حصين، من غير وجه، ورواه عن الحسن غير واحدٍ عن عمران، ولم يُدْخِلْ بين عمران والحسن أحداً غير قتادة. وقال الطبراني في رواية معمر وهمام وقتادة، قال: هكذا رواه معمر وهمام وقتادة عن الحسن ابن هياج، وخالفه سعيد بن أبي عروبة، وهمام بن يحيى. قلت: ولعلَّ الصواب معمر وهمام عن قتادة عن الحسن عن هياج خلافاً لمطبوع الطبراني] . ثم قال الشيخ في رواية المبارك ما نصُّه: لكن المبارك -وهو ابن فَضَالَة- مدلس، وقد عنعنه كما قلت ثمة. فأزيد هنا: أنه قد تابعه هُشَيْم عن حُمَيْدٍ عن الحسن قال: ثنا سمرة بن جندبٍ قال: ... فذكره -أيضاً-: أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (2/326) . فصرح بسماعه -أيضاً- من سمرة، ورجاله ثقات؛ لكنّ هشيماً مدلس. وأنّ له شاهداً آخر عن جرير بن عبد الله البَجلي قال: خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على منبر صغير، فحثَّنا على الصدقة، ونهانا عن المثلة. رواه الطيالسي (665) ، وسنده صحيح على شرط مسلم. فصح الحديث يقيناً، والحمد لله» . % تنبيه: ذكر المنذري أن عمران الذي أبق له الغلام: هو ابن حصين! وهذا خلاف ظاهر سياق المؤلف، بل هو باطل؛ لما في رواية لأحمد (4/428) : أن هياج بن عمران أتى عمران بن حصين فقال: إن أبي قد نذر -وفي أخرى: أن غلاماً لأبيه أبق- فبعثني إلى عمران بن حصين، قال: فقال: أقرئ أباك السلام، وأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ... الحديث. ورواه ابن الجارود -أيضاً- (1056) . فهذا صريح أن الذي أبق له الغلام: هو والد الهياج، وليس عمران بن حصين، كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان، فلعلَّ ذلك سبق قلم من المنذري! والله أعلم. (1) أخرجه في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها) (رقم 1731) مطولاً، من حديث بريدة -رضي الله عنه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 جيوشه: «لا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا» . وأما ما كان في شأن العرنيين (1) ، فقصاص أو منسوخ، على خلافٍ في ذلك. قال البخاري في كتابه (2) -بعد ذكر قصتهم-: قال أبو قلابة: قتلوا، وسرقوا، وحاربوا الله ورسوله، وسعوا في الأرض فساداً. وفي كتاب مسلم (3) ، عن أنس قال: إنما سَمَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعينَ أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرِّعاءِ. فأمَّا إذا لم يمكن الوصولُ إلى نَيل العدوِّ والاستيلاءُ عليهم إلا بالتحريق بالنار، كما لو اعتصموا بالحصون والغيرانِ، ومثل أصحاب السفن في البحر، فهذا شيءٌ كرهه جماعة من أهل العلم، وأباحه غيرهم؛ فممَّن رُوي عنه جواز ذلك: الشافعي وأبو حنيفة والثوري، وقاله الأوزاعي، وممن رُوي عنه المنع جُملةً: مالكٌ -رحمه الله- في إحدى الروايتين عنه، وأباح ذلك في رواية، بشرط أن لا يكون في الحصن إلا المقاتلة، دون النساء والصبيان (4) ، واستخفَّ في قتال السفن في البحر الرَّميَ بالنار، وإن كان فيهم النساء والصبيان، ولم يختلف في جواز ذلك في السفن   (1) أخرج قصة العرنيين: البخاري في «صحيحه» . (الأرقام 233 و1501 و3018 و4193 و4610 و5685 و5686 و5727 و6802 و6803 و6804 و6805 و6899) ، ومسلم (رقم 1671) . من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب إذا حرَّق المشركُ المسلمَ هل يُحرَّق؟) (رقم 3018) ، وفي كتاب المحاربين (باب لم يُسْقَ المرتدون المحاربون حتى ماتوا) (رقم 6804) . وأخرجه برقم (233 و6805) وذكر كلام أبي قلابة، وزاد: وكفروا بعد إيمانهم. (3) في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (باب حكم المحاربين والمرتدين) (1671) (14) . (4) «المدونة الكبرى» (2/24، 25) ، «البيان والتحصيل» (3/44، 52) ، «قدوة الغازي» (ص 172-173) ، «جامع الأمهات» (ص 245) ، «النوادر والزيادات» (3/66) ، «الذخيرة» (3/ 408-409) ، «حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل» (3/146) ، «الخرشي» (4/15) ، وقد مضى ذكر مذهب مالك في رمي الحصون بالمنجنيق والتحريق بالنار. وفي «جامع الأمهات» (245) قال: ورأى اللَّخمي أنه إن خافت جماعةٌ كثيرةٌ منهم: جاز قتل من معهم من المسلمين ولو بالنار، وهو مما انفرد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أحدٌ من أصحاب مذهب مالك، وإنما اختلفوا إذا كان في سفينة المشركين أحدٌ من أسارى المسلمين؛ فقال أشهب: يجوز، وقال ابن القاسم: لا يجوز، وهو المرويُّ عن مالك (1) . وروي عن عمر -رضي الله عنه- كراهة رمي المشركين بالنار (2) . فوجه جواز القتال (3) بالنار قوله -تعالى-: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89] ، ولم يخصَ قتلاً من قَتْلٍ، مع قوله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، ووجه المنعِ: تخصيصُ السنة ذلك في غير المُثلة. وللآخرين أن يقولوا: يختصُّ النهيُ عن المثلة بالمقدور عليه؛ ألا ترى أن قَطْعَ الأيدي والأرجلِ وغيرَ ذلك من المُثلة، وهو جائزٌ باتفاقٍ في حال المقاتلة، إذا لم يتمكن منه إلا بذلك، وهذا أظهر، والله أعلم. ووجه تفريق مالكٍ بين قتال السفن وقتال الحصون؛ إنما هو بحسب الحال والاضطرار، لأن أهل السفن إن لم يُعاجَلوا بذلك وغيرِه، فعلوا هم بسفينة المسلمين مثل ذلك، فكان فيه الهلاك، واستيلاء أهل الكفر على المسلمين، بخلاف أهل الحصون؛ لأنهم لايتمكَّنون إذا انحصروا من المسلمين، فأمرهم في ذلك مختلف (4) . فصلٌ واختلفوا في تحريق الديار والشجر المثمر والزرع، وقتل الحيوان، فذهب   (1) «حاشية الرهوني» (3/146) . وانظر في ذكر قول أشهب وابن القاسم: «الذخيرة» (3/409) ، «النوادر والزيادات» (3/66) . (2) أقرب ما وصلت إليه بعد بحث؛ ما أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (5/212 رقم 9412) عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: حرَّق خالد بن الوليد ناساً من أهل الردة، فقال عمر لأبي بكر: أتدع هذا الذي يعذب بعذاب الله؟ فقال أبو بكر: لا أشيم سيفاً سلَّه الله على المشركين. وانظر: «سنن سعيد بن منصور» (2647، 2648) . (3) كذا في الأصل، والأصوب: «القتل» . (4) انظر: «الذخيرة» للقرافي (3/409) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 مالكٌ (1) ، وأبو حنيفة (2) وأصحابه، والثوري (3) إلى جواز ذلك كلِّه: تخريب الديار، وقطع الأشجار، وإحراقها، وذبح الماشية والدواب، إذا لم يقدروا على إخراجها، إلا أن بعض أصحاب مالكٍ (4) رأى أن تُعقر بالإجهاز عليها، ولا تذبح، قيل: لئلا تُتشبَّه بالذَّكية، يعني: إنَّ ذبحها للإتلاف يُنافي النية للتذكية، وهي شرط في صحتها، فتكون ميتةً في الحكم، فربَّما مرَّ بها أحدٌ من المسلمين وهي مذبوحة، فاستباح أكلها بذلك، وإذا عقرت بغير الذبح كان الأمر بيِّناً أنها مَيْتةٌ. وقال ابن حبيب (5) :   (1) هو أحد قوليه، وعليه عامة فقهاء المالكية، وله قول آخر وهو جواز إتلاف الجماد فقط. انظر: «المدونة» (2/8) ، «قدوة الغازي» (ص 167) ، «التلقين» (ص 239) ، «المعونة» (1/ 603) ، «القوانين الفقهية» (ص 150) ، «أسهل المدارك» (2/5) ، «الخرشي» (3/ 117) ، «الكافي» (467) ، «التفريع» (1/357) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/472) ، «جامع الأمهات» (246) ، «بداية المجتهد» (1/386) ، «مواهب الجليل» (3/350) ، «فتح الجليل» (1/722) ، «حاشية الدسوقي» (2/ 181) ، «البيان والتحصيل» (2/547، 548 و17/352) ، «النوادر والزيادات» (3/63، 65) ، «الذخيرة» (3/407) ، «جواهر الإكليل» (1/255-256) ، «حاشية الرهوني» (3/144، 152) . (2) انظر: «الخراج» لأبي يوسف (ص 210) ، «الرد على سير الأوزاعي» (ص 83) ، «المبسوط» (10/31) ، «شرح السير الكبير» (1/44) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/429) ، «شرح فتح القدير» (5/447) ، «الهداية شرح بداية المبتدي» (2/429) ، «البناية شرح الهداية» (5/656) ، «اللباب» (2/ 117) ، «بدائع الصنائع» (7/102) ، «تبيين الحقائق» (3/241-242) ، «البحر الرائق» (5/128) ، «مجمع الأنهر» (2/ 413) ، «الدر المختار» (3/230) . وهو قول عامة فقهاء الحنفية، عدا محمد بن الحسن الشيباني القائل بجواز إتلاف الجماد فقط كأحد قولي مالك كما أسلْفنا آنفاً. (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/65) ، «الاستذكار» (14/75) . وانظر في جواز عقر الفرس إذا كان في ذلك عون على قتل العدو: «زاد المعاد» (3/483) ، وكذلك في قطع الشجر (3/503) . (4) وهم المَدَنيون من أصحابه. ومثله للباجي، وأبي الحسن، وابن عبد السلام. انظر: «النوادر والزيادات» (3/64) ، «قدوة الغازي» (167، 169) ، «البيان والتحصيل» (2/574) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/181) . (5) نقله عنه ابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 لأن الذبح مُثلة، وأظنه يعني فيما لم تجرِ العادة بذبحه؛ إمَّا لأنَّ استعماله في الأكل قليلٌ كالخيل، أو محرمٌ كالحمير والبغال. وقال الشافعي (1) : يحرق الشجر المثمر والبيوت، إذا كانت لهم معاقل، وكره إحراق الزرع والكلأ، وقتل الحيوان، وكذلك قال في الدابة تقوم على الرجل: يتركه ولا يَعْقِرهُ؛ لأنه روحٌ يألم بالعذاب، ولا ذنب له. وأجاز مالكٌ عقر الفرس يقف على صاحبه في دار الحرب، قال: ولا يتركه يتقوى به العدو (2) . وقال أبو محمد بن حزم (3) : يجوز تحريق أشجار المشركين وزروعهم   (1) «الأم» (4/274، 306 و7/376) ، «روضة الطالبين» (10/258) ، «الاقناع» (2/ 467-468) ، «مغني المحتاج» (4/277) ، «شرح المحلِّي على منهاج الطالبين» (4/220) ، «فيض الإله المالك» للبقاعي (2/310) ، «مختصر الخلافيات» (5/43) . وقد نسب ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/386) إلى الشافعي -رحمه الله- كراهته تخريب البيوت وقطع الشجر، إذا لم تكن معاقل -أي غير مستخدمة في القتال-، كما هو ظاهر كلام المصنف في نقله هذا عن الشافعي. ونسب إليه كذلك البدر العيني في «عمدة القاري» (14/270) إباحته تحريق الشجر المثمر والبيوت، وكراهته تحريق الزرع والكلأ -كما نقله عنه المصنف أيضاً-، ولكن ظاهر كلام الشافعي أن لا فرق بين هذا وهذا، سواء كانت معاقل أو لا، ولا فرق بين أنواع الزروع كلها. قال في «الأم» : «ولا بأس بقطع الشجر المثمر وتخريب العامر وتحريقه من بلاد العدو، وكذلك لا بأس بتحريق ما قدر لهم عليه من مالٍ وطعام وما لا روح فيه» . ويقول في موضع آخر: «أما كل ما لا روح فيه للعدو فلا بأس أن يحرقه المسلمون ويخربوه بكل وجه» . ويؤكد هذا في موضع ثالث فيقول: «يقطع النخل، ويحرق كل ما لا روح فيه» . وأجاز بعض فقهاء الشافعية كالنووي والمحلِّي والبقاعي إتلاف خيل العدو ونحوها، فوافقوا الجمهور في ذلك، وذلك إن عجز المسلمون عن أخذها بحيث يأخذها العدو فيتقوى بها عليهم. وبقول الشافعية في منع إتلاف حيوان العدو يقول الحنابلة. انظر: «المغني» (8/451) ، «المبدع» (3/319-320) . (2) «الكافي» (ص 467) ، «النوادر والزيادات» (3/64، 65) ، «الذخيرة» (3/409) . (3) في «المحلى» (7/294 المسألة رقم 924 و925) ، واستثنى -أيضاً- الخيل في حال المقاتلة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وأطعمتهم التي لا يقدر المسلمون على حملها، وحرق دورهم وهدمها، ولا يحل عقرُ شيءٍ من حيوانهم البتة إلا الخنازير. وذهب قومٌ إلى منع ذلك كله، روي عن الأوزاعي والليث (1) كراهية إحراق النخل والشجر المثمر، وتخريب شيءٍ من العامر، وأن تُعاقب (2) البهائم، وهو ظاهر ما ذهب إليه الصدِّيق -رضي الله تعالى عنه-، الذي رواه عنه مالكٌ في «موطئه» حين أوصى بعض أمراء جيوشه (3) ، فقال: « ... وإني موصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأةً ولا صبياً ولا كبيراً هَرماً، ولا تقطعنَّ شجراً مُثْمراً، ولا تخرِبنَّ عامراً، ولا تعقرنَّ شاةً ولا بعيراً، إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقنَّ نَحْلاً ولا تغرقنَّه، ولا تغْلُلْ ولا تَجْبُنْ» (4) .   (1) وكذلك هو مذهب أبي ثور، ورواية عن أحمد مرجوحة. انظر: «النوادر والزيادات» (3/65) ، «المغني» (8/451-454) ، «شرح السير الكبير» (1/43) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/50) ، «فتح الباري» (6/154) ، «عمدة القاري» (14/270) ، «موسوعة فقه الأوزاعي» (2/404) ، «تحفة الأحوذي» (2/377) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (103) ، «بداية المجتهد» (2/417) ، «الرد على سير الأوزاعي» (85) ، واختاره الشيخ أبو زهرة في «العلاقات الدولية في الإسلام» (ص 100) . وفي رواية عن الأوزاعي: أنه لا بأس بتحريق شجر أرض العدو، وكذا الحصن وما فيه من طعام أو كنيسة. انظر: «الأم» (7/376) ، و «الاستذكار» (14/76) . وجُلُّ الكلام السابق وذكر الخلاف المذكور فيه من «الاستذكار» ، إذ يعتمده المصنف كثيراً. (2) كذا في الأصل والمنسوخ، ولعلَّ صوابها: تُعَرْقَبَ. (3) وهو يزيد بن أبي سفيان. (4) مضى تخريجه. وفيه انقطاع، وهو من رواية يحيى بن سعيد عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، ويحيى لم يدرك أبا بكر. وروى هذا الأثر: البيهقي (9/85) عن سعيد بن المسيب، مرسلاً. وهو لم يدرك أبا بكر، بل إنه وُلد بعد وفاته. ونقل عن أحمد أن هذا الأثر منكر. وقال البيهقي: رواه سيف في «الفتوح» عن الحسن بن أبي الحسن مرسلاً كذلك. وانظر: «عمدة القاري» (14/270) ، «نيل الأوطار» (8/75) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فذهب بعض من تأوَّل ذلك (1) من قوله، إلى أنَّه إنما نهى عن تخريب الشام؛ لأنه علم ضعف العدوِّ، ورجا مصير ذلك عن قُربٍ للمسلمين موفوراً (2) ، ونحو ذلك روي عن مالك أنَّه تأوَّله (3) . فأمّا حجة من أجاز ذلك في الجملة: فعموم قوله -تعالى-: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ، وحديث عبد الله بن عمر،   = ووردت هذه الوصية بألفاظ متعددة. انظر: «جامع الأصول» (2/599) ، «نصب الراية» (3/406) . والمذكور مذهب ابن مسعود -أيضاً-. انظر: «سنن سعيد بن منصور» (3/240) ، «المغني» (8/453-454) . (1) نُقل عن سَحنون في «المدونة» (2/8) ، وقاله عبد الملك بن حبيب، نقله عنه ابن أبي زمنين في «قدوة الغازي» (ص 167) . (2) وبما أن مصير ذلك عن قربٍ للمسلمين، فيصير كأنهم خربوا أموالهم بأيديهم. وقد أشار الصديق -رضي الله عنه- إلى هذا المعنى، فقال للجيش: فإن الله ناصركم، وممكن لكم حتى تتخذوا فيها مساجد. وانظر: «شرح السير الكبير» (1/44-46) ، «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف (ص 87-89) ، «الأم» (7/356) ، «المبسوط» (10/31) ، «فتح الباري» (6/155) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/429) ، «سنن البيهقي» (9/85) . (3) انظر: «البيان والتحصيل» (2/548 و17/353) ، «النوادر والزيادات» (3/63) . وكذا قاله الشافعي في «الأم» (7/356) . قلت: ولا يَسْلَمُ هذا التأويل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع وأحرق نخل بني النضير، وقد علم أنها ستصير للمسلمين في يومه أو غَدِه، كما ذكره ابن الحزم وابن العربي. انظر: «المحلّى» (7/294) ، «أحكام القرآن» (4/1768) ، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - قطع نخيل خيبر، وقد وعده الله -تعالى- إياها مغانم كثيرة. انظر: «شرح السير الكبير» (1/55) . فكيف يتلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ميراث المسلمين، وينهى أبو بكر -رضي الله عنه- فيما بعد- المسلمين عن ذلك؟! وعلى افتراض ثبوت وصية الصديق لجيشه، يقول الإمام الشافعي في «الأم» (7/356) : «ولعلَّ أمر أبي بكر -رضي الله عنه- بأن يكفوُّا عن أن يقطعوا شجراً مثمراً، إنما هو لأنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بأن بلاد الشام تفتح على المسلمين، فلما كان مباحاً أن يقطع ويترك، اختار الترك نظراً للمسلمين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّق نخل بني النَّضير، وقطع، وهي البويرة؛ فأنزل الله -عز وجل-: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] ، خرجه مسلم وغيره (1) . وخرَّج أبو داود (2) ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عَهِدَ   (1) قد مضى في أول الباب. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد باللينه هو الشجر، لكنهم اختلفوا في نوعه. وإذا كان كذلك فلا يسلَّم للشيخ محمد أبي زهرة -رحمه الله تعالى- قوله في كتابه «العلاقات الدولية في الإسلام» (ص 100-101) : «إن المقطوع ليس الشجر، بل الثمر الذي قطعه المسلمون للأكل» . وذلك لتعارضه مع رواية الحديث، لا سيما وأن فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - حرَّق نخل بني النضير. وهذا يعني أنه حرق أصل الشجر لا الثمر. (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الحرق في بلاد العدو) (رقم 2616) من طريق عبد الله بن المبارك، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-. وأخرجه أحمد (5/205 و209) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/47، 48- ط. دار الفكر) - عن وكيع، وعن محمد بن عبد الله بن المثنى، عن صالح، به. وأخرجه ابن أبي شيبة (12/366 و391) ، وابن ماجه (2843) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 220) من طريق وكيع، عن صالحٍ، به. وأخرجه ابن الجوزي في «التحقيق» (10/159/رقم 2264) من طريق أحمد، عن وكيعٍ، به. وأخرجه الطيالسي (625) ، والبزار في «مسنده» (2566) ، وأبو القاسم البغوي في «مسند أسامة» (2) ، والطحاوي (3/208) ، والطبراني في «الكبير» (400) ، والبيهقي (9/83) ، وابن عساكر (2/47- 48) ، وابن عبد البر (2/220-221) من طرق عن صالح بن أبي الأخضر، به. وصالح بن أبي الأخضر. قال الحافظ في «التقريب» : ضعيفٌ يعتبر به. وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. قلت: لكنه لم ينفرد برواية الحديث. فقد أخرجه الشافعي في «المسند» (2/120) : فقال: أخبرنا بعض أصحابنا عن عبد الله بن جعفر الزهري قال: سمعت ابنَ شهاب، فذكره. وعبد الله بن جعفر الزهري ثقة من رجال مسلم، وهو عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن المخرمي، وأما شيخ الشافعي المبهم فيغلب على ظننا أنه الواقديُّ، فالحديث من هذا الطريق في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 إليه (1) فقال: «أغِرْ عَلى أُبْنَى صباحاً وحرِّق» . وأما دليل من استثنى عقر الحيوان، فلأنّه من باب المُثلة والتعذيب، وقد ثبت النهيُ عن ذلك (2) ، وأيضاً فالتصرف المباح في الحيوان ليس فيه القتل لغير مأكلة. خرَّج مسلم (3) ، عن أنسٍ قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُصْبَرَ البهائم.   = «مغازيه» (3/1118) ، وقال الحافظ ابن حجر في «التعجيل» (532) بعد إيراد هذا السند: وقد روى عنه (أي: عن عبد الله بن جعفر) من شيوخ الشافعي: إبراهيم بن سعد. قلنا: وإبراهيم بن سعد ثقة، بينما الواقديُّ عند أهل الحديث متروك، والله تعالى أعلم. وأخرجه مرسلاً ابن سعد في «الطبقات» (4/67) عن حماد بن أسامة بن أبي أسامة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: أمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد، وأمره أن يغير على أُبنى من ساحل البحر ... وذكر قصة طويلة. ورجاله ثقات رجال الشيخين. وأخرجه مرسلاً -أيضاً- سعيد بن منصور في «سننه» (2641) عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشجِّ، عن سليمان بن يسار قال: أمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد على جيش، وأمره أن يحرق في يُبنى. ورجاله ثقات رجال الشيخين. وأخرج الواقدي في «مغازيه» (3/1118) عن يحيى بن هشام بن عاصم الأسلمي، عن المنذر ابن جهم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أسامة، شُنَّ الغارة على أهل أُبنى» . وهذا مرسل -أيضاً-، ويحيى بن هشام والمنذر بن جهم مجهولان، والواقدي متروك عند أهل الحديث. فالحديث ضعيف. ولكن يشهد للتحريق حديث ابن عمر في «الصحيحين» : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النَّضير وحَرَّق. وأُبنى -ويقال: يُبنى بالياء-، قال ياقوت الحموي في «معجمه» : بالضم ثم السكون وفتح النون والقصر بوزن حُبلى: موضع بالشام من جهة البلقاء. وفي كتاب نَصْر: أُبنى: قرية بمؤتة. وقال السندي: اسم موضع في فلسطين. والقول أنها قرية بمؤتة هو الأصوب. وقد ذكر السرخسي في «شرح السير الكبير» (1/54) أنها موضع كان قُتل فيه زيد بن حارثة أبو أسامة. (1) أي إلى أسامة بن زيد، ولعلَّ الناسخ أغفله؛ فسقط ذكره سهواً. (2) وقد مضى قريباً تخريجه من حديث سمرة بن جندب، وعمران بن حصين -رضي الله عنهما-. (3) في «صحيحه» في كتاب الصيد والذبائح (باب النهي عن صبر البهائم) (رقم 1956) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 واحتج الشافعي في ذلك بحديثٍ رواه مسنداً عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقِّها سأله الله عن قتلها» ، قيل: يا رسول الله، وما حَقُّها؟ قال: «أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي به» (1) .   = وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد (باب ما يكره من المُثلة والمصبورة والمُجَثَّمة) (رقم 5513) . و «صبر البهائم» : حَبْسها حتى تموت. (1) أخرجه الشافعي في «الأم» (4، 274 و7/375) ، وفي «مسنده» (2/363 رقم 599- شفاء العيّ) -ومن طريقه البغوي في «شرح السنة» (11/225 رقم 2787) - أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن صهيب مولى عبد الله بن عامر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، به. وهذا إسناد ضعيف. فصهيب مولى عبد الله بن عامر، وهو الحذّاء المكّيّ، وكنيته أبو موسى. قال الحافظ في «التقريب» : «مقبول» . قلت: أي إذا توبع -ولم يتابع- وإلا فليِّن الحديث. ولم يرو عنه غير عمرو بن دينار، وذكره ابن حبَّان في «الثقات» ، وقال ابن القطان: لا يُعرف، وفرق أبو حاتم بينه وبين أبي موسى الحذاء الذي روى عن عبد الله بن عمرو -أيضاً-، وعنه حبيب بن أبي ثابت، وقال فيه في «الجرح والتعديل» (9/438) : لا يُعرف ولا يُسمَّى. وأوردهما في ترجمتين منفصلتين: البخاري في «التاريخ الكبير» (4/316 و9/69) ، وابن حبان في «الثقات» (4/381 و5/584) ، وكأنهما يشيران -أيضاً- إلى التفرقة بينهما، وذكره المِزِّي في كنى «التهذيب» ، وقال في الثاني: يحتمل أن يكون هو والذي قبله واحداً، وتابعه ابن حجر في «تهذيب التهذيب» و «التقريب» ، والذهبي في «الكاشف» ، لكنه -أي الذهبي- جزم بأنهما واحد في «الميزان» ، وقال: ويكون صدوقاً! قلنا: وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين. وأخرجه أحمد (2/166، 197) ، وأسد بن موسى في «الزهد» (رقم 104) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/208) من طريق حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، به. وأخرجه الطيالسي (2279) -ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (11075) ، وفي «السنن» (9/279) -، من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار، بهذا الإسناد، قال الطيالسي: وحديث ابن عيينة أتم. وأخرجه الحميدي (587) ، والدارمي (2/84) -دون قوله: «ولا يقطع رأسها ... » -، وعبد الرزاق (8414) ، والنسائي في «المجتبى» (7/206-207، 239) ، والفسوي (20/208، 703) ، والحاكم (4/233) ، والبيهقي في «السنن» (9/86) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (13/242) ، والبغوي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فكان الأرجح -إن شاء الله- جواز النكاية في العدوِّ بالتخريب والتحريق والقطع، وما عسى أنْ يكون فيه نيلٌ منهم، إلا قتل الحيوان خاصَّةً لغير مأكلة؛ للأدلة الثابتة التي قد ذكرنا، فأمَّا ما كان من ذلك في حال دفاع العدو، فجائزٌ قتل الخيل، إذا لم يقدرْ على راكبها إلا بذلك؛ للأدلة التي تقدَّم تقريرها في مثل ذلك؛   = (2787) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي! ووقع في مطبوع الدارمي: عن صهيب مولى ابن عمر، قال: سمعت عبد الله بن عمر، وهو تحريف في التابعي والصحابي. وأورده المنذري في «الترغيب» (3/204) بلفظ ابن عيينة، ووقع فيه من حديث ابن عمر، وهو خطأ. ورواه شعبة عن عمرو -أيضاً-، عند: أحمد (2/166، 210) ، والطيالسي (2279) ، وأبي القاسم البغوي في «الجعديات» (1620) . وعلى أيٍّ فالحديث ضعيف من أجل صهيب مولى ابن عامر، وقد ضعَّفه شيخنا الألباني -رحمه الله-. وانظر: «ضعيف سنن النسائي» . وفي الباب عن الشريد بن سويد -أو أوس- الثقفي، عند أحمد (4/389) ، والنسائي في «المجتبى» (7/ 239) ، وفي «الكبرى» (4535) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/277-278) ، وابن قانع في «المعجم» (1/343) ، وابن حبان (5894) ، والطبراني في «الكبير» (7245) ، والدولابي في «الكنى والأسماء» (1/ 175) ، وابن عدي في «الكامل» (5/1737) -ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (11076) -، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1572) ، والخطيب في «التاريخ» (8/11) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (في ترجمة خلف بن مهران) من طرقٍ عن عامر الأحول، عن صالح بن دينار، عن عمرو بن الشريد، عن الشريد به مرفوعاً بلفظ: «من قتل عصفوراً عبثاً، عَجَّ إلى الله -عز وجل- يوم القيامة مِنْهُ، يقول: ياربِّ، إن فلاناً قتلني عبثاً، ولم يقتلني لمنفعة» . وصالح بن دينار، مجهول، وعامر بن عبد الواحد الأحول ضعفه أحمد والنسائي، وقال ابن معين وابن عدي: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقة لابأس به. وقد قوَّى محقق «شرح السنة» هذا الحديث بالحديث الذي بين أيدينا، وهذا لايصلح؛ لأن في كلا الطريقين مجهول. وانظر: «غاية المرام» (47- 48) . وروى نحوه النسائي (7/207) ، وأحمد (5/276) عن ثوبان. وفي سنده راوٍ لم يسمَّ، وفيه ابن لهيعة: متكلم فيه. وانظر: «فيض القدير» (6/192-193) . وقوله: «عَجَّ» ، أي: صاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 لضرورة الدفاع، وكذلك قال الشافعيُّ وأهل الظاهر وغيرهم (1) . قال الشافعي (2) : «ذلك كالمشرك، له أن يرميه بالنَّبل والنار والمنجنيق، فإذا صار أسيراً في يديه لم يكن له أن يفعل ذلك به، وكان له قتله بالسيف، وكذلك له أن يرمي الصيد فيقتله، فإذا صار في يديه لم يَقْتُلْه إلا بالذكاة التي هي أخفُّ عليه» . وأمَّا من منعَ التخريبَ والقَطْعَ والتحريق وسائر ما ذُكر في الباب، فيحتمل أن يكون مستندهم في ذلك -والله أعلم-: عموم النَّهي عن الإفساد في الأرض، وإتلاف المال في غير انتفاعٍ أَذنَ به الشرع، ويحملون ما ثبتَ من التحريق والقطع في بني النضير، ومانزل في ذلك من القرآن على أن ذلك خاصٌّ فيهم، وربما تأول بعض المُتعسِّفين في ذلك: أنَّ قطعَ ما قُطع في بني النَّضير لم يكن على جهة التخريبِ والتنكيل، وإنما اضطروا إليه؛ لأن ذلك كان مجال (3) المقاتلة، أو نحو هذا، مما صرفوه به إلى الضرورة، وكلُّ ذلك بعيدٌ ضعيفٌ (4) . فصلٌ: في الأسرى وأحكامهم، وما يجوز من التصرف فيهم أجمع أهل العلم على جواز النكاية بالأسر في جميع الكفار عاماًّ، في الرجال والنساء والذُّريَّة، وعلى اختلاف أحوالهم ممن فيه أهلية القتال، أو به عجزٌ عن ذلك؛ كالمرضى والزَّمنَى وغيرهم، إلا خلافاً في الرهبان المنقطعين في الصوامع والديارات، وحيث ينفردون، فلا يكون منهم أذىً بتدبيرٍ ولا غيره؛ فذهب قومٌ إلى أنه لا يعرض لهم بأسر، كما لا يعرض لهم بالقتل عندهم، وهو قول مالك، ورأى مع ذلك أن تترك لهم أموالهم ولا يسلبوها (5) ، ثم اختلفوا بعد فيما يفعل   (1) مضى ذكر أقوالهم، وتوثيقها، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصّالحات. (2) في «الأم» (4/274-ط. دار الفكر) . (3) كذا في الأصل والمنسوخ، ولعلَّ صوابها: حال. (4) انظر تفصيل مذهب من منع التخريب حال المقاتلة، ومناقشة أدلتهم مفصَّلاً: «قضايا فقهية في العلاقات الدولية» للدكتور حسن أبو غدة (ص 27-42) . (5) انظر: «المدونة» (2/6) ، «التفريع» (1/362) ، «المعونة» (1/620) ، «النوادر والزيادات» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بالأسرى من الرجال على أقوال: فذهب قومٌ إلى قتلهم ولا بُدَّ، وقومٌ إلى استحيائهم، والمنعِ من قتلهم، وفرَّق قومٌ بين الأسر بعد الإثخان، وهو استمرار القتل، فأجازوا هناك الأسر لِلْمَنِّ والفداء والاسترقاق، وبين الأسرِ قبل الإثخان؛ فمنعوا هناك الاستحياء، وأوجبوا فيهم القتل، وكذلك فرِّق بين أسارى أهل الكتاب وأسارى الوثنيين؛ فلم يجيزوا في الوثنيين إلا القتل، وذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الإمام مُخيَّرٌ في الأسارى بحسب الاجتهاد في مصالح المسلمين، وسبب الخلاف تعارض الآي في ذلك، وما الناسخ منها من المنسوخ، أو: هَل ذلك كلُّه مُحكمٌ، والجمع بينه ممكن؟ فأما من ذهب إلى قتل الأسير ولا بدّ، فدليله قوله -تعالى-: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] ، وقوله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، ورأوا هذا ناسخاً لقوله -تعالى-: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، ولا يجوز عندهم أن يُفَادى إلا بالمرأة؛ لأنها لا تقتل، وإليه ذهب قتادة (1) ومجاهد (2) والحكم، وروي عن ابن جريج   = (3/61) . وهذا مذهب الحنفية، انظر: «شرح السير الكبير» (4/186) ، «بدائع الصنائع» (6/63) ، «البحر الرائق» (5/131) . وهو قول عند الشافعية، انظر: «الوسيط» (7/20) ، «روضة الطالبين» (10/243) . ومذهب الحنابلة، انظر: «الإنصاف» (10/87) ، «المغني» (13/178) . خلافاً للأظهر عند الشافعية وابن حزم، إذ جوَّزوا قتل المذكورين، انظر: «روضة الطالبين» (10/243) ، «المحلى» (5/348) . (1) أخرجه عنه: ابن جرير في «التفسير» (26/40، 41-ط. دار الفكر) ، ونحوه أخرجه ابن الجوزي في «الناسخ والمنوسخ» (ص 229) ، وعزاه السيوطي في «الدر» (5/457) إلى عبد بن حميد وابن المنذر في «تفسيريهما» ، وإلى أبي داود في «ناسخه» . وانظر: «الإيضاح» لمكي بن أبي طالب (ص 300 و309) . (2) أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (5/210 رقم 9404) عن عباد بن كثير، عن ليث، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والسُّدِّيِّ نحوه (1) ، إلا أنهم قالوا: إنَّ آية المَنِّ والفداء إنما كانت في أهل الأوثان من العرب، فنسخ ذلك، فلا يجوز فيهم إلا القتل، وفرَّقوا بينهم وبين أهل الكتاب (2) . وأمَّا من ذهب إلى استحياء الأسرى، ومَنَعَ من قتلهم، ورأوا أن حُكْمَهم المنُّ أو الفداء، فدليلهم قوله -تعالى-: {فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ،   = عن مجاهد، وفيه التفصيل الذي سيذكره المصنف في التفريق بين أسارى مشركي العرب وأسارى أهل الكتاب. وعباد بن كثير، سواء كان الرملي الفلسطيني، أو الثقفي البصري، فالأول ضعيف، والثاني متروك. وعزاه السيوطي في «الدر» (7/458) إلى ابن المنذر، وابن مردويه في «تفسيريهما» . وذكر مذهب قتادة ومجاهد: ابن المنذر في «الأوسط» (11/229-230) ، وابن الجوزي في «الناسخ والمنسوخ» (ص 173 و229) ، ومكي في «الإيضاح» (ص 309) . (1) أخرجه عن ابن جريج والسدي: الطبري في «التفسير» (26/40) ، وأبو عبيد في «لناسخ والمنسوخ» (ص 209-210 رقم 393 و394) ، وفي كتاب «الأموال» (ص 170، 171 رقم 343 و344) ، وابن الجوزي في «الناسخ والمنسوخ» (ص 229) ، واختار هذا القول ابن العربي في «الناسخ والمنسوخ» (2/245) . وحكاه ابن المنذر في «الأوسط» (11/229) عنهما -أيضاً-. وانظر: «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ص 258) ، و «الدر المنثور» (7/458) . واستدل ابن جريج بحديث قتل عقبة بن أبي معيط يوم بدر صَبْراً -وسيأتي ذكره وتخريجه قريباً-، ولكن قتله كان قبل نزول الآية. (2) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (5/210) وقد سبق الإشارة إليه، و «الإيضاح» لمكي بن أبي طالب (ص 413، 432) ، و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 258) ، و «الدر المنثور» (7/457) . وقال أبو محمد بن حزم في «المحلى» (7/345 المسألة رقم 958) : «ولايقبل من كافر إلا الإسلام، أو السيف، الرجال والنساء في ذلك سواء، حاشا أهل الكتاب خاصة، وهم اليهود والنصارى، والمجوس فقط، فإنهم إن أعطوا الجزية أُقرُّوا على ذلك مع الصَّغار. وقال أبو حنيفة ومالك: أما من لم يكن كتابياً من العرب خاصة، فالإسلام أو السيف، وأما الأعاجم فالكتابي وغيره سواء، ويقرُّ جميعهم على الجزية» . ثم قال: «هذا باطل» . ثم أَخذَ يُفَنِّد مذهبيهما. وقال: «وقولنا هذا هو قول الشافعي» . أ. هـ كلامه -رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ورأوا هذا ناسخاً لعموم قوله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وإليه ذهب الضَّحَّاك (1) ، وقال نحوه: عطاء (2) والحسن (3) ، وكذلك روي عن ابن عمر كراهة   (1) أخرج خلاف ذلك عنه: عبد الرزاق (5/211 رقم 9405) ، وابن جرير في «التفسير» (26/41) من طريقين مختلفين عنه. وقال عبد الرزاق بعده: وقاله السُّدِّي. وذكر مكّيّ بن أبي طالب في «الإيضاح» (ص 309) أن هذا هو مذهب الضحاك والسدي وعطاء، وهو أن آية الفداء هي الناسخة، وعزاه ابن المنذر في «الأوسط» (11/229) للضحاك -أيضاً-. وجمهور العلماء على أن قول الضحاك هو أن آية الفداء هي الناسخة -كما ذكر ذلك المصنف عنه-. قال الضحاك في آية الفداء: إن هذه الآية محكمة على الإطلاق. وانظر: «تفسير الضحاك» (2/761) . ويقصد بالمحكم هنا أنها ناسخة. كما فسَّر ذلك عند قوله -تعالى-: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 4] . أخرجه عنه الطبري في «تفسيره» (3/115) . وأما ما أسنده عنه عبد الرزاق فهو من طريق ليث -وهو ابن أبي سليم-، قال الحافظ في «التقريب» (5685) : «صدوق، اختلط جداًّ، ولم يتميز حديثه، فتُرك» . ولعلَّ هذا مما اختلط عليه. وأما إسناد ابن جرير، فقال فيه: حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك. والواسطة بين ابن جرير والحسين مجهولة، وعبيد: لم أعرفه. والله أعلم. وانظر: «تفسير ابن عطية» (6/412) ، و «الناسخ والمنسوخ» لابن البارزي (ص 35) ، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/901-903) ، و «الكشاف» (2/175-ط. دار المعرفة) ، و «تفسير ابن كثير» (2/336) . (2) أخرجه عبد الرزاق (5/204 رقم 9389) ، وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (211 رقم 397 و398) ، والطبري في «التفسير» (26/41) ، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 197) من طريق ابن جريج عن عطاء. ومذهب الحسن وعطاء عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (7/458) إلى عبد بن حميد في «تفسيره» ، وحكاه عنهما: ابن المنذر في «الأوسط» (11/231) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن جبير -أيضاً-. وقال مكي بن أبي طالب في «الإيضاح» (ص 414) بعد ذكره مذهب عطاء والضحاك في أن آية الفداء هي الناسخة، قال: وهو قول شاذ. (3) أخرجه عنه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (210/رقم 396) عن حجاج -هو ابن محمد المصّيصي-، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن أنه كره قتل الأسير، وقال: مُنَّ عليه أو فاده. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = والمبارك بن فضالة: صدوق، يدلس ويسوي، كما قال الحافظ في التقريب، وحجاج: ثقة ثبت لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته. وأخرجه أبو عبيد (211/رقم 398) عن الحسن نحوه. واستغربه القاضي أبو بكر بن العربي في «الناسخ والمنسوخ» (2/246) ثم قال: وأغرب منه ماروى بعضهم عن ابن حبيب أنه قال: قوله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} منسوخة بقوله: {فَإِن تَابُوا} ، وقد بيّنا فساده في قول غيره، وإنما تعجبنا؛ لخفاء هذا عليه مع علمه -رحمه الله-. وقد ذكر مكي بن أبي طالب في «الإيضاح» (ص 310- 311) كلام ابن حبيب، فقال: قال ابن حبيب: إن قوله {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} -الآية- منسوخ ومستثنى منها بقوله: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، وقال بعد ذلك: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} . ثم قال: «ولا يجوز في هذا نسخٌ؛ لأنها أحكامٌ لأصنافٍ من الكفار حكم الله على قوم بالقتل إذا أقاموا على كُفرهم، وحكم لقومٍ بأنهم إذا آمنوا وتابوا ألاَّ يُعرض لهم، وأخبر بالرحمة والمغفرة لهم، وحكم لمن استجار بالنبي -عليه السلام- وأتاه أن يُجيره ويبلغه إلى موضع يأمن فيه، فلا استثناء في هذا؛ إذ لا حرفَ فيه للاستثناء، ولا نسخ فيه، إنما كلُّ آيةٍ في حكمٍ منفردٍ، وفي صنفٍ غير الصنف الآخر، فَذِكْرُ النسخ في هذا وهمٌ وغلط ظاهر، وعلينا أن نَتبيَّن الحقَّ والصَّواب» . وقال سحنون: «وليس الأمر على ماقال الحسن وعطاء: إن الأسير يُمَنَّ عليه أو يُفادى، وإنما كان ذلك في حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصَّة» . انظر: «النوادر والزيادات» (3/330) . وأخرج ابن جرير (26/41) من طريق معمر، عن الحسن ما يشير إلى أن مذهبه مثل مذهب سعيد بن جبير -كما سيأتي- قال: لا يقتل الأسارى إلا في الحرب، يهيب بهم العدو. وإسناده منقطع بين معمر والحسن، فمعمر لم يسمع من الحسن. قال الإمام أحمد: لم يسمع من الحَسن ولم يره، بينهما رجل، ويقال: أنه عمرو بن عُبيد. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 219 رقم 828) ، و «جامع التحصيل» (283 رقم 786) ، و «تحفة التحصيل» (ص 311) . وأخرجه عبد الرزاق (5/206 رقم 9393) عن معمر، عمَّن سمع الحسن. والواسطة بينهما مجهولة. ولعلّه عمرو، الذي ذكره الإمام أحمد. وذكر ابن الجوزي في «الناسخ والمنسوخ» (ص 173) أن آية: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ ... } هي الناسخة، وأن هذا قول الحسن وعطاء والضحاك في آخرين. ثم قال: وهذا يرده قوله: {وَخُذُوهُمْ} ، والمعنى: إئسروهم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قتلهم (1) . وفي اعتقاد النسخ في مثل هذا عندي نَظَر، قد تقدم التنبيه على مثله، وأيضاً فإن سورة (براءة) من آخر ما أُنزل في ذلك، فكيف نَسَخَهُ ما نزل قبله، لكن قد يحتمل أن يريدوا بالنسخ: التخصيص لعمومها، فإن المُخَصَّص قد يتقدم، وقد يتأخَّر، بخلاف النسخ؛ لا يصحّ تقدم الناسخ بحال، فتُحملُ الآية عندهم على قتل غير الأسرى، وفي تسمية هذا ناسخاً تساهل (2) .   = وذكره ابن قدامة في «المغني» (13/45-ط. دار عالم الكتب) بصيغة التضعيف. وانظر: «الإيضاح» لمكي بن أبي طالب (ص 309) ، و «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ص 197) . وذكر أن الفداء هو مذهب ابن عباس. ولايصح عنه كما عند عبد الرزاق (5/ 210 رقم 9404) . (1) أخرجه ابن جرير في «التفسير» (26/41) ، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (7/458) إلى ابن مردويه في «تفسيره» من طريق الحسن البصري، قال: أُتي الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر إلى رجلاً يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أُمِرْنا، قال الله -عز وجل-: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . قلت: قد اختلف في سماع الحسن من ابن عمر. فقال الحاكم: «لم يسمع من ابن عمر» . وصَحَّح الإمام أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، سماعه من ابن عمر. وقال بهز بن أسد: سمع من ابن عمر حديثاً. ورجح الحافظ أبو زرعة العراقي سماعه. انظر: «جامع التحصيل» (ص 162-164 رقم 135) ، «تحفة التحصيل» (ص 67) . فهذا الأثر صحيح عنه -رضي الله عنه-، والله أعلم. (2) يسمى تقييد المطلق، وتخصيص العام عند السلف (نسخاً) ، انظر تقرير ذلك في: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (13/29-30، 272-273) ، و «الاستقامة» (1/23) ، و «الأحكام» لابن حزم (4/67) ، و «فهم القرآن» (398) للمحاسبي، و «إعلام الموقعين» (2/484- بتحقيقي) ، و «شفاء العليل» (405-406) ، و «مفتاح دار السعادة» (ص 361-364، 370) ، و «تفسير القرطبي» (2/288) ، و «الفوز الكبير في أصول التفسير» (ص 112-113) للدهلوي، و «النسخ في دراسات الأصوليين» (521) ، و «أحكام القرآن» (1/197) ، ومقدمة محقق «الناسخ والمنسوخ» (1/197) لابن العربي، و «محاسن التأويل» (1/13) ، و «الإتقان» (2/22) ، و «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» (ص 88-90) لمكي بن أبي طالب، و «الموافقات» (3/344- بتحقيقي) للشاطبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وأمَّا من ذهب إلى التفريق بين الإسار قبل الإثخان وبعده، فدليلهم: ظاهر الآية في قوله -تعالى-: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ} [محمد: 4] ، فلم يُؤذن في الإسار إلا بعدَ الإثخان والقتل، وإليه ذهب سعيد بن جبير (1) . وأما الجمهور الذين ذهبوا إلى تخيير الإمام بحسب الاجتهاد في المصالح؛ فإنهم استعملوا جميع الآي الواردة في ذلك، على ما نذكره -إن شاء الله تعالى- لإمكان الجمع بينهما، وإذ لا دليل على أنَّ شيئاً من ذلك منسوخ؛ رُوي هذا القول عن ابن عباس (2) ، وعليه أهل المدينة، وكذلك يجئ مذهب مالكٍ، والشافعي،   (1) أخرجه عنه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (210رقم 395) ، وابن الجوزي في «الناسخ والمنسوخ» (ص 229) . وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (7/457) إلىعبد بن حميد، وابن المنذر في «تفسيريهما» ، مع أن ابن المنذر في «الأوسط» (11/231) نقل أن مذهبه كراهية القتل، كمذهب الحسن وعطاء، ونقل فيه (11/226) أن الإثخان مذهب إسحاق. (2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (ص 209 رقم 392) ، وفي كتاب «الأموال» (ص 170 رقم 342) ، والطبري في «التفسير» (14/ص 59 رقم 16286-ط. شاكر) ، وأبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 190، 259) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/225-226) من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله -تعالى-: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} . قال: ذلك يوم بدر، والمسلمون يومئذٍ قليل، فلما كثروا واشتد سلطناهم، أنزل الله -عز وجل- بعد هذا في الأسارى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فجعل الله -عز وجل- النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في الأسارى بالخيار: إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا فادوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم. شكَّ أبو عبيد في «استعبدوهم» . قلت: علي بن أبي طلحة. قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص 240 رقم 542) : «قال دُحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس، وقال أبو حاتم: علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مرسل» . وقال أبو زرعة العراقي في «تحفة التحصيل» (ص 234) : «قلت: قال الفسوي: روى عن ابن عباس الناسخ والمنسوخ، ولم يره» . قلت: لعليِّ بن أبي طلحة صحيفة رواها عن ابن عباس -كما أشرت إلى ذلك في موطن سابق-، فلعله أخذ هذا عن ابن عباس من الصحيفة؛ فيصح الأثر، والله الموفق. وأخرجه ابن جرير في «التفسير» (26/41) ، وابن الجوزي في «الناسخ والمنسوخ» (ص 228) = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيدٍ، وغيرهم (1) ؛ لأنهم كلهم يرون جواز القتل والمنّ والفداء للإمام بحسب ما يرى في الأسرى من مصلحة المسلمين. وقال أبو حنيفة (2) : لا يجوز المنُّ ولا الفداء، كأنه رأى ذلك منسوخاً، ووجه   = عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ... } إلى آخر الآية. قال: الفداء منسوخ، نسختها {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ... } إلى {كُلَّ مَرْصَدٍ} . قال: فلم يبق لأحدٍ من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم. وإسناده مظلم، فهو مسلسل بالمجاهيل. وعزاه السيوطي في «الدر» (7/457) إلى ابن مردويه في «تفسيره» . وانظر: «الإيضاح» (ص 301) ، لمكي بن أبي طالب. (1) انظر في مذهب المالكية في هذه المسألة: «النوادر والزيادات» (3/70، 72) ، «التلقين» (1/ 245) ، «المعونة» (1/620) ، «الشرح الصغير» (2/176- تحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد) ، «أسهل المدارك» (2/16) ، «التفريع» (1/361) ، «الذخيرة» (3/414) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/ 471-472) ، «الكافي» (1/467) ، وعندهم أن الفداء يكون بالرجال دون المال. وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/275) ، «روضة الطالبين» (10/251) ، «العزيز شرح الوجيز» (11/40) ، «منهاج الطالبين» (3/272) ، «الحاوي الكبير» (18/198) ، «مغني المحتاج» (4/ 227-228) . وانظر: «الاقناع» لابن المنذر (2/491) ، و «التحقيق» لابن الجوزي (10/160 رقم 731) . وهذا في الأحرار من مقاتلة الرجال، ومذهبهم في العبيد إذا وقعوا في الأسر، كانوا كسائر الأموال المغنومة، لا يُمَنُّ عليهم، ولا يتخير الإمام فيهم؛ لأن عَبْدَ الحربي مالٌ له. وكذلك النساء والصبيان إذا وقعوا في الأسر رُقُّوا، وحكمهم حكم سائر أموال الغنيمة. وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/44-ط. دار عالم الكتب) ، «المقنع» و «الشرح الكبير» و «الانصاف» (10/80- ط. هجر) ، «الكافي» (4/270) ، «منتهى الإرادات» (2/209) ، «الفروع» (6/198- ط. دار الكتب العلمية) ، «المبدع» (3/325) ، «الممتع في شرح المقنع» (2/548) . وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور كما ذكره ابن قدامة في «المغني» (13/44) ، وحكاه ابن المنذر في «الأوسط» (11/224-225) عن أبي ثور، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وأبي عبيد. وفي مذهب أبي عبيد، انظر: «الناسخ والمنسوخ» له (ص 215-216) ، وهو مذهب ابن جرير وغيره. والله أعلم. (2) انظر: «الهداية شرح البداية» (2/433-434) ، «البناية شرح الهداية» (5/691-693) ، «اللباب» (4/24) ، «تحفة الفقهاء» (3/302) ، «بدائع الصنائع» (7/119) ، «شرح فتح القدير» (5/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الجمع في ذلك أن الله -تعالى- يقول: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، فعموم هذا يقتضي القتل في كل مشرك قبل الإسار وبعده، إلاَّ أن يُخَصِّصَه دليلٌ، وكذلك قوله -تعالى-: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] ، وقال -تعالى-: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، فكان استحياء الأسرى قبل الإثخان محظوراً، كما دلَّ عليه عموم آية السَّيف، وكان في ظاهر الخطاب من هذه الآية ترخيصٌ في اتخاذ الأسرى بعد الإثخان، وقال -تعالى-: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، ففي هذا إباحته بعد الإثخان تصريحاً، فكان بياناً لما تقدم، وتخصيصاً لعموم ذلك، وليس قوله -تعالى-: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] على معنى أنه واجب، حتى لا يتصرف في الأسير إلا بذلك، فيكون القتل ممنوعاً فيه، لكن هو على معنى التخصيص؛ لعموم الأمر بإيجاب القتل حيثما ثُقِفُوا، فهو إباحةٌ للاستحياء في حال الأسر من غير منع القتل. ويدل على أنه إباحةٌ لا وجوب: قوله -تعالى-: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ} [الأنفال: 67] فجعل ذلك له، ولو كان واجباً لقيل: عَليه، فإن نوزع في شيءٍ من ذلك على مذهب من لا يراه، عُضد هذا التأويل بما ثبت من قتلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي مُعيطٍ، والنَّضرِ بن الحارث، من جُملة أسارى بَدرٍ (1) ،   = 474) ، «مجمع الأنهر» (2/423) ، «البحر الرائق» (5/140) ، «تبيين الحقائق» (3/249) ، «المبسوط» (10/138) ، فعندهم أن ليس للإمام أن يمنّ على الأسرى، فيترك قتلهم؛ لأن فيه إبطال حق الغزاة، من غير نفعٍ يرجع إليهم، ولا يجوز عند أبي حنيفة أن يفادي بهم أسرى المسلمين، ويجوز ذلك عند أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني. ونقل الزيلعي في «تبيين الحقائق» عن أبي حنيفة أنه لابأس بأن يفادى بهم أسارى المسلمين. (1) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/477 رقم 40-ط. دار الفكر) من طريق شعبة، وأبو عبيد في «الأموال» (ص 171 رقم 345) ، وأبو داود في «المراسيل» (ص 248 رقم 337) من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 واستحياءِ آخرين (1) ، وقتل بني قريظة (2) ، ومَنَّ على أهل خيبر، فلم يقتلهم، افتتحها   = طريق هُشيم، كلاهما عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير -مرسلاً-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل يوم بدرٍ ثلاثة صبراً: عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، ومطعم بن عدي. لكن وصله الطبراني في «الأوسط» (4/135 رقم 3801) من طريق سفيان بن حسين، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به. وفيه: «طعيمة» بدل: «مطعم» . وهو الصواب. قال الحافظ في «التلخيص» (4/108) : وفي قوله: «المطعم بن عدي» تحريف، والصواب «طعيمة بن عدي» . وانظر: «نصب الراية» (3/402) . وسفيان بن حسين: ثقة. من أثبت الناس في سعيد بن جبير؛ كما في «التقريب» . وله طرق أخرى عن ابن عباس، انظر: «مصنف عبد الرزاق» (5/205، 206، 352) ، «سيرة ابن هشام» (1-2/644-ط. مؤسسة علوم القرآن) ، «الأوسط» (11/224) لابن المنذر، «سبل الهدى والرشاد» (4/63-64) . وأخرج البيهقي (9/64-65) من حديث سهل بن أبي حثمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أقبل بالأسارى، حتى إذا كان بعرق الظبية، أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط ... الحديث. ورواه من حديث سهل: الدارقطني في «الأفراد» -كما في «التلخيص الحبير» (4/108) -. وأخرجه ابن أبي شيبة (8/477 رقم 39- ط. دار الفكر) من طريق شعبة عن الحكم قال: لم يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر صبراً إلا عقبة بن أبي معيط. وإسناده معضل. وانظر قصة قتل عقبة والحارث مع رد شبه الكافرين والمستشرقين وأذنابهم ممن في قلوبهم مرض، الذين يصفون الإسلام بأنه متعطش للدماء، وغرضهم التنقيص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «النظام الحربي في الإسلام» (230) ، «حكم الأسرى في الإسلام» (ص 143-144) ، «حياة محمد - صلى الله عليه وسلم -» (272) لهيكل، «الإسلام وروح المدنية» للغلاييني (ص 122) . (1) والاستحياء: أن يترك الأسرى على أنهم رقيق للمسلمين، أو فيئاً لهم. (2) حديث قتل بني قريظة: أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب إذا نزل العدو على حكم رجل) (رقم 3043) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز قتال من نقض العهد) (رقم 1768) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد -وهو ابن معاذ- بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قريباً منه، فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا إلى سيدكم» . فجاء فجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: «إن هؤلاء نزلوا على حُكْمك» . قال: فإني أحكم أن تُقتل المقاتلة، وأن تُسبى الذرية، قال: «لقد حكمت فيهم بحكم المَلِكِ» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 عنوةً، فَقَسم أرضها، ومَنَّ على رجالهم، فتركهم عُمَّالاً في الأرض والنخلِ على الشَّطْر (1) ، حتى أخرجهم عمر حين استغنى عنهم (2) . وفدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من المسلمين برجلٍ من المشركين من بني عُقيل (3) ، فدلَّ ذلك كلُّه على جواز القتل والمنِّ والفداء، وكلُّ ذلك بيانُ ما تَضَمَّنه القرآنُ، فيكون على هذا جميع الآي مُحكماً. أمَّا آية السيف في (براءة) وكل آيةٍ في مثل معناها، فتحملُ على نسخ الموادعة وإيجاب القتل والقتال حال ممانعة العدو، وأمّا الآيتان؛ ففي أحكام الأسرى بعد الاستيلاء عليهم بالقتال والطَّ‍لب، ولهذا قال -تعالى- في صدر آية الفداء: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] ، يعني: حال   = وأخرجه البخاري في عدة مواطن (رقم 3804، 4121، 6262) . وأخرجه البخاري بنحوه (رقم 4028) ، ومسلم (رقم 1766) . (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر) (رقم 4248) . وأخرجه في عدّة مواطن مطولاً ومختصراً (2285، 2328، 2329، 2331، 2338، 2499، 2720، 3152) . وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة (باب المساقاة والمعاملة بجزءٍ من الثمر والزرع) (رقم 1551) . (2) وكان عمر -رضي الله عنه- أجلاهم في إمارته إلى تيماء وأريحاء كما عند البخاري (2338 و3152) ، ومسلم (1551) بعد (6) . (3) أخرجه أحمد (4/427) ، وأبو عبيد في الأموال (رقم 321) ، وابن أبي شيبة (12/ 416) ، والشافعي في «الأم» (4/189، 239 و7/348) ، والطحاوي في «الشرح» (3/260) ، والترمذي (2714) ، والنسائي في «الكبرى» (8664) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (2820) ، والطيالسي (846) وابن المنذر في «الأوسط» (11/208، 223 رقم 6603، 6619) من حديث عمران بن حصين، به. والحديث طويل وفيه قصة المرأة التي أسرها المشركون، فهربت منهم على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان المشركون قد أخذوها، ونذرت أن نجاها الله -تعالى- عليها لتنحرنَّها ... القصة. وأصله عند مسلم (1641) وأبو داود (3316) ، وأحمد (4/433-434) ، والشافعي في «الأم» (4/267) ، وفي «مسنده» (2/121) ، والبيهقي (9/72) ، وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الممانعة، ويتقرر على هذا: أنه لا يسوغ الأسر إلا بعد الإثخان، كما قال سعيد، ثم يكون الاجتهاد فيهم بعدُ بالوجوه المذكورة للإمام؛ قال مجاهد (1) : الإثخان: القتل، وقال محمد بن إسحاق صاحب «المغازي» (2) : «حتى يثخن في الأرض: أي: ثخَّن عدوَّه حتى ينفيه من الأرض» . وقال أبو عبيدة (3) : معناه: حتى يغلب ويبالغ. وهذا الوجه الذي قرَّرنا الاستدلال عليه هو -إن شاء الله- أَرجْحُ الأقوال؛ لأن اعتقاد النَّسخ لا يَحسنُ إلا حيثُ يقوم عليه الدليل بالتوقيفِ ونحوه، أو حيث لا يمكنُ الجمعُ البَتَّة، ويُعلمُ المتأخِّرُ مع ذلك، فيكون هو الناسخ، وإلا فهو ظَنٌّ، والله -تعالى- يقول: {وإَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28] ، فإذا تقرر ذلك فالأسرى يجوز فيهم للإمام القتلُ والمنُّ والفداءُ، وكذلك الاسترقاقُ، هذا ما لم يختلف فيه الصَّائرون إلى هذا المذهب: مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثورٍ، وأحمد، وأبو عبيدٍ، وغيرهم، ومنع أبو حنيفة المَنَّ والفداء، وخيَّر بين الاسترقاق والقتل (4) . فأمَّا ضرب الجزية؛ ففي شروط ذلك والقول به عامَّاً في الكُفَّار أو خاصّاً خلافٌ، نذكره -إن شاء الله- في (الباب التاسع) ، حيثُ أَفْرَدْناه للجزية وأحكامِها، ونتعرض في هذا الموضع للتنبيه على أحكام سائر الوجوه غيرِ الجزية، وذكر مسائل مما يتعلق بذلك -إن شاء الله تعالى-.   (1) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1732 رقم 9154) ، وابن جرير (6/43) في «تفسيريهما» عن مجاهد. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/109) إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر. ونقله ابن المنذر في «الأوسط» (11/229) عنه -أيضاً-. (2) (ص 287- تحقيق محمد حميدالله) ، وفي المطبوع: يثخن عدوَّه، وكذا نقلها عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/229) . (3) في «مجاز القرآن» (ص 250) ، وفيه: حتى يغلب ويغالب ويبالغ، ووقع «حتى يغلب ويبالغ» في مطبوع «الأوسط» (11/229) منسوباً إلى أبي عبيد!! (4) سبق توثيق مذاهب جميع المذكورين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فصلٌ يكون نظر الإمام في الأسرى بحسب الاجتهاد والمصلحة لأهل الإسلام، فمن خُشيت شجاعته منهم وإقدامُهُ، أو رأيُهُ وتدبيرُه، وما أشبه ذلك (1) من الوجوه التي تعود بتقوية بأس العدو على المسلمين في بقائه؛ كان الأولى قَتْلُهُ، إلا أن يَعرضَ هناك ما يمنع، وتكونُ مراعاته أهم، مثل أن يكون في بلاد الكفر أسيرٌ من المسلمين، لا يُستطاع إخراجه إلا بالمفاداة بهذا، وما أشبه ذلك من وجوه النَّظَرِ في الحال، وذلك غير مُنْحَصرٍ، بل هو بحسب ما يرى الحاضر والمجتهد، ومن لم يكن من الأسرى على هذه الصِّفة، وكان في المفاداة به مصلحةٌ وتقويةٌ للمسلمين بالمال، وما أشبه ذلك مما لا ينحصر -أيضاً- من وجوه النَّظَر، فالأوْلَى المفاداةُ، ومن يُرجى إسلامُه بَعدُ، أو الانتفاع به في استمالة أهلِ الكفر أو كسرِ شوكتهم، وما في معنى ذلك إذا رُدَّ وأُنعم عليه، فالأَوْلَى المَنُّ، ومن كان صانعاً أو عسيفاً يُنتفع بمثله في الخدمة، ولم يعرض فيه وجهٌ من الوجوه المتقدمة؛ اسْتُرِقَّ هؤلاء، أو ضُربت عليهم الجزية، إن كانوا من أهلها، على حسب ما يظهر من ذلك (2) . وبالجملة، فالنَّظر في هذه الوجوه لمصالح المسلمين بحسب الحال أوسَعُ من هذا، وإنما نَبَّهنا على أنموذج من طريق النَّظَر، لا أنَّ ذلك واجبٌ بعينه، إلا أنه لا ينبغي أن يميل إلى واحدٍ من هذه الوجوه إلا لمصلحةٍ في حقّ المسلمين، يغلب على نظره واجتهاده أنها أَوْلى، فأمَّا القتل، فما دام الإمام مُرتئياً لم يعزم على واحدةٍ   (1) كمن يكون شديد العداوة للإسلام، وإنه إن ترك بمنٍّ أو فداء سيسعى في المسلمين قتلاً، وهو ما يسمى اليوم بـ: مجرم حَرب. وانظر: «من أحكام الحرب في الشريعة الإسلامية والقانون» (ص 141) . (2) تاريخ المسلمين شاهد على معاملتهم الحسنة للأسرى، خلافاً لغيرهم من الكفار في معاملتهم الوحشية للأسرى. انظر -على سبيل المثال- في معاملتهم الأسرى كتاب «جرائم الحرب في فيتنام» للانجليزي «برتراند راسل» ، ترجمة: محمود فلاحة، «حكم الأسرى في الإسلام» للدكتور عبد السلام الأدغيري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 مما سواه؛ ساغَ له القَتْلُ، ولو بَعْدَ مُدَّةٍ؛ قال بعض الفقهاء: لو عرضهم للبيع ليَختبر أثمانهم، ويناظر بها وجه المصلحة في إحرازها للمسلمين، أو قتلهم، وما أشبه هذا؛ كان له من ذلك ما رآه بعد، فإذا أنفَذَ نظرهُ في واحدةٍ من ذلك غير القتل أو أسقط عنه القتل، وبقي مرتئياً فيما عداه من الوجوه؛ لم يكن له الرجوع إلى القتل؛ لأنه حُكْمٌ وَقَعَ يتضمَّنَ التأمين (1) ، والله أعلم. مسائل من مفاداة الأسرى * مسألة: اتفق الذين رأوا الإمام مخيراً في الأسرى على جواز مفاداة رجال الكفار ونسائهم بالمسلمين يكونون أسرى في دار الحرب، واختلفوا في جواز بيع الرجال منهم بالمال؛ فمنعه قومٌ وأجازه آخرون، وكلا القولين ممَّا قالت به طائفةٌ من المالكية (2) ، وقال الشافعي (3) وأبو ثور (4) : لا بأس ببيع السَّبي؛ الرجال والنساء من أهل الحرب منهم، وكره أبو حنيفة أن يُباع الرجال والنساء منهم فيتقوَّوا بهم،   (1) انظر: «المدونة» (1/374) ، «التفريع» (1/361) ، «الرسالة» (2/36) ، «المعونة» (1/ 620) ، «النوادر والزيادات» (3/72) ، «الكافي» (1/467) ، «الذخيرة» (3/414) . (2) جمهور المالكية على جواز بيع أسرى الرجال من أهل الحرب منهم. انظر: «الذخيرة» (3/414) ، «الشرح الصغير» (2/176) ، «النوادر والزيادات» (3/72) ، «الكافي» (1/467) ، «المعونة» (1/621) ، «البيان والتحصيل» (2/560) . ونقل ابن رشد في «البيان والتحصيل» (2/563) عن الداودي: أن أكثر أصحاب مالك يكرهون فداء الأسرى بالمال، ويقولون: إنما كان ذلك ببدر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ أنه سيظهر عليهم، وإنما يتفق على جواز فدائهم بأسرى المسلمين. (3) في «الأم» (4/305) . وانظر: «الحاوي الكبير» (18/202) ، «روضة الطالبين» (10/ 251) ، «العزيز شرح الوجيز» (11/411) ، «منهاج الطالبين» (3/272) ، «مغني المحتاج» (4/228) . (4) نقل مذهبه: ابن المنذر في «الأوسط» (11/224) ، والطبري في «اختلاف الفقهاء» (145) ، والعيني في «عمدة القاري» (14/266) ، وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 776) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وهذا منه جَرْيٌ على أصله في منع المنِّ والمفاداة كما تقدم من مذهبه (1) ، وأجاز ذلك مالكٌ من أهل الذمَّة في الرجال والنساء، وقال أحمد وإسحاق: لايباعون، صِغاراً كانوا أو كباراً من اليهود والنصارى (2) . قال الأوزاعي (3) : وكان المسلمون لا يَرَوْنَ بأساً ببيع السَّبي منهم، وكانوا يكرهون بيع الرجال، إلا أن يفادى بهم أسارى من المسلمين. فوجه الجواز في الجميع: عموم قوله -تعالى-: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، وذلك يشمل الفداء بالأسرى والمال، وما ثَبتَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبِلَ فدية المال من أُسارى بدر (4) ، ومما وردَ في المفاداة بالنساء؛ ماخرّجه مسلم (5) من حديث سلمة بن الأكوع في المرأة من السَّبي، وكان نُفِلَها، فاستوهبها منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث بها إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أُسِروا بمكة. وممّا وردَ في بيعهنَّ من المشركين بالمال، ماخرَّجه مالك في «موطئه» (6) عن أبي سعيدٍ الخدري قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق، فأصبْنَا   (1) سبق توثيق ذلك، ولله الحمد والمنّة. (2) انظر: «المغني» (13/51) ، «المقنع» (1/490) ، «الممتع في شرح المقنع» (2/552) -وذكر فيه روايتين عن أحمد-، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/769 رقم 2012) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/207) ففيه مذهب إسحاق. (3) حكاه عنه الشافعي في «الأم» (باب في المرأة تُسبى ثم يُسبى زوجها) (7/367) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/207) ، «الرد على سير الأوزاعي» (61-67) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/428-429) . (4) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم) (رقم 1736 بعد 58) مطولاً. (5) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى) (رقم 1755 بعد 46) . (6) «الموطأ» (رقم 538-ط. دار إحيار التراث العربي) . وأخرجه البخاري في كتاب العتق (باب من ملك من العرب رقيقاً) (رقم 2542) ، ومسلم في كتاب النكاح (باب حكم العزل) (1438 بعد 125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 سبياً من سَبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العُزْبة، وأحببنَا الفداء، فأردنا أن نَعْزِلَ، فقُلنا: نَعْزِلُ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا قبل أن نسأله؟، فسألناه عن ذلك فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما مِنْ نَسَمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلاَّ وهي كائنة» . ووجه ما ذهب إليه من مَنع في الجميع -كما يقول أبو حنيفة- (1) هو ما زعم من أنَّ في ردِّهم إليهم تقويةً للعدو، وكأنه يرى الفداء مَنسوخاً، وقد تقدَّم الرد على هذا المذهب (2) . ووجهُ من منع فداء الرجال بالمال خاصةً، حملُ مدلول الفداء في الآية على المفاداة بالمسلمين؛ لأن ذلك مما لا يُختلفُ في أنه يتناوله اللفظُ؛ فأمَّا فديةُ المال فلا دليل على أنَّه مرادٌ في اللَّفظ؛ لأن ظاهر الفداءِ والمفاداةِ في اللُّغة للمعنى الأول من حيثُ هو مصدر فَاعَلَ، وهو يكون غالباً فعلَ اثنين يتساويان فيه على حَدٍّ، فظاهر مدلول الفداء يقتضي أن يوجدَ في كل جانبٍ أسيرٌ يُفْدَى ويُفْدَى به، كالقتال والسِّباب ونحو ذلك، وحملوا ما وقع من فِدْيةِ المال في أسارى بدرٍ على وجوه من التعليل، من ذلك قول بعضهم: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عَلِمَ بإعلام الله -تعالى- إيَّاه أنه سيظهر عليهم بَعْدُ، فكان في قبولِ الفِدْية مصلحةٌ للمسلمين وتَعجيلُ نَفْعٍ، وتقويةٌ على عدوهم، ثم كأنهم بَعْدُ في حُكْمِ المأسورين بما وَعَدَ من الظهور عليهم، وفي هذا التأويل إبعادٌ، والقولُ بجواز ذلك أرجح، إلا أن يعرض في شخصٍ ما أو حالٍ أو وقتٍ أمرٌ، يكون في فِعْلِ ذلك معه ضَررٌ للمسلمين؛ إمَّا لأن الشخصَ المُفْدَى ذو دهاءٍ ومكرٍ وانتهاضٍ بالحرب، أو لأنَّ في عدد الأسرى المرجوعين إليهم من الكثرة ما يُتَّقى في ذلك الوقت من عائدته على المسلمين، وما أشبه ذلك، فيمنع بحسب العارض، لا أنه محظورٌ في الأصل، والله أعلم.   (1) انظر: «الأم» (7/367) ، «البناية» (5/691) ، «البحر الرائق» (5/140) ، «المبسوط» (10/138) ، «الأوسط» (11/207) ، وهو قول أبي يوسف القاضي. (2) انظر: «الأم» (7/368) ، و «الأوسط» (11/208) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 * مسألةٌ: واختلفوا في جواز الفداء بأبناء الكفار الذين لم يبلغوا بَعدُ، فقيل: ذلك باطل، ولا يجوز رَدُّهم إليهم بحال، وقيل: إن كان ذلك بأسارى المسلمين جاز، وإلا فلا، وقيل: يجوز ذلك بالأسارى وبالمال، وسبب الخلاف في أصل هذه المسألة هو: هل أبناء الكفار محمولون على الكفر أو على الإيمان؟ وهي مسألة هائلة، عَظُمَ فيها القول، وكثر الخلاف، واتسع النَّظر بين العلماء، وجملة الأمر الذي عليه مدار ذلك: تأويل قوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172] . وقوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنْ مولودٍ إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه ويُنَصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهميةً جَمْعَاء، هل تُحِسُّونَ فيها من جَدْعاء؟!» . خرجه مسلمٌ (1) عن أبي هريرة، وفيه (2) في بعض طرقه: «ما من مولود يولد إلا على هذه الملَّة، حتَّى يُبَيِّن عنه لِسانُهُ» ، وفيه (3) في بعضِ طرقه: فقال رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت لو مات قبلَ ذلك؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ، ونحو هذا قال في أطفال المؤمنين، فظواهر هذا كلِّه، أنه ما لم يَبلُغ؛ فيَدينُ بدين أبويه، أو يكفر ابتداءً من نفسه، إن لم   (1) في «صحيحه» في كتاب القدر (باب معنى كل مولوه يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين) (2658 بعد 22 و23 و24) . وأخرجه البخاري (الأرقام 1358، 1359، 1385، 4775، 6599) ، وخرّجته بتفصيل في تعليقي على «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (3/276-277) ، وانظر: «نصب الراية» (2/333) ، «مجمع الزوائد» (7/218) . (2) برقم (2658) بعد (23) . (3) برقم (2658) بعد (23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 يكن أبواه كافرين فهو على حكم الإيمان، وهو في الجنة (1) إن مات كأطفال المؤمنين، وإلى ذلك ذهب جماعة من أهل العلم (2) ، فهذا وجهٌ، وثَبتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في أبناء المشركين يصابون في البيات والغارة: «هم من آبائهم» (3) ، فحكم لهم في ذلك بحكم الكفر، فذهب إلى حملهم على أحكام الكفر جماعةٌ (4) -أيضاً-، وتأوَّلوا ظواهر ما تقدَّم، وقال أهل المذهب الأول: معنى قوله: «هم من   (1) الصواب أنهم يمتحنون في عرصات يوم القيامة في أصناف آخرين: المجانين، من أدركوا الإسلام على كبر، المعتوهون، الصُّم البُكْم، وردت في ذلك أحاديث كثيرة شهيرة. تنهض جملتها بالاحتجاج، بل سلم بعضها من العلل، وعمل على حصرها وتوجيهها على ما أسلفت: ابن القيم في آخر «طريق الهجرتين» ، فانظره فإنه مفيد غاية، والله الموفق. (2) ذهب المالكية والحنفية إلى أن إسلام المراهق والمميز وإن قصر عن المراهق يصح، فإن رجع عنه، انتظر به البلوغ، فإن أقام عليه قتل. انظر للمالكية: «أسهل المدارك» (3/160) ، «الكافي» (221) ، «الإشراف» (3 مسألة رقم 1117- بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب، «مواهب الجليل» (6/281) ، «الخرشي» (8/66) . وانظر للحنفية: «الهداية» (2/126) ، «المبسوط» (10/62، 120-122) ، «الاختيار» (4/ 148) ، «جامع أحكام الصغار» (2/93-98) ، «فتح القدير» (6/94) ، «تحفة الفقهاء» (4/530-532) ، «بدائع الصنائع» (7/134-135) ، «تبيين الحقائق» (3/292) ، «حاشية ابن عابدين» (4/ 257-258) . وهذا مذهب إسحاق، وابن أبي شيبة، وأيوب، والإمام أحمد، انظر: «المغني» (12/266) ، «شرح الزركشي» (6/250) ، «منتهى الإرادات» (3/397-398) ، «الإنصاف» (10/329) ، «تنقيح التحقيق» (3/109-110) ، «كشاف القناع» (6/167-168، 174) ، «منار السبيل» (2/407) . (3) مضى تخريجه. (4) ذهب الشافعية إلى أن إسلام المميز لا يكون محققاً إلا بعد البلوغ، انظر: «الأم» (6/149، 290-291) ، «حلية العلماء» (5/562) ، «المهذب» (1/445 و2/240) ، «روضة الطالبين» (10/ 71) ، «مغني المحتاج» (4/137، 263) ، «الحاوي الكبير» (13/171- ط. دار الكتب العلمية) ، «نهاية المحتاج» (5/454-457) ، «فيض الإله» (2/305) ، «رحمة الأمة» (269) ، «مختصر الخلافيات» (3/ 475 رقم 158) . وبه قال زفر، ورواية عن أحمد، انظر: «المحرر» (2/169) ، «المقنع» (3/517) ، «الإنصاف» (10/329-330) ، «شرح الزركشي» (6/250-253) ، «الإمام زفر وآراؤه الفقهية» (1/327) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 آبائهم» : إنما يُراد به نفي الحرج والإثم في إصابتهم على وجه الضرورة من غير قَصْد. ثم اختلف القائلون بأنهم محمولون على الكفر: هل ذلك على الإطلاق في أحكام الدنيا والآخرة حتى يستوجبوا التخليد في النار؟ أو هو خاصٌّ بأحكام الدنيا؟ كرفع المأثم فيهم عن أهل البيات، والدِّية عن قاتلهم خطأ، كجواز استرقاقهم بالأسر من دار الحرب، وترك الصلاة على من مات منهم، وثبوت التوارث بينهم وبين سائر الكفار إذا كانوا أحراراً، وما أشبه ذلك من أحكام الدنيا؟ وأمَّا أحكام الآخرة؛ فإلى الله؛ فهو أعلم بما كانوا عاملين، مصيراً إلى ما وقع من ذلك في الحديث؛ فتلك ثلاثة مذاهب. وبالجملة؛ الخوض في تفصيلِ النَّظر في المسألة، ومواقع الخلاف، وبسط وجوه الأدلة والاعتراض عليها، والتفريع عنها، فذلك له غرضٌ كبير ليس هذا مَوضعَ اسْتِقْصائه، وكأن الظاهرَ عند ترجيح الأدلَّة، والأوْلى في حَملِ بعضها على بعضٍ بالبناء على قواعد الشرع المعلومة في اختصاص وجوب التكليف بالبالغ، ورفْعِ الإثم، والاتصاف بالمعصية عن غير البالغ، يشهد لمن ذهب إلى أنهم على أحكام المؤمنين (1) ، وأنهم في الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ بكلِّ حالٍ -إن شاء الله-.   (1) نعم؛ الراجح صحة إسلام المراهق والصبي، دل عليه ما أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجنائز (باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يُصلَّى عليه وهل يُعرضُ على الصبي الإسلام؟) (رقم 1356) عن أنس -رضي الله عنه-؛ قال: كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند راسه، فقال له: «أسلم» . فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. فأسلم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار» . وذكر البخاري أن الحسن وشريح وإبراهيم وقتادة قالوا: إذا أسلم أحدهما -أي الوالدين-؛ فالولد مع المسلم، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- مع أمه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دين قومه، وقال: «الإسلام يعلو ولا يُعْلَى» . قلت: وأسند البخاري في الباب نفسه عرْض النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام على ابن صياد وهو غلام لم يبلغ، وأسلم عليٌّ والزبير وهما أبناء ثمان سنين. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وأمَّا أحكام الدنيا على هذا المذهب، فما خصَّهم الشَّرعُ به من حُكمٍ فهو كما خصَّ، وما لا، فهم فيه على سائر أحكام المؤمنين، وعند ذلك يَتَّضح لك، ولا يخفى عليكَ، أن جواز فدائهم أو المفاداة بهم لا تصحُّ بحال، وعلى هذا فحكمهم أن يُجبروا على الإسلام، إذا كانوا في أيدي المسلمين، فمن أبَى منهم عُوقِبَ وأُدِّبَ ما دامَ صغيراً، فإذا بلغَ ولم يُجِبْ إلى ذلك، فحكمه حُكمُ المرتدّ، يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما من أجازَ فيهم المفاداةَ بالأسرى وبالمال على كلِّ حال، فإنهم غَلَّبوا الظواهرَ الدالَّةَ على إلحاقهم بالكفار، وحملوهم على أحكام الكفر؛ إما مطلقاً -كما تقدم-، وإمَّا مُقيَّداً بأحكام الدنيا عموماً، إلا ما خصَّ الشَّرعُ من ذلك، وهو النَّهيُ عن قتلهم. وأمّا من فرَّق فيهم بين الفديةِ والمفاداة، فكأنَّه أَشْكَلَ عليه الأمرُ فيهم؛ لِمَا وقعَ من تعارض الأدلَّة عنده، ولظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - -وقد سُئل عمَّن مات منهم قبل البلوغ- فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (1) ، فاستخفَّ ذلك في المعاوضة بالمسلم الذي هو على يقينٍ من الحكم بإيمانه، ومنعه في المال، وكأن هذا أخفُّ من إباحة ذلك على الإطلاق، وكلُّ هذا الخلافِ إنما هو ما لم يُسلم أبوا الطِّفْل المسبيِّ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فأبواه يهودانه وينصِّرانه ويمجسانه» (2) ، فأمَّا إنْ أسلما فهو إجماعٌ أن للطِّفل حرمةَ الإسلام، وجميعَ أحكامه، فإن أسلم أحدهما دون الآخر   = وثمرة الخلاف عند القول بصحة إسلامه؛ فإن الإسلام يوجب عليه الزكاة في ماله، ويوجب عليه نفقة قريبه المسلم، ويحرم ميراث قريبه الكافر، ويفسخ نكاحه من الكافرة، وهذه -أيضاً- محل خلاف في التفريعات عند القائلين بصحة إسلامه. انظر: «جامع أحكام الصغار» (1/93-98) . وما سقناه يدل على نجاته إن أسلم، وأما إن مات ولم يظهر ذلك منه، فهو تحت مشيئة الله، والراجح ما قدمناه قريباً من امتحانهم في عرصات يوم القيامة، والله أعلم. (1) أخرجه مسلم، وقد مضى قريباً. (2) مضى تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ففيه خلاف (1) ، وكذلك إن لم يُسلما وسُبِيَ الطِّفلُ مُفرداً عنهما فيه خلاف، وكذلك إن سُبوا جميعاً فَفرَّقتْ بينهم الأملاكُ فيه خلاف، ولا يعدو شيءٌ من ذلك المَردَّ إلى الأصول التي قدَّمنا؛ فمن أقوال أهل العلم في هذا الباب قولُ الشافعيِّ (2) في الصِّبيان من السَّبْي إذا كانوا مع آبائهم، فلا بأس ببيعهم من أهل الحرب منهم، ومن كان منهم ليس معه واحدٌ من أبويه فلا يباعون منهم، ولا يُفادى بهم؛ لأنَّ حُكمهم حُكم آبائهم ما كانوا معهم، فإذا تحوَّلوا إلينا ولا والدَ مع أحدٍ منهم؛ فحكمه حكم مالكه، فمذهب الشافعيِّ أنَّ حُكمَ الطفل منهم حُكمُ أبويه إن كانا معه، أو كان معه أحدهما، فإن لم يكن معه واحد منهما (3) ، وصار في مُلكِ المسلمين؛ فحكمه حكم المسلمين، وهو قول أبي حنيفة (4) ، وقاله أحمد بن حنبل (5) ، وكلهم يقول: إنَّ من أسلمَ من أبويهِ؛ فالولد مسلمٌ بإسلامه، أباً كان أو أمًّا، وذكر ابن الماجشون عن أصحابه من أهل المدينة أنهم كانوا يذهبون إلى أن الطِّفلَ من السَّبي إذا كان معه   (1) انظر ما قدمناه قريباً عن الحسن وشريح وإبراهيم وقتادة، فيما نقله البخاري عنهم. (2) «الأم» (7/368-ط. دار الفكر، أو 9/268-ط. دار الوفاء) . وانظر: «مختصر المزني» (ص 274) ، «الحاوي الكبير» (18/285) ، «العزيز شرح الوجيز» (11/420) ، «روضة الطالبين» (10/257) ، «البيان» للعمراني (12/170) ، «الأوسط» (11/208) . (3) في المنسوخ: منهم. (4) انظر: «مختصر الطحاوي» (289) ، «الهداية» (2/437) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/489) . (5) ولكن المذكور في كتب الحنابلة خلاف ما ذكره المصنف -رحمه الله-، فيمن كان معه أحد أبويه، ففي كتبهم: أن من سُبِيَ من أطفالهم منفرداً، أو مع أحد أبويه فهو مسلم، وإن سُبي مع أبويه فهو على دينهما. انظر: «الممتع في شرح المقنع» (2/552) ، «منتهى الإرادات» (2/211) ، «الشرح الكبير» (المسألة رقم 1404) ، «الإنصاف» (10/92- مع «المقنع» و «الشرح الكبير» ) ، «الكافي» (4/277) ، «المبدع» (3/328) ، «المغني» (13/112) ، «شرح الزركشي» (6/505) ، وهو قول الأوزاعي كما في «المغني» و «الشرح الكبير» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 أبوه حُمِلَ على دين الأب، فيكون مسلماً إن أسلم أبوه، وعلى حُكم الكُفر إن ثبتَ على كفره، ولا يُعتدُّ فيهم بدين الأم على حال؛ لأنهم إلى الأب ينتسبون، وبه يُعرفون (1) . قال ابن الماجشون: هذا ما لم يُفرِّق بينهم السِّباء، فإذا فُرِّق بينهم وبين آبائهم بالقسم أو البيع (2) ؛ فأحكامهم حينئذٍ أحكام المسلمين في القصاص والقَوَدِ والصلاة عليهم والموارثة وغير ذلك (3) . وقال أحمد بن حنبل (4) في الغلام النصراني إذا أسلم أحد أبويه: هو مع المسلم منهما، سواء كان أمًّا أو أباً، حُكمه حُكْمُ المسلمِ منهما، وقال في الصَّغير إذا لم يكن معه أبواه: لا ينبغي أن يُفادى به، وهو عنده على حكم المسلمين، ولم يرَ بذلك بأساً إذا كانا معه؛ لأنه على دينهما كما تقدّم من قول الشافعي، وقال الأوزاعي (5) : إذا كان في ملك المسلمين، فحكمه حكم أهل الإسلام؛ لأن المُلك أولى به من النَّسَب، واختاره أبو عبيد (6) ،   (1) وهو قول أبي الخطاب الكلوذاني من الحنابلة. انظر: «الشرح الكبير» (10/93- مع «المقنع» و «الإنصاف» ) ، و «الكافي» (4/278) . (2) مذهب الشافعي وأحمد: إن فُرِّق بينهما بالبيع فالبيع فاسد. وقال أبو حنيفة: يصح البيع. مع إجماعهم على أن التفريق بين الأم وولدها غير جائز. وانظر: «المهذب» (2/240) ، «روضة الطالبين» (10/257) ، «مختصر الخلافيات» (5/57) ، «مختصر الطحاوي» (285، 286) . (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/380) ، «الكافي» لابن عبد البر (1/468) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/476) . ومذهب ابن حبيب: ما سُبيت به الحرة من ولدٍ صغير أو كبير، تبع لها في الحرية والإسلام. وما ذكره ابن الماجشون عن أصحابه من أهل المدينة فمنهم أشهب وسحنون. (4) انظر: «المغني» (13/113- ط. هجر) ، «الشرح الكبير» (10/93) ، «الكافي» (4/277) . (5) انظر: «الأم» (7/385) ، «المغني» (13/113) ، «الشرح الكبير» (10/95) ، «الأموال» لأبي عبيد (165 رقم 326) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (185-ط. يوسف شخت) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/434) . (6) انظر كتابه: «الأموال» (ص 165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وقال: الإسلام يعلو ولا يُعلْى. وبه قال أبو محمد بن حزم (1) ، قال: «ولا يَحلُّ أنْ يُرَدَّ صَغيرٌ سُبِيَ من أرض الحرب إليهم، لا بفداءٍ، ولا بغير فداءٍ؛ لأنه قَدْ لَزِمهُ حكم الإسلام بملك المسلمين له، فهو وأولاد المسلمين سواءٌ لا فرق، قال: وهو قول المزني» . وعن مالكٍ وأصحابه في هذا الباب اختلافٌ واضطراب، فالمشهور من مذهب مالكٍ، أنَّ أبناء الكفار على دين آبائهم (2) ، كانوا معهم أو لم يكونوا، ولا يُصلَّى على من مات منهم حتى يَعْقِلَ الإسلامَ فَيُسْلم، ويُعبِّر عنه لسانه، فإن اختلف دين أبويه حُمل عنده على دين أبيه دونَ أُمِّه، وعلى هذا ما روى ابن نافعٍ عن مالكٍ (3) في الصَّبيّ من السَّبْي إذا أسلم، قال: لا يُفدى به المسلم، وعن مالكٍ -أيضاً- أنه قال: إذا سُبي أطفالهم وليس معهم أبٌ ولا أم، فلهم حكم المسلمين، ويصلَّى عليهم إن ماتوا، وأجاز مع ذلك أن يفادى بهم المسلم، وهذا اضطراب، وكأنَّه لما أشكل الأمرُ عنده حمله على الإسلام، ما لم يعترض حقَّ مسلمٍ مقطوعٍ له بحكم الإسلام، فَغَلَّب هناك حرمته في المعاوضة به، وروُي عن عبد الله بن عبد الحكم، قال: لا يباع الصغيرُ مع أمِّه من نصراني، وهذا منه تغليبٌ لحمله على الإسلام، قال ابن الموَّاز (4) : أمَّا إذا ملكَه مسلم، فأسْتَحسنُ ذلك من غير أن أُلزمهُ إياه، وأما ما كان بيد الذِّميِّ فلا بأس بذلك، ما لم يكن للصغير أبٌ قد أسلمَ وعُرف ذلك، وهذا يدلُّ من قوله على الشَّك: في ماذا يحمل عليه أمره؟ حيث قال: أَسْتَحْسِنُ ذلك ولا أُلزمه. وعن مُطَرِّفٍ وابن الماجشون وأصبغ (5) قالوا: لا بأس أن   (1) «المحلى» (7/309 المسألة رقم 935) . (2) وقال البرزلي في «فتاويه» (2/29) -ونقله عن ابن المواز-: «الولد تَبَعٌ لأبيه في الإسلام والعهد واليمين بالطلاق، مثل حلفه بطلاق من يتزوج من أهل مصر، فتزوج امرأةً أبوها مصري وأمها شامية؛ فإنه يحنث ... » . (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/303) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (3 مسألة 1117- بتحقيقي) ، «مواهب الجليل» (6/281) ، «الخرشي» (8/66) ، «أسهل المدارك» (3/160) . (4) انظر: «النوادر والزيادات» (3/380) وقد نقله ابن الموَّاز عن أشهب. (5) «النوادر والزيادات» (3/326) وهو قول الأوزاعي -أيضاً-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يُفادَى الضُّعفَاءُ والنِّساءُ والصبيانُ، ما كان الجيش بأرض الحرب، أو بفورِ خروجه إلى بلاد الإسلام، فأمَّا بعد تفرُّقِهم في بلاد الإسلام وقرارهم بها، طال مكثهم أو لم يَطُلْ، فلا يفادون إلا بالأسارى من المسلمين، قالوا: ولا يُفادَى الصِّغار منهم بمالٍ إذا لم يكن معهم آباؤهم، ويفادون بالمسلمين، وفي هذا من الاضطراب نحو ما تقدَّم من قول مالكٍ في مثله. وأمَّا تفريقهم في الفداء بالمال بين أن يكون ذلك بقربِ الخروج إلى بلاد المسلمين، أو بَعد تفرقهم فيها وقرارهم وإن لم يَطُلْ، فلا وجهَ له. وعن أشهب (1) قال: «لا بأس أن يُفادَى بصغار الرُّوم الذين لم يُثغِروا، كانوا ذوي آباءٍ وأمهاتٍ أَوْ لا، ولا يُجبروا على الإسلام، كان لهم والدان أو لا» . وهذا جَرْيٌ إلى تغليب أحكام الكفر عليهم، وهو وفاق ماقدَّمنا من مشهور مذهب مالك، إلا أن تَقْييد أشهب بالذين لم يثغروا لا أثر له، إلا أَنْ يُريد: أنْ يَعْقِلوا الإسلام فَيَتَلفَّظوا به، فيكون لهم حكمه، والله أعلم. قال ابن الموَّاز (2) في قول أشهب في إباحة فداء الصّغار: «إنما يُفادى بهم المسلمون، وأما بغير المسلمين فأكره ذلك» . وهذا مثل ما تقدم له هو قول من أشكل عليه أمرهم، فكره فداءهم بالمال، ورأى ذلك في المعاوضة بالمسلم المقطوع عليه خَفيفاً، وهو نحْوٌ مما ذهب إليه مالكٌ فيما تقدَّم من بعض أقواله، وأجاز ابن القاسم (3) أن يُباع مِنَ الرُّوم مَنْ سُبِيَ منهم من النِّساء والأولاد بعد أن صاروا بأيدي المسلمين ببلد العدو، وبعد أن بلغوا المَصِّيصَة (4) ؛ يعني: بَعْضَ   (1) «النوادر والزيادات» (3/381) . (2) «النوادر» (3/381) . (3) «النوادر» (3/379-380) . (4) المصيصة: بالفتح ثم الكسر والتشديد، وياء ساكنة، وصاد أُخرى. قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/145) : «وهي مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام، بين أنطاكية وبلاد الروم، تقارب طرسوس» . قال: «وكانت من مشهور ثغور الإسلام، قد رابط بها = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ثغور المسلمين المجاورة هناك لبلاد العدوّ. قال: وإني لأتَّقيهِ في الصِّغار؛ لأنهم على دين من اشتراهم. قوله هذا في غايةٍ من الاضطراب؛ أجاز بيعهم من العدو، وفيه تغليب حُكم الكفر عليهم، ثم شَكَّ؛ حيث قال: وإني لأَتَّقيهِ في الصِّغار، ثم قطع على الحكم لهم بالإسلام؛ حيث قال: لأنهم على دين من اشتراهم، فَجَعَلَ حكمهم في الدِّين حكم المسلمين الذين صاروا بأيديهم، فهكذا تَجِدُهم أبداً يضطربون في هذه المسألة؛ لما يظهر من تعارض أصولها التي نبَّهنا عليها، وتجاذُبِها الفروع، إذا لم يعوَّل على أصلٍ بعينه، والنَّظَر -كما قدمناه- يشهد أنَّ لأطفال السَّبْي حُكْمَ الإسلام في كل شيءٍ على الإطلاق، إلا ما خصَّه الشرعُ بيقين؛ وذلك إنما هو إباحة الاسترقاق، لا غير، وبالله التوفيق. * مسألةٌ: إن كان بأيدي المسلمين علوجٌ استرقُّوهم، وكان في دار الحرب أسرى من المسلمين، فأبى أهل الحرب أن يُخَلُّوا عنهم إلا بأولئك العلوج؛ قال سحنون (1) : «لا بأس أن يُجْبِرَ الإمام ساداتهم على البيع، ويعطيهم الثمن، ويفدي بهم المسلمين» ، وهذا صحيح، إلا أن ظاهر قوله: لا بأس، يُشعرُ أنَّ له سعةً في أن لا   = الصالحون قديماً، وبها بساتين كثيرة يسقيها جيحان» . (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/327-328) . ففيه قوله: «لا يصلح فداء الرجال بالمال، ولكن بالمسلمين» . وقال: «قولنا المعروف أن لا يُفدَى علج بمالٍ، ولكن بالأسارى المسلمين. وقيل له: لم مَنعتَ من فداء الأسارى بالمال، وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المال في أسارى بدر؟ قال: «قد خُصَّت مكة وأهلها بخاصَّة، منها: أنها لم تُقسم ولا خُمست، وهي عنوة، وقد مَنَّ -عليه السلام- على بعض الأسارى بلا فداء، وقد أبيح له ذلك بقول الله -تعالى-: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ} وذلك فتح مكة، ثم لا يجوز اليوم المنّ على المشركين، ولكن إنما هو القتل أو الرقُّ أو الفداء بأسارى المسلمين» . وقد مضى الكلام على مسألة فداء الأسارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 يفعل، بل ذلك واجبٌ على الإمام إن هو عَجَزَ عن استنقاذهم بالقتال؛ لأنَّ افتداء المسلمين واجبٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، قال الله -تعالى-: {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} -يعني: افتداء الأسارى هو مما كتبه الله تعالى- {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] يعني: قتالهم وإخراجهم. وفي البخاري (1) ، عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فُكُّوا العاني -يعني: الأسير- وأطعموا الجائع، وعودوا المريض» . والإجماع على وجوب فَكِّ الأسير؛ ذكره أبو محمد بن حزم (2) . وسئل مالك: أواجبٌ على المسلمين افتداء من أُسِرَ منهم؟ قال: نعم؛ أليس واجباً عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم؟ فقيل: بلى. قال: فكيف لا يفتدونهم بأموالهم! قيل: أراد مالكٌ قول الله -تعالى-: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] ، نزل في قتال أهل مكة لاستنقاذ من فيها من المستضعفين. قال مالك: وإن لم يقدروا على فدائهم إلا بكلِّ ما يملكون، فذلك عليهم (3) . ولم يختلف العلماء في وجوب استنقاذهم؛ إما بالقتال، وإمَّا بالفداء، وإنما اختلفوا على من تكون فديتهم؛ قال ابن المنذر: رُوِّينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: واعلموا أنَّ كلَّ أسيرٍ من أَسارى المسلمين، فإنَّ فِكاكَهُ من بيت مال المسلمين (4) .   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب فكاك الأسير) (رقم 3046) . وأخرجه بالأرقام (5174، 5373، 5649، 7173) . (2) في كتابه «مراتب الإجماع» (ص 142) . (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/301) ، «البيان والتحصيل» (3/80) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/240) وهو قول الأوزاعي -أيضاً-. (4) رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (12/420 رقم 15109) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/238 رقم 6640) من طريق حفص بن غياث، عن محمد بن أبي حفصة، عن علي بن زيد بن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فظاهر قول عمر، أن ذلك لا يلزمُ الأسيرَ، وإن كان له مال، وهو ظاهر قول مالك: فكيف لا يَفْتَدُونهم بأموالهم؟! يريد: إذا لم يكن في بيت المال شيء، ودليل هذا المذهب: ظاهرُ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فُكُّوا العاني» ، فالأمر بذلك لسائر المسلمين غير الأسير، فلم يتوجه عليه من ذلك شيء، كان له مالٌ أو لم يكن. قيل: فإن ضَيَّع ذلك الإمام والمسلمون، فعلى الأسير إن كان ذا مالٍ أن يفدِيَ نَفْسه؛ لأن إقامته تحت الكُفَّار مع إمكان التخلُّص عليه حرام. وقد قيل: إنه إذا كان له مال، فإنما تجب فديته عليه نفسه، لا يجب ذلك على غيره إلا بعدمه. قال اللَّخمي (1) : أرى أنْ يُبدأ بمال الأسير، فإن لم يكن، فبيت المال، فإنْ لم يكن، أو كان ولا يتوصل إليه، فمن الزَّكَوات، يعني: على أحد القولين عند المالكية: هل يدخلُ افتكاك الأسْرى في الرِّقاب أوْ لا؟ قال: فإن لم يكن، فعلى جميع المسلمين على قَدْرِ الأموال، إذا كان ما يُفدى به لا يستغرق أموالهم، وإن كان يستغرقها افتدوه بجميعها. فأقول: إذا ثبت وجوبُ القتال على المسلمين لاستنقاذ الأسير، فَلَهم حالتان: حالة عَجْزٍ عن مقاومة العدوِّ في استنقاذه بالقتال، وحالة قدرةٍ على ذلك. فأمَّا حالة العَجْز فهو مما يحتمل الخلاف المتقدم: أنْ تكون الفدية بكل حالٍ على سائر المسلمين غير الأسير؛ للأدلة التي قدَّمْنا، وأن يكون ذلك مرتباً   = جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: دخلت على عمر حين طعن، فسمعته يقول. فذكره. وفي رواية ابن أبي شيبة دون ذكر الدخول. ويوسف بن مهران: لين الحديث، ولم يرو عنه إلا علي بن زيد بن جدعان: وهو ضعيف. ومحمد بن أبي حفصة، أبو سلمة البصري: صدوق يخطيء. فالأثر ضعيف عن عمر. وذكره ابن المنذر -أيضاً- في «الإقناع» (2/492) . (1) انظر: «الذخيرة» (3/389) ، و «البيان والتحصيل» (2/560) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 على نحو ما ذكر اللَّخمي في الابتداء به إن كان ذا مال؛ لما عَسَى أن يخصص به وجوب الفدية على المسلمين فيمن لا مال له من الأسرى. وأمَّا حالةُ القُدرةِ على استنقاذه بالقتال، فيتركون ذلك تخيُّراً للفداء، فها هنا كان ينبغي أن لا توضع الفدية في مال الأسير بحال؛ لأنه فرضٌ واجبٌ على غيره من المسلمين، فلم يكن لهم أن يُسقطوه عن أنفسهم ببذل مال الأسير، لكن لهم الخيرة في القتال، أو بذل المال من عند أنفسهم، أو من بيت المال الذي أُعِدَّ لمصالح الإسلام. قال ابن المنذر (1) : «أجمع كلُّ من يُحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ الرجل إذا اشترى أسيراً من أسارى المسلمين من العدوِّ بأَمره بمالٍ معلوم، ودَفَع المال بأمره، أنَّ له أنْ يرجع بذلك عليه» . واختلفوا إن اشتراه بغير أمره؛ فقال مالكٌ والأوزاعيُّ وأحمد وإسحاق وغيرهم: يَأْخُذُ منه ما اشتراه به (2) ، وقال الشافعي والثوري: لا شيء على الأسير من ذلك إذا كان بغير أمره (3) .   (1) في «الإجماع» له (ص 60) ، و «الأوسط» (11/241-242) . (2) انظر: «المقنع» لابن البنّا (3/1180) ، «المغني» (13/133-134) ، «شرح الزركشي» (6/518) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/565) ، «الواضح» (2/269) ، «مسائل الإمام أحمد» (1/208- رواية الكوسج، 2/51- رواية عبد الله) ، «الذخيرة» (3/389) ، «النوادر والزيادات» (3/ 309، 311) ، «البيان والتحصيل» (2/614) ، «الكافي» (471) ، «جامع الأمهات» (244) . وكان الأوزاعي يقول: إذا اختلف الأسير والمشتري، فالقول قول المشتري. وانظر: «اختلاف الفقهاء» (185) للطبري، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/435) . (3) ومذهب الشافعي هو مذهب أبي حنيفة، وقاله ابن سيرين. انظر: «الفتاوى الهندية» (2/208) ، و «الأوسط» (11/242) . وقيل للثوري: فإن اختلفا في الثمن، إذا أقرَّ الأسير أنه قد أمره أن يشتريه، ولم يوقت الثمن؟ فالقول قول المشتري، وإذا قال الأسير: أمرتك أن تشتريني بكذا، وقال المشتري: أمرتني بكذا، فالقول قول الأسير. وقال ابن أبي يعلى: القول قول المشتري. ذكره أبو بكر بن المنذر في «الأوسط» (11/ 242) ثم قال: «قال أبو بكر: القول قول الأسير الآمر مع يمينه، وهو على مذهب الشافعي» . ورجح مذهب الشافعي وسفيان في «الإشراف» (1/124) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 قال ابن المنذر (1) : وبه نقول؛ لأنه متطوعٌ بالشراء، وقال: وفيه قولٌ ثالث: أن الأسير إذا كان موسِراً، دَفعَ ذلك إلى المشتري، وإن كان مُعْسِراً ففي بيت مال المسلمين، فإنْ لم يفعل ذلك السلطان، كان ديناً عليه؛ قاله الليث (2) . واختلف أهل العلم إذا لم يَقْبَلْ أهلُ الحرب في فِدْية الأسير إلاّ الخيل والسلاح، أو الخمر والخنازير، ونحو ذلك مما هو محظور، فأجازه قوم ومنع (3) قوم (4) ، وكان ينبغي أن يقال: إنّ إجازة ذلك أو منعه راجعٌ إلى اختلاف الحال، فإن كان ذلك مع قدرة المسلمين على استنقاذهم بالقتال، فلا ينبغي الإجابةُ إليه؛ لأنه محرَّم لم تَدعُ إليه ضرورة، إنما يُفعلُ للرفاهية عن القتال، وإن كان ليس للمسلمين بهم طاقة، جاز؛ لقوله -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] . *****   = وانظر: «مختصر المزني» (275) ، «روضة الطالبين» (10/294-295) ، «المغني» لابن قدامة (8/444) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (156) . تنبيه: هذه العبارة والتي قبلها، أي من: «فقال مالك والأوزاعي ... بغير أمره» وقعت مكررة في الأصل. (1) انظر: «الأوسط» (11/243) ، «الإقناع» له (2/492) ، وقال: وإذا تطوع المرء بشيء لم يجز أن يلزم الأسير ذلك بغير حُجَّة، ولا نعلم حجة توجب للمشتري الرجوع على الأسير، والله أعلم. (2) انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/242) . (3) كذا في الأصل والمنسوخ، والأصوب أن يقال: «ومنعه قوم» . (4) «البيان والتحصيل» (3/81) ، و «النوادر والزيادات» (3/301-303) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 مسائل من الاسترقاقِ والوطء بملك اليمين * مسألة: اتفق أهل العلم فيما ملكه المسلمون من سبايا الكفار فأَسلمنَ، أنَّ وطء من أَسْلمَ منهنَّ ولم يكن لها زوج، أو كانَ فقُتِلَ، حلال لسيدها بملك اليمين، من أي أصناف الكُفْر كانت؛ كتابية أو وثنيَّة إذا هي أَسْلَمتْ واستُبرئت، واختلفوا إذا هي بَقِيَتْ على دينها ولم تُسْلِمْ؛ فمنعت طائفة وطأها عموماً، وأباحته طائفة عموماً، وفَرَّقت طائفةٌ -وهم الجمهور- بين أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى وبين الوثنيات، وسبب الخلاف تعارض الأدِلَّة في ظواهر الآي، فعموم قوله -تعالى-: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، يَتضمَّن المنع من الجميع عندَ من جعلَ لفظ «الإشراك» عامًّا في أصناف الكفر، وهو موضع خلافٍ بين أهل العلم، وأما لفظة «النكاح» فعامٌّ في الوطء بأصلِ اللغة، يتناول ملك اليمين والزوجات، أعني: أنه موضوعٌ على الجماع، وإنما يُستعمل في العَقْدِ اتِّساعاً (1) ، فهذا مذهب، وعموم قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5-6] ، يتضمَّن إباحة كُلَّ مملوكةٍ لمالكها، مسلمةً كانت أو كافرةً، كتابية أو غَير كتابية، فهذا مذهبٌ ثانٍ. وأما الذين فَرَّقوا بين الكتابيَّات وغيرهن، فإنهم حملوا قوله -تعالى-: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] على أنه فيما سوى الكتابيات، بدليل النصِّ على إباحة تزوج الكتابيات في قوله -تعالى-: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، وبدليل وجود التفريق من الشرع في هذه الصِّفة، -أعني: الشرك بين أهل الكتاب وغيرهم- في مواضع من القرآن، قال الله -تعالى-: {مَّا   (1) هذا الذي قرره هو مذهب الحنفية والمالكية، وقال الشافعية بأن النكاح هو العقد، وقرر القاضي أبو يعلى أنه حقيقية في الأمرين، واختاره ابن تيمية، وانظر: «الحاوي الكبير» (11/9- ط. دار الفكر) ، «المغني» (9/339) ، «المبسوط» (3/192) ، «الذخيرة» (4/188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] ، وقال -تعالى-: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [آل عمران: 186] ، وقال -تعالى-: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ... } [البينة: 1] ، ومثل ذلك في القرآن كثير، فمن خصَّص في الآية المشركات بمن عدا أهل الكتاب؛ أخرجهنَّ بذلك من عموم ما أُبيح بملك اليمين، وبقي سائرهنَّ على الإباحة، وهذا المذهب أظهر، والله أعلم، وبه قال مالكٌ (1) والشافعيُّ (2) وأبو حنيفةَ (3) وجمهور العلماء (4) ، وبسطُ النَّظَر في ذلك بالاعتراضِ على الأدلَّة، والاحتجاج في ذلك مُفصَّلاً، والفرق بين التزويج والتَّمليك في هذا الباب يطول، وإنما الخاص بذكر ذلك كتاب النكاح، وليس هذا موضعاً له، إنما نبَّهنْا منه على ما يَمسُّ كتاب الجهاد من وجوه التصرَّف في الأسرى، وبالله تعالى التوفيق. * مسألة: اختلف أهل العلم في الكتابية إذا سُبيتْ وهي تحت زوجٍ: هل ذلك مما يَفسخُ نكاحها، ويحل لمالكها وطؤها بعد استبرائها، أوْ لا يَنفسخُ بذلك، وتكون عنده على حكم ذات الزوج، فلا يحلُّ له وَطْؤُها؟ فذهب جمهور العلماء، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم إلى أن السَّبيَ مؤثر في إزالة عِصمَتِها، وإباحة وطئها لمالكها؛ على ما نُفَصِّله عنهم (5) ، ودليلهم قول الله -تعالى- في   (1) «المعونة» (2/800) ، «جامع الأمهات» (ص 268) ، «فصول الأحكام» (230) ، «قوانين الأحكام» (170) ، «تفسير القرطبي» (5/140) ، «الإشراف» (3/332- بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب. (2) «المهذب» (2/45) ، «توقيف الحكام على غوامض الأحكام» (ق 7/أ) للأقفهسي، «مختصر الخلافيات» (4/143) ، «معرفة السنن والآثار» (10/125) ، «الحاوي الكبير» (11/335) . (3) «المبسوط» (4/197) ، «رؤوس المسائل» (ص 388) . (4) وهذا مذهب الثوري والأوزاعي والحسن البصري والزهري ومكحول ومجاهد، انظر: «مصنف عبد الرزاق» (7/264) ، «المحلى» (7/54) ، تعليقي على «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (3/332) . (5) سيأتي بيان ذلك في آخر هذه المسألة، وهناك التوثيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 تعيين ما حُرِّم من النساء {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، قالوا: المحصنات هنا ذوات الأزواج؛ حرَّم الله نكاحهن، إلا ما ملكت أيمانكم، أي: ما سَبيتُموه منهنَّ، فهُنَّ لكم حلالٌ بملك اليمين، وفي تأويل الآية خلافٌ وأقوالٌ غيرُ هذا، ويتأيَّد هذا التأويل بما خرّجه مسلم (1) ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنين بعثَ جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدوّاً فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأنَّ ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرَّجوا من غشيانهنّ من أجل أزواجهنَّ من المشركين، فأنزل الله -عز وجل- في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، أي: فهنَّ لكم حلال إذا انقضت عِدَّتهن، وتظاهر على هذا القول تفسير كثيرٍ من أهل العلم واختيارهم. وروى إسماعيل القاضي عن محمد بن علي ابن الحنفيَّة مثله في سَبْي أوطاس، ورُوي القول بذلك عن ابن عباسٍ (2) ، وابن مسعود (3) ، وقاله إبراهيم (4) ، والشعبي (5) ، والحسن (6) ، وجماعةٌ غيرهم (7) .   (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب النكاح (باب حكم العَزْل) (1438) . وأخرجه البخاري في عدة مواطن، بالأرقام: (2229، 2542، 4138، 5210، 6603، 7409) . (2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (4/268) -ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (12/63) -، والحاكم في «المستدرك» (2/304) ، وعنه البيهقي في «الكبرى» (7/167) عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} قال: كل ذات زوج إتيانها زنىً إلا ما سُبِيَتْ. وانظر: «تفسير الطبري» (5/2) ، «المغني» (8/427) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/135 و3/439) . (3) رواه الشافعي بإسناده إليه. فيما ذكر البيهقي في «الكبرى» (7/167) . (4) أخرجه عنه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/213) ، وأبو يوسف في كتاب «الخراج» (ص 207) . (5) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/430- ط. دار الفكر) . (6) أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (7/282 رقم 13180) وفي إسناده مجهول. وانظر: «المحلّى» (9/446) . (7) منهم: مكحول، والزهري، ونسب إلى علي -رضي الله عنه-. انظر: «الدر المنثور» (2/= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وذهب قومٌ إلى المنع من ذلك، ولم يَروْا السِّباء مُزيلاً لِعصْمةِ الزَّوجية، وحملوا الآية على تأويلٍ غير هذا، وقال أبو محمد بن حزم (1) ببقاء الزوجية، والمنع من استباحتها، إلا أن تُسلم، فالإسلام يفسخ نكاحها، ليس السِّباء، وخصَّص الآية بهذا المعنى. والأرجح ما ذهب إليه الجمهور؛ لما جاء من الأثر في سبب نزول الآية، وذلك يرفع الإشكال فيما تحتمله من وجوه التأويل. ثمَّ اختلف الذين أباحوهنَّ: هل السِّباء مُطلقاً يَفسخُ نكاحها، أو ذلك بشرط أن تُسْبَى المرأة وحدها، ويبقى زوجها في دار الحرب؟ وأما إن سُبيَا معاً، فنكاحهما ثابت، وإصابة السَّيِّد لا تحلُّ؟ فقال بالإباحة مُطلقاً: الشافعي (2) ، وقال بالشرط: أبو حنيفة (3) ، ولأصحاب مالكٍ في ذلك اختلاف، والأرجح -إن شاء الله- ما ذهب إليه الشافعيُّ، وممن (4) قال بمثله من المالكية، منهم: ابن القاسم، وأشهب، وابن حبيب، وغيرهم (5) ؛ لأن التَّفرقة في ذلك بين سبائها مُفردةً، ومع زوجها، لا يوجد عليه دليلٌ مَرْضيٌّ. *****   = 478 وما بعدها) ، «مجمع البيان» للطبرسي الشيعي (3/67) . (1) في «المحلَّى» (7/312 المسألة رقم 939) . (2) في «الأم» (7/371) . وهو مذهب الأوزاعي. وانظر: «البيان» للعمراني (12/174، 175) ، «روضة الطالبين» (10/254) ، «المجموع» (21/200) . (3) لأن العلة عنده: اختلاف الدارين، والعلة عند الشافعية: حدوث الرق. انظر: «مختصر الطحاوي» (286) ، «الأوسط» لابن المنذر (12/64) . (4) في الأصل: «ومن» والصواب المثبت. (5) انظر: «المدونة» (2/216-217) ، «جامع الأمهات» (254) ، «الكافي» (468) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/471) . وقال ابن المواز -من المالكية- فيما إذا سُبي الزوجان معاً، أو سُبي الزوج أوَّلاً: يبقى النكاح على حاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الباب السادس في الأمان وحكمه، وما يلزم من الوفاء به، والفرق بينه وبين مواقع الخديعة في الحرب، وهل تجوز المهادنة والصلح؟ قال الله -عز وجل-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] ، وقال -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91] ، وقال -تعالى-: {لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] ، وقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] . وخرَّج مسلم (1) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل غادرٍ لواء يوم القيامة، يُرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادِرَ أعظمُ غدراً من أمير عامّةٍ» . البخاري (2) ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتلَ مُعاهداً لم يرحْ رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً» . أبو داود (3) ، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل مُعاهداً في   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب تحريم الغدر) (1378) (16) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجزية والموادعة (باب إثم من قتل معاهداً بغير جُرمٍ) (رقم 3166) . وفي كتاب الديات (باب إثم من قتل ذمياً بغير جُرم) (رقم 6914) . (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الوفاء للمعاهد وحرمة ذِمته) (رقم 2760) . وأخرجه ابن أبي شيبة (9/425-426) ، والدارمي (2504) ، وأحمد (5/36، 38) ، والطيالسي (879) ، والنسائي في «المجتبى» (8/24-25) ، و «الكبرى» (6949) ، وابن أبي عاصم في «الديات» (ص 87) ، والبزار في «مسنده» (3679) ، وابن الجارود في «المنتقى» (835، 1070) ، والحاكم (2/142) ، والبيهقي (9/231) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 غير كُنهه، حرَّم الله عليه الجنة» . وفيه (1) عن عَمرو بن عَبَسة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من كان   = والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. قوله: «معاهداً» : المراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من إسلام. وقوله: «في غير كنهه» كنه الأمر: حقيقته، وقيل: وقته وقدره، وقيل: غايته، يعني من قتله في غير وقته أو غاية أمره الذي يجوز فيه قتله. وقوله: «حرم الله عليه الجنة» قال ابن خزيمة: معنى هذه الأخبار إنما هو على أحد معنيين: أحدهما: لا يدخل الجنة، أي: بعض الجنان، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم أنها جنان في جنة. والمعنى الثاني: أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد، فإنما هو على شريطة، أي: إلا أن يشاء الله أن يغفر ويصفح ويتكرم ويتفضل. وقال الحافظ ابن حجر: المراد بهذا النفي -وإن كان عاماً- التخصيص بزمان ما، لما تعاضدت الأدلة العقلية والنقلية أن من مات مسلماً ولو كان من أهل الكبائر، فهو محكوم بإسلامه غير مخلد في النار، ومآله إلى الجنة، ولو عُذب قبل ذلك. حاصل هذا أن قتل الذمي في حكم الآخرة كقتل المسلم، وقد قال تعالى في الثاني: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ... } الآية [النساء: 93] ، فكذلك قتل الذمي، وليس كفره يبيح قتله أو تخفيف وزره بعد أن دخل في العهد، والله تعالى أعلم. انظر: «التوحيد» لابن خزيمة (2/868-870) ، و «النهاية» (4/206) ، و «فتح الباري» (2/ 259) ، والمغني (11/466) . (1) أي في «سنن أبي داود» (رقم 2759) . وأخرجه الترمذي (1580) ، والنسائي في «الكبرى» (8732) ، والطيالسي (1155) ، وأحمد (4/111، 385-386) ، وأبو عبيد في «الأموال» (رقم 448) ، وابن زنجوية في «الأموال» (660) و (661) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/325 رقم 6689) ، وصححه ابن حبان (4871) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/196) ، البيهقي في «السنن» (9/231) ، وفي «الشعب» (4358 و4359) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والحديث فيه: أن معاوية كان يسير بأرض الروم، وكان بينه وبينهم أمدٌ، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخٌ على دابةٍ يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاءٌ لا غدرٌ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكر الحديث، فبلغ ذلك معاوية فرجع، وإذا الشيخ: عمرو بن عبسة. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 بينه وبين قوم عهدٌ، فلا يَشُدَّ عُقدةً ولا يحُلَّها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء» . وخرَّجه الترمذي كذلك، وقال فيه: حسنٌ صحيح. قوله: «ينبذ إليهم على سواء» ؛ أي: يعلمهم أنه يريد أن يغزوهم، وإن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع، فيكون الفريقان في ذلك على السواء. وقوله في حديث أبي بكرة: «من قتل معاهداً من غير كُنْهه» ؛ معناه: في غير وجهه ووقته. وفي معنى آخر: كنه الشيء: غايته. وأجمع المسلمون على وجوب الوفاء بعقد الأمان، وتحريم الخيانة فيه، ثم اختلفوا فيما يشترط في صفة من يصح منه عقد الأمان، فنذكر ذلك أولاً، ثم نذكر صفة التأمين، وما به يقع من قولٍ أو عملٍ، ثم ما يجوز من الخديعة في الحرب، والفرق بينه وبين ما يكون له حكم الأمان، ثم انقسام عقود الأمان في الخصوص والعموم، وما لكل واحدٍ منهما من الأحكام -إن شاء الله تعالى-، وبه التوفيق.   = ويشهد له حديث أبي هريرة عند البخاري (369) في الصلاة، و (3177) في الجزية (باب كيف يُنبذ إلى أهل العهد) ، وفيه قال أبو هريرة: بعثني أبو بكر -رضي الله عنه- فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ... ، فَنَبَذَ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرك. وقد نقل الحافظ في «الفتح» (6/279) عن الأزهري قوله: المعنى: إذا عاهدت قوماً، فخشيت منهم النقض، فلا توقع بهم بمجرد ذلك، حتى تعلمهم. قلت: وقال أبو عبيد في «الأموال» : قال يزيد (يعني ابن هارون أحد رواة الحديث) : لم يرد معاوية أن يغير عليهم قبل انقضاء المدة، ولكنه أراد أن تنقضي وهو في بلادهم، فيغير عليهم وهم غارُّون، فأنكر ذلك عمرو بن عبسةَ، إلا أن لا يدخل بلادهم حتى يُعلمهم ويُخبرهم أنه يريد غزوهم. قال أبو عبيد: وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل من كان بينه وبينه عهدٌ إلى مدة ثم انقضت، وزادهم في الوقت -أيضاً-، وبذلك نزل الكتاب. قلنا: هو قوله -تعالى- في سورة [الأنفال: 58] : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فصلٌ: في صفة من يصح منه عقد الأمان اتفق أهل العلم على أن الحُرَّ البالغ العاقل إذا أمَّنَ؛ صحَّ تأمينه (1) ، واختلفوا في العبد والمرأة والصبي؛ إذا كان يعقل الأمان. فأما المرأة؛ فجمهور أهل العلم على أن أمان المرأة الحرة جائزٌ كالرجل، وهو قول مالكٍ، وأبي حنيفة، والشافعي، وأصحابهم، والثوري، والأوزاعي، وأبي ثور، وابن حنبل، وإسحاق، وداود، وغيرهم (2) . وذهبت طائفة إلى أن أمان المرأة موقوفٌ على إجازة الإمام، رُوي عن خالد ابن الوليد، وعمرو بن العاص ما يدلُّ على ذلك (3) ، وبه قال من أصحاب مالك:   (1) حكى الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص 61) ، و «الأوسط» (11/258) ، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (121) ، وانظر: «موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي» (1/151) . (2) انظر في مذهب المالكية: «التلقين» (1/245) ، «المعونة» (1/623) ، «المدونة» (1/ 525- ط. الكتب العلمية) ، «الرسالة» (ص 190) ، «الذخيرة» (3/444) ، «الكافي» (1/469) ، «أسهل المدارك» (2/17) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/479) ، «النوادر والزيادات» (3/79، 80) ، «المنتقى» (3/173) ، «بداية المجتهد» (1/655-656) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (3/579) ، «عيون المجالس» (2/709) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (7/370) ، «مختصر المزني» (ص272) ، «الحاوي الكبير» (18/ 223) ، «منهاج الطالبين» (3/280) ، «روضة الطالبين» (10/279) ، «العزيز» (11/456) ، «مغني المحتاج» (4/ 237) ، «الأوسط» (11/261، 262) . وفي مذهب الحنفية: «الهداية» (2/431) ، «البناية» (5/676) ، «اللباب» (4/126) ، «شرح فتح القدير» (5/462) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/75، 76) ، «المقنع» (10/341- مع «الشرح الكبير» و «الإنصاف» ) ، «منتهى الإرادات» (2/234) ، «الكافي» (4/330) ، «الفروع» (6/227) . وانظر لبقية المذاهب المذكورة: «اختلاف الفقهاء» (25) ، «الأوسط» (11/262) ، «عمدة القاري» (15/93) ، «تفسير القرطبي» (8/76) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/410) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (182) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 791) . (3) أخرجه أحمد (5/250) من حديث أبي أمامة. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 عبد الملك بن الماجشون، وسحنون (1) . فالحجة للجمهور: عموم ما تقدم من آي القرآن في الأمر بالوفاء والنهي   = وأخرجه ابن أبي شيبة (12/452 رقم 15235) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/255، 256 رقم 6657 و6658) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/89-90 رقم 19506) ، من طريق حجاج ابن أرطاة، عن الوليد بن أبي مالك، عن عبد الرحمن بن مسلمة: أنَّ رجلاً أمَّن قوماً، وهو مع عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، فقال عمرو وخالد: لا نُجير من أجار، فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يجير على المسلمين بعضهم» . وحجّاج: هو ابن أرطاة صدوق، كثير الخطأ والتدليس. والمعروف عن عمرو بن العاص خلاف ذلك. فقد روى: ابن ماجه (رقم 2685) ، وابن أبي شيبة (12/455 رقم 15246) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/256/6659) ، والبيهقي (9/94) ، عنه فرفعه: «يجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم» . ورواه أحمد (2/180) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/257 رقم 6661) مطولاً. وانظر: «المطالب العالية» (2/173) . وأخرجه الطيالسي (1063) عن عمرو بن العاص بسندٍ ضعيف فيه رجل مبهم. ورواه أحمد (2/365) ، والبيهقي (9/94) وغيرهما، من حديث أبي هريرة رفعه: «يجير على المسلمين أدناهم» . ورواه من حديث أبي عبيدة: «يجير على المسلمين بعضهم» . وانظر: «التلخيص الحبير» (4/117، 118) . (1) انظر: «الكافي» لابن عبد البر (1/469) ، وقال في «الاستذكار» (14/88) : وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام لها، فإن أجازه لها جاز، فهو قول شاذ، لا أعلم قال به غيرهما من أئمة الفتوى، وقد روي معنى قولهما عن خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. وقال ابن المنذر في «الأوسط» (11/262) : لا أحفظ ذلك عن غيره -أي: عن عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك-، سئل عبد الملك عن الأمان إلى من هو؟ فقال: ذاك إلى الأئمة، ووالي الجيش، ووالي السرية والجيش، قيل: فما جاء أنه يجير على المسلمين أدناهم ويرد عليهم أقصاهم، وما جاء في أمر أم هانىء ومن أجارت؟ فقال: لعلَّ الذي جاء من ذلك إنما كان بعد ما باتت وجوهه، وعلم أنه في تلك الحال أولى، وهو المصلح الإسلام وأهله، ولعل ذلك في ذلك الوقت خاصَّة، فأما أمر الأمان فهو إلى الإمام، وهو فيما أعلم من أعظم ما استعمل له. ثمَّ ردَّ ابن المنذر هذا القول. وانظر: «الإجماع» له، «فتح الباري» (6/273) ، «نيل الأوطار» (8/181) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عن الخيانة مطلقاً، وما خرَّجه البخاري (1) عن عليٍّ قال: ما كتبنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن، وما في هذه الصَّحيفة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المدينة حرامٌ، ما بين عائِرٍ إلى ثور (2) ، فمن أحدثَ حَدثاً، أو آوى مُحدثاً؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايُقبلُ منه عدلٌ ولا صَرف، وذمَّة المسلمين واحدة؛ يسعى بها أدناهم، فمن أخْفرَ مُسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صَرفٌ ولا عَدْلٌ» . فالمرأة داخلة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم» . وحديث أم هانىء؛ خرّجه مالكٌ في «موطئه» ، والبخاري، وغيرهما (3) ، وخرّجه أبو داود (4) مختصراً، عن ابن عباسٍ قال: حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب، أنها أجارت رجلاً من المشركين يوم الفتح، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، قال: «قد أجرْنَا من أجَرْتِ، وأمَّنَّا من أمَّنتِ» . وخرَّج -أيضاً- (5) عن عائشة قالت: «إن كانت المرأة لَتُجير على المؤمنين   (1) في «صحيحه» في كتاب الجزية والموادعة (باب إثم من عاهد ثم غدر) (رقم 3179) . (2) في البخاري: (كذا) . بدل: (ثور) . (3) أخرجه البخاري في كتاب الغسل (الوضوء) (باب التستر في الغُسل عند الناس) (رقم 280) ، ومسلم في كتاب الحيض (باب تستر المغتسل بثوبٍ ونحوه) (236) ، ولم يسوقا لفظه. وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة (باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به) (رقم 357) ، وفي كتاب الجزية والموادعة (باب أمان النساء وجوارهن) (رقم 3171) ، وفي كتاب الأدب (باب ما جاء في زعموا) (رقم 6158) ، ومالكٌ في «الموطأ» في كتاب الصلاة (باب صلاة الضحى) (رقم 164- ط. دار إحياء التراث العربي) ، من حديث أبي مُرَّة -مولى عقيل بن أبي طالب- عن أم هانىء، به. (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في أمان المرأة) (رقم 2763) ، من حديث ابن عباس عن أم هانىء مختصراً. (5) أي: أبو داود في «سننه» . الكتاب والباب السابقان (رقم 2764) . وأخرجه النسائي في «الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (11/15968) -، وابن أبي شيبة (12/= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فيجوزُ» . وهذا نصٌّ في ذلك. وخرَّج الترمذي (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن المرأة لتأخذ للقوم» ، يعني: تجير على المسلمين. قال فيه: حسن غريب. ومستند من منع تأمين المرأة يحتمل أن يكون لأنها ليست من أهل القتال، فلم يكن لها تصرف في الأمان، وتأويلهم في حديث أم هانىء، قالوا: لو كان تأمينها جائزاً على كل حالٍ دون إذن الإمام؛ ما أراد عليٌّ قتل من أمَّنتْهُ، وهو قد حرُم بتأمينها دمُه. قالوا: ولو كان كذلك؛ لقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجواب عن ذلك قولاً مُسْتقلاًّ يعمُّ أمانَ النساء، وإنما جاوبها على الخصوص في ذلك، إنما قال: «قد أجَرنا من أجرتِ، وأمَّنَّا من أمنتِ» ، فهو دليل على أن أمان المرأة موقوفٌ على إجازة الإمام أو ردِّه، وذلك من تأويلهم واستدلالهم ضعيف، لا يُقْدَمُ بمثله على ردِّ الأخبارِ الثابتة. وأيضاً، فيقال في الردِّ على ما أوَّلوه من حديث أم هانىء: أمَّا عليٌّ -رضي الله عنه-، فيحمل على أنه لم يكن بَعْدُ عَلِمَ الحكم في ذلك حتى علَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي بعثه الله مبيِّناً ومعلِّماً للناس أجمعين. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «قد أجرنا من أجرتِ، وأمَّنا من أمنتِ» ، ولم يقل قولاً يعمُّ أمان جميع النساء، فهذا لا يلزم؛ لأن في غير هذا الحديث ما يدلُّ عليه، وأما هنا   = 453) ، وعبد الرزاق (5/223 رقم 9437) ، والطيالسي (1/240- «منحة المعبود» ) ، وسعيد بن منصور (2/251 رقم 2611) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/261 رقم 6668) ، والبيهقي (9/95) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (13 رقم 18115) ، وهو صحيح. (1) في «جامعه» في كتاب السير (باب ما جاء في أمان العبد والمرأة) (رقم 1579) . وأخرج نحوه ابن أبي شيبة (12/455) ، أحمد (2/365) ، وابن عدي في «الكامل» (6/2088) ، والحاكم (2/141) ، والبيهقي (9/94) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/90 رقم 19508) . ولفظ أحمد: «يُجير على أمتي أدناهم» . وقال الترمذي: حسن غريب. وسألت محمداً (يعني: البخاري) فقال: هذا حديث صحيح. وانظر: «صحيح سنن الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد تأنيسها بما لها في تخصيص الخِطاب بذلك من اللُّطف بعد الطَّاريء عليها من الاستحقار لتأمينها، وكان - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، والقاطع في هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ذمَّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم» (1) ، وغير ذلك من الآثار الثابتة في الباب. فصلٌ وأما العبد، فذهب مالكٌ، والشافعي، وأصحابهما، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود؛ إلى جواز تأمينه كالحرِّ (2) ، وقال أبو   (1) مضى قريباً من حديث علي -رضي الله عنه-، وهذا قطعة منه. (2) انظر في مذهب المالكية: «الكافي» (1/404) ، «النوادر والزيادات» (3/80) ، «المعونة» (1/623) ، «التلقين» (1/ 244) ، «التفريع» (1/361) ، «المدونة» (1/400-401) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/479) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (3/579) ، «الشرح الصغير» (2/172) ، «الذخيرة» (3/444) ، «أسهل المدارك» (2/17) ، «حاشية العدوي» (2/8) . وقال القاضي عبد الوهاب في «عيون المجالس» (2/708 المسألة رقم 462) : ولم أجد لمالكٍ -رحمه الله - نصاً في أمان العبد المشرك. وانظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/239، 302) ، «المهذب» (2/236) ، «الوجيز» (2/ 194) ، «التنبيه» (233) ، «روضة الطالبين» (10/279) ، «المنهاج» (ص 138) ، «الحاوي الكبير» (18/225) ، «مغني المحتاج» (4/237) ، «حلية العلماء» (7/652) ، «مختصر الخلافيات» للبيهقي (5/ 49 المسألة رقم 315) ، «رحمة الأمة» (2/163) . وانظر في مذهب الحنابلة: «المغني» (13/75-76) ، «المقنع» لابن البنا (3/1168-1169) ، «شرح الزركشي» (6/484) ، «المحرر» (2/180) ، «الإنصاف» (4/203) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/705) . وقال الليث: أرى أن يُجاز جواره، أو رُدَّ إلى مأمنه. ونقل ابن أبي زيد القيرواني في «النوادر» (3/80) ، عن الليث قوله: إذا أمَّن العبد رجلاً من العدو، فليرده إلى مأمنه. وانظر لسائر مذاهب المذكورين: «اختلاف الفقهاء» (30) للطبري، «الأوسط» لابن المنذر (11/259) ، «الاستذكار» (14/89) لابن عبد البر، «تفسير القرطبي» (8/76) ، «عمدة القاري» (15/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 حنيفة: أمانُه غير جائز، إلا أن يكون العبد فيمن يقاتل، وهو قول أبي يوسف، وخالفهما محمد بن الحسن، فقال بقول الجماعة (1) ، ويُحْكَى مثل قول أبي حنيفة   = 93) ، «فقه الإمام أبي ثور» (791) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (182) . (1) انظر: «شرح السير الكبير» (1/255، 256) ، «الاختيار» (3/79) ، «القدوري» (ص 114) ، «اللباب» (4/126) ، «فتح القدير» (5/465) ، «مختصر الطحاوي» (ص 292) ، «المبسوط» (10/ 26، 70) ، «تحفة الفقهاء» (3/269) ، «الهداية» (2/432) ، «الدر المختار» (4/135- مع حاشية ابن عابدين) . وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/89) : «واختلف على أبي يوسف في ذلك، وقال محمد ابن الحسن: يجوز أمانُه، وإن لم يُقاتِل» . وبقول أبي حنيفة قال سحنون: انظر: «المنتقى» (3/173 و7/106) . ودليل الحنفية: أن الأمان من القتال، والعبد المحجور عليه لا يملك القتال، فكذلك لا يملك الأمان. وانظر: «رؤوس المسائل» للزمخشري (ص 365 المسالة رقم 243) . وذكره أبو بكر ابن المنذر في «الأوسط» (11/259-260) عن أبي حنيفة وأبي يوسف، قال: «قالا: وأما الأجير، أو الوكيل، او المستوفي إذا كانوا أحراراً، فأمانهم جائز؛ قاتلوا أو لم يقاتلوا» . ثم قال: «واللازم لهم إذا كانوا يجيزون أمان الأجير وإن لم يقاتل، وكان في خدمة صاحبه، أن يكون كذلك أمان العبد يلزم، وإن لم يقاتل، وإن كان المعنى في العبد أن يقاتل، فالأجير الذي لم يقاتل؛ لم يُجَوَّزْ أمانُه» . قال: «وبظاهر خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقول، وهو قوله: «يسعى بذمتهم أدناهم» ، وقوله: «يجير عليهم أدناهم» ، وليس في شيء من الأخبار: قاتل أو لم يقاتل، وكذلك لما أجاز عمر ابن الخطاب أمان العبد المسلم؛ لم يذكر قاتل أو لم يقاتل، ولو كان بَيْن ذلك فرقٌ لذكره، وهم (أي: الحنفية) قد يجيزون أمان المرأة؛ وإن لم تقاتل، وأمان الرجل المريض والجبان؛ وإن لم يقاتلوا، وقولهم خارج عن ظاهر الأخبار، مخالفٌ لها، والله أعلم» . قلت: وأثر عمر، أخرجه عبد الرزاق (5/222- 223 رقم 9402) ، وابن أبي شيبة (7/689- ط. دار الفكر) ، وسعيد بن منصور (2/274، 275 رقم 2608، 2609) ، والشافعي في «الأم» (7/ 370) ، والبيهقي (9/94) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (13 رقم 18108) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/258-259 رقم 6663) ، وأبو عبيد في «الأموال» (ص 243 رقم 500، 501) ، وابن الجوزي في «التحقيق» (10/170 رقم 2274) بأسانيدهم إلى فضيل بن زيد الرقاشي -وهذا لفظ سعيد بن منصور-، قال: حاصرنا حصناً على عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فرمى عبدٌ منَّا بسهمٍ فيه أمانٌ، فخرجوا، فقلنا: ما أخرجكم؟ فقالوا: أمنتمونا، فقلنا: ما ذاك إلا عبدٌ، ولا نجيز = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 عن سحنون من أصحاب مالك (1) . فالحجة فيما ذهب إليه الجمهور من جواز تأمين العبد: عموم آي القرآن في إيجاب الوفاء، وتحريم الخيانة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ذِمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً؛ فعليه لعنة الله» ، فالعبد المسلم داخل في ذلك من غير إشكال، ووجه المنع عند من لم يُجِزْهُ؛ قال الباجي (2) : إنه محجورٌ عليه، فلم يَجُزْ تأمينه، كالطِّفل، والذي لا يَعقل، وتمامه أن يُقال: فإذا أذن له فقاتل ارتفع المانع؛ فجاز، وهذا كله ضعيف جدّاً. فصلٌ وأما الصبي، فلا وجه للقول بجواز تأمينه، وإن عقل الأمان؛ لأنه غير مخاطب بأفعاله، وأقوالُه غير معتبرة (3) .   = أمره، فقالوا: ما نعرف العبد منكم من الحُرّ، فكتبنا إلى عمر -رضي الله عنه- نسأله عن ذلك، فكتب: إن العبد رجلٌ من المسلمين، ذمته ذمتكم. وذكره الحافظ في «التلخيص الحبير» (4/121/رقم 1910) وعزاه للبيهقي بسندٍ صحيح. وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/89) : «وعن عمر من طرق أنه أجاز أمان العبد، ولا خلاف في ذلك بين السَّلف إلا ما خر ج مخرج الشذوذ» . وانظر: «فتح الباري» (6/275) . (1) مذهب سحنون: إذا أشرفوا -أي: المسلمين- على فتحه -أي: حصن المشركين- قاهرين له، فلا يُقبل قول العبد بعد أن صاروا بأيدي المسلمين، ولا قول لهم. وكذلك لو قال ذلك رجلٌ حرٌّ مسلمٌ حتى يثبت ذلك برجلين: أن العبد أو الحرَّ أمَّنهم، فيكون الإمام المقدّم في إجازة ذلك أو ردِّه. وانظر: «النوادر والزيادات» (3/80) . ونقل ابن شاس في «عقد الجواهر» (1/479) عنه؛ أنه قيد أمان العبد بإذن سيده. وقال -أيضاً-: ورُوي عن معن بن عيسى -وهو ربيب الإمام مالك ومن أصحابه-؛ أنه لا يصح أمان العبد. (2) في «المنتقى» (3/173) ، وذكر هذا توجيهاً لرواية معن بن عيسى عن مالك أنه قال: لا يصح أمان العبد. قال معن: وما سمعت فيه شيئاً. (3) قال ابن المنذر في «الأوسط» (11/263 رقم 1922) : وأجمع كل من نحفظ عنه من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وقد رُوي عن ابن القاسم جواز تأمينه إذا عقل الأمان، وعن سحنون قال: إن أجازه الإمام في المقاتلة جاز تأمينه (1) ، وكل ذلك بعيدٌ لا أصل له، ولو جاز مثل   = أهل العلم أن أمانَ الصبي غير جائز. وممن حفظت عنه ذلك: سفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وقال في كتابه «الإجماع» (رقم 248) : وأجمعوا على أن أمان الصبي؛ غير جائز. ونقله الإجماع فيه نظر؛ قال ابن قدامة في «المغني» (13/77-ط. هَجَر) : «فأمَّا الصبي والمميز، فقال ابن حامد: فيه روايتان: إحداهما: لا يصحُّ أمانه، وهو قول: أبي حنيفة، والشافعي؛ لأنه غير مكلف، ولا يلزمه بقوله حكمٌ، فلا يلزم غيره، كالمجنون. والرواية الثانية: يصح أمانه، وهو قول: مالك. وقال أبو بكر: يصح أمانه، روايةً واحدةً. وحمل رواية المنع على غير المميز، واحتج بعموم الحديث؛ لأنه مسلم مميِّز، فصح أمانه، كالبالغ، وفارَقَ المجنون، فإنه لا قول له أصلاً» . اهـ كلامه. وقوله: بعموم الحديث، أي حديث: «ذمة المسلمين واحدة ... » . وقال في موطن آخر: ولا يصح أمان مجنون ولا طفل؛ لأن كلامه غير معتبر، ولا يثبت به حكم. فكلام ابن المنذر يشعر بأنَّ أمان الصبي غير المميِّز؛ غيرجائز، وأما المميز ففيه الخلاف المنقول آنفاً، وكلام ابن حجر في «الفتح» (6/210) فيه التفرقة بين المراهق وغيره. فمذهب المالكية والحنابلة: أنه يصح أمانه، إذا كان يعقل. وانظر في مذهب المالكية -على سبيل المثال-: «النوادر والزيادات» (3/78) ، «الذخيرة» (3/ 444) ، «الكافي» (1/469) ، «عقد الجواهر» (1/479) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/ 185) ، وتقريرات الشيخ محمد عليش المالكي بهامش الحاشية، «حاشية العدوي» (2/8) . وانظر: «حلية العلماء» (7/652) . وفي مذهب الحنابلة، انظر: «المغني» (13/77) ، «شرح الزركشي» (6/486) ، «الإنصاف» (4/ 203) ، «الهداية» (1/ 116) ، «الكافي» (3/231) ، «المقنع» (1/516) ، «الفروع» (6/247) ، «المبدع» (3/389) ، «شرح المنتهى» (2/122) ، «كشاف القناع» (3/96) ، «مطالب أُولي النُّهى» (2/577) . أما عند الحنفية والشافعية: لا يصح أمانه، ما لم يكن بالغاً. انظر في مذهب الحنفية: «مختصر الطحاوي» (292) ، «تحفة الفقهاء» (3/296) ، «الهداية شرح بداية المتبدي» (2/ 432) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/302) ، «مختصر المزني» (ص 272) ، «روضة الطالبين» (7/472) ، «الحاوي الكبير» (18/226) ، «التذكرة في الفقه الشافعي» (ص 155) . (1) انظر: «عقد الجواهر» (1/480) ، «المعونة» (1/624) ، «المدونة» (1/440) ، «النوادر = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 هذا لجاز أمان المجنون، لكن الأوْلى في تأمين الصبي إن نزلَ عليه الحربيُّ يَظُنُّه عاملاً عند المسلمين أن ينظر فيه الإمام، فإن رأى إجازته وإلاَّ ردَّه إلى مأمنه، وكذلك كل تأمينٍ وقعَ فيه غَلَطٌ على المسلمين، أو فسادٌ في العقد، أو كان ممن لا يجوز تأمينه، فإذا فسخ ذلك، رُدَّ الحربي إلى مأمنه، ولا يُغتال؛ للعلة التي نذكُرها بَعْدُ -إن شاء الله-، في صفة التأمين، ووجوب الوفاء به. فصلٌ الذِّميُّ يكون مع المسلمين، فيجير مشركاً؛ فذلك باطلٌ لا حكم له، لأن التأمين الذي يلزم المسلمين الوفاء به؛ هو: ما عقدوه، أو عقده واحدٌ منهم؛ يدل على ذلك ظواهر الكتاب والسنَّة، ومن جهة النظر أنه كافر، غير مأمونٍ في الدِّين، ولا ناصحٍ لجماعة المسلمين، فلم يلزمهم تأمينه، كالحربي. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ذمَّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً؛ فعليه لعنة الله» ، فهو كالنصّ أن ذلك لا مدخل فيه لكافر، وأيضاً فهو مما لا خلاف فيه، إلا شيء وقع لقومٍ لما خشوا بعض الأمر، فتحرَّجوا منه. حكى ابن المنذر: قال إسماعيل بن عياش: سمعت أشياخنا يقولون: لا جوار للصبي، والمعاهد، فإن أجاروا فالإمام مخيَّرٌ، فإن أحبَّ أمضى جوارهم، وإنْ أحبَّ ردَّه، فإن أمضاه فهو ماضٍ، وإن لم يمضه، يعني: ردَّه إلى مأمنه. قال ابن المنذر: وقد رُوينا عن الأوزاعي أنه قال: إن كان غزا مع المسلمين، فإن شاء الإمام أجاره، وإن شاء ردَّه إلى مأمنه (1) . وفي كتب المالكية (2) ، عن ابن   = والزيادات» (3/80) . (1) كلامه هذا، والكلام السابق في كتابه: «الأوسط» (11/263) . وانظر: «الأم» للشافعي (4/302) ، و «عمدة القاري» (15/93) ، و «الفتح» (6/172) ، و «نيل الأوطار» (8/25) ، و «فقه الإمام الأوزاعي» للدكتور عبد الله الجبوري (2/411) . (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/81) ، «الذخيرة» (3/444-445) ، «الكافي» (1/469) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 القاسم، في الحربيِّ ينزل على أمان الذِّمِّي، يقول: ظننتُ أنه مسلمٌ، فقال مَرَّةً: لا سبيل إليه، وأمره إلى الإمام، إن أحبَّ أتم له عهده، وإلا ردَّه إلى مأمنه، وقال مَرَّة: لا أمان له، وهو فَيءٌ للمسلمين، علم أنه ذمي أو لم يعلم، ولم يعذره هو ولا غيره من أصحاب مالك إذا علم أنه ذمي، وقال: ظننتُ أن له جواراً لموضع ذمتكم، قالوا: لا أمان له، وقد صار فيئاً (1) ، ورأى اللَّخمي ذلك مشكلاً، فقال: يُردُّ إلى مأمنه -أيضاً-. * مسألة: اختلفوا فيما به يثبت تأمين من زعم من المسلمين أنه أمَّن مشركاً؛ فقال الأوزاعي (2) : إذا قال رجلٌ من المسلمين: إني قد أمنتهم؛ جاز أمانه عليهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ويعقد عليهم أدناهم» ، ولم يقل: إن جاء على ذلك ببيِّنة؛ وإلا؛ فلا أمان له؛ لأنه أخبر عن نفسه. وإليه ذهب من أصحاب مالك: ابن القاسم وغيره (3) . وقال أبو حنيفة (4) : إذا صاروا في الغنمية وقال رجل: قد كنت أمَّنتهم قبل أن يؤخذوا، لم يصدق على ذلك، كأنه يريد: من حيث تعلق حقِّ أهل الغنيمة بهم، فلم يكن اعترافه عاملاً عليهم، ومُتْلِفاً ما وجب لهم، وإليه ذهب سحنون، وقال الشافعي (5) : يقبل قوله فيهم قبل أن يصيروا في أيدي المسلمين، فإن صاروا في   (1) وقال ابن يونس -من المالكية-: وهو ضعيف -أي: هذا القول الأخير-، قال: والأشهر: ردُّهم إلى مأمنهم في هذا كلِّه. وقيده ابن سحنون بإجازة أمير الجيش للذميِّ بالأمان. انظر: «الذخيرة» (3/444) . وقال ابن شاس في «الجواهر» (1/480) : وقيل في الكافر: يصح أمانه؛ لأن له ذمة، فكان تابعاً للمسلمين. ونقله عنه القرافي في «الذخيرة» . وهذا القول ضعيفٌ عندهم، وقد نقله بصيغة التمريض. (2) نقل ذلك عنه الشافعي في «الأم» (7/317) ، ومنسوب له في «الرد على سير الأوزاعي» (63) ، وابن جرير في «اختلاف الفقهاء» (42) . وانظر: «فقه الإمام الأوزاعي» (2/414) . (3) انظر: «الذخيرة» (3/445) ، «النوادر والزيادات» (3/128) ، «الخرشي» (3/123) . (4) انظر: «بدائع الصنائع» (7/107) ، «الفتاوى الهندية» (2/198) . (5) انظر: «الحاوي الكبير» (14/199) ، «روضة الطالبين» (7/472) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 أيدي المسلمين؛ لم تقبل شهادة الرجل على فعل نفسه، ولكن إن قام شاهدان على أن أحداً من المسلمين أمَّنهم قبل أن يصيروا أسرى؛ فهم آمنون أحرارٌ، قال: وإذا أبطلنا شهادة الذي أمَّنَهُم، فحقه منهم باطل، لا يكون له أن يملكه، وقد زعم أن لا ملك له عليه (1) . فصلٌ: في صفة التأمين وما به يقع من قولٍ أو عمل قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] ، وقال -سبحانه-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 19-20] . وعن أبي وائلٍ قال: كتب إليَّ عمر بن الخطاب فقال: «وإذا لقي الرجلُ الرجلَ فقال: مَتَّرْسْ؛ فقد أمَّنه، وإذا قال: لا تخف؛ فقد أمَّنه، وإذا قال: لا تدْهل، فقد أمَّنه، إن الله يعلم الألسنة» (2) .   = ومذهب الحنابلة في ذلك، أنه إذا وجد الأمان من آحاد المسلمين لكافرٍ بعد الأسر: صحَّ أمانه. واستدلوا بقصة أبي موسى الأشعري لما فتح مدينة (تُستر) أخذ (الهرمزان) فأنفذه إلى عمر، فقال عمر: لا بأس عليك، ثم همَّ بقتله. فقال له أنس: ليس لك ذلك، هذا وقد أمنته، فتركه. قالوا: هذا أمانٌ بعد الأسر. قلت: هذه القصة أخرجها: سعيد بن منصور (2/295 رقم 2670) ، وابن أبي شيبة (12/ 456-457 رقم 15249) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/96) ، وأبو عبيد في «كتاب الأموال» (ص 122 رقم 304) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/265 رقم 6671) . والقصة صحيحة. وانظر: «المغني» (13/77-78) ، «المقنع» لابن قدامة (1/516) . (1) الكلام السابق -برمته- في كتاب «الأوسط» لابن المنذر (11/274) باب: ذكر الشهادة على الأمان. (2) علَّقه البخاري في كتاب الجزية والموادعة (باب إذا قالوا: صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا) (6/ 274- «الفتح» ) . وذكره مختصراً دون قوله: «وإذا قال: لا تدهل، فقد أمَّنه» . ووصله عبد الرزاق (5/219-220 رقم 9429) ، وابن أبي شيبة (12/458-459 رقم 15254) ، وسعيد بن منصور (2/271 رقم 2599) ، والبيهقي (9/96) كلهم من طريق الأعمش، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 قيل: معنى مَتَّرْس -بالفارسية-: لا تخف، وكذلك: لا تدْهل -بالقبطية- بمعنى: لا تخف. وروى ابن المنذر (1) مسنداً إلى عمر بن الخطاب أنه قال: «والله لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل إليه على ذلك، فقتله؛ لقتلته به» . وروى عبد الملك بن حبيب: حدثني الأوسي وعليُّ بن مَعبد، عن إسماعيل ابن عيَّاش، عن الأحوص بن حكيم، أن عمر بن الخطاب كتب: «أما بعد؛ فإن أشار رجلٌ إلى عدوه بيده إلى السماء، فقال: والله لئن نزلتَ لأقتلنك، فنزل على ذلك فلا يقتله، فإنَّما نزل حين أشار بيده إلى السماء، وذلك عهده» (2) .   = عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عمر. وكلمة: (مترس) : بفتح الميم وتشديد المثناة وإسكان الراء بعدها مهملة. ووقع في موطأ مالك (رقم 519- رواية يحيى الليثي- ط. دار إحياء التراث العربي) : مطرس. بالطاء، بدل المثناة، قال ابن قرقول في «مطالع الأنوار» (ق 311) : «هي كلمة أعجمية» . ونقله عنه الحافظ في «فتح الباري» (6/275) ، ثم قال: والظاهر أن الرواي فخَّم المثناة، فصارت تشبه الطاء، كما يقع عند كثير من الأندلسيين. (1) في كتابه «الأوسط» (11/264) من طريق سعيد بن منصور، عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: قال عمر: فذكره. وهو في «سنن سعيد بن منصور» (2/270 رقم 2597) . وروى مالك (رقم 519- رواية يحيى الليثي) نحوه، عن رجل مبهم. وقال يحيى: سمعت مالكاً يقول: ليس هذا الحديث بالمجتمع عليه، وليس عليه العمل. اهـ. يعني: قتل المسلم بالمشرك. وذكره الحافظ في «التلخيص» (2/121) ، وعزاه لابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن عمر. وسكت عليه. (2) أخرجه عبد الرزاق (5/222 رقم 9401) ، وسعيد بن منصور (2/270 رقم 2598) من حديث موسى بن عُبيدة الرَّبذي، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي، عن عمر -رضي الله عنه-. وموسى بن عبيدة: ضعيف. قاله الحافظ في «التقريب» (6989) . والأحوص بن حكيم هو ابن عُمير العَنسي الحمصي. قال الحافظ في «التقريب» (290) : ضعيف الحفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وقال مالك والشافعي وغيرهما: الإشارة بالأمان أمان. قال ابن المنذر (1) في الإشارة التي تُفْهِمُ الأمانَ: إنما تقوم مقام الكلام، استدلالاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى الذين كانوا خلفه في الصلاة بالقعود فقعدوا. وقال عن الشافعي (2) (3) في الذي يشير: «إذا قال: لم أؤمنهم بها، فالقول قوله، وإن مات قبل أن يقول شيئاً، فليسوا بآمنين إلا أن يُحْدِث (4) لهم الوالي أماناً، وعلى الوالي إذا مات قبل أن يُبيِّن، أو قال -وهو حي-: لم أُؤَمِّنهم، أن يردهم إلى مأمنهم وينبذ إليهم» . وقال الأوزاعي: إذا قال له: قف، أو قُم، أو ألقِ سلاحك، ونحو هذا بلسانه، أو بالعربية، فلا قتل عليه، ويُباع، إلا أن يدعي أماناً، ويقول: إنما رجعتُ أو وقفتُ لندائك، فهو آمن، وقال في رجلٍ قال لعلجٍ، وهو في حصنه: اخرج، فخرج، قال: لا يعرض له، وقال: أَجْرِ كلَّ شيءٍ يرى العلج أنه أمان فهو أمان، ونحوه يقول إسحاق. وأصحاب الرأي يقولون: من قال لحربي: أنت آمن، أو: لا بأس عليك، أو قال له -بالفارسية-: مَتَّرْس، أو: قد أمِنْتَ، فهو آمن في ذلك كله (5) .   (1) في كتابه «الأوسط» (11/264) . (2) في كتابه «الأم» في كتاب سير الواقدي (باب في الأمان) (4/302-ط. دار الفكر) . وسئل مالك عن الإشارة بالأمان، أهي بمنزلة الكلام؟ فقال: نعم. انظر: «الموطأ» (تحت رقم 519- ط. دار إحياء التراث العربي) . وانظر في فقه المالكية: «عقد الجواهر الثمينة» (1/480) ، «الذخيرة» (3/444، 445-446) ، «النوادر والزيادات» (3/75) ، «الشرح الصغير» (2/173) ، «المنتقى» (3/172، 174) ، «حاشية العدوي» (2/8) . وانظر في فقه الشافعية: «روضة الطالبين» (10/279) ، «مغني المحتاج» (4/237، 238) . (3) كتب الناسخ بعد كلمة «الشافعي» في الهامش: «هنا في الأصل كلمة ... كلمة لا أدري ما هي» . (4) في مطبوع كلٍّ من «الأم» و «الأوسط» : «يجدِّد» . (5) انظر: «شرح السير الكبير» (1/199، 250 و2/63-64) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/ 266) ، «اختلاف الفقهاء» (ص 38، 39) للطبري، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/415-416) ، وهذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فإذا تقرر من مستند الشرع وأقوالِ العلماء في ملاحظة ثبوت الأمان: مراعاة ما دلَّ عليه من قولٍ أو إشارة أو استشعار؛ فأقول: كلُّ لفظٍ على أي لغةٍ كان، واصطلاحٍ حدث، أو كتابة بأي خطٍّ في مثل ذلك، مما اصطُلح عليه، أو إشارةٍ ورمزٍ ونحو ذلك مما يُتفاهم بمثله، يُشْعِرُ به المسلمُ الحربيَّ أماناً، أو يستشعر منه الحربي الأمان، سواء أراده المسلم أو لا، فهو أمانٌ في الحال، مما وافق ما قصده المسلم من ذلك، ولم يكن فيه وجه من وجوه الفساد، ويجب إمضاؤه والوفاء به إلى غايته، وما لم يكن مراده منه التأمين، إلا أن الحربي نزل على ذلك مُستشعراً فيه أماناً، وجب فيه ردُّ الحربي إلى مأمنه، ثم يعود الأمر معه على أوَّله، ولا يحل اغتياله على هذا الوجه بحال، والدليل على صحة هذا الحدِّ: أن ما كان من الأقوال المتعارفة في ذلك، فلزومه مما لا إشكال فيه، وكذلك على كلِّ لغة؛ لأن ذلك لا يلزم في اللسان العربي لخاصية أنه عربي، لكن من حيث هو وُضِعَ في التخاطب لإفهام الأمان، فكذلك سائر الألسنة (1) . وأما الكتابة، وما يَجْرِي مجراها من الإشارة ونحوها، فكلُّ ذلك من باب الإصطلاح والإفهام، لا فرق بينه وبين الكلام، والحكم في ذلك للمعنى والإفهام، لا لمجرد اللفظ، وفيما ثبت من كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الكفر يدعوهم إلى الإسلام، وإشارته -كما تقدم- لأصحابه في غير ما موضع، وإشارةِ التي رضخها اليهودي بالحجارة، فأشارت إليه - صلى الله عليه وسلم - برأسها، وقد سألها عن قاتلها: أن لا، حتى سألها الثالثة، فقالت: نعم؛ وأشارت برأسها؛ فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حجرين.   = مذهب الثوري، حكاه عنه أحمد واستحسنه فيما نقل الكوسج في «مسائل أحمد وإسحاق» (2/ 16-17) . (1) هذا الكلام صحيح وقوي بناءً على ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في «القواعد النورانية» (ص 132-135) ، وغيره من أن كل اسم لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 خرَّجه مسلم (1) . كل ذلك دليل واضح وحجة بيِّنةٌ في إمضاء الشرع العمل على مفهوم ذلك كلِّه، وأما لزوم ذلك، وإن لم يُرِدْ المسلم به الأمان إذا ظَنَّه الحربي أماناً؛ فلأنه فعل ما يوهم الأمان، فكان سبباً لاطمئنان الحربي إليه، فَثَبَت له بذلك حُرمة الأمان، فأمَّا أن يُمْضِيَ له ما ظنّ من ذلك، أو يُردَّ إلى مأمنه، ولا يهجم -بعد ظنه الأمان واطمئنانه إلى ذلك- على قتله أو أسرِه، قال الله -تعالى-: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، فأمر الله -تعالى- أن يُعْلَموا برفض ما كانوا يعتقدونه من صِحَّة عهدهم وثبوت أمانهم، ولم يُبح اغتيالهم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، وأخذ حذرهم، فكان ذلك أصلاً في كل مستشعرٍ من أهل الكفر أماناً من المسلمين؛ اطمأنَّ إليه، أو نزل عليه. وأيضاً؛ فالذي يشير بما يشعر الأمان، أو يفعل ما يُستقرأ منه الأمان، وهو لا يريده، فله حالتان: * إما أن يكون لاهياً غير قاصدٍ لإشعار التأمين، فهو وإن لم يلزم به التأمين مُطلقاً، فلم يخلُ عن شبهةٍ، فهو سبب انبعاث الاطمئنان إليه، فعهدة ذلك على المسلم حيث سَبَّبه، لا على الحربي، فوجب أن يُزال ذلك بالردِّ إلى مأمنه. * وإمَّا أن يكون فعل ذلك ذاكراً وهو لا يريد تأمينه حقيقة، وإنما يُريد أن يوهمه حتى يتمكن منه، فهذا هو عين الخيانة والغدر المحرم باتفاق، ولذلك توعد في مثله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بما توعَّد (2) ، ولا خلاف يعلم بين المسلمين في تحريم ذلك، ونحن نبيِّن -إن شاء الله- وجه الفرق بين   (1) في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره ... ) (15) (1672) من حديث أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري في عدة مواطن من «صحيحه» (الأرقام 2413، 2746، 5295، 6876، 6877، 6879، 6884، 6885) . (2) مضى تخريجه قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الخديعة الجائزة في الحرب، وما يُشكل من الأمان الذي لا تجوز الخديعة بمثله، ثم نُعقب ذلك بذكر مسائل عن الفقهاء في عوارض الأمان، يرجع عقدها وملاكُها إلى الحدِّ الذي ذكرناه بحول الله -تعالى-. فصلٌ: في بيان ما يجوز من الخديعة في الحرب، والفرق بينه وبين ما يكون له حكم الأمان خرَّج مسلم (1) ، عن جابرٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحرب خُدعة» . أبو داود (2) ، عن كعب بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد غزوةً ورَّى غيرها، وكان يقول: «الحرب خدعة» . البخاري (3) ، عن كعب بن مالكٍ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلَّما يريد غزوةً يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تبوك، فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومَفَازاً، واستقبل غزو عددٍ كثير؛ فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أُهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد. فالخديعة والمكر في الحرب بطريق الإدارة والتدبير، من العمل المشهور، والسُّنَّة الثابتة، لكن ربما التبس على بعض من رأينا أحوال يظنها من باب الخديعة الجائزة في الحرب، وهي قد تكون مما يَتَضَمَّنُ الأمان الذي لا يسوغ أن يُخفر،   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز الخداع في الحرب) (17) (1739) . وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (باب الحرب خدعة) (رقم 3030) ، من حديث جابرٍ -رضي الله عنه-. (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب المكر في الحرب) (رقم 2637) . وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (باب من أراد غزوةً فورّى بغيرها، ومن أحبَّ الخروج يوم الخميس (رقم 2947، 2948- مختصراً) . (3) أخرجه في كتاب المغازي (باب حديث كعب بن مالك، وقول الله -عز وجل-: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (رقم 4418- مطولاً جداً) ، من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه-، الذي ذكر فيه قصة تخلُّفه عن الغزو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فرأينا أن نُنَبِّهَ على فَرْقٍ بينهما. فنقول: إنه لما ثبت وجوب الوفاء، وحظر الغدر، وتقرَّر في حد الأمان الأوصاف المقيدة في (فصل التأمين) قبل هذا، وثبت مع ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في إباحة الخديعة في الحرب، وفعله في ذلك ما ذكرناه؛ انقدح وتبين أن الخديعة المباحة: هي كل ما يرجع إلى إجادة النظر في تدبير غوامض الحرب، وإدارة الرأي فيه بما يوهم العدو الإعراض عنه، أو الغفلة دونه، وما أشبه ذلك من التقدم بكل ما يقع به توهينُ العدو، أو تلتمس فيه غِرَّتُه، وإصابة الفرصة منه على وجهٍ لا يوهمُ الأمان، ولا يتضمن الإشعار بالأُنس إليه على حال، فيدخل في ذلك التورية والتبييت وتشتيتٌ بينهم، ونصبُ الكمين، والاستطراد حال القتال؛ لانتهاز فرصة الكرِّ، وما أشبه ذلك، مما يرجع الأمر فيه إلى ما حَرَّرْناه، وليس من ذلك أن يظهر لهم أنه منهم، أو على دينهم، أو جاء لنصيحتهم، فإذا وجد غفلةً نال منهم، هذا داخلٌ في باب الأمان؛ لأنَّ العدو يَستشعر منه الموادعة والموالفة، فيسكن إليه، فالإيهام عليه بمثل ذلك لا يجوز، وهو خيانةٌ -كما تقدم-. ونُكتة الفرق أن اطمئنانه في هذا وأمثاله -مما قلنا: إنه يكون من باب الأمان-؛ إنما سبيله استشعار المسالمة والموالفة، فهو يستنيم إلى ما يعتقده فيه من الوفاء في ذلك؛ ثقةً به، وبما أظهر إليه مما يدلُّ عليه، فلم يؤت هذا من تَقَلُّبِهِ، بل من خَتَرِ الآخر فيما أظهر من الموالفة (1) ، وارتكب من الخيانة، وفي أبواب المكر والخديعة إنما كان اطمئنانه لغفلةٍ من نفسه، أو جهلٍ في استشعار الغفلة، والتقصير من الآخر، وما أشبه ذلك، مما ترجع العهدة فيه على سوء نظره، من غير خيانة تلحق الآخر في أمره، وهذا بيِّن، والحمد لله. ولِتَمَثُّلِ مسألةٍ تكون بظاهرها من باب الأمان تارةً، ومن المكيدة الجائز فعلها تارةً، ولا فارق إلا اختلاف عوارض اطمئنان العدوِّ على القانون الذي   (1) أثبتها ناسخ الأصل (أبو خبزة) : «المزالفة» ، وكلاهما صحيح المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 رسمناه؛ وذلك: لو أن رجلاً من المسلمين أبصر حربياً في جهةٍ ما من بلاد العدو أو غيرها، فتظاهر المسلم بإلقاء السلاح، وأقبل على جهة الحرب، مُظهراً له أنه رآه، فقصده مستسلماً أو مُسْتَنيماً إليه، ونحو هذا، فاطمأن الآخر إلى ذلك، حتى أصاب المسلمُ غرَّته، فهذا لا تجوز به الخديعة، وهو أمانٌ، ولو أنه عندما رآه فعل -أيضاً- من إظهار الاستنامة، ووضع السلاح، والإقبال إلى جهة ذلك الحربي، مِثل ما فعل في الأولى، إلا أنه فقط يُظهر أنه غافلٌ عن الحربي، ومُعرض عن رؤيته بحيث لا يستشعر الحربي أنه رآه فقصده مسالماً، لكن يوهم أنه ما شَعَرَ بمكانه، وإن فِعْلَه ذلك فِعْلُ المستريح من حالة حمل السلاح، إذا أمن في موضع، ونحو ذلك، حتى اطمأنَّ الحربي لما توهم من غفلةٍ عنه، لا لموادعة اسْتَشْعَرَ (1) منه لكان هذا جائزاً، وهو تورية ومكيدةٌ لا تتعلق بها خيانة، ولا للأمان حُرمة، والله أعلم. فصلٌ فإن اعترض معترضٌ على هذا الأصل بقتل كعب بن الأشرف، وظاهره جواز قتل من اطمأن إليه، بعد إظهار المسالمة والموالفة؛ كما خرَّج مسلم (2) ، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟» . قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، أتحبُّ أن أقتله؟ قال: «نعم» . قال: ائذن لي فلأقُل، قال: «قُلْ» ، فأتاه، فقال له، وذكر ما بينهم، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقةً، ولقد عنَّانا، فلما سمعه قال: وأيضاً والله لَتَمُلُّنَّه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أيِّ شيءٍ يصير أمره ... الحديث. إلى قوله: فاستمكن من رأسه، ثم قال: دونكم، قال: فقتلوه. فلأهل العلم في ذلك أقوال؛ منها:   (1) أو: اسْتُشْعِرَتْ منه. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود) (1801) (119) . وقد مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أن قتل كعب بن الأشرف قد كان وجب -لما آذى الله ورسوله- وجوب الحدود التي لا تندفع بالتأمين، بل يجب إقامتها بكلِّ سبيلٍ، ولهذا نبَّه عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه قد آذى الله ورسوله» ، ويقال: كان كعب -لعنه الله- ممن لهج بسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجائه، وفاعل ذلك يُقتل على كل حال، سواءٌ كان يُظهر الإسلام ويدَّعيه، أو كان كافراً مستأمناً، لا يعصمه شيء من ذلك عن القتل، إلا أن يُبادر فيُسلم إن كان كافراً (1) ، ويُروى نحو هذا أو بعضه عن الطبري، وقيل: إنه نقض عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجاه وسبَّه، وكان عاهد أن لا يُعين عليه أحداً، فجاءه مع أهل الحرب معيناً عليه، فوجب أن يُغْتالَ كالحكم فيمن نقض وقاتل، وإليه ذهب المازري (2) ،   (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الصارم المسلول على شاتم الرسول» (3/768-769 -تحقيق: الحلواني وشودري) في ذكره طرق الاستدلال على تحتّم قتل الذمي والمسلم الساب، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟» ، قال: «وقد كان معاهداً قبل ذلك، ثم هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كونه قد أمّنهم على دمه وماله؛ لاعتقاده بقاء العهد، ولأنهم جاؤوه مجيء من قد آمنه، ولو كان كعب بمنزلة كافرٍ محاربٍ فقط لم يجز قتله إذا أمّنهم كما تقدم؛ لأن الحربي إذا قلت له، أو عملتَ معه، ما يعتقد أنه أمانٌ؛ صار له أمانٌ، وكذلك كل من يجوز أمانه، فعلم أن هجاءه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأذاه لله -تعالى- ورسوله؛ لا ينعقد معه أمانٌ ولا عهدٌ، وذلك دليلٌ على أن قتله حدٌّ من الحدود؛ كقتل قاطع الطريق، إذ ذلك يقتل وإن أُومِن كما يقتل الزاني والمرتد وإن أُومِن، وكل حدٍّ وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقاً» . اهـ ومعلوم أن كعب بن الأشرف كان له هُدنةٌ. قال السبكي في «السيف المسلول على من سبّ الرسول» (ص 294) : «ومن ادعى أنه كان حربياً؛ فلا علم له، هذا متفق عليه بين أهل السِّير» . وانظر: «الأم» (4/199- كتاب الجزية) . وقال السهيلي: «في قصة كعب بن الأشرف قتل المعاهد إذا سبَّ الشارع، خلافاً لأبي حنيفة» ، لكن اعترض عليه الحافظ في «الفتح» (7/340) بأنَّ كعب بن الأشرف كان محارباً، استدلالاً منه بتراجم البخاري، ويعارض هذا الاعتراض بما نقلناه عن السبكي من اتفاق أهل السير على أنه كان موادعاً. (2) انظر: «المعلم بفوائد مسلم» (3/29 رقم 848) للمازري، «إكمال المعلم» للقاضي عياض (6/176) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وقال: وقد أشكل قَتْلُه على هذه الصِّفة على بعضهم، ولم يعرف هذا الوجه. ويحتمل عندي أن يُقال: إنه مع ذلك أمرٌ خاص، وحُكمٌ من الله -تعالى- عدلٌ، أذن فيه -تعالى- لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو خاصٌّ لا يتعدى إلى غيره، ومما يدل على هذا المذهب، ما وقع في الحديث من قوله: ائذن لي فلأَقُل، قال: «قُل» ، فأتاه، فقال: إنَّ هذا الرجل قد أراد صدقةً، وقد عنَّانا، ... إلى آخر قوله. وهذا قولٌ له ظاهر الكفر (1) ، ولا يحل لمسلمٍ التلفظ به، ولا الخديعة في الحرب مثله، إلا أن يأذن الله لأحدٍ بعينه، في شيءٍ بعينه، كما أذن لهذا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون خاصًّا، ليس مما يتعدى بحال. وروى ابن إسحاق في كتاب «المغازي» (2) من قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في قصيدةٍ يذكر فيها إجلاء بني النضير، وقتل كعب بن الأشرف؛ ما يدل على أن قتله كان بوحيٍ مخصوص، وذلك قوله: ألستم تخافون أدنى العذابِ ... وما آمن الله كالأخوفِ وإن تُصرعوا تحت أسيافِهِ ... كمصرع كعب بن الأشرفِ غداة رأى الله طُغيانهُ ... وأعرض كالجملِ الأجنفِ فَأَنزلَ جبريلَ في قتله ... بوحي إلى عبده ملطَّفِ فدسَّ الرسول رسولاً له (3) ... بأبيضَ ذي هُبَّةٍ مُرهفِ وقد زعم ابن المنذر (4) أن الذي يجوز أن يُقتل غِرَّةً، هو: من لا أمان بينه   (1) قال الإمام النووي في «شرح مسلم» (12/161) : «هذا من التعريض الجائز، بل المستحبِّ؛ لأن معناه في الباطن: أنه أدَّبنا بآداب الشرع التي فيها تعبٌ، لكنه تعبٌ في مرضاة الله -تعالى-، فهو محبوبٌ لنا، والذي فَهِم المخاطب منه: العناء الذي ليس بمحبوب» . اهـ كلامه -رحمه الله-. (2) المُسمّى بكتاب: «المبتدأ والمبعث والمغازي» ، المعروف بـ «سيرة ابن إسحاق» (ص 300- تحقيق محمد حميد الله) ، ولي جمع موثّق لشعر عليٍّ -رضي الله عنه-، وفيه هذه الأبيات، يسر الله إتمامه ونشره. (3) كذا في الأصل والمنسوخ: «له» ، وفي «المغازي» : «إليه» . (4) لعلَّه في القسم المفقود من كتابه «الأوسط» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وبين صاحبه القاتل ولا عهد، وهذا صحيح. ورأى أن قتل كعب بن الأشرف من ذلك، وفي هذا نظر، والله أعلم. وها نحن الآن ذاكرون من المسائل المنقولة عن مالكٍ وغيره في (باب: متشابه الأمان، ومراعاة ما يُتَوَقَّى منه عند الإشكال) ما يتبيَّن بها وبأضرابها معتمدهم في البناء على ما أصَّلناه. * مسائل من مُشكلات الأمان: اختلف أصحاب مذهب مالك في الأسير من المسلمين في دار الحرب يكون مُخلًّى: هل يجوز له أن يَعْدُوَ على ما يستطيع فيهم، من مالٍ ونفسٍ، ويهرب؟ قال ابن القاسم (1) : الذي كنا نحفظه من قول من نرضى -وأنا أشك أن يكون مالكاً-، أنه إن كان أُرسل على أمانٍ، لم يحلَّ له أن يهرب، ولا أن يأخذ من أموالهم شيئاً، وإن أرسلوه على غير أمان، بمنزلة ما يملكون من الرقيق قوة عليه لا يخافونه؛ فليقتل وليأخذ ما شاء. فهذا التفريق من مالكٍ -رحمه الله- لا يعدو القانون المتقدم، وهو مراعاة اطمئنانهم: هل هو تعويلٌ على ائتمانه والثقة به، فلا يجوز له مع ذلك فعل شيء مما ينافي ذلك؛ لأنه يكون خيانة، أو إنما وَثِقُوا بِقُوَّتهم عليه وضبطهم، فيكون حينئذٍ: لا حرج عليه فيما فعل من ذلك كلِّه؟ وعنه في المسألة قولٌ ثانٍ؛ روى مطرفٌ وابن الماجشون (2) عن مالكٍ: أن له أن يهرب بنفسه، وإن أطلقوه على وجه الائتمان له والطمأنينة إليه، ما لم يأخذوا على ذلك عهده. وجه هذه الرواية: أنه رأى اطمئنانهم إليه، وائتمانهم عاملاً في أن لا يخونهم في شيءٍ من دَمٍ أو مالٍ، ولم يرَ ذلك عاملاً في الفرار بنفسه؛ لأنه واجب عليه، لا   (1) قوله في «البيان والتحصيل» (2/604) : وهو من رواية عيسى عنه في «العتبية» ، وكذا في «النوادر والزيادات» (3/318) . (2) نقله في «الواضحة» عنهما، وانظر: «البيان والتحصيل» (2/604) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 يحل له الإقامة مع الكفَّار، مع إمكان الفرار، وفيها قولٌ ثانٍ للمخزومي (1) وابن الماجشون: أنَّ له أن يهرب ويأخذ من أموالهم ما قدر عليه، ويقتل إن قدر، وإن ائتمنوه ووثقوا به واستحلفوه، فهو في فسحةٍ من ذلك كله، ولا حنث عليه في يمينه؛ لأن أصل أمره الإكراه، فهذا القول منصوصٌ فيه على توجيهه: وهو مراعاة الإكراه؛ لأن الأسير مغلوبٌ، لا يملك من أمره شيئاً، فهو مكره لم يُعط ذلك عن اختياره، والمُكْره في سَعَةٍ مما أُكره عليه، فذلك هو العلة عندهم في استباحة ما رأوه مباحاً له. فأما قولهم في إباحة الهروب له فظاهر؛ لأنه واجبٌ عليه أن لا يقيم معهم، ولا وفاء بمعصية، وأما إباحة ما وراء ذلك من أموالهم، ودمائهم، بعد أن أخذوا عهده، واستحلفوه: فباطل، والوفاء عليه: واجب؛ لأنه لا ضرورة إلى ذلك، ولا حجَّة في أنه كالمكره على إعطاء العهد (2) . خرَّج مسلم (3) عن حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلاّ أني خرجت أنا وأبي حُسيل (4) ، قال: فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا مِنَّا عهد الله وميثاقه: لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نُقاتل معه، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر، فقال: «انصرفا، نفي لهم بِعهْدِهم، ونستعين بالله عليهم» . فهذا نصٌّ في لزوم الوفاء بالعهد في مثل ذلك، وإن لم يكن مختاراً. قال الشافعي (5) : «إذا أمَّنوه؛ فأمانهم إياه: أمانٌ لهم منه، وليس له أن يغتالهم،   (1) في «المبسوطة» ، أفاده ابن رشد في «البيان والتحصيل» (2/604) . (2) انظر: «البيان والتحصيل» (2/592-593، 604) ، «النوادر والزيادات» (3/318) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/481) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/179) . (3) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب الوفاء بالعهد) (98) (1787) . (4) ويقال: حَسْل. وهو والد حذيفة. المعروف بـ: اليمان. انظر: «الاستيعاب» لابن عبد البر (351) ، «الإصابة» (2/74-ط. دار الجيل) ، وضُبطت في الأصل والمنسوخ: «حُسَّراً» . (5) في «الأم» (4/292-ط. دار الفكر) . وانظر: «مختصر المزني» (ص 275) ، «منهاج الطالبين» (3/283-284) ، «روضة الطالبين» (10/282) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ولا يخونهم، فأما الهرب بنفسه: فله الهرب، وإن أُدْرِكَ ليؤخذ، فله أن يدفع عن نفسه، وإن قتل الذي أدركه؛ لأنَّ طَلَبَهُ ليُؤْخذ إحداثٌ من الطالب غير الأمان، فيقتله إن شاء، ويأخذ ماله، ما لم يرجع عن طلبه» . وهذا أرجح الأقوال في ذلك، للأدلة التي قدمنا، والله أعلم. وقول أحمد بن حنبل في لزوم حكم الأمان في ذلك ووجوب الوفاء به كقول الشافعي (1) . وقال أبو حنيفة (2) : «إن قتل منهم، أو أخذ مالاً أو رقيقاً فخرج بهم إلى دار الإسلام، ثم إن أهل الحرب استأمنوا، أو صاروا ذمّة» ، قال: «ما كُنت أردُّ عليهم» . وكذلك قال في الرجل يدخل دار الحرب بأمان، فيغدر بهم ويقتل، ويأخذ من أموالهم. وسُئل في رجلٍ مسلمٍ اشترى منه شيئاً مما أتى به من ذلك، فقال: ذلك جائز. وعند الشافعي، وابن حنبل: يردُّ ذلك كله عليهم، وقاله الأوزاعي، وهو الصحيح كما تقدم في مثله. * مسألة: اختلف أصحاب مذهب مالك في الحربي يأتي بغير أمانٍ، فيُعثر عليه في   (1) أي: في غير الهرب، ففي مذهب الحنابلة: ليس له أن يهرب. وانظر: «المغني» (13/ 152) ، «الإنصاف» (4/209) . وانظر: «عيون المجالس» (2/743-744) . وهذه العبارة عن أحمد في: «الأوسط» لابن المنذر (11/291 المسألة رقم 1948) . (2) انظر: «الهداية» (2/445) ، «شرح السير الكبير» (4/233) ، وهذا بناءً على أصلهم أنَّ: من أخذ مال غيره غصباً؛ صار ملكاً للذي غصبه واستولى عليه؛ لمصادفته مالاً غير معصوم، مع أن السرخسي قال في «المبسوط» (10/96) : «وأكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم؛ لأن الغدر حرام ... » . وما بعد قول أبي حنيفة إلى آخر هذه المسألة برمته في «الأوسط» لابن المنذر (11/292) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 أرض الإسلام أو قبل أن يصل إليها، فيقول: جنحتُ إلى الإسلام، أو جئتُ أطلب الفداء أو التجارة، فقيل: لا يقبل قولهم بعد أن يُؤخذوا؛ إذ لم يُظهروه قبل ذلك، ويكونون فيئاً للمسلمين، وهو قول أشهب، وقيل: يُقبل قولهم، أو يُردُّون إلى مأمنهم، إلا أن يتبيَّن كذبهم، وهو قول ابن القاسم، وقيل بالفرق بين أن يكونوا من أهل بلدٍ عُوِّدوا الاختلاف، لما ادعوه من الفداء أو التجارة أو الاستئمان، فهؤلاء يقبل قولهم، أو يردون إلى مأمنهم، وإلا يكن ذلك: فهم فيءٌ للمسلمين؛ قاله ابن حبيب، وعزاه إلى مالك (1) ، ولم يختلفوا أنهم إن كانوا أظهروا ما ادعوا من ذلك قبل أن يُؤخذوا، وقبل أن يصلوا إلى بلاد الإسلام؛ أنهم لا سبيل إليهم، ويقبل منهم ما ادعوا، ويردّون إلى مأمنهم، ففي كل هذه الأقوال مراعاة إعمال حكم الأمان فيما قصد إليه الحربي من الاطمئنان إلى المسلمين في عادتهم بالتأمين في مثل ذلك، وإن لم يكونوا تقدموا إليه في خاصته بأمانٍ معين؛ لأنهم كلهم رأوا ذلك لو عُلِمَ صدقه فيما ادَّعاه نافعاً له، وإنما سبب اختلافهم في هذه الأحوال كلها هو: هل يحملون على التصديق في دعواهم، -وقد عثر عليهم- أم لا؟ أما من تبيَّن صدقه: فإنه يحمل على حكم الأمان، ومن تبيّن كذبه: كان على حكم الأسرى، ومن أشكل أمره: كان فيه الخلاف، وطلبت له شواهد الحال. ولذلك قال مالك في «موطئه» (2) : «فيمن وُجِد من العدو على ساحل البحر بأرض المسلمين، فزعموا أنهم تجارٌ، وأن البحر لَفظَهم، ولا يعرف المسلمون تصديق ذلك، إلا أن مراكبهم تكسرت، أو عطشوا، فنزلوا بغير إذن المسلمين: أرى ذلك إلى الإمام (3) ، يرى فيهم رأيه، ولا أرى لمن أخذهم فيهم خُمساً» .   (1) انظر: «المدونة» (2/10-11، 31) ، «البيان والتحصيل» (2/606-607) ، «النوادر والزيادات» (3/124-125) . (2) «الموطأ» في كتاب الجهاد (باب ما لا يجب فيه الخمس) (1/451- ط. محمد فؤاد عبد الباقي) ، وانظر: «النوادر والزيادات» (3/130-131) . (3) في مطبوع «الموطأ» : «للإمام» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فجعل مالك النظر في ذلك والاجتهاد بحسب ما يظهر في أمرهم وحالهم إلى الإمام، فإن ظهر له ما يدلُّ على صدقهم: قَبِلَ منهم، وردَّهم إلى مأمنهم، وكل ذلك مراعاة لما نزلوا عليه، باعتقاد الاطمئنان إلى المسلمين فيما جرت عليه عادتهم في الوفاء بمثله، وإن لم يكن من المسلمين في ذلك إلى هؤلاء قول ولا فعل، وكلُّ ذلك بيِّن، وبالله التوفيق (1) . فصلٌ: في تقسيم عقود الأمان، والفرق في الأحكام بين الخاص منه والعام عقود الأمان ثلاثة: عقد ذمة؛ وهو ما ضُربت فيه الجزية، وهذا النوع قد أفردنا له ولأحكامه وشروطه: (الباب التاسع) من هذا الكتاب، فهناك بسط القول فيه -إن شاء الله-. والثاني: عقد مهادنة؛ وهو ما عُوهد فيه على المسالمة وترك الحرب، وعقد عقداً عاماً في جماعة بلدٍ أو إقليم أو مملكةٍ، لا يقصد آحادهم بالتعيين، بل هو كل عقد يتضمن الموادعة العامّة على البلاد، والنفوس، والأموال، وكافة الأحوال، وفي هذا النوع خلافٌ بين أهل العلم: هل يجوز مُطلقاً، أو لضرورة؟ وما الضرورة التي تجوز المهادنة معها؟ وله موضع مفردٌ نذكره -إن شاء الله- في الفصل بعد هذا. وإنما نتعرض هنا للفرق بين أحكامه، وأحكام العقد الثالث، وهو: ما عُقد للواحد أو لعددٍ خاصٍّ على أنفسهم، إذا قدموا علينا، أو احتيج إلى نزولهم للتكلم معهم، وما أشبه ذلك، وهذا النوع الثالث هو الذي يتناوله بخاصة عُرف الأمان إذا أُطلق، وعليه بُني الباب، وفيه جميع ما تقدَّم من الأحكام. فأمَّا المهادنة العامة، فحكمُ الأمان فيها مستمرٌ في الجميع إلى مدته المضروبة له، ولا يَتَبَعَّضُ ذلك، فيكون لمن رضي من آحاد تلك المملكة أن يُنَحّوا   (1) هنا ينتهي الجزء الأول من تجزئة الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أنفسهم، ويردوا ما ثبت من ذلك الأمان لهم، أو يتراضوا على أن يبيع بعضهم بعضاً، أو يرهنه، كلّ ذلك وما أشبهه ممّا ينافي عقد ذلك الأمان، لا يباح ولا يعمل به فيمن رضي ذلك منهم لنفسه، أو لم يرض، إلا أن يتمالأ جميعُهم ومَلِكُهُم على ردِّ العهد، فهذا له وجهه، وإنما وجب ذلك لعموم قوله -تعالى-: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، و {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91] . ولما كان عقد المهادنة معهم على العموم في مصلحتهم، وإقرار مملكتهم وبلادهم، وانتظام حالهم، وكان أمر ذلك يختل إذا أجيب الآحاد إلى رفع ذلك فيما رضوا به لأنفسهم؛ لم يجز في حكم الوفاء أن يُنْقَضَ ذلك عليهم، ولم يكن رِضى الآحاد عاملاً في ذلك على جماعتهم. وأما الأمان الخاص، وهو الذي يرجع الأمر فيه إلى تأمين أشخاص على أعيانهم، لا يتعلق في ذلك حقٌّ لغيرهم، ولا لبعضهم من بعض، ففي هذا النوع عن مالك وأصحابه: أن من تراضوا منهم على بيع نسائهم، وأبنائهم؛ فلا بأس به (1) ، وعلى ذلك يكون من رضي منهم أن يردَّ ما جُعِلَ له من الأمان، ويبيح نفسه للرق؛ فهو مما لا بأس به -إن شاء الله-. وقال ابن حبيب في العِلج يكون في مَنَعةٍ، ومن أمره في فَسحة فَيُسْتَأْسَرُ: فذلك له أمان، لا يُقتل ولا يُسترق، وإذا اسْتأْسر وقَدْ رَهَقْتَهُ: فلا أمان له (2) . قال فضلٌ في قوله: «فذلك له أمان، لا يقتل ولا يسترق» ، قال: إلا إن اشترط عليه -عندما أمِنَ- الاسترقاق، ورضي به فيسترق، قال: وهو قول سحنون (3) . قلت: وإنما جاز ذلك في هذا النوع الخاص؛ لأن الأمان الذي اعتصم به هو بيده، فله أن يحله وينبذه، فإذا نبذ العهد، ولم يكن يتعلق به حقٌّ لغيره كما   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/153) . (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/71) . (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 كان ذلك في عقد المهادنة والأمان العام: زال حكم الأمان عنه، فكان رضاه بَعْدُ بإرقاق نفسه لا مانع منه. نعم؛ لو لم يرض بإسلام نفسه بَعْدَ نَبْذِ الأمان، أمكن أن يقال: يجب ردُّه إلى مأمنه؛ تتميماً في الوفاء بعهده، وكذلك لو أراد بعضهم بيع بعض أو ارتهانه، ورضي بذلك المبيع والمرتهن لجاز ذلك فيمن هو مالكٌ أمره، فإن لم يرض بذلك لم يجز، ولا يجوز شيءٌ من ذلك بحالٍ في المهادنة والأمان العام، فإن كان المبيع والمرتهن غير بالغٍ ممَّن لا يملك أمره، وهو ممن دخل تحت ذلك الأمان: فلا يجوز لأحدٍ ممن معه فيه إسلامُه في بيعٍ أو ارتهانٍ، وما أشبه ذلك، مما ينافي عقد الأمان، إلا أن يكون الذي فعل ذلك به أبوه، فقد قال مالك: إنَّ ذلك جائز، ونحو ذلك يُروى عن الثوري، ومنع من ذلك بعض أهل العلم، والأولى في النظر منعه، لأن الصغير بعد أن ثبت له التأمين لا يرتفع حُكمه إلا بإذن شرعي، وذلك إما بردِّه إلى مأمنه، وإما بإسقاطه هو ونبذه، أنْ لو كان ممن يملك أمر نفسه، فأمَّا أن يكون ذلك بيد غيره يسقطه عنه، فلا دليل عليه، وإنما أراهم أجازوا عليه ذلك من الأب؛ لأنهم حملوا الأمر فيه -والله أعلم- على حكم الصغير في حجر أبيه، حيث يكون نظره له نافذاً عليه، وهذا هنا لا يستقيم؛ لأن نظر الأب المأذون فيه لا يتعدَّى مصلحة المال، أو ما هو شبيه المال من مصالح الأعيان، كعقد النكاح، ونحو ذلك عند من يراه، بل لو قَضَى في المال بغير السداد، وما لا مصلحة فيه البتة: فُسِخ، ولم يمض ذلك على الصغير. وأما قضاؤه على ذاته، وعينه، وإتلافهُ عليه أحكام الحرية بالإرقاق؛ فذلك لا يوجد له أصلٌ بحالٍ، وقد رُوي عن ابن القاسم قولٌ يدل على أن قضاء الأب على ابنه الصغير بمثل ذلك لا يمضي. ولنورد الآن من المسائل المنقولة عن المالكية، ومن أمكن من غيرهم، في افتراق حُكمي الأمان: خاصاً وعاماً، على حسب ما ذكرناه، ما يكون فيه تَبَيُّنٌ بالوقوف عليه -إن شاء الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 مسائل منقولة في افتراق أحكام الأمان سُئل أَشهب عن علجٍ دخل بأمانٍ ليفدي امرأته، ففداها بفداءٍ رهن فيه ابناً له كان معه حتى يأتي بالفداء، فذهب فلم يأت، ما سبيل ذلك الابن؟ فقال: يُستأنى به، فإن جاء وإلا بيع عليه رقيقاً، واستوفى ماله، فإن فضلَ فضلٌ: حبسه لصاحبه حتى يأتي (1) . قلت: هذا من الأمان الخاص، فلذلك أجاز فيه رهن من رضي بذلك، وبيعه في ذلك الحق، هذا إن كان الابن المرهون كبيراً رضي بذلك، وإن كان صغيراً فعلى ما ذكرناه من أنهم يرون قضاء أبيه عليه في مثل ذلك ماضياً. ورُوي عن ابن القاسم أنه قال: «لو أن رومياً أهدى إليَّ ابنته لم يكن به بأس أن أطأها، أو غير ابنته، ولو سبى روميٌّ جاريةً ممن بيننا وبينه هدنة، مثلُ النُّوبة وما أشبههم، لم ينبغ أن أشتريها ولا أطأها» (2) . فهذا منه تشديدٌ وتفرقةٌ ظاهرةٌ بين أحكام أهل الهدنة في ذلك وغيرهم، ممن له أمان خاصٌّ، ألا تراه لم يستبح شيئاً منهم، وإن كان الذي سباهم غير الذي بَيْنه وبينهم الهدنة؟!. وروي عن مالك أنه سئل، فقيل: إن قوماً من أهل الحرب يقدمون علينا بأبنائهم ونسائهم، أفنبتاعهُم منهم؟ فقال مالك: أَبَيْنَكُم وبينهم هُدنة؟، قالوا: لا، قال: فلا بأس بذلك. قال مالك: ولو كانت بينكم وبينهم هُدنة لم يجز لكم شراؤهم؛ لأن لصغارهم من العهد مثل ما لكبارهم. قال مالك: وسواء كانت الهدنة بينكم وبينهم السنَة والسنتين أو إلى غير مُدة، إلا أن يكون يوم هادنوا قد اشترطوا ذلك، فيجوز ذلك (3) . ففرق مالك -رحمه الله- بين الهدنة -وهو الأمان العام- وبين من جاء مستأمناً من أهل الحرب في بيع ما يبيعون منهم، فأجازه في   (1) انظر: «البيان والتحصيل» (3/77) ، «النوادر والزيادات» (3/329) . (2) «البيان والتحصيل» (3/90) . (3) انظر: «البيان والتحصيل» (3/153) ، «النوادر والزيادات» (3/342) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الخاص، ومنعه في العام، وقال فيه: «إلا أن يكونوا يوم هادنوا قد اشترطوا ذلك» ، فأجازه إذا وقع العقد عليه؛ لأنَّ العهد لم يتناولهم إلا على ذلك، فلم يكن فيه إخلال بشيءٍ ثبت لهم في عقد الأمان. وقد رَوَى ابن القاسم عن مالك في «المدونة» (1) ما يخالف بعض ما في هذه الرواية، فقال: إذا كان الأصل في الهُدنة مثل السنة والسنتين فجائز أن يشتروا منهم أولادهم ونساءهم. فأقول: قد لا يخالف شيء من ذلك القانون الذي أشرنا إليه، أما الرواية الأولى، فراعَى في ذلك ما ينافي معنى العقد في الهدنة الواقعة مطلقاً، من غير التفاتٍ إلى تأثير طول مدة الهدنة أو قصرها. أما الرواية الأخرى، فكأنه رأى فيها قصر المدة في الهدنة دليلاً على رفض الاستنامة إليها، وترك الاعتداد بالموادعة العارضة فيها، فلم يتضمن مراعاة حفظ المصالح على الإطلاق في الحال والمآل، وتوقّي ما يقدح في عواقب الأحوال، فكان للمدة القريبة في ذلك حكم الخصوص. هذا وجه هذه الرواية عندي، والرواية الأولى في التسوية؛ فتسوية المدة البعيدة والقريبة في ذلك أرجح، والله أعلم. وقال الأوزاعي (2) في مصالحة الإمام أهل الحرب: «لا بأس أن يصالحهم على عدد سَبْيٍ يؤدونهم إلى المسلمين، قيل له: فإن كانت تلك الرؤوس والسبي من أبنائهم وأحرارهم يبعث بهم ملكهم إليهم؟، قال: لا بأس به، ولا يضره، من أحرارهم كان ذلك أو من غيرهم، إذا كان ذلك الصلح ليس بصلح ذمة وخراج، يقاتل من ورائهم، وتجري عليهم أحكام المسلمين، فلا بأس بذلك» . وقال أحمد في أهل الذمة يصالحون أهل الإسلام على ألف رأسٍ كل سنة،   (1) انظر: «المدونة» (3/299- ط. دار الكتب العلمية) . (2) انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (ص 14) ، «الأوسط» (11/335-336) -وقد نقل المصنف هذا الكلام والذي بعده منه-، «فتح الباري» (6/173) ، «عمدة القاري» (15/97) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/421) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فكان يسبي بعضهم بعضاً ويؤدونه، قال: لا بأس به، يجيء به من حيث شاء، وكذلك قال إسحاق (1) . وقال أبو حنيفة (2) : «لا خير في الصلح على أن يؤدوا ذلك من أبنائهم، ولا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من ذراريهم أحداً؛ لأن الصلح وقع عليهم وعلى ذراريهم» . قال ابن حبيب: إن كان شرط أهل الحرب في عقد الصلح على الجزية أن يبيعوا في جزيتهم ما شاؤوا من أبنائهم، أو مَنْ قهروه مِنْ كبارهم: فذلك جائزٌ إذا عقده عليهم رؤساؤهم وبطارقتهم في أصل الصلح، وإن لم يكن ذلك شرطاً في أصل الصلح: لم يجز، وكان العهد لجميعهم واحداً، قال: وهكذا سمعت مُطرِّفاً وابن الماجشون يقولان، وقاله غيرهما من أصحاب مالك (3) . فصلٌ: في المهادنة والصلح، وهل يجوز ذلك أو يمنع؟ قال الله -تعالى-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] ، وقال -تعالى-: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] . فاختلف أهل العلم في حكم الآيتين: هل نسخت إحداهما الأخرى؟ وما الناسخ منهما والمنسوخ إن كان كذلك؟ أو: هل هما محكمتان؟ وعلى أي وجه مع ذلك تُحملان؟ وعن هذا نشأ الخلاف في جواز المهادنة ومنعها، على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى-. فروي عن ابن عباس، أن آية الجنوح للسلم منسوخة بقوله -تعالى-: {فَلاَ   (1) انظر: «المغني» (13/155) ، «الفروع» (6/256) . (2) انظر: «الأوسط» (11/335-336) ، وقد نقل منه مذهب أبي حنيفة وأحمد. (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/342) . وفيه أن الكلام السابق منقول عن سحنون وليس عن ابن حبيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] ، وكذلك قال عكرمة، وقتادة، وغيرهما أنها منسوخة، لكن زعموا أن الناسخ لها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، فعلى هذا لا تجوز المهادنة بحال، وقيل: بل المنسوخ الأخرى، والناسخ قوله -تعالى-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (1) [الأنفال: 61] ، وعلى هذا تجوز المهادنة بكل حال، وقيل: إن آية الجنوح للسلم نزلت في قومٍ بأعيانهم خاصة (2) ، وآية المنع هي عامة، وقيل: إن الآيتين نزلتا في وقتين مختلفي الحال، معناه: إنهما محكمتان في حالين مختلفين؛ فإذا كان للمسلمين الظهور والاعتلاء، حرم السَّلم والإجابة إليه، وإن كانوا على حال توقٍّ وتخوفٍ ساغ لهم ذلك (3) . وقيل: إن معنى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] ، أي: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى، وهي روايةٌ عن قتادة -أيضاً- (4) ، وعلى هذا القول ينتظم معنى الآيتين على حكم واحد؛ لأنه أبيح في الأولى الجنوح للسلم إن جنحوا، وابتدؤوا بطلب ذلك، وإنما مُنع في الثانية أن يدعوهم إليه المسلمون   (1) وقد مضى الكلام على الجمع بين هذه الآيات، في (باب: الحُكم على الأسارى إما بالقتل وإما بالفداء) ، وأنها جميعها محكمة، كما قال المصنف هنا، وسبق هناك تخريج قول عكرمة وقتادة وغيرهما، وانظر: «تفسير الطبري» (26/41-42) ، «تفسير ابن كثير» [سورة الآنفال: آية 61] . (2) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (2/356) : «وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة، وهذا فيه نظر؛ لأن السياق كله في وقعة بدر» . اهـ كلامه -رحمه الله-. (3) قال الإمام المازري في الحاجة للمهادنة: «فإن كان لغير حاجةِ مصلحته: لا يجوز؛ لوجوب القتال إلى غاية إعطاء الجزية، وإن كان لمصلحةٍ نحو العجز عن القتال مُطلقاً، أو في الوقت الحاضر، فيجوز بعوضٍ أو بغير عوض، على وفق الرأي السديد للمسلمين؛ لقوله تعالى-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} ، وصَالَحَ -عليه السلام- أهل مكة» . انتهى كلامه -رحمه الله-. وانظر: «الذخيرة» للقرافي (3/449) ، «الكافي» (1/469) . (4) أخرجه عبد الرزاق (2/224) ، وابن جرير (26/63) في «تفسيريهما» ، عن معمر، عن قتادة قال: لا تكونوا أولى الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (7/505) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد في «تفسيره» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ابتداءً (1) ، فهما في الحكم غير مختلفين، وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد الصلح بينه وبين المشركين يوم الحديبية، وكتب لهم بذلك كتاباً، كتبه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، خرَّجه مسلم وغيره (2) ، فكان ذلك حُجّة لمن أجاز الهدنة للعدو. وقد اختلف في المعنى الذي له صَالحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة عام الحديبية. فقالت طائفة: كان ذلك على جهة النظر للمسلمين من وجوهٍ؛ منها: كثرةُ عدد المشركين، وإصفاقُهم على منعهم من الدخول عليهم، ومنها: طلب التفرُّغ لقتال غيرهم، ومنها: الأمن لمن أراد الدخول في الإسلام، وليتقوَّى على حربهم فيما يستقبل، وقالت طائفة: بل صالحهم وهو غير عاجز عنهم، لكن طمعاً في أن يُسلموا، أو يُسلم بعضهم، وممن رُوي عنه القول بالمهادنة للعدو: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وغيرهم (3) .   (1) وقال ابن المنذر في «الأوسط» (11/313) : «للإمام إذ رأى مصالحة العدو ومهادنتهم، أن يبدأ هو، فيعرض ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ، فقال لبُديل بن ورقاء: «إن قريشاً قد نهكتهم الحرب، فإن شاؤوا هادنتهم مدة» ... » . (2) أخرجه من حديث البراء بن عازب: البخاري في «صحيحه» في عدة مواطن (الأرقام: 1844، 2698، 2699، 2700- معلقاً، 3184، 4251) . ومسلم (90، 91، 92) (1783) . ومسلم من حديث أنس (93) (1783) . والبخاري (3181، 3182، 4189، 4844، 7308) ، ومسلم (94، 95، 96) (1785) من حديث سهل بن حنيف -رضي الله عنهم جميعاً-. (3) انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/201- ط. دار الفكر) ، «منهاج الطالبين» (3/304) ، «روضة الطالبين» (10/334) ، «المهذب» (2/259-260) ، «البيان» للعمراني (12/302، 306) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (7/419) ، «مغني المحتاج» (4/260) . وفي مذهب المالكية: «عقد الجواهر الثمينة» (1/497) ، «الكافي» (1/469) ، «الذخيرة» (3/ 449) ، «النوادر والزيادات» (3/341) ، «قوانين الأحكام» (ص 175) ، «حاشية الدسوقي» (2/205) . وفي مذهب الحنفية: «الهداية» (2/429) ، «البناية» (5/669) ، «فتح القدير» (5/455) ، «المبسوط» (10/86) ، «بدائع الصنائع» (7/109) ، «الفقه النافع» للسمرقندي (2/842 رقم 569) . وهو مذهب الحنابلة -أيضاً-؛ انظر: «المغني» (13/154) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 واختلفوا في القدر المبيح لذلك؛ فرُوي عن الأوزاعي (1) : أن المهادنة تجوز إذا كان ذلك نظراً للمسلمين، وإبقاءً عليهم، وقال أصحاب الرأي (2) : إذا كان ذلك خيراً للمسلمين، وكانوا يخشون إن لم يوادعوهم أن لا يقووا عليهم؛ جاز، فإن وادعوهم على ذلك، ثم رأى المسلمون أن بهم قوةً فعليهم أن ينبذوا إليهم، ثم يقاتلوهم. وقال الشافعي (3) : إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين أو طائفةٍ منهم؛ جاز لهم الكَفُّ عنهم ومهادنتهم، وعند الشافعي: لو زال ضعف المسلمين، لم يجز أن ينبذوا إليهم إلى كمال المدة، وكذلك عنده (4) : إذا خاف منهم خيانة، لم يجز له أن ينبذ إليهم، إلا أن تقوم دلالة على ذلك من خبرٍ أو عيانٍ، وإذا لم يكن إلا مجرد الظنِّ؛ فليتمَّ عهدهم إلى مدتهم (5) .   = والكلام السابق نقله المصنف من «الأوسط» لابن المنذر (11/312) بتصرف. ومذهب الأوزاعي في «اختلاف الفقهاء» (14) للطبري، «عمدة القاري» (15/97) ، وانظر: «فقه الإمام الأوزاعي» (2/421-422) . (1) انظر: «فقه الإمام الأوزاعي» (2/421-423) . (2) انظر: «الهداية» (2/429-430) ، «البناية» (5/669) ، «فتح القدير» (5/455-456) ، «المبسوط» (10/86) ، «بدائع الصنائع» (7/109) ، «الفقه النافع» (2/ 842) ، «أحكام القرآن» للجصاص (4/255) ، «إعلاء السنن» (12/30) ، وانظر: «الأوسط» (11/333) . (3) في «الأم» (4/199) . (4) «الأم» (4/196- ط. دار الفكر) . (5) فجمهور العلماء -عدا الحنفية- يَروْن أن عقد الهدنة يلزم الوفاء به حتى تنتهي مدته، ما لم تظهر دلائل الخيانة، فيصح -عندئذٍ- نَبْذُه في الحال. انظر في فقه المالكية: «عقد الجواهر الثمينة» (1/498) ، «قوانين الأحكام» (ص 175) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/888) ، «تفسير القرطبي» (8/32) . وفي فقه الشافعية: «الأم» (4/199) ، «المهذب» (2/263) ، «البيان» (12/328) ، «المنهاج» (3/305، 306) ، «روضة الطالبين» (10/338، 339) ، «مغني المحتاج» (4/262) . وفي فقه الحنابلة: «المغني» (13/158- ط. هجر) ، «الفروع» (6/253) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/327، 331) ، «معالم السنن» للخطّابي (4/63-64) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 واختلفوا -أيضاً- في المهادنة: هل يجوز عقدها لغير مُدّة؟ فقيل: يجوز، وهو ظاهر مذهب مالك (1) ، وقيل: لا تجوز المهادنة إلا إلى مدة (2) ؛ لأن عقد ذلك إلى غير مدة يوجب الكفَّ عنهم على الدوام، وذلك لا يجوز؛ لأن قتالهم متى قُدر عليه فهو يجب، حتى يسلموا، أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها، وهو قول الشافعي (3) . ثم اختلف في المدة، فقيل: ذلك راجع إلى ما تدعو الضرورة إليه في مصالح أهل الإسلام من غير حدٍّ، وقيل: بل لأكثرها حدٌّ لا يتعدى، وذلك أقصى ما رُوي في المدة التي صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها المشركين من قريشٍ عام الحديبية. واختلف في قدرها، فقيل: أربعة أعوام (4) ، وقيل: عشرة أعوام، وهو المنقول في السير وأكثر الآثار (5) .   = «تفسير ابن كثير» (2/235) ، «فتح الباري» (6/275-276) ، «أحكام أهل الذمة» (2/482) ، «نيل الأوطار» (8/57) ، «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (3/1480- وما بعدها) . (1) والمدة عند المالكية لا تَتَعيَّن، بل هي موكولة إلى اجتهاد الإمام، وما يراه الأصلح في حال عقد المهادنة من الإطالة أو عدمها. قال ابن عبد البر في «الكافي» (1/469) : «ويستحبُّ ألا تكون مدة المهادنة أكثر من أربعة أشهر، إلا مع العجز» . وانظر: «عقد الجواهر الثمينة» (1/497) ، «الذخيرة» (3/449) . (2) انظر: «الإقناع» لابن المنذر (2/498) . وهومذهب جمهور العلماء، خلافاً للمالكية. كما ذكر المصنف ذلك عنهم. (3) انظر: «الأم» للشافعي (4/200، 201) ، «المهذب» (2/259، 260) ، «الإقناع» (ص 177) ، «البيان» (12/306) ، «منهاج الطالبين» (3/304) ، «روضة الطالبين» (10/335) ، «مغني المحتاج» (4/261) . (4) ذكر ابن المنذر في «الأوسط» (11/332) في ذلك خبراً، فيه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، أن قريشاً هادنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحته على سنين أربع. وابن لهيعة معروف حاله، مع الإرسال الذي فيه. (5) انظر جُلّ الكلام السابق، ابتداءاً من قوله: «واختلفوا في القدر المبيح لذلك ... » ، في: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 خرَّج أبو داود (1) في مدة صلح الحديبية، عن المِسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين. وهو قول الشافعي (2) .   = «الأوسط» لابن المنذر (11/312-313) . (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في صلح العدو) (رقم 2766- مختصراً) من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور، ومروان، به، وفيه: أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس، وعلى أن بيننا عيبةً مكفوفة، وأنه لا إسلال، ولا إغلال. وهذا إسناد حسن، ففيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعن، ولكنه صرح بالتحديث في بعض ألفاظ الحديث عند غير أبي داود، فانتفت شبهة تدليسه، وقد توبع، كما عند أحمد (4/328) ، وبقية رجال الإسناد ثقات. وأخرجه مختصراً ومطولاً: الطبري في «تفسيره» (26/101) ، وفي «تاريخه» (6/620) ، وابن خزيمة (2906) ، والحاكم (2/459) ، والطبراني في «الكبير» (20 رقم 14 و16) ، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 207/ رقم 442) ، والبيهقي في «الكبرى» (5/215، 9/221-222، 223، 227، 228، 233) ، وفي «دلائل النبوة» (4/112، 145) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (13/105) ، من طرقٍ، عن ابن إسحاق، به. وأورده ابن هشام في «السيرة» (2/308) . ثم روى البيهقي بسنده، عن عاصم بن عمر بن حفص العمري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: «كانت الهدنة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة عام الحديبية أربع سنين» . وذكر أن عاصماً ضعيف جداً. قال: «والمحفوظ هو الأول -أي: الهدنة عشر سنين-. وعاصم بن عمر هذا يأتي بما لا يتابع عليه، ضعفه: يحيى بن معين، والبخاري، وغيرهما» . وذكر ابن المنذر في «الأوسط» (11/332) خبراً عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، أن قريشاً هادنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصالحته على سنين أربع. أخرجه أبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 206 رقم 441) حدثنا هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، به. والوليد بن مسلم: ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية. كما قال الحافظ في «التقريب» (8397) . وابن لهيعة: صدوق، خلَّط بعد احتراق كتبه. كما في «التقريب» (3945) . قوله: لا إسلال، أي: الغارة الظاهرة. ولا إغلال، أي: الخيانة. أي: على أن لا يأخذ بعضنا مال بعضٍ، لا في السِّرِّ، ولا في العلانية. (2) انظر: «الأم» (4/200) ، و «الأوسط» لابن المنذر (11/332) . وهو قول أحمد. انظر: «المغني» (13/155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 واستدلَّ من رأى أنّ الزيادة على ذلك ممنوعة، بأن الله -تعالى- فرض قتال الكفار، فوجب القيام بذلك، فلمَّا هادن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركي أهل مكة، كانت تلك المدة مع العُذر الموجود أقصى ما يجوز في ذلك (1) . وفرَّق الشافعي في السبب الموجب للهدنة، فرأى أن ما كان سبب الموادعة فيه تألف المشركين، رجاء أن يسلموا، أو يعطوا الجزية، ونحو ذلك من أنواع المصلحة التي من غير ضعفٍ بالمسلمين عنهم، فأقصى مدة ذلك أربعة أشهر، لا تزيد عليها، على أصحِّ القولين عندهم (2) ، وفي القول الثاني: يجوز فيما دون السَّنَة. فدليل الأول: ما جعله الله أَجلاً للمشركين في سورة (براءة) لمثل ذلك، وذلك قوله -سبحانه-: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ، ووجه الثاني، قالوا: لأن السَّنة مدة الجزية، فلا يُسامح فيها إلا بمال، وأما إن كان سبب المهادنة عنده الضعف بالمسلمين، والعجز عن مقاومة عدوهم، فيجوز ما بينه وبين عشرة أعوام؛ للدليل الذي تقدم ذكره في مدة صلح أهل مكة (3) . فصلٌ الصلح على المهادنة، والموادعة، يقع على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مهادنة من الفريقين دون ذكر المال، فذلك جائز في موضع العُذر وطلب المصالح للمسلمين؛ لأن مهادنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مشركي مكة عام الحديبية كانت كذلك من غير مال. والثاني: أن تكون على مالٍ يؤديه الكفار، وذلك -أيضاً- جائز؛ لأن أخذ المال منهم على ذلك صَغارٌ لهم، وليس هو من سبيل الجزية في شيء؛ لأن حكم الجزية أن يكونوا بحيث يستولي عليهم نظر المسلمين وسلطانهم، ويستوجبون هم   (1) وقال ابن المنذر في «الأوسط» (11/312) : وبه أقول. (2) نحوه في «الأم» للإمام الشافعي (4/201) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/333) . (3) انظر: «الأوسط» (11/313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 مع ذلك ذمة المسلمين، حتى يقاتلوا عنهم عدوهم، والجزية مما يجب دعاؤهم إليها إن كانوا من أهلها، وإجابتهم إن كانوا هُم الداعي إليها على كل حال، وليس كذلك في المهادنة؛ لأن المهادنة لا تجوز إلا من ضرورة -كما تقدم-. والوجه الثالث (1) : أن يكون على مالٍ يؤدِّيه المسلمون، ففي جواز ذلك خلاف؛ رُوي عن الأوزاعي (2) أنه قال: «لا يصلح ذلك إلا عن ضرورةٍ وشغلٍ من المسلمين عن حربهم، من قتال عدوهم، أو فتنةٍ شملت المسلمين، فإذا كان ذلك؛ فلا بأس» . وروي نحو ذلك عن سعيد بن عبد العزيز، وقال: فعله معاوية أيام صفِّين، وعبد الملك بن مروان؛ لشغله بقتال ابن الزبير (3) . وقال الشافعي (4) : «لا خير في أن يعطيهم المسلمون شيئاً بحالٍ على أن   (1) ذكره الونشريسي في «المعيار المعرب» (3/111) ، وقال: «ولم أرَ من ذكر مسألة المهادنة من المالكية غير ابن أصبغ، المشتهر بابن المناصف في كتاب سماه «الإنجاد في أبواب الجهاد» ، ولم يذكر فيه قولاً لمالكي» . ثم نقل كلامه وكلام الإمام الشافعي الذي بعده. (2) انظر: «الأوسط» (11/335) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (14- وما بعدها) ، «فتح الباري» (6/173) ، «عمدة القاري» (15/97) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/421-422) . (3) ففي سنة سبعين للهجرة، على عهد (عبد الملك بن مروان) -كما قال البلاذري-: «خرجت خيلٌ للروم إلى جبَل اللُّكام وعليها قائدٌ من قُوَّادهم، ثم صارت إلى لُبنان، وقد ضَوت إليها جماعةٌ كثيرة من الجراجمه، وأنباطٌ، وعبيدٌ أُبّاقٌ من عبيدِ المسلمين، فاضطرَّ عبد الملك إلى أن صالحهم على ألف دينارٍ في كُلِّ جُمعة، وصالح طاغية الروم على مالٍ يؤدِّيه إليه لِشغلهِ عن محاربته، وتخوُّفه أن يخرجَ إلى الشام فيغلب عليه» . واقتدى في صُلحه بمعاوية حين شغل بحربِ أهل العراق، فإنه صالحهم على أن يؤدي إليهم مالاً، وارتهن منهم رُهَناء، وضعهم في بَعْلَبَك. انظر: «فتوح البلدان» للبلاذري (ص 164) . وقال الطبري في «تاريخه» (6/150) ما نصُّه: «ثم دخلت سنة سبعين ... ففي هذه السنة: ثارت الروم، واستجاشوا على مَن بالشام من ذلك من المسلمين. فصالح (عبد الملك) مَلِكَ الروم على أن يؤدِّيَ إليه في كل جمعة ألف دينار، خوفاً على المسلمين» . وانظر: «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (3/1493) . (4) انظر: «الأم» (4/199) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/334-335) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 يكُفُّوا عنهم؛ لأن القتل للمسلمين شهادة، والإسلام أعزُّ من أن يُعطى مشركٌ على أن يكفَّ عنه، قال: إلا أن يخاف المسلمون أن يصطلموا؛ لكثرة العدو، وقِلّتهم، أو خلّة فيهم، فلا بأس أن يُعطوا في تلك الحال شيئاً ليَتَخَلَّصوا منهم؛ لأنه من معاني الضرورات، يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها، أو يؤسر مسلم، فلا يُخلّى إلا بفدية، فلا بأس؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدى رجلين من المسلمين أسرهما العدو، برجلٍ (1) من المشركين» . والأرجح ما ذكره الشافعي، أن ذلك لا يجوز لكل عذر، من مضرةٍ تُتّقى، أو مصلحةٍ تُرتجى، فإن في إعطاء المال لأهل الكفر على أن يكفوا صغاراً على أهل الإسلام، وذلك لا يجوز أن يستجلب بمثله مصلحة، أو يستدفع به ما لا يستأصل من المضرَّة، فإذا انتهى الأمر إلى خوف الاستئصال والاصطلام، بإحاطة العدو وقوته، وتحقق العجز عن مقاومته، جاز في هذه الحال؛ لأنه أيسر المكروهَيْن، والله أعلم. وقد ظنَّ من ذهب إلى جواز إعطاء المسلمين المال في مصالحة العدو لضرورةٍ تَعْرِضُ في ذلك -وإن لم ينته الضَّعف بالمسلمين غايته- أن له دليلاً على ذلك، في حديث خرَّجه أبو عبيد في كتابه «الأموال» (2) . قال: حدثنا عبد الله بن   = وتحرفت كلمة (يصطلموا) في مطبوع «الأم» (طبعة دار الكفر) إلى (يصطلحوا) . (1) كذا في الأصل، وفي المنسوخ: «برجلين» ، وصواب العبارة أن يُقال: فَدَى رجلاً من المسلمين برجلين من المشركين، كما في مطبوع «الأم» ، و «الأوسط» . وقد مضى تخريجه. (2) «كتاب الأموال» (ص 210-211/رقم 445) . وعبد الله بن صالح، هو كاتب الليث: صدوق كثير الغلط، ولكنه ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. وبقية رجال الإسناد ثقات. وهو مرسل. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/69- ط. مكتبة الخانجي) : أخبرنا محمد بن حُميد العبدي، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، به، مرسلاً. وفي مطبوع «الطبقات» -أبي المسيب- بدل: ابن المسيب. وورد الحديث نحوه مطولاً، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عيينة، والحارث بن عوف -وهما قائدا غطفان-، وورد نحوه مختصراً من حديث أبي هريرة. ذكره الهيثمي في «المجمع» (6/132- = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 صالح، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهابٍ، قال: كانت وقعة الأحزاب بعد أُحدٍ بسنتين، وذلك يوم حفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق، ورئيس الكفار يومئذٍ: أبو سفيان بن حرب، فحاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة ليلة، فخلص إلى المسلمين الكرب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -كما أخبرني سعيد بن المسيب-: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تُعبد» ، وحتى أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى عيينة بن حصن -وهو يومئذٍ رئيس الكفار من غطفان، وهو مع أبي سفيان-، فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُلث ثمر نخل المدينة، على أن يُخذِّل الأحزاب، وينصرف بمن معه من غطفان، فقال عيينة: بل أعطني شطر ثمرها، ثم أَفْعَلُ ذلك، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ -وهو سيّد الأوس-، وإلى سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج-، فقال: «إن عيينة سألني نصف ثمر نخلكم على أن ينصرف بمن معه من غطفان، ويُخذِّل بين الأحزاب، وإني أعطيته الثلث، فأبى إلا النّصف، فما تريان (1) ؟!» . فقالا: يا رسول الله، إن كنت أُمرتَ بشيء فافعله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أُمرت بشيءٍ لم أستأمركما فيه، ولكن هذا رأْيٌ أعرضه عليكما» ، قالا: فإنا لا نرى أن نعطيهم إلا السيف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فنعم» . فزعموا أن موضع الدليل منه ما كان من صغوِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مصالحة عيينة على جزء من الثمر، ولا حجة في شيءٍ من ذلك؛ لأن الحديث لو لم يكن في رفعه متكلم؛ لكان مع ذلك لا دليل لهم منه؛ لوجوه:   = 133) وعزاه إلى البزار والطبراني. وقال: «ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات» . قلت: أخرجه البزار (2/331-332 رقم 1803- «كشف الأستار» ) عن عقبة بن سنان، عن عثمان بن عثمان الغطفاني، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال: «لا نعلم رواه عن محمد بن عمرو -هكذا- إلا عثمان، ولم نسمعه إلا من عقبة» . قلت: وجميع رجاله ثقات، سوى عثمان: فهو صدوق، ربما وهم، كما في «التقريب» (4500) . وانظر: «سيرة ابن هشام» (3/176- ط. دار الخير) ، و «سبل الهدى والرشاد» (4/376، 383) . (1) بعدها في المنسوخة فقط: «لِفعلته» ولا وجود لها في الأصل ولا عند أبي عبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 منها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك، ولا قال: إنه أُمِر به، وإنَّما وقع ذلك على سبيل الإرتياء والنظر، الذي استقرَّ آخره على أن لا يفعل، فهو إلى الاستدلال على المنع أقرب؛ ثم إنه لم تكن إرادة البذل في هذا لمجرد الهدنة، بل كان فيه من المحاولة الحربية ما يعود بإضعاف العدوّ وخزيهم، وتشتيت جماعتهم، والتخذيل بينهم، وتلك من مكائد الحرب، فأمرُ البذل فيها يضاهي الجُعل والإجارة على الشيء يُفعل، والله أعلم. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 مسائل من أحكام المستأمن * مسألة: اختلفوا في المستأمن يريد الإقامة بدار الإسلام: فقال الأوزاعي (1) : لا يُترك، إلا أن يُسْلِم، أو يؤدِّي الجزية، أو بإذن الإمام. وقال أحمد: إذا أمَّنه الإمام؛ فهو على أمانه حتى يرده إلى مأمنه (2) . وقال الشافعي (3) : إن كان من أهل الكتاب، قيل له: إن أردت المقام فأدِّ الجزية، وإن لم تُرد فارجع إلى مأمنك، فإن استنظر، فأحبُّ إليَّ ألاَّ يُنظر إلا أربعة أشهر؛ لأن الله -تعالى- جعل للمشركين أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر، وأكثر ذلك أن لا يبلغ به الحول؛ لأن الجزية في حول، فلا يقيم في دار الإسلام مقام من يؤدي الجزية ثم لا يؤديها، وإن كان من أهل الأوثان، فلا تؤخذ منه الجزية، ولا ينظر إلا كإنظار هذا، وهو دون الحول. * مسألة: اختلفوا في الحربي المستأمن، يقدم بأسرى مسلمين أحرار أو عبيد؛ فقيل: يُحال بينه وبينهم، ويخلى سبيل الأحرار، ويردُّ العبيد على ساداتهم، ولا يعطى المستأمن عوضاً عن ذلك شيئاً، وعلى هذا ينبغي أن يكون تأمينهم، والعهد معهم، فإن عقد على غير هذا، فالعقد فاسد، وانتزاعهم على كلِّ حال واجب، ولا   (1) «اختلاف الفقهاء» (32) للطبري، «المغني» (13/79) . (2) انظر: «المغني» (13/79-80) . (3) «الأم» : سير الواقدي (باب قطع الشجر وحرق المنازل) (4/308) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/269) ، «الرد على سير الأوزاعي» (130) ، «السنن الكبرى» (9/226-227) للبيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وفاء في معصية؛ وهو قول أهل الظاهر (1) . وقيل: لا يعترض في شيء من ذلك على حال، ويكون له الرجوع بهم إن شاء؛ وهو قول ابن القاسم (2) . وقيل: يُنتزعون منه، ويُعطى في كلِّ مسلمٍ أوفرَ قيمة، قاله عبد الملك بن الماجشون، ورواه عن مالك، وكذلك قال ابن حبيب (3) ، قال: ويباع عليه عبيده إذا أسلموا، وكذلك يفعل بالذِّميِّ، ثم لا يكون ذلك نقضاً للعهد. وفرَّق بعضهم فقال: يُجبر على بيع المسلمات، ولا يُجْبَرُ في الذكران، وهي روايةٌ عن ابن القاسم، وقاله ابن القصَّار (4) . والأرجح -إن شاء الله-: ما ذهب إليه ابن الماجشون، ورواه عن مالك، وقاله ابن حبيب؛ لأن الوفاء لهم بالأمان واجبٌ في النفس والمال، ما لم يعترض   (1) انظر: «المحلى» (7/306 المسألة رقم 932) . (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/144، 336) ، ووافقه ابن الموّاز. وممَّا نقله عنهما صاحب «النوادر» : أنه لو نزل حربيون بأمان، وعندهم مسلمات مأسورات لم ينتزعن منهم، ولا يمنعون من الوطء لهن. قال: وقال ابن القاسم: لو تذمَّم حربيون، وبأيديهم أسرى مسلمون أحرار، فهم باقون في أيدي أهل الذمة، عبيدٌ لهم كما كانوا. قال ابن حزم في «المحلّى» (7/306) بعد ذكره كلام ابن القاسم، ونسبه إلى مالك -أيضاً-: «وهذان القولان لا نعلم قولاً أعظم فساداً منهما، ونعوذ بالله منهما، وليت شعري!! ما القول لو كان بأيديهم شيوخ مسلمون، وهم يستحلون فعل قوم لوط، أيتركون وذلك؟!، أو: لو أن بأيديهم مصاحف، أيتركون يمسحون بها العذر عن أستاههم؟! نبرأ إلى الله -تعالى- من هذا القول أتمَّ البراءة، ونعوذ بالله من الخذلان» . اهـ. كلامه -رحمه الله-. (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/144، 336) ، «البيان والتحصيل» (3/48) ، وقاله: مطرِّف، وابن نافع. فمذهب ابن القاسم خلاف مذهب مالك في أسرى المسلمين، فما نقله ابن حزم في «المحلى» (7/306) أنه مذهبهما غير دقيق، وله مثل ذلك كثير، مما يحتاج إلى تصنيف مفرد. وانظر: «اختلاف الفقهاء» (46-47، 50) للطبري. (4) انظر: «الذخيرة» (3/440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ذلك معصية لله -عز وجل-، فَتَرْكُ المسلم في أيديهم مع التمكن من إرساله معصيةٌ، واغتيالهم فيه (1) من غير عوضٍ خيانة، ولما كان لنا فيما أوجبه الله -تعالى- من فكِّ الأسارى طريقان: واحدة من جهة المحاربة والقهر، وأخرى من جهة بذل المال والفداء، ولم يكن هؤلاء من أهل الحرب: تعيَّن إرساله؛ وبذل قيمته، قياماً بالفرضين: إنقاذ المسلم، والوفاء في العِوَضِ، والله أعلم. *****   (1) كذا في الأصل والمنسوخ! ولعلَّ صوابه: «واغتياله فيهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الباب السابع في الغنائم وأحكامها، ووجه القسم، ومن يستحق الإسهام، وبم يستحق، وسهمان الخيل، وما جاء في الغلول قال الله -عز وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، وقال -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} [الأنفال: 69] ، وقال -تعالى-: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] . وخرَّج مسلم (1) ، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كل نبيٍّ يُبعث إلى قومه خاصة؛ وبُعثت إلى كل أحمر وأسود، وأُحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي، وجُعلت لي الأرض طيِّبة طهوراً ومسجداً، فأيُّما رجلٍ أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرُّعب بين يدي مسيرة شهرٍ، وأُعطيت الشفاعة» . البخاري (2) ، عن عروة البارقي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخيلُ معقودٌ في   (1) في «صحيحه» في كتاب المساجد (521) (3) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب التيمم [الطهارة] (باب التيمم) (رقم 335) ، وفي كتاب الصلاة (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ) (رقم 438) ، وفي كتاب فرض الخمس (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحلت لي الغنائم» ) (رقم 3122) . (2) في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحلت لكم الغنائم» ) (رقم 3119) ، وأخرجه في كتاب الجهاد والسير (باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (رقم 2850) ، و (باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر) (رقم 2852) ، وفي كتاب المناقب (باب منه) (رقم 3643) . وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة (باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (1873) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 نواصيها الخير: الأجر والمغنم، إلى يوم القيامة» . ولا خلاف بين الأمة في استباحة أموال الكفار بالاغتنام، وصحة تملك المسلمين ما حازوه منها على وجه الغزو والجهاد. والأموال التي يحوزها المسلمون على الكفار على ثلاثة أحكام: منها: ما يجب فيه الخُمسُ الذي سمَّى الله -تعالى-، ويكون سائر ذلك لأهل الجيش الذين حازوه، وهذه هي الغنائم باختصاص. ومنها: ما يكون لمن حازه وحده، من غير خُمسٍ في ذلك يلزمه. ومنها: ما لا يتعيَّن فيه حقٌّ لأحدٍ بعينه، وإنما يكون جميعه لمصالح المسلمين عموماً، وهذا هو الفيء الذي قال الله -تعالى- فيه: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] إلى آخر الآيات. والذي يختص به هذا الباب: ذكر الغنائم وقسمها، ونذكر النوعين الآخرين عقب ذلك في (الباب الثامن) بعد هذا، عند ذكر الأنفال والأخماس -إن شاء الله تعالى-؛ فأما: الغنائم وهي التي يُستحق فيها الخُمس، ويكون سائرها للغانمين، فيختلف في حدِّها: فعند المالكية أنه: كلُّ مالٍ حازه المسلمون على المشركين بالقصد إليه، على سبيل المعالجة (1) : بقتالٍ، أو احتيال، فيدخل في ذلك السرقة والتلصصُ (2) ، ويخرجُ منه ما جلا عنه الكفار، أو قُدِر عليه بغير علاج.   (1) المعالجة: الصِّراع والقتال. واعتلج القوم: اتخذوا صراعاً وقتالاً. انظر: «القاموس المحيط» (1/24 و4/158) ، «لسان العرب» (2/326) ، «الفيء والغنيمة» (ص 23) . (2) انظر: «البيان والتحصيل» (3/15) ، «النوادر والزيادات» (3/199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وهي عند الشافعية (1) : كلُّ مالٍ حازته الفئة المجاهدة على سبيل الغَلبة، دون ما يُختلس ويُسرق؛ فإنه خاصٌّ بملك المختلس، وكذلك اللقطة لواجدها، دون ما ينجلي عنه الكفار بغير قتال، فإنه فيءٌ. فالخلاف بينهم فيما أخذ سرقة واختلاساً: هل يكون له حكم الغنمية أو لا؟ واتفقوا فيما حيز على وجه المغالبة أنه غنيمةٌ يُخمَّس ويُقسم، وفيما جلا عنه الكفار بغير قتال أنه فيءٌ. وسنورد في أثناء المسائل من أقوال أهل العلم ما فرَّقوا فيه بين ما يجب فيه الخمس عندهم، وما يكون لمن أخذه، أو يكون فيئاً لجماعة المسلمين، ما يتبيَّن به تفصيل ما ذكرناه في حصْرِ ما ذهبوا إليه -بحول الله تعالى-. والقول الجامع لأحكام الغنائم التي يجب تخميسها، وقسمُ سائرها على الغانمين يرجع إلى أربعة فصول: * بيان ما يُستحق قَسمه من أصناف المال، مما لا يُستحق. * وبيان من يستحق الإسهام من أصناف الناس، ممن لا يَستحق. * وبيان ما يُستحق به الإسهام من الأفعال. * وبيان وجوه القسم على الفرسان والرَّجْلِ. ونحن -إن شاء الله- نذكر ذلك فصلاً فصلاً بمعونة الله وحوله -تعالى-.   (1) قال أبو منصور الأزهري في كتابه: «الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي» (ص 167) : «الغنيمة: ما أُوجفَ عليه بالخيل والركاب، وأخذ عنوة» . وانظر: «الأم» (4/146) ، «مختصر المزني» (ص 147) ، «الشرح الكبير» (11/424) ، «الحاوي الكبير» (10/425) ، «روضة الطالبين» (10/260) ، «تحرير ألفاظ التنبيه» (ص 317) ، «التعريفات» للجرجاني (ص 168) ، «الكليات» (3/306) ، «فروق اللغة» (140) ، «المصباح المنير» (مادة غ ن م) ، «المفردات» (غ ن م) (548) ، «التوقيف على مهمات التعاريف» (ص 542) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فصلٌ: في بيان ما يُستحق قسمه من أصناف المال مما لا يُستحق قال الله -عز وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . فكان عموم الآية يقتضي تخميس كل شيءٍ استُولي عليه من الكفار، وقسم سائره في الغانمين؛ إلا أن يخصَّ شيئاً من ذلك دليلٌ فيوقف عنده. والمستولى عليه صنفان: رِقاب الكفار، وأموالهم. فأما صِنف الرقاب فنوعان: أسرى -وهم الرجال-، وسبيٌ -وهم النساء والذرية-. فأما الأسرى؛ فقد تقدم القول فيهم، وتلخيصه: أن لأهل العلم في ذلك ثلاثة مذاهب؛ قول: إنهم يقتلون ولا بُدَّ. وقول: إنهم يُستحيون: للمن أو الفداء. وقول: إنَّ الإمام مخيَّرٌ فيهم على خمسة أحكام: القتل، والمن، والفداء، والاسترقاق، وضرب الجزية. وأما السَّبيُ من النساء والصبيان، فإنهم بنفس الاستيلاء عليهم يُرقون بما أحكمته السُّنَّة من ذلك، فيصير حكمهم إلى حكم سائر أموال الغنائم في وجوب القسم والتخميس، من غير اختيارٍ يكون في ذلك للإمام؛ لأن التخيير الذي ثبت للإمام بالأدلة المنتزعة على ذلك من القرآن والسنة إنما هو خاص بأسرى الرجال، لكن يكون لمن صار إليه شيءٌ من السَّبي إما بالقسم أو بالشراء أو غير ذلك من وجوه التملك، أن يفدي بهم أو يُفادي، ويمنَّ بالعتق، ويتصرف في ذلك بما أباح له الشرع منه، وكذلك لو استطاب الإمام عنهم نفوس الغانمين. وكلُّ من يتوجه له فيهم حقٌّ، كان له أن يفعل فيهم من ذلك ما شاء على وجه النظر والمصلحة، إلا خلافاً في الأطفال: هل يُباح ردُّهم إلى الكفار؟ وقد مضى الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 في ذلك مستوفىً في (الباب الخامس) ، في (فصل: أحكام الأسرى) . ومما جاء في المنِّ على السبي -النساء والذرية- ما رواه أبو عبيد في كتاب «الأموال» (1) قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعدٍ، قال: حدثني عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّ ستة الآفٍ من سبي هوازن -من النساء والصبيان والرجال- إلى هوازن حين أسلموا ... الحديث؛ وفيه قال: وزعم عروة، أن مروان ابن الحكم، والمسور بن مخرمة أخبراه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يردَّ إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «معي من ترون، وأحبُّ الحديث إليَّ أصدقُهُ، فاختاروا إحدى الطائفتين: إمَّا السبيُ؛ وإما المال، وقد كنت استأنيتُ بهم» . قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انتظرهم بضع عشرة ليلةً، حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُ رادٍّ إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: نختار سَبينا. فإذا تقرر ذلك، فيجيء على مذهب من رأى تخيير الإمام في الأسرى، منهم: مالكٌ، وغيره، وهو الذي تقدم ترجيحه بالأدلة: أنه متى حكم الإمام باسترقاقهم، توجهت عليهم أحكام الغنائم في القسم والتخميس، هذا لا إشكال فيه، ومهما قتل الإمام من رأى قتله من الرجال، خرج من جملة الغنيمة، وكان له حكم الاستثناء والتخصيص في عموم الآية في القسم والتخميس بما تقرَّر وثبت من الأدلة المتقدمة: أن الإمام مخيّرٌ في ذلك.   (1) كتاب «الأموال» (ص 156/رقم 314) . وأصل الحديث -دون ذكر عدد السَّبي- أخرجه البخاري في «صحيحه» (الأرقام: 2307، 2308، 2539، 2540، 2583، 2584، 2607، 2608، 3131، 3132، 4318، 4319، 7176، 7177) . قال ابن القيم في «زاد المعاد» (3/473) : «وكان السَّبيُ ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 واختلف في الوجوه الثلاثة: من المنِّ، والمفاداة به، والإقرار على ضرب الجزية؛ إذا رأى الإمام واحداً منها: فقيل: يكون ذلك كالقتل، يُخرجه من جملة الغنيمة. وقيل: بل يصير له بالاستحياء حكم الغنيمة الواجب قسمها، فإذا فعل ذلك الإمام احتسب به من الخمس، بخلاف القتل، وكلا القولين لأصحاب مذهب مالك. وسبب الخلاف فيما ذكره بعضهم هو: هل الغنيمة مملوكة بنفس الأخذ، أو حتى تُقسم؟ (1) وقد كان يجب أن لا يختلفوا أنَّ ذلك كله واحدٌ في خروجه من جملة الغنيمة، سواء قيل: إن الغنمية تملك بالأخذ أو بالقسمة، ويكون له حكم الاستثناء، كقولهم في القتل ولا فَرْق؛ لقيام الأدلة على أن ذلك مُخيَّرٌ فيه الإمام، وليس هناك ما يقتضي أن يحسب ذلك من الخمس، بل الخمس مستحقٌّ -أيضاً- في أصنافٍ سمَّاهم الله -عز وجل-، كاستحقاق الغانمين للأربعة الأخماس، فكيف يحمل ذلك عليهم خاصة دون مستحقي الأربعة الأخماس، وجميعهم شركاء؟! ومن الدليل على خروج ذلك من جملة الغنمية، ما خرَّجه البخاري (2) ، عن محمد بن جبير، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: «لو كان المُطعم بن   (1) قال القرافي في «الذخيرة» (3/427) وذكره: «قولان في المذهب، وبالقسمة قال مالك» . وانظر خلاف العلماء في هذه المسألة: «الكافي» (1/410) ، «المنتقى» (3/176) ، «رؤوس المسائل» لابن القصَّار (51) ، «عقد الجواهر» (1/477) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (3/584) ، «التمهيد» (20/38-39) ، «القوانين الفقهية» (130) ، «الأم» (4/147-148) ، «التنبيه» (235) ، «الوجيز» (2/193) ، «مختصر الطحاوي» (282) ، «القدوري» (114) ، «المبسوط» (10/ 32) ، «رؤوس المسائل» للزمخشري (367) ، «بدائع الصنائع» (7/121) ، «إيثار الإنصاف» (230- 231) ، «طريقة الخلاف» (246، 262) ، «الغرة المنيفة» (160، 170) ، «المغني» (13/107) ، «المحرر» (2/173) ، «الإنصاف» (4/163) . (2) في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب ما مَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأسارى من غير أن يخمس) (رقم 3139) ، وفي كتاب المغازي (باب منه) (رقم 4024) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 عديٍّ حيّاً، ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتنى؛ لتركتهم له» . فهذا سبيل المنِّ عليهم من الجملة، وكذلك بوَّب عليه البخاري: (باب المنّ على الأسرى من غير أن يُخمَّسوا) . وأمَّا الصنف الثاني، وهو الأموال المستولى عليها، فنوعان: عقار، وأصناف المال غير العقار. فأمَّا العقار، فاختلف أهل العلم في الأرضين المغنومة عنوة: هل ذلك مما يُخمس ويقسم على الجيش كسائر أصناف المال، أو حكم الأرضين حكم الفيء، لا حقَّ فيها للجيشٍ يخصُّهم، وإنما تكون وقفاً على مصالح المسلمين؟ ففي ذلك ثلاثة أقوال: قول: إنها تقسم كسائر الأموال، وإليه ذهب الشافعي، وأبو ثور، وغيرهم (1) ، ورُوي ذلك عن الزبير بن العوام (2) ، ودليلهم عموم قوله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا   (1) انظر: «الأم» (4/144) ، «مختصر المزني» (ص 275) ، «المهذب» (2/247) ، «التنبيه» (147) ، «روضة الطالبين» (10/275-277) ، «مغني المحتاج» (4/234) ، «المجموع» (21/420) ، «الحاوي الكبير» (14/255- ط. دار الكتب العلمية) ، «مختصر الخلافيات» (4/50 رقم 173) ، «المحلّى» (7/341-342) . وهو قول أبي سليمان الخطابي -كما في «المحلى» -. ونقل مذهب أبي ثور: ابن قدامة في «المغني» (2/582- «الشرح الكبير» ) ، والعيني في «عمدة القاري» (15/144) ، وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 790) . (2) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/166) قال: حدثنا عتّاب، حدثنا عبد الله، قال: أخبرنا عبد الله بن عُقبة -وهو عبد الله بن لهيعة بن عُقبة-، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عمَّن سمع عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة، يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحنا مصر بغير عهدٍ قام الزبير بن العوام، فقال: يا عمرو بن العاص، اقسمها. فقال عمرو: لا أقسمها، فقال الزبير: والله لتقسمنّها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر. قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر -رضي الله عنه-، فكتب إليه عمر: أن أقرَّها حتى يغزو منها حبل الحبَلَةِ. قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة المبهم الذي لم يسمّ. وعبد الله -ويقال له أيضاً عُبيد الله- ابن المغيرة بن أبي بردة، لم يوثقه غير ابن حبان (5/53) . وسفيان بن وهب الخولاني: صحابي، شهد حجة الوداع وفتح مصر، وعاش حتى ولي الإمرة لعبد العزيز بن مروان على الغزو إلى إفريقية سنة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فدخل في ذلك الأرض وغيرها، وما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر على الغانمين (1) ، وهذه أدلةٌ ظاهرةٌ قوية. وقولٌ ثانٍ: إن الأرض لا تقسم، بل تكون وقفاً في مصالح المسلمين، على حكم الفيء، لا يستأثر أحدٌ بملك أعيانها، بل هي لكل من حضر ذلك، ومن لم يحضره، ومن يجيء بَعْدُ من المسلمين إلى يوم القيامة، وهو قول مالكٍ   = (78) ، فبقي بها إلى أن مات سنة (82) . وعبد الله: هو ابن المبارك، وروايته عن ابن لهيعة: مقبولة، فهو من العبادلة الأربعة التي تقبل رواية ابن لهيعة من طريقهم. وكذلك رواه عنه عبد الله بن وهب وهو من العبادلة -كما سيأتي-. وأخرجه ابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص 263) ، عن يوسف بن عدي، والبلاذري في «فتوح البلدان» (ص 219-220) من طريق يحيى بن آدم، كلاهما عن عبد الله بن المبارك، بهذا الإسناد. وأخرجه أبو عبيد في «الأموال» (رقم 149) عن ابن أبي مريم -وهو سعيد بن الحكم-، ومن طريقه الشاشي في «مسنده» (43) ، وأخرجه ابن عبد الحكم (ص 88) عن عبد الملك بن مسلمة، وعثمان بن صالح، وابن زنجويه في «الأموال» (رقم 227، 576) ، والبيهقي (6/318) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن ابن وهب، جميعهم عن ابن لهيعة، به. وليس في طريق ابن زنجويه يزيد بن أبي حبيب، ولا من سمع من عبد الله بن المغيرة. وقال عبد الله بن لهيعة -بعدما ذكر ابن عبد الحكم (ص 263) رواية ابن المبارك، ورواية عبد الملك بن مسلمة-: وحدثني يحيى بن ميمون، عن عبيد الله بن المُغيرة، عن سفيان بن وهب، نحوه. فإن حفظ ابن لهيعة هذا، فيمكن أن يُحسن الحديث. قوله: «حتى يغزو منها حبل الحبلة» ، قال ابن الأثير في «النهاية» (1/334) : يريد: حتى يغزو منها أولاد الأولاد، ويكون عاماً في الناس والدواب، أي: يكثر المسلمون فيها بالتوالد. وقال أبو عبيد: أراه أراد أن تكون فيئاً موقوفاً للمسلمين ما تناسلوا، يرثه قرنٌ عن قرن، فتكون قوة لهم على عدوهم. (1) أخرج البخاري في «الصحيح» في كتاب المغازي (باب في غزوة خيبر) (رقم 4235) ، عن عمر قال: «أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بَبَّاناً -أي: متساوون في الفقر- ليس لهم شيء، ما فُتحت عليَّ قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، ولكني أتركها خزانةً لهم يقسمونها» . ونحوه في «صحيح البخاري» -أيضاً- (رقم 2334، 3125، 4236) ، و «سنن أبي داود» (3010) ، و «سنن البيهقي» (6/316-318) ، و «الأموال» لأبي عبيد (رقم 149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وأصحابه (1) . واستدلوا في ذلك بفعل عمر في أرض سواد العراق، وذكروا احتجاجه على ذلك بالآية من سورة الحشر، قوله -تعالى-: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية كلها، إلى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 7] ، وإلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} إلى آخر الآيات، [الحشر: 10] ، وقول عمر: ما أحدٌ إلاّ وله في هذا المال! حتَّى الراعي بعدن (2) .   (1) انظر: «المدونة» (1/386-387) ، «الكافي» (1/482) ، «المعونة» (1/626) ، «أسهل المدارك» (2/13) ، «المنتقى» (3/221-222) ، «بداية المجتهد» (1/401) ، «قوانين الأحكام» (167) ، «الذخيرة» (3/416-417) ، «الخرشي» (3/128-129) ، «الشرح الكبير» (2/189) ، «الإشراف» (4/449- بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب. (2) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/351) من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم، قال: سمعتُ عمر يقول: وذكر أثراً في قصة، وفي آخره آية الحشر المذكورة، وقول عمر: «والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال، أُعطي منه أو مُنع؛ حتى راعٍ بعَدَن» . وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/151/ رقم 7287) عن عبد الله بن عمر، عن زيد بن أسلم: أن عمر جمع أناساً من المسلمين فقال: «إني أريد أن أضع هذا الفيء موضعه؛ فليغد كل رجل منكم عليَّ برأيه، فلما أصبح قال: إني وجدت آية في كتاب الله -أو قال آيات- لم يترك الله أحداً من المسلمين له في هذا المال شيء؛ إلا قد سماه» . وذكر جملة من الآيات، ثم قرأ الآية المذكورة، وقال: «فليس في الأرض مسلم إلا له في هذا المال حق، أُعطيه أو حُرِمه» . وإسناد عبد الرزاق ضعيف، فيه عبد الله بن عمر العمري، ضعيف. وزيد بن أسلم لم يسمع عمر، بل ولا من ابنه عبد الله. انظر: «جامع التحصيل» (216) . والواسطة بينهما أسلم، كما في إسناد البيهقي، وهو العدوي، مولى عمر: ثقة. وله عند البيهقي (6/351-352) طريق أخرى، وفيه ذكر للآية، وقوله: «فهذه استوعبت الناس، ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق، إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش -إن شاء الله- لم يبق أحدٌ من المسلمين إلا سيأتيه حقُّه، حتى الراعي بسر وحمير؛ يأتيه حقُّه، ولم يعرق فيه جبينه» . وأخرج أبو عبيد في «الأموال» (149) : أن عمر كتب لعمرو بن العاص: «أن دعها -أي: مصر- حتى يغزو منها حبل الحبلة» ، قال أبو عبيد: «أراه أراد أن يكون فيئاً موقوفاً للمسلمين ما تناسلوا، يرثه قرن بعد قرن فتكون قوة لهم على عدوهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 قالوا: وكان فعل عمر في توقيف الأرض بمحضر الصحابة، من غير نكير (1) ، فدلَّ ذلك على أن معنى قوله -عز وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] : فيما عدا الأرضين، وأن الأرض لا تدخل في عموم ذلك، واستدلوا بأشياء من هذا الباب، ليس فيها بيانٌ جليٌّ. وقول ثالث: إن الإمام مخيَّرٌ بين أن يقسمها في المغانم، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، أو يقفها لمصالح المسلمين، كما فعل عمر بأرض السَّواد، وهو قول سفيان الثوري، وأبي عُبيد، وأكثر الكوفيين (2) ، وكأنهم رأوا الآيتين -آية الغنيمة من سورة الأنفال، وآية الفيء من سورة الحشر- واردتين مورد التخيير في حكم الأرض بخاصّة، قال بعضهم: فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر اتباعاً لآية الغنيمة، ووقف عمر أرض السواد اتباعاً لآية الفيء، وهذا أيضاً مما لا دليل عليه يوضح دعوى التخيير فيه، والأرجح ما ذهب إليه الشافعي، والله أعلم (3) .   (1) وتلا عمر على ذلك كلٌّ من: عثمان، وعلي -رضي الله عنهما-. فذكر هذا الفعل عن عثمان: أبو يوسف في «الخراج» (35) ، وأبو عبيد (ص 109) ، وابن زنجويه (1/253) كلاهما في «الأموال» . وأما عن علي: فقد أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (11/110 رقم 10656) ، وأبو عبيد (رقم 208) ، وابن زنجويه (323) كلاهما في «الأموال» ، ويحيى بن آدم (113-117) ، وأبو يوسف (36-37) كلاهما في «الخراج» ، والبلاذري في «فتوح البلدان» (266) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (9/135) من طرق عنه -وهي لا تسلم من ضعف أو انقطاع، ومجموعها يدلل على أن لها أصلاً- بألفاظ متقاربة، منها: «لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض؛ لقسمت السواد بينكم» . (2) وهم: أبو حنيفة وأصحابه، وسيأتي -قريباً- توثيق ذلك. (3) بل الراجح -والله أعلم- أن الإمام مخير في الأرض المفتوحة عنوة؛ بين جعلها فيئاً وبين جعلها غنيمة، فإذا رأى المصلحة في جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين؛ كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، وإن رأى أن لا يقسمها جاز؛ كما لم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، مع أنه فتحها عنوة، وهذا مذهب: أبي حنيفة، والثوري، وأبي عبيد -كما ذكر ذلك المصنف-، وكذلك هومذهب: ابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد في المشهور عنه. انظر: «الأموال» (107) لأبي عبيد، «الأموال» لابن زنجويه (1/248) ، «السير الكبير» (3/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وقد قيل عن عمر: إنه لم يفعل في أرض السواد ما فعلَ، حتى استطاب على ذلك نفوس أهل الجيش، قاله الشافعي (1) ، قال: وكذلك الآن إذا غنموا أرضاً فَخُمِّسَتْ، ثم استطاب الإمام نفوس أهل الجيش عن أربعة الأخماس، فتركوا ذلك بطيب نفوسهم، فالإمام يقفها لمصالح المسلمين، كما فعل عمر، فهذا حكمُ الأرض، والاختلاف فيها. فصلٌ وأما أصناف المال غير العقار، وهي: الذهب، والفضة، والعروض: من الأثاث، والحيوان، والأطعمة، وغير ذلك، من سائر الأعيان التي أباح الشرع تملُّكها، فهي على وجهين: أسلابٌ، وغير أسلابٍ، فأما الأسلاب: فمن رآها تختص ملكاً للقاتل، كما ذهب إليه الشافعي وأهل الظاهر وجماعة من أهل العلم   = 1039) ، «مختصر الطحاوي» (ص 285) ، «الجامع الصغير» (ص 254) ، «الاختيار» (4/124) ، «الهداية شرح بداية المبتدي» (2/432) ، «فتح القدير» (5/469) ، «تبيين الحقائق» (3/248) ، «البحر الرائق» (5/89) ، «ملتقى الأبحر» (1/360) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/494 رقم 1644) ، «حاشية ابن عابدين» (4/ 138-139) ، «المحرر» (2/178) ، «الفروع» (6/240) ، «الهداية» لأبي الخطاب (1/119-120) ، «الإنصاف» (4/190) ، «منتهى الإرادات» (1/647) ، «المبدع» (4/18) ، «تنقيح التحقيق» (3/359) ، «كشاف القناع» (3/94) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/737 المسألة رقم 1988) ، «التمام» للقاضي أبي الحسين الحنبلي (2/218) ، «الأحكام السلطانية» للقاضي أبي يعلى (ص 146-147) ، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/588 و17/489 و29/204-207 و34/119) . (1) في «الأم» في كتاب الجزية (باب بلادة العنوة) (4/181) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/31) ، وعنه الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/225) ، ثم تعقبه الحافظ بأنه مخالف لتعليل عمر بقوله: «لولا آخر المسلمين» ، قال: «لكن يمكن أن يُقال: معناه: لولا آخر المسلمين ما استطبتُ أنفس الغانمين» ، ونقل عن الطحاوي أن قول عمر: «كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر» ، قال: «فإنه يريد بعض خيبر؛ لا جميعها» . وبيَّن أن المراد بالذي قسمه من أرض خيبر: ما افتتح عنوة، والذي عزله: ما افتتح صلحاً. ا. هـ. قلت: وقال الشافعي في «سير الواقدي» (باب فتح السواد) (4/279- مع «الأم» ) : «ولا أعرف ما أقول في السواد إلا ظنّاً مقروناً إلى علم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 سواهم (1) ، فهي عندهم مخصصة -أيضاً- من الآية، لا تدخل في القسم؛ للأدلة التي نَذكر في ذلك، إذا ذكرنا حكم السلب والخلاف فيه في (الباب الثامن) بعد هذا عند ذكر الأنفال -إن شاء الله تعالى-، ومن لم يرَ ذلك لم يحتج إلى هذا التفصيل، وكان حُكم الجميع عنده واحداً في المقاسم (2) . وأما غير الأسلاب فضربان: * ما تقدم عليه ملكٌ للكفار، وهو جميع ما حازوه، ووضعوا اليد عليه، من   (1) انظر: «الأم» (4/142) ، «روضة الطالبين» (6/368) ، «اللباب في فقه الإمام الشافعي» (ص 183) ، «المحلَّى» (7/335 المسألة رقم 955) . وهو مذهب الحنفية والحنابلة. انظر: «مختصر الطحاوي» (284) ، «الهداية» (2/441) ، «بدائع الصنائع» (7/115) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/456 المسألة رقم 1611) ، «المقنع» لابن البنا (3/1166- 1167) ، «شرح الزركشي على مختصر الخرقي» (6/472، 477-478) ، «المغني» (13/69- ط. هجر) ، «الإنصاف» (4/148) . وبه قال: ابن المنذر، وابن جرير. وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص. انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/109) ، «عيون المجالس» (2/730 المسألة 474) ، «المغني» (13/69) . وخالف في ذلك المالكية، فقالوا: يُخمَّس. انظر: «المدونة» (1/390) ، «التفريع» (1/358) ، «الكافي» (1/475) ، «النوادر والزيادات» (3/221، 224) . وبه قال الأوزاعي، ومكحول. وهو قول ابن عباس؛ أخرجه عنه البيهقي (6/312) ، وابن أبي شيبة (12/374 رقم 14042) ، وأبو عبيد في «الأموال» (304) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/110) . وأخرجه عن مكحول: سعيد بن منصور (2/286 رقم 2712) . وانظر: «الأوسط» (11/110) . وقال إسحاق بن راهويه: إن استكثر الإمام السلب؛ خمَّسه، وذلك إليه. وذكر أثراً عن البراء بن مالك، وأن سلبه بلغ مالاً كثيراً، فخمَّسه عمر. رواه عبد الرزاق (5/233 رقم 9468) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/232) ، وابن أبي شيبة (12/371، 372 رقم 14034 و14035) ، وسعيد بن منصور في «السنن» (2/308 رقم 2708) ، والبيهقي (6/310، 311) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/109-110، 126-127) . وانظر: «المغني» (13/79-80) ، و «الأوسط» (11/110) . (2) وهو مذهب المالكية. كما سيأتي في الباب الثامن -إن شاء الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ضروب الأموال. * والثاني: ما كان على حكم الأصل قبل أن يحوزوه بالتملّك، نحو ما يقذف به في البحر من العنبر وغيره، وما يوجد من الجواهر والأحجار في أرضهم، والخشب والصيد ونحو ذلك. فأما الضرب الأول -وهو ما تقدم عليه ملك الكفار- فنوعان: طعام، وما يكون له حكم الطعام: من العلوفة، والأنعام تذبح، وما أشبه ذلك مما تدعو الجيش حاجةٌ في الغالب إليه. والنوع الثاني: سائر الأموال مما عدا ذلك. وهذا النوع لا يحتاج إلى بيان، فهو مما يستحق قسمه باتفاق، ويحرم أخذ شيءٍ منه قبل القسم، بلا خلاف (1) . وأما نوع الطعام، فالتبسُّط فيه بالأكل، والارتفاق للغني والفقير من الغزاة جائز، وذلك بشرطين: أحدهما: الاقتصار بذلك على دار الحرب. والثاني: أخذ قدر الحاجة هناك دون ما زاد. خرَّج البخاري (2) ، عن ابن عمر قال: «كنا نُصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه» . مسلم (3) ، عن عبد الله بن مغفلٍ، قال: أصبت جِراباً من شحمٍ يوم خيبر،   (1) انظر: «اختلاف الفقهاء» (110) للطبري، «مراتب الإجماع» (116، 119) ، «موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي» (2/872، 873) . (2) في «صحيحه» في كتاب الجزية والموادعة (باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب) (رقم 3154) . (3) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب) (72) (1772) . وأخرجه البخاري (رقم 3153، 5508) ، ومسلم (73) (1772) ، وفيه: «فاستحييت منه» بدل: «مُتبسِّماً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 قال: فالتزمته، فقلتُ: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً، قال: فالتفتُّ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسِّماً. أبو داود (1) ، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قلت: هل كنتم تخمِّسون -يعني: الطعام- في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل يجيء ويأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف. قال ابن عبد البر (2) : «أجمع جمهور علماء المسلمين على إباحة أكل الطعام إذا كان للحربيين، ما دام المسلمون في أرض الحرب، يأخذون منه قدر حاجتهم» . وجملة قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث ابن سعد: أنه لا بأس أن يؤكل الطعام والعلف في دار الحرب بغير إذن الإمام، وكذلك ذبح الأنعام للأكل. وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور. وكان ابن شهاب لا يرى ذلك إلا بإذن الإمام (3) . قال ابن عبد البر: «لا أعلم أحداً قاله غيره» (4) .   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في النهي عن النُّهبى إذا كان في الطعام قلَّةٌ في أرض العدو) (رقم 2704) . وأخرجه أحمد (4/354-355) ، وعبد الرزاق (9304) ، وسعيد بن منصور (رقم 2740) ، والطحاوي في «المشكل» (3454) ، والحاكم (2/126، 133-134) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 60) ، وفي «دلائل النبوة» (4/241) ، عن عبد الله بن أبي أوفى. وهو صحيح. انظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. (2) «الاستذكار» (14/120 رقم 19653) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/77) . (3) رواه عبد الرزاق في «المصنف» (5/179 رقم 9297) عن معمر، عنه. (4) «الاستذكار» (14/121) ، وجميع الكلام السابق منه. وانظر: «الأوسط» (11/69) ، «المغني» (9/269، 270) ، «اختلاف الفقهاء» (86، 88، 94) للطبري، «تحفة الفقهاء» (3/299) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/463 المسألة رقم 1616) ، «مختصر المزني» (ص 271) ، «الحاوي الكبير» للماوردي (10/189) ، «الإقناع» له -أيضاً- (ص 178) ، «روضة الطالبين» (10/261) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/102) ، «مغني = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فأمَّا أن يُخرج أحدٌ من ذلك شيئاً إلى أرض الإسلام، فجمهور العلماء كرهوا ذلك، إذا كان لذلك الطعام قيمة، أو كانت للناس فيه هناك رَغبةٌ، وحكموا له بحكم الغنمية، فمن أخرج شيئاً من ذلك ردَّه إلى المقاسم إن أمكنه، وإلاَّ باعه وتصدَّق بثمنه. وخالف في ذلك الأوزاعي، فجعل ما أخرجه من ذلك إلى دار الإسلام، فهو له -أيضاً- (1) . قلت: وإنما يكون أخذ الناس لما أخذوا من ذلك على الوجه المعروف، فإن كان انتهاباً فهو حرام. وقد كفأ النبي - صلى الله عليه وسلم - قدور ناسٍ كانوا معه في سفرٍ، فأصابوا غنماً، وقد اشتدت حاجتهم وجهدهم، فانتهبوها، ثم جعل يُرمل اللحم بالتراب، ثم قال: «إن النّهبة ليستِ بأحلَّ من الميتةِ، أو: إنَّ الميتةَ ليست بأحلَّ من النهبة» . ذكره أبو داود (2) .   = المحتاج» (4/231) ، «المعونة» (2/610) ، «الكافي» (1/471) ، «النوادر والزيادات» (3/ 204-205) ، «الذخيرة» (3/418) ، «أسهل المدارك» (2/10، 11) ، «نيل الأوطار» (7/294) ، «عون المعبود» (3/19) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/452) ، «فقه الإمام أبي ثور» (787-788) . وممن رخص في الطعام: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد -أحد فقهاء المدينة السبعة-. أخرجه عبد الرزاق (5/181-182 رقم 9307) عن خالد بن أبي عمر، عنهما. ورخص فيه وفي العلف: الحسن، والقاسم، وسالم بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-، والشعبي. أخرجه عن الشعبي: عبد الرزاق (12/441 رقم 15190) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/69) . (1) جلُّ الكلام السابق في «الاستذكار» (14/121-122 رقم 19660، 19661) . وحكى مذهب الأوزاعي: الشافعي في «الأم» (7/313) ، وابن جرير في «اختلاف الفقهاء» (88) . وانظر: «عون المعبود» (3/19) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/452) . وقال ابن عبد البر: «روى بشر بن عبادة، عن عبادة بن نُسَيٍّ، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ ابن جبل، أنه قال: كلوا لحم الشاة، وردُّوا بها إلى المغنم، فإنَّ لها ثمناً» . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (بابٌ في النهي عن النُّهبى، إذا كان في الطعام قلَّةٌ في أرض العدو) (رقم 2705) عن رجل من الأنصار. والحديث صحيح. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وخرَّج الترمذي (1) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من انتهب؛ فليس منا» . قال فيه: حسنٌ صحيح. وأما الضرب الثاني، وهو ما أُلْقي في أرض الكفار على حكم الأصل قبل أن يحوزوه، أو يضعوا عليه يد التملك؛ فهذا الضَّرب: من رآه لواجده، وأنه ليس على حكم الغنائم؛ لأنه لم يكن مُلكاً للكفار قبل، فهو ظاهر، ولا يحتاج إلى تفصيل، ونحو ذلك هو المرويُّ عن الشافعي (2) . وأما بعض المالكية فقسموا ذلك على نوعين:   = وأخرجه الطيالسي (1195) ، وعبد الرزاق (18841) ، وابن ماجه (رقم 3938) ، وابن حبان (5169) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/49) ، و «المشكل» (1318) ، والطبراني في «الكبير» (1371-1380) ، والحاكم (2/134) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (4/391) ، من حديث ثعلبة بن الحكم، قال: أصبنا غنماً للعدو، فانتهبناها، فنصبنا قدورنا، فمرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدور، فأمر بها فأكفئت، ثم قال: «إن النُّهبة؛ لا تَحلُّ» ، وإسناده حسن. (1) في «جامعه» في كتاب السير (باب ما جاء في كراهية النُّهبة) (رقم 1601) . وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أنس. ورواه ابن ماجه (رقم 1885) بلفظ: «لا شغار في الإسلام» . ورواه أبو داود (رقم 3222) بلفظ: «لا عَقْر في الإسلام» . ورواه النسائي في «المجتبى» (4/16) ، وعبد الرزاق (6690) ، وابن أبي شيبة (7/57) ، وأحمد (3/140، 197) ، وعبد بن حميد (1253) ، والطحاوي في «المشكل» (1316، 1895) ، وفي «الشرح» (3/49) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (3091، 3092، 3093، 3094) ، والبزار (1733- كشف الأستار) ، وابن حبان (3146) ، والبيهقي (4/62) ، والضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (2124، 2125، 2126) . والروايات مطولة ومختصرة. والحديث صحيح. انظر: «صحيح سنن الترمذي» . (2) انظر: «الأم» (5/648- ط. دار الوفاء) ، «روضة الطالبين» (10/261) ، «البيان» للعمراني (12/181) . إلا أن يكون الشيء الموجود في أرض الكفار -من حجرٍ، وحطبٍ وصيد برّي وبحري، مصنوعاً، أو صيداً مقرطاً، أو موسوماً، أي: إلا أن يكون حجراً مصنوعاً بنقر أو نقش، أو منحوتاً. والمقرط: من في أذنه قرط. قاله الشافعي -كما في «الروضة» -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 منه ما يكون له في جنسه بال: كالجوهر، والياقوت، والعنبر. قال أبو الوليد الباجي (1) : «فهذا قياسه على مذهب أصحابنا، أنه فيءٌ كله كالنساء والصبيان» . يعني بالفيء: الغنيمة، وأنه يقسم على حكم الغنائم بعد التخميس، ولا يكون لواجده فيه حقٌّ يختصُّ به، إلا ما أوجبه القسم. والنوع الثاني: ما لا خطر له في جنسه، كطيور الصيد: البازي، والصقر، ونحو ذلك، وكذلك الخشب تُنحت منه السهام، والقتب، والسرج، وكالحجر من الرخامة، والمِسَنِّ (2) ، وشبه ذلك؛ فالذي عليه أكثر المالكية: أنَّ ما كان له من ذلك قيمةٌ بأرض العدو لخفَّة حمله والاغتباط به، فهو في المغانم، ويُحكى نحو ذلك عن مالك، وما لا كبير قيمة له، فلم ير به بأساً (3) . رُوي عن مالك في أخذ العصا والدواء من الشجر، قال: لا أرى بأساً، وفي الرُّخام والمِسنِّ؛ شكٌّ، قال: لأنه لم يَنَلْ ذلك الموضع إلا بجماعة الجيش؛ فلا أحبّه؛ وسهّل في السرج يصنعه من ذلك والنشّاب، وقال في صيد الطير من أرض العدو: إذا باعه، أدى ثمنه إلى صاحب المقاسم. وأباح القاسم (4) وسالم في صيد الطير والحيتان: أن يبيعه ويأكل ثمنه (5) .   (1) في «المنتقى شرح موطأ الإمام مالك» (3/177- ط. دار الكتاب العربي) . (2) المِسنّ: بكسر الميم: وهو كل ما يُسنُّ به أو عليه. انظر: «القاموس المحيط» (4/238) . (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/209) ، «البيان والتحصيل» (2/550) ، «الذخيرة» (3/ 419-420) . (4) كذا في الأصل، وأثبتها الناسخ: «ابن القاسم» وكَتَبَ في الهامش ما نصه: «بالأصل: «وأباح القاسم» ولعله أحد الفقهاء السبعة» . قلت: صوابه (القاسم) -كما في الأصل-، ومذهبه في المسألة المزبورة في «المدونة» (1/523- 524- ط. دار الكتب العلمية) ، و «المغني» (13/123) ، و «الذخيرة» (3/419) . (5) وانظر: «النوادر والزيادات» (3/213) ، «البيان والتحصيل» (2/550) ، «الأوسط» (11/74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وقاله الأوزاعي (1) في الحطب والحشيش: إن أخذه فباعه فله ثمنه، ولا خُمس فيه. وقال فيما لم يحرزوه في بيوتهم؛ نحو: الشجر، والأقلام، والأحجار، والمِسنّ، والأدوية: إن لم يكن لشيءٍ منها ثمن؛ أخذه من شاء، فإن عالجه فصار له ثمن؛ فهو له ليس عليه فيه شيء، وقاله مكحول (2) . وقال أحمد بن حنبل (3) : «ما أصاب ببلاد الروم مما ليس له هناك قيمة، فلا بأس بأخذه» . قال الشافعي (4) : «ما كان مباحاً ليس ملكه لآدمي، أو صيدٍ من برٍّ أو بحر، فأخذه مباح، يدخل في ذلك القوس يقطعها الرجل من الصحراء، أو الجبل، والقدح ينحته، وما شاء من الخشب، وما شاء من الحجارة، للبِرامِ (5) وغيرها، فكل ما أصيب من هذا؛ فهو لمن أخذه» . وقال أصحاب الرأي (6) : «كل شيء أصابه المسلمون في دار الحرب له ثمنٌ مما في عسكر أهل الحرب، أو ممَّا في الصحارى والغيطان والغياض، فهو في الغنيمة، لا يحلُّ لرجلٍ كتمه، من قبل أنه لم يقدر على أخذه إلا بالجند، ولا على   (1) انظر: «المغني» (13/123، 124) . (2) أسنده عنه سعيد بن منصور في «سننه» (2/241-242) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/511-512) . وانظر: «المدونة» (1/523- ط. دار الكتب العلمية) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/74) ، «المغني» (13/123، 124) ، «فقه الإمام مكحول» (ص 185-186) . (3) «المغني» (13/124- ط. هجر) ، «الممتع في شرح المقنع» (2/581) . وانظر: «الأوسط» (11/75) . (4) في «الأم» . كتاب سير الواقدي (باب إحلال ما يملكه العدو) (4/280) . وانظر: «الأوسط» (11/75) ، «مغني المحتاج» (4/232) . (5) كذا في الأصل، وأثبتها الناسخ: «للبدام» بالدال المهملة. وكتب في الهامش ما نصُّه: «للبدام، ولعلها: للبرام ... جمع برمة» . قلت: وهو الصواب. (6) «مختصر الطحاوي» (ص 283) ، «تحفة الفقهاء» (3/300) ، «اللباب» (4/136) . وانظر: «الأوسط» (11/75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 مبلغه حيث بلغ؛ إلا بجماعة أصحابه» . قلت: فقد عاد الخلاف فيما يوجد بأرض العدو مما لايملكه أحدٌ منهم منحصراً في ثلاثة أقوال: إباحة ذلك مطلقاً، على ما ذهب إليه الشافعي، ومنع ذلك مطلقاً، إلا أن يُجعل في الغنائم، على ما ذهب إليه أصحاب الرأي، والتفرقة بين ما لَهُ من ذلك ثمنٌ، وما لا ثمن له، فيباح ما لا خطر له، ويمنع ما له خَطَرٌ، وإليه ذهب: مالكٌ، وأحمدُ بن حنبل، وغيرهم ممن تقدم ذكره. فأمَّا مستند من منع مطلقاً، فقد أفصحوا بذلك، حيث رأوا أن شيئاً من ذلك لم يقدر عليه إلا بالجيش، فهم شركاؤه، وأما مُستند من أباح ذلك مطلقاً، فإنه لما لم يُضَفْ إلى ملك مالكٍ؛ استحقَّه واجده، كما يكون ذلك في أرض الإسلام، وأوضح من هذا أنه مالٌ: لم يَجْرِ (1) عليه مُلك الكفار، فلم يتناوله حكم الاغتنام، وهذا راجح. وأما التفرقة بين ما لَهُ ثمنٌ من ذلك، وما لا ثمن له؛ فاستحسان. * مسألة: اختلف فيما عجز الجيش عن حمله من المغانم؛ فطرحه الإمام، أو أراد إحراقه، فأخذه رجلٌ من الجيش. فرُوي عن مالكٍ في مثل ذلك أنه لمن أخذه دون الجيش، ولا خُمس فيه، ونحوه قال الأوزاعي. وقال أشهب: لا يكون لمن أخذه، وهو فيه كرجلٍ من الجيش (2) .   (1) كذا في الأصل، وأثبتها الناسخ: يُجْبَر. وكتب في الهامش: «كذا، ولعلها: لم يَجِدْ» . قلت: والمثبت هو الصواب. (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/213-214) ، وفيه: «قال محمد بن الموَّاز: وقول أشهب فيما أظن فيما لو تركت السرية مَن ما لَوْ رجعت إليه لحملوه ما داموا بأرض العدو. فأما ما تركوه عند قفولهم مما يُؤَيَّس من الرجعة فيه، فهو لمن أخذه ولا يُخمس، وهو قول مالك» ، ومذهب الأوزاعي في «الأوسط» (11/82) لابن المنذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قال ابن المنذر (1) : «كان الليث بن سعد يقول: «من ترك دابة قامت عليه بمضيعةٍ؛ لا تأكل ولا تشرب، فهي لمن أخذها، إلا أن يكون تركها وهو يريد أن يرجع إليها، فيرجع مكانه فهي له» . وقال الحسن بن صالح -في الرجل يأكل التمرة ويرمي بالنوى-: «إنَّ النوى لمن أخذه، وكذلك كل شيء سوى النَّوى خلَّى عنه وتركه وأباحه للناس من دابةٍ، أو غير ذلك، فإن أخذه إنسانٌ، فليس لربِّ المال أن يرجع فيه» . وقاله الشعبي -فيمن قامت عليه دابته فتركها-: «هي لمن أحياها» ، قيل: عمَّن هذا يا أبا عمرو؟ فقال: «إن شئت عددتُ لك كذا وكذا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (2) .   (1) في «الأوسط» (11/81) ، وكل الذي بعده من كلام ابن المنذر، إلى قول المصنف: «قلت ... . (2) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/198) بسنده إلى عبيد الله بن حميد الحميري، قال: سمعت الشعبي، فذكره. فقوله: «قيل» القائل هو: عبيد الله. لكن قال البيهقي: «هذا حديث مختلف في رفعه، وهو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منقطع، وكل واحدٍ أحقُّ بماله، حتى يجعله لغيره، والله أعلم» . ووافقه الذهبي في «مهذب السنن الكبرى» . وتعقب التركماني في «الجوهر النقي» كلام البيهقي، فقال: «قلت: قد قدّمنا في باب: فضل المحدث، أن مثل هذا ليس بمنقطع، بل هو موصول، وإن الصحابة كلهم عدول، وقد ذكرنا في ذلك الباب من كلام البيهقي ما يدل على ذلك» . وقد أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (6/198) ، وأبو داود في «سننه» (رقم 3524) بإسناد حسن -ومن طريقه البيهقي (6/198) -، وابن المنذر في «الأوسط» (11/83) عن عبيد الله بن حميد ابن عبد الرحمن الحميري، عن الشعبي حدثه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وجدَ دابةً، قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيَّبوها، فأخذها، فأحياها، فهي له» . قال عبيد الله: فقلتُ: عمَّن؟ قال: عن غير واحدٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج أبو داود -أيضاً- (برقم 3525) ومن طريقه البيهقي (6/198) نحوه مرفوعاً. والحديث حسن -كما قال شيخنا الألباني رحمه الله-. انظر: «صحيح أبي داود» . وأورد ابن حزم في «المحلّى» (8/208) عدة آثار عن الصحابة في أجرة من يردّ عبداً آبقاً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وقال مالك -في القوم في البحر يلقون بعض متاعهم خشية الغرق فيأخذه غيرهم، أو الدابة تقوم على الرجل فيتركها بالفلاة، فيأخذها بعض من مرَّ بها فيصلحها، ثم يأتي صاحبها فيريد أخذها-: «إنَّ ذلك يردُّ إلى صاحبه، فإن كان أنفق عليه شيئاً أخذ منه» (1) . فَفَرَّق مالكٌ بين هذا وبين ما يلقيه صاحب المقاسم. وفي مذهب الشافعي: يأخذه صاحبه، ولا شيء للذي أنفق عليه؛ لأنه متطوع لم يؤمر بذلك (2) . وقال الليث: ليس لمن ترك ذلك من أهل المركب، ولا صاحب الدابة شيء؛ لأنهم طرحوه على وجه الإياس منه (3) . وفرَّق أحمد بن حنبل، فقال في الدابة: هي لمن أحياها، وفي المتاع يلقيه الرجل فيأخذه آخر: يعطى كراءه، ويُردُّ على صاحبه» (4) . قلت: وجه ما ذهب إليه مالك، في أن جميع ذلك لصاحبه: هو أن ملكه على ذلك ثابت بالشرع، فلا يذهب إلا بمزيل شرعيٍّ، وليس تركه ذلك لغير مالكٍ سوَّغه   = لسيده، ثم قال: «كل ذلك لا يصح» . وقال: «وأمَّا التابعون؛ فصحَّ عن شريح وزياد ... ورُوي هذا عن الشعبي، وبه يقول إسحاق بن راهويه ... وصحَّ عن عمر بن عبد العزيز» . ومذهب الشعبي عند أبي إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 118) . (1) انظر: «النوادر والزيادات» (10/480-481، 483) . (2) انظر: «روضة الطالبين» (5/403) ، «البيان» للعمراني (7/540، 541) . (3) ووافقه ابن وهب في الدابة، ومذهب الليث في «المغني» (6/400) ، «المحلّى» (7/ 480 مسألة رقم 931) ، «فقه الإمام الليث بن سعد» (ص 278) . (4) إلى هنا انتهى كلام ابن المنذر في «الأوسط» (11/81-82) . قال في «المغني» (6/400 رقم 4554- ط. دار الفكر) : «وله أخذ العبد والمتاع ليخلِّصه لصاحبه، وله أجر مثله في تخليص المتاع، نُصَّ عليه، وكذلك في العبد على قياسه» . وقد ذكر المسألة بتفصيل بديع: ابن رجب في «تقرير القواعد» (2/69-70- بتحقيقي) فارجع إليه. ووافق أحمد في هذا التفريق: إسحاق بن راهويه، واحتج بما روي عن الشعبي -وقد مضى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 إياه بمزيلٍ عنه ملكه بحال، فمن أخذه بَعدُ، فإنما أخذه على ملك الأول، فوجب أن يرد عليه. ووجه تفريق مالك بين ما تركه الرجل من ماله وبين ما طرحه الإمام من المغانم عجزاً عن حمله، حيث رأى ذلك لمن أخذه: أن ملك الجيش لما غنموه لم يتقرَّر تقرر الأملاك المُتعيّنة بأيدي أربابها، فلم يلزم فيها مثل ذلك. ووجه ما ذهب إليه الليث، والشعبي، وحكى مثله عن بعض الصحابة في إباحة ذلك لمن أخذه وأصلحه، أنَّ مالكه حين تركه يائساً منه فقد أباحه لكل من أخذه، فإذا حازه إنسان، فقد خرج عن ملك صاحبه بإباحته إياه، وقبض الثاني له. وأما تَفْرِقةُ من فرَّق بين الدابة والمتاع، فهو غير خارجٍ عن هذا الأصل، إلا أنه غلَّب في تارك الدابة حين يئس منها، أن ذلك لايكون إلا تخلِّياً عنها وإباحةً لمن شاء أخذها؛ لأن بقاءها دون قيٍّم عليها لا يكون معه حياتها، بخلاف المتاع وشبهه، قد يبقى المدة حتى يرجع إليه صاحبه، فلم يكن في تخليته إياه دليل على يَأْسِه منه، وإباحته لمن أخذه. وأما اختلاف مالكٍ والشافعي في النفقة: هل يرجع بها على صاحب الدابة والسلعة، أو لا؟ فكلاهما ينتزع من قوله -تعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، فمن رأى أنه لا رجوع له بما أنفق، قال: لأنه أنفق ماله متطوعاً، فلم يكن له الرجوع على غيره، وهو لم يأمره، ولا التزمه له؛ لأنه أكل مالٍ بالباطل، ومن رأى له الرجوع بما أنفق قال: لأن إنفاقه لم يكن تطوعاً محضاً، لكن بشرط أن يتم له الملك، فلما لم يتم له ذلك، وحَصَلَ للآخر انتفاعٌ بما أنفق، كان لازماً له الغرم، وإلا فهو أكل مالٍ بالباطل. * مسألة: إذا غلب الكفار على شيء من أموال المسلمين، ثم غنمه المسلمون في جملة أموال الكفار، ففي ذلك خلاف بين أهل العلم يرجع إلى ثلاثة أقوال: قول: إنه مِلْكٌ لصاحبه كما كان، يأخذه متى وجده، قبل القسم وبعده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 تداولته الأملاك، أو لم تتداوله؛ كالحال في المغصوب بين المسلمين ولا فرق، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأهل الظاهر (1) . ودليلهم: قول الله -تعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وغير ذلك من الأدلة التي بها يستحق المغصوبات، ويُسترجع كل مالٍ أُخذ من مالكه على غير وجه الشرع، ولا فرق بين أخذ الكفار له كذلك أو المسلمين، وأخصُّ من هذا بالمسألة ما احتجَّ به الشافعي في قصّة العضباء. خرَّج مسلم (2) ، عن عمران بن حصين قال: أُسرت امرأة من الأنصار، وأُصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رَغَا   (1) انظر: «الأم» (4/276- ط. دار الفكر) ، «روضة الطالبين» (10/293-294) ، «مختصر المزني» (273) ، «الحاوي الكبير» (18/249-250) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 235) ، «المهذب» (2/243) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (9/109) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (134-135) ، «حلية العلماء» (7/672) -وفيه: «وبه قال ربيعة» -، «المحلّى» (7/300 المسألة رقم 931) . وانظر -في قول ربيعة-: «المدونة» (1/376) . لكن على أن يدفع السلطان إلى الغانم قيمته من مال المصالح. وانظر في قول أبي ثور: «الاستذكار» (14/125) ، «بداية المجتهد» (2/488) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 788) . وهو مرويٌّ عن أبي بكر، وعليٍّ، وعبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، -كما في «عيون المجالس» (2/695) -. وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (5/193-194) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (9/111-112) . ومن التابعين: عطاء وربيعة. انظر: «رؤوس المسائل» لابن القصَّار (52) . ويُروى عن عليٍّ -رضي الله عنه- خلاف هذا القول -كما سيأتي-. وهو القول الثاني الذي يذكره المصنف بعدُ. (2) في «صحيحه» في كتاب النذر (باب لا وفاء في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد) (8) (1641) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فتتركه، حتى تنتهي إلى العضباء، فلم تَرغُ -قال: وهي ناقةٌ مُنوَّقة- (1) فقعدت في عجزها، ثم زجرتها، فانطلقت، ونَذِرُوا بها فطلبوها، فأعجزتهم، قال: ونذرت لله: إن نجَّاها الله عليها لتنحرنَّها، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العَضباء: ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنها نذرت إن نجَّاها الله عليها لتنحرنَّها، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فقال: «سبحان الله! بئس ما جَزَتْها! نذرت لله إن نجَّاها الله عليها لتنحرنَّها؟!، لا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا فيما لا يملك» . قال: فهذا دليل على أن أهل الحرب لا يملكون علينا بالغَلبة، ولا بغيرها، ولو ملكوها لكانت المرأة قد مَلَكتها كسائر أموالهم، وكان يصحُّ نذرها. وفي البخاري (2) ، عن ابن عمر قال: ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرُدَّ عليه في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبَق عبدٌ له، فلحق بالروم، فظهر عليه المسلمون، فردَّه عليه خالد بن الوليد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقول ثانٍ: إن ما حازه العدو من ذلك فقد ملكوه، فإذا استولى عليه   (1) منوَّقة: أي: ذلول مُجرَّسة. أو: هي المدرَّبة. كما في بعض روايات الحديث. (2) علَّقه في «صحيحه» . في كتاب الجهاد والسير (باب إذا غنم المشركون مال المسلم، ثم وجده المسلم) (رقم 3067) . ووصله ابن أبي شيبة (12/445) ، وعبد الرزاق (9352، 9353) في «مصنفيهما» ، وسعيد بن منصور (2797) ، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 119، 120) ، وأبو داود (2698، 2699) ، وابن ماجه (2847) في «سننيهما» ، وابن الجارود في «المنتقى» (1068) ، وابن حبان في «صحيحه» (4846- «الإحسان» ) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/264) ، والبيهقي (9/110-111) في «الكبرى» ، والبغوي في «شرح السنة» (2734) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/124 رقم 19669) عن ابن عمر، بنحوه. ووصله البخاري في «صحيحه» (3068، 3069) ، ولكنه جعله في زمن أبي بكر، وليس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا أخرجه الإسماعيلي، وفيه -أيضاً- أن الرادَّ للفرس هو خالد بن الوليد. وانظر: «فتح الباري» (6/126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 المسلمون؛ كان غنيمة لمن استولى عليه، كسائر أموالهم، ولا حقَّ في ذلك لصاحبه بحال؛ قاله الزهري (1) ، ورُوي مثله عن علي (2) . وقولٌ ثالث: يُفرَّق فيه بين إدراك صاحبه إيَّاه قبل القسم أو بعده؛ قال مالك، والليث، وأحمد بن حنبل: يُردُّ ذلك إلى صاحبه قبل القسم بغير ثمن، ويُخيَّر بعد القسم فيه بالغنيمة (3) . وكذلك قال أبو حنيفة (4) فيما صار إلى الكفار   (1) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (5/193 رقم 9348) ، «الاستذكار» (14/131) . وحكي ذلك عن عمرو بن دينار. انظر: «السير» (رقم 122) للفزاري، «المغني» (8/430) ، «البناية» (5/757) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/425) ، «عمدة القاري» (15/2-3) . (2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/194 رقم 9355) ، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 134) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/112) من طريق قتادة، عن علي -رضي الله عنه-. وقال البيهقي: «قتادة عن علي -رضي الله عنه-: منقطع» . وسكت عنه الذهبي في «تهذيب السنن» ، وناقش البيهقيَّ فيه: ابنُ التركمانيِّ في «الجوهر النقي» (11/112) أنه مرويٌ عن علي من ثلاثة أوجه يقوي بعضها بعضاً، والله أعلم. وانظر: «المحلّى» (7/300) . (3) انظر: «المدونة» (1/375) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/424- بتحقيقي) ، «التلقين» (72- ط. مطبعة فضالة- وزارة أوقاف المغرب) ، «الذخيرة» (3/434) ، «شرح الزرقاني» (3/ 133-134) ، «المعونة» (1/608) ، «جامع الأمهات» (252) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/474) ، «المنتقى» (3/185-186) ، «تهذيب المسالك» لأبي الحجاج الفندلاوي المالكي (3/600) ، «القوانين الفقهية» (ص 149) ، «فتاوى البرزلي» (2/22، 24) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/188) ، «فقه الإمام الليث بن سعد» (ص 278- 279) . وبه قال النخعي، وسفيان، والثوري، والأوزاعي. انظر: «عيون المجالس» (2/693) ، «رؤوس المسائل» لابن القصَّار (51-52) . ولكن عند الحنابلة أنَّ لهم بعد القسم فيه روايتان: الأولى: إن صاحبه أحقُّ به بالثمن، والثانية: لا حَقَّ لصاحبه بعد القسمة فيه. والأولى هي المذهب عندهم. انظر: «المقنع» لابن قدامة (1/501) ، «المغني» (13/121-122) ، «الواضح» (2/267) ، «المبدع» (3/354-355) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/559) ، «مسائل أحمد» (1/205-208- رواية الكوسج، 2/453 و471- رواية صالح، 243- رواية أبي داود، 2/123-124- رواية ابن هانئ) ، «الإنصاف» (4/157) ، «المقنع» لابن البنا (3/1176-1177) ، «شرح الزركشي» (6/ 508-509) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 بغَلَبة، وفرَّق بينه وبين ما صار إليهم بغير غلبة: كالعبد يأبق إليهم، ونحو ذلك، فقال في هذا كقول الشافعي: هو لصاحبه قبل القسم وبعده بغير شيءٍ. والأظهر قول الشافعي فيما حازوه: أن جميعه لمالكه على الإطلاق، يؤيده الكتاب والسنة والنَّظر (1) .   = ... مع أن العكبريَّ -من الحنابلة- في كتابه «رؤوس المسائل الخلافية» (5/716) ذكر هذه المسألة، فقال: «وإن جاؤوا بعد القسمة؛ لم يكن لهم أخذها بحال» . قلت: فلعلّه يعني: لم يكن لهم أخذها بغير شيء، كما هو الحال قبل القسمة. والله أعلم. واستدل المالكية على أنه قَبْلَ القسم لمالكه بغير عوض، ولا يكون له بعد القسم إلا بالثمن: بحديث ابن عباس، أن رجلاً من المسلمين وجد بعيراً له في المغنم قد كان أصابه المشركون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن وجدته في المغنم فخذه، وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن» ، وبحديث ابن عمر المذكور آنفاً. فاستدلوا بحديث ابن عمر -وفي ردِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه فرسه بعد ما أخذه العدو-، على أنه -أي: الفرس- على أصل ملكه، لم يزل عنه بقسم ولا استهلاك، ولا باستلامٍ ممَّن هو في يده، وقد زالت شبهة الملك عمَّن كان في يده بعَوده إلى المغانم، فكان صاحبه أحقَّ به. وهذا ما قرره القاضي عبد الوهاب في «الإشراف» (4/426- بتحقيقي) وهو صحيح. أما تفريقهم بين ما أخذ قبل القسم، وبعده، بحديث ابن عباس المذكور؛ فالحديث أخرجه: البيهقي (9/111) من حديث ابن عباس، وابن عدي في «الكامل» (7/2642) ، والطبراني في «المعجم الأوسط» (رقم 8444) ، والدارقطني (4/114) -ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (4/302-303) - من حديث ابن عمر، وكلاهما ضعيف. وانظر: «نصب الراية» (3/434) ، «مجمع الزوائد» (6/2) ، وتعليقي على «سنن الدارقطني» (رقم 4119) . وذكروا كلاماً مفاده: أنه لما جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة، جاز أن يملكه الكافر بمثل ذلك ... . وذكروا تأويلات للحديث وتكلفات لا داعي لذكرها. انظر: «الإشراف» (4/ 426-427- بتحقيقي) . (4) انظر: «الجامع الصغير» (ص 255) ، «مختصر الطحاوي» (ص 286) ، «تحفة الفقهاء» (3/304) ، «القدوري» (ص 114) ، «الهداية» (2/443) ، «البناية» (5/753) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/466) . (1) قلت: ومذهب الشافعي هذا؛ اختاره أبو الخطاب، وقال أحمد في رواية أبي طالب: هذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = هو القياس؛ لأن الملك لا يزول بهبة أو صدقة، ولكن قال عمر: لا حق له. نقله ابن رجب في «تقرير القواعد» (3/413- بتحقيقي) . والصواب مذهب الشافعية ومن وافقهم. وهو مذهب أهل الظاهر كما في «المحلّى» (7/300 المسألة رقم 931) ، والله أعلم. ويشير المصنِّف في قوله: «يؤيده الكتاب والسنة والنظر» إلى ما أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/ رقم 9359) بسنده إلى مكحول، أن عمر بن الخطاب قال: «ما أصاب المشركون من مال المسلمين، ثم أصابه المسلمون بعد، فإن أصابه صاحبه قبل أن تجري عليه سهام المسلمين؛ فهو أحق به، وإن جرت عليه سهام المسلمين؛ فلا سبيل إليه إلا بالقيمة» . وأخرجه أبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 126) ، والدارقطني (4/114) -وقال: «مرسل» -، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/263) ، والبيهقي (9/112) ، وابن حزم (7/301) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/188) عن قبيصة بن ذؤيب، عن عمر، بنحوه، وقال: «هذا منقطع، قبيصة لم يدرك عمر» ، ثم أخرجه بعضهم بطرق أخرى عن عمر، وحكم بانقطاعها، وعزاه ابن قدامة في «المغني» لسعيد والأثرم. وحديث عمران نصٌّ في المسألة، فلو ملكها المشركون ما أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبطل نذرها، وقد بحث هذه المسألة أستاذنا فتحي الدريني في كتابه «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي» (1/ 289-291) وردها على أصولها وبينها أحسن بيان، قال -حفظه الله-: «ولخطورة هذه المسألة، وأهميتها البالغة في كل من العلاقات الدولية، والقانون الدولي العام، لا بد أن نقرر ما هو الحق فيها، مؤيداً بالأدلة، وبروح التشريع الإسلامي. إن منطق القوة لم يعهد في الشرع مزيلاً ليد محقّة، ومقرراً ليد مبطلة؛ لأنه محض بغي وعدوان، وذلك بالبداهة لا يصلح سنداً للملكية، لكونه محرماً في الشريعة تحريماً قاطعاً. ولو أقر مبدأ العدوان هذا، لانخرم أصل الحق والعدل، ولاضطرب حبل الأمن في العالم كله، وما أنزلت الشرائع، وأرسل الرسل، إلا لاجتثاث أصول العدوان، ولإقرار الحق والعدل بين البشر، لقوله -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] . وأيضاً لو كان الاستيلاء القهري بقوة السلاح من قبل الأعداء وسيلة معترفاً بها شرعاً، لامتلاكهم أموال المسلمين، واستيطان ديارهم بعد إخراجهم منها، لما وجب الجهاد -في مثل هذه الحالة- فرضاً عينياً على كل قادر على حمل السلاح رجالاً ونساءً، بالإجماع، من أجل استرداد ما استولى عليه العدو عنوة‍! والله -تعالى- يقول: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] . ونظير هذا في عصرنا الحاضر، استيلاء اليهود على الأراضي العربية، عدواناً وظلماً بعد إخراج أهلها منها. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = هذا والاستيلاء والإحراز، عهد طريقاً مكسباً للملكية الفردية في المباحات، وذلك تشجيعاً للجهد الإنساني الفردي للانتفاع بما وجد في الطبيعة من خيرات واستثمارها، وذلك معقول، لأنَّ من بذل جهداً فاجتنى مما وجد في الطبيعة من خير مباح لا مالك له، كان أولى من غيره بامتلاكه، ممن لم يبذل أدنى مشقة في هذا السبيل، وهذا أمر وراء استلاب الحقوق والثروات، واغتصاب الديار والأوطان بعد تشريد أهلها منها بقوة السلاح. وقد تضافرت نصوص القرآن الكريم على وجوب دفع العدوان قبل وقوعه بالجهاد بالأنفس والأموال، وعلى وجوب إزالته بعد الوقوع، ولم يعهد أنه سبيل لتملك الأعداء ديار المسلمين وأموالهم. قال -تعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وإذا حرم الإسلام على أهله الاعتداء، فأحرى أن يحرم عدوان غيرهم عليهم، ولا يجعله سبيلاً لامتلاك أموالهم وديارهم! وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . لا يقال إن الآية تدل على أن الله -تعالى- لن يجعل للأعداء سبيلاً على نفوس المسلمين دون أموالهم، لأنا نقول: إن كلمة {سَبِيلاً} نكرة في سياق النفي، فتعم كل سبيل سواء أكان واقعاً على نفوسهم أو أموالهم أو ديارهم. ولا يقال كذلك إن الله لم يجعل للكافرين على المسلمين حجة؛ لأن الصيغة عامة فيجب إجراؤها على العموم -كما هو الأصل- إذ لا دليل على التأويل أو التخصيص. انظر: «كشف الأسرار» (1/68 وما بعدها) ، «التوضيح» (1/131 وما بعدها) ، «أصول السرخسي» (1/236) . كذلك لا يقال إنه لو كانت أموال المسلمين باقية على ملكهم، رغم إخراجهم من ديارهم، لأطلق عليهم القرآن الكريم كلمة «أبناء السبيل» وهم من انقطعت بهم صلتهم بأموالهم لبعدهم عنها، ولم يسمهم «فقراء» فدل ذلك على أنهم فقراء حقيقة قد زالت ملكيتهم عنها، لأنا نقول: إن ابن السبيل هو «المسافر» الذي انقطعت به الطريق، ونفذ ماله، وله طماعية في الرجوع إلى بلده، لتمكنه من ذلك، وهذا مفهوم يختلف عمن أُخرج من دياره وأمواله عنوة، وليس في وسعه أن يعود إليها، لذا صح اعتباره كأنه فقير، أضف إلى ذلك أنهم قد توطنوا بالمدينة. انظر: «كشف الأسرار» (1/69) ، «حاشية الإزميري على المرآة» (2/76) . ووصفهم بكونهم فقراء مجازاً، لا يشعر بزوال ملكيتهم عن ديارهم وأموالهم، بل يفيد ثبوتها لهم، بقرينة إضافتها إليهم، ولأن في إطلاق هذه الكلمة عليهم، إثارة للتعطف الداعي إلى رعايتهم، وتدبير مصالحهم، والاهتمام بشؤونهم، تخفيفاً لوطأة الظلم عنهم، وتحقيقاً لما تقتضيه الأخوة نحوهم» . قلت: وانظر نصرة هذا الاختيار في «أحكام أهل الذمة» (1/291) ، «الزاد» (5/76) ؛ كلاهما لابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 * مسألة: إذا غلب الكفار على الحرَّة المسلمة؛ فولدت لهم الأولاد، ثم ظهر عليهم المسلمون، ففي ولدها الذين أُخذوا معها خلاف: قيل: هم على حكمها: أحرارٌ مسلمون، كِباراً كانوا أو صغاراً، ويُجبرون على الإسلام، ومن أبى منهم الإسلام كان كالمُرتدّ، يُقْتَل إن كان كبيراً، ويُنتظر به البلوغ إن كان صغيراً، يُروى ذلك عن مالك (1) ، وهو مذهب الظاهري، وعليه يجيء مذهب الشافعي (2) . ورُوي عن أشهب: أن جميع أولادها من كبير وصغير فيءٌ، وكذلك حملها منهم، فأجراهم على حُكم الأب (3) . وقولٌ ثالث: إن الصغير بمنزلتها، والكبير فيءٌ، يُروى ذلك عن ابن القاسم (4) . والأرجح ما ذهب إليه مالك، ومن قال بمثله؛ لأن الأصل الفطرةُ على الإسلام، وإنما ينتقل حكم الولد عن ذلك حتى يجوز سِباؤه واسترقاقه إذا كان بين كافِرَيْن؛ بما أحكمته السنة من ذلك، فأما أن يكون أحدهما مسلماً فلا يكون له في ذلك إلا حكم الإسلام؛ {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] ، {وَلَن   = القيم، وهو اختيار ابن حزم وابن تيمية، انظر: «الاختيارات الفقهية» (ص 312) ، «المحلى» (7/ 301) ، «الفيء والغنيمة» (161-165) ، «نصب الراية» (3/433-435) ، «فتح الباري» (6/183) . وانظر: «اختلاف العلماء» (289-290) ، «الاستذكار» (14/125-129) ، «نوادر الفقهاء» (171-172) ، «سير الأوزاعي» (7/347- آخر «الأم» ) ، «الأحكام السلطانية» (144) لأبي يعلى، «الأوسط» (11/188) . (1) وقاله ابن وهب، وابن حبيب. انظر: «النوادر والزيادات» (3/281، 282) ، «الكافي» (1/474) ، «الذخيرة» (3/439) . (2) «روضة الطالبين» (10/294) . (3) «النوادر والزيادات» (3/282) ، «الذخيرة» (3/439) -وفيه: «ومنشأ الخلاف في هذه الفروع: النظر إلى تغليب الدار، أو تغليب الإسلام، أو تغليب النسب» -، ووافقه عليه ابن الماجشون. (4) «النوادر والزيادات» (3/281) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . وهذا الاستدلال على طريقة أهل الظاهر، وهو صحيح. فإذا كانت المرأة التي غلب عليها الكفار ذِمِّية رُدت إلى ذمتها، وكان ولدها فيئاً؛ لأنه بين كافِرَيْن، هذا هو الأظهر، وهو قول مالك (1) ، وفيه -أيضاً- اختلاف. فإن كانت أَمَة، فهي وبنوها لسيدها، لأنه استحقاق، هذا هو الأرجح، وقاله ابن القاسم (2) ، وفيه -أيضاً- خلاف (3) . فصل: في صفة من يستحق الإسهام من الغانمين قال الله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . فلما أضاف -تعالى- الأموال المقدور عليها في الجهاد إلى الغانمين، ثم عيَّن من ذلك الخمس خاصة في مصرفه، وأقرَّ سائره على إضافته، كان كالنصِّ في أنَّ ما بقي بعد ذلك لهم، وإن لم يعيَّن بالقول؛ لأن ذلك هو نمط الكلام، كقوله -تعالى-: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء: 11] ، فأضاف الوراثة إلى الأبوين، ثم عيَّن من ذلك حظَّ الأم، فكان ذلك نصَّاً في أن الباقي للأب، وإن لم يعرض له بالتعيين. وأجمع أهل العلم على أنَّ من كان: حرّاً، ذكراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، صحيحاً؛ فإنه يستحق أن يسهم له في المغنم إذا شهد مع الناس، ولم يكن تاجراً، ولا أجيراً (4) .   (1) انظر: «الموطأ» (453) ، «الاستذكار» (14/130) ، «النوادر والزيادات» (3/281) ، «الكافي» (1/474) ، «الذخيرة» (3/439) . (2) انظر: «الكافي» (1/474) ، «التفريع» (1/359) ، «النوادر والزيادات» (3/281) ، «الذخيرة» (3/439) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/194) . (3) انظر: «روضة الطالبين» (10/294) ، «الكافي» (1/474) ، «المغني» (13/122-123) . (4) انظر: «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص 136) ، «بداية المجتهد» (1/379) ، «اختلاف الفقهاء» (78) للطبري، «موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي» (2/874-875) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 واختلفوا في: العبد، والمرأة، والصبي، والذِّمي، والمجنون، والمريض، والتاجر، والأجير، على ما نذكره. فأما العبد ففيه ثلاثة أقوال: قول: إنه لا حظّ له في الغنمية من سهم ولا غيره، رُوي ذلك عن مالك، قال: «لا أعلم العبد يُعطى من الغنيمة شيئاً» (1) ، وكذلك يُروى عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، أنهما قالا: «لا يسهم للعبد، وليس له في الغنمية نصيب» (2) . وقول ثانٍ: إنه يُسهم له كالحُرِّ؛ رُوي عن الحكم بن عُتيبة، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وعمرو بن شعيب: أن العبد إذا حضر القتال أُسهم له، وإليه ذهب أهل الظاهر (3) .   (1) انظر: «المدونة» (3/33) ، «التفريع» (1/360) ، «التلقين» (1/243) ، «شرح الزرقاني» (3/130) ، «عقد الجواهر» (1/503) ، «الاستذكار» (14/112) ، «حاشية البناني على شرح الزرقاني» (3/110) ، «النوادر والزيادات» (3/186، 187، 189) ، «عيون المجالس» (2/725) ، «بداية المجتهد» (1/392) ، «المنتقى» للباجي (3/179) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/180) . (2) أخرجه عنهما: عبد الرزاق (5/228 رقم 9453) ، وابن أبي شيبة (12/406 رقم 15055) في «مصنفيهما» ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/180) من طريقين عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر. قال الحجاج: وأخبرني عطاء، عن ابن عباس، مثله. وأخرجه ابن المنذر (11/180) عن الحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، مثله. (3) مذهب الحسن البصري. رواه عنه ابن أبي شيبة (12/407 رقم 15057 و15058) من طريق أشعث عنه. ومذهب إبراهيم النخعي. رواه عنه -أيضاً- ابن أبي شيبة (12/407 رقم 15059) من طريق حماد عنه، وسعيد بن منصور في «سننه» (2/305 رقم 2781) من طريق مغيرة عنه. ومذهب عمرو بن شعيب. رواه عنه عبد الرزاق (5/226 رقم 9447) عن ابن جريج قال: قال لنا عمرو بن شعيب: لا سهم لعبدٍ مع المسلمين. وفيه (5/227 رقم 9448) عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: بلغنا أنه يقال: لا يُلحق عبدٌ في ديوان. ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/181) . فمذهب عمرو بن شعيب -كما في ظاهر كلامه- أنه لا يسهم له، لم ينفِ أنه يرضخُ له، لذا وضع ابن المنذر كلامه مع من قال: أنه لا يسهم للعبد، ولكن يرضخ له -كما في القول الثالث-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وقول ثالث: إنه لا يُسهم للعبد ولكن يُرضخ (1) له، وإليه ذهب الجمهور؛ رُوي ذلك عن الشافعي، وأبي حنيفة، وأصحابهما، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق (2) . فمستند من لم ير له حقّاً في الغنيمة من سهمٍ، ولا من غيره: حَملُ الخطاب بالجهاد وما يتعلق بذلك من الغنائم وسائر الأحكام: على أنَّ ذلك مختصٌّ بالأحرار، لا مدخل في شيءٍ منه للعبيد، فلم يستحقوا معهم في ذلك شيئاً. ودليل من أسهم لهم كالأحرار: حمل الخطاب في ذلك كلِّه عامّاً في   = ونقل عنه وعن سعيد بن المسيب قالا: ليس للعبد من المغنم شيء. وانظر: «المحلَّى» (7/332 المسألة رقم 952) . وهذا القول هو مذهب الحسن بن صالح بن حيي. كما نقله عنه الجصاص في: «مختصر اختلاف العلماء» (3/431) . وذكر جميع مذاهب المذكورين عند المصنف: ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/112) . (1) الرضخ، هو: العطاء من غير سهم مقدَّر. (2) قال الإمام الترمذي في «جامعه» في كتاب السير (باب هل يسهم للعبد؟) تحت الحديث رقم (1557) قال: «والعمل على هذا عند بعض أهل العلم: لا يسهم للمملوك، ولكن يُرضخ له بشيء، وهو قول الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق» . وهو مذهب: الليث بن سعد، والأوزاعي. انظر: «سير الأوزاعي» (7/342-343- «الأم» ) ، «الأوسط» (11/181) ، «الاستذكار» (14/ 110، 112) -وحكى مذهب المذكورين جميعاً-، «النوادر والزيادات» (3/186) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/441-444) ، «موسوعة فقه إبراهيم النخعي» (2/542) . وانظر في مذهب الحنفية: «تحفة الفقهاء» (3/300) ، «الهداية» (2/439) ، «البناية» (5/731) ، «اللباب» (4/132) ، «المبسوط» (10/17) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/431) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/174) ، «روضة الطالبين» (6/370) ، «الحاوي الكبير» (10/ 446) ، «حلية العلماء» للشاشي (7/681) ، «تكملة المجموع» (19/362) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (8/410-412) ، «الشرح الكبير» (5/563) ، «الإنصاف» (4/ 170) ، «كشاف القناع» (3/86) . وانظر: «نوادر الفقهاء» (ص 167-169) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/190-191) ، «القوانين الفقهية» (ص 147) ، «زاد المعاد» (3/100) ، «نيل الأوطار» (8/114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الأحرار والعبيد؛ لأن خطاب الشرع بالأمر والنهي والإثبات والنفي وسائر أسباب التكليف لا يخُصُّ حرّاً من عبدٍ، ولا ذكراً من أنثى، إلا ما خرج من ذلك بدليل؛ فالمرأة ممن خرج -بدليل السنة الصحيحة والإجماع- من الخطاب بالجهاد، وبقي العبد؛ فكلُّ ما أضيف من الأحكام للمجاهدين، وأثبت لهم من الغنائم، دخل فيها العبد إذا حضر الجهاد. وحُجَّة من لم يُسْهِم للعبد، ورأى أن يُرضخ له: ما خرَّجه مسلم (1) فيما كتب به ابن عباس إلى نجدة بن عامر الخارجي، فقال: «وسألتَ عن المرأة والعبد، هل كان لهما سهمٌ معلومٌ إذا حضروا البأس؟! وإنهم لم يكن لهم سهمٌ معلوم، إلا أن يُحذيا من غنائم القوم» . وفي الترمذي (2) ، عن عُمير مولى آبي اللحم قال: شهدت خيبر مع ساداتي،   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب النساء الغازيات يُرضخ لهن، ولا يُسهم، والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب) (140) (1812) . (2) في «جامعه» في كتاب السير (باب هل يُسهم للعبد) (رقم 1557) . وأخرجه النسائي في «الكبرى» (7535) ، وأحمد (5/223) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (5297) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/182) ، والحاكم (1/327) ، والبيهقي (9/31) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/284) . ولم يذكر: الطحاوي، والبيهقي، وابن الأثير، وابن المنذر: قصة الرقية. وأخرجه أبو داود (2730) ، وأبو عوانة في «مسنده» -كما في «إتحاف المهرة» (12/530) -، والبيهقي (9/53) من طريق أحمد بن حنبل، به. وقال أبو دواد بإثره: معناه: أنه لم يسهم له. وأخرجه الحاكم (2/131) من طريق الإمام أحمد. غير أنه ذكر (حُنيناً) بدل (خيبر) . وأخرجه الطيالسي في «مسنده» (1215) ، وعبد الرزاق (9454) ، وأبو عبيد في «الأموال» (882) ، وابن سعد في «طبقاته» (2/114) ، وابن أبي شيبة (12/406 و 14/466) ، وحميد بن زنجويه في «الأموال» (889 و1285) ، والدارمي (2475) ، وابن ماجه (2855) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2671) ، وابن الجارود في «المنتقى» (1087) ، وأبو عوانة في «مسنده» -كما في «إتحاف المهرة» (12/530) -، والطحاوي في «المشكل» (5294 و5295) ، وابن حبان (4831) ، والطبراني في «الكبير» (17 رقم 131، 132) ، والبيهقي (9/31) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/112 رقم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فكلَّموا فيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلَّموه أني مملوك، فأمر بي فقُلِّدت السَّيف، فإذا أنا أجرُّه، فأمر لي بشيء من خُرْثيِّ المتاع، وعرضت عليه رقية كنت أرقي بها المجانين، فأمرني بطرح بعضها وحبس بعضها. قال فيه: حسن صحيح. قوله: الخُرْثيُّ: هو أردأ المتاع وأهونه. فصلٌ وأما المرأة ففي حكمها -أيضاً- ثلاثة أقوال: قول: إنه لا شيء لها من الغنيمة بإسهام ولا رضخٍ. قال ابن وهب: سألت مالكاً عن النساء: هل يُحذين من الغنائم في الغزو؟ قال: ما علمت ذلك (1) . ومستند هذا القول مثل ما ذكرنا في منع العبد من الغنمية: أنه صنف لا مدخل له في الخطاب بالغزو، فلم يكن له في الغنيمة حظٌّ. وقول ثانٍ: أن يُسهم للنساء، قاله الأوزاعي، وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للنساء بخيبر، قال الأوزاعي: «وأخذ بذلك المسلمون عندنا» (2) . وبذلك قال ابن   = 19621) من طرق عن محمد بن زيد بن المهاجر، به. ولم يذكر الدارمي قوله: فأخبر أني مملوك ... إلخ. وذكر ابن حبان (حُنيناً) بدل (خيبر) . * فائدة: قوله: «فإذا أنا أجرّه» بتشديد الراء، أي: أجرُّ السيف على الأرض من قِصر قامتي لصغر سني، أو هو كناية عن كونه لا يحسن أن يتقلَّد السيف، ولم يكن من أهله. «من خُرثي المتاع» بضم الخاء المعجمة، وسكون الراء المهملة، وكسر المثلثة، وتشديد الياء: أثاث البيت، أو: أراد المتاع والغنائم. قال البغوي في «شرح السنة» (11/104) : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: أن العبيد، والصبيان، والنسوان، إذا حضروا القتال يُرضخ لهم، ولا يُسهم لهم. (1) انظر: «المدونة» (2/33) ، «النوادر والزيادات» (3/186، 187) ، «الاستذكار» (14/ 285) ، «أصول الفتيا» (430) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/504) ، «الذخيرة» (3/425) ، «الفواكه الدواني» (1/418) . (2) ذكره عنه الترمذي في «جامعه» في كتاب السير (باب من ما يُعطى الفيء) تحت الرقم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = (1556) . قال: قال الأوزاعي: ... فذكره. قال الترمذي: حدثنا بذلك علي بن خشرم، حدثنا عيسى ابن يونس عن الأوزاعي هذا. وذكره ابن المنذر في «الأوسط» (11/186) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/285) ، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (13 رقم 17821) عن الأوزاعي. وقال شيخنا الألباني عنه: صحيح الإسناد مقطوع. وانظر -أيضاً-: «مختصر اختلاف العلماء» (3/431) . والخبر الذي أشار إليه المصنف عن الأوزاعي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم للنساء يوم خيبر، هو ما أخرجه ابن أبي شيبة (12/525 و14/466) ، وأبو داود (رقم 2729) ، والنسائي في «الكبرى» (8879) ، وأحمد (5/271) ، والبيهقي (6/332-333) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/ 182 رقم 6574) ، من طرقٍ عن رافع بن سلمة، عن حشرج بن زياد الأشجعي، عن جدته أم أبيه، أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة خيبر، وأنا سادسة ستِّ نسوةٍ، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن معه نساءً، فأرسل إلينا، فقال: «ما أخرجكنَّ؟ وبأمر من خرجتنَّ؟» ، فقلنا: خرجنا نناول السهام، ونسقي الناس السويق، ومعنا ما نداوي به الجرحى، ونعزل الشعر، ونُعين به في سبيل الله. قال: «قمن فانصرفن» . فلما فتح الله عليه خيبر، أخرج لنا سهاماً كسهام الرجال. قلتُ: يا جدة، ما أخرج لكنَّ؟ قالت: تمراً. وإسناده ضعيف؛ لجهالة حشرج بن زياد، فهو مقبول كما قال الحافظ في «التقريب» ، لكن إذا توبع، وإلا؛ فلين الحديث. وذكره ابن حزم في «المحلى» (7/541 المسألة رقم 953) ، وقال: «هذا إسناد مظلم، رافع وحشرج مجهولان» . وضعَّف هذا الإسناد: الخطابي في «معالم السنن» (2/307) ، وقال: «قد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النساء، والعبيد، والصبيان؛ لا يُسهم لهم، وإنما يُرضخ لهم» (والرضخ: العطية القليلة) . إلا أن الأوزاعي قال: «يسهم لهنَّ» ، وأحسبه ذهب إلى هذا الحديث، وإسناده ضعيف لا تقوم الحجة بمثله. وقد قيل -أيضاً-: إن المرأة إذا كانت تقاتل أسهم لها، وكذلك المراهق إذا قوي على القتال أُسهم له» . قلت: وقد صح في غير حديث أن النساء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كنَّ يجاهدن مع الرجال، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى، ويحملن السلاح ليدافعن عن أنفسهن، ويرضخ لهنّ، ولا يُسهم. وجدَّة حشرج هي: أم زياد الأشجعية. وانظر: «نصب الراية» (3/421) ، «نيل الأوطار» (8/113) ، «الفيء والغنيمة ومصارفهما» لمحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الربيع (ص 128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 حبيب من أصحاب مالك؛ إلا أنه شَرطَ أن تقاتل كقتال الرجال (1) . وقول ثالث: إنه لا يُسهم للمرأة، ويُرضخ لها، وإليه ذهب الجمهور، رُوي ذلك عن الشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والليث، وقاله أهل الظاهر (2) . والدليل على ما ذهبوا إليه: ما خرَّجه مسلم (3) ، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغزو بهنَّ، فيداوين الجرحى، ويُحْذَيْنَ من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهنَّ. فصلٌ وأمَّا الصَّبيُّ؛ فذهب الجمهور إلى أنه لا يُسهم إلا لبالغ، روي ذلك عن الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل (4) ، وهو مذهب أهل الظاهر، ويُرضخ له   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/188) . قال: ألا ترى أن المرأة من العدو إذا قاتلت: قُتلت؟ (2) انظر: «تحفة الفقهاء» (3/300) ، «الهداية» (2/439) ، «اللباب» (4/132) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/431) ، «الأم» (4/174) ، «روضة الطالبين» (6/370) ، «الحاوي الكبير» (10/446) ، «حلية العلماء» (7/681) ، «المحلى» (7/333 المسألة رقم 953) . وحكاه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/285) عن المذكورين جميعاً عدا أهل الظاهر. (3) مضى قريباً طرفٌ منه، وقال عنه ابن عبد البر: «أحسن شيء في هذا الباب» . (4) انظر: «الأم» (4/170) ، «الإقناع» للماوردي (ص 175) ، «مختصر المزني» (270) ، «روضة الطالبين» (6/370) ، «الحاوي الكبير» (18/185) ، «تكملة المجموع» (19/360) ، «حلية العلماء» (7/681) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/190-191) ، «مغني المحتاج» (3/ 105) ، «مختصر الطحاوي» (286) ، «الهداية» (2/439) ، «تحفة الفقهاء» (3/300) ، «اللُّباب» (4/ 132) ، «البناية» (5/731) ، «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف (38) ، «عمدة القاري» (14/ 167) ، «المغني» (13/95-96- ط. هجر) ، «المقنع» لابن البنا (3/1172) ، «شرح الزركشي» (6/ 497) ، «المحرر» (2/176) ، «الإنصاف» (4/170-171) ، «الإفصاح» (2/279، 286) . وهو مذهب: سفيان الثوري، والليث بن سعد. انظر: «جامع الترمذي» . كتاب السير (باب من يُعطى من الفيء) ، «مختصر اختلاف العلماء» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عندهم إذا قاتل، قاله أبو محمد بن حزم (1) . ودليل ذلك: أنه غير مخاطبٍ باتفاق، فلم يكن من أهل الجهاد الذين وجبت لهم الغنائم. وحديث ابن عمر، خرَّجه مسلم (2) عنه، قال: عَرَضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً، فأجازني. وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن هذا حدٌّ ما بين الصغير والكبير، رُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز (3) ، وكتب به إلى عُمَّاله، وهو قول الشافعي وغيره (4) . وقال مالكٌ في المراهق: «إذا أطاق القتال؛ يُسهم له» (5) . وكذلك قال الأوزاعي:   = للجصاص (3/432) ، «موسوعة فقه إبراهيم النخعي» (2/542) . (1) في «المحلّى» (7/333 المسألة رقم 953) . (2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب بيان سِنِّ البلوغ) (91) (1868) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الشهادات (باب بلوغ الصبيان وشهادتهم) (رقم 2664) ، وكتاب المغازي (باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب) (رقم 4097) . (3) ومذهب عمر بن عبد العزيز؛ ذكره البخاري ومسلم في «صحيحيهما» . ففيهما: قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز -وهو يومئذٍ خليفة- فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لَحَدٌّ بين الصغير والكبير، فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنةً، ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال. (4) انظر: «الأم» (4/170، 275-276) . وهذا مذهب الحنابلة ومكحول والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد، وهو رواية عن أبي حنيفة، وانظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (9/489) ، «الإفصاح» (1/375) ، «الإنصاف» (5/320) ، «معالم السنن» (6/232) ، «تفسير القرطبي» (2/1604) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (13/12) ، «المغني» (6/597) ، «بدائع الصنائع» (7/171) ، «فتح الباري» (5/277) ، «السيل الجرار» (1/155) . والمسألة مبحوثة بتفصيل وتدليل، مع ذكر سائر الأقوال في «التعريف بعلامات بلوغ التكليف» (ص 31-69) . (5) انظر: «المدونة» (3/34) . بابٌ في سهمان النساء والتجار والعبيد، «النوادر والزيادات» (3/ 187) ، «التفريع» (1/360) ، «الكافي» (1/475) ، «المعونة» (1/614) ، «التلقين» (1/243) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 يُسهم لغير البالغ؛ إذا حضر القتال (1) . فصلٌ وأما الذِّمي، فلا يصح أن يُسهم له؛ لأن الإسلام شرط في استحقاق الغنيمة عند الجميع إلا من شذَّ. ذكر الترمذي أن بعض أهل العلم رأى أن يُسهم للذمي إذا شهد القتال مع المسلمين، وروى حديثاً عن الزهري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم لقومٍ من اليهود قاتلوا معه (2) .   = «الرسالة» (ص 190) ، «عقد الجواهر» (1/504) ، «أسهل المدارك» (2/12) ، «عيون المجالس» (2/725) ، «الذخيرة» (3/425) . واستدل المالكية بحديث سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عليه صبيان المدينة من الأنصار، فيلحق من أدرك منهم، فعرضت عليه عاماً، فألحق غلاماً وردَّني، فقلت: يا رسول الله! ألحقته ورددتني؟! ولو صارعني؛ لصرعته، قال: فصارعني، فصرعته، فألحقني» . والحديث: أخرجه الطبراني في «الكبير» (6749) ، والحاكم في «المستدرك» (2/60) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/22 و 10/18) ، بسندٍ حسنٍ؛ عن جعفر بن عبد الحكم الأنصاري مرسلاً. وانظر: «مجمع الزوائد» (5/319) ، «المسارعة إلى المصارعة» للسيوطي (ص 80-81- بتحقيقي) ، وعزاه لابن سعد. وقد اعتنى القاضي عبد الوهاب في «الإشراف» بأحكام المراهق على وجه تكاد لا تظفر بها عند غيره، وهي تحتاج إلى جمع مفرد، والله الموفق. وانظر: «المحلى» (7/332-333) ، «نوادر الفقهاء» (167-169) ، «نيل الأوطار» (8/144-145) . (1) انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/178) ، «الرد على سير الأوزاعي» (ص 38) ، «فقه الأوزاعي» (2/441-444) . (2) أخرجه الترمذي. كتاب السير (باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين، هل يُسهم لهم؟) (رقم 1558/م) من طريق عزرة بن ثابت، عن الزهري، به. مرسلاً. وقد تابعه: حيوة بن شريح الحضرمي، في الرواية عن الزهري. أخرجه أبو داود في «المراسيل» (رقم 282) عن القعنبي، وهنّاد، عن عبد الله بن المبارك، عنه. وتابعه: يزيد بن يزيد بن جابر. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وذكر أبو بكر بن المنذر، أنه قول الزهري، والأوزاعي، وقاله إسحاق بن راهويه، وكره أن يُستعان بهم أولاً، فإن وقع ذلك أُسهم لهم (1) . وكذلك وقع في مسائل لبعض المالكية: أنه يُسهم للذمي إذا أذن له الإمام في الغزو معه (2) . وكل ذلك لا يستقيم، ولا يثبت له دليل.   = أخرجه أبو داود -أيضاً- في «المراسيل» (رقم 281) -ومن طريقه ابن الجوزي في «التحقيق» (10/148) -. وتابعه: ابن جريج -أيضاً-. أخرجه ابن أبي شيبة (12/395) -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (9/53) - عن حفص، وعبد الرزاق (5/188 رقم 9328) في «مصنفيهما» ، كليهما عن ابن جريج، عن الزهري، به. وزاد هنا في روايته: مثل سهمان المسلمين. قال البيهقي: «إسناده ضعيف، ومنقطع» . وقال الذهبي في «التنقيح» (10/148- مع «التحقيق» ) : «مراسيل الزهري ضعيفة» . وانظر: «نصب الراية» (4/422-423) ، «ضعيف سنن الترمذي» . (1) انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/176-177) . (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/182، 188) . قلت: وقع الخلاف فيما إذا خرج الكفار مع الإمام للغزو بإذنه، هل يسهم لهم كالمسلمين؟ أو يرضخ لهم على حسب ما يراه الإمام؟ فروي عن أحمد أنه يُسهم له كالمسلم، وقال به: الأوزاعي، والزهري، وإسحاق -كما نقل المصنف ذلك عن ابن المنذر-، والثوري. وقال الجوزجاني: «هذا مذهب أهل الثغور، وأهل العلم بالصوائف والبعوث» . وروي عن أحمد رواية أخرى، وهو أنه لا سهم له، ولكن يُرضخ له بحسب ما يراه الإمام، وهو مذهب: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة. وانظر: «المغني» لابن قدامة (13/97-98) ، «الشرح الكبير» (5/565) ، «المقنع» لابن البنّا (3/1172-1173) ، «الإنصاف» (4/171-172) ، «شرح الزركشي» (6/497-498) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/759) ، «كشاف القناع» (3/87) ، «الكافي» لابن عبد البر (1/475) ، «عقد الجواهر» (1/504) ، «الرد على سير الأوزاعي» للقاضي أبي يوسف (ص 39) ، «مختصر المزني» (ص 270) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/30) ، «الإفصاح» (2/279) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 235) ، «حلية العلماء» (7/683) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أما حديث الترمذي فمنقطع لا يثبت بمثله العمل، بل لو صح لما أمكن أن تُترك له ظواهرُ القرآن، وصحيحُ السنة، وسديدُ النظر المبنيُّ على القواعد المحكمة في الشرع، وكان يكون ذلك محمولاً على الخصوص في نازلة؛ لأنه حكاية فعلٍ لا يتعدى. والدليل على صحة ذلك: أن الله -تعالى- يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ... } الآية [الأنفال: 41] ، وهذا إضافةٌ للغنيمة إلى المؤمنين بيقين، فلم يكن لغيرهم فيها حقٌّ. وقال -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} [الأنفال: 69] ، ولا مدخل هنا للكافر بحال، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحِلَّ لأحدٍ قبلي» (1) . فهذا نصٌّ في خصوصية ذلك بهذه الأمة، والحمد لله. ولما جعل الله ذلك مما فضَّل به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وخصَّه به وأمَّته، استحال أن   (1) وهو حديث صحيح مرويٌّ عن عدَّةٍ من الصحابة -مطولاً ومختصراً-، ومنه ما هو في «الصحيحين» . فقد أخرجه البخاري (335، 438، 3122) ، ومسلم (521) ، وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (523) (5) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (522) (4) من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، ولم يسق الشاهد منه. وأخرجه أحمد (1/301) ، وابن أبي شيبة في «المصنّف» (2/402 و432-433) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (803) ، والبزار (3460- كشف الأستار) ، والطبراني (11047) من طرقٍ عن ابن عباس -رضي الله عنه-. وأخرجه أحمد (4/416) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (11/433) من طرقٍ عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. وقال الهيثمي في «المجمع» (8/258) : «رواه أحمد -متصلاً ومرسلاً-، والطبراني، ورجاله رجال الصحيح» . وأخرجه أحمد (5/145، 147، 161) ، والدارمي (2470) ، وأبو داود (489) ، وابن صاعد في زوائده على «الزهد» لابن المبارك (1069) ، والحاكم (2/424) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/277) ، والبيهقي في «الدلائل» (5/473) من طرقٍ، عن أبي ذر -رضي الله عنه-. وأخرجه أحمد (2/222) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-. ولفظ حديث ابن عمرو: «وأحلت لي الغنائم كلها، وكان من قبلي يعظّمون أكلها، كانوا يحرقونها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 يشاركهم فيه غيرهم ممَّن لا يلفظ بالإسلام. فصلٌ وأمَّا المجنون، فإن كان مُطبقاً، لم يسهم له، وهو كالصبي في عدم التكليف، بل هو في هذا الباب أسوأ حالاً منه؛ لأنه لا يَتَأتَّى منه فعل الجهاد، كما قد يتأتى بعض ذلك من الصَّبيِّ إذا اشتدَّ، وكان مراهقاً، والإسهام إنما يستحقه المسهم له بفعل الجهاد: من قتالٍ، أو لزوم ساقة، أو انتصابٍ في كمين، أو حراسة أحوال المقاتلين، وما أشبه ذلك، فإذا لم تكن فيه أهلية ذلك فِعلاً ولا قصداً، فأنَّى يَستحقُّ حظّاً، فإن كان عنده من العقل ما يمكنه به القتال، فقيل: إنه يسهم له، وذلك ظاهرٌ إن كان عقله مما يُنَزَّلُ عليه التكليف، مثل أن يكون أخرق، أو أهوجَ -وهما أول مراتبِ ضعفِ العقل وعدم التثبت والرفق-، ونحو ذلك مما لا يُسقط عنه الأحكام، وأما إن كان بحيث لا يُكلَّف مثله، وهو مع ذلك يمكن أن يُفاد لبعض كفاية المقاتلين، فيغنى فيه؛ فالإسهام له إنما يكون نحواً من الإسهام للمراهق إذا أطاق القتال فقاتل مع الجيش، فمن رأى الإسهام لذلك، أمكن أن يراه لهذا، والظاهر أن لا سهم لهما، لما تقدَّم، والله أعلم (1) . فصلٌ وأمَّا المريض، فإن كان زمِناً لا يستطيع شيئاً في الحال، ولا يُرجى في المآل، ولا ينتفع منه في عمل الجهاد بأمر، فالمروي عن أصحاب مالك: أنه لا يُسهم له، وذلك كالمفلوج اليائس (2) .   (1) قال ابن شاس في «عقد الجواهر الثمينة» (1/506) -ونقله عنه القرافي في «الذخيرة» (3/425) -: «وأمّا فقد العقل؛ فإن كان مطبقاً، فلا يسهم له إذا خرج كذلك من دار الإسلام، وإن كان ذلك طارئاً عليه في دار الحرب، ففي الإسهام له خلاف» ، قال: «وإن كان يفيق، فإن كان بحيث يتأتّى منه القتال أسهم له، وإلا فلا» . (2) قال القاضي عبد الوهاب في «المعونة» (1/611) : «وإن حَضَرَ مريضاً لا يمكنه القتال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 واختلفوا في: الأعمى، والمقعد، وأقطع اليدين؛ لاختلافهما: هل يتمكن لهم نوعٌ من أنواع القتال: كإدارة الرأي إن كانوا من أهل المعرفة والدَّهاء في الحرب، وقتال المقعد راكباً، والأعمى يُناول النبلَ، ونحو ذلك، ويُكثِّرون السواد؟ فمن رأى لمثل ذلك أثراً في استحقاق الغنيمة أسهم له، ومن لم يَرَه؛ منعَ (1) . وأمَّا من كان به مرض يُرجى زواله، فله ثلاثة أحوال: إما أن يخرج مريضاً، وإما أن يمرض بعد الإدراب، وقبل حضور القتال، وإما أن يمرض بعد القتال. فأمَّا الذي يخرج مريضاً، فعند المالكية فيه خلاف: هل يُسهم له، أو لا يُسهم له؟ قال اللخْمي: أرى أن لا شيء له، إلا أن يُقْتدى برأيه، فرُبَّ رأيٍ أنفعُ من قتالٍ (2) . وكذلك اختلف فيه إذا مرض بعد الإدراب: وهو أن يُفارق أرض الإسلام، ويدخل في بلاد الكفر وحوزتهم، والقول في هذا، أنه يُسهم له: أكثر عندهم وأقرب. ولم يختلفوا أن من مرض بعد القتال يُسهم له، وإن كان مرضه قبل حوز الغنيمة، وهذا صحيح؛ لما نذكره بعدُ في (فصل: الأفعال التي يُستحق بها   = حتى انقضت (أي الحرب) ، فله سهمه» . وقال (ص 612) : ولذلك قلنا: إنَّ المريض يسهم له؛ لأنه قد شهد الوقعة، وحصل منه التكثير، وقيل في قوله -تعالى-: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران: 167] ، أي: كَثِّروا. (1) انظر: «المعونة» (1/612) ، «جامع الأمهات» (ص 250) ، «التلقين» (1/242) ، «النوادر والزيادات» (3/168) ، «الفواكه الدواني» للشيخ أحمد بن غنيم النفراوي المالكي (1/471) . (2) قال القاضي عبد الوهاب في «التلقين» (1/242) : «يسهم لمن حضر من صحيحٍ ومريضٍ، قاتل أو لم يُقاتل، قاتل في أولهما، أو بقي إلى انقضائها» . وقال في «الرسالة» : «ويسهم للمريض، وللفرس الرَّهيص -أي المريض- ... » . انظر: «الفواكه الدواني» (1/471) ، «النوادر والزيادات» (3/158، 159) . وروي عن أشهب، وابن نافع، أنه: لا يُسهم له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الإسهام) ، ذِكراً يأتي على توجيه ما مضى في هذا الضرب من الأقوال، وما يتبيَّن به في ذلك وجه الصواب إن شاء الله تعالى- (1) . فصلٌ وأما التاجر والأجير يكونان في الجيش، فاختلف أهل العلم فيهما على ثلاثة أقوال: قيل: يُسهم لهما إذا شهدا مع الناس القتال، قاتَلا، أو لم يُقاتِلا (2) . وقيل: لا (3) يُسهم لهما، قاتَلا، أو لم يُقاتِلا (4) . وقيل: إن قاتَلا، أسهمَ لهما، وإلا؛ فلا (5) .   (1) من حضر القتال، مريضاً كان، أو صحيحاً، ممن لا يقاتل، أو ممن يقاتل؛ فلم يقاتل: فلهم سهم المقاتل. وهذا قول مالك، والليث بن سعد، والشافعي. وقال سفيان الثوري: «كل من حضر القتال يُسهم له» . قاله ابن المنذر في «الأوسط» (11/168) . وانظر: «الأم» (4/164) ، «المجموع شرح المهذب» (18/142) ، «الفيء والغنيمة» (ص 139) . (2) وهذا مذهب: الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وسفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، في: التاجر؛ حضر القتال، قاتل، أو لم يقاتل. وقاله الأوزاعي كذلك، إلا القديديين، وهم: السفار، والبيطار، والحداد، ونحوهم. ذكر ذلك ابن المنذر في «الأوسط» (11/168) . وهو إحدى الروايتين عن أحمد في الأجير، كما سنذكره بعد. وانظر: «الاستذكار» (14/110) . (3) أثبتها أبو خبزة: «لم» . وكتب في الهامش: «كذا، ولعلَّ الصواب: ... يُسهم ... » ، والكلام قبلها وبعدها مطموس. (4) أي: لا يُسهم لهما إذا كانوا مشتغلين باكتسابهم. كما سينقله المصنف عن القاضي عبد الوهاب. انظر: «الرسالة» (ص 190) ، «التفريع» (1/360) ، «المعونة» (1/613) ، «الذخيرة» (3/ 429) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/506) ، «البيان والتحصيل» (2/571) ، «تفسير القرطبي» (8/16-17) . وهي رواية أخرى عن أحمد؛ كما في «المغني» (8/467) . وبه قال أشهب. وقاله ابن القصَّار في الأجير. أفاده القرطبي في «التفسير» (8/17) . (5) لأنه ممن خوطب بالجهاد، فإذا قاتل أسهم له، كغير الأجير، ولأنه ليس في كونه أجيراً أكثر من أنه عاوض على منافعه، وذلك لا يمنع السهم له إذا قاتل، كالذي يحج ومعه تجارة، أو يؤاجر نفسه للخدمة في ذلك لا يمنعه صحة الحج. انظر: «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/436- بتحقيقي) . وهو مذهب مالك، في التاجر خاصَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وقد روي عن مالكٍ في الأجير هذه الأقوال الثلاثة (1) . ولم يُختلف عنه أنه إن لم يقاتل ولم يشهد، فلا شيء له، وقول مالك في إحدى الروايات عنه: لا يُسهم للأجير والتاجر إلا أن يُقاتِلا (2) ، هو قول أبي حنيفة وأصحابه (3) . ومن قول مالك: إنه يُسهم لكلِّ من قاتل إذا كان حُرّاً (4) ، وهو قول أحمد بن حنبل (5) ،   (1) انظر تفصيل ذلك في: «النوادر والزيادات» (3/187-189) . (2) انظر: «المدونة» (1/393) ، «التفريع» (1/360) ، «الكافي» لابن عبد البر (214) . فإن كان التاجر خرج للجهاد والتجارة معاً، فينبغي أن يُسهم له إذ حضر الوقعة، سواء قاتل، أم لا. وانظر: «عيون المجالس» (2/720) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/192) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (1/192) . (3) انظر: «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف (ص 44) ، «بدائع الصنائع» (7/126) ، «الاستذكار» (14/110) . وهو قول الشافعي في التاجر؛ قال: «ويُسهم للتاجر إذا قاتل» . انظر: «مختصر المزني» (ص 270) . (4) قال مالك في «الموطأ» (ص 287-ط. دار إحياء التراث العربي) في كتاب الجهاد (باب جامع النفل في الغزو) ، قال في الأجير في الغزو: «إنه إن كان شهد القتال، وكان مع الناس عند القتال، وكان حُرّاً: فله سهمه، وإن لم يفعل ذلك: فلا سهم له، وأرى أن لا يُقسم إلا لمن شهد القتال من الأحرار» ا. هـ. كلامه -رحمه الله-. وهذا مذهب الليث بن سعد. انظر: «النوادر والزيادات» (3/188، 189) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/442) ، «الاستذكار» (14/109-110) ، «تفسير القرطبي» (8/16، 17) ، «نيل الأوطار» (7/303) ، «الفيء والغنيمة» (ص 136) . (5) هذه إحدى الروايتين عنه. انظر: «الإنصاف» (4/163-164) ، «المحرر» (2/176) . وفي رواية عنه: لا يُسهم له على كل وجه. انظر: «المغني» (8/467-469) . وبه -أي: الرواية الأخرى عن أحمد- قال أشهب، وقال ابن القصار في الأجير: لا يُسهم له وإن قاتل. أفاده القرطبي في «التفسير» ، ثم قال: «وهذا يرُدّه ... » ، وذكر حديثاً، أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب غزوة ذي قرد وغيرها) (رقم 1807) عن سلمة بن الأكوع، ضمن حديثٍ طويل، قال فيه سلمة: «كنت تبيعاً لطلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه، وأحسُّه، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي، مهاجراً إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -» ، وذكر حديثاً طويلاً جدّاً، في آخره: «ثم أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمين، سهم الفارس، وسهم الرَّاجل، فجمعهما لي جميعاً» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وقال الحسن بن حيّ: يسهم للأجير (1) . وروي مثل ذلك عن الحسن، وابن سيرين؛ في التاجر والأجير: أن يُسهم لهما إذا حضرا القتال، قاتلا، أو لم يُقاتِلا (2) . وقال الشافعي: «لو كان لرجلٍ أجيرٌ يريد الجهاد معه، فقد قيل: يُسهم له، وقيل: لا يُسهم له، إلا أن يكون قتالٌ فيقاتل، وكذلك التجَّار إن قاتلوا، قيل: يُسهم لهم، وقيل: لا يُسهم لهم» (3) . قال ابن عبد البر (4) : «جمهور العلماء يرون: أن يُسهم للتجار إذا حضروا القتال. وقال الأوزاعي، وإسحاق: لا يُسهم للعبد ولا للأجير المستأجَر على خدمة القوم» . قال ابن عبد البر (5) : «من جعل الأجير كالعبد لم يُسهِمْ له، حضر القتال أو لم يحضر، وجعل ما أخذه من الأجرة مانعاً له من الإسهام» . قال: ومن حجته ما رواه عبد الرزاق (6) ، من حديث عبد الرحمن بن عوف،   = فهذا نصٌّ في المسألة أن الأجير إذا قاتل يُسهم له من الغنيمة، كما قرره القاضي عبد الوهاب -فيما يأتي بعد- ووافقه عليه المصنِّف -وأفاده القرطبي -كما سبق بيانه-، والله الموفق. وانظر: «الأوسط» (11/169) ، «نصب الراية» (3/420) ، «نيل الأوطار» (7/202-203) ، «الفيء والغنيمة» (ص 136-138) . (1) انظر: «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/442) . (2) انظر: «الأوسط» (11/168) ، «الاستذكار» (14/110) . (3) انظر: «الأم» (4/146-ط. دار المعرفة) ، «روضة الطالبين» (7/381-382) ، «المجموع» (18/145) ، «مغني المحتاج» (3/104) ، «الاستذكار» (14/110) . (4) في «الاستذكار» (14/110، 111) . (5) المرجع السابق. (6) في «مصنفه» (5/229 رقم 9457) عن عبد العزيز بن أبي رواد، قال: أخبرني أبو سلمة الحمصي، أن عبد الرحمن بن عوف، أنه قال لرجل من فقراء المهاجرين ... الحديث. ورجاله ثقات؛ إلا أن فيه عبد العزيز بن أبي رواد، وهو صدوق عابد، ربما وهم، ورمي بالإرجاء. كما قال الحافظ في «التقريب» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أنه قال لرجلٍ من فقراء المهاجرين: اخرج معي إلى الغزو، فوعده بذلك، ثم إنَّ هذا امتنع عن الخروج حتى أرضاه بثلاثة دنانير، فلما هزموا العدو، وأصابوا المغنم، ذكر أمره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «هذه الثلاثة الدنانير حظُّه ونصيبه من غزوته؛ في أمر دنياه وآخرته» . والحديث اختصرته هنا. قال القاضي عبد الوهاب (1) : «لا يُسهم للأجراء والصُّنَّاع المتشاغلين بأكسابهم (2) ؛ لقوله -تعالى-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ   = وله شاهد من حديث يعلى ابن مُنْيَة -بمثناة من تحت- قال: آذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغزو وأنا شيخ كبير، ليس لي خادم، فالتمست أجيراً يكفيني، وأُجري له سهمه، فوجدت رجلاً، فلما دنا الرحيل أتاني، فقال: ما أدري ما السُّهمان، وما يبلغ سهمي، فسمِّ لي شيئاً، كان السهم أو لم يكن، فسمَّيت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمته أردت أن أُجري له سهمه فذكرت الدنانير، فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أمره، فقال: ... وذكر نحو حديث عبد الرحمن بن عوف. أخرجه أبو داود (رقم 2527) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/331) من حديث يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن فيروز الديلمي، والبيهقي -أيضاً- (9/29) من حديث خالد بن دُريك، كلاهما عن يعلى بن منيَّة، به. والحديث سكت عنه الذهبي في «المهذب لسنن البيهقي» في الموطن الأول، فهو صحيح عنده. وقال في الموطن الثاني في إسناد خالد بن دريك: «إن كان خالد لقي يعلى؛ فإسناده جيد» . وانظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. وقال أبو حاتم في «المراسيل» (49) : «ما أحسب خالد بن الدريك لقي يعلى بن مُنيَّة» . وأخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (رقم 2363) من طريق يحيى بن أبي عمرو، عن يعلى ابن منية، به. فسقط من إسناده عبد الله الديلمي، وهو الواسطة بين يحيى ويعلى. وذكر الهيثمي في «المجمع» (5/323) نحوه عن عوف بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعزاه للطبراني. وعلى أية حال فالحديث صحيح بمتابعاته. (1) في «الإشراف» (4/435-436- بتحقيقي) . (2) انظر: «التفريع» (1/360) ، «الرسالة» (190) ، «المعونة» (1/613) ، «الذخيرة» (3/429) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/506) ، «النوادر والزيادات» (3/187) ، «تفسير القرطبي» (8/ 16-17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] ، ففرق بين حكميهما (1) . قال: فأما إن قاتلوا فلهم سهمهم؛ لأنهم ممن خوطب بالجهاد، فإذا قاتلوا أسهم لهم كغيرهم» . هذا قول صحيح، واستدلالٌ ظاهر، وهو الأرجح، والله أعلم. * مسألة: إذا حاز أحد الأصناف الذين لا يُسهم لهم: كالعبيد، وأهل الذمة غنيمةً، فإما أن يكونوا تولوا ذلك بانفرادهم، لم يخالطهم غيرهم من أحرار المسلمين الذين يُسهم لهم، وإما أن يكون معهم من يُسهم لهم؛ فإن كانوا بانفرادهم، دفع ذلك إليهم، ولا خُمس فيما صار من ذلك لأهل الذمة (2) . وقال سفيان الثوريُّ في المشركين يخرجون بغير إذن الإمام؛ فيصيبون غنيمة: حالهم في ذلك كحال المسلمين، يعني: إن ذلك يخمس، ويكون الباقي لهم (3) .   (1) انظر لمزيد إيضاح هذا التوجيه: «تفسير القرطبي» (8/17) . (2) انظر: «المغني» (13/98- ط. هجر) . (3) انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/187) ، «المحلّى» (7/334) ، «تفسير القرطبي» (8/ 18) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 674) . وهومذهب الحنابلة، وبه قال: الأوزاعي، والزهري، وإسحاق بن راهويه. وقل الجوزجاني: هذا مذهب أهل الثغور، وأهل العلم بالصوائف والبعوث. وفي رواية عن أحمد: لا يسهم له. والمذهب الراجح عند الحنابلة أنه يسهم لهم. انظر: «المغني» (13/97- ط. هجر) ، «المقنع» (3/1172) ، «شرح المختصر» (2/552) ، «الواضح» (2/264) ، «المبدع» (3/366) ، «الإنصاف» (4/171-172) ، «شرح الزركشي» (6/497) . واستدلَّ الحنابلة بما رواه مسلم في «صحيحه» في كتاب الفضائل (باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا. وكثرةعطائه) (رقم 2313) من حديث ابن شهاب الزهري قال: ... وذكر غزوة حنين، وقال: وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ صفوان بن أمية مئة من النَّعم، ثم مئة، ثم مئة. قالوا: ولأنه من أهل القتال، فأسهم له كالمسلم، وصفوان خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، وهو على شركه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 واختلف أصحاب مالك في العبيد: هل يخمس ما يصير إليهم، أو لا؟ فقال ابن القاسم: يخمس، وقال سحنون: لا يخمس (1) ، قال: إنما ورد الخطاب بالخمس فيمن خوطب بالجهاد، وأما إن خالطهم غيرهم ممن يسهم لهم، فذلك له حالان: إحداهما: أن يكون من يُسهم له فيهم قليلاً تبعاً، ليس مثلهم، كأن يُقدر على ذلك لو انفردوا، فهذا قال فيه سحنون وغيره: تقسم الغنيمة في جميعهم، يعني: ويُخمَّس ما صار من ذلك لأهل الخطاب بالجهاد (2) . والحال الثانية: أن يكون الذين يُسهم لهم هم المُعظم، ويكون من لا يُسهم لهم تبعاً، كالجيوش يكون فيها العبيد وغيرهم، فقد مضى الكلام في حكم ذلك، وأنه لا يُسهم لهم، على ما ذهب إليه الجمهور: مالكٌ، والشافعي، وأبو حنيفة، وغيرهم، والغنيمة لأهل الجيش دونهم (3) .   = واستدلوا -أيضاً- بما روى الزهري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعان بناسٍ من اليهود في حَرْبه، فأسهم لهم. قلت: ترجم الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (3/432- ط. البجاوي) لصفوان بن أمية، وذكر أنه حَضَرَ وقعة حنين قبل أن يسلم، ثم أسلم. أما رواية الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بناسٍ من اليهود في حربه، فأسهم لهم؛ فقد رواها سعيد ابن منصور في «سننه» (2/284) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/395) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/53) ، قال البيهقي: هذا منقطع. وروى قبله بإسناده إلى الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مِقْسم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: استعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهود بني قينقاع، فرضخ لهم، ولم يسهم لهم. ثم قال: تفرد به الحسن بن عمارة، وهو متروك، ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح، وقد روينا قبل هذا كراهية الاستعانة بالمشركين. اهـ. قلت: يشير إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشرك الذي جاء -وهو على شركه- للقتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «ارجع! فلن أستعين بمشرك» . والحديث صحيح، والله أعلم. (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/199، 201) ، «البيان والتحصيل» (3/15) . (2) المراجع السابقة. (3) انظر: «المنتقى شرح الموطأ» (3/179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وقال ابن حبيب: إن كان أذن الإمام لقومٍ من أهل الذمة في غزو العدو معه: أسهم بينهم وبين المسلمين (1) . قلت: هذا لا يصلح؛ من وجهين: أحدهما: إذنه للذمِّي في الغزو معه، والثاني: الإسهام لهم مع المسلمين، وقد تقدم القول في منع ذلك كلِّه، وقيام الأدلة عليه. قال أبو الوليد الباجي (2) : أما ما أخذ على وجه السرقة والتلصص، فحكم أهل السهم وغيرهم فيه سواء، يأخذ كل واحدٍ منهم حصته، بخلاف ما أخذ على وجه المدافعة والمغالبة، فذلك لأهل الإسهام دون من شركهم. ومثل هذه التفرقة بين حال الغزو والتلصص مروي عن ابن القاسم (3) ، وذلك جنوح إلى أن حكم ما يُسرق ويُتلصص عليه غير حكم الغنائم، وأنه يختصُّ به من أخذه، كما يقوله الشافعية وغيرهم، وكان يلزم على ذلك أن لا يكون فيه خمس، وهو كله عند المالكية يُخمس؛ إن كان أهل السرقة والتلصص الذين حازوه ممن يسهم لهم، لم يختلفوا في ذلك، وفي أنه لا يُخمس إن كانوا من أهل الذمة، والخلاف عندهم إن كانوا عبيداً -كما تقدم-. قال اللخمي في الصبي والمرأة: «يلزم على قول سحنون أنه لا يُخمس ما حصل لهم في ذلك -أيضاً-؛ لأنه رأى التخميس إنما خوطب به من خوطب بالجهاد» . فصلٌ: في بيان ما يُستحق به الإسهام من العمل قال الله -تعالى-: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 69] . فكان الأصل في استحقاق الغنيمة، ما به تُحاز وتُغنم، وهو: القتال، إلا أن القتال يكون من لواحقه   (1) «النوادر والزيادات» (3/200) ، «المنتقى شرح موطأ مالك» (3/179) . (2) في «المنتقى شرح موطأ مالك» (3/179) . (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وضروراته أعمالٌ يتقسمها (1) الجيش، كلها ترجع إلى إنجادهم، وإعانتهم، وتدبير أحوالهم، وتفرغهم للإقبال على القتال؛ فمن ذلك الوقوف في الساقة (2) رِدءاً لهم، ومن ذلك الخروج في الكمين؛ لانتهاز الفرصة، والدفع في موضع الحاجة، ومن ذلك التقدم في السرايا والمسالح (3) أمامهم وخلفهم، ومن ذلك حراستهم في رحالهم وأحوالهم، والنظر فيما يصلحهم من العَلُوفة وغيرها، مما فيه معونتهم على ما هم بصدده، فكان جميع هؤلاء شركاء في المغنم؛ لأنه بذلك تمَّ أمرهم. قال القاضي عبد الوهاب (4) : «من شهد القتال فله سهمه، قاتل أو لم يقاتل؛ لأنه قد حضر سبب الغنمية وهو القتال؛ ولأنه ليس كل الجيش يقاتل؛ لأن ذلك خلاف مصلحة الحرب؛ لأنه يحتاج إلى أن يكون بعضهم في الرِّدء، وبعضهم يحفظون السواد، وبعضهم في العَلُوفة، على حسب ما يحتاج إليه في الحرب. فلو قلنا: إنهم يقاتلون كلهم لم يستمر؛ لما بينَّاه، ولو قلنا: إنه لا يستحق إلا من قاتل، لكان كل الجيش يقاتل، فيبطل التدبير. قال: وقيل في قوله -تعالى-: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران: 167] ، أي: كَثِّروا» . قلت: فإذا تقرَّر ذلك، فمن خرج في الجيش برسم الجهاد، فكان من فريق من ذكرنا للتعاون على الحرب، فلا خلاف أعلمه في أنه يسهم له، إذا كان في نفسه على الصفات التي قدَّمنا، حسبما مضى في بعضها من الخلاف، فإن صدّه عن   (1) كذا في الأصل والمنسوخ، ولعلَّ صوابها: «يقتسمها» . (2) الساقة، ساقة الجيش: مُؤَخَّرُهُ. وفي الحديث: « ... إن كان في الساقة كان فيها ... » . وهي جمع سائق، وهم الذين يسوقون جيش الغزاة، ويكونون من ورائه يحفظونه، ومنه: ساقة الحاجّ. انظر: «لسان العرب» (10/151-ط. دار الفكر) . (3) المسالح: مواضع المخافة. والمَسْلحة: قوم ذو سلاح، أو: قوم في عُدَّةٍ بموضع رصدٍ قد وُكِّلوا به بإزاء ثَغْر، واحدهم: مَسْلحيٌّ، والجمع: المسالح. انظر: «لسان العرب» (2/487) . (4) في «المعونة» (1/612) . وانظر: «التلقين» (1/242) ، «الكافي» (1/475) . وانظر في تفسير الآية: «تفسير الطبري» (7/380) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فعل شيءٍ مما ذكرنا صادٌّ، مثل أن يمرض أو يموت (1) أو يضلّ في طريقه عن الوصول ويبدع به، وما أشبه ذلك من الأعذار التي لا يكون له فيها اختيار، ففي ذلك خلافٌ، نذكر منه -إن شاء الله- ما تمكن (2) . وأما من خرج في الجيش لعملٍ يخصُّه؛ من تجارةٍ أو إجارة، وغير ذلك مما لا يكون سبب شخوصه فيه الغزو، لكن طلبُ كسبٍ، كما كان يفعل في غير سفر الغزو، فلا شيء لواحدٍ من هؤلاء -كما تقدم- إلا أن يحضروا القتال مباشرة مع المقاتلين أو شهوداً فيه، وإن لم يقاتلوا، ففيه من الخلاف: هل يُسهم لهم أو لا؟ ما تقدم ذكره في فصل التجار والأُجَراء. فأما اختلافهم فيمن خرج غازياً، فاعترضه عن تمام ما نوى من ذلك عارضٌ لا اختيار له فيه، فنذكر -كما قلنا- مما نقل عنهم في ذلك ما فيه غُنية، ثم نُنَبِّه على ما يظهر لنا أنه سبب الخلاف، ونشير إلى توجيه كلِّ مذهب، وإلى ما نرى أنه الأرجح -بحول الله تعالى-. فمن ذلك ما روي عن مالكٍ، والشافعي، والليث بن سعد، والثوري، قالوا: كلُّ من حضر القتال، مريضاً (3) أو صحيحاً، فلم يقاتل: فله سهم المقاتل (4) . وفي «المدونة» (5) عن مالكٍ، فيمن خرج غازياً، فلم يزل مريضاً حتى شهدوا القتال، وحازوا الغنيمة: أنه له سهمه، وكذلك لو شهد القتال بفرسٍ رَهيصٍ (6) ،   (1) أثبتها ناسخ الأصل: «ويموت» بالعطف. (2) كذا في الأصل، وكتب الناسخ في هامش نسخته: «كذا، ولعلها: يمكن» . (3) كتب الناسخ في هامش نسخته: «كذا، ولعله سقطت من هنا كلمةٌ معطوفٌ عليها» والمثبت من الأصل المخطوط، وجُلُّه من «الأوسط» لابن المنذر وكلامه في الهامش الآتي. (4) انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/168) ، وفيه: «فأما من حَضَر القتال مريضاً، أو كان صحيحاً ممن لا يقاتل، أو ممن يقاتل فلم يقاتل، فله سهم المقاتل ... » . (5) «المدونة» (1/520-ط. دار الكتب العلمية) . (6) قال ابن الأثير في «النهاية» (2/282) : «أصل الرَّهص: أن يصيب باطن حافر الدابة شيءٌ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فله سهمه -يعني: سهم الفرس-. قال ابن حبيب: بخلاف الحطيم والكسير (1) . وقال مالك: ما كلُّ من حضر يقاتِل، ولا كُلُّ فرسٍ يقاتَل عليه. وروى عنه أشهب وابن نافع، أنه: لا يسهم له (2) . وفي «المدونة» (3) عن ابن القاسم فيمنَّ ضلَّ بأرض العدو، فغنموا بعده، فله سهمه. وكذلك روي عن مالك في الذين [يغزون في البحر، فيرد الريح] (4) بعضهم إلى بلاد الإسلام، أن لهم سُهْمانهم، وكذلك قال في المراكب إذا وافت أرض الروم ثم انكسرت، أو مرِضَ أهلها، فرجعوا إلى الشام، ثم غنمَ الذين مضوا، فللآخرين سُهمانهم إذا رجعوا خوفاً على أنفسهم (5) . وكان ابن الماجشون يُثبت السهمان لمن مات، أو قُتِل، أو أُسِر، أو ضلَّ، أو فلَّ، أو غاب، بعد أن أوجف ودخل المخافة، وجاوز الأمن. وبه قال عبد الملك ابن حبيب (6) . يُريد بالإيجاف: الفصلَ عن بلاد المسلمين، والدخولَ في بلاد العدو وحيث يخاف؛ فهذا كله قول بإثبات سُهمان من صدَّه أمرٌ غالب، إذا كان خروجه بنية الغزو.   = يوهنه، أو ينزل فيه الماء من الإعياء، وأصل الرهص: شدَّة العصر. قال: ومنه الحديث: «فرمينا الصيد حتَّى رهصناه» ؛ أي: أوهنَّاه» . وانظر: «لسان العرب» (7/43-ط. دار الفكر) . (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/158) وتتمة كلامه فيه: « ... هذا لا يُسهم له، وكأنه مات قبل الإدراب، وأما لو أوْجَفَ عليه صحيحاً ثم أصابه الكسر؛ لكان له سهمه، كما لو مات بعد الإيجاف» . وانظر: «عقد الجواهر الثمينة» (1/507) ، «الأوسط» (11/167) . (2) «النوادر والزيادات» (3/158) . (3) «المدونة» (1/520- ط. دار الكتب العلمية) . (4) أثبتها الناسخ في نستخته: «يغزون في الحر، فيرد الحريم ... » ، ولعله سبق قلمٍ منه. (5) انظر: «المدونة» (1/520) ، «النوادر والزيادات» (3/169) . (6) انظر: «البيان والتحصيل» (2/596) ، «النوادر والزيادات» (3/168) . والإيجاف: الوصول إلى أرض العدو، ومفارقة أرض الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وفيه قول ثانٍ: أن لا شيء لهم. روى ابن نافع عن مالك في كتاب ابن سحنون فيمن ضلَّ عن الجيش حتى غنموا: أنهم لا سهم لهم (1) . وعن سحنون فيمن ردَّته الريح، أو رجع لمرض: أنه لا سهم له (2) . قال اللخمي: هذا أحسن. قال: ولا أرى أن يستحقَّ السُّهمان إلا بشهودِ القتال، فمن لم يشهد لمرضٍ أو موت، أو لأنه ضلَّ، أو ردَّته الريح، أو غير ذلك، فلا شيء له. وعن مالكٍ فيمن دخل أرض العدو غازياً، فمات قبل لقاء العدو، ثم غنموا بَعْدُ فلا سهم له، ولو مات بعد القتال، ثم غنموا بعد موته، فله سهمه، قاتل أو لم يُقاتل، إذا كان في حين القتال حيًّا (3) . وقال الشافعي، وأبو ثور: إذا حضر القتال، ومات بعد أن تُحاز الغنيمة، ضُرب له سهمه، يعطاه ورثته من بعده، وإن مات قبل القتال؛ فلا شيء له عندهما (4) . وقال   (1) «النوادر والزيادات» (3/170) . وفيه: وقال ابن نافع: «له سهمه» . وبه قال ابن القاسم. انظر: «المدونة» (1/520) ، «عقد الجواهر» (1/506) ، «الذخيرة» (3/426) . (2) «النوادر» (3/169، 170) . وفيه: قال ابن سحنون: «اختلف قول سحنون في الذين ردتهم الريح فقال: لا سهم لهم مع الذين غنموا، وهذه الرواية على معنى من يقول بالإدراب، ثم رجع فقال: لهم سهمهم؛ لأنهم مغلوبون كما قال مالك» ا. هـ. كلامه. والإدراب: دخول أرض العدو. يقال: أدرب القوم: إذا دخلوا أرض العدو من بلاد الروم، وكل مدخل إلى الروم: دَربٌ من دروبها. (انظر: «لسان العرب» مادة: درب) . وسيذكر المصنف معناه قريباً. (3) انظر: «المدونة» (1/519) ، «المعونة» (1/611) ، «التفريع» (1/360) ، «الرسالة» (ص 190) ، «التلقين» (1/241-242) ، «الفواكه الدواني» (1/470) ، «أسهل المدارك» (2/12) ، «روضة المستبين» (1/133) ، «الشرح الصغير» (2/178) ، «الكافي» (1/475) ، «الذخيرة» (3/426) ، «النوادر والزيادات» (3/167) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/165) . (4) «الأم» (4/153) ، «مغني المحتاج» (3/103) ، «إرشاد السالك» (2/13) . وانظر: «الأوسط» (11/165) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 781) ، وفيه -أي «الأوسط» -: «وقد حُكي عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الأوزاعي: «إن مات أو قُتل بعد ما يُدربُ فاصلاً (1) في سبيل الله، أُسهم له» (2) . قال عبد الملك بن حبيب: «اجتمع أصحاب مالكٍ على أن من مات قبل مشاهدة القتال، فلا حظَّ له في الغنيمة وإن مات بعد الإيجاف؛ إلا ابن الماجشون، فإني سمعته يقول: من مات بعد الإيجاف: فحظه قائم، يورث عنه، ويُقضى به دينه» (3) . وَحَدُّه: الإدراب، وهو: أن يفارق أرض الإسلام، ويدخل أرض الشرك، ويزايل الأمن، ويدخل في المخافة؛ لأنه صار في جملة من اعتُدَّ به في الدخول لذلك، وما لعلَّه بسبب ذلك؛ نِيلَ الفتح الذي كان بَعْدُ. ومن مذهب ابن الماجشون أنه يقسم له في كلِّ ما غنم الجيش إلى حين قفولهم، وإن لم يحضر شيئاً من ذلك، وكان موته قبل لقاء العدو، إذا مات بعد الإدراب (4) .   = الثوري أنه قال: لا شيء له إن مات قبل القتال» . وهو مذهب مالك المذكور آنفاً. (1) أي: قاصداً. (2) انظر: «الأوسط» (11/165) ، «سير الأوزاعي» : (باب سهم الفارس والراجل وتفضيل الخيل) (7/357- مع «الأم» ) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (77) ، «المغني» (10/450) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/442) . واستدل -رحمه الله- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم لرجلٍ من المسلمين قتل بخيبر. وانظر: «مختصر اختلاف العلماء» (3/442 رقم 1589) ، وفيه: «وهو قول الليث» . وهو مذهب الحنابلة -أيضاً-. انظر: «المغني» (13/91-ط. دار هجر) . ونقل كلام الشافعي، وأبي ثور. ومذهب الحنفية فيمن يموت غازياً في دار الحرب: أن لا شيء له في الغنيمة؛ لأن ملك المسلمين -عنده- لا يتم إلا في دار الإسلام. انظر: «الجامع الصغير» (ص 262) ، «الرد على سير الأوزاعي» (ص 23) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/442) . (3) انظر: «البيان والتحصيل» (2/596) ، «النوادر والزيادات» (3/168) . (4) «النوادر والزيادات» (3/161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قال سحنون: إذا شهد أول القتال، أو كانوا قد ناشبوا القتال وهو حيٌّ، ثم مات بعد المناشبة؛ فحقه فيه ثابت، وكلُّ قتالٍ ابتدؤوه في حصنٍ ثانٍ، أو مغارٍ أحدثوه بعد موته، فلا حقَّ للميت فيه (1) . قال عبد الملك بن حبيب: وسمعت أصحاب مالكٍ يقولون فيمن أُسِرَ في القتال: فله سهمه فيما غنم قبل القتال وبعده، بمنزلة من مات أو قتل، ومن أُسِرَ قبل القتال فلا سهم له فيما غنم بعده، إلاّ أن تكون الغنيمة في فورة ذلك وبحضرته، ومن أُسر بعد القتال فله سهمه فيما غنم قبله وبعده، يُقسم له ولفرسه: أصيب معه، أو عُقر تحته، أو خلَّفه عند أصحابه، ومشاهدة القرية، أو الحصن، أو العسكر بمنزلة القتال، وإن لم يكن قتال. وقال محمد بن الموَّاز: لو بعث الإمام قوماً من الجيش قبل أن يصل إلى بلد العدو في أمرٍ من مصلحة الجيش، من حشدٍ وإقامة سوق، أو غير ذلك، فاشتغلوا في ذلك حتى غنم الجيش؛ فلهم معهم سهمهم (2) . وروى ابن وهب، وابن نافعٍ مثل ذلك عن مالك. وفي روايةٍ أخرى عن مالك: لا شيء لهم (3) . ومنشأ الخلاف عندي في جميع ذلك، والذي إليه ترجع المسائل على تبدُّدها هو: هل يوجد دليلٌ على أن للقصد والنيِّة أثراً إذا أخذ في الشروع، ثم قطعه عن تمام العمل في ذلك أمرٌ غالبٌ لا اختيار له فيه؟ فهل هناك دليلٌ أنه يستحقُّ بذلك صاحبه ما يستحقه بالعمل، أو لا؟ فمن توجَّه عنده: أن ذلك يقوم مقام العمل شرعاً وإن لم يكمله، بما ثبت أنَّ له في ذلك مِثل أجر العامل، قال الله -تعالى-: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ   (1) «النوادر والزيادات» (3/173) . (2) «النوادر والزيادات» (3/171) . (3) «النوادر والزيادات» (3/171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ} [النساء: 100] . وخرَّج أبو داود (1) عن أبي مالكٍ الأشعري: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب فيمن مات غازياً) (رقم 2499) حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بقية بن الوليد، عن ابن ثوبان، عن أبيه، يَردُّ إلى مكحولٍ، إلى عبد الرحمن بن غنمٍ الأشعري، عن أبي مالكٍ الأشعري، به، وتمامه: «أو وقصه: فرسُه، أو بعيره، أو لدغته هامَّة، أو مات على فراشه، أو بأي حتفٍ شاء الله؛ فإنه شهيد، وإن له الجنة» . وأخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (3/320 رقم 3418) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 78) ، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 54 و235) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/166) ، وفي «الشعب» (رقم 4248) كلهم من طريق بقية بن الوليد، به. وقال الحاكم على إثر الحديث: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . وتعقبه الذهبي بقوله: «ابن ثوبان لم يحتج به مسلم، وليس بذاك، وبقية ثقة، وعبد الرحمن بن غنم لم يدركه مكحول فيما أظن» . قلت: وبقية يدلس على شيوخه وشيوخ شيوخه. فانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2/154-155) ، و «جامع التحصيل» للعلائي (ص 119) ، و «التبيين لأسماء المدلسين» (ص 345) ، «شرح ألفية العراقي» (1/190-191) ، «فتح المغيث» (1/183) وغيرها. وابن ثوبان. قال الحافظ في «التقريب» (3820) : «صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وتغير بأخرة» . فالحديث بهذا الإسناد ضعيف. وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. ولكن له شاهد من حديث عبد الله بن عتيك. أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في «المسند» (رقم 897) ، وفي «المصنف» (5/293-294) ، والطبراني في «الكبير» (2/191 رقم 1778) ، وأحمد في «المسند» (4/36) ، وأحمد بن منيع في «مسنده» -كما في «إتحاف الخيرة» (6/263 رقم 5863- ط. مكتبة الرشد) -، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/1/14) ، ويعقوب بن سفيان في «تاريخه» (1/261) ، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (4/80 رقم 1618) ، والحاكم في «المستدرك» (2/88) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/166) ، وأبو نعيم في «المعرفة» (3/1728 رقم 4374) ، وابن أبي خيثمة، وابن شاهين -كما في «الإصابة» (4/168) -، وابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» (رقم 236) ، وفي «الآحاد والمثاني» (رقم 2143) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (3/203) من طرقٍ عن ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن عتيك، عن أبيه، به. مرفوعاً بلفظ: «من خرج مجاهداً في سبيل الله .... » الحديث. قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ فابن عبد الله بن عتيك مجهول. ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 «من فَصَلَ في سبيل الله، فمات، أو قتل؛ فهو شهيد» . فمن سلك هذا المسلك، وبخاصة في باب الإسهام من الغنيمة، فإن ذلك يستحقُّه من قاتل من الجيش ومن لم يقاتل، والكثيرُ الغَنَاء، ومن لا كبير غَنَاء عنده، والقويُّ والضعيف على حدٍّ سواء، وفَهِمَ بذلك من الشرع سقوطَ المُشاحة في هذا الباب؛ رأى أن هذه الأعذار المانعةَ عن الإتمام بعد وجود العَزمِ والشروع لا تُحبط حظهم من السهمان، ومن لم ير ذلك فحجته أن العمل لا يُعَادَلُ بمجرد النيّة على الإطلاق، وهو وإن جعل الشرعُ النيةَ حكماً، فقد جعل لوجود العمل مزيةً وفضلاً؛ كما ثبت في الفرق بين مقدار ما يكتب لمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها، وما كُتب لمن همَّ بذلك فَعَمِل (1) ؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين -وقد اجتهدوا في إدراك ما فاتهم به الأنصار من أجر الصدقة، حين لم يجدوا مالاً فيتصدَّقوا كما يتصدَّقون-: «ذلك   = والتعديل» (3/2/301) ولم يَحْكِ فيه جرحاً ولا تعديلاً. وأشار الذهبي في «الميزان» (3/595) بأنه لا يُعرف، فقال: «عن أبيه، وعنه محمد بن إبراهيم التيمي وحده» . وفي الإسناد علَّةٌ أخرى، وهي عنعنة ابن إسحاق، وهو معروف بالتدليس. وبه أعلَّه البوصيري في «إتحاف الخيرة» (2/ق 57/ب) أو (6/264) . ولكنه صرَّح بالتحديث عند أبي نعيم في «المعرفة» فزالت شبهة تدليسه. وللحديث شاهدٌ آخر، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ مرفوعاً بلفظ: «ما تعدون الشهيد فيكم» ؟ قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: «إن شهداء أمتي إذاً لقليل» ، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد» . أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (3/1521-ط. عبد الباقي) وغيره. (1) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الرقاق (باب من همَّ بحسنةٍ أو بسيئةٍ) (رقم 6491) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب إذا همَّ العبد بحسنة ... ) (رقم 131) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربِّه -عز وجل- قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسناتٍ إلى سبع مئة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها؛ كتبها الله عنده حسنةً كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها؛ كتبها الله له سيئة واحدة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فضل الله يؤتيه من يشاء» (1) . فكان للعمل مزية وحظٌّ لا يُدرك بمجرد النيّة. وأيضاً: فإن الله -تعالى- أضاف الغنيمة إلى من غنمها، وملَّكها لهم بذلك دون من سواهم، فكان الحق في ذلك لمن عمل فغنم، دون من اعْتُرِضَ فلم يتصف بذلك، فنقول -والله تعالى الموفق بمنّه-: الخارجون في الجيش على أربعة أحوال: - رجل نوى الغزو، وعمل في مشاهد الحرب، إما في أضعفها رتبة كملازمة الجيش، وتكثير السواد، وإما فوق ذلك إلى أعلاها رتبة: وهو مباشرة القتال، فهذا لا خلاف ولا إشكال أنه يُسهم له؛ للأدلة التي قدَّمنا، ويدخل في ذلك المريض إذا حضر القتال، وإن لم يُقاتل. - ورجلٌ لم ينو الغزو، ولا عمل في شيءٍ من مشاهده، كالتاجر والأجير يشتغلان بالكسب والاحتراف فقط، فهذا لا خلاف ولا إشكال أنه لا حقَّ له. - ورجلٌ لم ينو في خروجه غزواً، فلما حضر القتال قاتل، أو شهد من مواطن الحرب المخصوصة، بعملٍ من أعمال الجهاد على حسب ما فصَّلنا ما يكون له فيه عمل مع المجاهدين، فالظاهر أن لهذا سهمه، وإن كان في ذلك خلافٌ تقدم ذكره في (فصل: التاجر والأجير) ؛ لأنه لما حضر القتال فعمل فيه؛   (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب المساجد (باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته) (رقم 595) من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: «وما ذاك؟» . قالوا: يُصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعْتِقون ولا نُعْتِق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم» ؟! قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون، دبر كل صلاة؛ ثلاثاً وثلاثين مرة» . قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 حصل منه ساعتئذٍ النِّيَّة والعمل، وذلك هو حقيقة الجهاد، ودخل بذلك في جملة من تنسب الغنيمة إليهم، فكان الوجه أن يُسهم له. - ورجلٌ نوى الغزو فانْقُطِعَ به قبل مَشَاهِدِ القتال، فهذا الذي جرى فيه ذكر الخلاف في هذا الفصل، والذي يترجح -إن شاء الله- ألاّ يكون له في الغنيمة حقٌّ إن (1) لم يحضر من مشاهد الحرب شيئاً، ويدخل في ذلك المريض الذي لا يستطيع شيئاً من الحضور والتكثير فما فوق ذلك، فإن شهد هؤلاء شيئاً من ذلك، -وإن قلَّ زمانه- فلهم سهمهم، أعني: فيما غنم عن ذلك الموطن، أو كان لذلك الموطن في أسباب اغتنامه أَثَرٌ؛ وذلك أن الذي أثبَته الشرع للنيات من الحظِّ، وإدراك بعضها رُتبةَ العمل، إنما جاء النص به فيما يرجع إلى ثواب الله -تعالى- وجزيل ما عنده. وأمَّا أحكام الدنيا وما يستحق فيها بالعمل، فلم يرد الشرع في شيء من ذلك بأنَّ للناوي فيه مثل ما للعامل، بل لعلَّه مما يستحيل (2) التكليف به؛ لأنَّ الاطلاع على النية لا يعلمه إلا الله -عز وجل-. ولما جعل الله -تعالى- الغنائم لمن غنمها دون من سواهم من المسلمين، وكان هذا لم يغنم، ولم يشارك في شيءٍ من أسباب الاغتنام؛ بطل أن يكون له معهم فيما ملَّكهم الله من ذلك شيء، ونيته على الله الذي وسع كلَّ مخلوقٍ فَضْلاً، والله أعلم. وأمَّا من فرَّق من الفقهاء بين الإدراب وما قبله، فأوجب لمن دخل مع الجيش أرض العدو، وحيث تبتدئ الشدةُ والمخافةُ أن يُسهم له، وإن صدَّه عن التمام أمرٌ غالبٌ، ولم يوجب ذلك لمن اعْتُرِضَ قبله، فسببه: أن الإدراب عنده نوعٌ من مشاهد الحرب التي ينتفع الناس فيها بعضهم ببعض في القوة على التقدم، فإنَّ الجمع هناك إنما يحملهم على الدخول: الاعتدادُ بمن معهم، فيكون ذلك   (1) كتب الناسخ في هامش نسخته: «كذا، ولعلها: وإن» ، والمثبت هو الصواب. (2) في المنسوخة: «يستحب» !!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 سببَ الجُرأة على الإقدام، الذي هو سبب الغنيمة، فرأى من ذهب إلى ذلك أن لدخوله معهم حظّاً في الإعانة، وتسبيباً للمغنم، فهذا وجه من فرَّق، وعلى هذا المسلك والقانون الذي ذكرناه تدور جملة المسائل المبدَّدة -في هذا الفصل- عنهم، وترجع أسباب الخلاف في ذلك عندهم، والله أعلم. * مسألة: إذا لحق بالجيش مددٌ، أو أفلت من دار الحرب أسير، فاتَّصل بهم؛ فلهم ثلاثة أحوال: أحدها: أن يدركوا الوقعة من قبل انقضاء الحرب، فهؤلاء يُسهم لهم؛ لما تقدَّم من الأدلة. والثاني: أن يكون بعد انقضاء الحرب وحوز الغنيمة، فلا حقَّ لهؤلاء، لما تقدَّم -أيضاً- من الأدلة. والثالث: أن يكون بعد انقضاء الحرب، وقبل حوز الغنيمة. فمن اعتبر انفصال القتال، لم يُسهِمْ لهم، وهو الأرجح، ومن اعتبر حضورهم في الغنيمة قبل مِلْكِ الغانمين، ورأى في مشاهدة حوزِ الغنيمة ما يوجب الاشتراك، أَسْهَمَ لهم، وكلا القولين للشافعية (1) .   (1) انظر: «روضة الطالبين» (6/377) ، «البيان» للعمراني (12/ 223) ، «المجموع» (21/ 249) . ومذهب المالكية في ذلك: أنهم إن جاؤوا بعد انقضاء الحرب لم يسهم لهم؛ لأنهم لم يحضروا الحرب، ولم يحصل منهم قتال ولا معاونة عليه، وإن جاؤوا قبل قسم الغنيمة. قال مالك: أرى أن لا يُقسم إلا لمن شهد القتال من الأحرار. وانظر: «الموطأ» . كتاب الجهاد (باب جامع النفل في الغزو) ، «المدونة» (1/391-394) ، «التفريع» (1/360) ، «الرسالة» (190) ، «المعونة» (1/611) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/505) ، «الإشراف» (4/434- بتحقيقي) ، «عيون المجالس» (2/689) . ومذهب المالكية هذا؛ قوي وراجح -إن شاء الله-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وذهب أبو حنيفة إلى أن كلَّ مددٍ ونحوهم أدرك الجيش في دار الحرب قبل الخروج، فإن لهم معهم سُهمانهم، سواءٌ أدركوا حوز الغنيمة، أو لم يدركوا شيئاً بحال (1) .   = وهو مذهب الشافعية في إحدى القولين -كما ذكر المصنف-، ومذهب: أحمد، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي ثور -رحم الله الجميع-. وانظر: «المغني» (13/114- ط. هجر) ، «المحرر» (2/176-177) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/149) . وهذا مذهب عمر؛ فقد رُوي عنه أنه قال: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» . أخرجه ابن أبي شيبة (7/668) ، وعبد الرزاق (5/302-303 رقم 9689) في «مصنفيهما» ، والطبراني في «الكبير» (8/321 رقم 8203) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/335 و9/50) ، وإسناده صحيح. قال البيهقي: «إسناده صحيح لا شكَّ فيه» ، وصححه الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/102، 108) ، و «فتح الباري» (6/224) ، وابن كثير في «مسند الفاروق» (2/473) . وروي عن أبي بكر، ذكره عنه الشافعي في «الأم» (8/341) ، ووصله البيهقي (9/50) بسند منقطع، كما في «التلخيص الحبير» (3/208) . وقال الشافعي: «وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يثبت في معنى ما روي عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- لا يحضرني حفظه» . قال البيهقي (9/51) عقبه: «إنما أراد -والله أعلم- حديث أبي هريرة في قصة أبان بن سعيد حين وقع مع أصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، بعد أن فتحها ولم يقسم لهم، وقد مضى ذلك بأسانيده مع مع سائر ما روي في هذا الباب في كتاب القسم» . قلت: انظره في «سنن أبي داود» (2723) ، و «سنن البيهقي» (6/333) ، وعلقها البخاري (قبل رقم 4238) ، ووصلها (2827) . وروي هذا اللفظ بعينه -أي: قول عمر- عن علي قوله، بسند فيه لين، أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/490) ، ومن طريقه البيهقي (9/51) ، وانظر: «التلخيص الحبير» (3/102) . * تنبيه: عزى القرطبي في «تفسيره» (8/16) -وتبعه صاحب كتاب «الفيء والغنيمة» (ص 137) - هذا الحديث مرفوعاً للبخاري!! وإنما بوب البخاري في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب الغنيمة لمن شهد الوقعة) (6/224- مع «الفتح» ) ، وأشار ابن حجر إلى أثر عمر، وعزاه فقط لعبد الرزاق وصححه، وتبويبات البخاري المأخوذة من الأحاديث والآثار تحتاج إلى إفراد بمصنف خاص مع تخريجها، فلله دره، ما أوسع اطلاعه، وأدق صنيعه! وأتبعه للآثار!. (1) لأن الغنيمة عند أبي حنيفة لا يمتلكها الغانمون ما دامت في دار الحرب، فإذا نُقِلت إلى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 * مسألة: ما غنمت السّرية الخارجة من جُملة الجيش، فهم والجيش فيه سواء في القسم. خرَّج أبو داود (1) ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنون تَكَافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم، يردُّ مشدهم على مُضعفهم، ومُتسرِّيهم على قاعدهم» . المُشدُّ: من كانت دوابه أشدَّاء. والمُضعف: من كانت دوابه ضعافاً. والمُتسرِّي: الخارج في السَّريَّة. وخرَّج أبو داود (2) -أيضاً-، عن ابن عمر قال: «بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشٍ قِبَل نجد، وانبعثت سريةٌ من الجيش، فكان سُهمان الجيش اثني عشر بعيراً، اثني   = دار الإسلام فهي لهم، لا يشاركهم فيها غيرهم. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 285) ، «اللباب» (4/125) ، «فتح القدير» (5/478) ، «تحفة الفقهاء» (3/511-512) ، «بدائع الصنائع» (9/4353) ، «رؤوس المسائل» (ص 366-367) ، وانظر: «حلية العلماء» (7/684-685) ، «عيون المجالس» (2/690) . واحتج أبو حنيفة بخبر عن عمر، أنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص: أن أسهم لمن أتاك قبل أن يتفقأ قتلى فارس. وهذا الخبر: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/303 رقم 9690) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (2/333 رقم 2795) ، من طريق مجالد، عن الشعبي، عن عمر، به. وهذا منقطع، والشعبي لم يلق عمر. وانظر: «جامع التحصيل» (ص 204) ، «الأوسط» (11/149) . (1) في «سننه» (رقم 2751) ، وفيه: (المسلمون) بدل (المؤمنون) . وأخرجه ابن ماجه (رقم 2685) ، وابن أبي شيبة (9/432 رقم 8017) ، والبيهقي (8/29) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/ 151-152) . وقد مضى تخريجه. (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في نفل السرية تخرج من العسكر) (رقم 2741) . وأخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين (رقم 3134) . وفي كتاب المغازي (باب السرية التي قبل نجد) (رقم 4338) . ومسلم في كتاب الجهاد والسير (باب الأنفال) (رقم 1749) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 عشر بعيراً، ونفل أهل السرية بعيراً بعيراً، فكانت سُهمانهم ثلاثة عشر، ثلاثة عشر» . قال ابن عبد البر (1) : «لم يختلف العلماءُ أن السّرية إذا خرجت من العسكر فغنمت: أنَّ أهل العسكر شركاؤهم فيما غنموا» . قال ابن المنذر (2) : «قول مالكٍ، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي: أن ما أصابت السرية دون الجيش، أو أصابه الجيش دون السرية؛ هم كلهم في ذلك شركاء؛ لأن كل فريق رِدْءٌ لصاحبه (3) ، وقال الحسن البصري غير ذلك؛ قال: إذا خرجت السرية بإذن الأمير، فما أصابوا من شيءٍ خمَّسه الإمام، وما بقي فهو لتلك السَّريَّة، وإذا خرجوا بغير إذنه خمَّسه الإمام، وكان ما بقي بين الجيش كلهم» (4) . * مسألة: ومما يلحق في الحكم بالسريَّة والجيش: الجماعة تخرج من الحصن ونحوه إلى عدوٍّ أتاهم أو مرَّ بهم، فيغنمون منهم؛ قال اللخمي: إن كانوا لم يقدروا على   (1) في «الاستذكار» (14/100 رقم 19542) . (2) في «الأوسط» (11/152) . (3) وهو مذهب حماد بن أبي سليمان؛ فقد قال ابن المنذر: «وروينا ذلك عن الضحاك بن مزاحم. وقال حماد بن أبي سليمان: إذا أصابت السرية الغنيمة وخلفهم الجيش؛ ردوا على الجيش؛ لأنهم ردءٌ لهم، إلا أن يقول الإمام: من أخذ شيئاً فهو له» . قلت: خبر الضحاك بن مزاحم: أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (5/191 رقم 9340) من طريق جويبر، عنه. (4) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/191 رقم 9338) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (رقم 2684) كلاهما من طريق هشام، عن الحسن، به. قلت: وجعل إبراهيم النخعي ذلك راجعاً إلى الإمام فهو بالخيار: «إن شاء خمَّسه، وإن شاء نفلهم كلهم» . رواه عنه عبد الرزاق (5/191 رقم 9339) ، وسعيد بن منصور (رقم 2685، 2687) ، من طريق منصور (بن المعتمر) ، عن إبراهيم، به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ذلك إلا لمكان جملة المسلمين بالموضع، ولولا ذلك ما قدروا عليهم بانفرادهم، فالغنيمة لجميعهم كالسرية مع الجيش، وإن كان مثلهم لا يحتاجون في أمرهم والإقدام عليهم إلى تقوية من في الحصن، كان ذلك لهم خاصَّة بعد الخمس. وروى ابن حبيب مسنداً إلى الأوزاعي، أنه سئل عن العدو ينزلون قريةً أو مدينةً للمسلمين، فيخرج إليهم بعضهم فيصيبون منهم، فقال: «إذا كان القوم الذين لقوا العدو منهم، لو استغاثوا بأهل القرية أغاثوهم لقربهم منهم، فهم شركاء جميعاً فيما أصابوا بعد الخمس، ونَرى أن يُنفَّل الخارجون دون أهل القرية، وإن كانوا بموضع لا ينالهم غوثهم، فهو للخارجين منهم دونهم» . قال ابن حبيب: وقال لي من لقيت من أصحاب مالك مثله. قال: ويسهم لخيلهم التي معهم في المدينة إذا كانوا قريباً، بحيث ينالهم غوثهم، وكانوا ارتبطوها في سبيل الله، ويقبل في ذلك قول أهلها الذين ارتبطوها (1) . *****   (1) انظر: «المدونة» (1/390) ، «المعونة» (1/616) ، «التفريع» (1/358) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/507) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فصلٌ: في بيان وجوه القسم وسُهمان الخيل والنظر من هذا الفصل في ثلاثة أشياء: موضع القسم، وكيفية القسم، ومقادير القسم. فأما موضع قسم الغنائم، فاختلف: هل يكون في دار الحرب أو الإسلام؟ فذهب مالكٌ (1) ، والشافعي (2) ، والأوزاعي (3) ، وأصحابهم: إلى أن الغنائم يقسمها الإمام على العسكر في دار الحرب إن شاء. قال مالك (4) : وهم أولى برخصها هنالك. وذهب أبو حنيفة إلى أن لا تُقسم الغنائم في دار الحرب (5) . وقال أبو   (1) انظر: «المدونة» (1/503) ، «الكافي» (1/476) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/505) ، «المنتقى» (3/176) ، «رؤوس المسائل» لابن القصَّار (51) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (3/584) ، «جامع الأمهات» (ص 252) ، «الذخيرة» (3/424) ، «النوادر والزيادات» (3/194، 195) ، «أسهل المدارك» (2/11) ، «القوانين الفقهية» (130) . وهو مذهب الحنابلة. انظر: «المحرر» (2/173) ، «الإنصاف» (4/163) ، «المغني» (13/ 107-ط. هجر) . وقال به أبو ثور. انظر: «الأوسط» (11/196) ، «عيون المجالس» (2/686) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/465) . (2) انظر: «الأم» (4/140-141) ، «مختصر المزني» (270) ، «الإقناع» للماوردي (ص 178) ، «البيان» للعمراني (12/207-208) ، «المجموع» (21/234) ، «مغني المحتاج» (3/101) . وانظر: «الأوسط» (11/196) . (3) نقله عنه الشافعي في «الأم» (7/302- ط. دار الشعب) . وانظر: «اختلاف الفقهاء» (129) للطبري، «الأوسط» (11/196) لابن المنذر، «الرد على سير الأوزاعي» (10) ، «الاستذكار» (14/182) ، «المغني» (10/466- ط. دار المنار) . (4) انظر: «المدونة» (1/503) . (5) حكى ذلك عنه: محمد بن الحسن في كتاب «الأصل» (6/91/أ) . وانظر: «مختصر الطحاوي» (ص 282) ، «الهداية شرح بداية المبتدي» (2/434) ، «تحفة الفقهاء» (3/298) ، «اللباب» (4/125) ، «رؤوس المسائل» (ص 367) ، «المبسوط» (10/32) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يوسف: «أحبُّ إليَّ أن لا تُقسم الغنائم في دار الحرب، إلا أن لا يجد حمولةً، فيقسمها هنالك» (1) . وحجة ما ذهب إليه مالكٌ، والشافعي، ومن قال بقولهما: ما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم حنين بالجعرانة (2) ، وكانت يومئذٍ من دار الحرب، كذلك استدل ابن عبد البر (3) . قال أبو بكر بن المنذر (4) في الاستدلال هنا: «وذلك للثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قسم يوم خيبر: للفَرَس سهمين؛ ولصاحبه سهماً» . وجعل ابن المنذر حديث قسم غنائم حنين بالجعرانة دليلاً على أن للإمام أن يؤخر القسم إن شاء حتى يرجع إلى بلد الإسلام، ولأنه بالخيار في ذلك، على حسب ما يرجوه من المصلحة، ويراه من الاجتهاد، ويتمكن له من التفرغ. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة، فلا أعلم ما وجه ما ذهبَ إليه، إلا أن يريد أنهم ماداموا في دار الحرب، فلم يستقر لهم ملك الغنيمة بعدُ؛ لإمكان كرَّة العدو ونحو ذلك، فكان الأمر على مثل حال المدافعة، ولهذا كان من مذهبه أنَّ من لحق الجيش من مددٍ ونحوهم، بعد انقضاء القتال، وحرز الغنيمة، وقبل الخروج من دار الحرب؛ فإنه يُسهم له مع الجيش، وهم في ذلك شركاء، ما لم يكن   = «بدائع الصنائع» (7/121) ، «إيثار الإنصاف» (230-231) ، «الغرة المنيفة» (160، 170) . (1) انظر: «الرد على سير الأوزاعي» للقاضي أبي يوسف (ص 1) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/465) . (2) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين) (رقم 3138) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب ذكر الخوارج وصفاتهم) (رقم 1063) ، من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم غنمية بالجِعرانة، إذ قال له رجل: اعْدِلْ، فقال له: «شقيتُ إن لم أعدل» . وهذا لفظ البخاري. (3) في «الاستذكار» (14/182 رقم 19925) ، والكلام السابق منه. (4) «الأوسط» (11/196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 لحاقهم بهم بعد أن خرجوا من دار الحرب (1) ، فلا يكون لهم حينئذٍ شيءٌ. وإذا قيل بالقسم في دار الحرب فذلك إنما يكون حيث يأمن الجيش، ولا يمنع منه خوف عدوٍّ، ولا عدم فوتٍ للمقام على القسم إن احتيج فيه إلى إقامة. فصلٌ وأما كيفية القسم: فللمالكية في ذلك ثلاثة أقوال (2) : قيل: تقسم أعيان الغنائم، ولا تُباع، فإن كانت أجناساً مختلفة، قُوِّم كل شيء منها على حدته، ثم عدلت بالقيمة. وقيل: تباع، وتقسم الأثمان. وقيل (3) : ذلك مصروفٌ إلى نظر الإمام، فما رأى من ذلك أنه أفضل لأهل الجيش؛ فعله. فوجه قسم الأعيان من غير بيعٍ: أنه كذلك رُوي في قسم الغنائم في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ذلك جرى فعل الصحابة. روى مالكٌ عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: «كان الناس في الغزو إذا اقتسموا غنائمهم يعدلون البعير بعشرة شياه» (4) .   (1) وعندهم -أي: الحنفية-: إن قسمت الغنيمة في دار الحرب مضت، كحكم الحاكم: لا يُنْقض. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 282) ، «الهداية» (2/434) ، «تحفة الفقهاء» (3/298) ، «اللباب» (4/125) . (2) «المدونة» (1/503) . (3) قال به مالك. ونقله ابن جزي عن أبي حنيفة. انظر: «المنتقى» (3/178) ، «القوانين الفقهية» (149) . (4) أخرجه مالك في «الموطأ» في كتاب الجهاد (باب جامع النفل في الغزو) (ص 287 رقم 455- ط. دار إحياء التراث العربي) . ونقل مذهب سعيد في قسم الأعيان دون البيع: ابن حزم في «المحلَّى» (7/342) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 قال ابن القاسم (1) : «ليس على هذا العمل، لكن تُقسم الإبل على حدة، والغنم على حِدة بالقيمة، وكذلك سائر العروض، يقسم كل جنس على حدته بالقيمة، ولا يقسم شيء منها بالسهم، ولا يجعل جزءٌ من جنسٍ بجزءٍ من غيره، ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري أين يقع سهمه» ، فرأى ذلك من باب الغَرَر. وخرَّج الترمذي (2) عن أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن   = وأخرج نحوه البخاري في «صحيحه» في كتاب الشركة (باب قسمة الغنم) (رقم 2844) وفي مواطن أخرى، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الأضاحي (باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم) (1968) (21) من حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه-، وفيه: « ... ثم قًسَم، فعَدَل عشرة من الغنم ببعير ... » . واختار أبو الوليد الباجي -من المالكية- في «المنتقى» (3/178) هذا القول، وهو قسم الأعيان دون البيع. (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/194) . (2) في «جامعه» في أبواب السِّير (باب في كراهية بيع المغانم حتى تُقسم) (رقم 1563) عن هناد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جهضم بن عبد الله، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن زيد، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد الخدري. وقال: حديث غريب. وهذا إسناد ضعيف جداً لجهالة محمد بن إبراهيم، وهو: الباهلي، ومحمد بن زيد، وهو: العبدي، ولضعف: شهر بن حوشب. وجهضم اليمامي، وهو: ابن عبد الله بن أبي الطفيل: ثقة، إلا أن حديثه منكر فيما روى عن المجهولين، وهذا منها. وأخرجه عبد الرزاق (14923) ، وابن أبي شيبة -مطولاً ومختصراً- (3/189، 6/131، 12/ 436) ، وأحمد (3/42) ، وابن ماجه (2196) ، وأبو يعلى (1093) ، وابن زنجويه في «الأموال» (3/ 898 رقم 1593) ، والدارقطني في «السنن» (3/ 15) ، والبيهقي في «السنن» (5/338) من طرق عن جهضم، به. قال البيهقي عقبه: «وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسنادٍ غير قوي، فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهى عنه في الحديث الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . وعزاه ابن رجب في «قواعده» (1/399- بتحقيقي) إلى ابن راهويه والبزار، وضعّفه. والحديث صحيح بشواهده. ففي الباب عن رويفع بن ثابت، وابن عباس، وروي عنه مرفوعاً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 شراء المغانم حتى تقسم. قال فيه: حديث غريب. ولا يوجد هذا الحديث من طريق قوي، وفي سنده عند الترمذي شهر بن حوشب. ووجه من ذهب إلى بيع الغنائم، وقسمِ أثمانها، هو فيما أرى -والله أعلم- فِرارٌ من تعذُّرِ العدل في قسم الأعيان؛ لاختلافها، وما يُتَّقى من عدم التعادل فيها. ووجه من ذهب إلى أن ذلك للإمام، يرى فيه الأفضل للجيش: ملاحظته هاتين الطريقتين، فوكَّل أمر ذلك إلى الإمام، فإن رأى الإمامُ قَسْمَ الأعيان ممكناً التعادل فيه، وغير متخوف الغرر؛ لإمكان ذلك في الغنيمة الحاضرة: قسم الأعيان، وإن خشي ذلك في قسم الأعيان، لاختلافها وتشتت أموال الغنيمة، باعها وقسَّم الأثمان، وهذا نظرٌ سديد، والله أعلم. فصلٌ وأما مقادير القسم على الفرسان والرّجل، ففي ذلك لأهل العلم قولان: أما الجمهور، فذهبوا إلى أنه يُقسم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وهو قول مالكٍ، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وداود، وقاله صاحبا أبي حنيفة: أبو يوسف، ومحمد (1) ،   = وموقوفاً، وأبي هريرة، ومرسل مكحول وأبي قلابة، وغير ذلك. وقد خرجت ذلك بالتفصيل في تعليقي على «قواعد ابن رجب» (1/399-404) ، وتعليقي على «سنن الدارمي» (رقم 2633) . (1) انظر في مذهب المالكية: «المدونة» (1/518-ط. دار الكتب العلمية) ، «التفريع» (1/ 360) ، «الرسالة» (ص 190) ، «المعونة» (1/614) ، «الكافي» (1/475) ، «التلقين» (1/243) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/507) ، «رؤوس المسائل» لابن القصَّار (52) -وذكر فيه مذاهب الصحابة والتابعين والأئمة-، «تهذيب المسالك إلى مذهب الإمام مالك» (3/589) ، «أسهل المدارك» (2/12) ، «الإشراف» (4/438- بتحقيقي) ، «الذخيرة» (3/424) ، «قوانين الأحكام» (69) ، «بداية المجتهد» (1/394) ، «جامع الأمهات» (ص 251) ، «تفسير القرطبي» (8/14-15) ، «البيان والتحصيل» (3/37-38) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ورُوي كذلك عن جماعةٍ من الصحابة والتابعين (1) . وذهب أبو حنيفة إلى أن الفارس له سهمان: سهم له، وسهم لفرسه (2) ،   = «عيون المسائل» (2/699) ، «القوانين الفقهية» (131) ، «شرح الزرقاني» (3/131) ، «الأموال» (33-34) للداودي، «الاستذكار» (14/170) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/144-145) ، «مختصر المزني» (ص 270) ، «الحاوي الكبير» (14/16-ط. دار الكتب العلمية) ، «المجموع» (21/234) ، «حلية العلماء» (7/678) ، «الأوسط» (11/156) . وفي مذهب الحنابلة: «المقنع» لابن البنا (3/1170) ، «المغني» (13/85-86) ، «شرح الزركشي» (6/489، 492) ، «منتهى الإرادات» (1/644) ، «الإنصاف» (4/173-174) ، «الفروع» (6/232) ، «كشاف القناع» (3/88) ، «الشرح الكبير» (5/568) ، «المبدع» (3/367) ، «الإفصاح» (2/278) . وانظر في مذهب أبي يوسف، ومحمد: كتب الحنفية المذكورة بَعْدُ في الهامش بَعْدَ الآتي. وانظر: «الآثار» (رقم 780) ، «الخراج» (1/160- مع «شرحه» ) كلاهما لأبي يوسف. وانظر لبقية المذاهب: «السير» للفزاري (ص 185-187) ، «شرح السنة» (11/101) ، «الاستذكار» (14/170) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/58) ، «تفسير القرطبي» (8/15) ، «المنتقى» للباجي (3/196) ، «المحلَّى» (7/330) ، «رحمة الأمة» (296) ، «الميزان» (2/178) للشعراني، «اختلاف الفقهاء» (80-81) للطبري، «عمدة القاري» (14/156) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/83) ، «تحفة الأحوذي» (2/379) ، «نيل الأوطار» (7/238) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 783) ، «فقه الإمام الليث بن سعد» (273) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 675) ، «الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه» (ص 674) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/500) . وقال ابن قدامة: وعليه عامة أهل العلم. (1) حكاه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/172) عن ابن عباس، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين، والحكم بن عُتَيْبة، وعن عمرو بن ميمون. ثم سمّى المذكورين عند المصنّف، وزاد عليهم: الطبري. (2) انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 285) ، «مختصر القدوري» (4/131- مع «اللباب» ) ، «فتح القدير» (5/493) ، «الاختيار» (4/129) ، «تحفة الفقهاء» (3/301) ، «بدائع الصنائع» (9/ 4364) ، «تبيين الحقائق» (3/54) ، «البحر الرائق» (5/88، 95) ، «المبسوط» (10/41) ، «أحكام القرآن» (3/58) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/437 رقم 1585) ، «مجمع الأنهر» (1/680) ، «عقود الجواهر المنيفة» (1/332-335) ، «حاشية ابن عابدين» (4/146) -وفيه: أن مذهب أبي يوسف، ومحمد، كمذهب مالك، والجمهور-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وروي مثل ذلك عن عليٍّ، وأبي موسى (1) . والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور: ما خرَّجه مسلم (2) عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم للفرس سهمين، وللرَّجلِ سهماً. وخرَّجه أبو داود (3) بأوضح لفظاً من هذا؛ قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم، سهماً له، وسهمين لفرسه. وفي البخاري (4) ، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلَ للفرس سهمين،   (1) وقال النووي في «شرح صحيح مسلم» (12/120- ط. قرطبة) : «ولم يقل بقول أبي حنيفة هذا أحد، إلا ما رُوي عن علي، وأبي موسى» . وفي «مختصر عيون المجالس» للقاضي عبد الوهاب (2/700) لما ذكر سهمان الفارس والراجل، قال: «وبه قال: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، ولا مخالف لهما من الصحابة. ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين» . ثم ذكر أنه مذهب كافة علماء الأمصار، وخلاف أبي حنيفة. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين) (رقم 1762) . وأخرجه البخاري -أيضاً- في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب سهام الفرس) (رقم 2863) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. ولفظ البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً، وسيأتي ذكره. (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في سهمان الخيل) (رقم 2733) -ومن طريقه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/169) -، وهو صحيح، أصله في «الصحيحين» كما سيأتي. وأخرجه الشافعي في «المسند» (2/124) ، والبيهقي (6/325) ، وفي «المعرفة» (9 رقم 13020) . وانظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (4) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب سهام الفرس) (رقم 2863) . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير (باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين) (1762) (57) . وأخرجه البخاري في كتاب المغازي (باب غزوة خيبر) (رقم 4228) بلفظ: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهماً. قال: فسَّره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرسٌ فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ولصاحبه سهماً. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فربما استندوا (1) إلى أثرٍ جاء في ذلك (2) ، وشدُّوا مذهبهم بوجهٍ من النظر، أَضْربْنا عن الخوض فيه؛ لصحة الأدلة في المذهب الأول، وأنها لا تُعارض بالرأي (3) . واختلف أهل العلم بعد ذلك في موضعين: وهما: هل يسهم لأكثر من فرس واحد؟ وهل يستوي حظُّ العِراب والهُجْن؟. فأما اختلافهم في الفارس يحضر الغزو ومعه عدَّة أفراس، ففي ذلك ثلاثة أقوال: قول: إنه لا يسهم منها إلا لفرسٍ واحد، وإليه ذهب: مالكٌ، والشافعي،   (1) كذا في الأصل والمنسوخ، والأصوب: «استند» . أو يقول: وأما ما ذهب إليه الحنفية. (2) لعله يقصد حديث مجمِّع بن جارية الأنصاري في قسمة خيبر. وفيه: وكان الجيش ألفاً وخمس مئة، فيهم ثلاث مئة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً. وهذا الحديث ضعيف. وذكر السهمين وهم من بعض الرواة، انظر في الكشف عنها: «سنن أبي داود» (2736) ، «الاستذكار» (14/171) ، «السنن الكبرى» (6/327) ، «معرفة السنن والآثار» (9/247-249) ، «تنقيح التحقيق» (3/349-351) ، «نصب الراية» (3/413-416) ، «نيل الأوطار» (8/115-116) . وانظر -أيضاً-: «المحلى» (7/330) ، «الإجماع» (60 رقم 238 -ط. فؤاد) ، «مراتب الإجماع» (116) ، «فتح الباري» (6/51-52) ، «نوادر الفقهاء» (169) ، «أضواء البيان» (2/354-355، 398-400) ، «الفتح الرباني» (14/78-80) ، «الفيء والغنيمة» (107-113) ، «بذل المجهود» (12/333-336) ، «اللباب في الجمع بين السنة والكتاب» (2/801) . (3) ما قرَّره المصنف: «هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة، فهكذا قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر؛ لأن الفرس يحتاج إلى مؤنة نفسه وسائسه، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة راجليْن» ، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/272) . وانظر: «الأوسط» (11/156) في ردّ الشافعي على أبي حنيفة. وقد قاله الشافعي في «سير الأوزاعي» (باب سهم الفارس، والراجل، وتفضيل الخيل) . من «الأم» (7/337) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وأبو حنيفة، وأهل الظاهر، وغيرهم (1) . وقولٌ ثانٍ: إنه يسهم لفرسين، ولا يُسهم لما زاد عليهما؛ قاله: الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، واختاره محمد بن الجهم المالكي، وإليه ذهب ابن وهب (2) .   (1) انظر في مذهب المالكية: «الموطأ» (1/456-457) ، «التفريع» (1/360) ، «المعونة» (1/615) ، «الكافي» (214) ، «البيان والتحصيل» (2/570) ، «قوانين الأحكام» (169) ، «جامع الأمهات» (ص 251) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/507) ، «الأموال» (ص 34) للداودي، «الذخيرة» (3/425) ، «عيون المجالس» (2/703 رقم 456) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب المالكي (4/439- بتحقيقي) ، «المنتقى» للباجي (3/196) ، «أحكام القرآن» (2/862) لابن العربي. وفي مذهب الشافعية، انظر: «الأم» (4/152) ، «روضة الطالبين» (6/384) ، «المجموع» (21/ 235) ، «الأحكام السلطانية» (ص 179) ، «الحاوي الكبير» (14/162-ط. دار الكتب العلمية) . وفي مذهب الحنفية، انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 285) ، «الهداية» (2/438) ، «فتح القدير» (5/496) ، «الاختيار» (4/130) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/441 رقم 1587) ، «اللباب» (4/132) ، «تبيين الحقائق» (3/254) ، «البحر الرائق» (5/96) . وهو مذهب: الحسن، ومحمد بن الحسن، وغيرهم. وانظر في مذهب أهل الظاهر: «المحلى» (7/331) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/157) . (2) انظر: «الاستذكار» (14/173) ، «المغني» (13/89) ، «الإنصاف» (4/174) ، «منتهى الإرادات» (1/644-645) ، «كشاف القناع» (3/89) ، «الشرح الكبير» (5/569) ، «العدة» (600) ، «الإفصاح» (2/278) . وهو مذهب: الثوري، والأوزاعي، وزيد بن علي، والصادق، والناصر، والليث، ومكحول، ويحيى الأنصاري، وابن وهب، وغيره من المالكية، أفاده: ابن قدامة، والجصاص، والشوكاني في «النيل» (8/118-119) . انظر: «اختلاف الفقهاء» (ص 82) للطبري، «الاستذكار» (14/173) ، «أحكام الجصاص» (3/ 60) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/507) ، «فقه سفيان الثوري» (ص 676) ، «فقه مكحول» (ص 184) ، «مصنف عبد الرزاق» (5/184 رقم 9134) ، «السير» للفزاري (ص 183، 185، 186) -وفيه مذهب الثوري والأوزاعي-، «نيل الأوطار» (7/324) . وهو مذهب أبي يوسف، من الحنفية. انظر: «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/441) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وقولٌ ثالث شاذ: أن يسهم لكل فرس مما دخل به سهمان؛ روي ذلك عن سليمان بن موسى (1) . فأقول: قسم الغنيمة إنما هو على ما ملَّكه الله -تعالى- الغانمين، وإنما ملكهم ذلك على حدِّ السواء، حيث أضافه إلى جملتهم من غير تفصيل، فوجب أن يكون القسم على التسوية؛ إلا حيث خُصص من الدليل الشرعي، وقد ثبت بالسنة والإجماع أن يسهم لفرسٍ واحد (2) ، فكان إخراج أكثر من ذلك من جملة   = ونقل القاضي عبد الوهاب في «المعونة» (1/615) ، وفي مختصر «عيون المجالس» (2/ 704) خلاف أبي بكر -محمد بن أحمد بن الجهم- (ت 329هـ) من المالكية. (1) وصرَّح بشذوذ قول سليمان بن موسى: أبو العباس القرطبي في «المفهم» (3/559) . وانظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (12/405) ، «مصنف عبد الرزاق» (5/186) ، «السير» للفزاري (ص 182) ، «الاستذكار» (14/173) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/157) ، «أضواء البيان» (2/400) . (2) ذكر القاضي عبد الوهاب في «الإشراف» (4/440- بتحقيقي) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسهم إلا لفرسٍ واحدٍ في حروبه كلِّها، وكذلك الأئمة بعده. قلت: ورد في «مغازي الواقدي» (2/688 و3/949) في خبرين: أحدهما: في (غزوة خيبر) بسنده عن الحارث بن عبد الله بن كعب، ضمن خبر فيه: «وما كان أكثر من فرسين لم يسهم له، ويقال: إنه لم يسهم إلا لفرس واحد» ، وفيه -أيضاً-: «ولم يسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لمن كان معه من الخيل لنفسه إلا لفرس واحد، وهو معروف سهم الفرس» . والآخر: في (غزوة حنين) وفيه: «ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم: لكل رجل أربعة من الإبل، أو أربعون شاة، فإن كان فارساً أخذ اثنتي عشرة من الإبل، أو عشرين ومئة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحدٍ لم يسهم له» ، ونقله عنه المقريزي في «إمتاع الأسماع» (426) . والواقدي متروك، ولذا لم يعتد العلماء الأثبات بما نقل، ففي «الموطأ» (2/456-457) : «وسئل مالك عن رجل يحضر بأفراس كثيرة، فهل يقسم لها كلها؟ فقال: لم أسمع بذلك، ولا أرى أن يقسم إلا لفرسٍ واحد، الذي يقاتل عليه» . وقال الشافعي في «الأم» (4/145) : «إنه ليس هناك خبر يثبت في الإسهام لفرس واحد، أو لأكثر من واحد» . وقال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/106) عند قول الرافعي: روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعط = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الغنيمة التي ملَّكها الله -تعالى- الغانمين: لا يباح، إذ لا دليل عليه، والله أعلم. وأما اختلافهم في البراذين والهجن (1) : هل يُسهم لها كما يُسهم للعراب   = الزبير إلا لفرس واحد، وقد حضر يوم خيبر بأفراس، قال: «الشافعي من حديث الزبير بسندٍ منقطع» . وانظر: «سنن البيهقي» (6/328 و9/52) ، «الاستذكار» (14/172-173) . وقد ورد عن عمر في كتابه لأبي عبيدة: «أن أسهم للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبها سهماً، فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فيه جنائب» ، وهذا يخالف ما نقله القاضي عبد الوهاب! فتأمل! وورد من مرسل الأوزاعي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان معه عشرة أفراس. أخرجهما بإسنادين -على الترتيب- سعيد بن منصور في «سننه» (2776، 2774) ، وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (5/184-185 رقم 9316) ، «نصب الراية» (3/419) . وقال القاضي عبد الوهاب -أيضاً-: «ولأن العدوَّ لا يمكن أن يقاتل إلا على فرسٍ واحدٍ، وما زاد على ذلك رفاهةً وزيادة عدة، وذلك لا يؤثر في زيادة السهمين، كزيادة السلاح، قياساً على الثالث والرابع» . قلت: لم يصح شيء مرفوعاً في المسألة، وفات من صنف في هذا الباب التنبيه عليه، وأثر عمر أعلا ما ورد فيها، وبه يؤخذ، وقال به جماعة، وقد مضى ذكره قريباً، وهو القول الثاني الذي ذكره المصنف، والله أعلم. انظر: «نيل الأوطار» (8/118-119) ، «الفيء والغنيمة» (114-116) . وانظر: «الإجماع» لابن المنذر (ص 60) ، و «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص 136) . (1) الخيول إما أن تكون عربية، أو هجيناً، أو مقْرِفاً، أو برذوناً. فالعربي: هو ما يكون أبوه عربياً وأمه عربية. والهجين: أمه عربية وأبوه نبطي. انظر: «القاموس المحيط» (ص 1599) ، «لسان العرب» (3/777) ، «المنتقى» (3/197) ، «مواهب الجليل» (3/372) . والنبط: بياضٌ تحت إبط الفرس وبطنه، وكل دابة. انظر: «لسان العرب» (3/568) ، «القاموس المحيط» (ص 890) . والمُقْرف: هو الذي أبوه برذون وأمه عربية. قالت هند بنت النعمان بن بشر: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 -وهي عِتاق الخيل-، أو لا؟ ففي ذلك ثلاثة أقوال: قولٌ: إنها كلها في ذلك سواء، وهو قول مالكٍ، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي (1) ، واحتج مالك لذلك، قال: «لأن الله -تبارك وتعالى- قال في كتابه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ، وقال -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] » ، قال: «فأنا أرى البراذين والهُجن من الخيل إذا أجازها الوالي» (2) . قال بعض الفقهاء: لا ينبغي للإمام أن يُجيز ما لا منفعة فيه منها، ولا يصلح للقتال.   = وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراسٍ تجلَّلَها بغل فإن ولدت مُهْراً كريماً فبالحرى ... وإن يك إقراف، فما أنجبَ الفَحْلُ والبرذون: أبوه وأمه نبطيان. انظر: «لسان العرب» (1/190) ، «المنتقى» (3/197) ، «مواهب الجليل» (3/372) . والفرس من الخيل، هي: العِراب، أو العربي. انظر: «لسان العرب» (2/107) . والمعرب: أبوه عربي وأمه نبيطة. وسيأتي التعريف بها عند المصنف. (1) انظر في مذهب المالكية: «المدونة» (1/518- ط. دار الكتب العلمية) ، «التفريع» (1/ 361) ، «الكافي» (1/475) ، «الذخيرة» (3/426) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/507) ، «المعونة» (1/ 615) ، «التلقين» (1/243-244) ، «عيون المجالس» (2/701) ، «الشرح الصغير» (2/179) . وفي مذهب الحنفية: «مختصر الطحاوي» (ص 285) ، «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف (ص 20) ، «بدائع الصنائع» (7/126) ، «الهداية» (2/438) ، «البناية» (5/725-726) ، «اللباب» (4/132) ، «فتح القدير» (5/ 498) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/440) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/145) ، «مختصر المزني» (ص 270) ، «المهذب» (2/313) ، «المجموع» (19/ 360) ، «حلية العلماء» (7/679) . وانظر: «الاستذكار» (14/173) ، «السير» (ص 179) للفزاري، «المغني» (13/87) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/59) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 676) . (2) انظر: «الموطأ» . كتاب الجهاد (باب القسم للخيل في الغزو) (ص 291 رقم 458- ط. دار إحياء التراث) ، و «المنتقى» (3/197) للباجي، و «الاستذكار» (14/173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وقال الشافعي (1) : «ينبغي للإمام أن يتعاهد الخيل، فلا يُدخل إلا شديداً، ولا يدخل حطيماً، ولا قحماً ضعيفاً، ولا ضَرَعاً ولا أعجف رَازِحاً، فإن غفل، وشهد رجلٌ على واحدٍ من هذه؛ فقد قيل: لا يسهم له؛ لأنه ليس لها غَنَاء الخيل، ولو قال قائل: يسهم للفرس كما يسهم للرَّجْلِ ولم يقاتل، كانت شبهة» . قوله: حَطيماً، نحو: الكسير. والقَحْمُ: الكسير. والضَّرَع: الصغير الضعيف. والأعجف: الهزيل. والرَّازح: الذي لا يستطيع النهوض إعياءً وضعفاً. وقول ثانٍ في البراذين والهجن: أنها على النّصف من حظ العِراب، رُوي ذلك عن الحسن البصري (2) ، وقاله أحمد بن حنبل (3) .   (1) في «الأم» في كتاب قسم الفيء والغنيمة (باب كيف تفريق القسم؟) (5/320-ط. دار الوفاء) . (2) رواه عنه سعيد بن منصور في «سننه» (باب ما جاء في تفضيل الخيل على البراذين) (رقم 2771) عن هشيم، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/403) عن حفص بن غياث؛ كلاهما عن أشعث بن سوَّار، عن الحسن. وأشعث: ضعيف. وهشيم -هو ابن بُشير السُّلمي- كثير التدليس والإرسال الخفي. وفي «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/440) : «وعن الحسن: البراذين بمنزلة الخيل إذا أدركت ما يدرك الخيل» . وأخرج الفزاري في «السير» (رقم 241) -واللفظ له-، وعبد الرزاق في «المصنف» (5/184 رقم 9315) ، عن الثوري؛ كلاهما عن هشام، عن الحسن قال: الخيل والبراذين سهمانها سواء، فإذا غزا الرجل معه بأفراس، قسم لفرسين، فأخذ خمسة أسهم. وهذا الذي حكاه عنه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/173) . (3) انظر: «المغني» (13/86-87) ، «الإنصاف» (4/173) ، «المقنع» لابن البنا (3/1170) ، «شرح الزركشي» (6/489-492) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/548) ، «الواضح» (2/262، 263) ، «مسائل الإمام أحمد» (1/239- رواية أبي داود، 1/196- رواية الكوسج، 2/110-111- رواية ابن هانئ، 2/820-821- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/750 رقم 1993) . وذكر ابن قدامة في «المغني» أربع روايات عن أحمد -هذه أحدها- وهي الأشهر عنه. واستدلوا بما روى مكحول: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَّب العربي، وهجَّن الهجين، للفرس سهمان، وللهجين سهم» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وقيل: لا يسهم لها أصلاً. وروي عن الأوزاعيِّ قال: لم يكن أحدٌ من علمائنا يسهمون لبرذون (1) . قال مكحول: «أول من أسهم للبراذين خالد بن الوليد يوم دمشق؛ أسهم لها نصف سُهمان الخيل؛ لما رأى من جُرأتها وقوتها، وكان يعطي البرذون سهماً والفرس سهمين» (2) . وقيل: إن أول من فعل ذلك رجلٌ من همدان يقال له: المُنيذر الوادعي؛ خرج على خيلٍ في طلب العدوِّ، فلحقت العتاق، وتقطعت البراذين، فأسهم للعِراب سهمين، وللبراذين سهماً، ثم كتب بذلك إلى عمر فأعجبه ذلك؛ فجرت سنَّة للخيل والبراذين (3) .   = أخرجه أبو داود في «مسائل أحمد» (ص 239) ، وابن عدي في «الكامل» (1/175) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/328) . وهو مرسل. وضعّفه ابن عدي براوٍ فيه اسمه أحمد بن أبي أحمد. وانظر: «إرواء الغليل» (5/65) . (1) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/403) . وانظر: «الاستذكار» (14/177) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/440) وفيه: «وقال الأوزاعي: كان أئمة المسلمين فيما سَلَفَ لا يسهمون للبراذين، حتى هاجت الفتنة من بعد قتل الوليد بن يزيد» . قلت: وكان مقتل الوليد بن يزيد (سنة 126هـ) . انظر: «شذرات الذهب» (1/167) ، «مروج الذهب» (2/145) . وانظر: «الأم» (7/306) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (83- تحقيق يوسف شخت) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/508) ، «الرد على سير الأوزاعي» (ص 20) ، «الأوسط» (11/162) ، «حلية العلماء» (7/679) ، «عمدة القاري» (14/156) ، «نيل الأوطار» (7/238) ، «الفيء والغنيمة» (117-121) . (2) حكاه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/174) ، وقال على إثره: «هذا حديث منقطع، لم يسمعه مكحول من خالدٍ، ولا أدركه» . وانظر: «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/440-441) ، «الأوسط» (11/162) ، «الآثار» لأبي يوسف (780) ، «عيون المجالس» (2/703) ، «فقه مكحول» (ص 185) . (3) رواه سعيد بن منصور في «سننه» (2/326 رقم 2772) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وقال في ذلك شاعرٌ من همدان: ومنَّا الذي قد سنَّ في الخيل سنَّةً ... وكانت سواء قبل ذلك سهامها (1) المُعْرِبْ من الخيل: الذي خلصت عربيته، وكلا أبويه عربي، وكذلك العتيق: وهو الرائع الحسن. والبرذون: هو الذي أبواه عجميَّان. والمقرف: الذي   = (12/403) -ومن طريقه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/175) -، وعبد الرزاق في «المصنف» (5/183 رقم 9313) ، وأبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 243، 244) ، -ومن طريقه أبو هلال العسكري في «الأوائل» (ص 210) -، وابن المنذر في «الأوسط» (11/162) ، وابن عبد البر (14/ 176) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/51) من طريق سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، أو عن ابن الأقمر، وعن الأسود بن قيس، عن ابن الأقمر، قال: أوَّل من عرَّب العِراب، رجل مِنّا يقال له: منذر الوادعي، كان عاملاً لعمر -رضي الله عنه-، على بعض الشام، فطلب العدو، فلحقت الخيل، وتقطعت البراذين، فأسهم للخيل، وترك البراذين، وكتب إلى عمر -رضي الله عنه-، فكتب عمر -رضي الله عنه-: «نِعمَّا رأيتَ» ، فصارت سُنَّة. هذا لفظ البيهقي، وعنده أن اسم ابنَ الأقمر: كلثوم. وليس في رواية ابن المنذر ذكر للأسود بن قيس. قال المنذر: لا أجعل ما أدرك منها مثل الذي لم يدرك، ففضَّل الخيل، فكتب في ذلك إلى عمر ابن الخطاب، فقال: هبلتْ الوادعيَّ أمُّه، لقد أذكرت به، امضوها على ما قال. وفي «كتاب الخيل» لابن دريد -كما في «الإصابة» (3/503) -: «لقد أذكرني أمراً كنت أنسيته» . وقال البيهقي بعد روايته الحديث: قال الشافعي: والذي نذهب إليه من هذا: التسوية بين الخيل، والعراب، والبراذين، والمقاريف، ولو كنا نثبت مثل هذا ما خالفناه. وحكم البيهقي في «المعرفة» (9/249) ، وابن حجر في «الإصابة» و «الفتح» (6/67) بانقطاعه! وكلثوم بن الأقمر الوادعي. قال الذهبي في «الميزان» (3/412 رقم 6966) : قال ابن المديني: مجهول. وفي كتاب «الآثار» (رقم 780) لأبي يوسف: أنه قسم للفارس سهمين، وللراجل سهماً، فبلغ ذلك عمر، فرضي به. وللأثر شاهد، انظره وتخريجه في «المجالسة» (رقم 939) وتعليقي عليه. وانظر: «أحكام القرآن» للجصاص (3/60) ، و «موسوعة فقه عمر» (ص 526) ، «الوسائل إلى معرفة الأوائل» (ص 78) . (1) أثبتها الناسخ: «سهاما» ! والمثبت من الأصل، ومصادر التخريج، وهو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أمه عربية وأبوه عجمي. والهجين: الذي أبوه عربي وأمه عجمية. ولم يختلف المسلمون أن راكب البغل والحمار كالرَّاجل، لا يسهم لواحد منهم إلا سهم واحد، ولا اعتبار بما رُكِبَ، وكذلك اتفقوا أنه لا يسهم لراكب الجمل ثلاثة أسهم، واختلفوا: هل يسهم له سهمان أو سهم واحد؟ ذكره أبو محمد بن حزم، في «مراتب الإجماع» (1) ، وقال في كتاب «المحلَّى» (2) : قال أحمد: لراكب البعير سهمان.   (1) «مراتب الإجماع» (ص 136) . (2) «المحلَّى» (7/330 رقم 950) . ثم قال ابن حزم: «أما قول أحمد فما نعلم له حُجَّة» . وانظر في مذهب الحنابلة: «المقنع» لابن البنا (3/1171) ، «المغني» (13/89-90- ط. دار هجر) ، «شرح الزركشي» (6/ 493) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/548) ، «الواضح» (2/263) ، «المبدع» (3/368) ، «الإنصاف» (4/175) ، «الفروع» (6/232) ، «كشاف القناع» (3/89) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/752 رقم 1995) . واحتجوا أنه حيوان يجوز عقد المسابقة عليه، فجاز أن يُسهم له من الغنيمة، قالوا: ولا يلزم عليه البغل والحمار؛ لأنه لا تجوز المسابقة عليه. قاله العكبري في «رؤوس المسائل» . وهذا فيه نظر، ولعلَّ المراد أنه لا تجوز المسابقة على البغل والحمار بعوض. انظر: «المغني» (13/407) . ورجَّح ابن قدامة عَدَم الإسهام للبعير. -كالجمهور-، وهو المشهور من المذهب. وانظر في مذهب المالكية: «المدونة» (1/518) ، «التفريع» (1/361) ، «المعونة» (1/616) ، «التلقين» (1/244) ، «عقد الجواهر» (1/507) ، «الذخيرة» (3/426) ، «الكافي» (1/475) ، «جامع الأمهات» (ص 251) ، «الرسالة» (190) ، «أسهل المدارك» (2/12) ، «قوانين الأحكام» (69) ، «بداية المجتهد» (1/394) ، «تفسير القرطبي» (8/14-15) ، «شرح الزرقاني» (3/131) ، «الأموال» للداودي (33-34) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» كتاب قسم الفيء والغنيمة (باب كيف تفريق القسم؟) (5/320- ط. دار الوفاء) ، «مختصر المزني» (ص 270) ، «المجموع» (21/234) ، «الحاوي الكبير» (10/466- ط. دار الفكر) ، «حلية العلماء» (7/678) . وفي مذهب الحنفية: «مختصر الطحاوي» (ص 285) ، «اللباب» (4/132) ، «الاختيار» (4/ 129) ، «فتح القدير» (493) ، «بدائع الصنائع» (9/4364) ، «تبيين الحقائق» (3/54) ، «المبسوط» (10/41) ، «أحكام القرآن» (3/58) ، «عقد الجواهر المنيفة» (1/332-335) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 * مسائل في الإسهام للخيل: قال مالك: إذا كان المسلمون في سفن، فلقوا العدو فغنموا، أنه يُضرب للخيل التي معهم في السُّفن. وهو قول الشافعي، والأوزاعي، وأبي ثور (1) . وقال بعض الفقهاء: القياس أن لا يقسم للخيل في مثل هذا؛ لأنها لم تستعد للبحر، ولم تبلغ الموضع الذي يصح القتال بها فيه. ويحتمل أن يكون وجه ترجيح القول الأول: أنها استُصْحِبَتْ في البحر للغزو بها؛ إذا انتهوا إلى موضع يمكنهم النزول، وليس من شرط الإسهام للخيل أن يكون ثَمَّ قتالٌ عليها، لكن إعدادها لذلك، وإحضارها لموضع الحاجة إليها في المغازي هو المعتمد، وكما أنهم في البرِّ لو قاتلوا حصناً لا يتمكن أصحاب الخيل من قتاله، فاقتحمه الرجالة، فهو يقسم لجميعهم، ويكون للفارس سهمه، وسهم فرسه (2) ، فأما إن لم تكن في السفن مُعدّة للغزو بها إذا نزلوا، وكان غزوهم إنما هو في المراكب لا ينزلون إلى البرِّ، ولا يطلبون عدوّ البر، فهم لا يحتاجون إليها بحال، فها هنا يصلح أن يقال: لا يُسهم لها.   = وهو مذهب: الحسن البصري، ومكحول، وسفيان الثوري. انظر: «الأوسط» (1/162-163) ، «الإجماع» (ص 72 رقم 240) كلاهما لابن المنذر، «الإفصاح» لابن هبيرة (9/182) . (1) انظر في مذهب المالكية: «المدونة» (1/518) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/508) ، «الذخيرة» (3/426) ، «النوادر والزيادات» (3/184) ، «تفسير القرطبي» (8/16) . وفي مذهب الشافعية: «الحاوي الكبير» (10/468- ط. دار الفكر) ، «البيان» للعمراني (12/ 214) ، «السير» للفزاري (ص 186) . وفاتت هذه المسألة من جمع فقه أبي ثور وفقه الأوزاعي، ومثلها كثير، وأمارة ذلك في كتابنا كل مسألة ذكرت عنهما، ولم يشر إلى الكتب المفردة في فقههما. وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/163) . (2) قال ابن المنذر في «الأوسط» (11/163) : «وقال الوليد بن مسلم: سألت أبا عمرو -يريد الأوزاعي- عن إسهام الخيل من غنائم الحصون؟ فقال: كانت الولاة قبل عمر بن عبد العزيز: -الوليد، وسليمان-: لا يسهمون الخيل من الحصون، ويجعلون الناس كلهم رجالة، حتى ولي عمر ابن عبد العزيز؛ فأنكر ذلك، وأمر بإسهامها من فتح الحصون، والمدائن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 * مسألة: واختلف أهل العلم في الإسهام للفرس يموت بعد الإدراب وقبل حضور القتال، فقال الشافعي (1) : لا يُسهم لصاحبه سهم الفرس، إلا إذا حضر به القتال، وقاله: أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو قول مالك، وقاله من أصحابه: ابن القاسم (2) . وقال أشهب، وعبد الملك بن الماجشون: بالإدراب يستحق الفرسُ الإسهامَ وإن مات -يعني: قبل حضور القتال-، وإليه ذهب ابن حبيب؛ قال: ومن حُطم فرسه، أو كُسر بعد الإيجاف أُسهم له، بمنزلة موت الفرس بعد الإيجاف، وأما إن أوجف عليه وهو حطيمٌ أو كسير لا يقاتل على مثله، فلا يُسهم له، إذا لم يزل كذلك حتى كان الفتح؛ لأن ذلك بُطْلانٌ، وليس مرضاً يُرْجى بُرؤه، وأما الرهيص: فمريضٌ يُرجى برؤه، مثل المريض من الرجال، قال: وكذلك قال مالك: يسهم للرهيص من الخيل، وإن لم يزل رهيصاً، من حين دخل إلى أن خرج، بمنزلة المريض من الرجال، وقاله: ابن الماجشون، وأشهب، وأصبغ (3) .   (1) في «الأم» (4/145) . وانظر: «المجموع» (19/355) ، «البيان» (12/214) ، «مغني المحتاج» (3/104) . وحكى القفال عن الشافعي: أنه يُسهم له إذا نَفَق. قال: والمشهور الأول. قلت: وهو مشهور مذهب الشافعية الذي ذكره المصنف. (2) انظر في مذهب المالكية: «المدونة» (1/519- ط. دار الكتب العلمية) ، «التفريع» (1/ 360) ، «الذخيرة» (3/426) ، «عيون المجالس» (2/705) ، «النوادر والزيادات» (3/158، 159، 160، 161، 167) ؛ وذكر فيه قول ابن القاسم، وابن حبيب، وابن الماجشون، وأشهب، وأصبغ. وهو مذهب الحنابلة، انظر: «المغني» (13/84-85) ، «شرح الزركشي» (6/488) ، «المقنع» لابن البنا (3/1169-1170) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/548) ، «الواضح» (2/261) ، «المبدع» (3/369) ، «الإنصاف» (4/176) ، «مسائل الإمام أحمد» (2/110- رواية ابن هانئ) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/755) . خلافاً لأبي حنيفة، حيث أسهم للفرس. انظر: «مختصر الطحاوي» (285) ، «الهداية» (2/439) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/ 441) ، «تحفة الفقهاء» (3/301) . (3) «النوادر والزيادات» (3/158) ، «البيان والتحصيل» (2/569) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 قال اللخمي: وقد روي عن مالك أنه لا يُسهم للمريض من الخيل، قال: وعلى هذا لا يسهم للرهيص. قال: وهو أحسن أن لا يُسهم للمريض من الخيل. قال: وبه أخذ محمد بن عبد الحكم، وقال: بخلاف الرجل العليل؛ لأن فيه المشورة والرأي (1) . قال ابن المنذر (2) : وقال إسحاق في رجلٍ جاوز الدَّرب وباع فرسه من راجل: أن سهم الفرس لمن اشترى الفرس، وهو قول الأوزاعي. وقال الأوزاعي في رجل دخل دار الحرب بفرسه، ثم باعه من رجلٍ دخل دار الحرب راجلاً، وقد غنم المسلمون غنائم قبل شرائه وبعده: أنه يسهم للفرس (3) مما غنموا قبل الشراء للبائع، وما غنموا بعد الشراء فسهمه للمشتري، فما اشتبه من ذلك قسم بينهما، وبه قال: أحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر (4) : وعلى هذا مذهب الشافعي، إلا فيما اشتبه، فمذهب الشافعي: أن يوقف الذي أشكل من ذلك بينهما حتى يصطلحا. وقال أبو حنيفة (5) : إذا دخل أرض العدو غازياً راجلاً، ثم ابتاع فرساً فقاتل عليه، وأحرزت الغنيمة، وهو فارس: أنه لا يُضرب له إلا بسهم راجلٍ (6) . قال سحنون: ومن حضر القتال على فرسٍ فلم يفتح لهم في يومهم، فباعه،   (1) انظر: «البيان والتحصيل» (3/22) . (2) في «الأوسط» (11/164) . (3) كذا في الأصل، وفي مطبوع «الأوسط» (11/164) لابن المنذر: «سهم الفرس ... » . (4) في «الأوسط» (11/164) . (5) انظر: «مختصر الطحاوي» (285) ، «الهداية» (2/439) ، «اللباب» (4/132) ، «الرد على سير الأوزاعي» (ص 22، 23) ، «تحفة الفقهاء» (3/301) ، «شرح فتح القدير» (5/500) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصّاص (3/441) . (6) إلى هنا انتهى الكلام من «الأوسط» لابن المنذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فقاتل عليه مبتاعُهُ اليوم الثاني، فلم يكن فتح، فباعه الثاني، فقاتل عليه الثالث يوماً ثالثاً، ففتح لهم: أن سهم الفرس لبائعه الأول؛ لأنه قتالٌ واحد، كما لو ماتَ بعد أول يومٍ، وقاتل عليه أحد ورثته في اليومين، أو لم يقاتل، أنَّ سهمه لورثته (1) . فنقول: إن مرجع الخلاف في الفرس يموت أو يمرض بعد الإدراب به، وقبل حضور القتال عائدٌ إلى الأصل الذي نبَّهنا عليه في سبب اختلافهم في الغازي نفسه يموت بعد الإدراب، أو يمرض، أو يعترضه عائقٌ دون الإتمام، والظاهر هنا أن لا حقَّ لصاحب الفرس في سُهمان الخيل، إلا بعد أن يشهد به القتال حيّاً صحيحاً، أو مريضاً مرضاً لا يقطع الانتفاع به في بعض مشاهد الحرب، على ما فصَّلناه قبل هذا، وكما رجَّحنا هناك في حكم الغازي نفسه يعترض عن الإتمام: أن لا شيء له في الغنيمة، إن لم يحضر من مشاهد الحرب شيئاً. فأما من باع فرسه بعد الإدراب، وقبل شهود القتال، فقد كان يجب أن لا يخفى على كلِّ قولٍ: أنه لاحقَّ لبائعه في سُهمان الخيل؛ لأنه لم يكن مغلوباً في خروجه عن يده، كما يكون ذلك في موت الفرس، أو مرضه، عند من رأى أن يُسهم لصاحبه، إذا كان قد أدرب به، وإنما هذا بمثابة ما لو رجع الغازي مُختاراً عن تمام غَزْوِهِ بعد الإدراب، وقبل القتال، فإنه لا حقَّ له في الغنيمة باتفاق، فإن خالف هنا أحدٌ فأوجب له سهمَ فارسٍ؛ فليس له على ذلك دليل، ولا نظرٌ يستقيم، بل هو خطأٌ محضٌ، وهو ظاهر ما ذهب إليه أبو حنيفة، حيث قال فيمن دخل أرض العدوِّ غازياً راجلاً، ثم ابتاع فرساً فقاتل عليه، فغنموا وهو فارس: أنه لا يضرب له إلا بسهم راجلٍ، فراعى حالة دخوله أرض العدو دون ما انتقلت حاله إليه بَعدُ، وكذلك يجيء على مذهبه هذا أن يكون له سهم الفارس إذا دخل بفرسه، ثم باعه قبل شهود القتال، وكل ذلك غير سديد. أما بائع فرسه قبل شهود القتال به، فقد بَيَّنَّا وجه سقوط حظه؛ لأنه لم   (1) انظر: «الذخيرة» (3/428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 يحصل منه في الجهاد فعل الفارس، ولا الإعداد له، لاختياره الرَّجلة ببيع فرسه قَبْلُ. قال الله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، فهذا لم يحصل منه في ذلك إعداد، ولا للعدوِّ إرهاب، فلم يكن من فوارس الجهاد. وأما من دخل راجلاً، ثم اشترى فرساً، فقاتل عليه حتى غنموا، فهو داخلٌ تحت أمره -تعالى- بإعداد الخيل وإرهاب العدوِّ بها في الغزو، فقد حصل منه في الجهاد عمل الفارس، في الوقت الذي يحتاج إليه فيه باتفاق، فكان له سهم الفارس بالكتاب والسنة والنظر الصحيح، خلافاً لنظر أبي حنيفة. وأما قول سحنون فيمن حضر القتال على فرسٍ يوماً ثم باعه من آخر فقاتل عليه، ثم باعه من ثالثٍ فقاتل عليه يوماً ثالثاً، فكان الفتح؛ أن سهم الفرس للبائع الأول: فغير متوجّه؛ لأن البائع الأول باعه قبل حضور القتال المسبِّب لإحراز الغنيمة، فلم يكن من فرسان الغنيمة، بخلاف من مات فرسه بعد شهود شيءٍ من مشاهد القتال؛ لأنه مجتهدٌ معدٌّ، عَمِلَ في أصحاب الخيل بحسب وسعه، ثم هو مغلوب في هلاكه، لم يكن منه نكولٌ ولا إسقاطٌ، لما تصدَّى للعمل فيه، والبائع مختارٌ راجع عن عمل الفارس قبل الإتمام، وكذلك يكون الحكم في البائع الثاني، وإنما يستحق سهم الفرس من هو مالكه، والمقاتِل عليه إلى حين إحراز الغنيمة، وهذا ظاهرٌ إن لم يكن في شيءٍ من ذلك -القتال الذي حضره بالفرس بائعه- أثرٌ يُعرفُ في تسبيب الاغتنام، مثل أن يكون ذلك القتال من نحو التَّرامي والمطاردة، ثم يتحاجزون على غير نكايةٍ تؤثر في العدو وتكسر منه، فأما إن كان لكل مشهدٍ من مشاهد تلك الأيام أثرٌ في ذلك الفتح والاغتنام يُعرف، كما لو كان يُنكى فيها العدوُّ، ويُنتهك منه شيءٌ بعد شيء، حتى حصل الاستيلاء بذلك عليه في اليوم الثالث أو بعده؛ فهذا يشبه أن يقال فيه: إن سهم الفرس يقسم بينهم ثلاثتهم؛ لأن كل واحدٍ منهم قاتل عليه بملكٍ صحيحٍ قتالاً مؤثراً في إحراز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الغنيمة، فثبت له بذلك حقٌّ، ولما بطل أن يكون للفرس الواحد سُهمان ثلاثةٍ من الخيل؛ قسم بينهم سهمه الذي يجب في ذلك؛ لاشتراكهم في العمل به على حدٍّ سواء، من الملك له، والإرهاب به على العدو، والنيل منه. ولو قال قائل: إنه لا يكون لواحدٍ من البائعين في ذلك حقٌّ، وإنما سهم الفرس على كلِّ حالٍ للمشتري الأخير، الذي كان الفتح والاغتنام وهو في يده، معدوداً به في فوارس الغنيمة؛ لكان عندي هو الوجه (1) ؛ لأنه لما بطل أن يُسهم للثلاثة سُهمان الخيل على فرسٍ واحد، كان سهم الفرس لفارسه، المُتَّصِفِ بِمِلْكِهِ وعمله حال الاستيلاء، وحين إصابة الغنيمة إلى الغانمين، واستحقاقهم ملكها على حسب أحوالهم من فارسٍ وراجل؛ لأن من باع فرسه قبل ذلك، فقد رجع عن نِيَّة الفارس، واختار الرَّجلة، وأسقطَ حظَّه من حقِّ الخيل. وقياس سحنون هذه المسألة على من حضر القتال فارساً ثم مات: باطلٌ؛ لأن ذلك مغلوبٌ غير مختارٍ، ولا راجعٍ عن نِيَّةِ ما ابتدأ به العمل، وكذلك لو مات الفرس تحته على حسب ما بيَّناه، فأمرهما مختلف، والله أعلم. * مسألة: قال سحنون في الفرس المحبَّس سهمه للغازي عليه: وكذلك من أكرى فرساً أو استعاره، فله سهم فارس (2) . وقال ابن القاسم (3) في فرسٍ انْفلتَ من ربِّه بأرض العدو، فأخذه آخر فقاتل حتى غنموا، أو: لما شدَّ القوم على دوابهم للقتال؛ عدا على فرسٍ آخر، فقاتل عليه، فغنموا: أن سهم الفرس في ذلك كلِّه لربِّه.   (1) يتأكد ذلك بما قاله أبو إسحاق الفزاري في «السير» (رقم 254) عن سفيان أنه سئل عن رجلٍ ابتاع فرساً، فغزا عليه. فأخذ سهمه، ثم ردّ الفرس من عيبٍ به؟ قال: السهم له بضمانه. (2) انظر: «الذخيرة» (3/428) ، «البيان والتحصيل» (2/569) . (3) المرجعان السابقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 قال سحنون في المتعدِّي (1) : سهم الفرس له، وعليه لربِّه أجر مثله، إلا أن يأخذه بعد إنشاب القتال، فيكون سهم الفرس لربِّه، وكلا القولين للشافعية (2) في استحقاق سهم الفرس المغصوب. قال سحنون: ومن صرع رجلاً من العدو عن فرسه، وركبه وقاتل عليه، فلا سهم للفرس فيما غنموا في قتالهم هذا، ويُسهم له فيما حضر عليه بعد ذلك من السرايا وغيرها (3) . فأقول: قول سحنون في الفرس الحبيس والمَكْرِيِّ والمستعار: أن سهمه للغازي عليه ظاهرٌ؛ لأنه تَصرَّفَ في قتال العدو تصرُّفَ الفارس بوجهٍ صحيحٍ على وفق الشرع، فوجب له سهمه؛ لعموم القرآن وظاهر السُّنَّة، وقوله في المتعدِّي: أنَّ سهم الفرس له، وعليه لربِّه أجْرُ مثله غَيْرُ سديد، والأرجح ما ذهب إليه ابن القاسم؛ لأن المتعدِّي عمل بالفرس على غير وجه الشرع، فلم يستحق له شيئاً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وليس لعِرقٍ ظالمٍ حقٌّ» (4) . خرَّجه أبو داود والترمذي. وقال فيه: حسن غريب.   (1) المرجعان السابقان. (2) انظر: «البيان» للعمراني (12/214) ، «المجموع» (21/241) ، «مغني المحتاج» (3/104) . (3) «الذخيرة» (3/428) . (4) أخرجه أبو داود في «سننه» في كتاب الخراج (باب في إحياء الموات) (رقم 3073) ، والترمذي في «جامعه» في أبواب الأحكام (باب ما ذكر في إحياء أرض الموات) (رقم 1378) ، والنسائي في «الكبرى» (3/405 رقم 5761) ، وأبو يعلى في «المسند» (رقم 957) من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرقٍ ظالمٍ حقٌّ» . وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب. وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسلاً» . قلت: أخرجه مرسلاً من حديث عروة بن الزبير: مالك في «الموطأ» (2893) ، والنسائي في «الكبرى» (رقم 5762) ، والدارقطني (3/36) ، والبغوي (2167 و2189) ، وأبو عبيد في «الأموال» (704) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/142) . وهي رواية الأكثرين الذين خالفوا أيوباً في وصله. قال الدارقطني في «العلل» (4/414-415) : «تفرد به عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قال أبو الوليد الطيالسي: العِرْق الظالم: الغاصب. ذكره الترمذي (1) . وإذا لم يجب ذلك له، فيحتمل أن يقال: لا يسهم لذلك الفرس؛ لأن المقاتل عليه لا يستحقه، ومالكه لم يشهد القتال عليه، بناءً على أحد القولين: أن لا سهم للفرس حتى يشهد به القتال، ويحتمل أن يقال: يسهم له؛ لأن القتال عليه قد وُجد، فوجب الإسهام، وبطل أن يكون في ذلك حقٌّ للمتعدِّي، فاستحقَّه مالكه الذي أدخله وأعدّه لذلك، ومَلَك منافعه المتعدّى فيها، كما ذهب إليه ابن القاسم. وأما ما ذهب إليه سحنون فيمن صرع رجلاً من العدوِّ عن فرسه، ثم قاتل عليه: أنه لا سهم للفرس فيما غنموا في ذلك القتال، فيفتقر إلى تفصيل، فإن قيل: إنَّ السلب لا يختصُّ به القاتل كما يقوله مالكٌ وجميع أصحابه، فيتوجَّه أن يكون الجواب فيه كذلك؛ لأنه قاتل على فرسٍ لجماعة الجيش؛ فلم يستحقَّ له حقاً دونهم، ويلزم على هذا أن لا يفرق فيه بين قتالهم ذلك وما بعده. وإن قيل: إنَّ السَّلب للقاتل، مُلكاً يختصُّ به -كما يقول الشافعي وغيره- فهو بقتله فارسه استحقَّ الفرس، فإذا قاتل عليه وقد ملكه، وكان القتال على أوله، لم يظهر للفتح أثر، ولا لإحراز (2) الغنمية سبب؛ فالقول بالإسهام له مُتوجَّهٌ، والله أعلم، وبه التوفيق.   = هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد. واختلف فيه على هشام؛ فرواه الثوري عن هشام، عن أبيه، قال: حدثني من لا أتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتابعه: جرير بن عبد الحميد. وقال يحيى بن سعيد، ومالك بن أنس، وعبد الله بن إدريس، ويحيى بن سعيد الأموي: عن هشام، عن أبيه، مرسلاً» . اهـ كلامه -رحمه الله-. والطريق الموصولة رجالها ثقات، فهي صحيحة. انظر: «فتح الباري» (5/19) ، «نصب الراية» (4/170) ، «إرواء الغليل» (5/353) ، «صحيح سنن أبي داود» (3073) . وللحديث شواهد من حديث عائشة، وسمرة بن جندب، وجابر، وعبادة بن الصامت، وغيرهم. انظر: «الإرواء» (رقم 1520، 1550، 1551) ، و «نصب الراية» (4/170) . (1) بعد الحديث رقم (1379) . قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: سألت أبا الوليد الطيالسي عن قوله: «وليس لعرقٍ ظالمٍ حقٌّ» ، فقال: العرق الظالم: الغاصب الذي يأخذ ما ليس له. قلت: هو الرجل الذي يَغرس في أرض غيره؟ قال: هو ذاك. (2) أثبتها الناسخ في نسخته: «ولا إحراز» ، وهو سبق قلم منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 مسائل من أحكام الغنائم تفترق فيها أحوال الاستيلاء * مسألة: اختلفوا في الحربيِّ يسلم في دار الحرب وله بها مالٌ، ثم يظهر المسلمون على تلك الدار؛ فقال أبو حنيفة (1) : يترك له ما كان في يديه من ماله، ورقيقه، ومتاعه، وولدٍ صِغارٍ، وأما ما كان من أرضٍ، أو دارٍ؛ فهو فيءٌ، وامرأته فيءٌ؛ إذا كانت كافرة، وإن كانت حُبلى فما في بطنها كذلك فيءٌ. وقال الشافعي (2) : إن جميع ماله من دارٍ، وأرضٍ، وغير ذلك، فهو كله له، ولا يجوز أن يكون مال مسلمٍ مغنوماً بحال، وولده الصغار عنده أحرار مسلمون، لأنهم تبعٌ له، فأما زوجته وولده الكبار، فحكمهم حكم أنفسهم، يجري عليهم ما يجري على أهل الحرب من القتل والسِّباء، وإن سُبيت امرأته حاملاً منه (3) ، فليس   (1) انظر: «الجامع الصغير» (ص 259، 260) ، «مختصر الطحاوي» (289-290) -وذكر عن أبي يوسف -وليس بالمشهور عنه-: أنه يكون مُحرزاً لها بإسلامه كسائر أمواله سواها-، ثم قال الطحاوي: وبه نأخذُ. وانظر: «الهداية» (2/448) ، «اللباب» (4/122) ، «فتح القدير» (5/488) وذكر -أيضاً- قول أبي يوسف -السابق-، «ملتقى الأبحر» (1/361) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/452 رقم 1605) . (2) في «الأم» في كتاب سير الواقدي (باب الحربي يدخل بأمان، وله مال في دار الحرب) (4/ 296- ط. دار الفكر) . ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/273) ، وانظر: «روضة الطالبين» (10/ 252) ، «المهذب» (5/272) ، «مختصر المزني» (273) ، «الحاوي الكبير» (18/254) ، «الأحكام السلطانية» (134-135) للماوردي، «حلية العلماء» (7/662) . وهو قول الأوزاعي. نقله عنه الطبري في «اختلاف الفقهاء» (48- تحقيق يوسف شخت) . وانظر: «فقه الإمام الأوزاعي» (2/417) . واستدلَّ الأوزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما فتح مكة عنوة: ترك لمن معه من المسلمين أهلهم، وعيالهم، ومالهم، ولم يقبض منها شيئاً. بينما خالفه الشافعي في بيان حجَّته: وهو أن ابني سَعْية القُرظيان أسلما، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - محاصرٌ بني قُريظة، فأحرز لهما إسلامهما: أنفسهما، وأموالهما: دوراً، وعقاراً، وغيره. وانظر: «الأوسط» (11/272) . (3) في منسوخ الأصل: «امرأة حاملٌ» ، وما أثبتناه من المطبوع «الأم» ، وهو الأليق بالسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 إلى إرقاق ذي بطنها سبيل، من قبل أنه إذا خرج فهو مسلم بإسلام أبيه، ولا يجوز السِّباء على مسلم، وعلى ذلك أهل الظاهر (1) . فأمَّا الحربيُّ المستأمن يسلم في دار الإسلام، وله في دار الحرب مالٌ وعقار، فيغنمه المسلمون بعد إسلامه، فقال مالكٌ، والليث، وأبو حنيفة (2) : كل ذلك فيءٌ، وكذلك أولاده الذين بدار الحرب، صغاراً كانوا أو كباراً، وكذلك امرأته وما في بطنها، إن كانت حاملاً. ولم يفرِّق مالك بين إسلامه في دار الكفر ودار الإسلام، وفرَّق أبو حنيفة (3) . وقال الشافعي: كل ذلك سواء، لا سبيل عليه في شيء من ماله، ولا صِغار ولده، كما قال فيمن أسلم في دار الحرب، ولم يُفرِّق، والحجة له في ذلك كالحجَّة في الأول، وهو الأرجح، والله أعلم (4) .   (1) انظر: «المحلى» (7/309-310) . (2) في مذهب أبي حنيفة، في التفريق بين أموال الحربي إذا أسلم، وكانت في دار الحرب، أو في دار الإسلام؛ انظر: «الهداية» (2/448) ، «فتح القدير» (5/488) ، «اللباب» (4/122) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/452) ، «البناية» (5/714) ، «ملتقى الأبحر» (1/361) . ومذهب مالك عدم التفريق، وأن كل أمواله وأولاده فيء. انظر: «المدونة» (1/508- ط. دار الكتب العلمية) ، «التفريع» (1/359) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب البغدادي (4/427- بتحقيقي) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/476) ، «جامع الأمهات» (ص 254) ، «الذخيرة» (3/439) ، «الكافي» (1/481) ، «النوادر والزيادات» (3/282) ، «عيون المجالس» (2/725-727) . وهذا مذهب الحنابلة. انظر: «المغني» (13/115) ، «المقنع» (1/491- ط. مكتبة الرشد. الطبعة الأولى) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/719-720) . (3) وقد ردَّ ابن حزم بغلظة شديدة على أبي حنيفة. انظر: «المحلى» (7/310-311) . (4) ما قرَّره المصنف صحيح ووجيه، والله أعلم. وانظر: «البناية» (5/714) ، «سير الأوزاعي» (7/361- مع «الأم» ) ، «المحلى» (7/309) ، «نوادر الفقهاء» (172) ، «الفتح الرباني» (14/113) للساعاتي، «نصب الراية» (3/411) ، «فتح الباري» (8/32-33) ، «الأوسط» (11/272-273، 276) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 * مسألة: اختلفوا في الحربيِّ المستأمن يخلف ودائع وديوناً في دار الإسلام، ويلحق بدار الحرب، فيغزوها المسلمون، فيُقتل فيمن أُصيب، فقال الشافعي (1) : دَيْنه وودائعه، وما كان له من مالٍ: مغنوم عنه. وقال الأوزاعي (2) : يوضع ماله كلُّه في بيت مال المسلمين. وقال أصحاب الرأي (3) : ما أودع كان فيئاً للمسلمين، وأما الديون فتبطل عن الذي هي عليه، ولا تكون فيئاً، وكذلك ما كان عليه من دينٍ لمسلم، قد بطل ما عليه من الدَّين إذا قُتل أو أُسِر. قال ابن المنذر (4) : إذا مات المستأمن في أرض الإسلام، وخَلَّف مالاً قدم به، أو أصابه في دار الإسلام، وخلف ورثةً في دار الحرب، فإنَّ كلَّ من أحفظُ عنه يقول: إن ماله يُردُّ إلى ورثته، غير الأوزاعي؛ فإن الأخبار جاءت عنه في ذلك مختلفة.   (1) «الأم» (4/296) ولم يفرق -رحمه الله- بين الدَّين والوديعة. وهناك قولٌ آخر للشافعي، وهو أن الوديعة تصير فيئاً. وهذا الذي رجحه المزني في «مختصره» (ص 273) . وانظر: «روضة الطالبين» (10/290) ، «الحاوي الكبير» (14/220) . وقال: «وإذا قدم الحربي دار الإسلام بأمان فمات، فالأمان لنفسه وماله، ولا يجوز أن يؤخذ من ماله شيء، وعلى الحاكم أن يَردَّه إلى ورثته حيث كانوا ... » . وهو مذهب المالكية. انظر: «المدونة» (1/512) ، «الكافي» (1/481-482) ، «النوادر والزيادات» (3/145) ، «عيون المجالس» (2/712 رقم 464) . وكذلك هو مذهب الحنابلة. انظر: «المقنع» (1/519) ، «المغني» (13/80-81) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/722-723) . (2) انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (51) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/418) . (3) انظر: «الجامع الصغير» (ص 258) ، «الهداية» (2/447) ، «البناية» (5/781) ، «مختصر الطحاوي» (ص 290) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/451) ، «ملتقى الأبحر» (1/368) . (4) في «الأوسط» (11/273) نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فأقول: المستأمنُ يموتُ ويخلِّف مالاً في أرض الإسلام، له ثلاثة أحوال: - فإن مات من غير أن يصيبه جيش المسلمين في دار الحرب، فسواءٌ كان موته في دار الإسلام، أو دار الحرب -إن لم يكن توجهه إليها نقضاً-، حُكمُ ماله حُكمُ الأمان، فهو يُردُّ إلى ورثته من أهل دينه، قال الله -تعالى-: {لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] . - وإن كان أصابه جيش المسلمين لما رجع إلى دار الحرب، فكانت إصابتهم إيَّاه في حَوْمَةِ القتال قبل أن يأسروه، فهذا بَطَلَ أن يكون لِمالِه حُكمُ الأمان بعد أن قُتِلَ في حضوره مع أهل الحرب قتالَ المسلمين، فهو يحتمل أن يقال: ماله غنيمةٌ للجيش كسائر ما ظهروا عليه؛ لأنه بغزوهم وإيجافهم انتقل من الأمانة إلى المَغْنم، ويحتمل أن يقال: هو فيءٌ في بيت المال، لا يختصُّ به الجيش، كما قال الأوزاعي. وقاله ابن حبيب -وعزاه إلى ابن القاسم من أصحاب مالك-؛ لأنه مال كافرٍ استحقَّه المسلمون بعد استقراره بدار الإسلام من غير إيجاف (1) . وقد قيل: يُردُّ المال إلى ورثته، بمنزلة ما لو مات عَفْواً بأرضه، وهو قول ابن القاسم المشهور عنه، قال: لأنه ائتمن عليه، ثم لم يملك المسلمون رقبة مالكه بعد ذلك. - وأما إن كان المسلمون أسروه فيمن أُسِر، ثم قتل بَعْدُ، فالأظهر أن ماله مغنومٌ للجيش؛ لأنه بعد الإسار له حكم الرِّقِّ لذلك الجيش، فمالُه قد ملكوه بذلك على حسب اشتراكهم، فهو يخمس، ثم يقسم على الغانمين، والله أعلم. وهو قول ابن القاسم، وقاله عبد الملك بن حبيب، وحكاه عن ابن الماجشون، وأصبغ (2) .   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/145) ، «البيان والتحصيل» (3/28) ، «الذخيرة» (3/446- 447) . (2) «النوادر والزيادات» (3/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وكذلك لو استُحْيِيَ بعد الإسار، فَبِيعَ أو قُسِم، فمالُهُ غنميةٌ لذلك الجيش؛ لأنهم ملكوا رقبة مالكه (1) ، وليس لمشتريه حقٌّ في ماله، كالسُّنَّة فيمن باع عبداً وله مال. وقال الشافعي (2) : مالُه فيءٌ لجماعة المسلمين. * مسألة: إذا لحق عبدُ الحربيِّ بدار الإسلام؛ فأسلم، أو جاء مسلماً: كان حُرّاً، لا حقَّ لسيده فيه، وكذلك لو أسلم سيِّده بَعدُ: لم يكن له إليه سبيل؛ لأنه بإسلامه ولحوقه بدار الإسلام سقط ملكه عنه؛ لقوله -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (3) [النساء: 141] . وخرَّج أبو داود (4) عن عليٍّ بن أبي طالبٍ قال: خرج   (1) «البيان والتحصيل» (3/27-28) . (2) «الأم» (4/296) ، «روضة الطالبين» (10/290) . (3) «المدونة» (1/510-511- ط. دار الكتب العلمية) . وهو مذهب الحنفية والشافعية. وقال به: الأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد. وانظر: «الأوسط» (11/247) . (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون) (رقم 2700) عن عبد العزيز بن يحيى، حدثني محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبان ابن صالح، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وأخرجه الحاكم (2/125) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/246-247) من طريق عبد العزيز، به. وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى» (ص 367) من طريق محمد بن سلمة، به. وأخرجه الترمذي (رقم 3715) -أتمَّ منه-، وأحمد (1/155) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» -كما في «إتحاف المهرة» (11/376-377) - من طريق شريك، عن منصور، به. وفي بعض ألفاظه حديث: «لا تكذبوا عليَّ، فإنه من يكذب عليَّ يلج النار» . وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث ربعيٍّ عن عليٍّ» ، قال: «وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم يكذب ربعيُّ بن حراش في الإسلام كذبة» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 عُبدان (1) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -يعني: يوم الحديبية قبل الصلح-، فكتب إليه مواليهم، فقالوا: يا محمد، والله ما خرجوا إليك رغبةً في دينك، وإنما خرجوا هربوا (2) من الرقِّ، فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله، رُدَّهم إليهم، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «ما أراكم تنتهون يا معشر قريشٍ حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا» ، وأَبَى أن يرُدَّهم، وقال: «هم عتقاء الله» . واختلف أصحاب مذهب مالكٍ فيه إذا أسلم، وبقي في دار الحرب حتى أسلم سيِّده، أو قدم به مستأمناً وإن لم يسلم، أو دخل جيشُ المسلمين فغنموه فيما أصابوا من المشركين، فقيل: إنه في ذلك كله على حكم الرِّقِّ، وهو لسيده في إسلامه واستئمانه، وللجيش في اغتنامه، وإليه ذهب ابن حبيب (3) . وقيل: هو حُرٌّ من إسلامه في يد الكافر الحربيِّ، وإسلامُه في دار الحرب   = قال: «وأخبرني محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن أبي الأسود قال: «سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: منصور بن المعتمر أثبت أهل الكوفة» . وشريك: سيء الحفظ، ومن بعده في الإسناد رجال الشيخين. ولكن تابعه أبان بن صالح -كما عند أبي داود- وهو: ثقة. وربعيٌّ: تابعي مخضرم، وهو ثقةٌ عابدٌ. وعلى أيٍّ؛ فالحديث صحيح. انظر: «صحيح أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. وأخرجه البزار في «البحر الزخار» (3/118 رقم 905) من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن منصورٍ، به. ويحيى بن سلمة: متروك، وكان شيعياً. كما في «التقريب» . وقال البزار: «ولا نعلمه يروى عن علي إلا من حديث ربعي -رضي الله عنه-» . وانظر: «أطراف الغرائب والأفراد» (1/204-205) . (1) عبدان: بضمٍّ العين أو كسرها، جمع عبد، أي: الإنسان المملوك. انظر: «القاموس المحيط» (1/322) . (2) كذا في الأصل: (هربوا) . وكتب أبو خبزة في هامش نسخته: لعلها (هَرَباً) . قلت: وهو الصواب، كما في مصادر التخريج. (3) انظر: «النوادر والزيادات» (3/283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 يزيل ملك سيده عنه، خرجَ أو أقامَ، ويكون حكمه في يد الحربيِّ بعد إسلامه حُكم الأسير، فإن اشتراه أحدٌ منه بعد إسلامه كان كالحرِّ يُفدى، وهو قول أشهب، إلا أنه يزعم أن سيده إذا أسلم بعد ذلك وهو في يديه، كان له ملكاً، وهو ناقص (1) . وفرَّق ابن القاسم فقال (2) : إن بقي حتَّى أسلم عليه سيده، أو قدم به مستأمناً، فملكه باقٍ عليه، وإن غنمه عليه المسلمون: سقط ملكه، وكان حراً، لا حقَّ لذلك الجيش فيه، كما لو أسلم ثم لحِقَ بدار الإسلام. والأرجح القول بحريته بإسلامه (3) مطلقاً؛ لأن الإسلام الذي رفع عنه ملك الحربيّ إذا خرجَ إلى دار الإسلام، هو الذي يرفع ملكه على كلِّ حال، {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «هم عتقاء الله» ، وذلك بالإسلام، لا بالخروج، وهو قول أبي محمد بن حزم (4) . * مسألة: إذا أسلم عبد الحربي، ثم فرَّ إلى أرض الإسلام بمال، فعند المالكية: يكون المال له ولا يُخمس، سواءٌ كان في يديه من تجارةٍ لسيده، أو كان من خراج العبد، أو كان سرقةً، لا خمس في ذلك؛ لأنه مما لم يُوجف عليه، وإن كان في يديه أمانة، فقد استحبَّ له أن يردَّه إلى سيده من غير أن يعرض له فيه إن أمسكه، وكذلك إن فرَّ إلى أرض الإسلام وهو كافر، ثم أسلم، فإن بقي على كفره وأراد المقام، وتضرب عليه الجزية، كان له ذلك، ولم يردّ إلى سيده، وإن أسلم بعد الجزية كان حُرّاً، وسقطت عنه الجزية، ذكره كله اللخمي ذِكراً مطلقاً، ولم   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/284) ، ولم أجد في كتب المالكية -خاصة التي تكثر النقل عن أشهب- زعمه في أن سيده إذا أسلم بعد ذلك كان ملكه له ملكاً ناقصاً. (2) انظر: «المدونة» (1/511- ط. دار الكتب العلمية) ، «النوادر والزيادات» (3/283) ومال إليه صاحب «النوادر» . (3) كذا في الأصل! (4) انظر: «المحلى» (7/318 المسألة رقم 943) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 يتعرض إلى ذكر خلافٍ عنهم في ذلك (1) . قال أبو الوليد بن رشد (2) : إذا تقدم خروج العبد قبل سيده فهو حرٌّ بنفس خروجه، مسلماً كان أو كافراً؛ على مذهب مالكٍ، وجميع أصحابه، وقال أشهب: لا سبيل لسيده عليه إن قدم بعد ذلك، فأسلم (3) أو لم يسلم، سواءٌ أسلم العبد أو بقي كافراً. فأقول: أما قولهم ذلك فيمن كان أسلم من العبيد فظاهر، ودليله ما تقدم في المسألة قبل هذه، وأما فيمن بقي على كفره؛ فكأنهم ذهبوا به إلى حكم ما استُوْلي عليه من الكفار، وكأن العبد استولى على نفسه وغنمها، فكان بذلك حرّاً، وعلى ذلك يكون له ما خرج به من مالٍ وغيره، ونحو هذا رأيت لبعضهم في توجيه ذلك. وقال أبو حنيفة: لا يكون حرّاً بخروجه؛ إلا إذا خرج مسلماً، وأما إذا خرج كافراً فهو غنيمة جميع المسلمين، وقال صاحباه: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن: هو مِلكٌ لمن سبق إليه، قالا مرةً: لغير خمسٍ يجب فيه، وقالا مرةً: بَعْد إخراج الخمس منه لأهله (4) . * مسألة: قال ابن القاسم (5) في عبدٍ أبَقَ إلى دار الحرب، ثم خرج [بعبيدٍ] (6) استألفهم إلى دار الإسلام: إن أولئك الرقيق له أو لسيده إن أراد أخذهم منه، ولا   (1) انظر: «المدونة» (1/520) ، «النوادر والزيادات» (3/284) ، «البيان والتحصيل» (3/52) . (2) في «البيان والتحصيل» (3/53) ، وذكر فيه كلام أشهب. وانظر: «المدونة» (1/512) . (3) كذا في الأصل والمنسوخ، ولعلَّ الأصوب أن تكتب: (أسلم) . (4) انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 291) ، «الهداية» (2/444) ، «البناية» (5/769) ، «اللباب» (4/121) ، «تحفة الفقهاء» (3/304) . (5) «البيان والتحصيل» (3/13) . (6) سقطت من المنسوخ -وهي مُثْبَتَةٌ في الأصل-، واستدركها الناسخ، فألحقها في الهامش، ولكنها غير واضحة في التصوير. انظر: «البيان والتحصيل» لابن رشد (3/13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 خُمس فيهم، وكذلك لو استألفهُم حرٌّ فخرج بهم كانوا له، ولا خمس فيهم. قيل: معنى ذلك: أن يكون استألفهم ليكونوا له عبيداً، قال: وإن قال أولئك الرقيق: إنما خرجنا معه على أننا أحرار، وأنكر ذلك الخارج بهم، فالقول قولهم، وعلى الإمام أن يفي لهم بعهد العبد، أو يرُدَّهم إلى مأمنهم، فإن خرجوا بلا عهدٍ فأَمْرُهُم إلى الوالي، ولا يقبل قول العبد، يعني: في استرقاقهم، إلا أن يُعلم أنه أخرجهم كرهاً، أو يكونوا في حوزه في وثاق، فهم عبيدٌ له. قيل: فإن ادَّعوا أنه أوثقهم في دار الإسلام؟! قال: إن اسْتُدِلَّ على صدقهم بسببٍ ظاهر، فالقول قولهم، وإن لم يُعرفوا عند خروجهم إلا في وثاق؛ فهم له عبيد. قيل: فالعبد يخرج متلصِّصاً إلى أرض العدو فيغنم، قال: يخمس، ويكون فضل ذلك له. ففرَّق ابن القاسم بين خروج العبد إلى دار الحرب إباقاً (1) ، وكذلك الأسير ونحوه لو كان ثَمَّة، ثم يخرج بشيءٍ من دار الحرب، فلم ير فيه خمساً، بل جميعه عنده لمن خرج به، وبين خروج العبد أو الحرِّ إلى دار الحرب تلصُّصاً، وتحيُّلاً بالسرقة والاستيلاف ونحو ذلك. فهذا عنده فيه الخمس، وسائره للذي خرج به؛ لأنه رأى خروجه إلى دار الحرب على قصد النَّيل منهم بذلك والتعمد له إيجافاً، فكان له حكم الغنيمة في التخميس، وهو قول جميع أصحاب مالك، إلا اختلافاً فيما أصاب العبد، وكذلك كلُّ من ليس من أهل الجهاد، كالمرأة والصبي، فقيل: إنَّه لا يخمَّس شيئٌ (2) مما أصابوه، كان مقصوداً بالخروج إليه والإيجاف عليه، أوْ لا. وقيل: إنه يخمس ما أُوجف من ذلك عليه. ولا أعرفهم اختلفوا في الذِّميِّ أنه لا يخمس ما أصاب على أيِّ وجهٍ كان.   (1) انظر: «البيان والتحصيل» (3/15-16) ، «النوادر والزيادات» (3/199) . (2) كذا في الأصل، وأثبتها الناسخ: «شيئاً» ، وكأنه قرأها على المبني للمعلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 * مسألة: قال ابن القاسم في الأسارى من المسلمين يصيبهم العدو في البحر، فيوثقونهم، ويوجهون بهم إلا بلادهم، فيثب عليهم الأسارى فيقتلون بعضهم، ويأسرون بعضهم، ويصيبون متاعهم ومركبهم: إنَّ ذلك إن كان فعله الأُسارى وهم يُسار بهم قبل أن يصلوا إلى أرضهم، ففي ذلك الخمس، قال: وأُراهم بعد في حربهم. قال: وإن كانوا قد وصلوا بهم إلى بلادهم، ثم خلصوا إلى ذلك منهم، فأرى ما أصابوا لهم، ولا خمس عليهم (1) فيه، وإنما يستحكم أسرهم إذا صاروا بهم إلى موضعٍ يأمنون فيه لحوق مراكب المسلمين بهم. قال: ولو أمنوا قبل الوصول إلى أرضهم، لكان لهم بالوصول إلى موضع الأمن حكم الوصول إلى أرضهم. قلت: هذا بناءً على أصلهم في أن لا خمس فيما أصيب على غير القتال، أو تعمّد الخروج لإصابته من تلصُّصٍ ونحوه، لكن قد كان يجب في هذه المسألة على هذا الأصل الخمس في ذلك كلِّه، سواء أَمِن العدو في طريقهم من الاتباع، أو لم يأمنوا، وصلوا إلى أرضهم، أو لم يصلوا، ما دام الجمعان من المسلمين والعدو يجمعهم بعد المناشبة بالقتال حضورٌ واحد، وإذا لم ينفصل أمر اجتماعهم ذلك، فهم في حومة المعالجة، وبسبيل ما نَشَبَ بينهم من ذلك القتال، وإنما إسارُ العدو لهم، ووثوبُ المسلمين بَعْدُ عليهم، كما لو هزمهم العدو، ثم كَرَّ عليهم المسلمون. وكما قالوا في وجوب الخمس إذا وثب الأسارى عليهم بعد أن أوثقوهم، وقبل أن يُلحقوا إلى حيث يأمنون أنهم بعدُ في حربهم، كذلك يلزم ما دام الجمعان على حضور واحد، ولا أثر للأمن، ولا نعلم أحداً يجعل أمن العدو سبباً لسقوط الخمس فيما أصيب منهم، أمَّا إن كانوا عند وصولهم بهم إلى أرضهم تفرَّقوا بالأسرى، وانفصل نظام الجمعين بعد ذلك اللقاء الذي كان على حكم القتال؛ فيمكن أن يقال: ما فعلوا من ذلك بَعْدُ فهو غير مستند إلى إنشاب ذلك القتال، وله   (1) «البيان والتحصيل» (2/603) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 حكم نفسه، فلا خمس فيما أصيب فيه. فإن كان ذلك هو الذي أراد ابن القاسم بقوله: إن كانوا قد وصلوا بهم إلى بلادهم، فله وجه، وأما ما فسره أبو الوليد بن رشد (1) وذهب إليه من ذلك فبعيد، والله أعلم. ما جاء في تحريم الغلول وعقوبة الغال قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] . وخرَّج الترمذي (2) عن عمر بن الخطاب قال: قيل: يا رسول الله: إن فلاناً قد استشهد، قال: «كلا! قد رأيته في النار بعباءة قد غلَّها» . قال: «قم يا عمر، فناد: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» . ثلاثاً. قال فيه: حسن صحيح. وذكر مالك في «موطئه» (3) عن ابن عباس أنه قال: «ما ظهر الغلول في قومٍ قط؛ إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قومٍ قط؛ إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان؛ إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق؛ إلا فشا فيهم الدم، ولا ختَرَ (4) قوم بالعهد؛ إلا سُلِّط عليهم العدو» . قال ابن عبد البر (5) : «مثل هذا لا يقوله إلا توقيفاً؛ لأن مثله لا يدرك بالرأي» .   (1) في «البيان والتحصيل» (2/603) . (2) في «جامعه» في أبواب السِّير (باب ما جاء في الغلول) (رقم 1574) ، وقال فيه: حسن صحيح غريب. وأخرجه مسلم في «صحيحه» (114) ، وأحمد (1/30 و47) ، والدارمي (2489) ، وابن أبي شيبة (14/465-466) ، ويعقوب بن شيبة في «مسند عمر» (ص 53-54) ، والبزار (198) ، وابن حبان (4849) و (4857) ، والبيهقي (9/101) . (3) في كتاب الجهاد (باب ما جاء في الغلول) (ص 293 رقم 524- ط. دار إحيار التراث) ، عن يحيى بن سعيد، بلاغاً؛ عن عبد الله بن عباس، به. (4) خَتَرَ، أي: غَدَرَ. (5) في «الاستذكار» (14/211 رقم 20091- ط. قلعجي) . وقال ابن النحاس في «مشارع الأشواق» (ص 818 تحت رقم 1233) : «وهذا الحديث موقوف، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ثم كأنه تناقض، فبعد أسطر يسيرة، ذكر فيها ذلك في رواياتٍ يزيد بعضها على بعض، قال (1) : «حديث مالك أتم، وكلها تقضي العقول بها والمشاهدة بصحتها» . فالغلول إحدى الكبائر، ومن أعظم القبائح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الغلولَ عارٌ، ونارٌ، وشنارٌ على أهله يوم القيامة» . خرَّجه مالك في «الموطأ» (2) .   = وقد يقال: إن مثله لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد، فسبيله سبيل المرفوع، مع أنه قد روي مرفوعاً بنحوه من حديث ابن عمر؛ أخرجه: الطبراني، والبيهقي، وغيرهما» . وقال الباجي في «المنتقى» (3/204) : «ويحتمل أن يكون عما بلغه من الكتب المتقدمة ... » ، ثم قال: «ويحتمل أن يكون ذلك بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأظهر أنه لو كان بتوقيف لبيَّنه ... » ا. هـ. كلامه. وقد خرجت الوارد في الباب في تعليقي على «إعلام الموقعين» (5/68) ، وعلى «الاعتصام» (2/436) ، وبيّنت صحة ذلك من المرفوع، وانظر: «قدوة الغازي» لابن أبي زمنين (ص 178) . (1) في «الاستذكار» (14/212 رقم 20094) . (2) (2/457-458، أو: رقم 459) عن عبد الرحمن بن سعيد، عن عمرو بن شعيب، مرسلاً. ضمن قصة طويلة، وفيها اللفظ المذكور. وأخرجه عبد الرزاق (5/243/9498) من طريق ابن عجلان عن عمرو بن شعيب، به. قال ابن عبد البر في «التمهيد» (20/38) : «لا خلاف عن مالك في إرسال الحديث عن عمرو بن شعيب، وقد روي متصلاً عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكمل من هذا المساق، وأتم ألفاظاً من رواية الثقات» . قلت: أخرجه أحمد في «المسند» (2/184) ، وأبو داود (2694) -بدون اللفظ المذكور-، والنسائي (6/262-264 و7/131-132) ، والطبري في «التاريخ» (3/86-87، 89، 90) ، والبيهقي (6/336-337 و7/17 و9/102) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، بألفاظ متقاربة، منها لفظ أحمد -وفيه قصة طويلة كما سبق- ومن ضمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فردّوا الخياط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله يوم القيامة: عاراً، وناراً، وشناراً» ، وهو حسن. وأورده ابن كثير في «البداية والنهاية» (4/352-354) . قلت: وورد اللفظ نفسه في حديثٍ عن عبادة بن الصامت؛ أخرجه أحمد (5/316، 318، 319، 323-324، 326) ، وابن أبي شيبة (ق 96/ب) ، والهيثم بن كليب الشاشي (1175-1176) في «مسانيدهم» ، والدارمي (2/229، 230 أو: رقم 2486، 2487) ، وابن ماجه (2850) في «سننهما» ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1865، 1866) ، وابن حبان في «صحيحه» (4855- «الإحسان» ) ، والحاكم (2/326 و3/49) ، والبيهقي (6/292) ، وهو حسن عظيم، قاله ابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 قوله: «الشنار» ، قال في «مختصر العين» : هو العيب والعار (1) . واتفق أهل العلم على أن من أخذ من أهل العسكر أو السَّرية من المسلمين -أسيراً كان أو غيره- شيئاً له ثمن أو بالٌ، مما كان يملكه أهل الحرب -قلَّ أو كثر مما عدا الطعام- فانفرد بملكه ولم يُلقه في الغنائم، فإنه قد غَلَّ (2) . وإنما اختلفوا في الطعام، وفيما لم يتملكه أهل الحرب قبل ذلك: كالحصى، والصيد، وخشب البرِّيَّة، ونحو ذلك مما تقدم القول فيه. وكذلك اختلفوا في الشيء اليسير مما لا ثمن له ولا بال: كالخيط، والخرقة يُرقع بها، ونحو ذلك، وفي الاستمتاع ببعض ما هنالك في دار الحرب عند الضرورة إليه والحاجة، من غير أن يتملكه، فأرخَصَ في ذلك بعضهم. سئل الحسن البصري عن رجلٍ عُريان، أو: من لا سلاح معه: أيلبس الثوب ويستمتع بالسلاح؟ قال: نعم، فإذا حضر القسم؛ فليحضره (3) . وقال سفيان: «لا بأس أن يستعينوا بالسلاح إذا احتاجوا إليه في أرض العدو، وبغير إذن الإمام» . وهو قول جمهور العلماء إذا كانت الضرورة في معمعَةِ الحرب، واحتيج إلى ما استولي عليه من سلاح العدو فهو جائز، رُوي ذلك عن مالكٍ، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم؛ ذكره ابن المنذر (4) . قال:   = كثير في «تفسيره» (2/324) . وله شاهد من حديث أم حبيبة بنت العرباض، عن أبيها، أخرجه: أحمد (4/127-128) ، والبزار (1734- زوائد) ، والطبراني في «الكبير» (18 رقم 649) ، وفي «الأوسط» (2443) . وأورده الهيثمي في «المجمع» (5/337) ، وقال: «رواه: أحمد، والبزار، والطبراني، وفيه: أم حبيبة بنت العرباض، ولم أجد من وثقها ولا جرحها، وبقية رجاله ثقات» . (1) انظر: «الصحاح» (2/704) ، «لسان العرب» (4/430) مادة (شَنَرَ) . (2) قال بدر الدين بن جماعة في «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإلام» (ص 213) : «الغلول في الغنيمة: حرام باتفاق، وهو: أن يُخفي عن الإمام أو نائبه شيئاً من الغنيمة، وإن قلَّ، أو يخون في شيءٍ منها» ا. هـ. كلامه. (3) انظر: «تفسير القرطبي» (4/258) ، «موسوعة فقه الحسن البصري» (1/306 و2/526) . (4) في «الأوسط» (11/79، 80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 «والجواب في الفرس يقاتل عليه في حال الحرب؛ كالجواب في السلاح» -يعني: لِضَرورة مقاومة العدو في التحام الحرب- فأمَّا استعمال شيء من ذلك على غير هذا الوجه إلا تكثُّراً، أو اغتنام الانتفاع به، فلا يباح ذلك. خرَّج أبو داود (1) ، عن رُويفع بن ثابت الأنصاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (بابٌ في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشيء) (رقم 2708) من طريق محمد بن إسحاق -صاحب «المغازي» - عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق -مولى تُجيب- عن حنش الصنعاني، عن رويفع بن ثابت الأنصاري، به. وأبو مرزوق هو: ربيعة بن سُليم، ويقال: ابن أبي سليمان التُّجيبي. ومحمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعن. لكنه صرح بالتحديث، فانتفت شبهة تدليسه. فقد أخرجه أحمد في «المسند» (4/108-109) قال: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي -إبراهيم بن سعد-، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، به -مطولاً-. وفي أوله: «لا يحل لامرىءٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره» -يعني: إتيان الحبالى من السبايا-، «وأن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها» -يعني: إذا اشتراها-، «وأن يبيع مغنماً حتى يقسم، وأن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ... » الحديث. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (4485) من طريق إبراهيم بن سعد، بهذا الإسناد، مختصراً. وأخرجه مطولاً ومختصراً: سعيد بن منصور (2722) ، وأبو داود (2159) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2194) ، والبيهقي (7/449) من طريق أبي معاوية، وأبو داود (2158) ، والبيهقي (7/449) من طريق محمد بن سلمة، والدارمي (2488) ، والطبراني في «الكبير» (4482) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2193) من طريق أحمد بن خالد الوهبي، والطبراني (4486) من طريق زهير بن معاوية، والبيهقي (7/449 و9/124) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (2/240) من طريق يونس ابن بكير، عن ابن إسحاق، به. وأخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2195) ، وابن الجارود (731) ، والطبراني (4483، 4484) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/251) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (1/217) ، وابن حبان (4850) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/78 رقم 6465) ، والبيهقي في «السنن» (9/62) من طريقين، عن ربيعة بن سُليم، عن حنش الصنعاني، به. وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/162) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2198) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (1/129-130) ، والطبراني (4487) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1332) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (1/269) من طريق عبيد الله بن موسى، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردَّها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين، حتى إذا أَخْلقهُ ردّه فيه» . ورُوي عن ابن القاسم -صاحب مالكٍ- أنه وسَّع فيما لا ثمن له، مثل: الخرقة يُرقع بها، والخيط يخيط به، والمسلَّة والإبرة، قال: له أن ينتفع به، وقاله أصبغ. وروي عن مالكٍ في الذي يَرُدُّ الكُبَّة من الخيط، ومثله مما ثمنه دانق وشبهه: أخاف له أن يرائي بذلك، وليس يضيق على الناس. وروى أشهب عن مالك: ما كان قيمته ثمن درهم: فله أن يحبسه ولا يبيعه (1) . فأقول: التمسك من ذلك بشيءٍ -وإن قلَّ- خطرٌ؛ فإن فيما خرجه مالك في «موطئه» ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الناس -يعني: مُنصرفه من حنين- فقال: «أدوا   = عن إسرائيل، وأبو نعيم (1331) من طريق سوار بن مصعب، كلاهما عن زياد المصفر، عن الحسن البصري، قال: حدثني ثابت بن رفيع، به، مختصراً. قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/451) : ثابت بن رفيع: له صحبة، روى عنه الحسن البصري، سمعت أبي يقول: هذا الرجل عندي شامي، وهو عندي رويفع بن ثابت، والحديث حديث شامي. قلت: وذكر نحو هذا -مطولاً- ابن الأثير في «أسد الغابة» (1/268-269) . وأخرجه أحمد (4/107-108) ، وابن أبي شيبة (12/222 و14/465) من طريق ابن إسحاق، به. لكنه سقط من إسناديهما حنشٌ هذا. وأخرجه مختصراً -بذكر النهي عن وطء الحبالى-: الترمذي (1131) من طريق: بسر بن عبد الله، عن رويفع بن ثابت، به. وقال: «حديث حسن» . وأخرجه -موقوفاً مختصراً-: سعيد بن منصور (2727) ، أن رويفع بن ثابت كان يقول: يركب أحدكم الدابة، حتى إذا نقصها؛ ردَّها في المقاسم، فأيُّ غلولٍ أشدّ من ذلك؟! أو: يَلْبَسُ أحدكم الثوب، حتى إذا أَخلقَهُ ردَّه في المقاسم، فأي غلول أشدُّ من ذلك؟!. وإسناده صحيح. (1) انظر: «المدونة» (1/522- ط. دار الكتب العلمية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الخائط والمخيط، فإن الغلول عارٌ، ونارٌ، وشنارٌ على أهله يوم القيامة» (1) . فهذا نصٌّ في الخائط والمخيط -وهو الخيط والإبرة- أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأدائه، وجعل له حكم الغلول المتوعَّد عليه بالنار، فلا ينبغي أن يتسامح مع هذا أحدٌ في مثل ذلك، وإنما حَمَلَ من ذكرناه على الترخيص فيما خَفَّ من ذلك: حملُهم ما وقع في الحديث من ذكر الخائط والمخيط على أنَّ المراد به ضربُ المثل، والمبالغة والتحذير، وإنما المقصود ما فوقه، لكن هذا التأويل مع كونِهِ دَعوى، وخروجاً عن الظاهر بغير دليل، فقد يبطله قوله - صلى الله عليه وسلم - -وقد جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -: «شراكٌ -أو: شِراكان- من نار» ؛ خرَّجه مالك في «الموطأ» (2) . قوله في الحديث: «شراك، أو: شراكان» ؛ هو شكٌّ من المحدِّث. وأجمع العلماء على أن الغالَّ يجب عليه أن يردَّ ما غلَّ إلى صاحب المقاسم إن وجد إلى ذلك سبيلاً، وأنه إذا فعل ذلك، فهو توبةٌ له (3) . واختلفوا: إذا افترق أهل العسكر ولم يوصل إليهم؛ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يرفع إلى الإمام خُمسه، ويتصدَّق بالباقي، فإنْ خاف الإمامَ على نفسه،   (1) مضى تخريجه قريباً. وهو صحيح. (2) (رقم 462- ط. دار إحياء التراث العربي) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الأيمان والنذور (باب هل يدخل في الأيمان والنذور: الأرض، والغنم، والزروع، والأمتعة) (رقم 6707) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب غلظ تحريم الغلول) (183) (115) . (3) قال بدر الدين بن جماعة في «تحرير الأحكام» (ص 214) : «من غلَّ شيئاً من المغنم وإن قلَّ ردَّه إلى المغنم ليقسم، وتجب عليه التوبة والاستغفار من ذلك» . وانظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (110) . ونقل الإجماع: ابن المنذر في «الأوسط» (11/60) ، وفي «كتاب الإجماع» (72 رقم 236) ، وأقره العيني في «عمدة القاري» (15/5) ، وابن حجر في «الفتح» (6/186) ، وانظر: «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/218) ، «تفسير القرطبي» (4/260) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 تصدَّق به كلّه، وبه قال مالكٌ (1) ، والأوزاعي، والثوري، والليث، وغيرهم، وروي معناه عن ابن عباس، وابن مسعود، ومعاوية بن أبي سفيان (2) ، وذهب الشافعي إلى   (1) انظر: «الكافي» (1/473) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/473) ، «الذخيرة» (3/420) ، «النوادر والزيادات» (3/203) . وقال به أحمد، انظر: «المغني» (10/535) . (2) ذكر ذلك عنهم: ابن المنذر في «الأوسط» (11/61) ، وذكره -أيضاً- عن الحسن البصري، والزهري، وكذا حَكى ذلك عنهم: ابن قدامة في «المغني» (9/473) ، والقرطبي في «التفسير» (4/ 261) ، والعيني في «عمدة القاري» (15/7) ، وابن حجر في «الفتح» (6/186) ، والشوكاني في «النيل» (8/138) . وانظر: «شرح النووي على صحيح مسلم» (14/218) ، «سبل السلام» (4/52) . وأثر الحسن، أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (3/316 رقم 2734) عن عبد الله بن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحسن، في الرجل يصيب الغنيمة فيتفرَّق الجيش قال: «يتصدق به عن ذلك الجيش» . وانظر: «تفسير القرطبي» (4/260، 261) ، «موسوعة فقه الحسن البصري» (2/526) . وفي مذهب سفيان الثوري، انظر: «تفسير القرطبي» (4/261) ، «نيل الأوطار» (8/138) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 501) . وفي مذهب الأوزاعي، انظر: «تفسير القرطبي» (4/260) ، «المغني» (10/535) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (14/268) ، «فتح الباري» (6/113) ، «عمدة القاري» (15/7) ، «نيل الأوطار» (7/251) ، «سبل السلام» (4/52) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/457) . وفي مذهب الليث، انظر: «المغني» (9/473) ، «نيل الأوطار» (8/138) ، «فقه الإمام الليث ابن سعد» (ص 284) . وأما أثر ابن عباس، فقد أخرجه -أيضاً- سعيد في «سننه» (3/316 رقم 2733) عن إسماعيل ابن عياش، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم الإفريقي، عن عكرمة، عن ابن عباس في الغلول يصيبه الرجل، وقد تفرقّ الجيش، قال: يردُّه إلى مغنم المسلمين. وإسماعيل بن عياش، وابن أنْعم: متكلَّم فيهما. وأما ابن مسعود، فجعل حكم الغلول التي تاب صاحبه وأراد ردَّه إلى الجيش بعد أن تفرق الجيش؛ جعل حكمه حكم المال الذي لا يعرف صاحبه -أي: اللقطة-؛ فقد أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (10/139-140 رقم 18631) ، ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (11/61 رقم 6449) عن الثوري وإسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: اشترى عبد الله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 إنكار ذلك، وقال: «لا أعرف لقول من قال: يتصدَّق به؛ وجهاً؛ إن كان مالاً له،   = ابن مسعود من رجلٍ جارية بست مئة، أو: بسبع مئة، فنشده سنة لا يجده، ثم خرج بها إلى السُّدَّة، فتصدَّق بها من درهمٍ ودرهمين عن ربِّها، فإن جاء صاحبها خيَّره، فإن اختار الأجر كان الأجر له، وإن اختار ماله كان له ماله، ثم قال ابن مسعود: هكذا افعلوا باللقطة. وأما أثر معاوية بن أبي سفيان؛ فقد أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (3/316 رقم 2732) عن عبد الله بن المبارك، وابن المنذر في «الأوسط» (11/60 رقم 6448) من طريق العباس بن محمد القنطري، عن مبشر، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (29/138- ط. دار الفكر) من طريق أبي إسحاق، جميعهم، عن صفوان بن عمرو، عن حوشب بن سيف، عن عبد الله بن الشاعر السكسكي، قال: غزا الناس زمن معاوية وعليهم: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فغلَّ رجل من المسلمين مئة دينار رومية، فلما انصرف الناس قافلين ندم الرجل، فأتى عبد الرحمن بن خالد، فقال: إني غللت مئة دينار؛ فاقبضها مني، قال: قد افترق الناس، فلن أقبضها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة، فدخل على معاوية، فذكر له أمرها، فقال معاوية مثل ذلك، فمر به عبد الله بن الشاعر السكسكي، وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: كان من أمري كذا وكذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قال: أمطيعي أنت؟ قل: نعم، قال: ارجع إلى معاوية فقل له: اقبض مني خمسك، فادفع إليه عشرين ديناراً، وانظر إلى الثمانين الباقية، فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله -عز وجل- يقبل التوبة، والله أعلم بأسمائهم، ومكانهم، ففعل ذلك الرجل، فبلغت معاوية، فقال: أحسن والله، لأن أكون أفتيته بها أحبَّ إليَّ من كل شيء أملك. وصفوان بن عمرو بن هرم السكسكي، أبو عمرو الحمصي: ثقة. كما في «التقريب» (2938) . وحوشب بن سيف، أبو روح السكسكي المعافري، شامي، قال الإمام أحمد: شامي ثقة. انظر: «الجرح والتعديل» (3/280 رقم 1252) ، «تاريخ دمشق» (5/ق 375-377) . وعبد الله بن الشاعر السكسكي، ذكره ابن عساكر في «التاريخ» (29/138) ، وقال: «حكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي» . وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (3/1/117) : «عبد الله بن الشاعر السكسكي، روى عنه حوشب بن سيف قوله في الغلول إذا تفرَّق الجيش» . وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/83) : «عبد الله بن الشاعر السكسكي، يروي عنه حوشب بن سيف قوله في الغلول إذا تفرَّق الجيش، سمعت أبي يقول ذلك» . قلت: فالحديث السابق من رواية حوشب عن ابن الشاعر. وسقط من إسناد سعيد بن منصور، وابن عساكر ذِكْرُ عبد الله بن الشاعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان مالاً لغيره، فليس له الصدقة بمال غيره» (1) . فصلٌ واختلفوا في عقوبة الغالّ، فروي عن مكحول، والحسن (2) : أنه يُحرق متاعه كله، وقاله الأوزاعي (3) ، وإليه ذهب: أحمد، وإسحاق (4) . قال الحسن: يُحرق جيمع رحله، إلا أن يكون مصحفاً، أو حيواناً. وقال الأوزاعي: إلا سلاحه، وثيابه التي عليه، وسرجه، ولا تنتزع منه دابته، ويحرق سائر متاعه كلّه، إلا الشيء الذي   (1) قاله الشافعي في «الأم» في كتاب الواقدي (باب الرجل يخرج الشيء من الطعام أو العلف إلى دار الإسلام) (4/262) . وتعقبه ابن المنذر في «الأوسط» (11/62) فقال: ما قاله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعوام أهل العلم أَوْلَى. قلت: وهو الذي نراه صواباً -إن شاء الله-. (2) مذهب مكحول. رواه عبد الرزاق في «المصنف» (5/247 رقم 9511، 9512) من طريق يزيد بن يزيد، ومحمد بن راشد، كلاهما عنه. وانظر: «المغني» (9/245) ، «فقه مكحول» (ص 187) . ومذهب الحسن. رواه سعيد بن منصور في «سننه» (2/315 رقم 2730) من طريق يونس، وعبد الرزاق (5/246-247 رقم 9508) من طريق عمرو، كلاهما عنه. وحكاه عنه الخطابي في «معالم السنن» (3/157) ، وكذا الشوكاني في «نيل الأوطار» (7/ 343) . وانظر: «موسوعة فقه الحسن البصري» (2/525) . وتحريق متاع الغال، هو مذهب سعيد (أو مسلمة) بن عبد الملك، أخرجه عنه: سعيد بن منصور في «سننه» (2/315 رقم 2731) ، وأقرَّه عمر بن عبد العزيز، وهو مذهب الوليد بن هشام؛ رواه عنه أبو داود في «سننه» (3/158 رقم 2714) . (3) نقل مذهب الأوزاعي: ابن المنذر في «الأوسط» (11/55) . وحكاه عنه الترمذي في «الجامع» (3/129 بعد الحديث رقم 1461- ط. بشار عوَّاد) . (4) حكى الترمذي في الموطن نفسه مذهب: أحمد، وإسحاق (أي: ابن راهويه) . وهو أحد الروايتين عن أحمد. انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1185) ، «المغني» (13/168-170- ط. دار هجر) ، «شرح الزركشي» (6/537) ، «المحرر» (2/178) ، «الإنصاف» (4/185) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/773) ، «تقرير القواعد» (2/404- بتحقيقي) لابن رجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 غلَّ، فإنه لا يُحرق (1) . وقال مالكٌ، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، والليث (2) ، وداود: لا يُحرق رحلُ الغالِّ، ولا يُعاقب إلا بالتعزير على حسب اجتهاد الأمير. قال الشافعي وداود: إن كان عالماً بالنهي عوقب (3) . فدليل من ذهب إلى التحريق عليه: ما خرَّجه أبو داود (4) ، من طريق صالح بن   (1) فصّل أبو إسحاق الفزاري في «السير» (ص 174-177) مذهب الأوزاعي على وجه دقيق جداً. ونقله ابن جرير بفوت يسير في «اختلاف الفقهاء» للطبري (173-174- ط. يوسف شخت) ، وانظر: «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/475) ، «شرح مسلم» (12/218) ، «تفسير القرطبي» (4/260) ، «معالم السنن» (2/300) ، «المغني» (10/532) ، «المنتقى» (3/204) ، «عمدة القاري» (15/7) ، «نيل الأوطار» (7/253) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/459) . (2) انظر: «المغني» (8/470- ط. ابن تيمية) ، «فقه الإمام الليث بن سعد» (ص 282) . (3) انظر في مذهب المالكية: «الموطأ» (1/457-460) ، «التفريع» (1/357-358) ، «الرسالة» (190) ، «المعونة» (1/ 605-606) ، «أسهل المدارك» (2/11) ، «الكافي» (212) ، «قوانين الأحكام» (167) ، «المنتقى» للباجي (3/204) ، «الإشراف» (4/430- بتحقيقي) ، «عيون المجالس» (2/707) . وفي مذهب الحنفية: «المبسوط» (10/50) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/475) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» في كتاب الحكم في قتال المشركين (باب الغلول) (4/251) ، «البيان» (12/184) ، «المجموع» (21/210-211) ، «الأوسط» (11/56) . (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب عقوبة الغال) (رقم 2713) حدثنا النفيلي وسعيد بن منصور، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، حدثنا صالح بن محمد بن زائدة، عن سالم، عن أبيه، عن عمر. وأخرجه الترمذي (رقم 1461) ، والدارمي (2490) ، وابن أبي شيبة (10/52، 12/ 496-497) ، وأحمد (1/22) ، وسعيد بن منصور (2/315 رقم 2729) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 138-139) ، والبزار (123) ، وأبو يعلى (204) ، وابن عدي في «الكامل» (4/ 1377) ، والجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (588) ، والبيهقي (9/103) من طرق عن عبد العزيز، عن صالحٍ، به. قال الترمذي: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال الجورقاني: حديث منكر، وقال البخاري في «التاريخ الصغير» (2/96) عن حديث صالحٍ هذا: لا يتابع عليه، وقال الدارقطني -فيما نقله عنه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/584) -: «أنكروا هذا الحديث على صالح، وهو حديث لم يتابع عليه، ولا أصل له من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 محمد بن زائدة، عن سالمٍ، عن أبيه، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا وجدتم الرجلَ قد غلَّ، فاحرقوا متاعه، واضربوه» . وخرَّج -أيضاً- (1) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر، حرقوا متاع الغالِّ وضربوه. وأما الآخرون، فلم يثبت عندهم شيء من ذلك. أما حديث صالح بن محمد بن زائدة؛ فضعَّفوا صالحاً؛ قال البخاري (2) : «هو   = ومع هذا فقد صحح الحاكم في «المستدرك» إسناد هذا الحديث، ووافقه الذهبي. وهو تساهل منهما -رحمهما الله-. فالحديث ضعيف. كما ذكر ذلك المصنف -رحمه الله-. وانظر: «الهداية في تخريج أحاديث البداية» (6/70- وما بعدها) ، و «ضعيف سنن الترمذي» ، و «ضعيف سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (1) في «سننه» (رقم 2715) . وقال أبو داود: «وزاد فيه علي بن بحر، عن الوليد -ولم أسمعه منه-: ومنعوه سهمه» . والوليد: هو ابن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وقد أشرنا إلى حديثه قريباً، وهو ما أخرجه أبو داود (رقم 2714) عن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد، ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، فَغَلَّ رجلٌ متاعاً، فأمر الوليد بمتاعه، فأحرق وطيف به، ولم يعطه سهمه. وفيه صالح -أيضاً-. وهذا الذي ذكره أبو داود عن الوليد أصح من المرفوع. وعلَّقه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب القليل من الغلول) قبل رقم (3074) . قال: ولم يذكر عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرَّق متاعه، وهذا أصحَّ. وانظر: «عون المعبود» (7/383) ، «تفسير القرطبي» (4/259) ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وقد ذكرها المصنف قريباً. (2) في «التاريخ الكبير» (4/291) ، قال مُغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (6/343) : «قال محمد: وعامة أصحابنا يحتجّون بهذا الحديث في الغلول، وهو حديث باطل ليس له أصل، ذكر غير واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغلول، ولم يذكر الحرق، وصالح هذا منكر الحديث لا يعتمد عليه» ، كذا هو ثابت في «التاريخ الكبير» بخط أبي ذر، وابن الأبّار، وابن ياميت -رحمه الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 منكر الحديث، تركه سليمان بن حرب» . وقال أحمد بن حنبل (1) : «ما أرى بحديثه بأساً» . وأما حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فقد ضعَّف عَمْراً كثيرٌ من أهل العلم، وبخاصَّة ما رواه من صحيفة أبيه عن جدِّه، فإن الإنكار عليه في ذلك أشدُّ، وقد احتجَّ بعضهم بحديثه (2) . وتمسَّك هؤلاء الذين لم يثبت عندهم أمر التحريق بالأصل المقطوع عليه في تحريم مال المسلم وعصمته، المتضافِرُ على ذلك: القرآن، والسنة، والإجماع. وعارض بعضهم أحاديث التحريق بالآثار التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التشديد على الغالِّ يعثر عليه، فلم يُنقل في شيءٍ منها أنه حرَّق رَحْله، ولا أمر بذلك، كالذي غلَّ الشَّملة (3) ، والذي غلَّ الخَرَزَ (4) ، قالوا: ولو حرقه لنُقل.   (1) في «العلل ومعرفة الرجال» (2/489) ، وعنه في «بحر الدم» (ص 211) . (2) رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ثابتة صحيحة، وهي صحيفة لعمروٍ عن أبيه، وقد احتج بها كثير من أهل العلم الثقات الجبال، وأنكرها بعضهم. وقد علَّق له البخاري في «صحيحه» . فروايته عن أبيه، عن جده: صحيحة، ولا غبار عليها. وانظر: «رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في الكتب التسعة» لأخينا الفاضل: أحمد عبد الله أحمد (ص 64- وما بعدها/ رسالة ماجستير) . (3) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب غزوة خيبر) (رقم 4234) ، وفي كتاب الأيمان والنذور (باب هل يدخل في الأيمان والنذور: الأرض، والغنم، والزروع، والأمتعة) (رقم 6707) . ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) (رقم 115) من حديث أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر، فلم نغنم ذهباً ولا فضة، إلا: الأموال، والثياب، والمتاع، فأهدى رجلٌ من بني الضُّبيب، يقال له: رفاعة بن زيد، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً، يُقال له: مِدعمٌ، فوجَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وادي القرى، حتى إذا كان بوادي القرى، بينما مِدعمٌ يحطُّ رَحْلاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا سهم عائر، فقتله، فقال الناس: هنيئاً! له الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلاّ، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً» . فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراكٍ أو شراكين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «شراك من نار، أو: شراكان من نار» . (4) أخرج أبو داود في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في تعظيم الغلول) (رقم 2710) من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وهذا فيه نظر، إلا أنَّ من لم يثبت عنده ما رُوي في ذلك، فهو على بصيرة مما ذهب إليه بالحَظْرِ المقطوع عليه في أموال المسلمين وأحوالهم، وهو أرجح، والله أعلم (1) . *****   = طريق يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة -أو: ابن أبي عمرة-، عن زيد ابن خالد الجهني، أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «صلوا على صاحبكم» ، فتغيَّرت وجوه الناس لذلك، فقال: «إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله» ، ففتَّشنا متاعه، فوجدنا خَرَزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين! وأخرجه ابن أبي شيبة (12/491-492) ، والنسائي في «الكبرى» (1/636 رقم 2086- ط. دار الكتب العلمية) ، وابن ماجه (2848) ، ومالك (924- رواية أبي مصعب الزهري، و2/458- رواية يحيى) ، وأحمد (4/114، 5/192) ، والحميدي (815) ، وعبد الرزاق (9501 و9502) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (78) ، والطبراني (5174، 5175، 5176، 5177، 5178، 5179، 5180، 5181) ، وعبد بن حميد (272) ، وابن الجارود (1081) ، والحاكم (2/127 و364) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/262) ، والشافعي في «السنن» (636) ، والبغوي في «شرح السنة» (2729) ، وفي «التفسير» (1/441) ، والبيهقي (9/101) ، وفي «دلائل النبوة» (4/255) كلهم من طرقٍ، عن زيد بن خالد الجهني، بنحوه. مع اختلاف بينهم في ذكر: ابن أبي عمرة، -أو: أبي عمرة- وعدم ذكره. قال فيه الحافظ في «التقريب» : «مقبول» - يعني: عند المتابعة، ولم يتابع!! وسبقه الذهبي في «الميزان» (4/558) بقوله: «ما روى عنه سوى محمد بن يحيى بن حَبَّان» . وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (1) ما قرَّره المصنف -من عدم إحراق متاع الغال-: صحيح؛ لضعف حديث صالح بن محمد ابن زائدة -المرفوع- المذكور آنفاً، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الباب الثامن في النفل والسلب، وأحكام الفيء والخُمس، ووجوه مصارفهما، وتفصيل أحكام الأموال المستولى عليها من الكفار قال الله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ، وقال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] ، وقال -تعالى-: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، وقال -تعالى-: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] . فاختلف أهل العلم في تأويل هذه الآي وأحكامها، وما عسى أن يكون فيها من نسخٍ أو حمل بعضها على بعض اختلافاً كثيراً، نُشير منه -إن شاء الله- إلى ما هو الأظهر في حمل الخطاب عليه، والأرجح في شهادة الأدلة له، مما يكون فيه غُنيةٌ، ثم نعقِّب ذلك بالكلام على كلِّ فصلٍ من فصول هذا الباب وأحكامه، وما للعلماء في ذلك من المذاهب بحول الله. ولنُبيِّن أولاً معنى (النَفلِ) و (الفَيءِ) على القول الأظهر الأكثر، وإن كان لهم فيه اختلافٌ يُتَعَرَّفُ عند تفصيل اختلافهم في معاني الآي وأحكامها، وبالله تعالى نستعين. فأمّا النَّفل (1) : فهو ما يُنَفِّلُهُ الإمامُ الجيشَ، أو بعضَهم، إن رأى لذلك وجهاً،   (1) انظر: «الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي» للأزهري (ص 168) ، «تحرير ألفاظ التنبيه» (ص 43) ، «شرح حدود ابن عرفة» (233) ، «القاموس الفقهي» (358) ، «حلية الفقهاء» (160) ، «الكليات» (669) ، «طلبة الطلبة» (196) ، «المُغرب في ترتيب المُعرب» (2/319) . والنَّفَل: بفتح الفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أي: يزيدهم إيَّاه فوق سهامهم التي أوجب لهم القسم من الغنيمة، بحسب اجتهاد الإمام لمصلحةٍ تكون للمسلمين. واختلف: هل تكون تلك الزيادة من أصل الغنيمة قبل أن تخمس، أو مِنْ سائرها بعد إخراج الخمس وقبل القسم، أو: إنما يكون ذلك من الخمس، وتبقى أربعة الأخماس موفورةً للجيش؟ وكذلك اختلف في السَّلَب -وهو ما يوجد على المقتول أو معه (1) -: هل حكمه حكم الغنيمة؟ وأمره راجعٌ إلى الإمام، فينفِّله القاتل إن رأى لذلك وجهاً، كما يفعل في النَّفل من غيره، ويمنعه -أيضاً- إن رأى على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده في مصالح المسلمين، أو: هو شيءٌ يختص به القاتل حُكماً من الله -تعالى-، فلا يدخل من حكم الغنيمة في شيء؟ وأمَّا الفيءُ: فهو ما أفاءه الله -تعالى- على المسلمين، أي: رجعه إليهم من أموال الكفار عَفواً، من غير قتالٍ ولا معالجةٍ، بإيجاف خيلٍ ولا ركابٍ (2) . وحُكم هذا: أن لا يُقسم في الجيش كما تُقسم الغنائمُ؛ لأنهم لم يستحقوه بشيءٍ من العمل، وإنما يكون في مصالح المسلمين عموماً. واختُلِف: هل يخرج منه الخُمس لمن سمَّى الله -تعالى-، أو هو كلُّه في مصالح المسلمين؟ وكذلك اختلف في حكم مصارف الخمس، على ما سنوضح في جميع ذلك -إن شاء الله تعالى-. القول في تأويل الآي وأحكامها اختلف أهل العلم في معنى قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ   (1) «الزاهر» (169) ، «شرح حدود ابن عرفة» (234) . (2) «الزاهر» (ص 168) ، «طلبة الطلبة» (188) ، «شرح حدود ابن عرفة» (230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ، فقال أكثرهم: هي منسوخة بقوله -عز وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ... } الآية [الأنفال: 41] . وقائل هذا القول يجعل الأنفال في الآية هي الغنائم نفسها، وإنما أخذ النَّفل من النافلة؛ وهي الزيادة، قالوا: والغنائم أنفال؛ لأن الله -تعالى- نفلها أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أي: زادهم ذلك وخصَّهم به دون الأمم بفضله. قال - صلى الله عليه وسلم -: « ... وأحلت لي الغنائم، ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي» (1) . وروى أهل اللغة: أن النفل: المغنم. والجمع: أنفال (2) . قالوا: فكانت آية الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، ولم يكن أمرٌ بتخميس الغنائم وقسمها، بل كان الأمر في الغنائم كلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنسخ الله ذلك بآية الخمس {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فاستقرَّ أمر الغنائم على التخميس، وقسم سائرها في الغانمين على السهمان المعلومة. ورُوي في سبب نزول الآية ما يدلُّ على هذا المذهب.   (1) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب التيمم (الطهارة) (باب التيمم) (رقم 335) ؛ من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعطيت خمساً، لم يعطهنَّ أحدٌ قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي المغانمُ، ولم تُحلَّ لأحدٍ قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة» . وأخرجه في كتاب الصلاة (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ) (رقم 438) ، وفي كتاب فرض الخمس (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحلت لكم الغنائم» ) (رقم 3122-مختصراً مقتصراً على لفظ الباب) . وأخرجه مسلم في أول كتاب المساجد (رقم 521) . (2) انظر: «النهاية في غريب الحديث» (5/99) . وهو قول ابن عباس؛ أخرجه الطبري في «التفسير» (13/362) بسنده إلى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعلٌّقه البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (رقم 4645) . وأورده ابن كثير في «التفسير» (3/545) ؛ وعزاه إلى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس بلفظ: «الغنائم كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة ليس لأحدٍ منها شيءٍ» . وهو قول غير واحدٍ من التابعين أنها الغنائم، كما ذكر ذلك ابن كثير -أيضاً-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 خرَّج إسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» عن عبادة بن الصامت أنه قال: أنا أعلم الناس بالنَّفل؛ كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ثلاثة أثلاث، ثلثٌ بإزاء العدو، وثلث يحرس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وثلث في العسكر يأخذون ما في العسكر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل كلَّ امرئٍ ما أصاب، فقال الذين بإزاء العدو: إنا كنّا بإزاء العدو، وخشينا كرَّة العدو عليكم، وقد رأينا أن نأخذ مثل ما أخذتم، وقال الذين حرسوا النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد رأينا أن نأخذ مثل ما أخذتم، ولكن خشينا كرَّة العدوَّ عليكم، فتنازعوا في ذلك؛ فأنزل الله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ ... } الآية [الأنفال: 1] ، وكان فيه تقوى، وصلاح ذات بينٍ، وطاعة الله، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وفي روايةٍ عنه قال: فينا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت حين اختلفنا، وساءت فيه أخلاقُنا، فانتزعه الله -تبارك وتعالى- من بين أيدينا، فجعله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمه بالسَّواء، فكان في ذلك طاعة الله، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وصلاح ذات البين (1) .   (1) أخرجه بطوله ابن حبان في «صحيحه» (11/193-194 رقم 4855 - مع «الإحسان» ) ؛ من طريق إسماعيل بن جعفر، حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن مكحول الدمشقي، عن أبي سلاَّم، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت، به. وأخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (3/228، و240، و241، و277-278) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/146-147) ، والشاشي في «المسند» (1176) من طريق ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، به. وهذا إسناد حسن؛ عبد الرحمن بن الحارث بن عياش: صدوق، له أوهام، كما قال الحافظ في «التقريب» . وسليمان بن موسى -وهو الأشدق-: صدوق، فقيه، في حديثه بعض لين، وخلّط قبل موته بقليل. وحديثهما لا ينزل عن مرتبة الصحة. وباقي رجال السند ثقات. وأخرجه بأخصر مما هنا: الحاكم (2/135) -وعنه البيهقي (6/292) -؛ عن دعلج بن أحمد السجستاني، حدثنا عبد العزيز بن معاوية البصري، حدثنا محمد بن جهضم، حدثنا إسماعيل بن جعفر، بهذا الإسناد، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وممَّن رُوي عنه القول بنسخ الآية على ما وُصِف: ابن عباس، ومجاهد،   = وأخرجه مختصراً: أحمد (5/318، و319، و319-320، و322، و324) ، والترمذي في كتاب السير (باب في النفل) (1561) وحسَّنه، والنسائي في كتاب الفيء (7/131) ، وابن ماجه في كتاب الجهاد (باب النفل) (2852) ، والطبري في «جامع البيان» (15654) ، والحاكم (3/49) ، والبيهقي (9/20-21، و57) ؛ من طرق عن عبد الرحمن بن الحارث، به. وأخرجه عبد الرزاق (9334) ، وأحمد (5/319، و322-323) ، والدارمي (2/229 و230) ، والطبري (15655) ، وأبوعبيد في «الأموال» (ص 396 رقم 802) ، والحاكم (2/136 و326) ، والبيهقي (6/292) من طرق عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة، عن عبادة. ولم يذكر أبا سلام الباهلي. ومكحول، لم يسمع أبا أمامة ولا رآه. فحديثه هنا مرسل، لكن قد عرفت الواسطة بينهما، كما في الطرق الآنفة الذكر، وهو: أبو سلام الباهلي. وأخرجه أحمد (5/314، 316، 330) ، وابن ماجه (رقم 2850) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3/431-432 رقم 1865) من طرق أخرى عن عبادة بن الصامت، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/5) إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وانظر: «تفسير ابن كثير» (7/9- ط. مكتبة أولاد الشيخ) . وللحديث شاهد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: «من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، أما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى الغنائم، فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم، فإنا كنَّا ردءاً لكم، ولو كان شيءٌ لجئتم إلينا، فأبوا، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} » . أخرجه الحاكم (2/132، 221، 326) ، وصححه، وأقره الذهبي. وأخرجه أبو داود (3/29) ، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/232) ، وابن حبان (ص 431- كما في «الموارد» ) ، وذكره ابن كثير في «التفسير» (2/284) ؛ وزاد نسبته إلى النسائي، وابن مردويه، من حديث ابن عباس. وفيه سبب ثالث أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أخرجه مسلم (34) (1748) ، والترمذي (رقم 4079) ؛ وقال: حسن صحيح. وانظر: «أسباب النزول» للواحدي (ص 190) ، «لباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي (ص 106) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/834) ، «الصحيح المسند من أسباب النزول» للشيخ مقبل بن هادي -رحمه الله- (ص 68) ، «المصنف الحديث في أسباب النزول» لعبد الله إسماعيل عمار (ص 173) ، «جامع النقول في أسباب النزول» لابن خليفة عليوي (ص 58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وعكرمة، والضحاك، والشعبي، والسدِّي (1) ، وعليه يجيء مذهب أكثر الفقهاء؛ لأن جمهورهم يقولون: لا يجوز للإمام أن يُنفِّل أحداً من الغنمية شيئاً إلا من سَهْمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الأربعة الأخماس قد صارت لمن شهد الحرب من الجيش. وفي الآية قولٌ ثانٍ: أنها محكمة وليست بمنسوخة، ذهب من رأى ذلك إلى أن الأنفال شيءٌ يُزادُه بعض الجيش على سهمه، وأن للإمام أن يُنفِّل من شاء من الغنيمة إذا كان في ذلك مصلحةٌ، وربما كان مِنْ حجَّة من ذهب إلى هذا، إلى أن التَّنفيل في اللغة: الزيادةُ. قالوا: فهذا هو الذي يُسمَّى نفلاً على الحقيقة؛ لأنها زياداتٌ يُزادها الرجل فوق سهمه من الغنيمة، وممن رُوي عنه هذ القول -أيضاً-: ابن عباس؛ سُئل عن الأنفال فقال: «الفرس من النفل، والسَّلبُ من النَّفَل» (2) ، وإليه ذهب محمد بن جُبير (3) . ويتأيد هذا القول بحديث مالكٍ عن نافعٍ، عن عبد الله بن   (1) انظر: «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص 217 رقم 399، 400) ، و «الأموال» له (ص 431) ، «نواسخ القرآن» لابن الجوزي (2/439- تحقيق محمد أشرف علي) أو (ص 164-ط. دار الكتب العلمية) ، «الناسخ والمنسوخ» لابن العربي (2/224) ، «الناسخ والمنسوخ» لابن النحاس (ص 180- تحقيق شعبان محمد إسماعيل) ، «تفسير الطبري» (9/114) ، «تفسير ابن عباس» (ص 245) ، «تفسير ابن عطية» (6/202) ، «تفسير الضحاك» (1/381) . (2) رواه مالك في «الموطأ» (2/363) ومن طريقه ابن جرير في «التفسير» (13/364 رقم 15646) ، أو (9/170- ط. دار الفكر) ، عن ابن شهاب الزهري، عن القاسم بن محمد، قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال، فقال: ... وذكر الأثر. ورواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/374 رقم 14042) ، عن الضحاك بن مخلد، وابن المنذر في «الأوسط» (11/110 رقم 6495) ؛ والبيهقي في «الكبرى» (6/312) من طريق سفيان، كلاهما؛ عن الأوزاعي، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس قال: «السلب من النفل، والنفل فيه الخمس» . وليس فيه ذكر الواسطة المبهمة بين القاسم وابن عباس. وانظر: «الأموال» لأبي عبيد (304) ، «المحلّى» (7/237) ، «شرح السير الكبير» (2/602، 603) ، «المغني» (8/391) . (3) وبه قال ابن زيد: «ليست منسوخة، بل هي محكمة» . كما في «تفسير ابن كثير» (7/11) ، ومال إليه ابن الجوزي في «نواسخ القرآن» (ص 165) ، وقبله ابن جرير في «التفسير» (9/118-119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قِبَلَ نجدٍ، فغنموا إبلاً كثيرة، فكان سهمانهم اثني عشر بعيراً -أو: أحد عشر بعيراً-، ونفلوا بعيراً بعيراً (1) . فوجهُ الدليلِ منه أنه ذكر فيه التنفيل زيادةً على القسم، فكان النفل شيئاً زائداً على السهم من جملة الغنمية. وخرَّج مسلم (2) عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُنفِّلُ بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصَّة، سوى قَسْمِ عامَّةِ الجيش. وفيه قول ثالث: أن الأنفال هو الخُمس خاصَّة؛ كان المهاجرون سألوا لمن هو؟ فأنزل الله -عز وجل- في ذلك: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] ، رُوي هذا القول عن مجاهدٍ -أيضاً- (3) .   (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب في السرية التي قبل نجد) (رقم 4338) ، وفي كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين) (رقم 3134) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب الأنفال) (1749) (37) ، ومالك في «الموطأ» في كتاب الجهاد (باب جامع النفل في الغزو) (2/450) ، وغيرهم. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب الأنفال) (1749) (40) . وأخرجه البخاري (رقم 3135) . (3) أخرجه عنه ابن جرير في «التفسير» (9/170) . ثم قال بعد ذكره أقوال العلماء: «قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال قول من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم؛ إما من سلبه على حقوقهم من القسمة، وإما مما وصل إليه بالنفل، أو ببعض أسبابه، ترغيباً له، وتحريضاً لمن معه من جيشه، على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين، أو صلاح أحد الفريقين، وقد يدخل في ذلك ما قاله ابن عباس من أنه الفرس، والدرع، ونحوذ لك، ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس؛ لأن ذلك أمره إلى الإمام إذا لم يكن ما وصلوا إليه لغلبة وقهر، يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقهر. وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال بالصواب؛ لأن النَّفل في كلام العرب، إنما هو الزيادة على الشيء، يقال منه: نفلتك كذا، وأنفلتك: إذا زدتك، والأنفال: جمع نفل؛ ومنه قول لبيد بن ربيعة: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 والآية على هذا مُحكمةٌ ومُتَّفقة المعنى مع قوله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، لكن في دعوى تسمية الخمس نفلاً؛ نظرٌ، والله أعلم. فصلٌ وأما قوله -تعالى-: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ... } الآية [الحشر: 7] ، فكذلك اختلف أهل العلم فيها؛ فمنهم من ذهب إلى أن الآية منسوخةٌ بقوله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ... } الآية [الأنفال: 41] ، وزعم أن الفيء ها هنا هو الغنيمة -أيضاً-، وأنه كان الأمر في صدر الإسلام: أن تُقسم الغنائم على هذه الأصناف المسمَّاة في الآية، ولا يكون لمن قاتل عليها شيءٌ منها، إلا أن يكون من أحد هذه الأصناف، ثم نسخ الله -تعالى- ذلك بآية الخمس، فقصر هؤلاء الأصناف عليه، وقسم سائر الغنيمة في الجيش، روي هذا القول عن قتادة (1) ، وغيره، وهو بعيد   = إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ... وبإِذنِ اللهِ رَيْثى وعَجَلْ فإذا كان معناه ما ذكرنا، فكلّ من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة، إن كان ذلك لبلاء أبلاه، أو لغناء كان منه عن المسلمين، بتنفيل الوالي ذلك إياه، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل، فهو منفل ما زيد من ذلك؛ لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحقّ، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة، وكذلك كل ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل؛ لأنه وإن كان مغلوباً عليه، فليس مما وقعت عليه القسمة، فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين الغنيمة والنفل؛ أن الغنيمة: هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل، أو لم ينفل؛ والنفَل: هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة. وإذ كان ذلك معنى النفل، فتأويل الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش؛ الذين قتلوا ببدر لمن هو؟ قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله دونكم، يجعله حيث شاء» . (1) رواه عنه: ابن جرير في «التفسير» (28/37-38) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (8/101) ؛ وعزاه إلى عبد بن حميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 من حيث ادِّعاء حُكمٍ ونَسْخه، من غير دليلٍ على ذلك، وإلا فمعروفٌ في اللغة أن يُقال للغنيمة: فيءٌ. وقال قوم: بل الفيءُ والغنيمةُ شيئان مختلفان، ولكلِّ واحدٍ حكمٌ يختصُّ به، والآية على ذلك مُحكمةٌ. والغنيمة: ما أُخذ على وجه الحرب والمغالبة، وهو الذي أنزل الله -تعالى- في حكمه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فهو يكون خمسه في الأصناف التي سمَّى الله -تعالى-، وأربعة أخماسه للجيش الذين قاتلوا عليه. وأما الفيء: فهو ما صُولح عليه أهل الحرب، ولم يؤخذ عنوة (1) ، فهذا يكون مَصْرفُ جميعه في الأصناف التي سمَّى الله -تعالى- في هذه الآية من سورة الحشر، ولا يُخمَّس، وهو قول سفيان الثوري (2) ، وكذلك قال جمهور الفقهاء: إن الفيء غير الغنيمة، إلا أنهم لم يقصروا الفيء على هؤلاء الأصناف، بل رأوه عاماً في جميع مصالح المسلمين، وهو قول مالكٍ، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر، وغيرهم (3) ؛ إلا أن الشافعي رأى أن يُخمس الفيء كما   (1) وهو: المأخوذ من مال الكافر مما سوى الغنيمة، وسوى المختص بأخذه المحدودين. انظر: «شرح حدود ابن عرفة» (ص 148) . (2) رواه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (5/310 رقم 9715) ؛ قال: «الفيء والغنمية مختلفان، أما الغنيمة فما أخذ المسلمون فصار في أيديهم من الكفار ... » . وانظر: «أحكام القرآن» للجصاص (3/74) ، «مختصر اختلاف العلماء» له -أيضاً- (3/511) ، «الخراج» ليحيى بن آدم (ص 19-ط. دار المعرفة) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 680) . (3) انظر: «المدونة» (1/386) ، «الذخيرة» (3/432) ، «المعونة» (ص 618) ، «عيون المجالس» (2/744) ، «مختصر الطحاوي» (ص 165) ، «الخراج» لأبي يوسف (ص 27) ، «فتح القدير» (5/ 503) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصَّاص (3/511) ، «أحكام القرآن» له -أيضاً- (3/ 62) ، «الأم» (4/139-140) ، «مختصر المزني» (ص 270) ، «روضة الطالبين» (10/282) ، «المهذب» (2/247) ، «المقنع» (1/514-515) ، «الإنصاف» (4/199) ، «كتاب التمام» (2/224-225) ، «الإقناع» (ص 179) ، «المغني» (13/53-ط. هجر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 تُخمَّس الغنيمة، فيكون الخمس في الأصناف المذكورين في هذه الآية؛ كأنه رأى ذلك عائداً على خُمس الفيء خاصة، لما بيَّنت السنَّة أنَّ أربعة أخماسه في مصالح المسلمين عامَّة (1) . وقول الجمهور حيث فرقوا بين الفيء والغنيمة في الآيتين، ولم يروا بينهما تعارضاً ولا نَسْخاً، بل كلتاهما محكمتان؛ هو الأظهر الأشهر. وأمَّا حملُ آية الفيء على معنى أنها الغنيمة؛ كان الحكم فيها أن يقسم على الأصناف المسمَّين فيها، ثم نسخت؛ فأمرٌ لا دليل عليه، ولا اضطرار إليه. وأيضاً؛ فإن الآية في الغنائم من سورة الأنفال نزلت إثر بدر، وذلك قبل أمر القُرى التي أنزل الله -تعالى- فيها: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] . وقد ذهب قومٌ إلى أن هذه الآية مُبيِّنةٌ لحكم الآية التي قبلها: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، وأبى ذلك أكثر أهل العلم، ورأوا أن الآية الأولى من سورة الحشر خاصَّةٌ في حكم أموال بني النضير حين جَلَوا عن بلادهم بغير حرب، وفيهم نزلت سورة الحشر (2) : {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] ، فجعل الله -عز وجل- أموالهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يستأثر بها، بل أخذ منها قدر ما يكفيه   (1) هذا قوله في الجديد. حكاه عنه أبو بكر القفَّال الشاشي في «حلية العلماء» (7/690-691) . (2) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (بابٌ منه) (رقم 4882) ؛ عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت: ومنهم ومنهم، حتّى ظنَّوا أنها لم تُبقِ أحداً منهم إلا ذكر فيها. قال: قلت: سورة الأنفال، قال: نزلت في بَدرٍ، قال: قلت: سورة الحشر، قال: نزلت في بني النضير. وأخرجه في عدة مواطن مختصراً (رقم 4029، 4645، 4883) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب في سورة براءة والأنفال والحشر) (رقم 3031) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وأهله، وفرَّقها في المهاجرين - صلى الله عليه وسلم -؛ هذا قول جمهور العلماء، وهو مرويٌّ عن عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم. وفي «الصحيحين» : البخاري ومسلم، عن عمر قال: «كانت أموال بني النَّضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مما لم يوجِف عليه المسلمون بخيلٍ ولا ركاب، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصَّة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح، عُدَّةً في سبيل الله -عز وجل-» (1) . قالوا: وأما آية الفيء الثانية، فنزلت في قُرىً من قُرى العرب، عَلِمَ الله-تعالى- حكم الفيء منهم، فحكمها مخالفٌ للآية التي قبلها في بني النَّضير؛ تلك خاصَّة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) . فصلٌ: في النَّفل والسَّلَب وأحكامهما * القولُ في النَّفل * النفل في المغانم: الزيادة على السهم، وهو جائزٌ فعله، وقضاء الإمام به إذا رآه مصلحة في الجيش وللمسلمين، وليس ذلك بواجبٍ عليه أن يفعله، ولا حقَّ لأحدٍ في ذلك، إلا أنْ يجعله الإمام، أو أمير الجيش، وهو يكون على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يَخُصَّ الإمام بعض الجيش؛ لِغَنَاءٍ كان منه، أو مكروهٍ تحمَّله   (1) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب المِجَنّ ومن يتترس بتُرس صاحبه) (رقم 2904) ؛ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وكان يُنفِق على أهله نفقة سَنَتهِ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكُراع، عُدَّة في سبيل الله» . وأخرجه في عدة مواطن (رقم 3094، 4033، 4885، 5357، 5358، 6728، 7305) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب حكم الفيء) (رقم 1757) . (2) فكانت أموال بني النضير خاصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فيها حيث شاء، والمصارف المذكورة في الآية هي المصارف المذكورة في خمس الغنيمة. انظر: «تفسير ابن كثير» (8/84- ط. دار الفتح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 دون (1) الجيش، فيزيده شيئاً يُنفِّله إياه. والثاني: أن يبعث سرية من جُملة الجيش، فيخُصَّها بشيءٍ يزيدها إيَّاه مما غنمت دون العسكر. والثالث: أن يُحرِّض الإمامُ الجيشَ على القتال قبل لقاء العدو؛ فيُنفِّلهم، أو من شاء منهم مما يرجوه من الغنيمة شيئاً قبل القسم؛ تحريضاً لهم على الاجتهاد، وكره مالكٌ هذا الوجه؛ خشية أن يكون قتالهم للدنيا (2) ، وأجازه جماعة من أهل العلم (3) .   (1) أثبتها الناسخ: «دور» وهو خطأ، وكتب الناسخ في الهامش: «لعلها: دون» . (2) قال سحنون: «سمعت مالكاً يكره هذا كراهية شديدة، أن يقال لهم: قاتلوا ولكم كذا وكذا. ويقول: أكره أحداً على أن يُجعل له جُعل ... » . انظر: «المدونة» (1/518-ط. دار الكتب العلمية) ، «الذخيرة» (3/422) ، «عقد الجواهر» (1/504) ، «النوادر والزيادات» (3/222-223) ، «الاستذكار» (14/102) ، «البيان والتحصيل» (3/78-79) . وجوَّزه ابن عبد البر في «الكافي» (1/476) ، وقال: «ولا نفل عند مالكٍ إلا السلب للقاتل وما جرى مجراه» . وظاهر مذهب الشافعي -أيضاً-: أنه لا يصح، ويجب ردُّ ما أخذه إلى المغنم، لظاهر قوله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ... } ، ولأن ذلك يؤدي إلى اشتغالهم عن القتال بتحصيل ما يختصّ بهم. انظر: «الأم» (4/151) ، «المهذب» (2/244) . وأجازه أحمد في رواية، والمشهور عند الحنابلة عدم الجواز، كما سيأتي. وقال بدر الدين بن جماعة في «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» (ص 213) : «فإن قال أمير الجيش ذلك بعد الفتح والظفر، فلا يصح، ولا أثر له باتفاق» . (3) كأبي حنيفة، وأحمد -في رواية-، وبعض أصحاب الشافعي. وانظر: «الهداية» (2/440) ، «المغني» (10/462) ، «اختلاف الفقهاء» (127، 128) ، «الإفصاح» (2/281) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/737 رقم 1987) . قلت: ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/151) : «أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أمر عبد الله بن أبي السرح، أن يغزو بلاد إفريقية، فإذا افتتحها الله عليه، فله خمس الخمس من الغنيمة نفلاً؛ ففتح الله -تعالى- إفريقية عليه، فأخذ عبد الله خمس الخمس، وبعث بأربعة أخماس الخمس إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنائم بين الجيش» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 واختلف أهل العلم في أحكام النَّفل في ثلاثة مواضع: أحدها: فِيمَ يُفرضُ النَّفل. والثاني: مقدار ما يفرض منه. والثالث: الوقت الذي يجوز أن يُفرض فيه. فأما اختلافهم في الموضع الأول -وهو فيم يفرض- ففي ذلك ثلاثة أقوال: قول: إنه لا يكون النَّفل إلا من الخُمس، وهو قول مالكٍ، والشافعي، وأبي حنيفة، وأصحابهم (1) ، وقاله سعيد بن المسيّب (2) ، ومستند هؤلاء: أن أربعة أخماس   = فمما تقدّم يتبين أن عثمان -رضي الله عنه- كان ينفل من الغنيمة قبل القسمة، تشجيعاً لأهل البلاء على بلائهم في القتال، لكنه كان لا يجيز التنفيل بأكثر من خمس الخمس -كما سيأتي بعد قليل-. (1) انظر في مذهب الحنفية: «الهداية» (2/441) ، «اللباب» (4/130) ، «بدائع الصنائع» (7/ 121) ، «فتح القدير» (4/209) ، «تبيين الحقائق» (3/258) ، «البحر الرائق» (5/101- مع «حاشية ابن عابدين» ) ، لكنهم قالوا: لا ينفِّل الإمام إلا المحتاج، أما الغني فلا. وفي مذهب المالكية: «الموطأ» (1/290-ط. دار إحياء التراث) ، «المدونة» (1/517-ط. دار الكتب العلمية) ، «التلقين» (72- ط. مطبعة فضالة. وزارة أوقاف المغرب) ، «المعونة» (1/607) ، «شرح الدردير» (1/269) ، «التفريع» (1/358) ، «تفسير القرطبي» (7/362) ، «الكافي» (1/476) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/503) ، «رؤوس المسائل» لابن القصَّار (51، 55) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (3/593) ، «الذخيرة» (3/422) ، «النوادر والزيادات» (3/221) ، «التمهيد» (14/ 51، 69) ، «الاستذكار» لابن عبد البر (14/163-164) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/150) ،، «المهذب» (2/241) ، «المجموع» (21/223) ، «مغني المحتاج» (3/ 102) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 243) . وانظر: «اللباب في الجمع بين السنة والكتاب» لأبي محمد علي بن زكريا المنبجي (ت 686) (2/772) . وهناك قول آخر للشافعي أنه من خمس الخمس -كما سيأتي-، وقول آخر: أنه من أصل الغنيمة. كما في «مغني المحتاج» . وانظر: «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» (553) ، «الفقه الإسلامي وأدلته» (6/460) . (2) نقل ذلك عنه البغوي في «تفسيره» (3/29- مع تفسير الخازن) . وذكر ابن المنذر في «الأوسط» (11/113) عن محمد بن إسحاق، أنه خطّأ قول ابن المسيب. وانظر: «الرحمة في اختلاف الأئمة» (باب السلب والتنفيل) ، «شرح صحيح مسلم» (12/55) ، «عون المعبود» (3/ 114) ، «طرح التثريب» (7/257) ، «تفسير القرطبي» (7/362) ، «الأوسط» (11/113) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الغنيمة يُعيَّنُ مُستحقُّوها -وهم الغانمون-، فلم يَجُز إخراج شيءٍ من ذلك عنهم، والخمس مصروفٌ إلى اجتهاد الإمام في التعيين، فكان ذلك منه. وقولٌ ثانٍ: إنه لا يكون في الخُمس نفلٌ، وإنما يكون في أربعة الأخماس بعد إخراج الخمس، ثم يقسم ما بقي على الجيش، وهو قول أحمد بن حنبل،   = ورواه مالك في «الموطأ» (1/290 رقم 523-ط. دار إحياء التراث العربي) ، -وسقط من مطبوعه: الأعرج-، وعنه الشافعي في «الأم» (4/150) . وذكره ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/ 163-164) ؛ عن مالك عن أبي الزناد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: «كان الناس يعطون من الخمس» . وقال: قال مالك: «وذلك أحسن ما سمعت في ذلك» . ثم قال: يدل على أنه قد سمع غير ذلك. وأخرجه من طريق مالك: البيهقي في «الكبرى» (6/314) . وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/192 رقم 9342) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (3/308 رقم 2706) ؛ كلاهما عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: «ما كانوا ينفّلون إلا من الخمس» . ورجاله ثقات. وأخرجه عبد الرزاق (5/192 رقم 9344) عن خالد بن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، به. وقد حمل الشافعي وغيره: الخمس الوارد في هذه الرواية على أن المراد به: خمس الخمس. قال في «الأم» (4/150) : «قول ابن المسيب: يعطون النفل من الخمس، كما قال إن شاء الله، وذلك من خمس النبي - صلى الله عليه وسلم -» . قلت: روى عبد الرزاق في «المصنف» (5/191-192 رقم 9341) ؛ عن إبراهيم بن يزيد، عن داود بن أبي عاصم، عن سعيد بن المسيب، قال: «لا نفل في غنائم المسلمين، إلا في خمس الخمس» . وشيخ عبد الرزاق: إبراهيم بن يزيد: هو القرشي الأموي، يُعرف بالخُوزِيِّ: متروك. كما قال الحافظ في «التقريب» (303) -وسيأتي قريباً-. وانظر: «شرح الزرقاني على موطأ مالك» (3/26) ، «الحاوي» (9/ باب النفل) ، «فقه سعيد بن المسيب» (4/174) . ولسعيد بن المسيب رواية ثانية تخالف الأولى، وهي أن النفل كان من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأحد بعده أن يعطي أحداً من الغنيمة أكثر من سهمه. روى الطبري في «تفسيره» (9/119) بسنده إلى سعيد: أنه أرسل غلامه إلى قومٍ سألوه عن شيءٍ، فقال: «إنكم أرسلتم إليَّ تسألوني عن الأنفال، فلا نفل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . وروي نحو ذلك عن عمرو بن شعيب. انظر: «المغني» (10/409) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وإسحاق، وقاله أبو محمد بن حزم (1) ، وإليه ذهب جماعة فقهاء الشام، منهم: رجاء بن حَيْوة، ومكحول، والقاسم بن عبد الرحمن، وسليمان بن موسى، والأوزاعي، وغيرهم (2) . ودليلهم: ما خرَّجه أبو داود (3) ، عن حبيب بن مسلمة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1165) ، «المغني» (13/53) ، «الواضح» (2/258) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/548) ، «شرح الزركشي» (6/470) ، «مسائل الإمام أحمد» (1/200-201- رواية الكوسج، 1/315-316- رواية صالح، 3/847-848- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/779 رقم 2022) . وانظر كلام ابن حزم في: «المحلّى» (7/340 المسألة رقم 956) . (2) روى ذلك عنهم جميعاً: سعيد بن منصور في «سننه» (2/307 و311 رقم 2705 و2716 و2717) . وانظر: «الاستذكار» (14/107-108) . ونقل ذلك ابن قدامة عن بعضهم في: «المغني» (13/60-ط. دار هجر) . وانظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (2/287 رقم 2716) ، و «مصنف عبد الرزاق» (5/192 رقم 9345، 9347) ، «الأوسط» (11/111) ، «فقه الإمام مكحول» (ص 183) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/464) . وهو قول للشافعي -أيضاً-، وقول الأوزاعي: أن النفل من أصل الغنيمة. نقله عنه النووي. وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/111) ، «شرح صحيح مسلم» (12/55) ، «طرح التثريب» (7/25) ، «عمدة القاري» (15/59) ، «فتح الباري» (6/149) ، «نيل الأوطار» (7/229) ، «عون المعبود» (3/31) . وقال أبو عبيد في كتاب «الأموال» (باب النفل من جميع الغنيمة قبل أن تخمس) (ص 404 رقم 826) : «والناس اليوم في المغنم على هذا، أنه لا نفل من جملة الغنيمة حتى تخمس، وإنما جاز أن يُعطى الأدلاّء والرعاء من صلب الغنيمة قبل الخمس، لحاجة أهل العسكر لهذين الصنفين، فصار نفلهما عامّاً عليهم؛ لأنه لا غناء بهم عنهما، فهو من جميع المال، وأما ما سوى ذلك فما نعلم أحداً نفل من نفس الغنيمة قبل الخمس إلاّ ما خصَّ الله به نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد رُوي عنه في ذلك شيء لا يجوز لأحد بعده» . (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في مَنْ قال: الخمس قبل النفل) (رقم 2749) . وأخرجه ابن ماجه (2852) ، وابن أبي شيبة (14/456) ، والدارمي (2/229) ، وأحمد (4/ 159، 160) ، وعبد الرزاق (5/190 رقم 9334) ، والحاكم (2/145) ، وسعيد بن منصور (2/307 = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 كان ينفِّل الرُّبع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قَفَلَ. وخرَّج مسلم (1) ، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُنفِّل بعض من يبعث من السَّرايا لأنفسهم خاصَّة، سوى قسم عامَّة الجيش، والخمس في ذلك واجبٌ كله. وقول ثالث: إن الأمير مُخيَّرٌ، فإن شاء نفل مِن رأس الغنيمة قبل الخمس، وإن شاء بعد الخمس، وهو قول النَّخعي (2) . ويُروى عن أبي ثورٍ: أن النَّفل قبل الخمس (3) .   = رقم 2702) ، وابن الجارود في «المنتقى» (ص 271) ، وأبو عبيد في «الأموال» (ص 325 رقم 800) ، وابن زنجويه في «الأموال» (1176 و1177) ، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/240) ، والطبراني في «الكبير» (3522، 3523، 3524، 3525، 3527، 3531، 3532) ، وفي «مسند الشاميين» (1518 و1365 و3549 و3550 و3551 و3552) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (1/190) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/135 رقم 6523) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/314) من طرقٍ كثيرة عن حبيب بن مسلمة، به. وفَصَّلْتُها في تعليقي على «تالي تلخيص المتشابه» (1/47-49 رقم 3) للخطيب البغدادي. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» . وأخرجه أبو داود (2748) ، وأحمد (4/159) ، وابن أبي شيبة (14/457) ، وعبد الرزاق (5/ 190 رقم 9333) ، والطبراني في «الكبير» (3519) ، وفي «الشاميين» (628) ، وابن ماجه (2851) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (852) ، وأبو عبيد في «الأموال» (798) ، والدارمي (2483) ، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/240) ، والحاكم في «المستدرك» (2/133) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/314) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/135-136) ، نحوه. (1) في «صحيحه» . في كتاب الجهاد والسير (باب الأنفال) (رقم 1749) (40) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين) (رقم 3135) . (2) رواه عبد الرزاق في «المصنف» (5/191 رقم 9339) ، عن سفيان الثوري، عن منصور، عنه. ورواه سعيد بن منصور في «سننه» (3 رقم 2669 و2671) ، عن سفيان وأبي عوانة، عن منصور، عنه. وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/113) ، «المغني» (13/60 -ط. هجر) ، «موسوعة فقه إبراهيم النخعي» (2/127) . (3) انظر: «اختلاف الفقهاء» (128) للطبري، «المغني» (13/60- ط. هجر) ، «فتح الباري» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 ثم اختلف أصحاب القول الأوَّل الذين رأوا أن النَّفل لا يكون إلا من الخمس، فقال منهم جماعة: لا يكون إلا في خمس الخمس، وهو سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول الشافعي (1) ، ورُوي كذلك عن سعيد بن المسيب (2) . ومستندهم أن خمس الخمس -وهو سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - - هو الذي يَرْجِعُ النَّظرُ فيه إلى الإمام، وأما سائره فمُعيَّنٌ في الأصناف الموصوفين في الآية، كما عُيِّن سائر الغنيمة للجيش. وقال مالكٌ وأصحابه (3) : بل جميع الخمس يرجع النظر فيه إلى الإمام- على ما سنذكره بعد هذا في مصرف الفيء والخمس. وأما اختلافهم في الموضع الثاني -وهومقدار ما يُفرضُ في النفل-، ففي ذلك أقوال: قول: إن ذلك راجعٌ إلى اجتهاد الإمام، ولا حدَّ له؛ قاله الشافعي (4) ،   = (6/240) ، «عمدة القاري» (15/59) ، «فقه الإمام أبي ثور» (786) . (1) «الأم» (4/150- ط. دار الفكر) ، «المهذب» (2/241) ، «المجموع» (21/223) ، «مغني المحتاج» (3/102) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (243) ، «اللباب في الجمع بين السنة والكتاب» (2/772) . (2) رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (5/191-192 رقم 9341) ؛ عن إبراهيم بن يزيد، عن داود بن أبي عاصم، عنه. وفيه شيخ عبد الرزاق هو إبراهيم بن يزيد، يعرف بالخوري: متروك. كما في «التقريب» . وقد مضى قريباً. وذكره عن سعيد: الشافعي في «الأم» (4/150) ، والبغوي في «شرح السنة» (11/113) ، وابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/222) ، وغيرهم. (3) «الموطأ» (1/290) ، «المدونة» (1/157) ، «المعونة» (1/607) ، «التفريع» (1/358) ، «الكافي» (1/476) ، «عقد الجواهر» (1/503) ، «الذخيرة» (3/422) ، «النوادر والزيادات» (3/221) . (4) في «الأم» (4/151) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/137) ، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (12/12963) . وانظر: «الحاوي الكبير» (10/445) ، «المجموع» (21/223) ، «حلية العلماء» (7/675-676) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (234) ، «مغني المحتاج» (3/102) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ومذهبه أن ذلك لا يكون إلا في خمس الخمس -كما تقدم-، إلا أن يكون تحريضاً يتقدم به قبل الغنيمة لمن يفعل فِعْلاً يُفضي إلى الظفر بالعدو، كالتجسس، والدلالة على الطريق، والتقدم بالدخول إلى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد انفصال الجيش عنها، فله عندهم أن يُنفَّل بجزءٍ من جملة الغنيمة المرجوَّة في ذلك؛ لحديث حبيب بن مسلمة المتقدم؛ ولأن الجيش لم يتعلَّق لهم بها حقٌ، إلاَّ على هذا الوصف، وهو في مصالحهم، كالإجارة والجُعْل. وقولٌ: إنه لا يُزاد في النفل على الثلث -وهو قول جمهور العلماء- (1) ، ودليل هذا القول حديث حبيب بن مسلمة -المتقدم-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُنفِّلُ الرُّبع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قَفَلَ. فكان ذلك أقصى ما رُوي في التَّنفيل. وقولٌ: إنه لا يبلغُ بالنَّفلِ سهمَ راجلٍ إلا أن يكون التَّنفيل لسريَّةٍ، أو أحدٍ ممن ساق غنيمة إلى الجيش، فللأمير أن يُنفِّل من أتى بالغنيمة رُبعَ ما ساقَ بعد   = واستدل الشافعي -رحمه الله- بحديث ابن عمر -وقد مضى قريباً-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفلهم بعيراً بعيراً، بعد ما أخذ كل واحد من السرية التي خرجت اثني عشر بعيراً. وقال: «وفي رواية ابن عمر ما يدل على أنه نفل نصف السدس» . قال: «فهذا يدل على أنه ليس للنفل حدٌّ لا يتجاوز ما للإمام» . وقول الشافعي هذا قال به الحنفية والمالكية خلافاً للحنابلة -كما في الهامش الآتي-. انظر في مذهب الحنفية: «الهداية» (2/441) ، «اللباب» (4/130) ، «فتح القدير» (5/511) ، «إعلاء السنن» (12/290) . وفي مذهب المالكية: «المدونة» (1/517) ، «المعونة» (1/607) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/503) ، «الذخيرة» (3/421) . (1) هو مذهب الحنابلة فقط. انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1165-1166) ، «المغني» (13/ 53-57) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/548) ، «الواضح» (2/258) ، «مسائل أحمد» (1/200- 201- رواية الكوسج، 1/315-316- رواية صالح، 3/847-848- رواية عبد الله) ، «شرح الزركشي» (6/470) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/778 المسألة رقم 2021) . ونقله ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/107) ؛ عن مكحول، والأوزاعي. وقال: «وهو قول جمهور العلماء» . فلعلَّ المصنف ذكر أنه قول الجمهور متابعةً له! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الخمس في الدخول إلى أرض الحرب، وثلث ما ساق بعد الخمس في الخروج منها، لا زائد على ذلك. وإليه ذهب أهل الظاهر (1) ، ودليلهم حديث حبيب بن مسلمة -المتقدم- في تنفيل الربع والثلث لمن ساق غنيمةً إلى الجيش، وإن ما عدا ذلك لم يثبت في شيءٍ منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفَّل أحداً ما يبلغ سهم راجل. وقولٌ: إن للإمام أن يُنفِّل السَّرية جميع ما غنمت من غير تخميس، روي ذلك عن مكحول، وعطاء، وإبراهيم (2) . وعامَّة الفقهاء على خلافه. وروي عن   (1) انظر: «المحلى» (7/340-341 المسألة رقم 956) . (2) ذكر ذلك عنهم: ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/102) ؛ قال: ذكر أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، عن عمران القطان، عن علي بن ثابت، قال: سألت مكحولاً، وعطاء؛ عن الإمام ينفِّل قوماً ما أصابوا؟ قال: ذلك لهم. وقال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، قال: سألت إبراهيم -أي: النخعي- عن الإمام يبعث السرية، فتغنم؟ قال: إن شاء نفلهم إياه كله، وإن شاء خمَّسه. ومذهب إبراهيم النحعي أنه لا يزاد على الثلث، كما نقله عنه ابن قدامة في «المغني» (13/ 54- ط. دار هجر) . وانظر: «موسوعة فقه إبراهيم النخعي» (ص 127) . وهو مذهب مكحول -كما سبق النقل عنه-، والأوزاعي. وانظر: «الآثار» لأبي يوسف (194) . ودافع عن هذا الرأي تاج الدين ابن الفركاح في جزء مطبوع بمصر قديماً، وعنوانه: «الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة» ، وظفرتُ برد عليه للإمام النووي، منه نسخة وحيدة -فيما أعلم- في مكتبة تشستربتي بإيرلندة، وهو بعنوان: «مسألة وجوب تخميس الغنيمة وقسمة باقيها» وقد فرغت منذ سنوات من نسخه. وسيرى النور -إن شاء الله تعالى- قريباً بتحقيقي. ثم وجدت مقولة للإمام السيوطي في قاعدة: «الأصل في الأبضاع التحريم» ، في كتابه: «الأشباه والنظائر» (ص 62) يقول فيها -وهو يتكلم على قسمة الغنائم-: «أن يأخذها جيش من جيوش المسلمين بإيجاف خيل أو ركاب، فهي غنيمة أربعة أخماسها للغانمين، وخمسها لأهل الخمس، وهذا لا خلاف فيه، وغلط الشيخ تاج الدين الفزاري، فقال: إن حكم الفيء والغنيمة راجع إلى رأي الإمام يفعل فيه ما يراه مصلحةً، وصنّف في ذلك كراسةً سماها: «الرّخصة العميمة في أحكام الغنيمة» وانتدب له الشيخ محيي الدين النووي، فرد عليه في كراسة، أجاد فيها، والصواب معه قطعاً» انتهى. وانظر -لزوماً-: «الاعتصام» للشاطبي (2/9، 10) وتعليقي عليه، فقد زيّف هذا القول، وجعله غنيمة على طريقة (مَنْ عَزَّ بَزّ) لا طريقة الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الثوري أنه قال في أميرٍ أغار فقال: من أخذ شيئاً فهو له: هو كما قال (1) . وليس لشيءٍ من ذلك دليلٌ يُعتَدُّ به. وأظهر الأدلة رجوحاً ما ذهب إليه أهل الظاهر (2) ، والله أعلم. وأما اختلافهم في الموضع الثالث -وهو الوقت الذي يكون فيه فرضُ التَّنفيل- ففي ذلك قولان: أحدهما: إن ذلك لا يكون إلا بعد إحراز الغنيمة، لا قبل ذلك، وإليه ذهب مالك (3) ، وكره أن يُنفَّل قبل ذلك يُحرِّضهم؛ خشية أن يكون قتالهم لغير الله، وعنده: أن السَّلبَ من النَّفل، قال: ولم يَقُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلاً فله سَلَبُه» (4) ، إلا بعد أن برد القِتال. وبنحو ما ذهب إليه مالك؛ يقول أبو حنيفة (5) .   (1) انظر: «المغني» (13/56- ط. هجر) ، «شرح السنة» (11/113) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (264) . ويروى هذا القول عن الأوزاعي -أيضاً-. انظر: «الاستذكار» (14/107) ، «فقد الإمام الأوزاعي» (2/464) . (2) ورجَّحه ابن المنذر في «الأوسط» (11/138) . (3) انظر: «المدونة» (1/518-ط. دار الكتب العلمية) ، «الاستذكار» (14/103) ، «النوادر والزيادات» (3/222) ، «البيان والتحصيل» (3/78-79) ، «الكافي» (1/477) -ونقل عن بعض أهل المدينة وغيرهم من الحجازيين من يرى النفل جائزاً بعد الغنيمة وقبلها-، «التمهيد» (14/55 وما بعدها) ، ونقل فيها عن فقهاء الشام؛ أن لا نفل في أول المغنم. (4) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس (باب من لم يخمّس من الأسلاب، ومن قتل قتيلاً فله سلبه من غير أن يخمس، وحكم الإمام فيه) (رقم 3142) من حديث أبي قتادة، في غزوة حنين، ضمن قصة طويلة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلاً له عليه بيّنة؛ فله سَلبه» . وأخرجه في كتاب المغازي (باب: وقول الله -تعالى-: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ) (رقم 4321 و4322) ، وفي كتاب الأحكام (باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء أو قبل ذلك للخصم) (رقم 7170) . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير (باب استحقاق القاتل سلب القتيل) (رقم 1751) . (5) مذهب الحنفية أن لا نفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام، لأن حق الغير قد تأكد فيه بالإحراز، إلا من الخمس؛ لأنه لا حقَّ للغانمين في الخمس. انظر: «الهداية» (2/441) ، «البناية» (5/746) ، «اللباب» (2/130) ، «فتح القدير» (5/ 511) ، «بدائع الصنائع» (7/115) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/51) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/458 المسألة رقم 1613) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 والقول الثاني: إن له أن يُنفِّل قبل إحراز الغنيمة وبعده على ما يرى من الاجتهاد، وما فيه المصلحة، وهو قول الشافعي (1) . قال: وقد رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفَّل في البدأةِ والرَّجعة. وقال الثوري (2) : لا بأس أن يقول الإمام: من جاء برأسٍ فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا، يُضرِّيهم. القول في السَّلب في «الصحيحين» : البخاري ومسلم (3) ، عن أبي قتادة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سَلبهُ» . وذكره مالكٌ وغيره (4) . وخرَّج -أيضاً- أبو داود (5) ، عن عوفِ بن مالكٍ الأشجعي، وخالد بن الوليد،   (1) في «الأم» (4/149، 151) . وانظر: «مختصر المزني» (ص 149) ، «الحاوي الكبير» (10/445) ، «المجموع» (21/225) . (2) انظر: «المغني» (8/381) ، «شرح السنة» (11/113) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (264) . (3) البخاري (3142 و4321 و4322 و7170) ، ومسلم (1751) ، وقد مضى قريباً. (4) أخرجه مالك في «الموطأ» في كتاب الجهاد (باب ما جاء في السلب في النَّفل) (رقم 457- ط. دار إحياء التراث) . (5) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في السلب لا يخمس) (رقم 2721) حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، وخالد بن الوليد، به. وفيه إسماعيل بن عياش، أبو عتبة الحمصي. قال الحافظ في «التقريب» (473) : «صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلّط في غيرهم» . وصفوان بن عمرو بن هرم السكسكي، أبو عمرو الحمص، ثقة. وهو حمصيٌّ من بلد إسماعيل بن عياش، فرواية إسماعيل عنه مقبولة -إن شاء الله-، وإسناده حسن. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في السَّلب للقاتل، ولم يخمس السَّلبَ. واختلف أهل العلم من هذا الفصل في ثلاثة مواضع: في حكم السلب لمن يكون، وفي حدِّ السلب، وعلى ماذا يقع، وفي صفة القتيل المسلوب. فأما حكم السلب، فلأهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال: قول: إنه مِلكٌ للقاتل، يختصُّ به، حُكماً من الله -عز وجل-، لا يحتاج في ذلك إلى تقدم قول أميرٍ ولا غيره، فهو يُحاز له من جملة الغنيمة، من غير خمس يجب فيه، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأهل الظاهر، وقاله محمد بن جرير الطبري، وغيره (1) .   = وهو في «سنن سعيد بن منصور» (2/306 رقم 2698) ، ومن طريقه أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (11/109 رقم 6492) . وأخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (3/226) ، وأبو عبيد في «الأموال» (772) ، والبيهقي في «السنن» (6/310) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (19753) من طرقٍ عن إسماعيل بن عياش، به. وأخرجه أحمد (4/90 و6/26) ، وابن الجارود في «المنتقى» (1077) من طريق أبي المغيرة، عن صفوان بن عمرو، به. وليس فيه: «قضى بالسَّلَب» . وأخرجه أبو يعلى (7191 و7192) ؛ من طريقين عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن خالد بن الوليد، به. وأخرجه أحمد (6/26) ، وغيره، من حديث عوف بن مالك مطولاً، وفيه قصة. (1) انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/153-154) ، «الإقناع» (177) ، «الوجيز» (1/290) ، «حلية العلماء» (7/ 658) ، «الحاوي الكبير» (14/155-ط. دار الكتب العلمية) ، «مغني المحتاج» (4/234) ، «نهاية المحتاج» (6/144) ، «المجموع» (21/184، 187) ، «مختصر الخلافيات» (4/146 رقم 172) ، «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لبدر الدين بن جماعة (216-218) . وسيذكر المصنف عنهم أن هذا إذا كان القتيل مقبلاً غير مدبر، والحرب قائمة، وهذا التفريق لا نعلم له دليلاً خاصّاً. وانظر: «رحمة الأمة» (2/165- بهامش «الميزان الكبرى» للشعراني -ط. مصطفى البابي الحلبي) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/63) ، «الإنصاف» (4/148) ، «تنقيح التحقيق» (3/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وقولٌ ثانٍ: إنه كذلك للقاتل -أيضاً-، إلا أن للإمام أن يُخمِّسه إذا استكثره، ويكون للقاتل أربعة أخماسه، رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب (1) ، وهو قول   = 346) ، «المحرر» (2/174) ، «المبدع» (3/370) ، «منتهى الإرادات» (1/635-636) ، «كشاف القناع» (3/70-71) . وانظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (112، 117- نشره د. يوسف شخت، مكتبة بريل، ليدن، هولندا) . وبه قال الأوزاعي في رواية، والليث، وأبو عبيد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن حزم، وغيرهم. انظر: «الرد على سير الأوزاعي» (46) ، «الأموال» (405) ، «المحلَّى» (7/335 رقم 955) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/447) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/58) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/66) ، «المهذب» (2/238) ، «فتح الباري» (6/249) ، «نيل الأوطار» (9/180) ، واختار هذا القول ابن المنذر في «الأوسط» (11/109) . (1) ذكره ابن حزم في «المحلّى» (7/336) ، قال: ومن طريق ابن أبي شيبة، نا عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: كان السلب لا يخمس، وكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء بن مالك، وكان قَتَلَ مرزبان الزارة، وقطع منطقته وسواريه، فلما قدمنا المدينة صلى عمر الصبح، ثم أتانا فقال: السلام عليكم، أثمَّ أبو طلحة؟ -أي: البراء- فقالوا: نعم، فخرج إليه، فقال عمر: إنا كنا لا نخمس السلب، وأن سلب البراء مال، وإني خامسه، فدعا المقوِّمين، فقوَّموا ثلاثين ألفاً، فأخذ منهم ستة آلاف. وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (5/233 رقم 9468) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/132) ، والبيهقي (6/311) ؛ من طريق أيوب، وأبو عبيد في «الأموال» (389-390 رقم 781) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (3/308 رقم 2708) ؛ من طريق ابن عون، ويونس، وهشام، والبيهقي (6/310) ؛ من طريق ابن المبارك عن هشام، جميعهم عن محمد بن سيرين، عن البراء، به. وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (11/109-110، 126-127) ؛ من طريق عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن هشام، به. ورواه الطحاوي (2/133) من طريق مكحول، عن أنس، به. قال ابن حزم: «ولا يظن بعمر تعمد خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصحَّ أنه استطاب نفس البراء، وهذا صحيح حسن لا ننكره، وهو قول الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عبيد، وأبي سليمان، وجميع أصحاب الحديث، إلا أن الشافعي، وأحمد، قالا: إن قتله غير ممتنع، فلا يكون له سلبه» ا. هـ. وخطَّأ هذا الاستثناء؛ لحديث سلمة بن الأكوع، فإنه قتل مشركاً غير ممتنع، وفي غير قتال، وأخذ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 إسحاق (1) . وقول ثالث: إن السَّلب وسائر الغنيمة واحدٌ في الحكم، لا يختصُّ القاتل بذلك، إلا أن يُنفِّله إياه الإمام إن رأى لذلك وجهاً كسائر الأنفال، ولا فَرْقَ، وإليه ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، والثوريُّ، وغيرهم (2) .   = سلبه، بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وانظر: «الاستذكار» (14/142) ، «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (175) . وتخميس السَّلَب مطلقاً هو قول ابن عباس. أخرجه عنه مالك في «الموطأ» (ص 290 رقم 522- ط. إحياء التراث) ، وأبو عبيد في «الأموال» (392 رقم 790) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/ 374 رقم 14042، وابن المنذر في «الأوسط» (11/110) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/312) . وانظر: «المغني» (13/69) ، «شرح السير الكبير» (2/602، 603) ، «موسوعة فقه عبد الله بن عباس» (1/297 و2/73-74) . وهو قول مكحول، والأوزاعي. انظر: «سنن سعيد بن منصور» (2/310 رقم 2712) ، «الأوسط» (11/110) ، «المغني» (13/69) ، «الاستذكار» (14/140 رقم 19749) . (1) ذكره عنه ابن قدامة في «المغني» (13/69) ، وقبله ابن حزم في «المحلَّى» (7/337) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/110) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/142 رقم 19761) . وقد مضى قريباً أن له قولاً موافقاً لأصحاب القول الأول. (2) مذهب المالكية أن السلب يكون للقاتل بشرط الإمام، ولا يكون ذلك إلا بعد انقضاء الحرب، لا قَبْلُ، ويكون مُحْتَسَباً من خمس الخمس. انظر: «الموطأ» (2/455) ، «القبس» (2/601) ، «المدونة» (1/386، 390) ، «التفريع» (1/ 358) ، «الرسالة» (190) ، «الكافي» (1/409- ط. دار الهدى -القاهرة) ، «المعونة» (1/606) ، «التلقين» (72- ط. مكتبة فضالة. وزارة أوقاف المغرب) ، «المقدمات الممهدات» (1/356) ، «أسهل المدارك» (2/11) ، «قوانين الأحكام» (167) ، «بداية المجتهد» (1/397) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/ 504) ، «رؤوس المسائل» لابن القصّار (51، 55) ، «التمهيد» (14/51، 69، و23/242-245، 258) ، «بداية المجتهد» (1/380، 687-ط. دار الجيل) ، «الذخيرة» (3/421) ، «الشرح الكبير» (2/190-191) ، «الخرشي» (3/130) ، «الإشراف» (4/431- بتحقيقي) ، «القوانين الفقهية» (129، 131-132) ، «الرد على الشافعي» (ص 52-53) لابن اللباد. وفي مذهب الحنفية، انظر: «الآثار» (190) ، «مختصر الطحاوي» (284) ، «تحفة الفقهاء» (3/508-509) ، «فتح القدير» (5/512-514) ، «حاشية ابن عابدين» (4/153-154) ، «الهداية شرح بداية المبتدي» (2/146) ، «المبسوط» (10/47) ، «بدائع الصنائع» (7/15) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وسبب الاختلاف: تعارضُ ظاهر آية الغنائم في وجوه القسم على جماعة الغانمين، وظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلاً له عليه بينةٌ، فله سلبه» (1) . فمن حمل ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنزالُ شرعٍ، وحكمٌ عامٌّ في المسلمين، وكان من مذهبه تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد؛ جعل الآية مخصَّصة في غير السَّلب، وكان عنده: السَّلب جميعاً للقاتل. ومن حمل ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - على وجه التنفيل منه في ذلك الجيش، وما يرجع إلى حكم الاجتهاد من الإمام بحسب الأحوال، كان السَّلبُ وغيره سواءً عنده في حكم الغنيمة، واستحقاق القسم على جماعة الغانمين، إلا أن يرى الإمام تنفيله للقاتل على حسب ما فعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الجيش (2) . وأما من رأى تخميس السَّلب إذا كثر؛ فلا أعرف فيه دليلاً، إلا ما يخرج مخرج الاستحسان. فإن قيل: دليله عموم آية الخمس (3) ؛ لزم عليه أن يكون ذلك يجري في القليل كما يجري في الكثير، والله أعلم. وأمَّا حدُّ السلب، وعلى ماذا يقع، إذا قيل بوجوب ذلك للقاتل؟ فلأهل العلم   = وهو رواية عن أحمد، اختارها الخلال. انظر: «المحرر» (2/179) ، «الإفصاح» لابن هبيرة (2/280) ، «المغني» (13/63) . وروي عن الأوزاعي، وهو قول سفيان الثوري -كما ذكر ذلك المصنف-. انظر: «الرد على سير الأوزاعي» (46-47) ، «عمدة القاري» (15/69- ط. عيسى البابي الحلبي) ، «تفسير القرطبي» (8/5) ، «بداية المجتهد» (1/680) ، «شرح السنة» (11/ 108) ، «الأموال» لأبي عبيد (391 رقم 788) ، «فقه الأوزاعي» (2/448) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (264 و512) . (1) أخرجه البخاري (3142) ، ومسلم (1751) ، وقد مضى قريباً. (2) في حديث أبي قتادة مرفوعاً: «من قتل قتيلاً فله سلبه» ، أبلغ دلالة على أن إذن الإمام لا يشترط؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - مقولته تلك يوم حُنين بعدما قتل أبو قتادة الرجل، وإذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء لم يجز تركه، والله أعلم. (3) كذا في الأصل، وكتب الناسخ في هامش نسخته: «لعله سقط من هنا: قلت. أو: قلنا. أو نحو هذا» . قلت: أي تصبح العبارة هكذا: فإن قيل: دليله عموم آية الخمس، قلنا: لزم عليه ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 في ذلك اختلاف، سببه: مفهوم إطلاق لفظ السَّلب في الحديث: هل يختصُّ ذلك بما كان على المقتول ومعه مما يَستعِدُّ من آلات القتال، وما لا بدَّ منه في اللباس، والمعتاد في الحرب، دون ما سواه، مما عسى أن يكون معه من غير ذلك؟ أو يعم جميع ما اشتملت عليه حال القتيل من ذلك، ومن غيره من أنواع الحُليِّ والجواهر والذهب والفضة، وما شأنه الزينة ونحوها، وإن لم يكن من معتاد الحرب؟ رُوي عن مكحولٍ أنه قال: للمبارز القاتل سَلَبُ المقتول: فرسه بسرجه، ولجامه، وسيفه، ومنطقته، ودرعه، وبَيْضَته، وساعداه، وساقاه، ورايته (1) ، بما في ذلك كلِّه: من ذهبٍ وفضةٍ، أو جوهرٍ، وما كان عليه من طوقِه، وسِواريْه إن كانا عليه، بما فيهما من جوهر (2) . وقال الأوزاعيُّ نحو ذلك، إلا أنه قال: ولا يكون له الهِمْيان (3) فيه المال؛ قال: ليس مما يتزيَّن به للحرب (4) . ولم يرَ مالكٌ أن يكون من السَّلَب ذهبٌ ولا فضة؛ لأنه ليس من آلات المقاتل المعهودة (5) .   (1) وفي «المغني» (13/72) : رَأن. وهو كالخف، إلا أنه لا قدَم له، وهو أطول من الخف. ولعلَّ صوابها: ورَأْناه. (2) نقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/128) ، وابن قدامة في «المغني» (13/72) ، وابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/226) . (3) الهِميان: بكسر الهاء: هميانُ الدراهم، وهو الذي تجعل فيه النفقة. والهميان: شداد السّراويل. قال ابن دُريد: أحسبه فارسياً مُعرَّباً. انظر: «لسان العرب» (15/364) . (4) نقله عنه ابن المنذر «الأوسط» (11/128) ، وابن قدامة في «المغني» (13/72) ، وابن أبي زيد القيراوني في «النوادر والزيادات» (3/227) . (5) انظر: «عقد الجواهر الثمينة» (1/504) ، «النوادر والزيادات» (3/226-227) ؛ ونقل عن سحنون قوله: قال أصحابنا، وأهل الشام: ولا نفل في العين، وإنما هو في العروض: السلب، والفرس، والسلاح، ونحوها. وقال: وقال أهل العراق: إذا نادى الإمام بنفل السلب؛ فإنه يكون له ما على المقتول من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وقال الشافعي (1) : «السَّلَبُ الذي يكون للقاتل: كلُّ ثوبٍ على المقتول، وكلُّ سلاحٍ عليه، ومنطقتهُ وفرسه إن كان راكِبَهُ أو مُمْسِكَهُ، فإن كان مع غيره، أو مُنفلتاً منه فليس له، وإنما سَلبه ما أخذ من يديه، أو ما على بَدنه، أو تحتَ بدنه، فإن كانَ في سَلَبِه سوارُ ذهبٍ، أو خاتمٌ، أو تاجٌ، أو مِنطقةٌ فيها نَفقةٌ، فلو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ هذا من سَلَبِه كان مَذهباً، ولو قال قائلٌ: ليس هذا من عُدَّة الحرب كان وجهاً» . قلت: قد أشار الشافعيُّ -رحمه الله- إلى هذا السَّببِ الذي نَبَّهنا عليه. وأما صفة القتيل المسلوب: فمن ذلك: أن يكون رجلاً كافراً حربياً مُخلًّى غير مأسور، لا أعرف أن موجبي السَّلب للقاتل اختلفوا أنَّ مثل هذا يستحقُّ قاتله سَلَبه، واختلفوا في حال القتل، وفي قتل المرأة والغلام. فقال الشافعي (2) : «إنما يكون السَّلَب لمن قتل والحربُ قائمة، والمشركُ مُقبلٌ» ، وقال أحمد بن حنبل: «إنما ذلك للقاتل في المبارزة (3) ، لا يكون في   = سِوارين، وطوق ذهب، ودنانير، ودراهم، وحلية سيفٍ، ومنطقة. قلت: ويدخل فيه: إذا كان مع المقتول دراهم، أو دنانير. فعند الحنفية، ورواية عند الحنابلة، وأحد القولين للشافعية: أن الدراهم والدنانير من السلب، فهي للقاتل. انظر: «تحفة الفقهاء» (3/297) ، «المغني» (13/72-73) ، «المجموع» (19/318) . ورواية أخرى عند الحنابلة: أنها لا تدخل في جملة السلب، وهي غنيمة. انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1167-1168) ، «المغني» (13/72-74) ، «شرح الزركشي» (6/481) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/736 رقم 1986) . (1) في «الأم» ، في كتاب قسم الفيء والغنيمة (باب الأنفال) (5/309- ط. دار الوفاء) . وانظر: «الوجيز» (1/290) . (2) في «الأم» (5/308، 309- ط. دار الوفاء) . وانظر: «مختصر المزني» (ص 270) ، «الأوسط» (11/120) ، «المجموع» (19/317) . وهو مذهب الحنابلة -كما سيأتي-. (3) كذا هي في الأصل. وأثبتها الناسخ: «المباراة» . وكتب في الهامش: كذا في الأصل، ولعلها: «المبارزة» . قلت: وهو الصواب. وكذا هي في مطبوع «المغني» (13/68- ط. هجر) نقلاً عن أحمد -رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الهزيمة» (1) ، وقال الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز: «السَّلَب للقاتل، ما لم تشتد (2) الصفوف بعضها ببعض، فإذا كان كذلك، فلا سلبَ لأحدٍ» (3) . ونحو ذلك يُروى عن نافعٍ مولى ابن عمر؛ كان يقول: إذا قتل رجلٌ من المسلمين رجلاً من الكُفَّار؛ فإنَّ له سَلَبه، إلا أن يكون في معمعةِ القتال، أو في زحفٍ، فإنه لا يدري أحدٌ قتلَ أحداً (4) . قوله: معمعة القِتال: يريد التحامه واخْتِلاطه. والمَعمعةُ: أصوات الشجعان في الحرب. والمعمعةُ -أيضاً-: صوت الحريق. قال امرؤ القيس -يصف فرساً وعَدْوَها-: سَبوحاً جَموحاً وإحْضارُها ... كمعمَعِةِ السَّعف المُوقَدِ (5)   (1) انظر: «المغني» (13/63، 68) ، «المحرر» (2/174) ، «شرح الزركشي» (6/472-477) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/735 رقم 1985) . (2) كذا في الأصل والمنسوخ. وكتب الناسخ أبو خبزة في الهامش: «كذا، ولعلها: تشتبك» . قلت: وفي «المغني» (13/65) : (تَمتَدُّ) . (3) نقله عنهما ابن قدامة في «المغني» (13/65) ، وقبله ابن المنذر في «الأوسط» (11/ 123) ، وزاد مع الأوزاعي وسعيد: أبا بكر بن أبي مريم، وذكر ابن قدامة قبله أنَّ مذهب مسروق: «إذا التقى الزحفان، فلا سلب له، إنما النفل قبل وبعد» . ونقله عن الأوزاعي وسعيد -أيضاً-: ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/138-139) وزاد معهما: سعيد بن عبد الرحمن، وسليمان بن موسى، وفقهاء أهل الشام. وانظر: «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/59) ، «فتح الباري» (6/246) ، «عمدة القاري» (15/65) ، «المحلى» (7/336) ، «بداية المجتهد» (1/429) ، «نيل الأوطار» (7/224) ، «سبل السلام» (4/252) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/447) . (4) رواه عبد الرزاق (5/234 رقم 9471) ، وابن أبي شيبة (12/374 رقم 14041) في «مصنفيهما» ؛ عن ابن جريج، عن نافع، به. وليس فيه قوله: «فإنه لا يدري أَحَدٌ قتل أحداً» . وذكره من طريق ابن جريج: ابن حزم في «المحلى» (7/336) . وانظر: «المغني» (13/65) ، «معجم فقه السلف» (5/138) ، والمراجع في الهامش السابق. (5) انظر: «شرح ديوان امرئ القيس» (ص 161- تعليق: د. عمر الفجاوي) . ومعنى: سبوح: تسبّح في سيرها. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وقالت طائفة من أهل الحديث: يجب للقاتل سلبُ كلِّ قتيلٍ قتله من الكُفَّار، في الحرب وغير الحرب، مُقبلاً أو مُدبراً، على كلِّ وجهٍ، لا يخصُّ (1) من ذلك شيئاً، وبه يقول أبو ثورٍ، وداود، وأبو بكرٍ بن المنذر، وغيرهم (2) . وحجة هؤلاء ظاهر الخبر (3) في تمليكه سلب القتيل عموماً. وحديث سلمة ابن الأكوع (4) في ذلك يزيده وضوحاً. قال ابن المنذر (5) : «هو خبرٌ، ليس لمتأولٍ معه تأويل؛ وذلك أن سلمة بن الأكوع قتل القتيل، وهو مُولٍّ هاربٌ» ، قال غيره: وفي غير مبارزةٍ ولا قتال. خرَّج مسلم (6) ، عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن، فبينا نحن نتضحَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاء رجل على جمل أحمرَ، فأناخه، ثم انتزع طَلقاً من حَقِبهِ، فقيَّد به الجَمل، ثم تقدَّم يتغدى مع القوم، وجَعَل ينظر، وفِينا ضَعْفةٌ ورِقَّةٌ في الظهر، وبعضُنا مُشاةٌ، إذ خرجَ يَشْتدُّ، فأتى جمله فأطلق قيده، ثم أناخه، وقعدَ عليه، فأثاره، فاشتدَّ به الجمل، فاتَّبعه رجلٌ على ناقةٍ وَرْقاء.   = جموح: أي: تجمح، تغلبك على رأسها، لا تستطيع ردَّها من حدَّتها. والمعمعة: حَفيف الحريق إذا احترق، قَصَبٌ أو غيره، يقول: إحضارها كأنَّه نار. (1) كتب الناسخ في الهامش: لعلَّها: نَخُصُّ. (2) انظر: «الأوسط» (11/120) ، «المغني» (13/65- ط. هجر) ، «اختلاف الفقهاء» (لوحة 117) ، «المهذب» (2/238) ، «عمدة القاري» (15/69) ، «فتح الباري» (6/249) ، «نيل الأوطار» (9/710) ، وإلى هذا الرأي ذهب ابن حزم -كما في «المحلّى» (7/336) -، والليث بن سعد. وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (784-785) . (3) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلاً له عليه بيّنة، فله سلبه» . وهو في «الصحيحين» ، وقد مضى. (4) سيأتي. (5) في «الأوسط» (11/119) . (6) في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب استحقاق القاتل سلب القتيل) (45) (1754) . وأخرجه مختصراً جداً: البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان) (رقم 3051) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 قال سلمة: وخرجت أشتدُّ، فكُنتُ عند وَرْكِ الناقة، ثم تقدَّمتُ حتى كنتُ عند وَرْك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنختهُ، فلما وضع ركبتيه في الأرض اخترطتُ سيفي، فضربت رأس الرجل، فندَرَ، ثم جِئتُ بالجَمَل أقوده، عليه رَحْله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقال: «من قتلَ الرجل؟» قالوا: ابن الأكوع، قال: «له سَلَبه أجمع» . قال ابن المنذر (1) : «فهو حجَّةٌ على من قال: إنَّ السَّلب لا يكون إلا لمن قتل مُشركاً مقبلاً، وعلى من قال: والحربُ قائمة؛ لأن سلمة قتل صاحبه مُدبراً، والحرب ليست بقائمة» . قال: «ولم أرَ عند الشافعي حديث سلمة، ولو عَلِمَه لقال به فيما ظهر لنا في مذهبه» . قوله في الحديث: «نَتَضَحَّى» (2) : هو من وقت الضُّحَى -بالمَدِّ- عند ارتفاع النهار. وإنما يريد أنهم كانوا يتغدون في ذلك الوقت. وقوله: «انتزع طَلَقاً من حَقِبه» ؛ فالطَّلقُ: القَيدُ من الجِلْدِ، والحَقِبُ: حَبلٌ يُشدُّ على حَقْو البعير. وقوله: «ضَرَب رأس الرجل فَنَدرَ» ، يريد: سَقَط. قال عنترة (3) : والهامُ تندرُ بالصَّعيدِ كأنَّما ... تَلْقى السُّيوفُ بها رؤوسَ الحَنْظَلِ وقال أبو محمد بن حزم (4) : «للقاتل سلب المشرك الذي قَتَلَ كيفما قتله،   (1) في «الأوسط» (11/120) . (2) في الأصل: «يتضحَّى» ، بالمثناة من تحت. (3) ديوان عنترة (ص 257- تحقيق: محمد سعيد مولوي) . وقوله: والهام تندر بالصعيد: أي تتساقط. يقال: أًنْدَرْتُهُ فَنَدَرَ: إذا قَطَعْتُهُ، وأَبَنْتُهُ من غيره. والصعيد: وجه الأرض. وقوله: رؤوس الحنظل؛ شبَّه الهامَ في سرعة قطع السيوف لها وتساقطها برؤوس الحنظل. (4) في «المحلَّى» (7/335 المسألة رقم 955) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 صَبْراً، أو في القتال» . يعني: مقبلاً أو مدبراً، وكيفما كان. ودليله: عمومُ الخَبرِ في إيجابِ السَّلبِ للقاتل من غير تفصيل، وما دلَّ عليه في إيضاح ذلك وتقريره خبر سلمة المذكور آنفاً. وقال الثوري في العَلج يحمل عليه الرجل فَيَسْتَأسِرُ له، ثم يقتله: «له سَلَبه إذا كان قد بارزه» (1) . وأظنُّه يعني: إذا قال الإمام في ذلك الجيش: من قتل قتيلاً فله سَلَبه؛ لأن مذهب الثوري: ألاَّ (2) يستحقَّ القاتل السَّلَبَ، إلاَّ أن يُنفِّله الإمام، كما يقول مالكٌ، وأبو حنيفة (3) . وقال الأوزاعي (4) في الذي يَستأسر فيقتله: «ليس له سَلَبُه إذا لم يكن حَرَد إليه بسلاح» . قيل له: فرجلٌ حمل على فارسٍ فقتله فإذا هو امرأةٌ؟ قال: «فإن كانت حَردت له بسلاح، فإنَّ له سَلَبها، والغلام كذلك: إذا قاتل فَقُتِل كان سلبه لمن قتله» . قوله: حَردَ إليه، يعني: إذا جَدَّ، وقَصَد قصده (5) . وأنشدوا (6) :   (1) نقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/130) . (2) كتب الناسخ في هامش نسخته عند (ألاّ) : «كذا ولعلَّها ... » ، ثم بياضٌ في الهامش. (3) مضى قريباً ذكر مذهبيهما في ذلك. وانظر: «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 264) . (4) نقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/130) وفيه: «وإنْ أَسَرهُ ثم قتله؛ لم يكن له سَلبُه» . (5) وقال في «القاموس المحيط» (1/560) : حَرَدَهُ، يَحْرِدُه: قَصَده ومَنَعهُ. وانظر: «تهذيب اللغة» (4/412) ، «لسان العرب» (3/144) . (6) قال الفراء في «معاني القرآن» (3/176) : «وأنشدني بعضهم ... » وذكره، وأوله عنده: «وجاء سيل كان من أمرِ الله» . وأورده هكذا عن الفراء: الأزهري في «تهذيب اللغة» (4/414) ، وابن منظور في «لسان العرب» (3/145) ، ووجدته كما عند المصنف في «الكشاف» للزمخشري (4/591) ، وفيه (أمر) بدل (عند) ، ومعناه -كما قال الشيخ محمد عليان المرزوقي في «مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف» -: «يصف سيلاً بالكثرة. ولذلك قال: من عند الله. ويروى: من أمر الله، وحذف الألف قبل الهاء من لفظ الجلالة؛ لأنه جائز في الوقف. وحرد يحرد من باب ضرب، بمعنى قصد وأسرع، أي: يسرع إسراع الجنة، أي البستان المغلة كثير الغلة والخير. ومعنى إسراع الجنة: ظهور خيرها قبل غيرها في زمن يسير، واختارها لأنها تنشأ عن السَّيْل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 أقبل سَيلٌ جاءَ من عند اللهْ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ قال ابن عبد البر (1) : «إجماع (2) العُلماء على أنْ لا سلَبَ لمن قتلَ طفلاً، أو شيخاً هرماً، أو أجهز على جريحٍ مُثخنٍ، أو ذفَّفَ على من قُطِعَ في الحرب من أعضائه، ما لا يقدر معه على الدَّفع عن نفسه» . قلت: لعلَّ ذلك إنما هو فيمن لم يقاتل من هؤلاء الأصناف، وهو على حالته تلك، فأما إذا كان يقاتل حتى قُتِل، فقد رُوي عن الأوزاعي وغيره في الصَّبيِّ والمرأة والمصبور ما ذكرناه، ومنه (3) هذا الحديث: «من قتلَ قتيلاً فله سَلَبه» (4) ، يتضمَّن بعمومه من حيث اللغة هؤلاء الأصناف كلَّهم، قاتلوا، أو لم يقاتلوا. وللنَّظر في تخصيصه علىمذاهب أهل العلم طريقان: الشرع والمفهوم. فأما من جهة الشرع: فهو مخصَّص بمن أبيح قتله من الكفار، فلا يدخل في ذلك الذِّميُّ والمعاهدُ، ولا المرأة، ولا الغلام إذا لم يقاتلا، هذا بلا خلاف، وكذلك العُسَفاء (5) ، ونحوهم على مذهب من رأى النَّهي فيهم -أيضاً-، فأما إذا قاتل الغلام والمرأة، أو غيرهم؛ ممن يُلْحِقُهُ بهم مُلْحِقٌ في النهي عن القتل؛ فقد استبيح قتله بالشرع، وخرج أن يكون ممن اسْتُثْنِيَ من العموم، فوجب أن يكون الحكم في السَّلَب لقاتلهم؛ هذه طريقة ظاهرة. وأما التخصيص من جهة المفهوم: فهو أن يُدّعى أن الذي فُهِم في تسويغ القاتل سَلَبَ المقتول وتخصيصه به دون الجيش: إنما هو لمكان الغَناء والجرأة في قتله،   (1) في «الاستذكار» (14/138 رقم 19744) . وفوق كلمة «أجمع» في منسوخ أبي خبزة علامة إلحاق. وكتب في الهامش: «في الأصل ... » وبعدها بياض. (2) أثبتها الناسخ في نسخته: «أجمع» ، وكأنه أصلحها من كيسه لأنه كتب في الهامش: «في الأصل ... » وبعدها كلام بُتِر أثناء تصوير النسخة. (3) كتب الناسخ في هامش نسخته: «كلمة غير واضحة بالأصل» . (4) مضى قريباً. (5) كتب أبو خبزة في الهامش: «جمع عسيف، أي: أجير» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فهنالك لا يدخلُ فيه هؤلاء الأصناف الذين ذكر ابن عبد البر؛ لضعفهم؛ وقلَّة المؤنة في قتلهم، فلا يكون السَّلَبُ لقاتلهم على هذا الوجه عند من رآه، والله أعلم. * مسألة: اعترض من لم يَرَ السَّلَبَ يجب للقاتل حُكْماً مشروعاً ومِلْكاً مختصاً، بأن قالوا: لو كان ذلك كذلك للقاتل؛ لكانت الأسلاب في الغنائم -إذا لم يُعرف قاتلوا أهلها- مُوقَفَةً كاللقطَة، ولم يكن فيها حقٌّ للغانمين في القسم، وهذا لا يلزم؛ لوجهين: أحدهما: ما ذكره أبو محمد بن حزم (1) ، قال: «إنَّ كلَّ مال لا يُعرف صاحبه؛ فهو في مصالح المسلمين، وكلَّ سلَبٍ لا (2) تقوم لقاتِلهِ بيِّنةٌ؛ فهو في جملة الغنيمة، بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . قلت: والوجه الثاني: إنَّ مستحقَّ السَّلَبِ وإن لم يُعرف بعينهِ، فهو من جملة الجيش بيقين، فلو وقف ذلك، أو صُرِف في مصالح المسلمين غيرهم، لكان قد صُرف حقُّ القاتل إلى غيره بيقين، مع إمكان التوصُّلِ إليه، وليس وجه القضاء في ذلك إلاَّ قسمه في سائر الجيش؛ لأنه مُنحصرٌ فيهم، وغيرُ متميزٍ عنهم، كالشيء يكون في أيدي المتداعين من غير بيِّنةٍ (3) ، ولا يخلوا هذا الوجه من اعتراض عليه، والأول أصح؛ ولأنه -أيضاً- إجماع.   (1) في «المحلَّى» (7/340) ، وقد نقل الاعتراض السابق في مَعْرِض كلامه في هذه المسألة. (2) «لا» سقطت من المنسوخ، ومطموسه في الأصل والسياق يقتضي وجودها، وهي في «المحلَّى» . (3) ذكر العز بن عبد السلام في كتابه «قواعد الأحكام» (2/171) أن قتل الكفار يقترن به استحقاق الأسلاب، فتعقّبه السِّراج البلقيني في كتابه «الفوائد الجسام» (رقم 494- بترقيمي) ، فقال: «يقال عليه: لا يكفي في استحقاق الأسلاب مجرد القتل، بل لا بدّ مع ذلك من كون القاتل له بينة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلاً له عليه بينة؛ فله سلبه» ، لا يقال البينة كاشفة أنه استحق بالقتل؛ لأنها لو كانت كاشفة هنا؛ لأدّى ذلك إلى تحريم الغنيمة التي هي من أحل الحلال إذا لم تكن بيّنة، قال شيخنا أدام الله النفع بفوائده: وإلى هذا أشار ابن أصبغ من المالكية في كتابه: «الإنجاد في الجهاد» » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 فصلٌ: في حكم الفيء، والخمس، ووجوه مصرفهما والنظر في هذا الفصل في شيئين: الأول: في تفصيل أحكام الأموال المستولى عليها من الكفّار؛ ما يكون من ذلك فيه الخمس، أو يكون جميعه فيئاً، أو يكون بجملته لمن استولى عليه من غيرِ خمسٍ يلزم فيه، بحسب اختلاف أحوال الاستيلاء على ذلك. والثاني: في وجوه مصارف الفيء والخمس، والاختلاف في ذلك. * النظر الأول: في تفصيل أحكام الأموال بحسب أحوال الاستيلاء. وأحوال الاستيلاء على أموال الكفار ثلاثة: إما أن يكون بمغالبةٍ وقهر، وإما بحيلةٍ وتَسَتُّرٍ، وإما عفواً لم يتقدم في تحصيله بشيءٍ من ذلك. * فأما ما كان بطريقة المغالبة، فلا خلاف فيه أن له حكم الغنائم في إيجاب الخمس من جملته، وقسم سائره على الذين حاولوه وغلبوا عليه، إلا في أشياء مخصوصة من جملة ذلك، تقدَّم التنبيه عليها، وذلك كالنَّفل والسَّلَب فيمن تبدل (1) ذلك لا يُخمَّس، وكالطعام يحتاج إليه الجيش في دار الحرب، والأرض تُقرُّ وقفاً على غير قسم -على مذهب من رأى ذلك- ونحو هذا ممَّا مضى الكلام عليه، وذُكِر الخلاف فيه مُفصلاً. ** وأما ما استولي عليه بحيلةٍ وتستُّر: كالسرقة من دار الحرب، والتَّلصُّص، ونحو ذلك، فلأهل العلم في ذلك قولان (2) : أحدهما: أن ذلك كلَّه خاصُّ مِلْكِ المستولي عليه، وليس من أحكام الغنائم في شيء، ونحو ذلك يُروى عن أبي حنيفة -في الواحد أو الجماعة يدخلون دار الحرب بغير إذن الإمام ويغنمون-: أنه لا يخمس ما أصابوا، وهو لهم كلُّه، وقال:   (1) غير واضحة في الأصل، وأثبتها الناسخ: «فيمن تبدل زل ذلك، ... » ‍! (2) مضى ذكر أقوال أهل العلم فيمن دخل دار الحرب مُتلصِّصاً، واختلافهم في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 لا خمس إلا فيما أصابته جماعة. قال أبو يوسف: تسعةٌ فأكثر. والقول الآخر: فيما سُرِق، واختلس، ونحوه: أنه معدودٌ في جملة الغنائم، فيكون فيه الخمس، وسائره لمن استولى عليه إن كان وحده، وله ولسائر الجيش، أو السريَّة إن كان دخوله في جيشٍ أو سريَّةٍ، كالحكم فيما قوتل عليه. وفرَّق قومٌ بين أن يكون دخوله إلى أرض الحرب برسم السرقة والتلصُّص، ونحوه من قصد النَّيل فيه، فهذا الذي يُخمَّس، وما لم يدخل لأجله، ثم عرضَ له: إن أصاب فيهم شيئاً فجميعه له، ولا يُخمس. *** وأما ما كان عفواً لم يتقدم فيه بشيءٍ من العلاج: كالشيء يجلو عنه الكفار، ومال الصلح، والجزية، وتعشير تجار أهل الحرب، والذِّمَّة، وما يتركه الكافر إذا مات، ولا وارث له؛ فهذا هو الفيء الذي لا يختصُّ به أحدٌ معيَّن، وإنما يكون جميعه في مصالح المسلمين. واختلف مع ذلك: هل يكون في الفيء خمسٌ أو لا؟ هذه قاعدة جُمْلية، ونعقب ذلك -إن شاء الله تعالى- بأقوال منقولة في ذلك عن أهل العلم، تقع لهذه الجملة موقع التفسير، ونشير إلى مسائل تختلف في أيٍّ قسمٍ من هذه الأقسام الثلاثة تلحق. فمن ذلك ما روي عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: أنَّ الغنيمة: ما غُلِب عليه بالسَّيف. والفيء: ما صولحوا عليه. والجزية: جزية الرؤوس، وخراج الأرضين (1) . وعن الثوري (2) : «الغنيمة والفيء مختلفان: فالغنيمة ما أخذ قسراً، ففيه   (1) انظر: «الإقناع» للحجاوي (2/95، 113، 127) ، «المطلع» (ص 216، 218، 219) ، «معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية» (3/24، 57) . (2) رواه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (5/310 رقم 9715) . وانظر: «أحكام القرآن» للجصاص (3/74) ، «تفسير القرطبي» (14/55) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 671، 680) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الخمس، يضعه الإمام حيث أمره الله، والباقي للغانمين، والفيء: ما وقع من صلحٍ بين الإمام والكفار، في أعناقهم، وأرضهم، وزرعهم، وفيما صولحوا عليه مما لم يؤخذ عنوةً، فذلك إلى الإمام يضعه حيث أمره الله -تعالى-» . كأنه ذهب في الفيء إلى أنه مقصورٌ على الأصناف الذين سمَّى الله -تعالى- في سورة الحشر، كما تقدم من مذهبه في تفسيرالآية. وقال الشافعي (1) : «أصل قسم ما يقوم به الولاة من جُمَلِ المال؛ ثلاثة وجوه: أحدها: ما جعله الله طهوراً لأهل دينه. قال -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] . والوجه الثاني: الفيء، وهو مقسومٌ في كتاب الله -تعالى-، في سورة (2) الحشر. قال الله -عز وجل-: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، فهذان المالان اللذان خَوَّلهما الله من جعلهُما له من أهل دينه، والغنيمة والفيء يجتمعان في أنَّ فيهما معاً الخمس من جميعهما لمن سمَّاه الله -تعالى- في الآيتين سواء، مُجتمعين غير مفترقين، ثم يتفرق الحكم في الأربعة الأخماس، بما بيَّن الله -تعالى- على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله؛ فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة، والغنيمة: هي المُوجَف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غنيٍّ وفقير. والفيء: وهو ما لم يوجف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ. فكانت سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قُرى عَرَبيَّةٍ (3) ، التي أفاءها الله -تعالى- عليه: أنَّ أربعة أخماسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خاصَّة دون المسلمين، يضعه رسول الله   (1) في «الأم» في كتاب قسم الفيء والغنيمة (5/297- ط. دار الوفاء) . (2) كذا في الأصل. وأثبتها الناسخ (كتاب) ، وكتب في الهامش: «كذا، ولعلها: سورة» . قلت: وفي مطبوع «الأم» : «في كتاب الله عزَّ ذكره في سورة الحشر» . وفي «الأوسط» لابن المنذر: «سورة» كما هو المثبت هنا. (3) كذا في الأصل و «الأم» للشافعي، وفي نسخة خطية أخرى من «الأم» : «عُرَيْنَة» ، وكذلك هي مثبتة في مطبوع «الأوسط» ، حيث نقل المصنف الخلاف في هذه المسألة عن ابن المنذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 - صلى الله عليه وسلم - حيث أراه الله» . قال (1) : «والجزية من الفيء، وسبيلها سبيل ما أُخِذ من مال مشركٍ أن يخمس، وكذلك كلُّ ما أُخذ من مشرك بغير إيجاف، مثل ما أُخذ منه إذا اختلف في بلاد المسلمين، ومثل ما أخذ منه إذا مات ولا وارث له، وغير ذلك مما أخذ من ماله» (2) ، حكى جميع ذلك عنه أبو بكر بن المنذر (3) . قلت: فالشافعي أوجب أن يخرج من الفيء الخمس، كما يكون ذلك في الغنيمة، ويكون مصرفه ومصرف خمس الغنيمة واحداً، يجتمعان في ذلك، ويفترقان في مصرف أربعة الأخماس، وإنما استند الشافعي في ذلك إلى أن آية مصرف الخمس تُوافقها بظاهرها (4) آية الفيء؛ قال الله -تعالى-: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] ، كما قال -تعالى- في مصرف الخمس في هؤلاء الأصناف بأعيانهم، فكأنَّ الشافعي رأى في الفيء خمساً هو الذي يُصرفُ في هؤلاء، وأما سائره فالسنَّة قَرَّرَتْ في مصرفه غير ذلك. فقد تحصَّل في حكم الفيء ثلاثة مذاهب: قول الشافعي هذا في إيجاب الخمس فيه، وصَرفِ سائره في مصالح المسلمين عامة. وظاهر قول الثوري: أن جميع الفيء مصروفٌ في هؤلاء الأصناف خاصَّة. وقول سائر أهل العلم -وهو المشهور المعلوم-: أن لا خمس في الفيء،   (1) «الأم» (5/301- ط. دار الوفاء) . (2) في النسخة: (وسبيلها وسبيل ... ) ! بزيادة واو العطف. وهو خطأ. وفيها: «وكذلك كل ما أُخذ ... » ! والمثبت من مطبوع «الأم» (طبعة دار الوفاء) . (3) في «الأوسط» (12/77-78، 79) . (4) كذا في الأصل والمنسوخ، ويمكن أن تكتب: «توافق بظاهرها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وأنَّ جميعه في مصالح المسلمين كافة. وقد خولف الشافعي في إثبات الخمس (1) في الفيء؛ قال ابن المنذر (2) : «ووافق بعض أصحابنا الشافعيَّ في عامَّة ما حكيناه عنه، وخالفه في إيجاب الخمس من الفيء، قال: ولعمري! لا يُحفظ عن أحدٍ قبل الشافعي أنه أوجب في الفيء خمساً، كخمس الغنيمة» . قلت: وأما المحفوظ على مذهب مالكٍ وأصحابه في هذا الباب، فتحصيله يرجع إلى ثلاثة أقسام: فالأول: ما لم يُوجَف عليه، وذلك نحو ما كان من الجزية على الرؤوس، وخراج الأرضين، ومال الصلح، وعشور أهل الذمَّة وأهل الحرب إذا اختلفوا في تجارة، وما جَلاَ عنه أهل الحرب خوفاً من المسلمين قبل خروج جيشٍ إليهم، فذلك كلُّه حكمه عندهم حكم الفيء، لا خمس فيه، ولا حقَّ مُعيَّناً لأحد. واختلفوا إن جلا الكفار عن شيءٍ بعد نزول الجيش عليهم، فقال بعضهم: هو كالأول على حكم الفيء؛ لأنه أخِذَ بغير قتال، وقال بعضهم: بل هو للجيش على حكم الغنائم؛ لأنهم أوجفوا عليه. والإيجاف: قيل: هو المعروف في اللغة: وجَفَ الفرسُ والناقة وجيِفاً، وأوجفهما راكبهما إيجافاً، وهو سرعة السَّيْر والاجتهاد فيه (3) ، فيكون معنى قوله -تعالى-: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، أي: ما قصدتم نحوه، وحَثَثْتُم إليه الخيل والرِّكاب، وهي الإبل -يعني: عند الغزو-، فإذا لم يغزوا فلم يوجفوا عليها. وقال قتادة في قوله -تعالى-: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] : «ما قطعتم إليها وداياً، ولا سيّرتُم إليها دابّةً ولا   (1) أثبتها الناسخ في نسخته: (خمس) . وصحَّحها في الهامش: (الخمس) . (2) في «الأوسط» (12/80) ، وليس في مطبوعه كلمة: «ولَعَمْري» . (3) انظر: «الصحاح» (4/1437) ، «لسان العرب» (9/352) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 بعيراً، إنما كانت حوائط لبني النضير، أطعمها الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -» (1) . والثاني عندهم: ما أُوجِفَ عليه، وتلك هي الغنائم، وحكمها: أن تُخمَّس، ثم تُقسم على الغانمين. والسرقة والتلصص عندهم إذا هو خرج بِرسمِ ذلك، فما أوجفَ عليه، فحكمه -أيضاً- عندهم حكم الغنائم؛ يخرج خمسها، ويقسم سائر ذلك لمن أخذه. واختلفوا في العبد، والمرأة، والصبي؛ يسرقون، أو يتلصَّصون، أو ينفردون بمغالبة بعض الحربيين وأخذ غنيمتهم: هل يخمس ما أصابوا من ذلك، أو يكون لهم ذلك كله من غير تخميس؟ وقد ذكرناه فيما تقدم (2) . والركاز عندهم في إيجاب الخمس فيه إذا كان عَيْناً، لاحِقٌ بأحكام الغنائم، ويكون سائره لأهل الجيش إن كانوا، أوْ لمن وجده، إن لم يكن هنالك جيش. واختلفوا في الركاز إذا كان متاعاً أو جوهراً: هل يخمس أو لا (3) ؟ والثالث عندهم: ما تناول أخذه رجلٌ أو قومٌ بأعيانهم من دار الحرب، من غير إيجاف يكون لأجله، مثل الرجل يدخل تاجراً، أو يكون عندهم أسيراً فيهرب بالمال، أو العبد يأبق إليهم، ثم يهرب من عندهم بمالٍ أو عبيدٍ وقد استألفهم، أو يهرب عبد لهم بمالٍ، فذلك كله لمن أخذه، ولا خمس في شيء من ذلك عندهم، سواء كان متاعاً أو عيناً (4) . فأقول: قولهم ذلك في الرجل يدخل تاجراً، ثم يهرب بالمال فيه نظرٌ، من حيث إنه لا يجوز له عندهم، ولا في النظر الصحيح -حسبما قدَّمنا من الأدلة على ذلك- أن يخونهم في شيءٍ (5) ؛ لأنه على حكم الأمان، فكان الواجب في مثل ذلك   (1) أخرجه عنه الطبري في «تفسيره» (28/35) . (2) وانظر -أيضاً-: «النوادر والزيادات» (3/201، 202) . (3) انظر: «عقد الجواهر الثمينة» (1/499) ، «الذخيرة» (3/432) . (4) انظر: «الذخيرة» (3/441) ، «النوادر والزيادات» (3/325) . (5) انظر: «النوادر والزيادات» (3/324) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 إن فعله أن يرُدَّ على أهل الحرب ما أتى به من ذلك كلِّه، وإنما يجيز له هذا أبو حنيفة، كما تقدَّم من ذكر مذهبه، ووجه الردِّ عليه. قالوا: فإن كان الأسير قد خرج إلى بلاد الحرب في الجهاد أو تلصُّصاً عليهم، وما أشبه ذلك من طَلَبِ النَّيلِ فيهم فأُسِرَ هناك، ثم هربَ بشيءٍ، فإنه يُخَمَّس؛ لأنه قد أوجف في أوَّل دخوله، قاله محمد بن المواز (1) ، فالخروج برسم الجهاد، أو التَّلصُّص، والسرقة، وقصد النَّيْل منهم، يُعدُّ إيجافاً عندهم، فيكون فيه خمس ما أصيب منهم، ولا يكون كذلك إذا لم يُقْصد مِن أول الأمر إليه. وفي كتاب ابن الموَّاز عن مالك: «إن طرح العدو شيئاً خوفاً من الغرق، أو انكسرت مراكبهم، فوجد إنسانٌ متاعاً أو ثياباً، ولا أحد معه من الحربيين، ولا هو بِقُربْ قُراهم؛ كان لمن أخذه، ولا خمس فيه. كأنه يريد: لأنه لُقَطَةٌ، لم يُوجفْ عليه» . قال: «إلا أن يكون ذهباً أو فضة فيُخمَّس، كأنه شبَّهه بالرِّكاز» . قال: «وإن كانت الأمتعة أُلقيت -أو: العَيْنُ- بقرب قراهم ففيه الخمس، إلا أن يكون يسيراً» . هذا لا أعلم لتفريقه فيه وجهاً؛ إلا الاستحسان. قال: «وإن كان معه الحربيون، كان سبيله سبيل الحربيين، أمرُ ذلك كُلِّه إلى الوالي» (2) . قال ابن عبد البر (3) في قول مالك: «مَن وُجِد من العدوِّ على ساحل البحر بأرض المسلمين: أرى ذلك إلى الإمام، ولا أرى لمن أخذهم فيهم خُمساً» ؛ قال (4) : «لأنه لم يوجف عليهم بخيلٍ ولا ركاب» . قال: «وقد قيل: إنهم لمن أخذهم، وقدر عليهم، وصاروا بيده، وفيهم   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/319) . (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/131) . (3) في «الاستذكار» (14/117) . (4) أي: ابن عبد البر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الخُمس، قياساً على الركاز؛ لأنه يخمس بالسّنة، أُجري مجرى الغنيمة، وإن لم يوجف عليه» . قال: «وإن لم يصيروا بيد أحدٍ حتى ارتفع أمرهم إلى الإمام، فلا خمس فيهم بإجماع، وهم في بيت مال المسلمين مع سائر الفيء» . قول ابن عبد البر: «لا خُمس فيهم بإجماع» : لعله أراد اتفاق أقوال المالكية، وإلاّ: فالشافعي -كما تقدم من مذهبه- يُوجب الخُمسَ في الفيء كلِّه. * النظر الثاني: في وجوه مصارف الفيء والخمس. وللعلماء في مصرف الفيء والخمس، وهل هما في ذلك واحد، أو أمرهما مفترق؟ اختلاف. قال مالك (1) : «الفيء والخمس سواء، يجعلان في بيت المال، ويُعطي الإمام أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحسب اجتهاده» ، ولا يُعطون من الزكاة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلُّ الصدقة لآل محمد» (2) ، وهم بنو   (1) كما في «المدونة» (1/514- ط. الكتب العلمية) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/103) . وانظر: «المعونة» (1/618) ، «الكافي» (1/478) ، «جامع الأمهات» (249) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/499-500) ، «الذخيرة» (3/431) . ومذهب أبي حنيفة، أن أربعة أخماس الفيء للغانمين، والخمس في مصالح المسلمين، وحكى الطحاوي في «المختصر» (ص 165) عنه مثل قول المالكية؛ أنه لا يخمَّس. ومذهب الشافعي أن الفيء يخمس مثل خمس الغنيمة، لله وللرسول، ولذي القربى، وأربعة أخماسه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، يصرفه حيث شاء. وقد مضى ذكر مذاهب العلماء بالتفصيل، فارجع إليه. (2) أخرج أحمد (1/200) ، وابن أبي شيبة (3/214) ، وابن خزيمة (2349) ، والطحاوي (2/7 و3/297) ، والطبراني (2714 و2741) ؛ من طريق ثابت بن عمارة، عن ربيعة بن شيبان، أنه قال للحسن بن علي -رضي الله عنه-: ما تذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أدخلني غرفة الصدقة، فأخذت منها تمرة، فألقيتها في فمي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألقها، فإنها لا تحل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا لأحدٍ من أهل بيته» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 هاشم (1) .   = وهذا إسناد صحيح؛ ثابت بن عماره: وثقه ابن معين، والدارقطني، وابن حبان، وشعبة، وقال أحمد، والنسائي: «ليس به بأس» ، وقال البزار: «مشهور» ، وقال الذهبي: «صدوق» ، وانفرد أبو حاتم، فقال: «ليس عندي بالمتين» . وأخرجه الطيالسي (1177) ، والدارمي (1591) ، وابن خزيمة (2347) ، والطحاوي (2/6 و3/297) ، والطبراني (2710) ؛ من طريق شعبة، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، عن الحسن بن علي، به. وأخرجه أحمد (1/200) ؛ من طريق أبي أحمد الزبيري، عن العلاء بن صالح، عن بُريد بن أبي مريم، به. وفيه زيادة: «وعقلْتُ منه الصلوات الخمس» . وأخرجه أحمد (1/200) ، وعبد الرزاق (4984) ، والطبراني (2708 و2711) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (416) ، وأبو يعلى (6762) ، وابن حبان (722) ؛ من طريق الحسن بن عمارة، عن بُريدٍ، به. بأطول من هذا؛ ففيه: قال -أي: الحسن-: وكان يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة» . قال: وكان يعلمنا هذا الدعاء: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرَّ ما قضيت، إنه لا يذل من واليت» . وربما قال: «تباركت ربنا وتعاليت» . وأخرج ابن حبان (945) ، القسم الأول والثالث من الحديث، وابن خزيمة (1096) القسم الأول، و (2348) القسم الأول والثاني، والترمذي (2518) القسم الثاني. (1) وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وهم المعنيون بقوله -تعالى-: { ... وَلِذِي الْقُرْبَى ... } ، فلهم من خمس الغنيمة، ولا يعطون من الزكاة. أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام) (رقم 3140) ، بسنده إلى جبير بن مطعم، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني عبد المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدةٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بنو المطلب، وبنو هاشم؛ شيءٌ واحد» . وفيه: قال جُبير: ولم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل. وقال ابن إسحاق: عبد شمس، وهاشم، والمطلب؛ إخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مُرَّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. وأخرجه -أيضاً- برقم (4229، 3502- مختصراً) . قلت: تخصيص بعض ذوي القربى دون بعض؛ سببه -والله أعلم- أن بني المطلب نصروا بني هاشم في الجاهلية، والإسلام، دون غيرهم. فخصُّوا بسهم ذوي القربى لهذا السبب، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام» . وسيأتي مزيد بَسطٍ لهذه المسألة، والله الهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 قال (1) : «وفي الخمس والفيء، هو حلال للأغنياء، ويوقف منه في بيت المال، بخلاف الزكاة» . قال ابن الموَّاز: «وقد قال الله -تعالى- في قسمة الفيء: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] ، وقال في آية الخمس: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] ، فالآيتان متفقتان» . وقال عبد الملك بن حبيب: «المال الذي آسى الله فيه بين الأغنياء والفقراء: مال الفيء، وما ضارع الفيء من ذلك أخماس الغنائم، وجزية أهل العنوة وأهل الصلح، وخراج الأرض، وما صولح عليه أهل الشرك في الهُدْنة، وما أخذ من تجار أهل الحرب إذا خرجوا لتجاراتهم إلى دار الإسلام، وما أُخِذَ من أهل ذمتنا إذا تَجَروا من بلد، وخمس الركاز حيثما وُجد، ويبدأ عندهم -في تفريق ذلك- بالفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل، ثم يساوي بين الناس فيما بقي: شريفهم ووضيعهم، ومنه يُرزق والي المسلمين وقاضيهم، ويُعطى غارمهم، وتُسدُّ ثغورهم، وتُبنى مساجدهم وقناطرهم، ويُفكُّ أسيرهم، وما كان من كافة المصالح التي لا توضع فيها الصدقات، فهذا أعمُّ في المصرف من الصدقات؛ لأنه يجري في الأغنياء والفقراء، وفيما يكون منه مصرف الصدقة، وما لا يكون. هذا قول مالك وأصحابه، ومن ذهبَ مذهبهم: أن الخمس والفيء مصرفهما واحد» (2) . واحتجَّ بعضهم على ذلك بما اتفقت عليه آية الفيء وآية الخمس، وأن أَمرهما في ذلك واحدٌ، وفي هذا الاستدلال نظرٌ؛ لأنه كان يلزم عليه بهذا المسلك أن يقتصر   (1) انظر: «المدونة» (1/516) . (2) انظر: «المدونة» (1/516) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/499-500) ، «المعونة» (1/ 618) ، «الكافي» (1/478) ، «جامع الأمهات» (249) ، «الذخيرة» (3/431-432) ، «عيون المجالس» (2/ 744 المسألة رقم 842) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 بالفيء والخمس على الأصناف المذكورين في الآيتين المذكورتين، ولا يكون في ذلك حقٌّ لمن سواهم، وهم لا يرون ذلك، بل يجيزون أن يُعطى غير الأصناف، ويترك الأصناف في الآيتين، أو يترك بعضهم بحسب المصلحة عندهم، فقد ادَّعوا مساواتهما في الحكمِ بظاهر الآيتين، ثم نكفوا بهما كليهما عن ذلك الحكم والمصرف المعيَّن إلى مصرفٍ غيره، يدَّعون المساواة فيه استدلالاً بما تركوه، إلا أنهم زعموا أن محمل تعيين الأصناف بالذكر في ذلك إنما هو على التأكيد في أمرهم، لا أنه مقصورٌ عليهم حتى لا يجري ذلك إلا فيهم، وربما كان مِن قول مَن احتجَّ لذلك: أَنْ ذكر قول الله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215] ، فكان للمنفق بإجماع أن يضعَ نَفَقتهُ في غير هؤلاء الأصناف إن رأى ذلك. وذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والأوزاعي، وأبو ثورٍ، وإسحاق، وداود، والنسائي، وعامَّة أهل الحديث والفقه، إلى التفريق بين مصرف الفيء والخمس، فقالوا: الخمس موضوع فيما عيَّنه الله -تعالى- فيه من الأصناف المُسمّين في آية الخمس من سورة الأنفال، لا يتعدَّى به إلى غيرهم (1) ، ولهم مع ذلك في توجيه قَسَمِهِ عليهم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافٌ نذكره في قسم الخمس بعد هذا -إن شاء الله تعالى-. وأما الفيء: فهو الذي يرجع النَّظر في مصرفه إلى الإمام بحسب المصلحة والاجتهاد، والدليل على ذلك: أن آية الخمس في الأنفال عَيَّنتْ مصرف الخمس في الأصناف، وآية الفيء في الحشر هي عامَّة في وجوه المصالح. قال الله -تعالى-: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} إلى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ثم إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} ثم إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 7-10] ، كلُّ ذلك عند   (1) مضى ذكر مذاهب العلماء في التفريق بين مصرف الخمس ومصرف الفيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 بعض أهل العلم معطوفٌ بعضه على بعض في مصرف الفيء. وأيضاً، فالذي يرفع الإشكال هو ما بيَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قسم الفيء من التَّعميم. وأيضاً، فلا خلاف بينهم في الفيء: أنه يتعدى هؤلاء الأصناف إلى غيرهم، وإنما الخلاف في الخمس. والأرجح: ما ذهب إليه الجمهور (1) من قصر الخمس فيما سماه الله -تعالى-، فإنه لا دليل مرضيٌّ على دعوى غير ذلك، وقد ذكرنا مذهب الشافعي الذي انفرد به في تخميس الفيء، وأنَّ مصرفَ خمسِ الفيء وخمسِ الغنيمة واحدٌ؛ إنما يفترق ذلك عنده في أربعة أخماس الفيء. قال أبو بكر بن المنذر (2) : «يعطى من مال الفيء أعطية المقاتلين، وأرزاق الذُّرية، وما يجري على الولاة، والحُكَّام، وعلماء المسلمين، وقرائهم، وما ينفق في النوائب التي تنوب المسلمين، كإصلاح الطرق، والجسور، والحصون، والقناطر، وغير ذلك» . فصلٌ خرَّج مسلم (3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تَركَ مالاً فللورثة، ومن ترك كلاًّ فإلينا» . وفيه (4) في رواية: «أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله، فأيكم ما ترك دَيْناً أو ضيعةً فأنا وليُّه، وأيكم ما ترك مالاً فليؤثر بماله عصبته من كان» . وخرَّج أبو داود (5) ؛ عن عوف بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه   (1) وهو الصواب -إن شاء الله تعالى-. (2) في «الأوسط» (12/82) . (3) في «صحيحه» في كتاب الفرائض (باب من ترك مالاً فلورثته) (1619) (17) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الاستقراض (باب الصلاة على من تركَ دَيْناً) (رقم 2398) ، وفي كتاب الفرائض (باب ميراث الأسير) (رقم 6763) ؛ بنفس اللفظ. وأخرجه -بألفاظ مختلفة- بالأرقام (2298، 2399، 4781، 5371، 6731، 6745) . (4) (1619) (16) . وأخرجه بهذا اللفظ البخاري. انظر الأرقام في الهامش السابق. (5) في «سننه» في كتاب الخراج والإمارة والفيء (باب في قسم الفيء) (رقم 2953) ؛ من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 الفَيءُ قسمه في يومه، فأعطى الآهل حَظَّين، وأعطى الأعزب حظًّا. وروى أبو عبيد في كتاب «الأموال» (1) ، وذكره ابن المنذر -أيضاً- ، عن عمر ابن الخطاب، في قسمة الفيء أنه قال: «إني بادٍ بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم المهاجرين الأولين، ثم بالأنصار: الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم. ثم قال: فمن أسرع إلى الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء، فلا يلومنَّ   = حديث عوف بن مالك. وفيه قال: فدُعينا، وكنت أُدْعَى قبل عمار، فدُعيت، فأعطاني حَظَّين، وكان لي أهل، ثم دُعي بعدي عمار بن ياسر، فأعطى له حظّاً واحداً. والحديث صحيح. وورد الحديث بألفاظ أطول من هذا، وفيه قصة. خرجت طرقها في تعليقي على «الحنائيات» (رقم 65) ، وفي تعليقي على «إعلام الموقعين» (3/65 و6/86) . (1) أخرجه أبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 285-286 رقم 548) -ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (12/86) -، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا موسى بن عُلي بن رباح، عن أبيه، عن عمر. وفيه زيادة في أوله، وهي قول عمر -لما خطب الناس بالجابية-: «من أراد أن يسأل عن القرآن، فليأت أبيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازناً وقاسماً، إني بادٍ بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ... » . وفيه بعد قول عمر: «ثم بالمهاجرين الأولين» ، قال: «ثم أنا بادٍ بأصحابي، أُخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا» ، قبل قوله: «ثم بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم» . وأخرجه ابن زنجويه في كتاب «الأموال» (ص 499 رقم 796) ؛ عن عبد الله بن صالح، به. وأخرجه ابن أبي شيبة (2/2 ق210/أ) ، وسعيد بن منصور في «سننه» (2/132) ؛ عن وكيعٍ، وعبدِالله بن يزيد، عن عُلَيّ بن رباح، به، نحوه. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/348، 359) ، وابن الجوزي في «مناقب عمر» (100) عن الواقدي، عن موسى بن علي، به. مقتصراً على ذكر ما يتعلق بمعاذ وزيد بن ثابت. وأخرجه الحاكم (3/272-273) من طريق أبي عاصم، عن موسى بن عُليّ. وموسى بن علي. قال الحافظ في «التقريب» (6994) : «صدوق، ربما أخطأ» . وشيخ أبي عبيد هو: عبد الله بن صالح، أبو صالح المصري. قال ابن حجر (3388) : «كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة» . ثم هناك انقطاع بين علي بن رباح، وبين عمر. ولد علي سنة (10هـ) . كما في «تهذيب التهذيب» . وقال ابن يونس: «ولد عام (15هـ) عام اليرموك» . وكانت خطبة عمر سنة (17هـ) أو (18هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 رجلٌ إلا مُناخ راحلته» . ورويا (1) عنه -أيضاً-؛ أنه أول من دوَّن الدواوين في فرضِ الأُعطية؛ فَرَضَ لأهل بدرٍ من المهاجرين والأنصار ستة آلاف ستة آلاف، وفرض لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففضَّلهنَّ على الناس أجمعين، وفضَّل عليهن عائشة؛ فرضَ لها اثني عشر ألفاً، ولسائرهن عشرة آلاف، غير جويرية وصفية، فرض لهما ستة آلاف ستة آلاف (2) ، وللمهاجرات الأول ألفاً ألفاً. قوله: «ففضَّلهن على الناس أجمعين» من غير كتابي أبي عبيد وابن المنذر. ورويا (3) عنه-أيضاً-؛ أنه لمَّا دون الدواوين قال: بمن ترون أن أبدأ؟ فقيل   (1) أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (ص 287-288 رقم 554) ، وابن المنذر في «الأوسط» (12/87) عن علي بن عبد العزيز، كلاهما عن أحمد بن يونس، عن أبي خيثمة: حدثنا أبو إسحاق عن مصعب بن سعد، عن عمر. وفيه بيان المهاجرات الأول اللاتي فرض لهنَّ عمر، وهنَّ: أسماء بنت عُميس، وأسماء بنت أبي بكر، وأم عبد: أم عبد الله بن مسعود. وقوله: «ففضلهنَّ على الناس أجمعين» ليست في كتاب أبي عبيد -كما بيَّن ذلك المصنف رحمه الله تعالى-. وأخرجه البيهقي (6/349) ؛ وفيه ذكر خطبة عمر بالجابية في أوله. وصحح ابن حجر في «الفتح» (7/126) بعض ما فيه، وخطبته في الجابية ثابتة، صحت منها فقرات، خرجتها في غير هذا الموطن. وانظر: «الأوائل» لأبي عروبة الحراني (رقم 108) . (2) أخرج البيهقي في «الكبرى» (6/349) ؛ من طريق علي بن رباح، عن ناشرة بن سُمَيّ اليزني، قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم الجابية -وهو يخطب الناس-..، وفيه: ففرض لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا جويرية، وصفية، وميمونة -رضي الله عنهن-، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل بيننا، فعدل بينهنّ عمر -رضي الله عنه-. (3) رواه أبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 286 رقم 549) -ومن طريقه: ابن زنجويه في كتاب «الأموال» (ص 500 رقم 797) ، والبلاذري في «فتوح البلدان» (440) - عن أبي النَّضر، وعبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن عمر، به. ومحمد بن عجلان، من طبقة صغار التابعين، توفي سنة (148هـ) ، فهو لم يدرك عمر. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/301) ، والبلاذري في «فتوح البلدان» (440-441) ؛ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 له: ابدأ بالأقرب فالأقرب بِكَ، قال: بل أبدأ بالأقرب فالأقرب برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن المنذر (1) : «وبهذا قال الشافعي» . وقال الشافعي (2) : «ينبغي للإمام أن يحصي جميع من في البلدان من المقاتلة: وهم من قد احتلَم واستكمل (3) خمس عشرة سنة من الرجال، ويحصي الذرية: وهم من دون المحتلم، ودون البالغ خمس عشرة، والنساء: صغيرتهن وكبيرتهن، ويعرف قدر نفقاتهم، وما يحتاجون إليه في مؤناتهم بقدر معاش مثلهم في بلدانهم، ثم يعطي المقاتلة في كل عامٍ عَطاءهم، والذرية والنساء ما يكفيهم لسَنَتهم في كسوتهم ونفقاتهم طعاماً أو قيمته دراهم أو دنانير، ويعطي المنفوس شيئاً، ثم يزاد كلما كبر على قدر مؤنته، وهذا مستوٍ أنهم يعطون الكفاية، ويختلف في مبلغ العطاء باختلاف أسعار البلدان وحال الناس فيها، فإن المؤنة في بعض البلدان أثقل منها في بعض» . قال (4) : «وإن فضلَ من المال فضلٌ بعدما وصفتُ من إعطاء العطاء، وضعَه الإمام في إصلاح الحصون، والازدياد في الكُراع (5) ، وكل ما قَوَّى به المسلمين،   = كلاهما من طريق جعفر بن محمد، والشافعي في «المسند» (326) ، وفي «الأم» (4/166- ط. دار الفكر) أو (5/358- ط. دار الوفاء) ؛ -ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (12/88) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/364) ، وفي «المعرفة» (5/169) -، من طريق عمرو بن دينار، كلاهما عن أبي جعفر: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن عمر، به. ومحمد بن علي، ولد سنة ستين -على ما رجحه الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (5/ 210- ط. دار المعرفة) -، فهو لم يدرك عمر، فالإسناد منقطع. وانظر: «المصنف» لابن أبي شيبة (7/613 وما بعدها- ط. دار الفكر) . * تنبيه: في مطبوع «الأم» (ط. دار الفكر) : قيل له: ابدأ بالأقرب فالأقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو خطأ ظاهر. (1) في «الأوسط» (12/33) . (2) في «الأم» (4/162- ط. دار الفكر) أو (5/343- 344- ط. دار الوفاء) . (3) كذا في الأصل والمنسوخ، وفي مطبوع «الأم» : «أو قد استكمل» . وهو أصوب. (4) «الأم» (4/164- ط. دار الفكر) أو (5/351- ط. دار الوفاء) . (5) في مطبوع «الأم» : «والازدياد في السلاح والكراع» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 فإن استغنى المسلمون، وكملت كلُّ مصلحةٍ لهم، فرَّق ما يبقى منه بينهم كلَّه، على قدر ما يستحقُّون في ذلك المال، وإن ضاق الفيء عن مبلغ العطاء فَرَّقه بينهم، بالغاً ما بلغ، لم يَحْبس عنهم منه شيئاً، ويُعطى من الفيء رزق الحكَّام، وولاة الأحداث، والصلات بأهل الفيء، وكل من قام بأمر الفيء من والٍ، وكاتبٍ، وجنديٍّ، ممن لا غنى لأهل الفيء عنه رزق مثله» . ذكره كلّه عن الشافعي: ابن المنذر. واختلف اجتهاد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، في قسم الفيء: فيما يرجع إلى التسوية في العطاء أو التفضيل؛ فأما أبو بكر فسوَّى في ذلك بين الشريف والمشروف، ومن كانت له سابقة، أو لم تكن، ورأى أن ثوابهم على الله، وأن الدنيا بلاغ، وعلى ذلك جرى عليٌّ -رضي الله تعالى عنه- من التَّسوية في العطاء (1) .   (1) أخرج أحمد في «الزهد» (ص 137) ؛ عن عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله -يعني: ابن جعفر- عن إسماعيل بن محمد، أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، قسم قسماً سوَّى فيه بين الناس، فقال له عمر -رضي الله عنه-: يا خليفة رسول الله، تسوي بين أصحاب (كذا في المطبوع، أي: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وسواهم من الناس؟! فقال أبو بكر: إنما الدنيا بلاغ، وخير البلاغ أوسعه، وإنما فضلهم في أجورهم. وأخرج أبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 335 رقم 649) ، قال: قال عبد الله بن صالح: وحدثني الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، وغيره، أن أبا بكر كُلِّم في أن يُفضِّل بين الناس في القسم، فقال: «فضائلهم عند الله، فأما هذا المعاش، فالتسوية فيه خيْر» . وأخرج البيهقي في «الكبرى» (6/348) ؛ من طريق عمرو بن عبد الله -مولى غفرة- قال: قسم أبو بكر -رضي الله عنه- أول ما قسم، فقال له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: فضِّل المهاجرين الأولين وأهل السابقة! فقال: أشتري منهم سابقتهم؟! فقسم، فسوَّى. قال البيهقي: قال الشافعي: وسوَّى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بين الناس، وهذا الذي أختاره، وأسأل الله التوفيق. ثم أسند -رحمه الله- إلى عاصم بن كليب، عن أبيه، سمعه منه، أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أتاه مالٌ من أصبهان، فقسمه بسبعة أسباع، ففضَل رغيفٌ، فكسره بسبع كسر، فوضع على كل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وأما عمر؛ ففضَّل أهل السابقة والغَنَاء عن الإسلام (1) ، وأَوْجَبَ لهم بذلك رتبة، وعلى ذلك جرى عثمان في التفضيل بعده. الاختلاف في قسم الأخماس تقدم من قول مالكٍ، ومن ذهب مذهبه: أن الأمر في مصرف الخمس راجعٌ إلى نظر الإمام واجتهاده (2) ، وأن تعيين الأصناف المُبيَّن في آية الخمس   = جزء كسرة، ثم أقرع بين الناس، أيهم يأخذ أول. وأخرج بسنده (6/349) إلى عليّ -أيضاً-، أن امرأتين -عربية ومولاة لها- جاءتاه تسألانه، فأمر لكل واحدةٍ منهما بكرٍّ من طعام، وأربعين درهماً، أربعين درهماً، وأخذت المولاة الذي أُعطيت وذهبت، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين، تعطيني مثل الذي أعطيت هذه، وأنا عربية، وهذه مولاة؟! فقال لها: إني نظرت في كتاب الله -عز وجل-، فلم أرَ فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق. وقال عبد الرحمن بن أبي قرة: قسم لي أبو بكر الصديق كما قسم لسيدي. كما عند ابن أبي شيبة، ومن طريقه أخرجه ابن حزم في «المحلَّى» (7/332) . وانظر: «المغني» (6/416 و9/57) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (176، 177) ، «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى (ص 222) ، «كنز العمال» (3/714 و4/521، 522) ، «موسوعة فقه أبي بكر الصديق» (ص 194-195) ، «موسوعة فقه علي بن أبي طالب» (492-493) . (1) أخرج البخاري في «الصحيح» في كتاب المغازي (بابٌ) (رقم 4022) ؛ بسنده إلى قيس (بن أبي حازم) ، قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، خمسة آلاف، وقال عمر: «لأفضلنَّهم على من بعدهم» . وأخرج في كتاب الجهاد والسير (باب حمل النساء القِرَبَ إلى الناس في الغزو) (رقم 2881) بسنده إلى ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قسَّم مروطاً بين نساءٍ من نساء المدينة، فبقي مِرطٌ جيّد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت عليٍّ، فقال عمر: أم سليط أحقّ، وأمُّ سليط من نساء الأنصار، ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال عمر: فإنها كانت تَزْفِرُ لنا القِرَبَ يوم أحد. قال أبو عبد الله -أي: البخاري- تَزْفِرُ: تخيط. وأخرجه في كتاب المغازي (باب ذكر أم سليط) (رقم 4071) . وانظر: «سنن البيهقي» (6/349-351) ، «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 543-544) ، «موسوعة فقه عثمان بن عفان» (235-236) ، وفيه بعد أن ذكر صنيع عمر: «ولم يؤثر عن عثمان أنه بدل ذلك، ولو فُعِل لنُقِل إلينا» . (2) تقدم ذكر الخلاف، كما قال المصنف -رحمه الله- في قسم الفيء، وأن مالكاً يرى أن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 بالذِّكر إنما هو لتأكد أمرهم في الجملة، والكلام ها هنا هو على القول الذي ذهب إليه الجمهور مِنْ قصر الخمس على من سمَّاهم الله -تعالى- في الآية حسبما دلَّ عليه القرآن. ولأهل العلم في قسم الخمس على مقتضى الآية أربعة أقوال: قول: إنه يقسم على ستة أسهم: لله -تعالى- سهم، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - سهم، ولذي القُربى سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم. ويكون السهم الذي سُمِّي لله -تعالى- قَبلُ مردوداً على عباد الله: أهل الحاجة منهم. وقيل: يُصرفُ في عمارة الكعبة، حُكي ذلك عن طاوس، وغيره (1) ، قاله القاضي   = الخمس كالفيء في القسمة، يرجع إلى اجتهاد الإمام. وانظر: «المدونة» (2/514-ط. دار الكتب العلمية) ، «الكافي» (1/412) ، «الذخيرة» (3/431) ، «البيان والتحصيل» (3/80) ، «المقدمات والممهدات» (ص 270) ، «عيون المجالس» (2/744 المسألة رقم 482) ، «الأموال» للداودي (101) ، «فتح الباري» (6/216) ، ورجح مذهب مالك صاحب كتاب «الفيء والغنيمة» (ص 79) . (1) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير؛ في «تفسيريهما» ، وأبو عبيد في «الأموال» ؛ عن أبي العالية، من قوله. ونسبه جلّ المفسرين إلى أبي العالية فقط، ولم أَرَ من نسبه إلى طاوس سوى القاضي عبد الوهاب في «المعونة» -كما قال المصنف-، وفي «عيون المجالس» (2/746) ، ووقع في مطبوع «تفسير القرطبي» عن أبي العالية، والربيع. وهو خطأ مطبعي، لأن الأثر من رواية الربيع بن أنس، عن أبي العالية. وانظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (5/1703 رقم 9086) ، و «تفسير ابن جرير» (10/3-4) ، «تفسير القرطبي» (8/10) ، «الأموال» لأبي عبيد (ص 408 رقم 836) ، «الأموال» للداودي (102) ، «الأوسط» لابن المنذر (11/86) ، «شرح معاني الآثار» (3/276) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/401) ، «المغني» (7/300-301) ، «تفسير ابن كثير» (2/344-345) ، «أضواء البيان» (2/357) . وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/66) إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن أبي العالية. ولكنه قال (4/67) : أخرج ابن المنذر -أي: في «تفسيره» - من طريق أبي مالك -رضي الله عنه-، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم ما افتتح على خمسة أخماس، فأربعة أخماس لمن شهده، ويأخذ الخمس؛ خمس الله، فيقسمه على ستة أسهم، فسهم لله، .... ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل سهم الله في السلاح، والكراع، وفي سبيل الله، وفي كسوة الكعبة، وطيبها، وما تحتاج = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 عبد الوهاب في «المعونة» (1) . فقسم هؤلاء على ظاهر ما عُدِّد في الآية، وجعلوا لِذكْر (2) الله -تعالى- في ذلك حظّاً في القسم. وقولٌ ثانٍ: إنه يقسم على خمسة أسهم: لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خُمسٌ، ثم لسائر الأصناف خُمسٌ خُمسٌ، وهو مذهب الشافعي، والثوري، وأحمد بن شعيب النسائي، وأهل الظاهر، وغيرهم (3) . وحملوا قوله -تعالى-: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ،   = إليه الكعبة ... » . قال القاضي عبد الوهاب في «المعونة» (1/619) : «وأما عمارة الكعبة، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحدٍ من الأئمة أن لها سهماً مقدراً، فكانت كسائر المصالح، إن احتيج إلى عمارتها، أُنفِقَ عليها بقدر الحاجة» . (1) (1/618) . وانظر: «عيون المجالس» (2/746) . (2) كذا في الأصل! (3) انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/154- ط. دار الفكر) ، «مختصر المزني» (ص 270) ، «الإقناع» (ص 177) للماوردي، «المهذب» (2/246، 247، 248) ، «الوجيز» (1/290) ، «روضة الطالبين» (6/355) ، «المنهاج» (93) ، «أحكام القرآن» للكيا الهراسي (3/158، 159) ، «الأوسط» (11/88) ، «المجموع» (19/ 354) . وانظر في مذهب سفيان الثوري: «الخراج» ليحيى بن آدم (ص 19-ط. دار المعرفة) ، «مصنف عبد الرزاق» (5/310) ، «شرح السنة» (11/101) للبغوي، «أحكام القرآن» (3/58) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/512) ؛ كلاهما للجصاص، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 675) . وأما مذهب النسائي، فقد صرح هو -رحمه الله تعالى- به، فقال في «السنن الكبرى» (4/ 331-332- ط. الرسالة) في كتاب قسم الخمس (باب تفريق الخمس وخمس الخمس) بعد كلام يأتي قريباً عند المصنف: «وقد قيل: بل يُؤخذ من الغنيمة شيء فيجعل للكعبة، وهو السهم الذي لله، وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإمام، يشتري منه الكراع والسلاح، ويُعطِي منه من رأى ممن فيه غناءٌ ومنفعةٌ لأهل الإسلام من أهل الحرب والعلم والفقه والقرآن، وسهمٌ لذي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، سهم الغني منهم والفقير -وقد قيل: إنه للفقير منهم دون الغنيّ واليتامى وابن السبيل، وهو أشبه القولين في الصواب، والله أعلم- والصغير والكبير والذكر والأنثى سواءٌ؛ لأن الله -جل ثناؤه- جعل ذلك لهم، وقسّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، وليس في الحديث أنه فضّل بعضهم على بعض، ولا خلاف نعلمه بين العلماء في رجلٍ لو أوصى بثلثه لبني فلانٍ أنه بينهم، وأن الذكر والأنثى فيه سواءٌ إذا كانوا يُحصون، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 على استفتاح الكلام بذكر الله -عز وجل- تفخيماً وتشريعاً؛ لأن الدنيا والآخرة، وكل شيء كان أو يكون فهو لله -تعالى-؛ قال ذلك غير واحدٍ (1) ، وهو مرويٌّ عن الحسن بن محمد بن الحنفية (2) ، وكذلك قال عطاء، والشعبي: خمس الله، وخمس رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ واحد (3) . قال النسائي (4) : «قوله -جل ثناؤه-: {للَّهِ} ؛ ابتداء كلام، لأن الأشياء كلها   = فهكذا كل شيء صُيِّر لقومٍ، فهو بينهم بالسَّويَّة، إلا أن يبين ذلك الآمر به، والله ولي التوفيق. وسهمٌ لليتامى من المسلمين، وسهمٌ للمساكين من المسلمين، وسهمٌ لابن السبيل من المسلمين، ولا يُعطى أحدٌ منهم سهم مسكينٍ ولا سهم ابن السبيل، وقيل له: خذ بأيهما شئت، والأربعة الأخماس يقسمها الإمام بين من حضر القتال من المسلمين البالغين» . وانظر في مذهب أهل الظاهر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (138) ، «المحلَّى» (7/327 المسألة رقم 949) ، «عمدة القاري» (15/37) ، «فقه الإمام أبي ثور» (779) . وهو مذهب الحنابلة. انظر: «المغني» (6/406) ، «المقنع» (1/503) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/781) . (1) كابن عباس -رضي الله عنه-، وقتادة، وعطاء، وإبراهيم النخعي. نقل ذلك عنهم ابن جرير في «التفسير» (10/3) ، وأبو عبيد في «الأموال» (408 رقم 835) ، وهو المذهب الذي اختاره ابن جرير، كما سيأتي. ونقل عن ابن عباس غير ذلك. (2) رواه عنه ابن جرير (10/3) ، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (409 رقم 837) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/85) . (3) رواه ابن جرير (10/3) ، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (409 رقم 837) ؛ عن عطاء. ونقل مذهب الشعبي: السيوطي في «الدر المنثور» (4/67، 70) ، وعزاه إلى عبد الرزاق في «المصنف» [ (5/239-240 رقم 9485) ] ، وابن أبي شيبة، وابن المنذر. وذكر مذهبه -أيضاً-: ابن المنذر في «الأوسط» (11/85) . وهو مذهب قتادة. أخرجه عنه عبد الرزاق (5/238 رقم 9481) ، وابن جرير (10/4) . وذكر ابن المنذر في «الأوسط» (11/85-86) أنَّ قوله في الآية: «هو لله، ثم قسم الخمس خمسة أخماس» . وفسَّر ابن المنذر كلامه أن خمس الله ورسوله شيء واحد. (4) قوله في «السنن الكبرى» في كتاب الخمس (باب تفريق الخمس وخمس الخمس) (3/ 48-ط. دار الكتب العلمية، أو 4/332-ط. مؤسسة الرسالة) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 لله، ولعلَّه إنما استفتح الكلام في الفيء والخمس بذكر نفسه -تعالى-؛ لأنهما أشرف الكسب، ولم ينسب الصدقة إلى نفسه؛ لأنها أوساخ الناس» . وقولٌ ثالث: إنه يقسم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أربعة أسهم: لذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وممن قاله: الطبري (1) ، وقال: يُرَدُّ سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على من سُمِّي معه في الآية قياساً على ما أجمعوا عليه فيمن عُدِمَ من أهل سُهمان الصدقات. قال غيره: كما أنَّ صِنفاً من سائر الأصناف الذين معه في الخمس إذا فُقِدوا رُدَّ سهمه على الآخرين، فكذلك في سهمه - صلى الله عليه وسلم -. وقولٌ رابع: إنه يقسم على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وأسقط هؤلاء سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسَهم ذي القربى؛ بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأصحابه (2) ، وخالفه أكثر الفقهاء في سقوط سهم ذي القربى، ولا يكاد   = وهذا قول سفيان الثوري، حكاه عنه أبو عبيد في «الأموال» (ص 412 رقم 841) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/92-93) . (1) كما في «تفسيره» (10/8) ، ونقله عنه ابن كثير في «التفسير» (2/345) ، وهو مروي عن ابن عباس -أيضاً-. انظر: «الدر المنثور» (4/66) . (2) انظر: «الخراج» لأبي يوسف (ص 20-21 -ط. دار المعرفة) أو (ص 30-ط. المكتبة الأزهرية) ، «اللباب» (4/133) ، «القدوري» (ص 115) ، «مختصر الطحاوي» (165) ، «الهداية» (2/ 440) ، «بدائع الصنائع» (9/4362) ، «تحفة الفقهاء» (3/302-303) ، «فتح القدير» (5/503) ، «رؤوس المسائل» للزمخشري (ص 362) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/511، 514) ، «شرح معاني الآثار» (3/236) ، «ملتقى الأبحر» (1/363) . ونقل الزمخشري في «رؤوس المسائل» (ص 363) أن دليل أبي حنيفة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يستحق سهمه، بكونه مؤدياً للإمامة، ولدعوة الناس إلى الحق، وهذا المعنى قد فات بفواته، وسهم ذوي لقربى، إنما يستحقون بنصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء كانوا معه في الحَضَر والسَفر والنصرة، وقد فات بفواته، فوجب أن ينقطع هذا الحق. واستدلوا لمذهبهم- أيضاً-، أن الخلفاء الراشدين قسموا الخمس إلى ثلاثة أسهم، بإسقاط سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسهم ذوي القربى، ولم ينكر عليهم ذلك أحدٌ، مع توافر جميع الصحابة، فكان إجماعاً. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 يوجد لهذا القول مُستندٌ يُرضى. والأرجح ما ذهب إليه الشافعي، ومن سلكَ مسلكه في القسم على خمسة أسهم، والله أعلم. ثم يعود النظر بعد هذا في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، وكذلك في سهم ذي القربى بعده، فنرسم في ذلك فصلين -إن شاء الله تعالى-. القول في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفق أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ممَّا خصَّه الله -تعالى- به: خمس الخمس من المغنم، وكذلك الصَّفي، كان له -أيضاً- زيادة مع ذلك من جُملة المغنم. فأما خمس الخمس: ففي كتاب الله -تعالى- (1) ، وأما الصَّفي: ففيه آثار صحيحة، منها: ما خرَّجه أبو داود (2) ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:   = انظر: «فتح القدير» (5/503) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/62- وما بعدها) . وهذا القول مخالف لظاهر الآية. وانظر: «المغني» (6/443) . ونقل ابن جرير مذهب الحنفية، لكنه أشار إليهم بقوله: وذلك قول جماعة من أهل العراق. ولكن قال الطحاوي في «المختصر» -بعد ذكر المشهور من المذهب-: وقد روى أصحاب الإملاء عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف، أنه [أي سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -] يُقْسَم في ذوي القربى برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل. قال: وبه نأخذ. (1) أي في قوله -تعالى-: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... } . (2) في «سننه» في كتاب الخراج والإمارة (باب ما جاء في سهم الصَّفي) (رقم 2994) حدثنا نصر بن علي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (11/152 رقم 4822- مع «الإحسان» ) ؛ من طريق نصر بن علي، به. وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/39) ، والطبراني في «الكبير» (24 رقم 175) ؛ من طريق أبي أحمد الزبيري، به. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 «كانت صفية من الصَّفي» . وقال أهل العلم: «الصَّفيُّ» : هو كلُّ شيء يصطفيه من رأسة الغنيمة: فرسٌ، أو جارية، أو عبدٌ، أو سيفٌ، أو ما شاء، على حسب حال الغنيمة. فأمَّا الصَّفي فاتفق العلماء على أنه ليس لأحدٍ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشذَّ أبو ثور فقال: هو باقٍ، يجري مجرى سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخمس (1) . وأمَّا سهمه - صلى الله عليه وسلم - من الخمس، فاختلف في حكمه بعده اختلافاً كثيراً، يتحصَّل إلى أربعة أقوال: قول: إنه يُرَدُّ على أهل الجيش الغانمين، فيقسم عليهم أربعة أخماس الغنيمة، وخمس الخمس، وتكون أربعة أخماس الخمس للأربعة الأصناف الباقية من أهل الخمس، كما كان لهم في الأصل (2) . وقولٌ ثانٍ: إنه يُردّ على من سُمي في الخمس، فيقسم جميع الخمس على أربعة أسهم، قاله الطبري، وقد مضى توجيه هذا القول، وعليه يجيء قول أبي   = وأخرجه الحاكم (2/128) ، والبيهقي في «الكبرى» (6/304) ؛ من طريق سفيان، به. وقال: «صحيح على شرط الشيخين» . ووافقه الذهبي. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-. (1) وقال أبو بكر بن المنذر في «الأوسط» (11/96) : «ولا أعلم أحداً وافق أبا ثورٍ على ما قال» . وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/192) : «وأجمع العلماء على أن الصَّفِي ليس لأحدٍ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -» ، وانظر في مذهب أبي ثور: «اختلاف الفقهاء» (21) للطبري، ولم يحرر صاحب «فقه الإمام أبي ثور» (ص 781) مذهب أبي ثور، وجعل مذهبه كمذهب أحمد والشافعي والثوري والليث! (2) نقله ابن المنذر في كتابه «الأوسط» (11/94) عن طائفة من العلماء، دون أن يذكر من هم. وذكر مخالفة أبي ثور، وأنه قال: «الآثار في الصَّفِي ثابتة، ولا أعلم شيئاً نسخها» . قال -أي: أبو ثور-: فيؤخذ الصَّفي، ويجري مجرى سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال ابن المنذر: «قد قسم الخلفاء الراشدون بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، ولم يبلغنا أنهم اصطفوا من ذلك شيئاً لأنفسهم غير سهامهم، والله أعلم» . انتهى كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 حنيفة في ردِّه على الأصناف الباقين في الخمس، إلا أنه زاد مع ذلك سَهمَ ذي القربى، فردَّه كذلك على من بقي، ورأى أنه انقطع بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقسم على ثلاثة كما تقدم من مذهبه (1) . وقولٌ ثالث: إن الإمام يضعه في مصالح الإسلام وأهله، مِن سدِّ الثغور، وإعداد الكراع والسلاح، ويُعطي منه مَن فيه للمسلمين منفعةٌ، ويُنفِّل منه في الحرب وغير الحرب، على ما يرى من المصلحة، وهو قول الشافعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل (2) ،   (1) تقدم ذكر مذهب الإمام الطبري، وأبي حنيفة -رحمهما الله-. وانظر: «الأوسط» (11/ 93-94) ، «الفيء والغنيمة» (ص 84) . (2) انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/155) ، «المهذب» (2/247) ، «الوجيز» (1/290) ، «روضة الطالبين» (6/355) ، «المنهاج» (93) ، «أحكام القرآن» للكيا الهراسي الشافعي (3/158، 159) ، «حلية العلماء» (7/ 688) ، «الأوسط» (11/95) ، «المجموع» (19/354) ، «تفسير الماوردي» (2/320) . ونقله عن الشافعي: ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/192) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (6/406) ، «الشرح الكبير» (5/560) ، «المقنع» لابن قدامة (1/ 503) ، «الإنصاف» (4/166، 167) ، «كتاب التمام» (2/225) ، «الفروع» (6/227) ، «المحرر» (2/ 175) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/782) . وهذا القول هو أصح الروايتين عن أحمد، واختاره الخرقي في «مختصره» (ص 119) . والرواية الأخرى عن أحمد، أن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من خمس الغنيمة: مصروف إلى أهل الديوان خاصة، وهم الذين نصبوا أنفسهم للقتال، وانفردوا في الثغور، يقسم على قدر كفايتهم. ووجه هذه الرواية -عندهم-: أنه لما كان هذا السهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - له؛ لأن الرعب منه، والفزع منه، وجب أن يكون بعده لمن الرعب منه، والفزع منه، والفزع إنما يكون بأهل الديوان. ووجه الرواية الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» . فأخبر أنه مردود على الجماعة، وجعل الخمس عامّاً، سواء فيه خمس الغنيمة، أو خمس الفيء. قلت: والحديث المشار إليه. أخرجه أبو داود (رقم 2755) ، وأحمد (4/127-128) ، وغيرهم، وهو جزء من حديث العرباض المتقدم. وفيه: «فأدوا الخيط والمخيط ... » ، و «إياكم والغلول، فإنه عار وشنار» . وهو صحيح. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» . ومذهب الشافعي، والرواية الأولى عن أحمد: هو مذهب المالكية، بناءً على أصلهم: وهو أن خمس الغنيمة، والخراج، والجزية، لا يخمس شيء منه، بل يأخذ الإمام منه كفايته وعياله بغير تقدير، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ونحوه عن قتادة (1) . وقول رابع: إنَّ ذلك للخليفة بعده، يَقومُ في ذلك مقامه، ويصرفه فيما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يصرفه فيه (2) ؛ ورُبما يستند من ذهب هذا المذهب إلى حديثٍ مرفوعٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. خَرَّج أبو داود (3) ، عن أبي الطفيل، قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكرٍ تطلب   = حتى لو احتاج إليه جميعه أخذه، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، من بناء القناطر، والمساجد، وعمارة الثغور، وأرزاق القضاة، على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده، ويعطي من قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يؤديه اجتهاده -على ما سيأتي في قسم سهم ذوي القربى-. انظر: «المدونة» (1/514) ، «المعونة» (1/618) ، «التلقين» (1/240) ، «الكافي» (1/478) ، «عيون المجالس» (2/744) ، «الذخيرة» (3/431) ، «النوادر والزيادات» (3/197، 198) . (1) نقل مذهبه ابن المنذر في «الأوسط» (11/95) ، وابن عبد البر في «الاستذكار» (14/192) . (2) انظر: «الأوسط» (11/94) . ونقل عن الحسن بن محمد ابن الحنفية، قال: اختلفوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذين السهمين، يعني سهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسهم ذي القربى، فقال قائل: سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للخليفة بعده، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة، فاجتمع رأيهم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكان خلافة أبي بكر، وعمر في الخيل، والعدة في سبيل الله. وذكره عنه ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/187) . ورواه عنه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة؛ في «مصنفيهما» وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ في «تفاسيرهم» ، والحاكم في «المستدرك» ؛ من طريق قيس بن مسلم، عنه. وانظر: «الدر المنثور» (4/ 65-66) . (3) في «سننه» في كتاب الخراج والإمارة والفيء (باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال) (رقم 2973) ؛ من طريق محمد بن فضيل، عن الوليد بن جُميع، عن أبي الطفيل، قال: جاءت فاطمة -رضي الله عنها-، إلى أبي بكر -رضي الله عنه-، تطلب ميراثها من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... وذكر الحديث. وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير الوليد بن جميع -وهو الوليد بن عبد الله ابن جميع- فمن رجال مسلم، وفيه كلام يحطه عن رتبة الصحيح، وقال المنذري في «مختصره لسنن أبي داود» (4/218) : «في إسناده الوليد بن جميع، وقد أخرج له مسلم، وفيه مقال» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وأبو الطفيل: هو عامر بن واثلة، من صغار الصحابة، وهو آخرهم موتاً. وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر. وانظر: «صحيح سنن أبي داود» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. وأخرجه أحمد (1/4) ، والبزار (54) ، وعمر بن شبة في «تاريخ المدينة» (1/198) ، والمروزي (78) ، وأبو يعلى (37) ؛ من طرقٍ عن محمد بن فضيل، بهذا الإسناد. وفي بعض طرق الحديث: قال أبو بكر بعدها: «فرأيت أن أردَّه على المسلمين» . قالت -أي: فاطمة رضي الله عنها-: «فأنت وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم» . وله شاهد عند البخاري في «تاريخه الكبير» (4/46) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/ 406 رقم 2455) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/279) ، والطبراني في «الكبير» (6 رقم 5461) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (5/1864 رقم 514) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3/1279 رقم 3211) ، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص 493) ، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (2/50) من طرق عن الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، وغيره، أنهما سمعا بلال بن سعد يحدث عن أبيه سعد بن تميم السكوني -وكان من الصحابة-، قال: قيل: يا رسول الله، ما للخليفة من بعدك؟ قال: «مثل الذي لي، ما عدل في الحكم، وقسط في القسط، ورحم ذا الرحم، فمن فعل غير ذلك فليس مني، ولست منه» ، وهذا سند صحيح، وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/231-232) ، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. قال الحافظ ابن كثير في «البداية» (5/289) بعد أن أورد هذا الحديث عن «المسند» : «ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيّع، فليعلم ذلك، وأحسن ما فيه قولُها: «أنت، وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم» ، وهذا هو الصواب والمظنون بها، واللائق بأمرها، وسيادتها، وعلمها، ودينها -رضي الله عنها-، ولكنها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظراً على هذه الصدقة، فلم يجبها إلى ذلك، فعتبت عليه بسبب ذلك، وهي امرأة من بنات آدم، تأسف كما يأسفن، وليست بواجبة العصمة مع وجود نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومخالفة أبي بكر الصديق لها -رضي الله عنها-، وقد روينا عن أبي بكر -رضي الله عنه-: أنه ترضَّى فاطمة وتلايَنَها قبل موتها، فرضيت -رضي الله عنها-» . وقد ورد الحديث بأطول من هذا، وفيه: أنها والعباس -رضي الله عنهما- أتيا أبا بكر -رضي الله عنه-، يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وفيه قال أبو بكر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا نُورثُ، ما تركنا صدقةٌ، إنما يأكل آل محمدٍ من هذا المال» . وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَصنعهُ؛ إلا صنعتُهُ. أخرجه البخاري (3711، 4035، 4036، 4240، 4241، 6725، 6726) ، ومسلم (1957) ، وأحمد (1/10، 13) ، وغيرهم، من طرقٍ عديدة، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 ميراثها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقال أبو بكر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله -عز وجل- إذا أطعم نبياً طُعمةً، فهي للذي يقوم بعده» . قال ابن عبد البر (1) : «إنه ضعيف، لا حجة فيه» . الاختلاف في سهم ذي القربى وكذلك اختلف العلماء في سهم ذي القربى بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلافاً كثيراً، يتحصل إلى أربعة أقوال: قول: إنه باقٍ لقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده، وهو قول مالكٍ، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وأبي ثور، وأهل الظاهر، وغيرهم، وهو الصحيح (2) ؛ لأن   = وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فهي للذي يقوم من بعده» : أي: بالخلافة، أي: يعمل فيها ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمل، لا أنها تكون له ملكاً. انظر: «عون المعبود» (8/196) . (1) في «الاستذكار» (14/190 رقم 19982-ط. قلعجي) ، والحديث -كما رأيت- صحيح. ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته راجعة إلى شيء واحد، وهو صرفه في مصالح المسلمين. وانظر: «فتح الباري» (6/216، 238) ، «أضواء البيان» (2/360) ، «الفيء والغنيمة» (ص 85) . (2) انظر في مذهب المالكية: «المدونة» (1/514) ، «الكافي» (1/478) ، «النوادر والزيادات» (3/197) ، «الذخيرة» (3/432) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/500) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/154) ، «المهذب» (2/247، 248) ، «الوجيز» (1/290) ، «روضة الطالبين» (6/355) ، «المنهاج» (ص 93) ، «الإقناع» للماوردي (ص 177) ، «الحاوي الكبير» (10/488) . وذكر النووي في «الروضة» -حكاية عن «الوسيط» للغزالي- وجهاً: أن سهم ذوي القربى يصرف إلى الخلفاء، ونقل قولاً آخر، بأنَّ هذا السهم يُرَدُّ على أهل السهمان الذين ذكرهم الله -تعالى-، ثمَّ ردَّهما، وقال: «هذان النقلان شاذان مردودان» . ورجَّح صرفه بعده - صلى الله عليه وسلم - في مصالح المسلمين. وفي مذهب الحنابلة: «المقنع» (2/863-864) لابن البنا، «المقنع» (1/504) لابن قدامة، «المغني» (9/293) ، «الواضح» (2/7، 8، 9) ، «شرح الزركشي» (6/2788، 2793، 2796، 2801، 2803) ، «مسائل أحمد» (2/277- 278، 3/122- رواية صالح، 2/52- رواية ابن هانئ، 2/820-821- رواية عبد الله) ، «كشاف القناع» (3/66) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/783) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 القرآن يقتضي الإسهام لهم مطلقاً، فهو يجب لهم بذلك في حياته، وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر (1) : الحجة لهم: حديث ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعمٍ، قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى لبني هاشم، وبني المطلب من الخمس، وقال: «إنما بنو هاشم، وبنو المطلب؛ شيءٌ واحد» (2) . قال ابن عبد البر: «ليس في هذا الباب حديث مُسندٌ غيره» . ثم اختلف هؤلاء في تعيين القرابة: فذهب الشافعي، وأبو ثور، وأحمد، وأهل الظاهر، وغيرهم، إلى أنهم بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو المطلب بن عبد مناف (3) ، ودليلهم الحديث المتقدم،   = وانظر: «الأوسط» (11/100- وما بعدها) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/62) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (ص 138) ، «المحلَّى» (7/329) ، «عمدة القاري» (15/37، 44) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/438) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 675) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 790) . وهو مذهب أبي سليمان الخطابي، وإسحاق بن راهويه، والنسائي، وآخر قولي أبي يوسف، وجمهور أصحاب الحديث، كما نقل ذلك عنهم ابن حزم. (1) في «الاستذكار» (14/186) . (2) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام) (رقم 3140) ، وفي كتاب المناقب (باب مناقب قريش) (رقم 3502) ، وفي كتاب المغازي (باب غزوة خيبر) (رقم 4229) ، وقد مَضَى. (3) انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/154) ، «المجموع» (18/151) ، «الحاوي الكبير» (10/488) ، «معرفة السنن والآثار» (9/270 رقم 13119) . ورد فيه البيهقي على من خالف مذهب الشافعي بكلام قوي، فيه تدقيق وتحرير، وانتصر لهذا القول ابن حجر في «الفتح» (6/245) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (9/292، 293- ط. هجر) ، «المقنع» (2/863- 864) ، «الواضح شرح مختصر الخرقي» (2/7، 8، 9) ، «شرح الزركشي» (6/2788، 2793، 2796، 2801، 2803) ، «مسائل الإمام أحمد» (2/277- 278، 3/122- رواية صالح، 2/52- رواية ابن هانئ، 2/ 820- 821- رواية عبد الله) ، «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى (ص 121) . وانظر: «الأوسط» (11/100- وما بعدها) ، «المحلَّى» (7/327) ، «الجامع لأحكام القرآن» (8/12) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/63) ، «فتح الباري» (6/245) ، «أضواء البيان» (2/362) ، «الفيء والغنيمة» (87-88) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 خرَّجه البخاري بالسند المذكور إلى جبير بن مطعمٍ، قال: مشيتُ أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله: أعطيتَ بني المطلب، وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بنو المطلب، وبنو هاشم؛ شيء واحد» . وفيه عن جبير: ولم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل. قال ابن إسحاق: عبد شمس، وهاشم، والمطلب؛ إخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم، كذلك ذكره البخاري (1) . وقال سائر الفقهاء: مالك، والثوري، والأوزاعي: هو خاصٌّ ببني هاشم (2) ،   = وهذا قول مجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم بن خالد. وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (5/ 238 رقم 9481) ، «الأوسط» (11/101) ، «الاستذكار» (14/187) . (1) في «صحيحه» (رقم 3140) . وقال ابن حجر في «الفتح» (6/245) : ولهذا لما كتبت قريش الصحيفة بينهم، وبين بني هاشم، وحصروهم في الشعب، دخل بنو المطلب مع بني هاشم، ولم تدخل بنو نوفل وبنو عبد شمس. وقال الحافظ في «الفتح» (6/246) في شرح هذا الحديث: «والحديث ظاهر في أنه أعطاهم بسبب النصرة، وما أصابهم بسبب الإسلام من بقية قومهم الذين لم يسلموا، والملخص أن الآية نصت على استحقاق قربى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي متحققة في بني عبد شمس لأنه شقيق، وفي بني نوفل إذا لم تعتبر قرابة الأم. واختلف الشافعية في سبب إخراجهم، فقيل: العلة القرابة مع النصرة، فلذلك دخل بنو هاشم وبنو عبد المطلب، ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل لفقدان جزء العلة، أو شرطها، وقيل: الاستحقاق بالقرابة، ووجد ببني عبد شمس ونوفل مانع؛ لكونهم انحازوا عن بني هاشم، وحاربوهم. والثالث: أن القربى عام مخصوص وبَيَّنَته السنة» . وانظر: «أضواء البيان» (2/362، 363) ، «الفيء والغنيمة» (ص 89) . (2) على اعتبار أن الخمس إلى الإمام، فيعطي أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يرى ويجتهد، وقد مضى أن هذا مذهب مالك، وهو مذهب سفيان الثوري، والأوزاعي، كما نقل ذلك عنهم ابن المنذر في «الأوسط» (11/103) . وانظر: «المدونة» (1/514-ط. دار الكتب العلمية) ، «التلقين» (1/246) ، «المعونة» (1/ 618) ، «المحلَّى» (7/929) ، «المغني» (6/406) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/62) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (ص 675) ، «الفيء والغنيمة ومصارفهما» (ص 86- وما بعدها) . ومذهب سفيان في الخمس، أخرجه عبد الرزاق (5/310) ، وقد مضى تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وروي ذلك عن ابن عباس، ومحمد ابن الحنفية: قال ابن عباس: وقد خالفنا في ذلك قومنا -يعني: قريشاً- (1) ، وإلى ذلك ذهب عمر بن عبد العزيز (2) : أنهم بنو هاشمٍ خاصَّة. وقد قيل: إن قريشاً كلها قُربى، رُوي ذلك عن أصبغ بن الفرج (3) .   (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب النساء الغازيات يُرضخ لهن ولا يُسهم، والنهي عن قتل الصبيان أهل الحرب) . (1812) (137) ، بسنده إلى يزيد بن هرمز، أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله، عن خمس خلال، فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه، كتب إليه نجدة: أما بعد، فأخبرني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهنَّ بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يُتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهنَّ، فيداوينَ الجرحى، ويُحذين من الغنيمة، وأما بسهم، فلم يضرب لهنَّ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقتل الصبيان، فلا تقتُل الصبيان، وكتبت تسألني: متى ينقضي يُتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنْبتُ لحيته، وإنه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنهُ اليُتمُ، وكتبت تسألني، عن الخُمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك. وأخرجه أبو داود في الجهاد (2727 و2728) ، وفي الخراج (2982) . والترمذي في السِّير (1556) ، والنسائي في السِّير (8617) ، وفي قسم الفيء (4435، 4436) ، وفي التفسير (11577) -أو كتاب التفسير (597) -، وابن المنذر في «الأوسط» (11/101) ، وعبد الرزاق (5/238) ، والبيهقي (6/ 345) ، وأبو عبيد في «الأموال» (335) ، وابن حزم في «المحلَّى» (7/329) ، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه؛ في «تفاسيرهم» ، وغيرهم. وانظر: «الدر المنثور» (4/68) . وانظر -أيضاً-: «المغني» (6/407، 410) ، «معرفة السنن والآثار» (9/13142) ، «كشف الغمة» (2/168) . (2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/472 رقم 15299) ؛ من طريق عطاء بن السائب، عنه. وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/101) ، «الاستذكار» (14/187) . وبه قال زيد بن أرقم، وطائفة من الكوفيين. انظر: «الفتح» (6/245) . (3) قال ابن حجر في «الفتح» (6/246) -عند الحديث المذكور-: وقيل: هم قريش كلها، لكن يعطي الإمام منهم من يراه، وبهذا قال أصبغ، وهذا الحديث حجة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وقولٌ ثان: سهم ذي القربى، هو بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لقرابة الإمام، رُوي ذلك عن الحسن البصري، وقتادة (1) ، ولا مستند لهذا القول إلا ما لعلَّه أن يُتوهَّم في قوله -تعالى-: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ، أنَّ ذلك يجري في كلِّ من له الأمر على المسلمين، لا يختصُّ بقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعيد. وذكر ابن عبد البر (2) في هذا الموضع الحديث المتقدم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أطعم الله نبياً طُعمةً، فهي للذي يقوم من بعده» (3) . قال: «إنهم استدلوا به على ذلك» ، وضعَّف الحديث، وهو مع ذلك لو لم يكن كذلك، فليس فيه من مَعنى ما ذَهبوا إليه من القرابة شيءٌ. بلى! إنما كان يدل إذا كان صحيحاً على مذهب من رأى سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للإمام بعده، وأما (4) في هذا؛ فبعيد. وقولٌ ثالث: إن سهم ذي القربى، وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كلاهما يجعل في الخيل، والسلاح، والعدَّة في سبيل الله، ذهبت إلى ذلك طائفة، وزعموا أنه كذلك كان الأمر فيهما في خلافة أبي بكر، وعمر، لما اختلفوا فيهما بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، اجتمع رأيهم على ذلك (5) . وقولٌ رابع -وهو ما قد ذكر من مذهب أبي حنيفة-: أن يُردَّ سهمُ النبي - صلى الله عليه وسلم -،   (1) ذكر ابن عبد البر في «الاستذكار» (14/189) ، أن هذا قول الحسن البصري. وذكر أن مذهب قتادة كمذهب الشافعي أنه لبني هاشم وبني المطلب خاصة، دون سائر قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد مضى ذكره. (2) في «الاستذكار» (14/189-190) . وقد نقل عنه المصنف جميع أقوال العلماء المتقدمة، واختلافهم في ذلك. (3) مضى تخريجه، وهو صحيح، لا كما قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-. وذكرنا هناك أن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للإمام بعده، من حيث التصرف به، فينفقه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفقه في مصالح المسلمين، ولا يدخل فيه سهم ذوي القربى. (4) كتب الناسخ في هامش نسخته: «في الأصل: ورأما» . (5) وقد مضى ذكر من ذهب إلى هذا القول في قسم سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، وأن مذهب المالكية أن ذلك إلى الإمام، يصرفه إلى المصالح، ويعطي القرابة بحسب اجتهاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وسهمُ ذي القربى على الأصناف الثلاثة الباقين، فيُقسم الخمس على ثلاثة، وهو بعيدٌ لا دليل عليه (1) .   (1) قال أبو بكر بن المنذر في «الأوسط» (11/103-104) : «أعلى ما يحتج به أصحاب الرأي، في دفعهم ما قد ثبت بكتاب الله، وسنة رسوله: دعوى ادعوها على أبي بكر، وعمر، وعثمان: أنهم قسموا الخمس على ثلاثة أسهم، وهذا لا يثبت عنهم، وغير جائز أن يتوهم على مثلهم أنهم خالفوا كتاب الله وسنة رسوله، وقد بلغني أنهم احتجوا في ذلك بشيء: رواه محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. ومحمد بن مروان عندهم ضعيف، والكلبي، قال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال الكلبي: قال لي أبو صالح: كل شيء حدثتك فهو كذب. وقال معتمر بن سليمان: بالكوفة كذّابان: السدي، والكلبي، ولا يجوز أن يثبت على الخلفاء الراشدين المهديين بقول كذاب، أو كذابين: أنهم خالفوا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو روى عنهم من يصدق في الحديث ما ذكروه، لم يجز ترك ما ثبت بكتاب الله وسنة رسوله، بقول أحد من الخلق، فكيف وذلك بحمد الله غير ثابت عنهم، وكل ما رويناه عنهم في هذا الباب أخبارٌ: منقطعةٌ غير ثابتة، وليس تقوم الحجج بشيء منها، وقد ذكرت تلك الأخبار في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب، وقد ذكر الشافعي كلاماً طويلاً جرى بينه وبين بعض الناس في هذا الباب، وقد أثبتُّ ذلك الكلام في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب» اهـ كلامه -رحمه الله-. قلت: ورد في كتاب «الهداية» (2/440) : «ولَنَا أن الخلفاء الأربعة الراشدين -رضي الله عنهم- قسموه [أي: الخمس] على ثلاثة أسهم على نحو ما قلناه، [أي: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل] وكفى بهم قدوة» . اهـ. وقال الزيلعي في «نصب الراية» (3/ 424) في تخريجه: «روى أبو سفيان عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن الخمس الذي كان يقسم على عهده -عليه السلام- على خمسة أسهم: لله والرسول سهم، ولذي القربى واليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، ثم قسم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل» اهـ. ومحمد بن مروان السدي: تركوه، واتهمه بعضهم بالكذب، وهو صاحب الكلبي. انظر: «ميزان الاعتدال» (4/32-33 رقم 8154) ، و «تهذيب الكمال» (26/392-393 رقم 5597) . والكلبي: هومحمد بن السائب الكلبي، قال الجوزجاني، وغيره: كذاب، انظر: «ميزان الاعتدال» (3/556-559 رقم 7574) ، و «تهذيب الكمال» (25/246-253 رقم 5234) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 * مسألة: اختلف المُثبتون لسهم ذي القربى في قَسمه فيهم على الذكر والأنثى؛ فقال الشافعي (1) : يُعطى الرجل سهمين، والمرأة سهماً، وخالفه في التفضيل بين الذكر والأنثى أصحابه: أبو ثورٍ، والمزني، وغيرهما (2) ، فقالوا: الذكر والأنثى في ذلك   (1) انظر: «الأم» (4/154) ، «روضة الطالبين» (6/356) ، «الحاوي الكبير» (10/490- 491) ، «المهذب» (2/248) ، «المجموع» (21/254) ، «حلية العلماء» (7/688) . وهو مذهب الحنابلة، انظر: «المغني» (9/294- ط. هجر) ، «الإنصاف» (4/167) ، «المقنع» لابن قدامة (1/504- مع حاشيته) ، «المقنع» لابن البنا (2/864) ، «الواضح» (2/7، 8، 9) ، «شرح الزركشي» (6/2788، 2793، 2796، 2801، 2803) ، «مسائل أحمد» (2/277-278، 3/122- رواية صالح، 2/52- رواية ابن هانئ، 2/820-821- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/784) . وقالوا: لأنه مستحقٌّ بالقرابة شرعاً، فوجب تفضيل الذكر فيه على الأنثى، كميراث الإخوة والأخوات، ولا يلزم عليهم سهم اليتامى؛ لأنه غير مستحق بالقرابة، ولا يلزم عليه إذا أوصى لقرابة فلان بثلثه أنها سواء؛ لأن ذلك استحقاق بغير الشرع، وإنما هو بالرحم. (2) انظر: «مختصر المزني» (150) ، «المهذب» (2/248) ، «المجموع» (21/254) ، «المغني» (9/294- ط. هجر) ، «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى (121) ، «عيون المجالس» (2/ 747) ، «حلية العلماء» (7/688) ، «أضواء البيان» (2/364) ، «الفيء والغنيمة» (ص 91) . وقالا -أي: المزني وأبو ثور-: يسوى بين الذكور والإناث، كالوصايا للقرابة، يسوى فيها بين الذكور والإناث. ونقله -أيضاً- عنهما: الماوردي في «الحاوي الكبير» (10/489) ، وردَّه بقوله: «وهذا خطأ؛ لأن اعتبار سهمهم بالميراث أولى من اعتباره بالوصايا، من وجهين: أحدهما: أن الميراث، وسهم ذي القربى، عطيتان من الله -تعالى-، والوصايا عطية من آدمي، تقف على خياره. والثاني: أن ذي القربى نصرة، هي بالذكور أخصُّ، فجاز أن يكونوا بها أفضل، وليس كذلك في الوصايا. ثم لاحظَّ لأولاد الإناث فيه. إذا لم يكن آباؤهم من ذوي القربى؛ لأنهم يرجعون في النسب إلى الآباء الذين ليسوا من ذوي القربى» . ونقل مذهب الشافعي، ومذهب المزني، وأبي ثور: ابن قدامة في «المغني» (9/294- ط. هجر) ، وابن المنذر في «الأوسط» (11/105) ، ورجح مذهب المزني، وأبي ثور. فقال: وكذلك كل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 سواء؛ لأنهم أُعطوا باسم القرابة، فهو يدخل في ذلك الأب مع ابنه والجد، فليس ذلك من باب المواريث في شيء. وكذلك اختلفوا في إعطاء الغَنيِّ منهم، فكان الشافعيُّ يقول: لا يُفضَّل مُقترٌ على غنيٍّ؛ لأنهم أُعطوا باسم القرابة، وبه قال أبو ثورٍ، وغيره (1) . ورُوي عن   = شيء صُيّر لقوم فهم فيه سواء، وقال: ... لأنه إذا جاز أن يسوى بين الذكر والأنثى، لأنهم أعطوا باسم المسكنة، فذلك جاز أن يسوى بين ذكران القرابة وإناثهم؛ لأنهم أعطوا باسم القرابة. وهو الذي رجَّحه المصنف، وهو الصواب، والله الموفق وإليه المآب. وخالف أبو حنيفة ومالك في ذلك، فالأصل عند أبي حنيفة أن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسهم ذوي القربى سَقطا بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترد سهمانهما على باقي المذكورين في آية الخمس، أما في حياته - صلى الله عليه وسلم -، فيعطى فقراء القرابة دون أغنيائهم، وقال بعضهم: إلى الفقراء والأغنياء. وانظر: «تحفة الفقهاء» (2/303) ، «حاشية ابن عابدين» (3/327) . وأما الأصل عند مالك، أن ذلك موكول إلى الإمام، يصرفه إلى القرابة، وإلى غيرهم بالاجتهاد، ولا يَخُصَّ المذكورين بالآية، فيعطي حسب المصلحة العامة. وقد تقدم شيء من التفصيل في هذه المسألة. (1) انظر: «الأم» (4/154) ، «المجموع» (21/258) ، «حلية العلماء» (7/688) ، «الأوسط» (11/105) . وهو مذهب الحنابلة -أيضاً-، انظر: «المقنع» (1/504) لابن قدامة، «المغني» (9/295- ط. هجر) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/873) . قلت: وقد ردَّ ابن بطال، كما في «فتح الباري» (6/246) ؛ مذهب الشافعي في قسم الخمس بين ذوي القربى، ولا يفضل غني على فقير، وأنه يقسم بينهم للذكر مثل حظِّ الأنثيين، وقد ردَّ عليه الحافظ بقوله: «قلت: ولا حجة فيه لما ذكر، لا إثباتاً، ولا نفياً، أما الأول: فليس في الحديث إلا أنه قسم الخمس بين بني هاشم والمطلب، ولم يتعرض لتفضيل ولا عدمه، وإذا لم يتعرض فالأصل في القسمة إذا أُطلِقت: التسوية والتعميم، فالحديث إذاً حجة للشافعي لا عليه. ويمكن التوصل إلى التعميم بأن يأمر الإمام نائبه في كل إقليم بضبط من فيه، ويجوز النقل من مكان إلى مكان للحاجة، وقيل: لا، بل يختص كل ناحية بمن فيها. وأما الثاني: فليس فيه تعرض لكيفية القسم، لكن ظاهره التسوية، وبها قال المزني وطائفة، فيحتاج من جعل سبيله سبيل الميراث إلى دليل، والله أعلم. وذهب الأكثر إلى تعميم ذوي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 مكحول أنه قال: الخمس بمنزلة الفيء، يُعطى منه الفقير والغني (1) . وقال بعض أصحاب الشافعي (2) : لا حظَّ فيه لغنيٍّ.   = القربى في قسمة سهمهم عليهم، بخلاف اليتامى، فيخص الفقراء منهم عند الشافعي، وأحمد، وعن مالك: يعمهم في الإعطاء، وعن أبي حنيفة: يخص الفقراء من الصنفين، وحجة الشافعي: أنهم لما مُنِعُوا الزكاة، عُمُّوا بالسهم، ولأنهم أعطوا بجهة القرابة إكراماً لهم، بخلاف اليتامى؛ فإنهم أُعطوا لسدّ الخُلَّة» . (1) رواه أبو عبيد في «الأموال» (402 رقم 817) ؛ من طريق محمد بن راشد، عنه. ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/106) . وانظر: «أحكام القرآن» للجصاص (3/64) ، «الفيء والغنيمة» (ص 93) . (2) وهم العراقيون من أصحاب الشافعي -رحمه الله- نقل ذلك ابن المنذر في «الأوسط» (11/106) ، ونص عبارته: «وقال بعض أصحابه من أهل العراق: الفيء لمن سَمَّى الله في كتابه لرسوله، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، ولم يجعل فيه حظاً لغني لقوله: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر: 7] ، ولقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله: {الصَّادِقُونَ} الآية [الحشر: 8] ، فكان بنو هاشم، وبنو المطلب قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذين نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جعل لهم هذا الفيء الذي خصهم به مطعماً، ومنعهم الصدقة التي هي أوساخ الناس، فجعل لهم الفيء الذي رضيه لنبيه وأكرمه به، ومنعه الصدقة التي هي ذلة ومسكنة، يضرع لها السائل، ويعلو بها المعطي» . قال: «وقال الشافعي: سهم ذي القربى: الغني منهم والفقير، ولم يزعم ذلك إلى الأصناف الباقية من اليتامى، وابن السبيل، فزعم أبو عبد الله أن القرآن على ظاهره يحكم لقربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لغنيهم، ولفقيرهم بخمس الخمس، وقال: ولهم بظاهر الآية، ثم قال: ليس لليتامى، ولا لابن السبيل فيها حق، إلا أن يكونوا فقراء مساكين، فنقض أصله، وترك مذهبه» . ثم قال ابن المنذر: «وهذا غير لازم للشافعي؛ لأن الشافعي حكم لذي القربى، لغنيهم، وفقيرهم، بظاهر الآية. وبأن العباس بن عبد المطلب أعطي منه وهو كثير المال، ومنع عثمان، وجبير، حيث طلبا أن يعطيا من الخمس، ليس من جهة غناهما، إذ لو كان منعهما من جهة غناهما لأشبه أن يقول: لا يحل لكما ذلك لأنكما غنيان، إذ لا حظ فيها لغني، كما قال للرجلين اللذين سألاه الصدقة، ولو اختلف أهل العلم في اليتيم الغني، وابن السبيل الغني، لأجاب فيما يعطي كل واحد منهما بما أجاب به في سهم ذي القربى، ولكن الإجماع لما منع من إعطاء اليتيم الغني، وابن السبيل الغني، منع أن يعطيان لمنع الإجماع منه. ولم يمنع الإجماع من إعطاء أغنياء القرابة، فمنعهم لعلة الإجماع، ولكنه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وقول الشافعي هنا أظهر، فإن الله -تعالى- لم يَخُصَّ بذلك فقيراً من غنيٍّ، إنما خصَّ القرابة، وقول من خالف الشافعيَّ في التفضيل بين الذكر والأنثى أظهر؛ لأنه لم يأت فيه نصٌّ، وليس ميراثاً، والله أعلم. *****   = لما اختلف في الغني من القرابة؛ رد أمره إلى ظاهر الكتاب، ومنع اليتيم الغني، وابن السبيل الغني؛ لأن الإجماع منع أن يعطيا إذا كانا غنيين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الباب التاسع في الجزية، وشرط قبولها، وممن يحق أن تقبل من أصناف الكفر، ومقاديرها، وما لأهلها وعليهم قال الله -عز وجل-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وقال -تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . فأمر الله -تعالى- بقتال المشركين وقتلهم بكل سبيل، وحَصْرهم والتضييق عليهم، ولم يجعل لذلك غايةً إلا أن يُسلموا، وجعل في أهل الكتاب حدّاً آخر إن كانوا لم يسلموا: وهو إعطاء الجزية. وفي كتاب مسلم (1) عن بريدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصَّته بتقوى الله، ومن معه من المسليمن خيراً، ثم قال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولاتغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقلتوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم، إلى ثلاث خصال -أو: خلال-، فأيَّتُهُنَّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم ... » الحديث. فذكر فيه: الإسلام، ثم الهجرة، ثم قال: «فإن هم أبوا فسَلْهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم، فإن هم أَبوا، فاستعن بالله وقاتهلم ... »   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب تأمير الإمام الأمراء علىالبعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها) (رقم 1730) . وقد مضى، كما قال المصنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 إلى آخر الحديث، وقد تقدم بكماله في باب: (الدعوة قبل القتال) . فثبت أن الواجب على ذلك في قتال الكفار أنّ من بذل منهم الجزية -إمّا عموماً في أصناف الكفر، أو خصوصاً في أهل الكتاب، على الخلاف بين أهل العلم الذي نذكره إن شاء الله تعالى- فإنه يحرم بذلك قتالهم، ويجب الكفُّ عنهم والقبول منهم؛ بما ثبت من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأنها إحدى الغايتين اللتين ورَدَ في القرآن الانتهاء إليهما (1) . والنظر في هذا الباب يتعلق بأربعة أشياء: الأول: مَن تُقبل منهم الجزية؟ وهل ذلك عام في أصناف الكفر من أهل الكتاب وعبدة الأوثان، ومن لا يدين بشيء أصلاً، أو هو خاص بأهل الكتاب؟. الثاني: في المقدار المأخوذ منهم في ذلك، وعلى من يفرض فيهم. الثالث: في حكم من أَسلم منهم بعد الجزية أو مات. الرابع: في شروط الجزية، وحقوقها الواجبة لهم وعليهم. فصلٌ: في معرفة من تقبل منهم الجزية من أصناف الكفار اختلف العلماء فيمن تقبل الجزية منهم على ثلاثة أقوال: قول: إنها تقبل من جميع الكفار، سواء في ذلك أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان، وكل جاحدٍ مكذبٍ بالربوبية، لا يدين بشيءٍ أصلاً، وسواءٌ في ذلك العرب والعَجمُ، وكلُّ من دان بغير الإسلام من كافة الأمم، وإليه ذهب مالكٌ وجمهور أصحابه، والأوزاعي وغيرهم (2) .   (1) انظر: «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (3/1453- وما بعدها) . (2) كسعيد بن عبد العزيز -رحمه الله-. انظر: «المدونة» (1/529- ط. دار الكتب العلمية) ، «التفريع» (1/363) ، «عقد الجواهر» (1/486) ، «جامع الأمهات» (248) ، «الكافي» (1/479) ، «النوادر والزيادات» (3/43) ، «الذخيرة» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 قال ابن الجهم (1) : إلا ما أُجمع عليه من كفار قريش، فلا يجوز أن يجري عليهم ذل ولا صغار، وهو إما الإسلام أو السيف، ولا يرخص لهم في المقام على كفرهم بأداء الجزية. وقال غيره في توجيه ذلك: إن قريشاً أسلمت كلها يوم الفتح، فإذا وُجِد كافر منهم كان مُرتدّاً، والمرتد لا تؤخذ منه الجزية؛ لأنه لا يُقرُّ على كفره. وقول ثان: إن الجزية لا تقبل إلا من اليهود والنصارى، عرباً كانوا أو عجماً، والمجوس كذلك -أيضاً- فقط، وإليه ذهب الشافعي، وأبو ثور، وأحمد، وداود، وجماعة من أهل العلم سواهم (2) ، وبنحوه يقول عبد الله بن وهب من أصحاب   = (3/451) ، «الاستذكار» (9/293، 294) ، «قوانين الأحكام الفقهية» (ص 175) ، «الشرح الكبير» (2/201- مع «حاشية الدسوقي» ) ، «فتح الجليل» (3/213- 214) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/39) ، «تفسير القرطبي» (8/110) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (200) . وانظر: «عمدة القاري» (15/73) ، «فتح الباري» (6/259) ، «المغني» (10/571-573) ، «نيل الأوطار» (7/245) ، «السيل الجرار» (4/570- 571) ، «سبل السلام» (4/47) ، «تحفة الأحوذي» (2/393) ، «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (3/1464) ، «آثار الحرب» (701-702) للدكتور وهبة الزحيلي. وقد نصر مذهب مالك: الإمام ابن القيم، كما في «زاد المعاد» له (5/91- 92) . وقال في «أحكام أهل الذمة» (1/109) : «وسرُّ المسألة أن الجزية من باب العقوبات، لا أنها كرامة لأهل الكتاب، فلا يستحقها سواهم!» . (1) نقل كلامه ابن شاس في «عقد الجواهر» (1/486) ، والقرافي في «الذخيرة» (3/451) . وحكى ابن القاسم عن مالك أنها لاتقبل من قريش. حكاه الحافظ في «الفتح» (6/259) . (2) المشهور في كتب الشافعية أخذها من المجوس، وعبارة «الأم» فيها ما يدل على خلاف ذلك، وما عند المصنف ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (2/118) ، إلا أن عنده «أبو حنيفة» بدل «الشافعي» . وقال ابن كثير في كتابه: «المسائل الفقهية التي انفرد بها الإمام الشافعي ... » (ص 193) : «وله قول في المجوس أنهم أهل كتاب، والقول الآخر: أن لهم شبهة كتاب، كقول الثلاثة» . وانظر في مذهب الشافعية: «الأم» (4/184) ، «مختصر المزني» (276-277) ، «الحاوي الكبير» (18/328) ، «البيان» للعمراني (12/250) ، «شرح صحيح مسلم» (7/313) ، «المهذب» (2/251) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 مالك (1) ، وروي مثله عن ابن حبيب. وقول ثالث: إن الجزية تقبل من كل كافر من العجم، ولا تقبل من العرب، إلا من كتابِّي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه (2) ، وحكي ذلك عن أبي   = «المجموع» (21/290) ، «الإقناع» للماوردي (ص 179) ، «الإقناع» لابن المنذر (2/470) ، «الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع» (2/262- ط. دار الفكر) ، «حاشية البجيرمي على الإقناع» (4/249-250) ، «روضة الطالبين» (10/304-305) ، «حلية العلماء» (7/695) ، «مغني المحتاج» (4/243) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/31-ط. دار هجر) ، «الإنصاف» (4/217) ، «المبدع» (3/404) ، «المقنع» لابن البنا (3/1191) ، «شرح الزركشي» (6/567) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/785) . وانظر في مذهب أبي ثور، وداود، وغيرهم: «التمهيد» (2/118) ، «الاستذكار» (9/294 المسألة رقم 13368) ، «تفسير ابن كثير» (4/91- ط. المكتبة التوفيقية) ، «فتح الباري» (6/259) ، «اختلاف الفقهاء» للطبري (203- تحقيق يوسف شخت) ، «بداية المجتهد» (2/476) ، «المحلَّى» (7/ 345) ، «فقه الإمام أبي ثور» (794) . وحكى ابن التين عن عبد الملك بن حبيب أنها لاتقبل إلا من اليهود والنصارى فقط. كما في «الفتح» (6/259) . وفي «مختصر اختلاف العلماء» للطحاوي - اختصار الجصاص (3/486) - قال: «وذكر الشافعي عن أبي يوسف أنه قال: لاتؤخذ الجزية من العرب» . قال: «وهذا شيء لم يذكره عن أبي يوسف غير الشافعي» . وانظر: «مختصر المزني» (ص 227) . وذكر العكبري في «رؤوس المسائل» -أيضاً- رواية ثانية عن أحمد: أنها تؤخذ من عبدة الأوثان من العجم دون العرب. وانظر كتاب: «الروايتين والوجهين» للقاضي أبي يعلى (2/380) . (1) فهو يستثني منهم مجوس العرب، نقل ذلك عنه ابن شاس في «عقد الجواهر» (1/486) ، وعنه القرافي في «الذخيرة» (3/451) . ومذهبه أقرب إلى مذهب أبي حنيفة، وهو القول الثالث الذي سيذكره المصنف -رحمه الله-. وانظر: «التمهيد» (2/118) ، «الاستذكار» (9/294) -ونقل المصنف مذاهب العلماء كعادته منه-، كلاهما لابن عبد البر. (2) انظر: «الهداية» (2/453) ، «اللباب» (4/144) ، «تحفة الفقهاء» (3/307) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/484 رقم 1653) ، «بدائع الصنائع» (7/110-111) ، «إعلاء السنن» (12/ 436- 437) ، «البناية» (5/820) ، «فتح القدير» (6/48) ، «حاشية ابن عابدين» (3/414) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 عبيد (1) ، ومثله عن بعض أصحاب مذهب مالك (2) . فأمّا حجة من قَصَر ذلك على اليهود والنصارى والمجوس: فالكتاب والسنة. أما الكتاب: فإنه لم يؤذن في آية الجزية إلا في أهل الكتاب فقط، وهم اليهود والنصارى باتفاق. والمجوس، قيل: إنهم أهل كتاب (3) ،   = وانظر: «فتح الباري» (6/259) . وذكر ابن حزم في «المحلَّى» (7/345 المسألة رقم 958) ، مذهب أبي حنيفة هذا، وعزاه له وللإمام مالك -رحمهما الله-، وقد عرفت أن في مذهب أبي حنيفة فقط التفريق بين العرب والعجم. وردَّه -رحمه الله- وهوالأرجح؛ لأن الله -تعالى- لم يخصَّ عربياً من عجميّ في كلا الحكمين: الإسلام أو الجزية. وانظر: «مجموع الفتاوى» (19/21-22) . (1) في كتابه «الأموال» (ص 39) ، ونقله عنه -مختصراً- الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/ 260) ، قال أبو عبيد: «فعلى هذا تتابعت الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء بعده في العرب من أهل الشرك: أن من كان منهم ليس من أهل الكتاب، فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل، كما قال الحسن. وأما العجم فتقبل منهم الجزية، وإن لم يكونوا أهل كتاب؛ للسنة التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجوس، وليسوا بأهل كتاب، وقبلت بعده من الصابئين، فَأَمْرُ المسلمين على هذين الحكمين من العرب والعجم، وبذلك جاء التأويل -أيضاً- مع السنة» . انتهى كلامه رحمه الله. وقول الحسن الذي أشار إليه أبو عبيد، رواه قبل كلامه هذا بقليل. فقد أخرج برقم (62) بسنده إلى الحسن قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل العرب على الإسلام، ولا يقبل منهم غيره، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. ثم قال أبو عبيد: وإنما نرى الحسن أراد بالعرب ههنا أهل الأوثان منهم، الذين ليسوا بأهل كتاب، فأمَّا من كان من أهل الكتاب فقد قبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، وذلك بيِّنٌ في أحاديث، ثم ذكر جملةً منها. (2) لعله ابن وهب كما أشرنا إليه آنفاً، بل صرَّح بذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (2/123) . وانظر: «النوادر والزيادات» (3/44) . (3) وإليه ذهب ابن حزم في «المحلى» (7/316) ، والشافعي في قول، كما في «المهذب» (2/250) ، و «المسائل الفقهية التي انفرد بها الشافعي» لابن كثير (ص 193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وقيل: ليسوا أهل كتاب (1) ، وكلا المذهبين يَنتزعُ الدّلالةَ على ما صار إليه من حديث عبد الرحمن بن عوفٍ في المجوس، قال: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب» ، خرَّجه مالك في «الموطأ» (2) .   (1) وهو قول جمهور العلماء، والشافعي في قول آخر، وهو أن لهم شبهة كتاب. (2) أخرجه في «الموطأ» (129 رقم 304- ط. دار إحياء التراث) عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم! فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب» . قال عنه ابن عبد البر -كما في «تنوير الحوالك» للسيوطي (1/207) -: منقطع، لأنَّ محمد بن علي لم يَلْقَ عمر، ولا عبد الرحمن بن عوف. وكلامه هذا في «التمهيد» (2/114) ، وفي «الاستذكار» (9/292) . ونقل العلائي في «جامع التحصيل» (267 رقم 700) عن الذهبي، أن محمد بن علي أرسل عن عمر. وتعقبه ولي الدين أبو زرعة العراقي في «تحفة التحصيل» (282) ، أن هذا قصور من العلائي حيث نقل ذلك عن الذهبي، ولم يراجع في هذا الموضع كتاب ابن أبي حاتم، وهو الأم في هذا الباب. قلت: هو في كتاب ابن أبي حاتم: «المراسيل» (185 رقم 674) قال: قال أبوزرعة -أي: الرازي-: «محمد بن علي بن الحسين، عن عمر: مرسل» . وانظر: «الثقات» لابن حبان (5/348) ، «تاريخ بغداد» (3/54) ، «سير أعلام النبلاء» (4/ 401) ، «تهذيب الكمال» (26/137) . وعن مالك أخرجه: الشافعي في «المسند» (2/430- ترتيبه) ، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (9/189- 190) ، والجوهري في «مسند الموطأ» (313) . وأخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (6/68 رقم 10025 و10/325 رقم 19253) ، وابن أبي شيبة (2/435 رقم 10765 [عن المجوس] و6/430 رقم 32650، 32651) ، وأبو عبيد في «الأموال» (رقم 78) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/291) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (54/ 269) ، من طرق عن جعفر بن محمد، به. وقال الحافظ في «الفتح» (6/261) : «وهذا منقطع مع ثقة رجاله» . وأخرجه ابن عبد البر في في «التمهيد» (2/115) ، من طريق أبي علي الحنفي، عن مالك، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، فذكره -وفي بعض طرقه: قال مالك: في الجزية، أي: سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية-، فزاد في إسناده: عن جدّه. وقال ابن عبد البر: «قال أبو الحسن علي بن عمر [أي: الدارقطني] : لم يقل في هذا الإسناد: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 فقال الذين نَفوْا: لو كانوا أهل كتاب لصرَّح بكتابهم، ولم يقل: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب. وقال الذين أثبتوا: بل أَمْرهُ - صلى الله عليه وسلم - في المجوس خاصَّةً دون سائر أهل الكفر أن يُحملوا على سنَّة أهل الكتاب دليلٌ ظاهرٌ أنهم أهل كتاب، ولمّا لم يكن أمرهم في ذلك مستفيضاً كاستفاضة أمر اليهود والنصارى أنهم أهل كتاب، عرَّفه بالإضافة إليهم. وبالجملة، فعلى كلا القولين لم يختلف فيهم أحدٌ من أهل العلم: أنهم ممن تُقْبَلُ منهم الجزية (1) كاليهود والنَّصارى، إمَّا بالسُنَّة إن لم يكونوا أهل كتاب، أو   = (عن جده) مِمَّن حدث به عن مالك غير أبي علي الحنفي، وكان ثقة، وهو في «الموطأ» : جعفر عن أبيه، أن عمر» . ثم قال ابن عبد البر: «وهو مع هذا كله منقطع، ولكن معناه متصل من وجوه حسان» . وانظر: «الاستذكار» (9/291- 292) . قلت: وأبو علي الحنفي هو: عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، أبو علي البصري، قال الحافظ في «التقريب» (4317) : «صدوق» . وقد ضعفه شيخنا الألباني -رحمه الله-. انظر: «إرواء الغليل» (1248، 2253) ، «غاية المرام» (43) . ويغني عنه حديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر. رواه البخاري. ورواه ابن المنذر، والدارقطني في «الغرائب» -كما في «الفتح» (6/261) - من طريق أبي علي الحنفي به. وقال الحافظ: «فإن كان الضمير في قوله: «عن جده» يعود على محمد بن علي، فيكون متصلاً؛ لأن جده الحسين بن علي سمع من عمر بن الخطاب، ومن عبد الرحمن بن عوف» . وأخرج الطبراني في «الكبير» (19/437 رقم 1059) ، من حديث مسلم بن العلاء بن الحضرمي قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما عهد إلى العلاء حيث وجهه إلى البحرين، قال: «ولا يحل لأحدٍ جهل الفرض والسنن، ويحل له ما سوى ذلك» ، وكتب للعلاء: «أن سُنُّوا بالمجوس سنة أهل الكتاب» . وعزاه الحافظ في «الإصابة» إلى ابن منده، وأبي سليمان بن زَبر. قلت: مدار هذا الحديث على رجل يُدْعى: عمر بن إبراهيم. قال الحافظ في «الإصابة» (3/ 416) : «هو ساقط» . (1) جل الكلام السابق نقله المصنف -رحمه الله- بتصرف، من ابن عبد البر في كتابه: «الاستذكار» (9/297) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 بالقرآن والسنة إن كانوا أهل كتاب، ووردت في ذلك آثار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر (1) ، ومن مجوس البحرين (2) ، وفعله الخلفاء الأربعة بعده (3) .   (1) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الجزية والموادعة (باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب) (رقم 3156، 3157) بسنده إلى عمرو بن دينار، قال: كنت جالساً مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس، فحدثهما بجالة -سنة سبعين-، عام حجَّ مصعب بن الزبير بأهل البصرة -عند درج زمزم- قال: كنت كاتباً لجزء بن معاوية -عم الأحنف- فأتانا كتاب عمر بن الخطاب -قبل موته بسنة-: فرقوا بين كلِّ ذي مَحْرمٍ من المجوس، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هَجَر. (2) أخرجه البخاري (رقم 3158، 4015، 6425) ، ومسلم (2961) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري، وذكر فيه بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة إلى البحرين يأتيه بجزيتها. والبحرين: البلد المشهور بالعراق، وهي بين البصرة وهَجَر. قال الحافظ في «الفتح» (6/262) : وكان غالب أهلها إذ ذاك المجوس. وترجم عليه النسائي: «أخذ الجزية من المجوس» . وذكر ابن سعد -فيما ذكره الحافظ في «الفتح» (6/262) -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قسمة الغنائم بالجعرانة، أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوى عامل البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية. (3) انظر: «الاستذكار» (9/293) ، لابن عبد البر. وقال في «التمهيد» (2/117) مُفصِّلاً في أخذ الخلفاء الأربعة الجزية من المجوس: «وفعله بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. روى الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس السواد، وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر. هكذا رواه ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب. وأما مالك ومعمر فإنهما جعلاه عن ابن شهاب، ولم يذكرا سعيداً. ورواه ابن مهدي عن مالك، عن الزهري، عن السائب بن يزيد. وقد ذكرناه في مراسيل ابن شهاب» . قلت: رواية ابن وهب عن يونس بن يزيد، أخرجها البيهقي في «الكبرى» (9/190) ، من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، به. ورواية مالك في «الموطأ» (ص 192- ط. دار إحياء التراث) ، وعنه الشافعي في «الأم» (4/ 183-184) ، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (9/190) . وقال: «وابن شهاب إنما أخذ حديثه هذا عن ابن المسيب، وابن المسيب حسن المرسل» ا. هـ. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وخرَّج الترمذي (1) ، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر. قال فيه: حسن صحيح. وفي «الموطأ» (2) عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس البحرين. وإنما اختلف أهل العلم في أكل ذبائح المجوس وتزوج بناتهم؛ فمن قال: إنهم ليسوا أهل كتاب، وإنما قُبِلت الجزية منهم بالإذن المُعَيَّنُ في ذلك، على أن غير الجزية باقٍ على التحريم، لم يتناوله الإذن بحال، فمنعَ من مناكحهم وأكل ذبائحهم. ومن قال: إنهم أهل كتابٍ حقيقةً، لزمه -لا محالة- القولُ بجواز ذلك، وبه قال أهل الظاهر (3) ، وروي نحوه عن سعيد بن المسيّب، أنه لم ير بذبائح المجوس   = ورواية معمر، أخرجها عنه عبد الرزاق في «المصنف» (6/69 رقم 10026) . ورواية ابن مهدي، عن مالك عنده في «الموطأ» (ص 193- رواية يحيى الليثي) ، من طريق السائب بن يزيد أنه قال: كنت غلاماً عاملاً مع عبد الله بن عتبة بن مسعود على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطاب، فكنَّا نأخذ من النَّبط العُشْرَ. (1) في «جامعه» في أبواب السّير (باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس) (رقم 1587) . وقد مضى الحديث، وأصله في البخاري. (2) «الموطأ» (192- ط. دار إحياء التراث) ، وتتمته: وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس فارس، وأن عثمان بن عفّان أخذها من البَرْبَر. (3) كداود الظاهري وأبي ثور فيما نقله عنهما غير واحدٍ من أهل العلم، وكابن حزم في «المحلَّى» (7/454 المسألة رقم 1058) . وانظر: «المغني» (13/269) ، «حلية العلماء» (6/387) ، «تفسير ابن كثير» (3/37) ، «البحر الزخّار» للمرتضي (4/41) ، «فتح الباري» (6/259) ، «نيل الأوطار» (9/310) ، «فقه الإمام أبي ثور» (468-469) ، وما ذهبوا إليه هو مذهب سعيد بن المسيب -في قول، وهو الذي ذكره عنه المصنف-، وقتادة، وعطاء، ومجاهد، وطاوس، وعمرو بن دينار، والمروزي، وهو مخالف لما ذهب إليه جمهور العلماء: الأئمة الأربعة. وحكى ابن التين -فيما ذكره عنه الحافظ في «الفتح» (6/259) - الاتفاق على أنه لا يحل نكاح نسائهم، ولا أكل ذبائحهم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 بأساً (1) ، وأَبَى الشافعيُّ وجمهور أهل العلم (2) ، مِمَّن صار إلى أنهم أهل كتاب، أو   = وعدَّ ابن قدامة في «المغني» مذهب أبي ثور أنه شاذ وخلاف إجماع من تقدمه، وتعقبه الحافظ ابن حجر بذكر مذهب سعيد، كما سيذكره المصنف بعد قليل. واحتج ابن حزم لما ذهب إليه: أنهم أهل كتاب -كما مضى ذكر ذلك عنه- بأثر سعيد، فحكمهم كحكم أهل الكتاب في كل ذلك. وقال: لم يفسح الله -تعالى- في أخذ الجزية من غير كتابي، وأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - من المجوس، وما كان ليخالف أمر ربه -تعالى-. وردَّ قول من استدل بقول الله: {أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156] ، بأن هذا بنصِّ الآية نهيٌ عن هذا القول لا تصحيحاً له، وقد قال -تعالى-: {وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] ، والله أعلم. وقال ابن حجر في «الفتح» (9/417) : «ذهب الجمهور إلى تحريم النساء المجوسيات، وجاء عن حذيفة أنه تسرّى بمجوسية، أخرجه ابن أبي شيبة، وأورده -أيضاً- عن سعيد بن المسيب وطائفة، وبه قال أبو ثور» . قلت: وقوله: «وطائفة» تحريف عن «طاوس» ؛ فلتصحح. واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى الكبرى» (3/95) جواز وطء المجوسيات بملك اليمين، وهذا مذهب المنقول عنهم الجواز آنفاً، قال القرطبي في «تفسيره» (5/140) : «وقد روي عن طاوس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم قالوا: لا بأس بنكاح الأمة المجوسية بملك اليمين» . قال: «وهو قول شاذ مهجور، ولم يلتفت إليه أحدٌ من فقهاء الأمصار، وقالوا: لا يحل أن يطأها حتى تسلم» . وانظر: «الجامع للاختيارات الفقهية» (2/579-581) . (1) رواه ابن حزم في «المحلَّى» (7/456) ، بإسناده إلى سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب. وذكره عنه ابن عبد البر في «الاستذكار» (9/292) ، وقال: «والناس على خلافه» ، وانظر الهامش السابق. (2) انظر في فقه الحنفية: «مختصر الطحاوي» (297) ، «الهداية» (4/393) ، «اللباب» (3/223) ، «الاختيار» (5/13) ، «البناية» (9/12) ، «فتح القدير» (9/488) ، «النتف في الفتاوى» (1/228) . وفي فقه المالكية: «المعونة» (2/706، 800) ، «التفريع» (1/406) ، «جامع الأمهات» (223، 268) ، «الكافي» (1/429) ، «فصول الأحكام» (230) ، «الإشراف» (3/328 رقم 1164- بتحقيقي) ، «تفسير القرطبي» (5/140) ، «الاستذكار» (9/293) ، «الرسالة» (187) ، «قوانين الأحكام» (191) ، «التلقين» (1/270) ، «الذخيرة» (3/451) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 لم يَصِرْ من ذلك، ورأوا أن إباحةَ ذبائح أهل الكتاب ونكاح نسائهم خاصّةٌ في اليهود والنصارى. وأما مستند من عمَّ أصناف الكفر في قبول الجزية، فمن طريق الإلحاق بجامع الكفر؛ قالوا: وإذا كان في الجزية صغارٌ لهم، وإِذلاَلٌ موجِبهُ الكفر، مع كونهم أهل كتاب، وهم أرجَى في القُربِ إلى الحَقِّ، فسائر أهل الكفر بذلك أولى، إلاَّ أنَّ هذا المعنى قد يُعكس عليهم. فيقال: إنما استُحيوا وقبلت منهم الجزية إبقاءً عليهم لموضع احترامهم بالكتاب، وبكونهم على بقايا شرعٍ تقدَّم، كما أجيز نكاح نسائهم وأكلُ ذبائحهم؛ بخاصَّة حرمة الكتاب، وذلك لا يشركهم فيه أهل الكفر من غيرهم (1) ، فوجب أن لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السَّيفُ بنص القرآن، وهذا على مذهب القياس أَسَدُّ وأوضح، والقول بقصر الجزية على من عيِّن في ذلك أرجح. وأما ما ذهب إليه من فرَّق في الجزية بين العرب والعجم، فأجاز في كفار العجم مطلقاً، ولم يُجز في كفار العرب، إلا أن يكونوا على دين أهل الكتاب: فشيءٌ لا أعرف له مستنداً، إلا شيئاً ذكره ابن عبد البر من طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحَ عبدَةَ الأوثان على الجزية، إلا من   = وفي فقه الشافعية: «الأم» (2/263- وما بعدها) ، «المهذب» (2/45) ، «روضة الطالبين» (7/ 494) ، «الإقناع» للماوردي (ص 184) ، «الوسيط» (7/101) ، «مغني المحتاج» (4/266) ، «البيان» للعمراني (4/526) ، «توقيف الحكام على غوامض الأحكام» للأقفسهي (ق 7/أ) . وفي فقه الحنابلة: «المغني» (13/296) ، «مغني ذوي الأفهام» ليوسف بن عبد الهادي (221) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/786) ، «الواضح» (2/292) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/623) ، «شرح الزركشي» (6/644) ، «مسائل الإمام أحمد» (1/393- رواية الكوسج، 2/141- رواية ابن هانئ، 3/867-871- رواية عبد الله) . (1) جلُّ الكلام السابق من كلام ابن عبد البر في «الاستذكار» (9/292-293) ، و «التمهيد» (2/116-117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 كان منهم من العرب (1) . قال ابن عبد البر (2) : هذا يدل على أن مذهب ابنِ شهاب أن العرب لا تؤخذ منهم الجزيةُ، إلا أن يدينوا بدين أهل الكتاب. قال (3) : «وما أعلم أحداً روى هذا الخبر المرسل عن ابن شهاب إلا معمراً» . قلت: فأمَّا إن ذهب ذاهب إلى تعليل مَنعِ إجابتهم إلى الجزية إذا كانوا من غير أهل الكتاب، مع كوْن سائر الكفار غيرهم يجاب إلى ذلك على أيِّ دين من الكفر كان، بأن ذلك منع منه العرب إكراماً لهم (4) ، ودفعاً للصغار عنهم، كما ذهب إلى ذلك بعض المُعَلِّلين، فهو ينكسر عليهم بقبول الجزية منهم إذا كانوا من أهل الكتاب. وقد اختلف العلماء في حكم من كان من العرب على دين أهل الكتاب، فلهم في نصارى بني تغلب ثلاثة أقوال: قول (5) : إنه لا يعتد بما دانوا به، وحكمهم حكم عَبَدة الأوثان من العَرب، فلا تُقبل منهم الجزية، إنما هو الإسلام أو السَّيف، وكأنَّ وجه هذا المذهبِ هو حَملُ الآية في تعيين أهل الكتاب بقبول الجزية، على أنَّ المراد به أهلُ الكتاب الذين أنزل ذلك عليهم، أو توارثوه عن آبائهم من اليهود والنَّصارى، لا مَن دخَلَ   (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنّف» (6/86 رقم 10092) ، ونقله عنه ابن عبد البر في «التمهيد» (2/123) ، و «الاستذكار» (9/300) وهو مرسل ضعيف. (2) في «التمهيد» (2/123) . (3) في «التمهيد» (2/123) ، ونحوه في «الاستذكار» (9/300) . وقال في «الاستذكار» عن الزهري: وقد جعلوه وهماً منه. (4) في المنسوخ: «منع من العرب أكثر مالهم» . وكتب فوق (من) : كذا (5) ذكر الشافعي -كما في «مختصر المزني» (ص 272) - ذلك عن أبي يوسف القاضي. وقال الجصَّاص في «مختصر اختلاف العلماء» (3/486) : «وهذا شيء لم يذكره عن أبي يوسف غير الشافعي» . وانظر: «حلية العلماء» (7/696) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 في ذلك من غيرهم بعد. وقولٌ ثانٍ (1) : إنهم كسائر أهل الكتاب في قبول الجزية وسائر الأحكام، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز (2) ، وجماعة من أهل العلم؛ قالوا: إن الجزية تؤخذ منهم (ومن أحدٍ ما) (3) تؤخذ من سائر أهل الكتاب في الشروط والصغار وسائر الأحكام، ووجه ذلك حمل الآية على عمومها فيمن دان بدين أهل الكتاب، وقال الله -تعالى-: {لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن   (1) هو قول جمهور العلماء، علىخلاف بينهم في مقدار الجزية التي تؤخذ من نصارى بني تغلب -على ما سيذكره المصنف في القول الثالث-، وهل تؤخذ من النساء والصبيان أو لا؟ فذهب مالك والشافعي -على تفصيل سيذكره المصنف فيمن كان منهم على دين أهل الكتاب قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن-، إلى أنها لا تؤخذ من نسائهم وصبيانهم، وعلى تفصيل عند الحنفية: أنها تؤخذ من المقاتلين من الرجال، العقلاء، الأحرار، الأصحَّاء، دون النساء، والصبيان، والمجانين، وقال القدوري في «مختصره» (4/153- مع «اللباب» ) : «ويؤخذ من نسائهم، ولا يؤخذ من صبيانهم» . ومذهب الحنابلة عدم الأخذ من الجميع باسم الجزية: رجالاً، ونساءً، وصبياناً، مع مضاعفة الزكاة عليهم، والمعنى واحد. والمالكية على أصلهم في عدم التفريق بين العرب وغيرهم من أهل الكتاب، وسيأتي ذكر مذهبهم. انظر في مذهب الحنفية: «تحفة الفقهاء» (3/307) ، «اللباب» (4/153) ، «الهداية» (2/457) ، «البناية» (5/845) ، «بدائع الصنائع» (7/110-111) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/484) . وفي مذهب الشافعية: «الأم» (4/182) ، «روضة الطالبين» (10/305) ، «الإقناع» للماوردي (179) ، «منهاج الطالبين» (3/287) ، «التهذيب» للبغوي (7/516) ، «البيان» للعمراني (12/257) ، «الحاوي الكبير» (18/399) ، «المجموع» (21/297) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/223) ، «المقنع» لابن البنا (3/1194) ، «شرح الزركشي» (6/580) ، «الإنصاف» (10/405) ، «كشاف القناع» (3/119) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/ 794) ، «المبدع» (3/406- 407) . وانظر: «مجموع الفتاوى» (19/19) لابن تيمية. (2) انظر: «المغني» (13/224) . وسيذكره المصنف بَعْدُ. (3) كتب الناسخ في هامش نسخته: «ما بين القوسين غير واضح في الأصل، ولعلَّ الصواب: «تؤخذ منهم كما تؤخذ ... إلخ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، فيستوي في ذلك العرب وغيرهم. قال الشافعي (1) : إنما الجزية على الأديان، لا على الأنساب، قال: فكل من دان دين أهل الكتاب، أي كتاب كان، ممن دان بذلك آباؤه، أو دان بنفسه، ولم يدن آباؤه، وخالف دين الأوثان، قبل نزول الفرقان، فهو خارج من أهل الأوثان: تقبل منه الجزية، عربياً كان أو عَجميّاً، وأمَّا من دخل عليه الإسلام، وهو لا يدين بدين أهل الكتاب: لم يقبل منه إلا الإسلام أو السَّيف، عربياً كان أو عجمياً، ولا يقر على ما أحدثه من دين أهل الكتاب بعد نزول الفرقان. وأما مالكٌ وجميع أصحابه (2) ، فكذلك يرونَ أخذ الجزية من نصارى العرب على ما تؤخذ من غيرهم، لا من حيث إنهم أهل كتاب فقط، بل ومن حيث هم كفارٌ -أيضاً-، وذلك أصل مذهبهم في تساوي أصناف الكفر في باب الجزية -كما تقدم- (3) . وقول ثالث: إنه يؤخذ منهم بدل الجزية ضِعفُ ما يؤخذ من المسلمين في الصدقات في كل نوعٍ من المال الذي تجب فيه الزكاة؛ ما يلزم المسلم فيه العشر، فعليهم عُشران، وفي نصف العُشْر عليهم عشر، وفي ربع العشر عليهم نصف العشر، وكذلك في كل شيء، حتى في الركاز عليهم خمسان. ومِمَّن ذهب إلى   (1) في «الأم» (4/182، 184) . وانظر: «أحكام أهل الذمة» (1/188- وما بعدها) . (2) انظر: «المدونة» (1/241) ، «الكافي» (1/479-480) ، «جامع الأمهات» (248) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/486) ، «التفريع» (1/363) ، «الذخيرة» (3/451) ، «النوادر والزيادات» (3/ 356) ، «المعونة» (1/449) ، «عيون المجالس» (2/751) . وهو قول الأوزاعي -رحمه الله-. انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/29) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/525) . (3) وخالف من المالكية في ذلك: ابن رشد، وابن الجهم، وقالا: لا تؤخذ الجزية من كفار قريش، وعللوا ذلك: أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار، لمكانهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر: «عقد الجواهر» (1/486) ، «الذخيرة» (3/451) ، وقد مضى الكلام عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 هذا: الشافعيُّ، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم (1) ، وجاء مثل ذلك عن عمر ابن الخطاب (2) ، ومثل هذا لا يُدرك بالاجتهاد والنَّظر، فإن لم يكن في ذلك   (1) انظر في مذهب الحنفية: «الأصل» (2/143) ، «تحفة الفقهاء» (3/308) ، «الهداية» (2/ 457) ، «البناية» (5/845) ، «اللباب» (4/152) ، «إعلاء السنن» (12/555) . وفي مذهب الشافعية: «الإقناع» للماوردي (181) ، «البيان» للعمراني (12/257) ، «المجموع» (21/297) ، «التهذيب» (7/516) ، «روضة الطالبين» (10/316) ، «الحاوي الكبير» (18/330، 335) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/224-225) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/600-601) ، «الواضح» (2/280) ، «المبدع» (3/406-407) ، «الإنصاف» (2204) ، «شرح الزركشي» (1/578، 580) ، «المقنع» لابن البنا (3/1194) -ونقل عن الشافعي أنه لا يؤخذ منهم شيء، وهذا خلاف مذهب الشافعي-، «كشاف القناع» (3/119) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/794-795) . وقال به من الصحابة: عمر بن الخطاب -كما سيأتي-، وقال به من الفقهاء بعد الصحابة: ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، والزهري. كما في «المغني» (13/224) . وانظر: «الخراج» ليحيى بن آدم (ص 65 رقم 200، 201) . وهو مذهب أبي عبيد في كتابه «الأموال» (ص 37) . وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/44) . (2) قال ابن قدامة في «المغني» (13/224) -ونحوه الزركشي في «شرح مختصر الخرقي» (6/579) -: ولم يخالفه أحد من الصحابة. وأثر عمر: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/198) -وكما في «نصب الراية» (2/363) - عن علي بن مسهر، ويحيى بن آدم في كتاب «الخراج» (رقم 206) -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (9/216) -، حدثنا أبو بكر بن عياش، وعبد الرزاق (9974) عن ابن جريج، جميعهم عن أبي إسحاق الشيباني، عن السَّفاح، عن داود بن كردوس، قال: صالَحَ عمر -رضي الله عنه- بني تغلب على أن يضاعف عليهم الصدقة، ولا يمنعوا أحداً منهم أن يسلم، ولا يغمسوا أولادهم. وعند ابن أبي شيبة: وأن لا ينصِّروا أولادهم. وأخرجه أبو يوسف في كتاب «الخراج» (ص 120) قال: حدثني بعض المشايخ، عن السفاح، عن داود بن كردوس، عن عبادة بن النعمان التغلبي، أنه قال لعمر بن الخطاب، فذكر نحوه. وأخرجه البيهقي (9/216) من طريق أبي إسحاق الشيباني، عن السفاح، بمثل الإسناد والمتن عند أبي يوسف. وكأنَّ المبهم من مشايخ أبي يوسف هو أبو إسحاق الشيباني. ونقل عن الشافعي قوله: وهكذا حفظ أهل المغازي، وساقوه أحسن من هذا السياق، وأن عمر صالحهم على مضاعفة الجزية باسم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = الصدقة، لا باسم الجزية. وأخرجه أبو عبيد في «الأموال» (رقم 70) -وعنه ابن زنجويه في «الأموال» (رقم 111) -، والبلاذري في «فتوح البلدان» (ص 186) ، عن أبي معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، به. وفيه قول داود بن كردوس: صالحتُ عمر بن الخطاب عن بني تغلب. فالمصالحة وقعت بين عمر وبين داود بن كردوس نيابة عن بني تغلب. وقال أبو عبيد: وقد كان عبد السلام بن حرب المُلائي يزيد في إسناد هذا الحديث -بلغني ذلك عنه-: عن الشيباني، عن السفاح، عن داود بن كردوس، عن عبادة بن النعمان، عن عمر. فوافق طريق أبي يوسف. وهذه الزيادة وقعت للبلاذري في «فتوح البلدان» (ص 185) من طريق أبي عوانة، عن المغيرة، عن السفاح، به، و (ص 187) ولأبي عبيد (رقم 71) ، من طريق هشيم، عن المغيرة، عن السفاح، به. وذكره الزيلعي في: «نصب الراية» (2/363) وعزاه لابن زنجويه، ولم يسق لفظه. وداود بن كردوس: مجهول. انظر: «التاريخ الكبير» (3/229) ، «الجرح والتعديل» (3/423) ، «ثقات ابن حبان» (4/216) ، «المحلَّى» (7/314) ، «ضعفاء ابن الجوزي» (1/267) ، «المغني في الضعفاء» (1/220) ، «ديوان الضعفاء والمتروكين» (128) ، «الميزان» (2/19) ، «إكمال تهذيب الكمال» (4/379) ، «تهذيب التهذيب» (4/94) ، «اللسان» (3/411) . وقال ابن حزم (7/314) : «والسفاح، وداود بن كردوس مجهولان» . والسفاح هذا، وقعت تسميته عند البلاذري وأبي عبيد بأنه ابن المثنى، ووقعت تسميته عند ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/198) -وكما في «نصب الراية» (2/363) - بأنه ابن مطر. ولم أجد من تَرْجَمَهُ سوى ابن حبان؛ فقد ذكره في «الثقات» (6/435) ، وقال: روى عنه السفاح بن مَطَر. ونقله عنه: الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (4/94) ، ولم يعلِّق عليه. وقد ورد ذكره في حديث، أخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (3/259) من طريق أبي معاوية، وابن حزم في «المحلَّى» (7/313) -من طريق ابن أبي شيبة- عن علي بن مسهر، كلاهما (علي بن مسهر، وأبو معاوية) عن أبي إسحاق الشيباني، عن السفاح، عن داود بن كردوس، أن عبادة بن النعمان بن زرعة، أسلمت امرأته التميمية، وأبَى أن يسلم، ففرَّق عمر بينهما. وفي رواية ابن حزم: أنه السفاح بن مُضر، والصواب: مطر -كما سيأتي-. وفي «المحلّى» (6/111) : ابن مطر. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه: في «الأصلين» : «السفاح بن مطرف» ، وهو خطأ، وصححناه من كتب الرجال، ومن «خراج يحيى بن آدم» (رقم 206 و207 و208) ، و «التلخيص» (ص 308) ، [أو (4/233- ط. مؤسسة قرطبة) ] . قلت: لم يذكر يحيى بن آدم في رواياته الثلاث اسم أبيه، وإنما قال: السفاح. ولم ينسبه لأحد. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 توقيف -وهو ما لا يوجد- فالمصير إليه شاق. وقد ذكر بعض أهل العلم (1) أن   = وقال ابن حزم (6/111) في مسألة أخذ الزكاة من نصارى بني تغلب في ردّه على أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، في قولهم: تؤخذ منهم مضاعفة. قال (6/112) : «واحتجوا بخبر واهٍ مضطرب في غاية الاضطراب ... » . وذَكَرَ خبر عمر. ثم قال: «هذا كل ما موّهوا به، ولو كان هذا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما حلَّ الأخذ به؛ لانقطاعه وضعف رواته، فكيف وليس هو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . وقال في نفس الخبر (6/113) : «وأخذوا ها هنا بأسقط خبر، وأشده اضطراباً، لأنه يقول راويه مرَّة: عن السفَّاح بن مطرف، ومرَّةً: عن السفاح بن المثنى، ومرَّة: عن داود بن كردوس أنه صالح عمر عن بني تغلب، ومرَّة عن داود بن كردوس، عن عبادة بن النعمان، أو زرعة بن النعمان، أو النعمان بن زرعة، أنه صالح عمر. ومع شدة هذا الاضطراب المفرط، فإن جميع هؤلاء لا يدري أحد مَنْ هُمْ من خَلْقِ الله -تعالى-» !! قلت: في رواية يحيى بن آدم (206 و208) عن داود، إخباره بأن عمر صالح بني تغلب، وكذلك نقله ابن حجر في «التلخيص» (4/233) عن ابن أبي شيبة [وهو في «المصنّف» (3/198) ] ، وكذلك شارح أبي داود (3/132) . ورواية يحيى (271) عن داود، عن عبادة بن النعمان: «أنه قال لعمر ... » -كما سبق في التخريج-، وكذلك نقله الجصاص في «أحكام القرآن» (3/94) عن يحيى ابن آدم، إلا أنه قال: عمارة بن النعمان، وذكره ابن حزم (6/112) ، وكذلك هي رواية أبي يوسف في «الخراج» وهو: «عبادة بن النعمان» . وانظر: «نصب الراية» (1/395، 396) . ولكن قال الجصاص في أحكام القرآن (3/94) بعد ذكر رواية داود بن كردوس: «هذا خبر مستفيض عند أهل الكوفة» . وقد رُوي عن عمر أنه قال: «هؤلاء حمقى، رضوا بالمعنى، وأَبَوا الاسم» . ذكره ابن قدامة في «المغني» (13/225) . وذكره الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (4/233) عن الرافعي، لكنه لم يذكر من رواه. وقد وردت بشأن نصارى بني تغلب الروايةُ والنَّقْلُ الشائع، انظره في كتاب «الخراج» لأبي يوسف (ص 120- وما بعدها) ، و «فتوح البلدان» للبلاذري (ص 185- وما بعدها) ، وبه تطمئن النفس إلى أن لها أصلاً صحيحاً، وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على «المحلَّى» (6/112-113) . قوله: ولا يغمسوا أولادهم: أي: لا يصبغوهم. كما وقع في رواية أبي عبيد، وهو ما يعرف عند النصارى بـ: التعميد. (1) بل وقع ذلك صراحة في بعض طرق الحديث، وهي طريق هشيم وأبي عوانة، عن مغيرة، عن السَّفَّاح. وقد مضى في الهامش السابق الإشارة إلى هذه الرواية دون ذكر المتن، والله الموفِّق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 عمر -رضي الله عنه- إنما صالح نصارى بني تغلب على ذلك لمَّا خُوِّف من أمرهم، وقيل له: لا تُقَوِّ عدوك عليك بهم. وكأنَّ نصارى بني تغلب كرهوا اسم الجزية، ولم يجيبوا إلى ذلك، إلا أن يعطوا نحو عطاء الصدقات، فضاعف ذلك عليهم فقبلوه. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أَبَى على نصارى بني تغلب إلا الجزية، وقال: لا والله إلاَّ الجزية، وإلاَّ فقد آذنتكم بحرب (1) . ولم يختلفوا: أن حكم ما يؤخذ منهم على ذلك بمثابة حكم الجزية، لا حكم الصدقة، ويوضع في مال الفيء. فصلٌ: في مقدار الجزية، وعلى من تُفرض اختلف أهل العلم في مقدار ما يقبل في الجزية، والمشهور في ذلك ثلاثة أقوال: قول: رواه مالك في «موطئه» (2) عن عمر بن الخطاب، أنه ضَرَبَ الجزية على   (1) ذكره ابن قدامة في «المغني» (13/224) . وانظر: «أحكام أهل الذمة» لابن القيم (1/210-211-ط. رمادي) . (2) «الموطأ» في كتاب الزكاة (باب جزية أهل الكتاب والمجوس) (ص 192 رقم 305- ط. دار إحياء التراث) ، عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب، عن عمر، به. وأخرجه أبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 49 رقم 100، وص 191 رقم 393) ، من طريق يحيى بن بكير، والبيهقي في «الكبرى» (9/196) ، وابن زنجويه في كتاب «الأموال» (رقم 153، 592) ، عن ابن أبي أويس، والبلاذري في «فتوح البلدان» (ص 131) عن عمرو بن حماد بن أبي حنيفة، كلهم عن مالك، به. وإسناد حديث مالك: رجاله ثقات. وهو صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (6/87 رقم 10095) ، من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، به. وأخرجه (10/329 رقم 19267) من طريق أيوب، عن نافع، به. وفيه زيادة، وستأتي قريباً في هذا الباب في أثناء التخريج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 أهل الذَّهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهماً، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، وبه أخذ مالك، قال: ولا يُزاد على ذلك ولا يُنقص منه، وعلى ذلك جميع أصحابه، في أنه لا يزاد عليه، وسواء عندهم في ذلك الغنيُّ والفقير، إلا أن يكون من الفقر بحيث لا يقدر على شيء، فلا يُكَلَّفُ ما لا يطيق (1) . وقول ثانٍ: قال الشافعي، وأبو ثور (2) ، وغيرهما (3) : إن مقدار الجزية دينار على كل رأسٍ من الأحرار البالغين، سواء في ذلك الغني والفقير، واحتجَّ الشافعي بحديث معاذ. خرَّج أبوداود (4) ، عن أبي وائل، عن معاذ، وعن مسروق -أيضاً-، عن معاذٍ،   (1) انظر: «التفريع» (1/363) ، «الكافي» لابن عبد البر (1/479) ، «جامع الأمهات» (ص 248) ، «عقد الجواهر» (1/488) ، «المنتقى» (3/221) ، «المعونة» (1/450) ، «الرسالة» (ص 168) ، «الذخيرة» (3/453) ، «النوادر والزيادات» (3/459-460) ، «البيان والتحصيل» (4/179-180) ، «الاستذكار» (9/299، 302) ، «الخرشي» (3/145) . وفي رواية أخرى في فقير أهل الذمة: إذا لم يجد، لم يطالب بشيء. وانظر: «عيون المجالس» (2/754) ، «جامع الأمهات» (248) . (2) انظر: «الأم» (4/189، 219) ، «مختصر المزني» (ص 277) ، «المهذب» (2/252) ، «الإقناع» للماوردي (ص 180) ، «الحاوي الكبير» (18/345) ، «التهذيب» للبغوي (7/498) ، «البيان» (12/255) ، «منهاج الطالبين» (3/292) ، «روضة الطالبين» (10/311) ، «المجموع» (21/295) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (7/313) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 237) . وانظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (211- تحقيق المستشرق يوسف شخت) ، «فقه الإمام أبي ثور» (796- 797) . وهو رواية عن أحمد، كما في «المغني» (13/209-210) . (3) في الأصل: «وغيرهم» ، وقد أشار أبو خبزة إلى ذلك في هامش نسخته. (4) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في أخذ الجزية) من طريق أبي وائل (رقم 3038) ، ومن طريق مسروق (رقم 3039) ؛ كلاهما عن معاذ، به. وأخرجه في كتاب الزكاة (باب في زكاة السائمة) (رقم 1576) من طريق أبي وائل، به. وأخرجه يحيى بن آدم (364) ، والبيهقي (9/187) من طريق عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، به. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وفيه زيادة في أوله، أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين: تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين: مُسِنَّة. وأخرجه من طريق أبي وائل عن معاذ: أحمد (5/233) ، والنَّسائي (5/26، 42) ، والبيهقي (9/193) . وعند أحمد والنسائي زيادة على الزيادة المذكورة، وهي: وأمرني فيما سقت السماء العشر، وما سُقي بالدوالي نصف العشر. وأخرجه عبد الرزاق (6841) أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل (شقيق بن سلمة) ، عن مسروق، به، بالزيادة المذكورة، ولم يذكر فيه: «ثياباً تكون باليمن» . ومن طريق عبد الرزاق، أخرجه: الترمذي (623) ، وأحمد (5/230) ، وابن الجارود في «المنتقى» (343) ، والطبراني في «الكبير» (20 رقم 260) ، والدارقطني (2/102) ، والبيهقي (4/98) ، والبغوي (1571) . وقرن عبد الرزاق، والطبراني، والدارقطني، والبيهقي، بسفيان: معمراً. ولفظ ابن الجارود دون قوله: «أن آخذ من كل حالم ديناراً، أو عدله من المعافر» . وأخرجه أبو داود (1578) ، والبزار في «مسنده» (2654) ، وابن الجارود (343) ، وابن خزيمة (2268) من طرق عن سفيان الثوري، به. وأخرجه حميد بن زنجويه في «الأموال» (105، 1454) ، والدارمي (1623) ، وابن ماجه (1803) ، والنسائي (5/25-26، 26) ، وابن خزيمة (2268) ، والشاشي في «مسنده» (1347) ، وابن حبان (4886) ، والطبراني (20 رقم 261، 264) ، والحاكم (1/398) ، والبيهقي (4/98 و9/193) من طرق عن الأعمش، به. وأخرجه يحيى بن آدم في «الخراج» (228) ، والدارمي (1624، 1625، 1627) ، وأحمد (5/233) ، وابن ماجه (1818) ، والبزار في «مسنده» (2646) ، والشاشي في «مسنده» (1349 و1351) ، والطبراني (20 رقم 262) ، من طرقٍ عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، به. واقتصر يحيى بن آدم في روايته، والدارمي في روايته الأخيرة، وابن ماجه، والبزار، والشاشي في راويته الأولى، على زكاة الثمار في آخره. وأخرجه يحيى بن آدم (366 و367) عن الشعبي، مرسلاً، مقتصراً على ذكر زكاة الثمار. وعند النسائي (5/26) ، والبيهقي (9/193) في أحد موضعيه: «ثنية» بدل قوله: «مسنة» . وقرن ابن خزيمة، والطبراني (264) بشقيق: إبراهيمَ النَّخعي، وتحرف عند الطبراني (شقيق) إلى (سفيان) . وأخرجه النسائي (5/26) ، وابن خزيمة (2268) ، والطبراني (20 رقم263) ، والدارقطني (2/102) ، والبيهقي (4/98 و9/193) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش سليمان بن مهران، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق، عن معاذ. فذكر مكان شقيقٍ أبي وائل: إبراهيم النخعي. ... ... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وهي الطريق التي عند أبي داود (رقم 3039) من طريق أبي معاوية، به. وأخرجه الطبراني (20 رقم 265) من طريق ابن أبي ليلى، عن أبي صالح، عن مسروق، عن معاذ. وأخرجه حميد بن زنجويه في «الأموال» (رقم 105، 1454) ، والدارمي (1623) ، والنسائي (5/26) ، والشاشي (1347) ، والبيهقي (4/98 و9/193) من طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن معاذ. وعند النسائي والبيهقي: «ثنية» بدل «مسنة» . ولم يذكروا فيه مسروقاً، وإبراهيم عن معاذ منقطع. وأخرجه مرسلاً: الطيالسي (567) ، وأبو عبيد في «الأموال» (64، 993) ، والشاشي (1348، 1350، 1352، 1353) من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن. وقرن الأعمش -عند أبي عبيد، والشاشي في الموضعين الثاني والرابع- بأبي وائل: إبراهيمَ النخعي، قال: بعث ... إلخ. واقتصر الطيالسي على قوله: «أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو قيمته» . وأخرجه مرسلاً: أبو يوسف القاضي في «الخراج» (ص 77) عن الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق. وأخرجه مرسلاً -كذلك-: ابن أبي شيبة (3/126- 127) عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق. وأخرجه مرسلاً: ابن أبي شيبة (3/127) عن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي وأبي وائل قالا: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً ... فذكره. ورَوَى الحديث دون قوله: «ومن كل حالم ... إلخ» طاوس عن معاذ مرة، ومرة أدخل بينهما ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرجه مرسلاً: أبوعبيد في «الأموال» (65) ، ومن طريقه: ابن زنجويه (109) ، وأخرجه يحيى ابن آدم في «الخراج» (229) ، ومن طريقه البيهقي (9/193- 194) كلاهما (أبو عبيد ويحيى) عن جرير ابن عبد الحميد، عن منصور، عن الحكم قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ بن جبل وهو باليمن: أن يأخذ من كل حالم أو حالمة ديناراً، أو قيمته، ولا يفتن يهودي عن يهوديته. هذا لفظ حديث يحيى بن آدم، وفي حديث أبي عبيد زيادة. وأخرجه أبو يوسف القاضي في «الخراج» (ص 128) عن الأعمش، عن عمارة بن عمير أو مسلم بن صبيح أبي الضحى، عن مسروق، به. مختصراً بالجزية في آخره. وفي الباب: قوله: «من كل حالم ... إلخ» عن عروة بن الزبير مرسلاً عند أبي عبيد (66) ، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ. وعن عمرو بن دينار مرسلاً عند أبي يوسف في «الخراج» (ص 131) ، وفيه شيخ مبهم. والحديث صحيح، قال عنه الترمذي: «حديث حسن» ، وقال ابن عبد البر: «ثابت متصل» ، وصححه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وجَّهه إلى اليمن، أمَره أنْ يأخذ من كل حالمٍ -يعني: محتلمٍ- ديناراً، أو عَدله من المعافر -ثيابٌ تكون باليمن-. قال الشافعي (1) : وهو - صلى الله عليه وسلم - المبيِّن لنا عن الله -تعالى-، يريد: أن في ذلك بيان ما أريد بالجزية التي ذكر الله -تعالى- أن يعطوا، فيكفَّ عنهم. قال الشافعي (2) : وإن صولحوا على أكثر من ذلك جاز، إذا طابت نفوسهم، قال: وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيامٍ جازَ، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن (3) والإدام. وذَكَر ما على الوسط من ذلك، وما على الموسر، وذكَرَ موضع النزول والكنّ من البَرْدِ والحَرِّ. وقول ثالث، قال به أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل وغيرهم (4) : إن   = ابن حبان وابن الجارود والحاكم وشيخنا الألباني. انظر: «صحيح سنن أبي داود» (5/297-298- ط. غراس) ، «الإرواء» (795) . وانظر: «الفتح» (6/260) . وقوله: «حالم» أي: بالغ، أي: يؤخذ منه في الجزية دينار. «عدله» : بالفتح، وجُوِّز الكسرُ: ما يساوي قيمة الشيء. «معافر» : برود تنسج في اليمن. (1) «الأم» (4/189) . (2) المصدر السابق. (3) في المنسوخ: «التين» ، وفي الهامش: «أو التبن، بالباء الموحدة، يعني: للدواب» . (4) انظر في مذهب الحنفية: «تحفة الفقهاء» (3/307) ، «الهداية» (5/816- مع شرحه «البناية» ) ، «القدوري» (116) ، «الإصلاح والإيضاح» (ق 134/ب- مخطوط) ، «فتح القدير» (6/45) . وفي مذهب الحنابلة: «رؤوس المسائل الخلافية» (ص 508 المسألة رقم 369) ، «المقنع» لابن البنا (3/1191) ، «شرح الزركشي» (6/568) ، «المغني» (13/209، 211) ، «الروايتين والوجهين» (2/ 381) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/594) ، «كشاف القناع» (3/121) ، «الفروع» (6/263- 264) ، «الواضح» (2/279) ، «مسائل الإمام أحمد» رواية ابنه صالح (1/216- 217 و3/219-220) ، «أحكام أهل الملل» للخلاّل (رقم 243، 244، 248- 253) ، ولأحمد في المسألة أكثر من رواية. وانظر: «أحكام أهل الذمة» لابن القيم (1/124- 128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 الجزية اثنا عشر درهماً، وأربعة وعشرون درهماً، وثمانية وأربعون درهماً، يريدون: بحسب الأحوال (1) . فالفقير تفرض عليه اثنا عشر درهماً، والوسط يضاعف ذلك عليه، والغني يضاعف عليه ما ضوعف على الوسط (2) ، وقد روي   (1) ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (19/253-254) : «والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع، وأَمْرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «أن يأخذ من كل حالِمٍ ديناراً، أو عدله معافرياً» قضية في عين، لم يجعل ذلك شرعاً عامّاً لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة، بدليل أنه صالح لأهل البحرين على حالم [كذا في المطبوع] ، ولم يقدره هذا التقدير، وكان ذلك جزية، وكذلك صالح أهل نجران على أموالٍ غير ذلك، ولا مقدرة بذلك، فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة، وما يرضى به المعاهدون، فيصير ذلك عليهم حقّاً يجزونه، أي: يقصدونه ويؤدونه» . (2) ذكر البخاري في «صحيحه» (6/257- «الفتح» ) معلقاً عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: فعل ذلك من قبل اليسار. ووصله عبد الرزاق في «المصنف» (10094، 10098) ، وذكره أبو عبيد في «الأموال» (ص 51 رقم 107) بلاغاً عن سفيان بن عيينة. وأما حديث معاذ المذكور آنفاً لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالمٍ ديناراً، فقد قال ابن القيم في «أحكام أهل الذمة» (1/134- 135) -وذكر نحوه قبله ابن قدامة في «المغني» (13/212) -: قلت: ولا يخلو حديث معاذ من أحد وجوه ثلاثة: الأول: أن يكون أَمَرَهُ بذلك؛ لأن الغالب على أهل ذمة اليمن إذ ذاك الفقر، وقد أشار مجاهد إلى ذلك في قوله: إنما جعل على أهل الشام ثمانية وأربعون درهماً من أجل اليسار. الوجه الثاني: أنهم كانوا قد أقروا بالجزية، ولم يتميز الغني منهم من الفقير، والصحابة إذ ذاك لم يسكنوا اليمن، بل كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو حَيٌّ بين أظهرهم، فلما لم يتفرَّغوا لتمييز غنيهم من فقيرهم، جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزية كلها طبقة واحدة، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرق الصحابة في البلاد وسكنوا الشام، تفرغوا لتمييز طبقات أهل الذمة، ومعرفة غنيهم وفقيرهم ومتوسطهم، فجعلوهم ثلاث طبقات، وأخذوا من كل طبقة ما لا يشق عليهم إعطاؤه. الوجه الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقدرها تقديراً عامّاً لا يقبل التغيير، بل ذلك موكول إلى المصلحة واجتهاد الإمام، فكانت المصلحة في زمانه أخذَها من أهل اليمن على السواء، وكانت المصلحة في زمن الخلفاء الراشدين أخذها من أهل الشام ومصر والعراق على قدر يسارهم وأموالهم، وهكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أخذها من أهل نجران حُلَلاً في قِسْطين: قِسطٌ في صَفَر، وقِسطٌ في رجب. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 مثل ذلك عن عمر بن الخطاب: أنه فعله بأهل السواد (1) . قال سفيان   = قلت: وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل نجران على ألفي حلّة، النصف في صَفَر، والنصف في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعلى ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين من كل صنفٍ من أصناف السِّلاح يقرون بها، والمسلمون ضامنون لها حتَّى يردوها عليهم، إن كان باليمن كَيْدٌ أو غدرة، على ألا يُهدَم لهم بيعة، ولا يُخْرَجَ لهم قس، ولا يفتنون عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الرِّبا. والحديث أخرجه أبو داود في «سننه» (رقم 3041) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/195) من طريق مصرف بن عمرو اليمامي، ثنا يونس بن بكير، ثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي، عن ابن عباس، به. وهذا إسناد ضعيف، فإسماعيل بن عبد الرحمن: صدوق يهم، كما في «التقريب» . وقال المنذري -كما في «عون المعبود» (8/292) -: «وفي سماع السدي -وهو إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي- عن عبد الله بن عباس نَظَرٌ، وإنما قيل: إنه رآه، ورأى ابن عمر، وسمع من أنس بن مالك -رضي الله عنهم-» . وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» (رقم 3041) لشيخنا الألباني -رحمه الله-. وقال أبو عبيد في «الأموال» (ص 51) : «وهذا عندنا مذهب الجزية والخراج، إنما هما على قدر الطاقة من أهل الذمة، بلا حَمْلٍ عليهم، ولا إضرارٍ بفيء المسلمين، ليس فيه حَدٌّ مؤقت» . وانظر: «الخراج» ليحيى بن آدم (رقم 29) . (1) روى أبو عبيد في «الأموال» (ص 50 رقم 103) من طريق أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر: أنه بعث عثمان بن حنيف بوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر. قلت: يعني على الغني ثمانية وأربعين، وعلى المتوسط أربعة وعشرين، والفقير اثني عشر. كما قال به أبو حنيفة وأحمد. وقال الحافظ في «الفتح» (6/260) بعد ذكره رواية أبي عبيد: وهذا على حساب الدينار باثني عشر. وأخرجه ابن زنجويه في «كتاب الأموال» (1 رقم 158 و230) ، ويحيى بن آدم في «كتاب الخراج» (ص 42 رقم 103) -ومن طريقه البلاذري في «فتوح البلدان» (ص 266) -، والبيهقي في «الكبرى» (9/134) ، من طريق أبي إسحاق -وهو السبيعي-، به. وزادوا جميعاً -سوى أبي عبيد- في أوله، عن حارثة، أنّ عمر أراد أن يقسم أهل السواد بين المسلمين، فأمر بهم أن يحصوا، فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين، فشاور فيهم. فقال له علي: دعهم يكونون مادة للمسلمين ... الخ. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الثوري (1) : «ذُكرت عن عمر ضرائب مختلفة على أهل الذمة الذين أُخذوا عنوة» . قال الثوري: «وذلك إلى الوالي، يزيد عليهم بقدر يُسرهم، ويضع عنهم بقدر حاجتهم، فأمَّا من لم يؤخذ عنوة، حتى صولحوا صلحاً، فلا يزاد عليهم شيءٌ على ما صولحوا عليه، فالجزية عليهم على ما صولحوا عليه، من قليلٍ أو كثير، في أرضهم وأعناقهم» (2) يعني -إن شاء الله-: إذا كان أقل ما بذله أهل الصلح، مما يبلغ القدر الذي يقبل مثله في الجزية، وهذا هو فائدة الخلاف في حدِّ أقل الجزية الذي إذا بذلوه قُبِلَ، ووجَبَ الكفُّ عنهم، كما أن فائدة الخلاف في حَدِّ الأكثر مراعاة ترك الإجحاف. وجملة الأمر: أنَّ أهل الذمة في ضرب الجزية عليهم صنفان: أهل صلح وأهل عنوة. فأهل الصلح: هم الذين يبذلون الجزية قبل القدرة عليهم؛ ليحقنوا بذلك دماءهم، ويحرزوا أموالهم، فهؤلاء يُقرُّون على ما صولحوا عليه من قليلٍ أو كثيرٍ، ولا يزاد عليهم شيءٌ، إذا كان ما بذلوه يبلغ مبلغ القدر الذي يقبل في الجزية، فإن كان أقلَّ مما يقبل في ذلك -على الخلاف المتقدم في حدِّه- لم يجز قبوله منهم، وإذا بذلوا الحدَّ الذي يُقبلُ فصاعداً، وجب القبولُ والكَفُّ عنهم، وأُقِروا على أرضهم وأموالهم، يتوارثونها في الموت، ويحرزونها بالإسلام، لا حَقَّ للمسلمين   = وأبو إسحاق: مدلس، وقد عنعنه. فالإسناد ضعيف. وأخرجه أبو يوسف في «كتاب الخراج» (ص 36) ، عن محمد بن إسحاق، عن حارثة، به. وذِكْرُ محمد بن إسحاق، لعلّه خطأ مطبعي- والصواب: أبو إسحاق. وأخرجه عبد الرزاق (6/100 رقم 10128) عن معمر، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن عمر، نحوه بأطول من هذا. (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/90 رقم 10100) عن الثوري، به. وأخرج الشق الثاني منه في (10/330 رقم 19270) . وذكره عنه الأشجعي والفريابي. انظر: «الاستذكار» (9/303 رقم 13411) . (2) انظر: «نقد مراتب الإجماع» لشيخ الإسلام ابن تيمية (214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 معهم في شيءٍ من ذلك إلا الجِزية المضروبة، ومن شرط ذلك أن يكونوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين وسلطانهم، وتُؤخذ منهم الجزية وهم صاغرون. وأمَّا أهل العنوة -وهم الذين غلبهم المسلمون، واستولوا على رقابهم وبلادهم- فهؤلاء حكمهم حكم الأسرى، وحكم أراضيهم حكم غنائم المسلمين، فإذا أقرهم الإمام على الجزية وجب لهم حكمها، وكان الخلاف المتقدم في حَدِّ أقلِّ ما يضرب عليهم وأكثرهِ، وتفريق من فرَّق بين الغنيِّ والفقير، ومراعاة ما يحملون دون إجحاف. واختلف أصحاب مذهب مالك: هل يكونون بذلك أحراراً؛ لأن استحياءهم لضرب الجزية من باب المنِّ عليهم، أو هُم على أحكام العبيد للمسلمين؟ (1) . وأما أرضهم: فلا حقَّ لهم فيها باتفاق، وهي مِلْكٌ للمسلمين: إمَّا للجيش الذين غلبوا عليهم، تقسم فيهم كسائر المغانم، وإمّا فيءٌ موقوفةٌ لمصالح المسلمين، على حسب ما مضى من القول، وذكر الخلاف في ذلك، فإن أقرّها الإمام في أيديهم على الخراج -على مذهب من رآها فيئاً-، كان لها حكم ذلك. فهذا فرق ما بين الصلح والعنوة. وقد مضى ذكر الخلاف فيما يؤخذ من نصارى العرب. والأرجح أنهم في الجزية وسائر الأحكام من أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم سواء مع أهل الكتاب، والله أعلم. واتفق الجمهور على أنَّ الجزية لا تفرض على النساء والصبيان، ولا على العبيد، إلاّ على الرجال الأحرار البالغين، روي ذلك عن مالكٍ، وأبي حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، وغيرهم (2) .   (1) انظر: «المعونة» (1/621) ، «الكافي» (1/482) ، «الذخيرة» (3/416) . (2) انظر في مذهب الحنفية: «مختصر الطحاوي» (293- 294) ، «اللباب» (4/145) ، «تحفة الفقهاء» (3/307) ، «بدائع الصنائع» (7/111) ، «إعلاء السنن» (12/462) ، «الهداية» (2/453- = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 قال أبو بكر بن المنذر (1) : لا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهم. وقال أبو محمد بن حزم (2) : الرجال والنساء، والأحرار والعبيد، في كلِّ ذلك سواء. واستدلَّ على ما ذهب إليه من ذلك بعموم قول الله -تعالى-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، وفي الاستدلال بذلك على إدخال النساء في هذا العموم نَظَر؛ لأنَّ الصيغة موضوعةٌ للمذكَّر، وإنما يدخل النساء في صيغ الجمع المذكر   = 454) ، «البناية» (5/825) ، «الاختيار» (4/217) . وفي مذهب المالكية: «جامع الأمهات» (248) ، «الكافي» (1/479) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/ 486) ، «التفريع» (1/363) ، «الذخيرة» (3/451) ، «النوادر والزيادات» (3/358-359) ، «المقدمات الممهدات» (1/371) ، «بداية المجتهد» (2/495) . وفي مذهب الشافعية: «مختصر المزني» (277) ، «الحاوي الكبير» (18/355) ، «الإقناع» للماوردي (180) ، «روضة الطالبين» (10/300-302) ، «التهذيب» (7/501، 503) ، «البيان» (12/ 264- 266) ، «منهاج الطالبين» (3/288) ، «المجموع» (21/312) ، «مغني المحتاج» (4/245) . وهو مذهب الحنابلة -أيضاً-، انظر: «المغني» (13/216، 220) ، «شرح الزركشي» (6/ 572- 574) ، «شرح مختصر الخرقي» لأبي يعلى (2/595) ، «الواضح» (2/279، 280) ، «كشاف القناع» (3/120) . ونقل مذهب أبي ثور: الطبري في «اختلاف الفقهاء» (208- تحقيق يوسف شخت) ، وابن قدامة في «المغني» (13/216) ، وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 795) . (1) نقله عنه ابن قدامة في «المغني» (13/216) . وقال ابن المنذر في «الإجماع» (ص 58) : وأجمعوا على أن لا تؤخذ من صبيٍّ ولا من امرأةٍ جزية، وأجمعوا أن لا جزية على العبيد. وانظر: «اختلاف الأئمة» (156) ، «تفسير القرطبي» (8/112) ، «الإفصاح» (2/294) ، «أحكام أهل الذمة» (1/149) . وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» (9/312) : «وهذا إجماع من علماء المسلمين، لا خلاف بينهم فيه، أن الجزية إنما تضرب على البالغين من الرجال، دون النساء والصبيان» . قلت: وستأتي مخالفة ابن حزم لهذا الإجماع، والرد عليه. (2) في «المحلّى» (7/347) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 بحكم التبعية وتغليب التذكير، فهو يفتقر إلى ما يدلُّ عليه، بل لو سُلِّم أن الصيغة بأصل الوضع عامة في المذكَّر والمؤنث، لكان خروج نساء الكفار من القتل والقتال معلوماً من الشرع، فعموم الآية هنا لا يتناول النساء على كل حال (1) . وأما العبيد: فالعموم صالح فيهم (2) . واختلفوا في العبد من أهل الكتاب يُعتقُ؛ فقال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي (3) : تؤخذ منه الجزية. قال الشافعي: وسواء أعتقه مسلمٌ أو كافرٌ، وقال   (1) أخرج أبو عبيد في «الأموال» (رقم 93) ، وعبد الرزاق (10096، 19267) من طريق أيوب -وهو السختياني-، وابن أبي شيبة (7/582) في «مصنفيهما» ، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 195- 196) من طريق عبيد الله بن عمر، كلاهما عن نافع، عن أسلم مولى عمر، أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى أمراء الأجناد: أن يقاتلوا في سبيل الله، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، ولا يقتلوا النساء، ولا الصبيان، ولا يقتلوا إلا من جَرَتْ عليه المواسي ... ، وزاد أبو عبيد في روايته: وكتب إلى أمراء الأجناد: أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جَرَتْ عليه المواسي. قال أبو عبيد: يعني: من أَنْبَتَ. وهذا أثر صحيح. وقد بوَّب عليه أبو عبيد (ص 45) -وذكر عدة أحاديث- باباً خاصاً سماه (من تجب عليه الجزية، ومن تسقط عنه من الرجال والنساء) . قال أبو عبيد (ص 46) ، -وذكره عنه ابن القيم رحمه الله في «أحكام أهل الذمة» (1/151) -: «وهذا الحديث هو الأصل فيمن تجب عليه الجزية، ومن لا تجب عليه، ألا تراه إنما جعلها على الذكور المذكورين دون الإناث والأطفال، وأسقطها عمن لا يستحق القتل، وهم الذرية؟» . وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن: «خذ من كلِّ حالم ديناراً» -وهو صحيح، وسبق تخريجه-. دلالة على أن الجزية لا تجب على غير بالغ. (2) انظر في الرد على ابن حزم: «إعلاء السنن» (12/464) . (3) انظر: «البيان» للعمراني (12/268-269) ، «روضة الطالبين» (10/301) ، «الحاوي الكبير» (18/357) ، «المجموع» (21/320) ، «التهذيب» للبغوي (7/503) ، «مختصر الطحاوي» (294) ، «اللباب» (4/145) . وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، أخرجه عبد الرزاق (6/23 رقم 9884) عن سفيان الثوري، عنه: أنه أخذ الجزية من عتقاء المسلمين، من اليهود والنصارى. وبه قال سفيان الثوري، والليث بن سعد. وهو مذهب الإمام أحمد في الصحيح عنه، رواه عنه جماعة. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 الشعبي (1) : لا جزية عليه، ذمته ذمة مواليه. وأما مالك، فاختلفت الروايات عنه في ذلك؛ ففي رواية: لا جزية عليه. وفي رواية: عليه الجزية. وفي رواية: التفريق بين أن يعتقه مسلم أو كافر (2) . واختلفوا في فرض الجزية على الفقير المحتاج الذي لايقدرعلى شيء؛ فمذهب مالك (3) وجماعة من العلماء أنها توضع عنه، أو يخفف عليه إن كان ممن يقدر على بعض الشيء، ولا يكلف ما لا يطيق، وبه (4) قال أصحاب الرأي (5) . وقال الشافعي: تكون دَيْناً عليه، ولا تسقط عنه (6) .   = ورواية أخرى عن أحمد: أنه يقرُّ بغير جزية، ووهَّى الخلال في كتابه «أحكام أهل المِلل» (ص 103) هذه الرواية، وقال: «هذا قول قديم، ثم رجع عنه أحمد. والعمل على ما رواه الجماعة» . وانظر: «المغني» (13/223) ، «شرح الزركشي» (6/577) ، «الإنصاف» (4/224) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/600) ، «الواضح» (2/280) ، «المبدع» (3/409) ، «الروايتين والوجهين» (2/383) . (1) رواه عبد الرزاق في «المصنف» (6/23 رقم 9885) ، قال: أخبرنا الثوري، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي، به. وانظر: «أحكام أهل الملل» للخلال (ص 103 رقم 282) . (2) انظر: «جامع الأمهات» (248) ، «الذخيرة» (3/452) ، «النوادر والزيادات» (3/359) ، «المقدمات الممهدات» (1/371) . (3) انظر: «التفريع» (1/363) ، «الكافي» (1/479) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/488) ، «الذخيرة» (3/452) ، «المنتقى» (3/221) ، «عيون المجالس» (2/756) ، «النوادر والزيادات» (3/359) . (4) في منسوخ أبي خبزة: «ولا يكلف ما لا يطيق، بدونه قال أصحاب الرأي ... » !! (5) انظر: «تحفة الفقهاء» (3/308) ، «الهداية» (2/453) ، «البناية» (5/826) ، «فتح القدير» (5/294) ، «اللباب» (4/145) ، «إعلاء السنن» (12/462- 463) . وهو مذهب الحنابلة. انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1192) ، «شرح الزركشي» (6/573) ، «المغني» (13/219) ، «الإنصاف» (4/224) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/788) ، «أحكام أهل الملل» للخلال (ص 90) ، «أحكام أهل الذمة» (1/159، 160) . (6) «الأم» (4/297- «سير الواقدي» ) ، «منهاج الطالبين» (3/289) ، «التهذيب» (7/499) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وكذلك اختلفوا في الشيخ الفاني: هل تؤخذ منه الجزية أو لا (1) ؟ وفي   = «المجموع» (21/320) ، «البيان» (12/269) ، «الحاوي الكبير» (18/347- 348) ، «مغني المحتاج» (4/246) ، «روضة الطالبين» (10/307-308) ، «حلية العلماء» (7/698) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 238) . مع أن الماوردي في «الحاوي» جعل الفقير الذي لا يملك ضربان: مُعْتَمِلاً، وغير مُعْتَمِل: لا يقدر على الاكتساب إلا بالمسألة، فذكر قولين في وجوب الجزية عليه: أحدهما: أنها واجبة عليه، وهو المنصوص عليه عند الشافعية. والثاني: لا جزية عليه، ويكون في عقد الذمة تبعاً لأهل المسكنة، كالنساء والعبيد. وقال: نصَّ عليه في «سير الواقدي» . قلت: والذي في «سير الواقدي» من كتاب «الأم» (4/297) ما نصُّه: « ... فإن أعوز أحدهم بجزيته، فهي دَيْنٌ عليه، يؤخذ منه متى قدر عليها» . والمشهور المنصوص عليه عند الشافعية ما ذكره المصنف -رحمه الله-. واختار ابن المنذر في «الإقناع» (2/472) أن لا جزية على الفقير الذي لا يجد ما يؤدي منه الجزية. وهو القول الثاني الذي ذكره الماوردي. وقد ذهب إلى وجوب الجزية على الفقير: الإمام أبو ثور. نقل ذلك عنه الإمام الطبري في «اختلاف الفقهاء» (208- نشره المستشرق: يوسف شخت) . (1) فمذهب الجمهور أنها لا تؤخذ منه؛ لأنه ليس من أهل القتال، فلم يكن عليه جزية. انظر في مذهب الحنفية: «الهداية» (2/453) ، «تحفة الفقهاء» (3/307) ، «اللباب» (4/145) ، «البناية» (5/ 825) ، «بدائع الصنائع» (7/111) ، «إعلاء السنن» (12/462، 468) -وقال: ومقتضى القياس أن تُضْرَبَ على الشيخ والزَّمِنِ والمقعد إذا كان لهم يسار-. وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/219) ، «شرح الزركشي» (6/575) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/595) ، «الواضح» (2/279، 280) ، «المقنع» (3/1192) ، «أحكام أهل الذمة» (1/ 161) ، «أحكام أهل الملل» (ص 89) . وفي مذهب المالكية: «المدونة» (1/370) ، «الكافي» لابن عبد البر (1/479) ، «المعونة» (1/624) ، «الرسالة» (ص 189) . خلافاً للشافعي -في أحد قوليه-: أن عليه الجزية، بناءً علىجواز قتله هو، والزَّمِنِ، والأعمى، ومن في معناهم، فوجبت الجزية بدلاً عن القتل. انظر: «الأم» (4/186) ، «مختصر المزني» (ص 272) ، «الإقناع» للماوردي (ص 176) ، «الإقناع» لابن المنذر (2/472) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 المجنون إذا كان يفيق مَرَّةً ويُجَنُّ أخرى (1) . وأمَّا المجنون المُطْبِق الذي لا يفيق، فلا ينبغي أن يكون فيه خلافٌ: أنَّ ذلك لا يلزمه؛ لأنه غير مكلَّف، ولا يَتَّصف بدِينٍ يُتَمسَّكُ به في الكفر ولا غيره (2) . وقد مضى التنبيه على مثل هذا في (الباب الخامس) عند ذكر استباحة أصناف الكُفَّار تنكيلاً وقتلاً. فصلٌ: في حُكم من أسلمَ من أهل الجزية أو ماتَ خرَّج الترمذي (3) ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصلح قبلتان   (1) فمذهب الشافعية في المجنون: إنْ تَقَطَّع جنونه قليلاً، كساعة من شهر لزمته، -نظراً لغالب حاله-، أو كثيراً كيوم ويومين، فالأصحُّ: تُلفَّق الإفاقة، فإذا بلغت سنة وجَبَتْ. انظر: «الأم» (4/185) ، «منهاج الطالبين» (3/289) ، «التهذيب» للبغوي (7/502) ، «الحاوي الكبير» (18/356) ، «الإقناع» للماوردي (180) . وجزم ابن المنذر في «الإقناع» (2/472) أنه لا جزية على مغلوب على عقله. وقال أبوحنيفة: يُرَاعَى فيه أغلب حالتيه، فإن كان جنونه أكثر، فلا جزية، وإن كان أقل، فعليه الجزية. انظر: «تحفة الفقهاء» (3/307) ، «اللباب» (4/145) ، «إعلاء السنن» (12/463) . وله عند الحنابلة ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون جنونه غير مضبوط، الثاني: مضبوط. الثالث: أن يجن نصف الحول، ويفيق نصفه، على تفصيل عندهم في الحالات الثلاث. انظر: «المغني» (13/218) . وعند المالكية: لا تؤخذ منه، سواء كان مطبقاً أو مغلوباً على عقله غير مطبق. انظر: «الذخيرة» (3/45) ، «عقد الجواهر» (1/486) ، «جامع الأمهات» (248) ، «الكافي» (1/479) . (2) حكى صاحب «البيان» (12/265) من الشافعية عن الخراسانيين: أنها تؤخذ الجزية من المجنون المُطبق. قال: «وليس بشيء» . ونقله عنه النووي في «الروضة» (10/299) . (3) في «جامعه» في أبواب الزكاة (باب ما جاء: ليس على المسلمين جزية) (رقم 633) عن يحيى بن أكثم، و (رقم 634) عن أبي كريب؛ كلاهما عن جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، به. وأخرجه أبو داود (3032 و3053) ، وابن أبي شيبة (3/197) ، وأحمد (1/223، 285) ، وابن الجارود (1107) ، والطحاوي في «المشكل» (4/16) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/232) ، وابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = عدي في «الكامل» (5/1845 و6/2072) ، والدارقطني (4/156، 157) ، و «البيهقي» (9/199) من طرقٍ عن قابوس، به. وقابوس هذا: ضعيف، وبه أعلَّه ابن القطان، فقال: وقابوس عندهم ضعيف، وربما ترك بعضهم حديثه. وقال الحافظ في «التقريب» (2/115) : فيه لين. وقال الذهبي في «الكاشف» (4498) : «قال أبو حاتم وغيره: لا يحتج به» . انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (943) ، «ضعيف الترمذي» (93) ، «ضعيف سنن أبي داود» (10/ 440-441) . وأبو ظبيان، اسمه: حصين بن جندب، وهو ثقة. كما في «التقريب» (1366) . قلت: تابع قابوساً في الرواية عن أبيه: الأعمش في رواية النصف الثاني من الحديث، وهو ذكر الجزية. فقد أخرج الطبراني في «الأوسط» (رقم 6682) : حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة، ثنا محمد بن عمرو الغَزِّي، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش، به. وقال: لم يَرو هذا الحديث عن الأعمش إلا يحيى بن عيسى، تفرد به: محمد بن عمروٍ الغزي. قلت: الأعمش -مع جلالة قدره- مدلس، وقد عنعن. ويحيى بن عيسى الرملي: صدوق يخطئ، ورمي بالتشيع. كما في «التقريب» (7619) . ومحمد بن عمرو الغَزِّي: صدوق. كما في «التقريب» -أيضاً-. وشيخ الطبراني في هذا الإسناد هو: محمد بن الحسن بن قتيبة بن زيادة بن الطفيل، أبو العباس اللخمي العسقلاني. مترجم في: «تذكرة الحفاظ» (2/764) ، «تاريخ دمشق» (52/317) ، «سير أعلام النبلاء» (14/292) ، «العبر» (2/147) ، «شذرات الذهب» (2/260) . نَعَتَه ابن عساكر بشيخ عسقلان. وقال الذهبي: ثقة. فهذا الإسناد فيه ضعف من أجل تدليس الأعمش، فأخشى أنه أسقط من روايته قابوساً؛ لضعفه، لا سيما وقد نقل الخلال في «أحكام أهل الملل» (ص 97) عن الإمام أحمد، قال: ليس يرويه غير قابوس، ولا يرويه أحد عن قابوس غير جرير. ا. هـ. قلت: يعني الرواية الموصولة، وهناك رواية أخرى مرسلة، وسيأتي تخريجها. مع التنويه أنني لم أقف على من ذكر أن شيخ الطبراني روى عن محمد بن عمرو الغَزِّي. ولقوله: «ليس على مسلم جزية» شاهد من حديث ابن عمر؛ أخرجه الطبراني في «الأوسط» (رقم 7772) ، من طريق محارب بن دثار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أسلم فلا جزية عليه» . وفيه مجاهيل. لذا قال الهيثمي في «المجمع» (6/13) : «وفيه من لم أعرفهم» . فلا يصلح هذا شاهداً. وانظر: «نصب الراية» (3/453) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 في أرضٍ واحدةٍ، وليس على مسلم جزيةٌ» . وأجمع أهل العلم أنه لا جزية على مسلم، وأنَّ من أسلم من أهل الذِّمة فلا جزية عليه لما يستقبل (1) ، واختلفوا فيه إذا أسلم في بعض الحول أو بعد تمامه، وكذلك إن مات. فقيل: إنه إذا أسلم أو مات، فقد سقط عنه كلُّ ما كان لزمه من الجزية لما مَضَى في حولٍ أو أحوال، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأبي عُبيد (2) .   = وقال الترمذي: حديث ابن عباس، قد روي عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. قلت: الرواية المرسلة أخرجها: أبو عبيد (121) ، وابن زنجويه (182) ؛ كلاهما في كتابه «الأموال» ، والدارقطني (4/157) من طريق سفيان الثوري، عن قابوس، به. مرسلاً. دون ذكر ابن عباس في حديثه. وأفاد أبو حاتم أن الاختلاف في وصله وإرساله من قابوس نفسه. وانظر: «إرواء الغليل» (1257) . وقال الترمذي: «والعمل على هذا عند عامة أهل العلم: أن النصرانيَّ إذا أسلم، وُضِعت عنه جزية رقبته» . (1) انظر: «الإجماع» (ص 59) ، «الإقناع» (2/472) ؛ كلاهما لابن المنذر، «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص 141) ، «تفسير القرطبي» (8/114) . (2) انظر في مذهب الحنفية: «مختصر الطحاوي» (294) ، «تحفة الفقهاء» (3/308) ، «القدوري» (ص 117) ، «الهداية» (2/454) ، «البناية» (5/828) ، «اللباب» (4/146) ، «رؤوس المسائل» (507) ، «إعلاء السنن» (12/468) . وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (13/221) ، «المقنع» (3/1193) ، «شرح الزركشي» (6/575) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/599) ، «الواضح» (2/280) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/789) . وفي مذهب المالكية: «المدونة» (1/242) ، «التفريع» (1/363) ، «الذخيرة» (3/454) ، «جامع الأمهات» (248) ، «عيون المجالس» (2/757) ، «الاستذكار» (9/311) . وهو مذهب سفيان الثوري، وعبيد الله بن الحسن، وعمر بن عبد العزيز، كما في «المغني» (13/221) ، و «الاستذكار» (9/311) . وروي ذلك عن عمر وعلي -رضي الله عنهما-. انظر: «الأموال» لأبي عبيد (59- 60) . وظاهر كلام أحمد -فيما ذكره ابن قدامة في «المغني» - التفريق بين الذي يسلم بعد الحول، والذي يموت بعد الحول، فتسقط الجزية عن الأول، وتبقى على الثاني، كما هو مذهب الشافعي. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 قال أبو عبيد (1) : لا يجوز أن يطالب مسلم بجزية. وقال مالك: يقول الله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ما قد مضى قبل الإسلام، من دمٍ أو مال أو شيء (2) . وقيل: إنه يؤخذ منه كلُّ ما كان ترتَّب عليه، وتقدَّم من حولٍ أو أحوالٍ لم يؤدها، وهو قول الشافعي، وأبي ثور (3) . قال الشافعي: ليس للإمام تركه؛ لأنه حقّ لجماعة المسلمين عليه. يعني: أنه صار دَيناً لهم في ذِمَّته، وهذا أرجح؛ لأن قول الله -تعالى-: {إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] راجعٌ إلى ما كان من كفرهم وآثامهم، وما كانوا   = قال ابن قدامة (13/222) : وحكى أبو الخطاب، عن القاضي: أنها تسقط بالموت، كما هو مذهب أبي حنيفة. وانظر: كتاب «الروايتين والوجهين» (2/384) ، «المحرر» (2/184) ، «الإنصاف» (4/ 228) ، «أحكام أهل الملل» للخلال (ص 96) . (1) في «الأموال» (ص 59) . (2) رواه أشهب عن مالك، ذكره ابن العربي في «أحكام القرآن» (2/853) وعلق عليه بقوله: «وهذا هو الصواب، لما قدمنا من عموم قوله: {إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} وقوله: «الإسلام يهدم ما قبله» » ، ونحوه في «الأحكام الصغرى» (1/533) ، «تفسير القرطبي» (7/402) ، «الإمام مالك مفسراً» (ص 212) ، ثم ظفرت به مسنداً من طريق ابن وهب عن مالك نحوه عند ابن أبي حاتم في «التفسير» (5/1700 رقم 9066، 9067) . (3) انظر: «الأم» (4/183- ط. دار المعرفة) ، «المهذب» (2/252) ، «حلية العلماء» (7/ 702) ، «روضة الطالبين» (10/312) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 238) ، «مغني المحتاج» (4/ 249) ، «الإقناع» لابن المنذر (2/472) ، وفيه: «وليس على من أسلم قبل أن يحول الحول جزية» . فمعنى كلامه أن عليه الجزية إن أسلم بعد الحول، كما هو مذهب الشافعية. ونقل الطبري في «اختلاف الفقهاء» (212) عن أبي ثور: أن الذميَّ إذا أسلم أثناء الحول لم تجب عليه الجزية، أما إن أسلم بعد الحول، فلا تسقط. وانظر: «المغني» (8/511- ط. مكتبة الجمهورية العربية) ، أو (13/221- ط. دار هجر) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 796) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 يستحقون من عقاب الله -تعالى- على ذلك، فهو لا يتناول الديون وحقوق المال التي التزموها على وجهٍ يجيزه الشرع، فإن هذا ثابت، وليس مما يغفر؛ لأنه على حدِّ الشرع، وإنما يُهدر عنهم ما استباحوه بحال الكفر في أنواع المحرمات من دمٍ أو مالٍ، وغير ذلك من الحدود التي لا يجيزها الشرع، فذلك هو الذي يَبْطلُ عنهم حكمه بإسلامهم، فلا يؤاخذون به، عفواً من الله ومغفرة. وأما قول أبي عبيد: «لا يطالب مسلم بجزية» فصحيح؛ بمعنى أنه لا يكلَّف الجزية بعد إسلامه، كما كان يُكلَّفها في كفره، وأما ما كان استقرَّ عليه من ذلك في حال الكفر، فمطالبٌ به كسائر الدّيون، ولا فرق في هذا فيمن أسلم (1) . فأمَّا من مات وعليه حولٌ أو أحوال، فقد كان ينبغي أن يكون ذلك في تركته على كلِّ قول، ومهما توجَّه الخلاف فيمن أسلم، وعليه حولٌ أو أحوال، فلا يصلح ذلك فيمن مات؛ لأن أمرهما في الكفر والإسلام مختلفٌ (2) ، والأدلة التي اعترضَ بها فيمن أسلم لا تثبت فيمن مات وهو كافر، فلا وجه للقول بسقوط ذلك عَمَّن مات بعد أن عُمِّرت ذمته. وقد زعم من قال بسقوطه عن الميت: أن ذلك ليس بدينٍ عليه، وهذه مكابرة، لأنَّ كُلَّ حَقٍّ في المال وجبَ بوجه شرعيٍّ متعلِّقٍ بالذِّمة، لا في عينٍ معينة؛ فهو ديْنٌ، يُعرف ذلك لغةً وشرعاً، والذمي إذا كَمَلَ حولُه على حَدٍّ ما شرط له من الوفاء بذمته، فقد وجبت عليه ضريبة ذلك الحول بإجماع، فذلك -ما   (1) الأرجح ما ذهب إليه الجمهور من سقوطها عمَّن أَسْلم؛ لعموم الأدلة في ذلك. قال أبوعبيد في «الأموال» (60) بعد سَرده بعض الآثار: أفلا ترى أن هذه الأحاديث قد تتابعت عن أئمة الهدى بإسقاط الجزية عمن أسلم، ولم ينظروا: في أول السنة كان ذلك، ولا في آخرها، فهو عندنا على أن الإسلام أهدر ما كان قبله منها. (2) ومذهب الحنابلة -كما مضى- التفريق بين الإسلام والموت، بينما يسقطها المالكية والحنفية عمَّن مات، ويوجبها الشافعية بعد موته من تركته. انظر: «المدونة» (1/242) ، «التفريع» (1/363) ، «عيون المجالس» (2/757) ، «مختصر الطحاوي» (294) ، «الهداية» (2/454) ، «روضة الطالبين» (10/312) ، «مغني المحتاج» (4/249) ، «المحرر» (2/184) ، «الإنصاف» (4/228) ، «المغني» (13/222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 لمْ يُعْطَ- دَينٌ عليه بلا شك، اللهم إلا أن يعني قائل ذلك: أن الجزية إلزام مالٍ يؤخذ على وجه الصَّغار والعقوبة بالكفر، فكان من شرطه بقاء الملزم، كما كان من شرطه البقاء على الكفر. وأما من مات قبل أن يتم حوله، فسبب الخلاف فيه: هل الجزية موضوعة لتمام الحول كالزكاة مثلاً، فهي لا تجب إلا بتمامه، فإذا مات قبل أن يستكمل الحول فلم تجب الجزية (1) ، أو هي كالخراج والكراء مُقسَّطةٌ على أوقات العام: لكل جزءٍ ما يقابله، فيلزمه بحسب ذلك في تركته؟ وبهذا الاعتبار يتوجه اختلاف القولين في ذلك عند الشافعي (2) ، وكذلك فيمن أسلمَ في بعض الحول: أنه يؤخذ منه ما مَضَى من الحول بحسابه، أو لا يؤخذ منه؟ في ذلك قولان. [فصلٌ: في حكم الأرض إذا أسلم عليها أهل الذمة] (3) وأمَّا حكم الأرضين، إذا أسلم عليها أهل الذمة: فذلك يختلف في حقِّ أهل الصلح وأهل العنوة، كما أشرنا إليه في الفصل قبل هذا. وفي «الموطأ» (4) عن مالك، أنه سُئِل عن إمامٍ قَبِلَ الجزية من قومٍ، فكانوا يعطونها: أرأيت من أسلم منهم، أتكون له أرضه، أو تكون للمسلمين، ويكون لهم   (1) كذا في الأصل مجوّدة، وفي المنسوخ: «الزكاة» وكلاهما له وجه. (2) من هامش المنسوخ فقط. (3) فمذهب الشافعي وأحمد: إذا دخلت سنة في سنة، لم تسقط جزية السنة الماضية، ووجب عليه جزية سنتين، قالوا: لأنه مال يتكرر بتكرر الحول، أو: مال يجب في كل حول، فوجب أن لا يتداخل. انظر: «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 238) ، «المغني» (13/223) . خلافاً لأبي حنيفة في قوله: تسقط جزية السنة الماضية، وتجب جزية واحدة. انظر: «الهداية» (2/454) ، «ملتقى الأبحر» (1/372) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/487) . وفرَّق المالكية بين الغني والفقير، فقالوا: إذا اجتمعت عليه سنون، إن كان غنياً أخذت منه جيمع السنوات، وإن كان فقيراً فلا تؤخذ منه؛ لأن الفقير لا جزية عليه. انظر: «الذخيرة» (3/454) . وانظر: «أحكام أهل الذمة» (1/146- وما بعدها) . (4) في كتاب الجهاد (باب إحراز من أسلم من أهل الذمة أرضه) (ص 299- ط. دار إحياء التراث) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 ماله؟ فقال مالك: «ذلك يختلف؛ أما أهل الصلح: فمن أسلم منهم فهو أحقُّ بأرضه وماله، وأما أهل العنوة الذين أُخذوا عَنْوة: فمن أَسْلَم منهم، فإنَّ أرضه وماله للمسلمين؛ لأن أهل العنوة قد غُلبوا على بلادهم، وصارت فيئاً للمسلمين، وأمَّا أهل الصلح: فإنهم قومٌ قد مَنعوا أموالهم وأنفسهم حتَّى صالحوا عليها، فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه» . قال ابن عبد البر (1) : على هذا جمهور العلماء. وقال ابن حبيب (2) في أهل الصلح: إن كانت جزيتهم مُفَرَّفَةً على الجماجم، فالحكم فيهم على ذلك على من أسلم منهم أو مات: إحرازُ أرضه بالإسلام، وورثت عنه في الموت، وسقط ما كان عليه من الجزية، وإن كانت مصالحتهم على جزيةٍ واحدةٍ مُجْملةٍ، فالأرض تبقى أبداً موقوفةً للجزية لا تُورَّث، ولا يَحُوزها بالإسلام، ولا يُحَطُّ عن جماعتهم بموت من مات منهم، أو إسلامه شيءٌ من جملة تلك الجزية، ولا يؤخذ من أسلم بشيءٍ منها، ويؤخذ بذلك أهلُ دينه، وتكون أرضه وقفاً على ذلك. والأظهر ما ذهب إليه الجمهور، وشهد له الدليل، كما بيَّنه مالكٌ -رحمه الله-. فصلٌ: في شروط الجزية، وما يجب على أهل الذمة ولهم قال الله -تعالى-: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 39] . فكان أول ما يجب أن يكون الكفار الذين قُبِلتْ منهم الجزيةُ في بلدٍ، أو موضع يحيط بهم سلطان المسلمين، وتجري عليهم أحكامهم؛ ليكون إقرارهم على الجزية وأداؤهم لها كما فرضَ الله -تعالى-؛ لأنه لا يتمكن منهم في ذلك إلا أن يُحاط بهم.   (1) في «الاستذكار» (14/331 رقم 20560) ، قال: ما ذكره مالك -رحمه الله- في هذا الباب عليه جماعة العلماء. (2) انظر: «النوادر والزيادات» (3/362) ، «البيان والتحصيل» (4/200، 201) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 فأمَّا مصالحة من صولح من العدو على مالٍ يُؤدّونه، وإقرارهم هناك على حالِ مملكتهم ومنعتهم؛ فليس هذا من باب الجزية في شيء، وهي مهادنة، ولا تجوز إلا لضرورة كما قدَّمنا في ذلك. والجزيةُ مشروعةٌ، مأمورٌ بقبولها، والكفُّ عنهم إذا بَذلوها على شروطها، فأمرها مختلف في الوجوب والحظر. قال عبد الملك بن حبيب (1) : إذا نزل جيش المسلمين على حصنٍ، فحاصروه الأيام، فدعا أهله إلى المصالحة على مالٍ يدفعونه ويُرحلُ عنهم، فلا يجوز قبوله إنْ رجَا المسلمون افتتاحَه، وليمضوا على محاصرتهم، وإن يئسوا من افتتاحه، بما عسى أن يَتَسنَّ ذلك لهم، فلهم أن يقبلوا ذلك، ولهم أن يحاصروا إن كانت بهم قوة على ذلك، قال: وإنْ دَعَوْا إلى الجزية، فإن كانوا بالموضع الذي يكون عليهم فيه سلطان الإسلام، ويتولاّهم من المسلمين والٍ تتأَدَّى إليهِ جِزيتهم، ويخالطهم المسلمون، وتكون قوتهم مُنبسِطة، كما هي على المعاهدين وأهل الذمة؛ لقربهم من دار الإسلام، فلازمٌ لوالي الجيش أن يقبل ذلك منهم، وإن لم يكونوا عنده بهذه (2) الصفة، وكانوا في بُعْدٍ من دار الإسلام، وبحيث إن شاؤوا بعد قفول الجيش عنهم مَنعوا جِزيتهم، وعادوا حرباً؛ فلا يقبل ذلك منهم، حتى ينتقلوا من دارهم تِلك إلى دار الإسلام، فإن أجابوا إلى ذلك وإلا فالسَّيْف. قال: وهكذا سمعت مُطرِّفاً، وابنَ الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصْبَغَ يقولون. قال عبد الملك: وهذا تفسير قول مالكٍ؛ قد قال مالك محمّلاً كل قومٍ من العدوّ دعوا إلى الجزية حين أحيط بهم، فإنهم إن كانوا بموضعٍ يقدر عليهم المسلمون إنْ نزعوا، قُبِلَ ذلك منهم، وأُقِرُّوا في بلادهم، وإن كانوا بموضعٍ إن   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/341) . وانظر: «البيان والتحصيل» (3/64) ، فقد ذكر نحو الكلام الآتي عن ابن وهب. (2) وضعت كلمة (بهذه) في المنسوخ بين معكوفتين، وكتب الناسخ في الهامش: ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 نزعوا لا يُقدرُ عليهم إلا بمؤنة، فإنه لا يُقبلُ منهم ما دَعوا إليه، إلاَّ على الارتحال مع المسلمين، وتَخْلِيَةِ بلادهم. ومن الشروط على أهل الجزية: أخذهم السنة (1) بالمنع والكفِّ عن تناول شريعة المسلمين ومِلَّتهم، وتوَقِّي ما يقدح في شيءٍ من أمور دينهم بشيءٍ من المَعابةِ والطَّعن والاستخفاف، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير ما يحِقُّ له، ولو لم يُقرُّوا بصحة ذلك، ومنعهم (2) من الدعاء لدينهم، والإعلان بمعالم شرعهم في أمصار المسلمين: من ضربِ النواقيس، وبناء الكنائس، ومجتمع الصلوات، وإظهار الصَّليب ونحو ذلك. ومن ذلك: منعهم من الإفصَاحِ والإعلان بشرْكِهم، وما يَنحلُون لله من الصاحبة والولد، تعالى الله عن قولهم عُلوّاً كبيراً. ومن ذلك: منعهم من إظهار ما يستبيحونه من شرب الخمور، ومواقعة الفجور، وغير ذلك، مِمَّا لا يحل للمسلمين -مع الاطلاع عليه- إقراره. ومن ذلك: أن تجري عليهم أحكام المسلمين متى دعاهم إلى ذلك خَصْمٌ، أو متى ظهَرَ منهم ظلم. هذه كلها شروطٌ واجبةٌ لا ينبغي إسقاطُها، ولا تَرْكُ العمل بشيءٍ منها، ولا تحلُّ إجابةُ الكفار إلى أن يشترطوا إسقاط ذلك عنهم أو شيءٍ منه، ولا يجب الوفاء لهم به إن التزمه لهم من يَعقد على المسلمين، مِمَّن لعلَّه يجهل ذلك. والدليل على صحة هذه الجُمْلة: قولُ الله -عز وجل-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140] ، وقوله -تعالى-: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] ، وقوله -تعالى-: {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] ، وقوله -تعالى-: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى   (1) فوق كلمة (السنة) علامة استفهام، وكأن الناسخ شك في صحة رسمها على هذا الوجه!. (2) في هامش المنسوخ بعدها: «التبشير» . فتصبح العبارة: «ومنعهم التبشير من الدعاء لدينهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ، وقوله -تعالى-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] . وفي حديث ابن عباس المتقدم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصلحِ قبلتان في أرضٍ واحدة» (1) ، فهو يتضمَّن منعهم من إظهار دينهم بحضرة المسلمين، وفي أمصارهم. وأيضاً: فقد أوجب الله -تعالى- قتل الكفار وقتالهم؛ لإعلاء كلمة الله، وحتَّى يدخلوا في الإسلام، فإنما (2) استثنى -تعالى- في الجزية الكفَّ عن قتالهم على الإسلام، فهم بأداء الجزية يُكفُّ عنهم في ذلك خاصة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 39] ، كما قال -تعالى-. وأمَّا أن يباح لهم الاعتلاء بإظهار كفرهم وباطلهم، والتَّبسُّط بما ينافي كتاب الله -تعالى- ودينَه الحق، فذلك لم يستثْنِه الله -تعالى- لهم قط (3) . {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] . وقال قوم من أهل العلم (4) في قوله -تعالى-: { ... وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] : أن يُجْرَى عليهم حُكمُ الإسلام، وأن لا يُظهروا شيئاً من كفرهم، ولا مِمَّا يَحْرُمُ في دين الإسلام (5) .   (1) مضى تخريجه. (2) كذا، ولعلّ صوابها: وإنّما. (3) أثبتها الناسخ: «فقط» ، ووضع فوقها علامةً تشير إلى أنها هكذا في الأصل. (4) هو الإمام الشافعي -رحمه الله- فيما نقله عنه البغوي في «معالم التنزيل» (3/33) ، وقبله السمعاني في «تفسيره» (2/301-302- ط. دار الوطن) ، وقال: وهذا معنىً حسن، وذكر هذا القول -ضمن عدَّة أقوال-: ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» (3/286) ، ولم ينسبه، ثم وجدته في «الأم» للشافعي -رحمه الله- (4/219) . (5) وسيأتي -قريباً- الاختلاف في معنى الصَّغار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وفي كتاب عمر -رضي الله عنه- الذي كتبه له عبد الرحمن بن غنم، حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه: أن لا يُحدثُوا في مدينتهم، ولا ما حولها دَيْراً، ولا كنيسةً، ولا صومعةَ راهبٍ، ولا يُجَدِّدوا ما خربَ منها، ولا يُعلِّموا أولادهم القرآن، ولا يُظهروا شِرْكاً، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن لا يُظهروا صليباً، ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيّاً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيءٍ من حضرة المسلمين، ولا يبيعوا الخمور، في أشياء غير هذه، مما شرط عليهم في كتابه ذلك، وقال في آخرها: فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه؛ فلا ذمَّة لهم، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يحلُّ من أهل المعاندة والشِّقاق (1) .   (1) أخرجه الخلال في «الجامع» (رقم 1000) بإسناد ضعيف. ولكن للشروط العمرية طرقٌ كثيرة مشتهرة، جمعها القاضي أبو محمد بن زبْر في «جزء» جمعه في هذه الشروط. وقد نقلها عنه الحافظ ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/488- وما بعدها) بأسانيد صحيحة. وأخرجه ابن حزم في «المحلّى» (7/346) من طريق سفيان الثوري، عن طلحة بن مصرف، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم، به. وقال الونشريسي في «المعيار المعرب» (2/238) : «وقد ذكر -أيضاً- هذه القضية من أئمة الحديث أبو عبيد، واعتمد عليها الفقهاء من أهل كل مذهب في الأحكام المتعلقة بأهل الذمة؛ فقد ذكرها من المالكية شيخ الإسلام أبو بكر الطرطوشي في «سراج الملوك» ، والشيخ الإمام أبو عبد الله بن المناصف في كتابه «الإنجاد» ، والحافظ ابن خلف الغرناطي في «تنبيه ذوي الألباب على أحكام خطة الاحتساب» ، وذكر بعضها المحدث أبو الربيع بن سالم الكلاعي في كتابه «الاكتفاء» ، وذكرها من الشافعية: ابن المنذر وابن بدران، ومن الظاهرية ابن حزم، وغيرهم» . قال: «وسُقناها تامّةً لاعتماد العلماء عليها، حيثما تكلموا على فصل من فصولها» . وقال ابن القيم في «أحكام أهل الذمة» (3/1164) : «إن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها» . وقد فصّل -رحمه الله- في شرحها شرحاً وافياً شافياً. فليراجع هناك. وانظر: «مجموع الفتاوى» (28/652) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، و «تفسير ابن كثير» (4/91-92-ط. المكتبة التوفيقية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 قال عبد الملك بن حبيب (1) : قال لي مُطرِّفٌ وابنُ الماجشون وأصبغُ: إذا كان أهل ذمةٍ منقطعين عن دار الإسلام وحريمه، ولم يكن المسلمون معهم في موضعهم ذلك، فلهم إحداث الكنائس، ورَمُّ كنائسهم القديمة، والزيادةُ فيها، اشترطوا ذلك أو لم يشترطوه، ولا يُمنعوا من إدخال الخمر إليهم، ولا مِن كَسْب الخنازير عندهم، وإن كانوا في بلد المسلمين، أو في حريمه وعمله، أو في قريةٍ من قراهم، قد سكنها المسلمون معهم؛ مُنِعُوا من ذلك كُلِّه، فإن زعموا أنهم لا يريدون بيع الخمر من مسلم؛ لم يكن لهم إدخالها، لا سِرّاً ولا جهراً، ولا أن يحملوها من قرية إلى قرية، وما ظهر للإمام من خمرهم، فعليه أن يُهريقَها، ويَضْرِبَ حاملها، كان منهم أو من غيرهم، وإن خرج منهم سكران في جماعة المسلمين؛ كان عليه أن يضربه على ذلك، وكذلك إن أظهروا الخنازير في مواضع المسلمين؛ فعلى الإمام أن يأمرهم بعقرها، ويضربَ مُظهرها، ويُغَيِّب جيفهَا عنهم إذا عقرها، وكذلك يُمنعون من إظهار صليبهم في أعيادهم، أو في استسقائهم في جماعة المسلمين، فإن أظهروا؛ فعلى الإمام أن يأمر بكسرها، ويضربهم على إظهارها، قالوا: ولو اشترطوا في صلحهم رَمَّ كنائسهم القديمة، وُفِّيَ لهم به، ومُنِعُوا من الزيادة فيها، كانت ظاهرةً أو باطنة. قالوا: ولا ينبغي لإمام المسلمين أن يشترط لهم إحداث الكنائس، فإن جهل فَفَعل؛ مُنِعوا من إحداثها، ولا عَهدَ لأحدٍ في معصية الله -عز وجل-. قال ابن الماجشون (2) : إنما لهم بالشرط الرَّمُّ فقط. قال: وأما أهل العنوة فلا تترك لهم -عندما تُضْربُ عليهم الجزية- كنيسةٌ قائمةٌ إلاَّ هُدِّمت، ولا يُتركوا أن يحدثوا كنيسة، وإن كانوا معتزلين عن جماعة الإسلام؛ لأنهم كعبيد المسلمين، ولا شرط لهم يُوفَّى به، وإنما صار لهم عهدٌ حُرِّمت به دماؤهم حين أُخذت منهم الجزية.   (1) انظر: «النوادر والزيادات» (3/376) ، «الذخيرة» (3/458-459) ، «المعيار المعرب» (2/ 241-242) ، وذكر أن المصنف -رحمه الله- أورده في «الإنجاد» . (2) نحوه في «النوادر والزيادات» (3/376) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وقال الشافعي (1) : «ينبغي للإمام أن يُحدِّد بينه وبين أهل الذمة جميع ما يعطيهم ويأخذ منهم، فيسمي الجزية، وأن يؤدوها على ما وُصِفت -يعني: من الصَّغار- وعلى أن يُجرى عليهم حكم الإسلام إذا طالبهم به طالبٌ، أو أظهروا ظلماً لأحد، وعلى أن لا يُذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بما هو أَهلُه، ولا يطعنوا في دين الإسلام، ولا يعيبوا من حكمه شيئاً، فإن فعلوا؛ فلا ذِمَّة لهم، ويأخذ عليهم أن لا يُسْمِعوا المسلمين شركهم، وقولهم في عُزيرٍ وعيسى، فإن وجدهم فعلوا بعد التقدّم في عزيرٍ وعيسى إليهم، عاقبهم على ذلك عقوبة لا تبلغ حدّاً، وأن لا يُكرهوا أحداً على دينهم، إذا لم يُرِدْه من أبنائهم ولا رقيقهم ولا غيرهم، وعلى أن لا يُحدثوا في مصرٍ من أمصار المسلمين كنيسةً، ولا مُجتمعاً لصلاتهم، ولا ضرب ناقوسٍ، ولا حملَ خَمْرٍ، ولا إدخال خنزير، ولا يُعذِّبوا بهيمة، ولا يقتلوها صبراً -يعني: إلاّ ما كان ذبحاً مما يوافق الشرع-، وأنْ لا يدخلوا مسجداً، ولا يبايعوا مسلماً بَيْعاً يحرم في الإسلام، ولا يُسقوا مسلماً خمراً، ولا يطعموه محرماً: من لحمِ خنزيرٍ ولا غيره، ولا يُظهروا الصليب، ولا الجماعات في أمصار المسلمين» . قال: «وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين، لم يمنعهم إحداث كنيسةٍ، ولا يَعرض لهم في خنازيرهم وخمرهم وأعيادهم وجماعتهم» . قلت: وأمَّا ما يشترط بعد ذلك عليهم من تغيير الزِّيِّ والملبس، والهيئة في المركب، والمنع من التشبه بالمسلمين في مثل ذلك، فقد يكون هذا من المُستحبِّ غير الواجب؛ لأن ذلك كلَّه ليس فيه قدحٌ في الدين، ولا تَنَقُّصٌ على المسلمين، لكن في أخذهم بذلك زيادة الإعظامِ، والحرمة لأهل الإسلام. فمما روي من هذا النوع عن عمر -رضي الله عنه-، أنه كان في شروط كتابه في صُلح نصارى الشام، وكتب به إلى أمراء الأجناد، يأمرهم أن يختموا في   (1) في كتابه «الأم» (4/218-ط. دار الفكر، أو 5/493- ط. دار الوفاء) (باب تحديد الإمام ما يأخذ من أهل الذمة في الأمصار) ، ونقله عنه برمّته: ابن المنذر في «الأوسط» (11/18-20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 رقاب أهل الجزية بالرصاص، ويصلحوا مناطقهم، ويجزُّوا نواصيهم، ويركبوا على الأُكُفِ عَرْضاً، ولا يدعوهم يتشبهوا بالمسلمين في ركوبهم (1) . قال أبو عبيد (2) في قوله: «مناطقهم» ، يعني: الزنانير. قلت: وإنما يريد: أن يُظهروها، ويَشُدُّوا أوساطهم بها؛ ليتبيَّن الذِّمِّي من غيره. وكذلك وقع مفسراً في الكتاب الذي كتبه عبد الرحمن بن غَنم: وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم (3) . وأما قوله: «ويركبوا على الأُكُفِ عَرْضاً» ، والأكُف جمع إكاف، ويقال: وِكافٌ -أيضاً-: وهو الأداة التي يركب عليها غيرُ السَّرج (4) . ومعنى قوله: «عَرضْاً» : هو أن يردَّ وجهه في ركوبِه إلى جانب الدَّابَّة، ولا   (1) رواه أبو عبيد في «الأموال» (ص 66-67 رقم 137) -وعنه ابن زنجويه في «الأموال» (رقم 214) - عن عبد الرحمن، والخلال في «جامعه» (رقم 992- «أحكام أهل الملل» ) من طريق يحيى بن السّكن؛ كلاهما عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم -مولى عمر-، عن عمر -رضي الله عنه-، وسقط من مطبوع «الأموال» لأبي عبيد ذكر (عبد الرحمن) . وأخرجه عبد الرزاق -بأطول منه- في «المصنف» (6/85 رقم 10090 و10/331 رقم 19273) عن عبد الله بن عمر، به. وأخرجه البيهقي (9/195) من طريق عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر (وفي نسخة: عبد الله بن عمر) به، نحوه. وأخرجه (9/198) من طريق عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، به، نحوه. ولعلَّ (عبيد الله) تصحيف من (عبد الله) ، لأن من أخرج أصل الحديث بهذا اللفظ نصَّص على (عبد الله) ، وعبد الله ضعيف. انظر: «التقريب» . وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (11/16-17) لكن من طريق عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمرو، عن عمر، نحوه. (2) في «الأموال» (ص 67) ؛ ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/17) . (3) كما عند ابن حزم في «المحلّى» (7/346) ، وقد مضى تخريجه قريباً. (4) انظر: «القاموس المحيط» (3/174- ط. دار إحياء التراث العربي) ، «لسان العرب» (9/8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 يستقبلها في جلوسه عليها، فتكون رجلاه كلاهما في شِقٍّ، والله أعلم. وقد روي عن جماعة من أهل العلم (1) نحو ما رُوي عن عمر -رضي الله تعالى عنه-، في أخذهم بما يتميزون به عن المسلمين في الهيئات والأحوال (2) .   (1) روي -أيضاً- عن عمر بن عبد العزيز. انظر: «الأوسط» (11/17) ، «الأموال» لأبي عبيد (ص 67) . (2) ذكر ابن القيم في «إعلام الموقعين» : (6/97-98 - بتحقيقي) (فيما يجب على المفتي عند الجواب) تحت (الفائدة الثامنة عشرة) من عدم إطلاق الجواب إذا كان في المسألة تفصيل، ومثّل على ذلك بما وقع في زمانهم. وذكر هذه المسألة، قال -رحمه الله تعالى-: «فلا إله إلا الله، كم هاهنا من مزلة أقدام، ومحل أوهام، وما دعا محقٌّ إلى حق إلا أخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الإنس في قالب تنفر عنه خفافيش البصائر وضعفاء العقول، وهم أكثر الناس، وما حذر أحد من باطل إلا أخرجه الشيطان على لسان وليه من الإنس في قالب مزيّف مزخرف يستخفُّ به عقولَ ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له، وأكثر الناس نظرهم قاصر على الصور، لا يتجاوزها إلى الحقائق، فهم محبوسون في سجن الألفاظ، مقيّدون بقيود العبارات، كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112-113] . وأذكر لك من هذا مثالاً وقع في زماننا، وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير عمائمهم، وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وَعَظُمَ عليهم، وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإسلام وإذلال الكفرة ما قرّت به عيون المسلمين، فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوّروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغيار، وهي: ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة أُلزموا بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف، فحصل لهم بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات، وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع، وآذوهم غاية الأذى، فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم؟ فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول، وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يُعرفون بها؟ وهل في ذلك مخالفة للشرع أم لا؟ فأجابهم من مُنِع التوفيق، وصُدّ عن الطريق بجواز ذلك، وأن للإمام إعادتهم إلى ما كانوا عليه، قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلت: لا تجوز إعادتهم إلى ما كانوا عليه، ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيّروا الفتوى، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا، ثم أتوا بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المَعْنِيَّة، إن خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان وتكلّم عنده بكلامٍ عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم ولله الحمد. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 مسألة اختلف أهل العلم في الجزية كيف تُجبى؟ لقوله تعالى: { ... عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فروي عن ابن عباس أنه قال: يمشون بها مُلَبَّبين (1) ، وقال قتادة: عن يدٍ: عَن قَهْرٍ، وعنه -أيضاً-: يعطونها نقداً، يقول: عن ظهر يدٍ،   = ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى، فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوّروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف في الجامع، وأخرجوها في قالب حسن، حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه، وسبحان الله! كم تُوصِّل بهذه الطريق إلى إبطال حق وإثبات باطل! وأكثر الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال، وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم، ولا قريباً من ذلك، فالله المستعان» . ا. هـ كلامه -رحمه الله تعالى-. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (14/16) أحداث سنة (700 هـ) ما نصه: «وفي يوم الإثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة، وألزموا بها، واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد، وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصّفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير، وتميّزوا عن المسلمين» ، وانظر: «أحكام أهل الذمة» (3/1295- 1299- ط. الرمادي) ، و «تشبيه الخسيس» للذهبي (ص 191- ضمن مجلة «الحكمة» العدد الرابع- بتحقيقي) . (1) ذكره ابن الجوزي في «تفسيره» (3/286) . وقال: رواه أبو صالح، عن ابن عباس. قلت: أخرج روايته: ابن المنذر في «الأوسط» (11/15) قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن أبي بكر، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف. فأبو صالح اسمه: باذام، أو: باذان. مولى أم هانئ، ضعَّفه جماهير أهل العلم، وقال الحافظ في «التقريب» (634) : ضعيف يرسل. ومروان بن معاوية، مع أنه ثقة حافظ، إلاّ أنه كان يدلِّس أسماء الشيوخ. كما في «التقريب» (6575) . ولم يتبيّن لي اسم شيخه. ويحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن، الحِمَّاني -بكسر المهملة، وتشديد الميم- قال الحافظ في «التقريب» (7591) : حافظ. إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث. أما شيخ ابن المنذر، فهو موسى بن هارون بن عبد الله الحمَّال، أبو عمران البزَّاز: ثقة، حافظ كبير، بغدادي. كما في «التقريب» (7022) . فالأثر ضعيف. وأشار إلى ذلك الطبري عند تفسير الآية، قال: «أي: عن أنفسهم بأيديهم، يمشون بها، وهم كارهون» ، ثم قال: «وذلك قول روي عن ابن عباس من وجهٍ فيه نَظَر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 ليس بنسيئة (1) . وقال أبو عبيدة (2) : كل من انطاع لمن قد قهره، فأعطاه عن غير طيب نفس؛ فقد أعطاه عن يدٍ. وقال الشافعي (3) : سمعتُ عدداً من أهل العلم يقولون: الصَّغار: أن يُجْرَى عليهم حكم الإسلام. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يعجبه أن يَتْعَبَ أهل   (1) تفسير قتادة لمعنى {عَن يَدٍ} ، أي: قهر. أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/1780 رقم 10036) من طريق معمر، عن قتادة. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (4/168) إلى أبي الشيخ في «تفسيره» ، وقال به السُّدِّي. وقال الزجاج: عن قهر وذل. وذكر ابن الجوزي في «تفسيره» (3/286) القول بأنهم يعطونها نقداً عاجلاً، ونسب هذا القول إلى شريك، وعثمان بن مقسم، وذكر أبو عبيد هذا القول، ولم ينسبه. وانظر: «معالم التنزيل» للبغوي (3/32) ، «تفسير السمعاني» (2/301) ، «الأموال» (67-68) . (2) في كتابه «مجاز القرآن» (1/256) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/15) . وانظر: «المعيار المعرب» (2/250) فقد ذكر أن المصنف ذكره عن الشافعي -رحمه الله-. (3) في كتابه «الأم» (4/219) (باب ما يعطيهم الإمام من المنع من العدو) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/15) . وذهب إليه ابن حزم في «المحلّى» (7/346 المسألة رقم 959) . ولذا، لما ذكر ابن القيم -رحمه الله- في «أحكام أهل الذمة» (1/120-121) الاختلاف في معنى الصَّغار الذي يكونون عليه وقت أداء الجزية، وقال عن عكرمة: يدفعها وهو قائم، ويكون الآخذ جالساً، وذكر عن غيره: أنه يأتي بها بنفسه ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها، ويُجَرُّ إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف، ثم تُجَرُّ يده ويُمْتَهن. قال بعد هذا كله: «وهذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك» . ثم قال: «والصواب في الآية أن الصَّغار: هو التزامهم بجريان أحكام الملَّة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار» . قلت: وقد بوّب أبو عبيد في كتابه «الأموال» (ص 53) لهذه المسألة باباً خاصاً، سمّاه (باب اجتباء الجزية والخراج، وما يؤمر به من الرفق بأهلها، وينهى عنه من العنف عليهم فيها) . ثم ساق أحد عشر حديثاً؛ مدلِّلاً على قوله هذا. انظر الأحاديث (110-120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 الجزية إذا أخذت منهم (1) ، قال أبو عبيد (2) : «لم يُرِدْ سعيدٌ فيما نرى بالإتعاب تَعْذيبَهم، ولا تَحْميلَهم فوق طاقتهم، ولكنه أراد أن لا يعاملوا عند طلبها منهم بالإكرام لهم، ولكن بالاستخفاف بهم» ، قال: «وأحسبه تأوَّل قول الله -تعالى-: { ... حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] » . واتفق أهل العلم على أنه لا ينبغي إرهاقهم وجهدهم، وأنَّ الرِّفق بهم -إذا وفَّوا بشروط الجزية- أَوْلَى. قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90] . وخرَّج مسلم (3) ، عن عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله رفيق يحبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يعطي على [ما] سواه» . وخرَّج أبو داود (4) عن عائشة: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عائشة، ارفقي! فإن الرِّفقَ لم يكن قطُّ في شيءٍ إلا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ قطُّ إلا شانَه» . وفي البخاري ومسلم (5) ، عن سعيد بن أبي بُردة، عن أبيه، عن جده، أن   (1) أخرجه أبو عبيد في «كتاب الأموال» (ص 67 رقم 140) عن علي بن معبد، عن عبيد الله ابن عمرو الرَّقي، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد، به، ورجاله ثقات. (2) في كتابه «الأموال» (ص 67) . (3) في «صحيحه» في كتاب البر والصلة والآداب (باب فضل الرِّفق) (2593) (77) . (4) في «سننه» في كتاب الأدب (باب في الرفق) (رقم 4808) ، وفي أوله: أن شريحاً سأل عائشة -رضي الله عنها- عن البداوة؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدو إلى هذه التلاع، وإنه أراد البداوة مرَّةً، فأرسل إليَّ ناقةً محرَّمةً من إبل الصدقة، فقال لي: يا عائشة، ... الحديث. وأخرج الشقَّ الثاني منه: مسلم في «صحيحه» (2594) (78) . قال أبو داود: قال ابن الصبَّاح [وهو أحد رواة الحديث] في حديثه: مُحرَّمة: يعني: لم تُرْكَبْ. (5) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب ما يكره من التنازع، والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه) (رقم 3038) . وأخرج نحوه في عدة مواطن (رقم 4341، 4344، 4345، 6124، 7172) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير) (1733) (7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، فقال: «يَسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا» . مسألة بوَّب الترمذي (باب: ما يحل من أموال أهل الذمة) ، وأسند إلى عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، إنّا نَمُرُّ بقومٍ، فلا هم مضيفوننا، ولا هُم يؤدّون ما لنا عليهم من الحق، ولا نأخذ منهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ أبوا إلا أن تأخذوا كرهاً فخذوا» (1) . قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن. قال: «وإنَّما معنى هذا الحديث: أنهم كانوا يخرجون في الغزو، فيمرُّون بقومٍ، ولا يجدون من الطعام ما يشترون بالثمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبوا أن يبيعوا، إلاَّ أن تأخذوا كرهاً فخذوا» . قال: «وهكذا رُوي في بعض الحديث مُفسَّراً (2) ، وروي عن عمر بن الخطاب، أنه كان يأمر نحو هذا» (3) .   (1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 1589) من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، به، بهذا اللفظ. قلت: في هذا الإسناد ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ. خَلَّطَ بعد احتراق كتبه -كما قال الحافظ في «التقريب» -. فحديثه ضعيف، لا سيما وقد خالف في سياقه الليث بن سعد -وهو ثقة حافظ-. فقد أخرج حديثه البخاري في «صحيحه» في كتاب المظالم والغصب (باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه) رقم (2461) ، وفي كتاب الأدب (باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه) (رقم 6137) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب اللقطة (باب الضيافة ونحوها) (1727) (17) ، وغيرهما. وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن نزلتم بقومٍ، فَأُمِرَ لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حقَّ الضيف» . فأصل الحديث صحيح. انظر: «الإرواء» (رقم 2524) . (2) ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» (5/108) كلام الترمذي هذا، وحمله على من طلب الشراء محتاجاً، فامتنع صاحب الطعام، فله أن يأخذه منه كرهاً. ولم يتعقبه. ولم يذكر من أخرج الرواية التي فيها الامتناع عن البيع. (3) أخرجه ابن زنجويه في كتاب «الأموال» (1/370 رقم 597) من طريق موسى بن عقبة، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وفي كتاب «الأموال» (1) لأبي عبيدٍ، مسنداً إلى صعصَعة، قال: سألت ابن عباسٍ فقلت: إنّا نسير في أرض أهل الذِّمَّة، فنُصيب منهم؟ قال: بغير ثمن؟ قلت: نعم، بغير ثمن، قال: فما تقولون؟ قال: قلت: حلالٌ لا بأس به، فقال: أنتم تقولون كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} !! [آل عمران: 75] . ففي قول ابن عباسٍ هذا بيانٌ أنه لم يُرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوه بغير ثمن، لكن إذا منعوهم البيع، وبالناس حاجة إليه، أخذوا ذلك كَرْهاً بقيمته، والله أعلم. فصل والواجب لأهلِ الذِّمَّة إذا التزموا ما وجب عليهم من ذلك: الوفاءُ بالأمان، والحمايةُ ممن أرادهم بِعُدوان، ولهم بذلك على المسلمين عهدُ الله وذمَّتُه؛ لا تَحِلُّ دماؤهم، ولا أموالهم، ولا أبشارهم، ولابغيٌ عليهم في وجه من الوجوه، ما لم يُحْدِثوا حَدَثاً، ويحملون في مالهم، وعليهم من الحقوق على القسط والعدل الذي كتبه الله -تعالى- على المسلمين. قال الله -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91] ، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن   = عن نافع قال: سمعت أسلم يحدث ابن عمر: أن أهل الذمة من أهل السواد أتوا عمر، فقالوا: إن المسلمين يكلّفونا في ضيافتهم؛ إذا نزلوا ذبح الغنم والدجاج! فقال عمر: أطعموهم من طعامكم الذي تأكلون أنتم، لا تزيدوهم عليه. قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وأخرجه -أيضاً- (رقم 155) من طريق أيوب، عن نافع به، مطولاً. وأخرجه عبد الرزاق (6/88 و10/329- مطولاً) ، وأبو عبيد (رقم 45- مختصراً) ؛ كلاهما من طريق أيوب، به. وانظر: «أنساب الأشراف» (ص 265- ترجمة الشيخين) . (1) «الأموال» (ص 197 رقم 415) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] ، وقال -تعالى-: {وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ، وقال -تعالى-: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] . القاسط: الجائر. وقد قَسَطَ يُقْسِطُ: إذا جار. والمُقْسِطَ: العادل. وقد أقسط، يُقْسِطُ: إذا عَدَل. وأسند أبو بكر بن المنذر (1) إلى عمر بن الخطاب أنه قال (2) في وصيته عند موته: «أوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا، وأوصيه بذمة الله -عز وجل-، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - خيراً: أن يُقاتل من ورائهم، وأن لا يُكَلَّفُوا فوق طاقتهم» . وذكره البخاري (3) بنحو ذلك، وزاد: أن يوفى لهم بعهدهم. وخرَّج أبو داود (4) عن صفوان بن سُليم، أخبرَ عن عِدَّةٍ من أبناء أصحاب   (1) في «الأوسط» (باب ذكر ما يجب من حياطة أهل الذمة، ومنعهم مما يجب منه منع المسلمين (11/240 رقم الأثر 6642) ، وأخرجه أبو عبيد في «الأموال» (168 رقم 334) ؛ كلاهما من طريق عمرو بن ميمون، عن عمر. وقوله: «أوصي الخليفة بكذا وكذا» ، قد جاء مفسراً في بعض الروايات: فقد أخرج البلاذري في «أنساب الأشراف» (264- «أخبار الشيخين» ) من طريق أخرى، عن عمرو بن ميمون، به، قال: «أوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار، فإنهم جباة المال، وغيظ العدو، وردء المسلمين، أن يقسم فيهم بالعدل، ولا يحمل من عندهم فضل، إلا أن تطيب به أنفسهم ... » . وانظر: «الخراج» ليحيى بن آدم (رقم 232، 236) ، «الخراج» لأبي يوسف (21، 72- ط. بولاق، أو 44، 105- ط. سلفية) ، «طبقات ابن سعد» (3/336، 339) ، «تاريخ المدينة» لابن شبَّة (3/937) ، مناقب عمر (220) . (2) في الأصل: كان، وكتب الناسخ فوقها: كذا. (3) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يُسترَقُّون) (رقم 3052) . وأخرجه في عدة مواطن (رقم 1392، 3700، 4888) من حديث عمرو بن ميمون، عن عمر. (4) في «سننه» في كتاب الخراج (باب في الذمي يسلم في بعض السَّنة، هل عليه جزية؟) (رقم 3052) من طريق ابن وهب: حدثني أبو صخر المديني، عن صفوان بن سليم، به. قلت: أبو صخر المديني، وهو: حُميد بن زياد، وهو من رجال مسلم، تكلِّم فيه، ولا ينزل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن آبائهم -دِنْيَةً- (1) ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصهُ، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذَ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة» . مسألة إذا أحدث أهل الذمة حدثاً يخالف شيئاً مما أخذ عليهم في عهدهم من كافة ما ذكرنا، أنهم يؤخذون به، ويُشترط عليهم في العقد؛ فذلك على ضربين: منه ما يُعَدُّ نقضاً لعهدهم، ومنه ما يستوجبون به عقوبة دون نقض العهد. فالذي يُنتقضُ به عهدُهم على وجهين: منه ما يستباحون به في النفوس والأموال، من غير تقدمٍ في ذلك إليهم، إلا مواثبةً واغتيالاً، وذلك مثل أن يبتدئوا بقتال، هذا ما لا خلاف فيه، ومنه ما فيه خلاف: هل يغتالون؟ أو يُنبَذُ إليهم عهدهم، ويلحقون بمَأْمنهم، ثم يحاربون؟ وذلك بعد (2) أن يمنعوا الجزية، أو يتمردوا عن الأحكام، ويمتنعوا من الإجابة إليها، لا خلاف في هذه الثلاثة: أن لكلِّ واحد منها حكم النقض؛ لأنها تنافي عقد الذمة، فلا يصح مع واحدٍ منها.   = حديثه عن مرتبة الحسن. وقال شخينا الألباني -رحمه الله-: «وهذا إسناد حسن، رجاله موثوقون، غير أبناء الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم لم يُسَمَّوا، ولكنهم جمع تنجبر به جهالتهم. كما قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 392 رقم 1044) . ولذلك قال: «لا بأس بسنده» . وسبقه إلى ذلك الحافظ العراقي، فقال: «وإسناده جيد، وإن كان فيهم من لم يُسمَّ، فإنهم عدَّة من أبناء الصحابة، يبلغون حدّ التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة» . نقله ابن عرَّاق في «تنزيه الشريعة» ؛ وأقره» . ا. هـ كلام الشيخ -رحمه الله-. وأخرجه البيهقي في «الكبرى» (9/205) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، به. وفيه: عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... وقال السخاوي: «وله شواهد أفردتها في «جزء» » . (1) دِنيَةً، قال السيوطي: «بكسر الدال المهملة، وسكون النون، وفتح الياء المثناة التحتية» . والمعنى: لاصقي النَّسَب. وانظر: «عون المعبود» (8/304) . (2) كتب الناسخ في الهامش: «بالأصل غير واضحة، فلعلها كذلك، أو: دون أن ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 واخْتُلِفَ إنْ ذكروا الله -عز وجل- أو كتابه، أو رسوله، أو دينَه بما لا ينبغي؛ فقيل: حكم ذلك في انتقاض العهد به حكم الثلاثة المتقدمة؛ لأنه طعن في الدين، وقيل: حكمه حكم ما فيه ضرر على المسلمين، كما لو زنى بمسلمة، أو أصابها باسم نكاح، أو فتَنَ مسلماً عن دينه، أو قطع عليه الطريق، أو دَلَّ على عورات المسلمين، أو آوى عيناً لأهل الحرب، أو قتل مسلماً؛ هذه سبعةٌ في كلها خلاف: هل يُنتقضُ به العهدُ أو لا يُنتقض؟ فقيل فيمن زنى بمسلمة، أو دلَّ على عورات المسلمين، أو فتن مسلماً عن دينه ودعاه إلى كفره: أنَّ كل واحدٍ من هذه الثلاثة انتقاض عهد؛ لأنه إضرار بالمسلمين، وقيل: لا يُعَدُّ انتقاضاً؛ لأنه لا ينافي عقد الذِّمَّة، ولا يتَضمَّنُ طعناً في الدِّين، وهو من الحدث الذي يعاقبون عليه. وفرَّق قوم بين أن يكون شرطَ عليهم في العقد الانتقاض بفعل هذا ونحوه، أو أن لا يكون اشترط وقوعه نقضاً، فلا يلزم، ويُعاقبُ فاعله. وفرَّق بعضهم في الزِّنى بين أن يغْتَصِبَ المسلمة، فيُعدُّ ذلك نَقْضاً، أو يكون طوعاً منها، فَيُضرب ضرباً موجعاً. وروي عن عمر بن الخطاب، أن نصرانياً نَخَس بغلاً عليه امرأةٌ مسلمةٌ، فوقعت، فانكشفت عورتها، فكتَبَ: أن يُصلب في ذلك الموضع، وقال: إنما عاهدناهم على إعطاء الجزية عن يدٍ وهم صاغرون (1) . وإنما فعل ذلك عمر؛ لأنَّ الذِّمِّيَّ كان   (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/114 رقم 10167 و10/314 رقم 19216، و363 رقم 19378) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/201) ، وأبو يوسف في «كتاب الخراج» (178) ، وأبو عبيد في «الأموال» (235 -236 رقم 486 و487) ، وابن زنجويه في «كتاب الأموال» (1/435 رقم 708) ، والخلال في «أحكام أهل الملل» (267 رقم 764) ، من طرقٍ عن مجالد عن الشعبي، عن عوف بن مالك الأشجعي، أن رجلاً يهودياً أو نصرانياً، نخس بامرأة مسلمة ... وفيه قصَّة. وفي بعض طرقه ذكر سويد بن غفلة بين الشعبي وعوف بن مالك، وقال البيهقي -وقد أخرجه من طريق مجالدٍ عن الشعبي- قال: تابعه ابن أشوع عن الشعبي، عن عوف بن مالك. قلت: ومجالد وهو ابن سعيد بن عمير الهَمداني، أبو عمرو الكوفي. قال الحافظ في «التقريب» (6478) : ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 تعمَّد إيقاعها والتكشف عليها؛ رُوي ذلك مفسراً في بعض القصة. وكذلك قال قومٌ في قطع الطريق، وفي القتل الموجب مثله للقصاص بين المسلمين: أنَّ كل ذلك يُعَدُّ نقضاً من فاعله. وقال قوم (1) : لا يُعدُّ نَقْضاً، وإنما فيه إجراء حكم المسلمين عليه في حَدِّ الحرابة والقتل. وقال الأوزاعيُّ (2) فيمن آوى عيون أهل الحرب، أو خبَّر بعورة المسلمين: ذلك نقضٌ، فإن شاء الوالي قتَلَهُ، وإن شاءَ صلبَه. ونحوه يُروى عن بعض المالكية (3) ، ولم يره الشافعي وأبو حنيفة (4) نقضاً، وقال الشافعي (5) : يُعَزَّرُ ويُحبسُ عقوبة.   = وابن أشوع، اسمه: سعيد بن عمرو بن أشْوعَ الهَمداني. قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2368) : ثقة، رمي بالتشيع. ومتابعة ابن أشوع -هذه - من طريق إسماعيل ابن علية، عن خالد الحذاء، عنه، ذكرها الخلال في «أحكام أهل الملل» (رقم 763) عن أحمد. وأخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (1/434 رقم 707) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عمر. وهذا إسناد ضعيف. فالشعبي لم يدرك عمر، فهو منقطع. وانظر: «أحكام أهل الذمة» (3/1351، 1367) (1) وهم الحنفية. انظر: «الهداية» (2/456) ، «اللباب» (4/148) ، «البناية» (5/842) . قالوا: لأن الغاية التي ينتهي بها القتال: التزام الجزية، لا أداؤها، والالتزام باق. (2) نقل مذهبه ابن المنذر في «الأوسط» (11/283، 285، 328) . (3) انظر: «البيان والتحصيل» (2/536-537) ، «النوادر والزيادات» (3/352- 353) ، «أحكام أهل الذمة» (3/1374) . (4) وذلك على أصول مذهب الحنفية -كما مضى- أن غاية عدم قتالهم إلتزامهم الجزية، والالتزام باقٍ. انظر: «الهداية» (2/456) ، «اللباب» (4/148) ، «البناية» (5/842) . وانظر: «الأوسط» (11/286) . (5) في «الأم» في كتاب الحكم في قتال المشركين، ومسألة مال الحربي (باب المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين) (4/265-ط. دار الفكر) . ونقله عنه ابن المنذر في «الأوسط» (11/283، 285) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 وكلُّ ما ذكرنا مما فيه الخلافُ، هل يُعَدّ نقضاً أو لا؟ فالخلاف فيه إذا عُدُّ نقضاً: هل يُغتالُ، أو يُرَدُّ إلى مأمنه؟ والأرجح -إن شاء الله- في كل ما كان فيه طعنٌ في الدِّين، وكان مما لا يَدينون به في مِلَّتهم؛ أن يُعَدَّ ذلك نقضاً يُستباح فاعله، قال الله تعالى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 12] . فأمَّا إن كان مما يدينون باعتقاده، كقولهم في المسيح وعزيرٍ ونحو ذلك، فلم يجرِ مَجرى قصد الطّعن؛ فلا يدخل في ذلك، والله أعلم. وكذلك الأرجح فيمن فعلَ ما يُعدُّ نَقضاً أن يُغتال، ولا يجب رَدُّهُ إلى مأمنه؛ لأنه بعد نقضه العهد لمْ تَبقَ له حُرمةٌ فيه، ولا شُبْهَةُ حُرمةٍ يتعلَّقُ بها أمان، بخلاف من يتوقع منه خيانة وهو لم يفعل بعد، فذلك هو الذي يُنبذُ إليه، ويردُّ إلى مأمنِه، أوما كان في معناه، وكذلك فِعلُ عُمَرَ حين أمر بصَلبِ العلْج الذي تعمَّد كشف المرأة المسلمة، ورُوي مِثلهُ عن أبي عبيدة بن الجراح، أنّه قتل نصرانياً استكره مسلمة على الزِّنى، ولم يَردَّه إلى مأمنه (1) . ورُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلح أهل خيبر على أموالهم، وأن لا يكتموا منها شيئاً: أن الربيع وكنانة ابني أبي الحُقيق (2) كتماه بعضَ ذلك، قال ابن عباس: فقدمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضرب أعناقهما، قال:   = وعدَّه العمراني -من الشافعية- في «البيان» (12/324) نقضاً للعهد. وذكر في موطن آخر (12/387) الاشتراطَ في ذلك، فإن لم يُشْترط على أهل الذمة ذلك، فلا ينتقض. وانظر: «المجموع» (21/412، 413) . (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/115-116 رقم 10170 و10/364 رقم 19381) عن ابن جريج، قال: أخبرت أنّ أبا عبيدة بن الجراح، قتل كذلك رجلاً أراد امرأةً عن نفسها. والإسناد فيه مجهول، وهو الذي أخبر ابن جريج بهذه الحادثة. فهو ضعيف. وأخرج مثله عن أبي هريرة. ويغني عنه أثر عمر، وهو صحيح بطرقه. وانظر: «أحكام أهل الملل» (266 رقم 763) ، و «أحكام أهل الذمة» (3/1349) . (2) سقطت كلمة (أبي) من منسوخ أبي خبزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ثم بعث إلى ذريتهما، وأُتِيَ بصفيّة، ذكره ابن المنذر (1) . ورواه أبو عبيد في كتابه «الأموال» (2) ، عن علي بن مَعبد، عن أبي المليح،   (1) في «الأوسط» (11/329 رقم 6694) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقسم، عن ابن عباس، به، مطولاً، وفيه قصة. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/106-ط. مكتبة الخانجي) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به. وذكره الهيثمي في «المجمع» (6/152- 153) ، ثم قال: رواه الطبراني. وفيه محمد بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات. وللحديث أصل صحيح، أخرجه البخاري في عدة مواطن من «صحيحه» (رقم 4213) وغيرها، مطولاً، ومختصراً من حديث أنس -رضي الله عنه-، وليس فيه ذكر قتل ابني أبي الحُقَيْق. ووقع ذكر قتلهما عند أبي داود (رقم 3006) ، والبيهقي (9/137) بإسناد حسن، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وانظر: «دلائل النبوة» للبيهقي (4/229) ، «سيرة ابن هشام» (3/336- مؤسسة علوم القرآن) ، «مغازي الواقدي» (2/683، 4/208) ، «السيرة النبوية» لابن كثير (3/377) ، «شرح المواهب اللدنية» (2/139) ، «زاد المعاد» (3/325-326) . (2) في «الأموال» (ص 216 رقم 458) . وأخرجه عنه: ابن زنجويه في «كتاب الأموال» (1/410 رقم 676) ، والبلاذري في «فتوح البلدان» (ص 40) . وأخرجه البلاذري (ص 39) عن أبي عبيد به، مختصراً، مقتصراً على الخبر إلى قوله: «ثلاثين ليلة» . وهذا إسناد ضعيف؛ لإرساله. فميمون بن مهران مات سنة (117هـ) كما في «التقريب» (2/292) . وأخرجه أبو عبيد (ص 217 رقم 259) -وعنه ابن زنجويه (1/411 رقم 679) -، عن حجاج بن محمد، والبلاذري (ص 40) ، عن إسحاق بن أبي إسرائيل؛ كلاهما عن ابن جريج، عن رجل من أهل المدينة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح ابني أبي الحقيق على أن لا يكتموه كنزاً، فكتموه، فاستحلّ بذلك دماءهم. قلت: وهذا إسناد ضعيف، ففيه مجهول، ويستبعد كونه صحابياً؛ لأن ابن جريج من أتباع التابعين، ثم إنه مدلس، وقد عنعن هنا. وأخرجه ابن زنجويه (1/411 رقم 678) من طريق عبيد الله بن أبي زياد، عن مجاهد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم أمكني من بني أبي الحقيق في غير عهد ولا عقد ... » وفيه قصّة. وهو مرسل ضعيف. وعبيد الله بن أبي زياد -وهو القداح-، قال الحافظ في «التقريب» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 عن ميمون بن مهران، قال: حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر، ما بين عشرين ليلة إلى ثلاثين ليلةً، وإنَّ أهل الحصن أخذوا الأمان على أنفسهم، وعَلى ذراريهم، وعلى أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل شيءٍ في الحصن، قال: وكان في الحصن أهلُ بيتٍ، فيهم شدّةٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفُحشٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني الحُقيق (1) ، قَد عرفتم (2) عداوتكم لله ولرسوله، ثم لم يمنعني ذلك من أن أعطيكم ما أعطيت أصحابكم، وقد أعطيتموني أنكم إن كتمتم شيئاً، حَلَّت لنا دماؤكم. ما فَعَلت آنيتكم: فلان وفلان؟» . قالوا: استهلكناها في حربنا. قال: فأمر أصحابه، فأتوا المكان الذي فيه الآنية، فاستثاروها. قال: ثم ضُرِبت أعناقهم. فهذا كلُّه ليس في شيءٍ منه الرَّدُّ إلى المأمن، فلا يجب ذلك، والله سبحانه أعلم. وأما الضرب الثاني: وهو ما لا يُعدُّ من أفعال أهل الذِّمَّة نقضاً، وإنما يستوجبون به التعزير والعقوبة، فمثل: إظهار الخمر والناقوس، والإعلان بمعتقدهم في المسيح، وغير ذلك مما لا يباح لهم، وليس من أقسام الضرب الأول، التي هي مُنحصرة في ثلاثة معانٍ: ما يرجع إلى منافاةِ العقد، والطَّعنِ في الدِّين، والإضرارِ بالمسلمين. وزعمت الشافعية: أنّ هذا الضرب الثاني لا يُعدُّ نقضاً، وسواءٌ شُرِطَ عليهم الانتقاضُ بفِعله أو لم يُشترط، قالوا: وإنما يُحملُ اشتراطُ النَّقْضِ بمثل هذا على   = (4292) : ليس بالقوي. وأصل القصة صحيحة، ثابتة في «صحيح البخاري» (2328، 2329، 2331) ، ومسلم (1551) مختصرة، وهي مطولة عند ابن حبان (5199) ، والبيهقي (6/114) ، وفي «الدلائل» (4/ 229-231) بإسنادٍ رجاله ثقات، وقاله ابن حجر في «الفتح» (7/479) ، وصححه شيخنا الألباني في «تخريج أحاديث فقه السيرة» (273) . (1) كذا في الأصل، وفوقها علامة (صح) ، وفي هامش المنسوخ: «كذا قال الراوي، وإنما هم: بنو أبي الحُقيق» . وهو الموافق لما عند أبي عبيد في «الأموال» . (2) كذا في الأصل والمنسوخ، وفي مطبوع «الأموال» : عَرَفْتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 الإرهاب والتخويف، فلا يجب في ذلك على كلِّ حالٍ إلا التعزير (1) . فأقول: أما إذا لم يشترط عليهم الانتقاض به فهو ظاهر، وأما إن كان اشترط عليهم في عهدهم أنهم إن أظهروا شيئاً من ذلك؛ فلا ذِمَّة لهم، وقد عادوا بذلك حرباً، فالوجه: أنَّ ذلك على ما شُرِطَ، وهو ظاهر ما في كتاب عُمَر -رضي الله تعالى عنه- في عَقْدِهِ الذِّمة لنصارى الشام؛ لأنه قال في آخره، بعد أن ذكر فيه هذه الشروطَ المعدودةَ في الضَّربِ الثَّاني وغيرها: «فإن خالفوا شيئاً ممَّا شرطوه، فلا ذِمَّة لهم، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشِّقاق» (2) . ومما يدل على صحة هذا المذهب: ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل ابني أبي الحُقيق، وسَبي ذريتهما، حين شرط عليهما استباحة ذلك منهما إن كتماه (3) . وأيضاً؛ فإنَّ العهد الذي به حرم ذلك منهم، لم يتناول إلا ما وافق صفته وشَرْطَه، فإذا خالفوا شيئاً من ذلك، وقد كان اشترط عليهم أنْ لا عهدَ لهم إذا خالفوا شيئاً من ذلك؛ فلم يبقَ لهم عهدٌ كالحربي، والله أعلم. مسألة إذا نبذَ أهل الذِّمَّة العهد إلى المسلمين، فإنهم لا يغتالون، ويلحقون بالمأمن عند الشافعي قولاً واحداً (4) ، فإن خرجوا من غير أن يُعلموا بذلك، وهربوا إلى بلاد الحرب، فقد قيل: إن كان ذلك من ظلمٍ أو جورٍ رَكِبَهم مما يُعرفُ عُذْرهم فيه لم يُعدَّ ذلك نقضاً، ولم يُستباحوا في نفسٍ ولا مال، وهو إمّا أن يُخلَّى سبيلُهُم، أو يُعادوا إلى   (1) انظر: «الأم» (4/198-199) ، «مختصر المزني» (ص 280) ، «روضة الطالبين» (10/ 330) ، «منهاج الطالبين» (3/300) ، «الحاوي الكبير» (18/448) ، «البيان» (12/288) ، «المجموع» (21/413) . (2) مضى تخريجه. (3) مضى تخريجه قريباً. (4) انظر: «الأم» (4/196) ، «مختصر المزني» (ص 280) ، «روضة الطالبين» (10/338) ، «منهاج الطالبين» (3/306) ، «الحاوي الكبير» (18/442) ، «البيان» (12/328) ، «المجموع» (21/406) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 ذمتهم، ويُزال الظلم عنهم، وكذلك لو أُشكِلَ أمرهم، ولم يُعرفْ صدقهم مِنْ كذبهم إذا ادَّعَوا ذلك؛ فلا يُستباحوا، حتى يتبيَّنَ أنهم نَقَضُوا أَشَراً، على غير شيءٍ من تحت إمام عادل. رُوِي ذلك عن ابن القاسم وأصبغ (1) . قال أبو الوليد بن رشد (2) : وذلك صحيحٌ على مذهب مالكٍ وأصحابهِ، وقال غيره (3) : بل لا عُذرَ لهم إذا خرجوا إلى بلاد الحرب ونقضوا، وإن كان ذلك من جور أو غيره؛ لأنهم لم يعاهدوا على مثل ذلك، كأنه يعني: أنَّ عليهم أن يرفعوا أمرهم إلى الإمام إن رَجوا عنده زوالَ ذلك، أو ليأذن لهم في التحول. قال اللخمي: لأنهم رَضُوا بِطرح ما عُقِدَ لهم، وإسقاطِ حَقِّهم فيه. مسألة إذا نقض أهل الذمة العهد وقاتلوا، فظفر بهم المسلمون، ففي استباحة نسائهم وذراريهم بالسبي خلاف، فعن مالكٍ وجميع أصحابه: أن أهل الذمة قد صاروا بذلك حرباً: يسبون ويقتلون، إذا لم يكن عذر من ظَلامَةٍ أو جَوْرٍ، وخالفهم أشهب؛ فمنع السِّباء، قال: لا يعود الحرُّ إلى الرِّقِّ أبداً، قال أبو الوليد بن رشد في «شرح مسائل العتبية» (4) : «ما اتفق عليه مالك وأصحابه أصح في النظر؛ لأن الحرية لم تثبت لهم بعتاقةٍ من رقٍّ متقدم، فلا ينتقض، إنما تركوا على حالهم من الحرية التي كانوا عليها آمنين؛ بما بذلوه من الجزيةِ على شرطها ما بذلوها، فإذا منعوا الجزية، لم يَصِحَّ لهم العوض، وكان للمسلمين الرجوع فيه، وذلك -أيضاً- كالصلح بين المسلمين وأهل الحرب على شروط، فإذا لم يَفُوا بها، انتقض   (1) انظر: «البيان والتحصيل» (2/609، 3/12) ، «النوادر والزيادات» (3/344، 347) . (2) في «البيان والتحصيل» (3/12) . (3) هو أشهب -من أصحاب مالك- كما في «البيان والتحصيل» (3/12) . (4) «البيان والتحصيل» (2/610) . والكلام السابق منه -أيضاً-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الصلح» . وذكر احتجاج ابن الماجشون لذلك بما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبي قريظة وغيرهم، فزعم أن لا حجة في ذلك؛ لأن الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبني قريظة وغيرهم من اليهود، إنما كان مهادنةً وهم في بلادهم، لم يكونوا كأهل الذمة الذين غُلِبوا، فأقِرُّوا تحت ملكة المسلمين على أداء الجزية (1) . فأقول: أمّا ما احتج به أبو الوليد على أشهب في أول كلامه فصحيح، وأما ردُّه على ابن الماجشون فيما احتج به ابن الماجشون من سبي قريظة، فغير مستقيم، بل هوحجةٌ بيِّنةٌ كما ذكر ابن الماجشون وغيره. خرَّج مسلم (2) عن ابن عمر، أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، وأَقَرَّ قريظة، وَمَنَّ عليهم، حتى حاربته قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقَسَم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. وإذا ثبت أن أهل الذمة الذين ضربت عليهم الجزية لم يكونوا عبيداً أُعتقوا، كما أقرَّ به أبو الوليد (3) ، وجعله حجته في الرَّد على أشهب؛ فأيُّ فرقٍ بينهم وبين كلِّ من له عهد سواهم في (باب: النقض، وما يستحقه الناقض للعهد من العقوبة والقتل والسبي) ، وهم سواء في أصل الكفر ونكث العهد؟! ثم هو -أيضاً- قد سوَّى بينهم في كلامه في (باب: النقض) وقاسهم على أهل الصلح، حيثُ قال (4) : «وذلك -أيضاً- كالصلح بين المسلمين وأهل الحرب على شروط، فإذا لم يفُوا بها، انتقض   (1) إلى هنا انتهى الكلام من «البيان والتحصيل» . بتصرف يسير. وانظر: «المدونة» (1/510) ، «جامع الأمهات» (254) ، «الكافي» (1/483) ، «النوادر والزيادات» (3/343) ، وما فعله - صلى الله عليه وسلم - في سبي قريظة يأتي تخريجه -قريباً-. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب إجلاء اليهود من الحجاز) (1766) (62) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (رقم 4028) . (3) في «البيان والتحصيل» (2/610-611) . (4) نقل كلامه -أيضاً-: ابن رشد في «البيان والتحصيل» (2/610) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 الصُّلح» . فكيف يُفرِّقُ بينهما في الحكم بعد أن ساوى في المعنى وهو النكث؟! هذا ما لا خَفَاءَ باستوائهما فيه؛ لأنه بالنَّكثِ يعود الجميعُ حَرْباً، وإنما يختلفون في حكم الجزية من الأداء المحدود على الشروط المشروعة، كما أنَّ المهادنة -أيضاً- قد تختلف الشروط فيها -أيضاً-، وأصلُ العهد واحدٌ، وإنما الكلام في حكم النَّقض الذي هو واحدٌ في جميع ذلك؛ فسَبيُ قُريظةَ في هذا الباب أصلٌ، كما ذهبَ إليه ابن الماجشون (1) وغيره (2) . وكان أحمد بن حنبل يقول في ذراري أهل العهد إذا نَقَضوا: كلُّ مَنْ وُلِدَ بعد النَّقْضِ يُسْبَوْن، ومن كان قبل ذلك لا يُسْبون (3) . وهذه التفرقة منه وإن أدَّى إليها نَظرٌ يُستشعرُ صوابه، فالقاضي عليه: ما ثَبتَ من فِعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسَبيه جميعَ ذُرِّيةِ النَّاقضين، مِمَّن تقدم منهم على النقضِ أو تأخر، وكان الذي يظهر من معنى ذلك -والله أعلم-: أنَّ السَّبْيَ من النِّساء والذرية لمَّا لم يكن حُكمهم القَتْل، صاروا في باب عَقْد الأمان تَبَعاً للرجال كالمال، فإذا اسْتُحِقَّ دِماءُ رجالهم فقتلوا، سقط الوجه الذي كان وجبَت به الحرمة لهم، فاسْتبيحَ ما كان تحت أيدي رجالهم من أهلٍ ومال. وقال ابن القاسم في أهل الذمة إذا نقضوا وحاربوا: إنَّ مَنْ عُلِمَ منهم أنه مغلوبٌ على أمره، وأنه لم يُعنْ، مثل الضعيف والشيخ الكبير   (1) نقل كلام ابن الماجشون -أيضاً-: ابن رشد في «البيان والتحصيل» (6/611) ، وابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/346) . (2) كالأوزاعي، وأصبغ -من أصحاب مالك-؛ نقل ذلك عنهما القيرواني في «النوادر» . (3) انظر: «المغني» (13/153) ، «المقنع» لابن البنا (3/1184) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/575) ، «شرح الزركشي» (6/533) ، «الواضح شرح مختصر الخرقي» (2/272) ، «الإنصاف» (6/ 256) ، «المبدع» (3/434) ، «الفروع» (6/288) ، «المحرر» (2/188) ، «مسائل الإمام أحمد» (1/ 255- رواية الكوسج، 1/311-312- رواية ابنه صالح، 3/846-847- رواية ابنه عبد الله) . وقد نقل المصنف مذهب الإمام أحمد عن ابن المنذر في «الأوسط» (11/330) . وهو مذهب الحسن البصري، فيما نقله عنه ابن قدامة في «المغني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 الزمن، فلا أرى أن يستباحوا بقتلٍ ولا استرقاق، وأما الذرية -يعني ذرية الناقضين منهم- فيُسْتَرَقُّون (1) . ففرَّق ابن القاسم بين الذُّرِّيَّة، وإن كانوا لا يوجد منهم قتال، ولا إعانة في نقض، وبين من علم أنه مغلوب من الرجال، إنما أرى (2) ذلك -والله أعلم- لأنَّ الذريةَ تَبَعٌ في الحكم لرجالهم الذين نقضوا كما تقدم، وليس كذلك من له حكم نفسه من الرجال، فإنَّ أحداً لا يؤخذ بجريرة أحد، وكذلك يجب أن يكون الحكم في ذراري هؤلاء المستضعفين من رجالهم، الذين عُلِمَ أنهم لم يكن منهم في ذلك النقض عملٌ ولا رِضىً، فلا يباح سَبْيُ ذراريهم؛ لأنهم تَبعٌ في الحكم لهم، وإنما تكلَّم ابن القاسم على ذراري الناقضين دونهم، وقال غيره من أصحاب مالك، منهم ابن الماجشون (3) وغيره (4) : «إنَّ نَقْضَ كبارهم يُعَدُّ نقضاً عليهم، كما أن صُلحَهم صُلحٌ عليهم» ، فلم يفرقوا بين المستضعفين وغيرهم، وحملوهم في ذلك محمل الذرية. قال أبو الوليد بن رشد (5) : لا ينبغي أن يختلف فيهم إذا عُلم أنهم مغلوبون ومُكْرَهون غير راضين؛ لقوله -تعالى-: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] ، ويحمل الخلاف على من جُهِل أمره، وادَّعى الإكراه. وقال الأوزاعي (6) : أهل العهد لا تؤخذ العامة منهم بنقض الخاصة، وقاله   (1) نقله عنه ابن رشد في «البيان والتحصيل» (6/609) ، وابن أبي زيد القيرواني في «النوادر والزيادات» (3/346) . (2) كذا في الأصل والمنسوخ، وفي هامش المنسوخ: «كذا. ولعلها: رأى» . (3) انظر: «البيان والتحصيل» (2/611) . (4) مثل أصبغ، وابن حبيب. كما في «البيان والتحصيل» . (5) المصدر السابق. وانظر: «النوادر والزيادات» (3/346) . (6) مقالة الأوزاعي هذه ضمن رسالة طويلة كتبها إلى صالح بن علي، أورد أبو عبيد في كتابه «الأموال» (ص 222- 223 رقم 467) قطعةً منها، فيها هذه العبارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 أبو عبيد (1) ، وجماعةٌ من أهل العلم (2) ، قال أبوعبيد: «إلاَّ أن يكون ذلك بممالأةٍ منهم، ورضىً بما صنعت الخاصة؛ فهناك تحل دماؤهم» . وقال سفيان بن عيينة (3) : «الذي انتهى إلينا من العلم أنَّ من نقض شيئاً مما عوهدوا عليه، ثم أجمع القوم على نقضه، فلا ذمة لهم» . وَذَكَر أهلَ مكةَ ونَقْضَهم، وقال: «لا نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاهد قوماً فنقضوا العهد إلا استحل قتلهم، غير أهل مكة: فإنه مَنَّ عليهم، وإنما كان نَقضُهم الذي استحلَّ به غزوهم: أن قاتلت حلفاؤهم مِنْ بني بكر، حلفاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خزاعة، فنَصَر أهلُ مكةَ بني بكر علىحلفائه؛ فاستحلَّ بذلك غَزوهم» (4) .   (1) في كتابه «الأموال» (ص 228) . (2) وعلى رأسهم علي -رضي الله عنه-. أخرج أبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 228-229 رقم 476) -واللفظ له-، وابن زنجويه في «الأموال» (رقم 692) ، والدارقطني في «السنن» (3/131) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/184) : حدثنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز: أن عليّاً نهى أصحابه أن يبسطوا على الخوارج حتى يحدثوا حدثاً. قال: فأخذوا عبد الله بن خباب فانطلقوا به، فمروا على تمرة ساقطة من نخلة فأخذها بعضهم، فألقاها في فيه، فقال له بعضهم: تمرة معاهد، فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه، ثم مروا بخنزير، فنفحه أحدهم بسيفه، فقال له بعضهم: خنزير معاهد، فبم استحللته؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: ألا أدلكم على ما هو أعظم حرمة من هذا؟ قالوا: بلى. قال: فقتلوه. فبلغ ذلك عليّاً، فأرسل إليهم: أن أقيدونا بعبد الله بن خباب. فقالوا: كيف نقيدك بعبد الله، وكلنا قتله؟ فقال علي: أَوَكُلُّكُم قتله؟ قالوا: نعم. قال: الله أكبر. ثم أمر أن يبسطوا عليهم. وإسناده صحيح. قال أبو عبيد: أفلا ترى أن علياً -عليه السلام- لم يستجز قتال عوامهم بما أحدثت الخاصة، حتى انتحلوه جميعاً، وتواطؤوا عليه؟ فكذلك أمر النكث، وكذلك لو أن بلاداً افتتحت فكان بعضها عنوة؛ وبعضها صلحاً، لا يُعرف هذا من هذا؛ أُمْضِي كله على الصلح، مخافة التقدم على الشبهة. (3) نقله عنه أبو عبيد في «الأموال» (ص 224 رقم 470) . (4) انظر قصة غزوة فتح مكة وسببها بالتفصيل في: «طبقات ابن سعد» (2/134) ، «سيرة ابن هشام» (4/3) ، «مغازي الواقدي» (2/780) ، «أنساب الأشراف» (1/170) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/126) ، «تاريخ الطبري» (3/ 42) ، «عيون الأثر» (2/212) ، «البداية والنهاية» (4/278) ، «نهاية الأرب» (17/287) ، «شرح المواهب اللدنية» للزرقاني (2/288) ، «السيرة الحلبية» (3/81) ، «السيرة الشامية» (5/304) ، «سبل الهدى والرشاد» (5/200) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 فإذا تقرر ذلك، فالناقضون على ثلاثة أحوال: إمّا أن يُعلم تمالؤهم ورضاهم به، فهؤلاء يستباح جميعهم بلا خلاف، وإما أن يُعلمَ من نَقَضَ بعينه، وأنَّ من سواه -أو قوماً بأعيانهم- لم يعاون، ولم يَرْضَ بفعل من نقض؛ فلا ينبغي أن يُستباح من لم يرض منهم بحال. قال الله -تعالى-: {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21] . وقال -تعالى-: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ، وقال -تعالى-: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] . والثالث: أن يُشكل الأمر: فلا يُعرف من نَقَضَ منهم مِمَّن لم يَنْقُضْ، فهذا موضع النظر ومحلُّ الخلاف، والله أعلم. مسألة اختلف أهل العلم في الواجب في حكم من قتل ذمياً ظلماً، فذهب أبو حنيفة وأصحابه وابنُ أبي ليلى وعثمانُ البَتِّيُّ إلى أن المسلم يُقتلُ بالذِّمِّي (1) ، وهو قول الشعبي وإبراهيم النخعي (2) . وذهب   (1) وهو أحد قولي أبي يوسف في المشهور عنه. انظر: «المحلى» (10/348) ، «حلية العلماء» (7/449) . وانظر في مذهب الحنفية: «شرح معاني الآثار» (3/192-196) ، «مختصر الطحاوي» (230) ، «القدوري» (89) ، «اللباب» (3/144) ، «الجوهر النقي» (8/34) ، «الهداية» (4/504) ، «عمدة القاري» (24/40) ، «مختصر اختلاف العلماء» (5/157 رقم 2271) ، «الاختيار» (5/27) ، «رد المحتار» (6/ 534) ، «البناية» (10/23، 27) ، «فتح القدير» (10/217) ، «تبيين الحقائق» (6/103) ، «المبسوط» (26/ 131) ، «رؤوس المسائل» (454) ، «تحفة الفقهاء» (3/145) ، «مجمع الأنهر» (2/619) ، «حاشية ابن عابدين» (6/527) ، «البحر الرائق» (8/337) ، «أحكام القرآن» للجصاص (1/173) ، «ملتقى الأبحر» (2/286) . (2) قالا: المسلم الحر يقتل باليهودي والنصراني. وروي عنهما أنه يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي. انظر: «المحلَّى» (10/347-348) ، «المجموع» (17/197) ، «المغني» (11/466) ، «عون = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 الأوزاعي (1) ، ومالك (2) ، والشافعي (3) ، والليث، والثوري، وأحمد (4) ، وإسحاق،   = المعبود» (4/304) ، «نيل الأوطار» (7/11-12) . واعتمد أصحاب هذا القول على أحاديث لم تصح. انظر ذلك بتفصيل في: «بيان الوهم والإيهام» (2/330-331) ، «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيم (6/330) ، «تنقيح التحقيق» (3/ 254-257) ، تعليقي على «سنن الدارقطني» (رقم 3213-3216) ، «نصب الراية» (3/335-336) ، «معالم السنن» (4/37-38) ، «فتح الباري» (12/262) ، «الدراية» (2/262) ، «نيل الأوطار» (7/11) ، «سبل السلام» (3/285) ، «أحكام الجناية» (160-165) . وانظر -أيضاً-: «الإشراف» لابن المنذر (رقم 1257) ، «المغني» (11/469- وما بعدها) ، «المحلَّى» (10/347- وما بعدها) ، «نوادر الفقهاء» (ص 207) ، «الإفصاح» (2/190) . (1) نقل ذلك عن الأوزاعي والثوري: الجصاص في «مختصر اختلاف العلماء» (5/157 رقم 2271) . وانظر: «المغني» (11/466) ، «المحلّى» (10/350) ، «الاعتبار» (190) ، «شرح السنة» (10/ 175) ، «تحفة الأحوذي» (2/312) ، «فقه الأوزاعي» (2/271) ، «موسوعة فقه سفيان الثوري» (295) . وحكى القرطبي في «تفسيره» (2/246) عن الكوفيين وسفيان الثوري: أن المسلم يقتل بالكافر. (2) انظر: «الموطأ» (2/872) ، «المنتقى» (7/97) ، «المدونة» (4/444) ، «التفريع» (2/ 216) ، «الرسالة» (238-239) ، «الكافي» (587) ، «مقدمات ابن رشد» (3/337) ، «المعونة» (2/ 1302) ، «جامع الأمهات» (ص 491) ، «عارضة الأحوذي» (6/180-183) ، «بداية المجتهد» (2/ 399) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب البغدادي (4/81 المسألة رقم 1427- بتحقيقي) ، «أسهل المدارك» (3/115) ، «مواهب الجليل» (6/233) ، «حاشية ابن شاط على الفروق» (4/190) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/231) ، «الموافقات» (1/300، 324- بتحقيقي) ، «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (8/3) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (1/61) . (3) انظر: «الأم» (6/40) ، «المهذب» (2/174) ، «الوجيز» (2/125) ، «حلية العلماء» (7/449) ، «المنهاج» (ص 123) ، «معرفة السنن والآثار» (12/191 رقم 16429) ، «مختصر الخلافيات» (4/323 المسألة رقم 263) . (4) انظر: «المغني» (11/465- 467- ط. هجر) ، «شرح الزركشي» (6/63) ، «المقنع» (3/ 1051) ، «الواضح» (2/167) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/341) ، «مسائل الإمام أحمد» (68، 80، 89- رواية الكوسج، 1/483 و3/60، 81- رواية صالح، 227- رواية أبي داود، 2/87-88- رواية ابن هانئ، 3/1227-1228- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/417 المسألة رقم 1669) ، «رؤوس المسائل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1079) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود (1) ، وغيرهم (2) ، إلى أنه لا يُقْتَلُ مؤمن بكافر، إلا أن مالكاً والليث قالا (3) : إن قتله قَتْلَ غِيلةٍ قُتِلَ به، وقَتلُ الغيلة عندهم: أن يقتله على ماله، لا يقتله لنائرة (4) ، ولا عداوة؛ كأنهم رأوا فِعله ذلك كفعل المحارب، فرأوا قتله واجباً كحدٍّ الحرابة، ولهذا لم يرَ مالكٌ (5) لوليِّ دَمِ مَنْ قُتِلَ غيلةً أن يَعْفُو عنه، وجعل قتله لازماً على كل حال. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور: أن لا يقتل المؤمن بالكافر؛ لأن دماء   (1) انظر مذاهب المذكورين في: «المحلّى» (10/349-350) ، «حلية العلماء» (7/449) ، «المغني» (11/466) ، «الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي» (ص 461) . (2) روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، ومعاوية -رضي الله عنهم-. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، والزهري، وابن شبرمة، وابن المنذر. فيما نقل ذلك عنهم: ابن قدامة في «المغني» (11/466) . وانظر: «مختصر اختلاف العلماء» (5/157 رقم 2271) ، «معالم السنن» (6/329) ، حلية العلماء» (7/449) ، «المحلّى» (10/349-350) . وإليه رجع زفر بن الهذيل -من أصحاب أبي حنيفة-؛ قال ابن حزم (10/350) : روينا ذلك من طريق أبي عبيد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عنه. وصحح ابن حزم (10/349) عن عمر بن عبد العزيز أنه إن شاء قتله، وإن شاء عَفَى عنه. وذكره من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن ميمون، عن عمر، وذكر أيضاً عنه خلافه؛ الذي هو مذهب الجمهور. (3) نقله عنهما: الجصاص في «مختصر اختلاف العلماء» (5/158) . وانظر: «بداية المجتهد» (2/514) ، «المهذب» (2/173) ، «مغني ذوي الأفهام» (204) . (4) النائرة هي الشحناء والعداوة. (5) انظر: «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/233) ، «المعونة» (3/1366) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/345) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/188 مسألة 1545- بتحقيقي) . وذهب الشافعية -ورواية عند الحنابلة- أن عفو ولي الأمر جائز، انظر: «الأم» (6/165) ، «المجموع» (19/78) ، «الأحكام السلطانية» (64) للماوردي، «الأحكام السلطانية» (ص 59) لأبي يعلى، «سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي» (3/188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 المسلمين معصومةٌ بيقين، فلا يُقْدَمُ عليها إلا بيقين، ولم يأذن الله -تعالى- في القَودِ من المسلم إلاّ بمسلم، قال -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله - تعالى-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ، فإثبات الأخوة بين القاتل والمقتول، أو القاتل والوليّ -على الخلاف في تأويل عود ذلك- دليل لا يُشْكِلُ أن كليهما من المسلمين، وكذلك ذكر القصاص ظاهر في ذلك؛ لأنه يقتضي المساواةَ في الدِّين، فالقَود من المسلم لا يستباح بغير المسلم، وقد جاء ذلك -أيضاً- نصّاً. خرَّج أبو داود (1) عن عمرو بن شعيب؛ عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم، ويردُّ مُشِدُّهم على مُضعفهم، ومُتسرِّيهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده» . وفي كتاب البخاري (2) ، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيءٌ من الوحي إلا ما في كتاب الله -عز وجل-؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه، إلا فهم يعطيه الله -عز وجل- رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة (3) . قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.   (1) في «سننه» في كتاب الديات (باب إيقاد المسلم بالكافر) (رقم 4531) . وقد مضى تخريجه مطولاً. (2) في «صحيحه» في كتاب الديات (باب لا يقتل المسلم بكافر) (رقم 6915) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الحج (باب فضل المدينة) (رقم 1370) . (3) وقد جمع هذه الصحيفة في جزءٍ مفرد، وما فيها، مع تخريج وتوثيق، وشرح: الدكتور: رفعت عبد المطلب -رحمه الله تعالى-، في كتاب مفرد، طبع عن دار السلام بعنوان: «صحيفة علي ابن أبي طالب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دراسة توثيقية فقهية» (انظر منها ص 81-89) . وانظر: «نصب الراية» (4/334-335) ، «التلخيص الحبير» (4/131) ، «نيل الأوطار» (7/ 10-11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 فهذا نصٌّ في ذلك. ولأبي حنيفة وأصحابه في ذلك تأويلات ليس هذا موضع النظر فيها، وربما تعلَّقوا فيما ذهبوا إليه برواية لا تثبت، وأقيسة فاسدة (1) . قال ابن المنذر: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر يعارض ما ثبت من قوله: «لا يقتل مؤمن بكافر» . وكان مما احتج به الشافعي عليه من طريق النظر: أنه لا خلاف في أن المسلم لا يقتل بالحربي المستأمن، فكذلك الذمي؛ لأنهما في تحريم القتل سواء. وأما قول مالك في أنه يقتل المسلم إذا قتله غِيلَةً؛ فيأتي (2) عليه عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتل مؤمن بكافر» . فالأرجح: أنه لا يقتل؛ للأدلة المتقدمة؛ ولأنه لم يأت في ذلك تخصيصُ غِيلَةٍ ولا غيرها، وليس حمله على حكم المحارب بشيء؛ لأنَّ المحارِبَ له شروط لا يستحق اسمَ الحرابة إلا بوجودها، وهذا لم يوجد ذلك منه، فلم يكن له حكم المحارِب، وقد كان يلزم من جَعَلَ له حكم المحارب -وكان من مذهبه التخيير في عقوبات المحارب- أن يجيز ذلك منه، وهو ما لا يقول به. فإن قيل: لا يكون التخيير في محارب قتل في حرابته؛ لأنه يُقتل باتفاق؛ فسقط ما عداه! قيل: الساقط بانحتام القتل شيئان: القطع والنَّفي، فيبقى التخيير بين القتل والصلب، وذلك يلزمهم لا محالة (3) .   (1) ومن جملة تأويلاتهم: استدلالهم بقول الله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] قالوا: فهذا من غير تفصيل بين المسلم والذمي. ومنها: استدلالهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أقاد مسلماً بذميّ. قالوا: هذا نص. قلت: أما الآية، فإن هذا مما كتبه الله -عز وجل- في التوراة، ولا يلزمنا شرائع من قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وأما الحديث فضعيف، لا تقوم به حجة. وانظر: «نصب الراية» (4/335، 336) . وقد ذكر ابن حزم -رحمه الله- في «المحلّى» (10/350- وما بعدها) جميع استدلالات الحنفية النقلية والعقلية، وردّ عليهم بكلام نفيسٍ غايةً. فانظره هناك. (2) كذا في الأصل والمنسوخ، وتحتمل: «فيأبى» . (3) قال ابن حزم في «المحلى» (10/350) في قول المالكية، أنهم يقتلون المسلم بالذمي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 وإذا تقرر أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلا خلاف في أن فعله ذلك كبيرة من الكبائر. خرّج البخاري (1) ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل معاهداً لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً» . وأوجب العلماء الذين لم يروا قتل المسلم بالذمي على قاتله المسلم دِيَّتَه، واختُلِف في دِيّتِه؛ فقال قوم: دية الكافر المعاهد إذا وجبت كدية المسلم سواء، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه (2) ، وقاله الشعبي والنخعي وسفيان (3) ، وسواء كان   = للحرابة. قال: «أنتم لا تقولون بالترتيب في حدِّ الحرابة، ولو قلتموه لكنتم متناقضين -أيضاً-؛ لأنه لا خلاف بين أحدٍ ممَّن قال بالترتيب في أنه لا يُقتل المحارب إن قتل في حرابة من لا يُقتل به إن قتله في غير الحرابة، وأنتم لا تقتلون المسلم بالذمي في غير الحرابة، فظهر فساد هذا التقسيم بيقين. وأما المشهور من قول المالكيين أنهم يقولون بتخيير الإمام في قتل المحارب أو صلبه أو قطعه أو نفيه، فمن أين أوجبوا قتل المسلم بالذمي -ولا بُدَّ- في الحرابة، وتركوا قولهم في تخيير الإمام فيه، فوضح فساد قولهم بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا حجَّة لهم أصلاً. وبالله تعالى التوفيق» ا. هـ كلامه -رحمه الله-. (1) في «صحيحه» في كتاب الجزية والموادعة (باب إثم من قتلَ معاهداً بغير جُرم) (رقم 3166) ، وأخرجه في كتاب الديات (باب إثم من قتل ذِميّاً بغير جرم) (رقم 6914) . (2) انظر: «مختصر الطحاوي» (240) ، «القدوري» (90) ، «اللباب» (3/154) ، «مختصر اختلاف العلماء» (5/155 المسألة رقم 2270) ، «الهداية» (4/178) ، «المبسوط» (26/84) ، «بدائع الصنائع» (10/4664) ، «الدرر الحكام» (2/104) ، «الجوهر النقي» (8/103) ، «تحفة الفقهاء» (3/ 155) ، «روضة القضاة» (3/1170) ، «النتف في الفتاوى» (2/670-671) ، «أدب القضاء» (ص 427) ، «رؤوس المسائل» (475) . (3) وهذا مذهب الزهري - كما سيأتي-، وروي عن عليٍّ وابن مسعود. وذكر ابن قدامة في «المغني» (12/51-52) أنه مذهب علقمة ومجاهد، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية. قال: وقال ابن عبد البر: هو قول سعيد بن المسيب والزهري. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/94-98) ، «سنن الدارقطني» (3/129) ، «جامع الترمذي» (تحت رقم 1413/م) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/238) ، «تفسير القرطبي» (5/327) ، «شرح السنة» (10/204) ، «أحكام أهل الذمة» (2/61) ، «نيل الأوطار» (7/222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 عندهم يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً (1) . وقال مالك (2) وأحمد بن حنبل (3) ، في اليهودي والنصراني: ديته نصف دية المسلم. وقال الشافعي وأبو ثور وإسحاق (4) : ديته ثلث دية المسلم. واتفق مالك والشافعي وأحمد وإسحاق على أن دية المجوسي ثمان مئة   (1) قد ورد بذلك حديث: «دية ذميٍّ دية مسلم» . أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1/45-46 رقم 780) ، والدارقطني (ص 343، 349- ط. هندية) ، والبيهقي (8/102) من طريق أبي كرز القرشي، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً. وقال الدارقطني: «لم يرفعه عن نافع، غير أبي كرز، وهو متروك، واسمه عبد الله بن عبد الملك الفهري» ، وانظر تمام تخريجه في «السلسلة الضعيفة» (رقم 458) . (2) انظر: «المدونة» (4/472، 479) ، «التفريع» (2/216) ، «بداية المجتهد» (2/411) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/258) ، «الرسالة» (237) ، «الكافي» (597) ، «جامع الأمهات» (ص 501) ، «المنتقى» (7/97) ، «الشرح الكبير» (4/267-268) ، «أسهل المدارك» (3/132) ، «قوانين الأحكام» (297) ، «الإشراف» (4/129 مسألة رقم 1475- بتحقيقي) ، «جواهر الإكليل» (2/266) ، «الخرشي» (8/31) . (3) مذهب الحنابلة: أن ديته مثل دية المسلم في العمد، وإن قتله خطأً، ففيه روايتان: الصحيح من المذهب أنها على النصف من دية المسلم. انظر: «المغني» (12/51، 54) ، «الإنصاف» (10/64-65) ، «الفروع» (6/17) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/385، 387) ، «الواضح» (2/189) ، «المقنع» لابن البنا (3/1073، 1074) ، «شرح الزركشي» (6/138، 140) ، «مسائل الإمام أحمد» (116- رواية الكوسج، 3/59، 172- رواية صالح، 2/1241- رواية عبد الله) ، «الروايتين والوجهين» (2/182-184) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1109) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/507-508 المسألة رقم 1751) . (4) انظر في مذهب الشافعية: «الأم» (6/105) ، «الإقناع» للماوردي (164) ، «المجموع» (17/ 278) ، «المهذب» (2/ 198) ، «روضة الطالبين» (9/257) ، «عمدة السالك» (ص 175) ، «التنبيه» (137) ، «حلية العلماء» (7/543) ، «مختصر الخلافيات» (4/381 رقم 279) ، «سنن البيهقي» (8/ 102-103) ، «الوجيز» (2/141) ، «المنهاج» (126) ، «نهاية المحتاج» (7/303) ، «مغني المحتاج» (4/57) . وقال ابن المنذر في «الإشراف» (3/93) : «وقالت فرقة: دية الكتابي ثلث دية المسلم، روي هذا القول عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما-، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة، وعمرو بن دينار، والشافعي، وأبو ثور، وإسحاق» . وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 691) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 درهم (1) . واحتج الزهري على أن دية المعاهد كدية المسلم بقوله -تعالى-: { ... وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَة} [النساء: 92] (2) . قال الكوفيون: فَذِكْرُهُ بعد ذكر دية المؤمن يجعلهما سواء في الدية والكفارة، واستدلوا على أنه يراد به من كان له عهدٌ من الكفار: أنه لو أريد به المؤمن، لَوَصَفَهُ الله -تعالى- بذلك، كما قال -سبحانه-: { ... فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ ... } [النساء: 92] (3) . وخرّج الترمذي (4) ، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَدَى العامريين بدية المُسلمين، وكان لهما عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال فيه: حديث غريب. ومستند مَنْ رأى أن دية الكافر على النصف من دية المسلم: ما خرجه الترمذي (5) -أيضاً- من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) انظر: المراجع في الهامشين السابقين. (2) أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/95 رقم 18491) ، والطبري في «التفسير» (5/122) . (3) وذهب ابن حزم في «المحلى» (10/347- وما بعدها) : أن من قتل من المسلمين البالغين ذمياً أو مستأمناً، عمداً أو خطأً؛ فلا قود عليه ولا دية، ولا كفارة، ولكن يؤدب في العمد خاصة، ويسجن حتى يتوب؛ كفّاً لضرره. (4) في «جامعه» في أبواب الديات (باب (رقم 1404)) من طريق أبي سعد -هو البقَّال- عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/1221) من طريق أبي سعد البقال، سعيد بن المَرْزُبان، به. وأبو سعيد: ضعيف مدلس، وانظر: «ضعيف سنن الترمذي» لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (5) في «جامعه» في أبواب الديات (باب ما جاء في دية الكفار) (رقم 1413/م، 1885) . وقال: حديث عبد الله بن عمروٍ في هذا الباب حديث حسن. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (570) ، وابن أبي شيبة (9/294) ، وأحمد (2/180 و205 و215 و216) ، وأبو داود (1591 و2751، 4531) ، وابن ماجه (2659 و2685) ، وابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 قال: «دية عقل الكافر نصف دِيةِ (1) عَقلِ المؤمن» (2) . *****   = الجارود (1073) ، وابن خزيمة (2280) ، والبيهقي (8/28) . وهو جزء من حديث خطبة الفتح. وقد ورد الحديث عن جمعٍ من الصحابة مطولاً. ومنه ما هو في «الصحيحين» ، وانظر: «نصب الراية» (4/341) . وورد الحديث بلفظ: «دية المعاهد نصف دية المسلم» ، وفي لفظ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» ، وانظر: «إرواء الغليل» (7/307 رقم 2251) . (1) كلمة (دية) سقطت من الأصل والمنسوخ، وهي مثبتة في «جامع الترمذي» . (2) قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/364) : «حديث حسن، يصحح مثله أكثر أهل الحديث» ، وقال في «تهذيب السنن» (6/374) : «هذا الحديث صحيح إلى عمرو بن شعيب، والجمهور يحتجون به، وقد احتج به الشافعي في غير موضع، واحتج به الأئمة كلهم في الديات» . وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (20/385) : «وهذا هو أصح الأقوال؛ لأن هذا هو المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما رواه أهل «السنن» : أبو داود وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» . وقال الخطابي في «معالم السنن» (6/375- مع «مختصر سنن أبي داود» ) : «ليس في دية أهل الكتاب شيء أَبْيَن من هذا» . وانظر لرجحان هذا القول: «شرح السنة» (10/204) ، «أحكام أهل الذمة» (2/61) ، «تهذيب السنن» (6/374-377) ، «نيل الأوطار» (7/68-70) -وفيه: «والراجح العَمَلُ بالحديث الصحيح، وطَرْحُ ما يقابله مما لا أصل له في الصحة» -، «أحكام الجناية على النفس وما دونها» (243-244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 الباب العاشر في المرتدين، والمحاربين، وقتال أهل البغي، وتفصيل أحكامهم، وذكر ما يتعلق بجناياتهم، ويلزم من عقوباتهم قال الله -تبارك وتعالى- في الحد المنتَهَى إليه من قتل الكفار وقتالهم: { ... فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5] ، وقال -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] ، وقال -تعالى-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] . وخرّج مسلم (1) ، عن عبد الله بن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوه؛ عصموا منِّي دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله -عز وجل-» . وخرَّج -أيضاً- (2) عن أبي بَكْرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ... » الحديث. وفيه قال: «فإن دماءكم   (1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ... ) (رقم 22) ، وفيه: «إلا بحقِّها، وحسابهم على الله» . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ) (رقم 25س) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-. (2) أي: مسلم، في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين (باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) (رقم 1679) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المغازي (باب حجة الوداع) (رقم 4406) . وأخرجه في عدة مواطن -مطولاً ومختصراً- (رقم 67، 105، 1741، 3197، 4662، 5550، 7447، 8078) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي كفاراً -أو: ضلالاً- يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلّغ الشاهدُ الغائب» . فالكتاب والسنة والإجماع على عصمة دم المسلم وتحريمه، لا خلاف في ذلك بين الأمة، إلا أن يأذنَ الشرع في شيء من ذلك؛ لحقٍّ أوجبه؛ فيكون ذلك مستثنىً من عموم ما تقدم. وقد جاء من تخصيص ذلك في الكتاب والسنة ما أوجب المصير إليه، والاقتصار عليه. قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151، الإسراء: 33] . وخرَّج مسلم (1) في حديث جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ... فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . ففي قوله -تعالى-: {إِلاَّ بِالْحَقِّ} ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا بحقِّها» بيانٌ أن هناك أشياء تبيح ذلك منه، إذا هو ارتكبها بعد الإيمان، وإن كان لفظ الحق ها هنا مجملاً؛ فقد جاء مفسراً: منه في القرآن، ومنه في السُّنة الصحيحة. قال الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . وبيَّن -تعالى- وجه الحكمة، وموقع النعمة في ذلك بقوله -عز وجل-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] . وتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيجاب قتل الزاني المحصن، رَجْماً بالحجارة (2) ، والأمر بقتل من رجع عن الإسلام (3) ؛ فكان ذلك كله مبيِّناً للحق الذي استثناه الله   (1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ... ) (35) (21) . (2) انظر -على سبيل المثال-: «صحيح البخاري» . كتاب الحدود (باب رجم المحصن) . (3) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب لا يعذب بعذاب الله) (رقم 3017) من طريق عكرمة، أن عليّاً -رضي الله عنه- حرَّق قوماً، فبلغ ابن عباس، فقال: لو كنت أنا، لم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 -عز وجل-. وخرَّج مسلم (1) ، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي لا إله غيره! لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا ثلاثة نفر: التارك للإسلام، المفارق للجماعة، والثيب الزاني، والنفس بالنفس» . ورواه -أيضاً- عن عائشة (1) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمثله. فكان ظاهرُ هذا الحديث حصْرَ الحق المستثنى في الثلاث، فتعلَّق بذلك قوم، وأَلْحَق آخرون بهذه ما أوجبه نصٌّ آخر ودليلٌ بيّن، واحتمل أن يكون تعيين هذه الثلاث بالحصر؛ لأنها أمهاتٌ، وقواعدُ في الشرع بَيِّنات في حفظ الدين والدماء والأنساب، وقد تقرر في الشرع تقرر التواتر بيان حكمها، وتمييز أنواعها، فلم يكن إقدام الحاكم في تنفيذ الحكم فيها يفتقر إلى نظرٍ وكشفٍ واستفسار، فكأنه قال: الحلُّ البيِّنُ الذي لا يخفى عليكم، ولا يشكل على نظركم، ونحو هذا مما يقع فيه الفرق بين هذه الثلاث وغيرها، وإلا فقد رويت آثار صحاح بإيجاب القتل في أحداثٍ غير هذه؛ من ذلك: ما خرَّجه مسلم (2) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بويع لخليفتين؛ فاقتلوا الآخر منهما» . وخرَّج -أيضاً- (3) عن عرفجة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد أن يُفَرِّقَ أَمْرَ هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف، كائناً من كان» . وقاتل أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- مانعي الزكاة بمحضرِ الصحابة وموافقتهم (4) ، فكان كالإجماع.   = أحرقهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» . ولَقَتَلْتُهُمْ؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» . وأخرجه في كتاب استتابة المرتدين (باب حكم المرتد والمرتدة) (رقم 2922) . (1) في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين (26) (1676) . (2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب إذا بويع لخليفتين) (61) (1853) . (3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب حكم من فرَّق أمر المسلمين وهو مجتمع) (59) (1852) . (4) وهذه القصة معروفة مشهورة، فقد أخرجها البخاري في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب وجوب الزكاة) (رقم 1399 و1400) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 فدلَّ ذلك كلُّه على أنه تفسير للحق الذي استثناه الله -تعالى- في كتابه، وعلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحيث ما وجد دليل من الشرع، وجب الانتهاء إليه، ما لم يدل دليل آخر على نَسْخِه وتخصيصه، وما أشبه ذلك من الوجوه التي يجب المصير إليها. وعند تصفح هذه الأحداث الأُخر، التي جاء وجوب القتل فيها -أيضاً-؛ يتبين لك الفرق في الوضوح، والتمييز للناظر بينها وبين الثلاث التي أفردت عنها في الحديث الذي ظاهره الحصر؛ وذلك: أن قتل الذي بويع له ثانياً يفتقر إلى نظر وتأمل: هل كان قصد بذلك الخلاف على الأول، أو لم يكن علم ببيعة الأول، أو كان هو أحقَّ من الأول، أو كان بينهما من المسافةِ في الأرض وبُعْدِ البلاد ما لا يدركه نظر الأول، أو لم يعثر عليه حتى مات الأول؟ وكذلك من خرج على الناس، وأمرهم جميع، يحتمل أن يكون متأوِّلاً، فيجب أن يُبيَّنَ له، أو يكون مظلوماً، فيجب أن ترفع ظلامته، وما كان من نحو هذا، وكذلك ما وقع من النظر والاجتهاد في مانعي الزكاة، وكذلك فيمن ترك الصلاة، فكل واحدٍ من هذه يفتقر في تمييز نوعه الذي يجب القتل به، من غيره الذي لا يجب فيه إلى حالات واجتهادات يغمض معها دَرْكُ الثقة باستحلال القتل، فبذلك فارقت معنى الثلاث الأول، فكان حصر الحِلِّيَّةِ فيها مُشعراً بوجوب النظر والتثبت فيما عداها مما أحله الشارع -أيضاً-؛ لافتراق وجوه التمييز في الاستحلال، والله أعلم. ولما كان هذا الباب مختصّاً بقتال المرتدين، والمحاربين، وأهل البغي، وكلهم إمَّا مسلم في الحال، أو قد تقدم له اعتصام بالإسلام، وجب تقديم هذا الأصل، وتمهيد هذه القاعدة، ثم نعود إلى تفصيل القول في ذلك، بحسب ما وضع له هذا الباب، وهو يشتمل على ثلاثة أصناف: المرتدين، والمحاربين، وأهل البغي. فلنُقَسِّم القول فيه على ثلاثة فصول:   = الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) (رقم 20) . وأخرجه البخاري -أيضاً- في عدة مواطن من «صحيحه» (الأرقام: 1456، 6925، 7285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 الفصل الأول: في أحكام المرتدين قال الله -عز وجل-: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] . ففيه دليل على وجوب قتلهم، ورفع احترام ما كان أوجبه الإيمان لهم. وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (1) . خرَّج البخاري، عن عكرمة، أن عليًّا حرَّق قوماً، فبلغ ابنَ عباس، فقال: لو كنت أنا، لم أُحرِّقْهُم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ، ولقتلتهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (2) . وخرَّجه الترمذي (3) ، وقال فيه: إن عليّاً حرَّق قوماً ارتدوا عن الإسلام ... بمثله (4) . وزاد في آخره: فبلغ ذلك عليّاً، فقال: صدق ابن عباس. وهو إجماع المسلمين: أن الرجل البالغ العاقل، إذا كان ممن اتصف بالإيمان، ثم ارتدَّ مختاراً، غير مكره، فاستُتيب فلم يتب، واسْتُؤْنِيَ به فلم يُقْلع؛ أنه مباح الدم (5) .   (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب لا يعذَّب بعذاب الله) (رقم 3017) . وفي كتاب استتابة المرتدين (باب حكم المرتد والمرتدة) (رقم 6922) . (2) هو الحديث السابق. (3) في «جامعه» . أبواب الحدود (باب ما جاء في المرتد) (رقم 1458) . وقال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (4) وفي «صحيح البخاري» (رقم 6922) : أتي علي -رضي الله عنه- بزنادقة ... الحديث. (5) قال ابن حزم في «مراتب الإجماع» (146) : واتفقوا أنَّ من كان رجلاً، مسلماً، حُرًّا، باختياره، وبإسلام أبويه كليهما، أو تمادى على الإسلام بعد بلوغه ذلك، ثم ارتدَّ إلى دين كفر، كتابي أو غيره، وأعلن ردَّته، واستتيب في ثلاثين يوماً مئة مرة، فتمادى على كفره، وهو عاقل غير سكران، أنه قد حلَّ دمه، إلا شيئاً رويناه عن عمر، وعن سفيان، وعن إبراهيم النخعي أنه يستتاب أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 واخلتفوا من ذلك في ثلاثة مواضع: أحدها: هل يستتاب المرتد قبل القتل، أو يقتل بنفس الردَّة؟ والثاني: هل حكم المرأة في القتل بالردَّة حكم الرجل أو لا؟ والثالث: في لواحق أحكامه: في ميراثه، وأولاده، وجناياته حال ارتداده. فصل فأما اختلافهم في استتابة المرتد، فلأهل العلم في ذلك قولان مشهوران: قول: إنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن عمر (1) ،   (1) أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (10/165 رقم 18696) ، من طريق سفيان الثوري، وسعيد بن منصور في «سننه» (3 رقم 2573) من طريق خالد بن عبد الله، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 207) من طريق علي بن عاصم، جميعهم عن داود، عن الشعبي، عن أنس قال: بعثني أبو موسى بفتح تستر إلى عمر -رضي الله عنه-، فسألني عمر -وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين- فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال: فأخذت في حديث آخر لأُشغله عنهم، فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت: يا أمير المؤمنين! قوم ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل، فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلماً أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس من صفراءَ أو بيضاءَ، قال: قلت: يا أمير المؤمنين! وما كنت صانعاً بهم لو أخذتهم؟ قال: كُنْت عارضاً عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلتُ منهم، وإلا استودعتهم السجن. فعلى هذا، فليس مذهب عمر قتل المرتد إذا لم يتب. وأخرج مالك في «الموطأ» في كتاب الأقضية (باب القضاء فيمن ارتد عن الإسلام) (ص 454 رقم 794- ط. دار إحياء التراث) -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/207) -، وعبد الرزاق (10/ 164-165 رقم 18695) ، وابن أبي شيبة (10/138 رقم 9035) في «مصنفيهما» ، وابن عبد البر في «التمهيد» (5/306-307) جميعهم من طريق عبد الرحمن بن عبد القاري، عن أبيه، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجلٌ من قبل أبي موسى الأشعري، فسأله عن الناس، فأخبره، ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مُغَرِّبةٍ خَبَرٌ؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قرّبناه، فضربنا عنقه. فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتوه كل يومٍ رغيفاً، واستتبتموه، لعلَّه يتوب، ويراجع أمر الله؟! ثم قال عمر: اللهم إني لم أَحْضُر، ولم آمر، ولم أَرْضَ إذْ بلغني. وهذا لفظ مالك. واسم الرجل الذي خاطبه عمر: مجزأة بن ثور. كما عند عبد الرزاق. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 وعثمان (1) ، وعلي (2) -رضي الله عنهم-، وبه قال عطاء والنخعي (3) ، وإليه ذهب مالك (4) ،   = قال البيهقي في «مختصر الخلافيات» (4/405) ، و «الكبرى» (8/207) : ليس بثابت. ونقل تضعيف الشافعي له. ونقل عنه قوله: لا نعلمه متصلاً. ورواه معمر -كما في إسناد عبد الرزاق- عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن أبيه. (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/164 رقم 18692) ، والبيهقي في «السنن» (8/ 206) ، وأبو يوسف في «كتاب الخراج» (ص 180) ، عن سليمان بن موسى، أنه بلغه عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه كَفَر إنسانٌ بعد إيمانه، فدعاه إلى الإسلام -ثلاثاً-، فأبى، فقتله. وهذا لفظ عبد الرزاق، ولفظ البيهقي: عن سليمان بن موسى قال: كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يدعو المرتد ثلاث مرات، ثم يقتله. ولفظ أبي يوسف: عن عثمان قال: «يستتاب المرتد ثلاثاً» . قال: حدثنا أشعث عن الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يستتاب المرتد ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل» . وهذا مرسل ضعيف. وانظر: «المحلَّى» (11/190) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/238) . (2) أثر علي: رواه عبد الرزاق (10/164 رقم 18691) ، وابن أبي شيبة (10/138 رقم 9035) في «مصنفيهما» ، والبيهقي في «الكبرى» (8/207) ، من طريقين: الأول: عند عبد الرزاق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن أبي العلاء، عن أبي عثمان النهدي، عن علي موقوفاً. والثاني: عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق حفص بن غياث، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي موقوفاً. وإسناده صحيح. (3) مذهب النخعي، أخرجه عنه: عبد الرزاق في «المصنف» (10/166 رقم 18697) قال: يستتاب أبداً، قال: قال سفيان: هذا الذي نأخذ به. وكذا أخرج مذهب عطاء في «المصنف» (10/164 رقم 18690) عن ابن جريج، قال: قال لي عطاءٌ في إنسان يكفر بعد إيمانه: يدعى إلى الإسلام، فإن أبى قُتل، قال: قلت: كم يُدْعَى؟ قال: لا أدري، قلت: عمَّن؟ قال: لا أدري، ولكِنّا قد سمعنا ذلك. وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/238) ، «المغني» (12/268) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/203) . (4) انظر: «الموطأ» (459) ، «التفريع» (2/231) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «الكافي» (1/485) ، «بداية المجتهد» (2/459) ، «المعونة» (3/1361) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/298) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (5/658) ، «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (8/65) ، «مواهب الجليل» (6/281) ، «القوانين الفقهية» (ص 356) ، «الإشراف» (4/174 رقم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 والشافعي (1) ، وأصحاب الرأي (2) ، والثوري (3) ، والأوزاعي (4) ، وأحمد (5) ، وإسحاق، وغيرهم (6) .   = 1528- بتحقيقي) ، «الخرشي» (8/65) ، «الشرح الكبير» (4/304) ، «تفسير القرطبي» (3/47) ، «النوازل الجديدة الكبرى» لأبي عيسى الوزّاني (ت 1342) (3/45) . (1) واختلف القول عن الشافعي في أن استتابة المرتد على الوجوب أو على الاستحباب، والمعتمد عندهم أنها على الوجوب. انظر: «الأم» (6/148، 149) ، «مختصر المزني» (ص 259) ، «الإقناع» للماوردي (174) ، «روضة الطالبين» (7/296) ، «المهذب» (2/223) ، «منهاج الطالبين» (3/201) ، «المجموع» (19/ 226، 229) ، «التهذيب» (7/288) ، «البيان» (12/47) ، «حلية العلماء» (7/624) ، «مغني المحتاج» (4/139-140) . وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/238) . (2) المشهور عند الحنفية أنّ استتابة المرتد ليست على الوجوب. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 258) ، «الهداية» (2/458) ، «اللباب» (4/148) ، «تحفة الفقهاء» (3/308) ، «بدائع الصنائع» (7/134) ، «شرح السير الكبير» (5/166) ، «الجامع الصغير» (ص 25) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/501 رقم 1651) ، «أحكام القرآن» له (2/286) ، «مجمع الأنهر» (1/680) ، «حاشية ابن عابدين» (4/225-226) . (3) رواه عنه عبد الرزاق (10/166 رقم 18697) . ونقله عنه: ابن المنذر في «الإشراف» (2/ 238) ، وابن قدامة في «المغني» (12/266) . (4) نقله عنه: ابن المنذر في «الإشراف» (2/238) ، وابن قدامة في «المغني» (12/266) . (5) انظر: «المغني» (12/266- ط. هجر) ، «المقنع» لابن البنا (3/1108) ، «شرح الزركشي» (6/246) ، «الواضح» (2/215، 217) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/574 رقم 1822) ، «الإفصاح» (2/400) ، «مسائل الإمام أحمد» (462، 486- رواية الكوسج، 2/473-475، 3/ 131- رواية صالح، 3/1290، 1291- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1135) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/446) . وهو أصح الروايتين عن أحمد: أنه يجب استتابة المرتد، وعنه قول آخر: أنه لا تجب استتابة المرتد لكن تستحب. ذكره عنه ابن قدامة في «المغني» (12/266-267) . وانظر: «كتاب التمام» لابن أبي يعلى (2/199) . (6) كابن عمر -رضي الله عنه-. رواه ابن أبي شيبة (10/138 رقم 9036) ، والبيهقي (8/ 207) من طريق وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عمّن سمع ابن عمر، عن ابن عمر موقوفاً. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وقول: إنه يقتل بنفس الردة، ولا يستتاب، روي ذلك عن طاوس، وعبيد بن عمير، وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة (1) ، وقال أبو محمد بن حزم (2) : تضرب عنقه، سواء رجع إلى الإسلام أو لم يرجع، سواءٌ أعلن بالردة أو أَسَرَّ بها وجحدها، متى قامت عليه بذلك بيِّنةُ عدلٍ، إلا أنه إن رجع إلى الإسلام؛ غُسِّل وكُفِّنَ وصَلَّى   = وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة من سمع من ابن عمر. وكذلك أبو موسى الأشعري. رواه البخاري في «صحيحه» (رقم 6923) . وسيذكره عنه المصنف. والزهري -أيضاً-، أخرجه عنه عبد الرزاق (10/164 رقم 18693) ، وابن أبي شيبة (6/ 584) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/203) . وكذلك هو مذهب الحسن البصري، فيما نقله عنه الشاشي في «حلية العلماء» (7/625) . وقال ابن المنذر: وقد اختلف فيه عن الحسن. وهو مذهب أهل الظاهر، كما سينقله المصنف عن ابن حزم. انظر: «البناية» (5/850-853) ، «فتح الباري» (12/237) ، «اللباب في الجمع بين السنة والكتاب» (2/778) ، «الحاوي الكبير» (57- حكم المرتد) ، «نوادر الفقهاء» (ص 173) ، «الإفصاح» (2/228) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/238) ، «شرح السنة» (10/239) ، «المغني» (12/267) ، «تفسير القرطبي» (3/47) ، «نيل الأوطار» (8/7-8) . (1) أخرج مذهب عبيد بن عمير: عبد الرزاق (10/164 رقم 18694) ، وابن أبي شيبة (6/ 580- ط. دار الفكر) ، قال في الرجل يكفر بعد إيمانه: يقتل. ومذهب طاوس، أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/166 رقم 18700) قال: لا يقبل منه دون دمه، الذي يرجع عن دينه. ونقله عنهما: ابن المنذر في «الإشراف» (2/238) ، وابن قدامة في «المغني» (12/267) ، وقال: ويُروى ذلك عن الحسن. ومذهب عبد العزيز بن أبي سلمة رواه عنه سحنون. ذكر ذلك الباجي في «المنتقى» (5/282) . وقال أبو يوسف: أقتله ولا أستتيبه، إلا أنه إن بدرني بالتوبة خلَّيتُ سبيله، ووكلتُ أمره إلى الله. نقله عنه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/210) ، والجصاص في «مختصر اختلاف العلماء» (3/501 رقم 1651) . وانظر: «بدائع الصنائع» (7/134-135) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/286) ، «مجمع الأنهر» (1/680) ، «حاشية ابن عابدين» (4/225-226) . (2) وقد ذكر هذه المسألة، وبسط أدلتها وأقوال أهل العلم فيها في «المحلّى» (11/188-197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 عليه المسلمون. وفيه قول ثالث يعزى إلى عطاء -أيضاً-: أنه إن كان مسلماً ممن ولد في الإسلام ثم ارتد؛ قتل ولم يستتب، وإن كان مشركاً، ثم أسلم، ثم ارتد، استتيب (1) . فدليل من رأى استتابته، ولم يَرَ قتله بمجرَّد الرِّدة: قوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] مع ما دلَّ عليه مفهوم الخبر، وأنّ القتل إنما وجب بحال، فإذا تاب وراجع الإسلام؛ ارتفع حكم القتل، كالكافر الأصلي، وقول الله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وهو يَعُمُّ كلَّ كافر كان منه إيمان قبل ذلك، أو لم يكن. ودليل من أوجب القتل بنفس الارتداد: ظاهر الخبر في تعليق حكم القتل على وجود الردة، فإذا وجب القتل؛ لم يندفع إلا بحكم الشرع وتوقيفه في ذلك. خرَّج مسلم (2) ، عن أبي موسى، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حديثاً طويلاً في كراهية طلب العمل، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نسْتعمل على عملنا مَنْ أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى -أو يا عبد الله بن قيس-، فبعثه إلى (3) اليمن، ثم أتبعه معاذ ابن جبل، فلمّا قدم عليه، قال: إنزل، وألقى له وسادة، وإذا رجل عنده موثوق (4) ،   (1) قال ابن المنذر في «الإشراف» (2/238) بعد ذكره هذا القول عن عطاء، قال: والرواية الأولى عن عطاء أثبت. ونقله عنه الشاشي في «حلية العلماء» (7/625) . قلت: وهو القول الأول الذي ذكره المصنّف. (2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها) (3/ 1456- ط. عبد الباقي) ، أو (1824) (15) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم) (باب حكم المرتد والمرتدة) (رقم 6923) ، وأخرجه في عدة مواطن (2261، 3038، 4341، 4343، 4344، 6124، 7149، 7156، 7157، 7172) . (3) في الأصل المنسوخ: «إلى» ، وفي مطبوع «صحيح مسلم» : «على» . (4) في هامش المنسوخ: «كذا الأصل، والوجه: موثق» . قلت: وهو الموافق لما في «الصحيح» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديّاً فأسلم، ثم رجع إلى دينه (1) دينِ السَّوْءِ فتهوَّد، قال: لا أجلس حتى يُقْتَل! قضاء الله ورسوله -ثلاث مرات-» ، فأمر به فقتل. فكان ظاهر قوله: «حتى يقتل، قضاء الله ورسوله» ، وقول أبي موسى له: «نعم» ، ثم أمر به فقتل، ولم يعرض لاستتابته، أنه كذلك قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه الرَّد على من فرَّق بين المرتدِّ الذي كان كافراً ثم أسلم، والمرتدِّ الذي ولد على الإسلام (2) . وكأنَّ القولَ بالاستتابة أرجح؛ لعموم قوله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، ولم يفرِّق بين كافر وكافر، وقوله -تعالى- في المنافقين: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً. مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 146-147] . والمنافقون: ممن آمن ثم كفر. وأمَّا حديث أبي موسى فليس بذلك الظهور فيما يُدَّعى من سقوط الاستتابة (3) . ثم اختلف القائلون بالاستتابة في مدة التربص به، فقيل يستتاب مرة، فإن تاب وإلا قتل مكانه، وإليه ذهب الشافعي والمزني (4) ، وقاله أبو بكر بن   (1) كذا في الأصل والمنسوخ: «رجع إلى دينه» ، وفي مطبوع «صحيح مسلم» : «راجَعَ دينه» . (2) هو مذهب الحنفية، انظر وجه التفريق عند الكرابيسي في كتابه «الفروق» (2/335-336) . (3) وذلك أنه ثبت في بعض روايات الحديث أن الرجل استتيب فلم يتب. وسيأتي تخريجه قريباً. (4) اختلف قول الشافعي في هذا الباب، فقال في (كتاب المرتد) من «الأم» (6/148) : يقتل مكانه. وقال في موطن آخر (1/228) : يحبس ثلاثاً -كما هو القول الثاني الآتي-، ومال المزني إلى القول الأول، وهو الاستتابة مرةً واحدة. فمذهبهما أنه لا يُمهل أكثر من أن يناظر، ويكشف عما اشتبه عليه. وانظر: «مختصر المزني» (260) ، «الحاوي الكبير» (16/415) ، «روضة الطالبين» (10/75-76) ، «منهاج الطالبين» (3/201) ، «مغني المحتاج» (4/139-140) ، «المجموع» (19/ 226) ، «حلية العلماء» (7/625) ، «مختصر الخلافيات» (4/404 رقم 288) ، «البيان» (12/47) ، «التهذيب» (7/288) ، «السنن الكبرى» (8/206-207) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 231) ، «رحمة الأمة» (ص 269) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 المنذر (1) ، وغيره (2) ، وقيل: يستتاب ثلاثة أيام (3) ، فإن تاب وإلا قتل بعدها، روي ذلك عن عمر (4) ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق (5) ، واستحسنه مالك (6) وأصحاب الرأي (7) ، وقيل: يتَرَبَّصُ به شهراً، رُوي ذلك عن علي (8) ، وقد قيل: إنه   (1) في «الإشراف» له (2/239) . (2) كالحسن بن حيي. فيما ذكره عنه ابن حزم في «المحلّى» (11/191) . (3) من يوم ثبوت الردَّة، لا من الكفر والرِّدَّة. (4) مضى -قريباً- مع تخريجه. ويروى كذلك عن ابن عمر. فيما أخرجه ابن أبي شيبة (6/584- ط. دار الفكر) . بإسنادٍ مظلم. (5) انظر: «المغني» (12/266) ، «المقنع» لابن البنَّا (3/1108) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/446) ، «شرح الزركشي» (6/232، 248) ، «الواضح» (2/215، 217) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1136) ، «مسائل أحمد» (462، 486- رواية الكوسج، 2/473-475 و3/131- رواية صالح، 3/1290-1291- رواية عبد الله) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/575 رقم 1823) . (6) انظر: «المعونة» (3/1361) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «المنتقى» للباجي (5/ 284) ، «الشرح الكبير» (4/304) ، «الإشراف» (4/175 المسألة رقم 1529- بتحقيقي) ، «الخرشي» (8/65) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/304) ، «القوانين الفقهية» (ص 356) ، «عيون المجالس» (5/2084 رقم 1505) . وذهب ابن القاسم أن المرتد يستتاب ثلاث مرات، ولو في يومٍ واحد. انظر: «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (8/65) . وهو مذهب الزهري -أيضاً-، فيما أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/164/18693) عن ابن جريج، أخبرني حيان، عنه قال: إذا أشرك المسلم؛ دُعي إلى الإسلام ثلاث مرار، فإن أبى ضُربت عُنقه. ونقله عنه: ابن قدامة في «المغني» (12/268) . (7) ومذهبهم أنه إنْ طلب ذلك؛ أجِّل ثلاثاً؛ ليُنْظَر في أمره، وإن لم يطلب؛ قتل في الحال. انظر: «شرح معاني الآثار» (3/210) ، «تحفة الفقهاء» (3/308-309) ، «الهداية» (2/ 458) ، «البناية» (5/850) ، «بدائع الصنائع» (7/134) ، «اللباب» (4/148) ، «إعلاء السنن» (12/562) . (8) مضى تخريجه دون ذكر لفظه، وهو: أن علياً استتاب رجلاً كفر بعد إسلامه شهراً، فأبى فقتله، وذكره عنه ابن المنذر في «الإشراف» (2/239) ، وابن قدامة في «المغني» (12/268) ، وانظر: «المحلَّى» (11/191) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 يستتاب أبداً، رُوي ذلك عن النخعي (1) ، وليس لشيءٍ من ذلك دليل يوجد، إلا أن من تربص به، ومن مَدَّ في أَجَلِ التربص فبحسب الإعذار إليه، والاجتهاد في أمره، وما يرجوه من معاودته الإسلام. وأمَّا من زعم أنه يُستتاب أبداً؛ فخطأٌ ظاهر؛ لأنَّ فيه إبطالَ حكم الخبر الثابت، والأرجح أنْ يقتل مكانه إن لم يتب؛ لأن الخبر لا يقتضي التربص بظاهرٍ ولا مفهوم، والاستتابة نفسها إنما انتزعت من دليلٍ آخر، فإذا استتيب مرةً؛ فإن التربصَ فوق ذلك لا دليل عليه، فلم يلزم (2) . فصل وأما اختلافهم في المرأة ترتد، ففي ذلك ثلاثة أقوال: قول: إنها كالرجل في ذلك، إن راجعت الإسلام وإلا قتلت، وإليه ذهب الجمهور: مالكٌ (3) ، .............................................   (1) وقاله سفيان الثوري. وقد مضى تخريجه في المسألة السابقة. وقال ابن قدامة في «المغني» (12/268) معلقاً على قول النخعي: «وهذا يفضي إلى أن لا يُقتل أبداً، وهو مخالف للسنة والإجماع» . وذكر ابن قدامة عن سفيان: أنه يستتاب ثلاثاً. وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/239) . (2) مدًّة الاستتابة تحتاج إلى توقيف، والعبرة بالإمهال حتى تزول الشبهة، يدل عليه: ما أخرجه أبو داود في «السنن» (4356) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/206) عن أبي بردة -رضي الله عنه- قال: أُتِيَ أبو موسى برجل ارتدّ عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلةً أو قريباً منها، فجاء معاذ فدعاه، فأبى، فضرب عنقه. قال المنذري في «مختصر سنن أبي داود» (6/197) : «ورواه البخاري في «صحيحه» معلَّقاً عن أبي بردة، ومسلم في «صحيحه» عنه» . وانظر: «المحلَّى» (11/229-231) ، «أثر الشبهات» (509) . (3) انظر: «التفريع» (2/231) ، «الكافي» (1/485) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «بداية المجتهد» (2/459) ، «المعونة» (3/1362) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 297) ، «عيون المجالس» (5/ 2081 رقم 1503) ، «الإشراف» (4/174 المسألة رقم 1527- بتحقيقي) ، «حاشية الدسوقي» (4/ 401) ، «أسهل المدارك» (3/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 والشافعي (1) ، والليثُ، والأوزاعي (2) ، وأحمد (3) ، وإسحاق. ومذهب أهل الظاهر أنها تقتل من غير استتابة، كالرجل عندهم (4) . وقول: إنها تجبر على الإسلام ولا تقتل، وإليه ذهب أبو حنيفة (5) .   (1) «الأم» (6/156) ، «مختصر المزني» (ص 273) ، «الإقناع» للماوردي (ص 175) ، «المهذب» (2/223) ، «منهاج الطالبين» (3/201) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/241) ، «روضة الطالبين» (10/75) ، «الحاوي الكبير» (13/155- ط. دار الكتب العلمية) ، «مختصر الخلافيات» (4/406) ، «مغني المحتاج» (4/139-140) ، «البيان» للعمراني (12/44) ، «التهذيب» (7/288) ، «نهاية المحتاج» (7/413) . (2) ذكر مذهب الليث والأوزاعي وإسحاق: ابن المنذر في «الإشراف» (2/240) ، وابن قدامة في «المغني» (12/264) . وهو مذهب الحسن، والزهري، ومكحول، وحماد، وإبراهيم النخعي. وروي عن الحسن -أيضاً- أنها تسترق، ولا تقتل. وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/176) ، «شرح السنة» (10/239) ، «الإشراف» (2/240) ، «المغني» (12/264) ، «سنن البيهقي» (8/203) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/342) ، «فقه الإمام الليث بن سعد» (ص 264) ، «أثر الشبهات في درء الحدود» (ص 520-523) . (3) «المقنع» لابن البنا (3/1108) ، «المغني» (12/264) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1134) ، «تنقيح التحقيق» (3/327-329) ، «الإنصاف» (10/328) ، «كشاف القناع» (6/174) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/446) ، «مسائل أحمد» (462، 486- رواية الكوسج، 3/1290-1291- رواية عبد الله، 2/473-475، 3/131- رواية صالح) ، «شرح الزركشي» (6/ 232، 248) ، «الواضح» (2/215، 217) ، «منتهى الإرادات» (3/396) . وهذا القول هو الراجح -إن شاء الله-؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه؛ فاقتلوه» . فعمّ الرجال والنساء والعبيد والإماء. (4) مضى ذكر كلام ابن حزم في استتابة المرتد. وانظر: «المحلّى» (11/196- وما بعدها) . (5) انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 259) ، «الهداية» (2/458) ، «البناية» (5/854) ، «تحفة الفقهاء» (3/309) ، «المبسوط» (10/108) ، «بدائع الصنائع» (9/4385) ، «القدوري» (ص 117) ، «اللباب» (4/149) ، «شرح السير الكبير» (5/166) ، «فتح القدير» (6/71) ، «رؤوس المسائل» (361 رقم 240) ، «ملتقى الأبحر» (1/376) ، «الجامع الصغير» (251) ، «الاختيار» (4/149) ، «اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى» (199) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/471 رقم 1624) ، «تبيين الحقائق» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وروي -أيضاً- عن ابن عباس: تُجبر. وفي روايةٍ: أنها تحبس ولا تقتل، ذكر ذلك الدارقطني مسنداً إليه من طرق (1) .   = (3/284-285) ، «البحر الرائق» (5/139) ، «تحفة الملوك» (ص 193) ، «جمل الأحكام» (305) ، «إعلاء السنن» (12/573) . وهو قول سفيان الثوري. انظر: «شرح السنة» (10/ 239) ، «تفسير القرطبي» (3/48) . (1) أخرجه الدارقطني في «سننه» (3/117 رقم 118) حدثنا عبد الصمد بن علي، حدثنا عبد الله ابن عيسى الجزري، نا عفان، نا شعبة، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقتل المرأة إذا ارتدت» . قال الدارقطني: عبد الله بن عيسى هذا كذاب، يضع الحديث على عفان وغيره، وهذا لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا رواه شعبة. ثم أسند (رقم 119 و354) إلىعبد الرزاق، عن سفيان، عن أبي حنيفة، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن ابن عباس، في المرأة ترتد، قال: «تجبر ولا تقتل» . قلت: أخرجه عبد الرزاق (10/177 رقم 1873) عن سفيان الثوري، عن عاصم، به. وأسند الدارقطني -كذلك- (رقم 120) ، وابن أبي شيبة (6/585- ط. دار الفكر) إلىعاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس قال: «المرتدة عن الإسلام تحبس ولا تقتل» . وأسند الدارقطني -أيضاً- (رقم 352، 356) إلى ابن عباس في المرأة ترتد، قال: «تُستحيا» . وكل أسانيدها ليّنة، ومدارها على عاصم بن أبي النجود المقرئ. قال الحافظ في «التقريب» (3054) : «صدوق له أوهام» . وأسند الدارقطني إلى يحيى بن معين قال: كان الثوري يعيب على أبي حنيفة حديثاً كان يرويه، ولم يروه غير أبي حنيفة، عن عاصم، عن أبي رزين. وأسند البيهقي إلى الإمام أحمد قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة؟ فقال: أما من ثقة فلا. ونقل البيهقي في «الكبرى» (8/203-204) عن الشافعي في قول ابن عباس: «تحبس ولا تقتل» . قال الشافعي: فكلمني بعض من يذهب هذا المذهب، وبحضرتنا جماعة من أهل العلم بالحديث، فسألناهم عن هذا الحديث؟ فما علمتُ منهم واحداً سَكَتَ، أن قال: هذا خطأ، والذي روى هذا ليس ممن يثبت أهل الحديث حديثه. ا. هـ. وردَّ التركماني هذا كله. فانظر: «السنن» (8/203-204) . وذكر ابن المنذر قول ابن عباس هذا، وقال: ولا يصح ذلك عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 وقول: إنها تُسترقُّ ولا تُقتل. يروى ذلك عن علي (1) ، وبه قال قتادة والحسن البصري (2) . فدليل الجمهور في وجوب قتلها كالرجل: عموم الخبر في قتل من بدل دينه، وهو لفظ يعمّ الرجل والمرأة. ومستند أبي حنيفة في أنها تجبر على الإسلام ولا تقتل: حمله على ما وقع النهي عنه من قتل نساء أهل الحرب بعلَّة الكفر، وهذا بعينه هو مستند القول الآخر في استرقاقها؛ لأن نساء أهل الحرب اللائي نُهي عن قتلهن، أبيح استرقاقهن بعلة الكفر، فمن ساوى بينهن (3) من غير فرقٍ؛ قال بالاسترقاق، ومن رأى لموقع الإسلام المتقدم أثراً في تعلُّق الأحكام بمنع معاودة الكفر؛ قال: تُجبر على الإسلام، ولا تقتل، ولا تسترق. والأرجح أن لا فرق في شيء من ذلك بينها وبين الرجل، وأنها تقتل كما يقتل؛ لعموم الخبر، واستوائهما في الكفر بالردة. وأما النهي عن قتل النساء فشيء خاص في نساء أهل الحرب، إذا لم يكن   (1) ذكره ابن المنذر في «الإشراف» (2/240) . ونقل ابن قدامة في «المغني» (12/264) عنه أنه لا فرق بينها وبين الرجل. وأشار (12/282) إلى أثر علي هذا في أن المرتدة، تُسبى. ونقل تضعيف الإمام أحمد له. قلت: أخرجه عبد الرزاق (10/171 رقم 18715) ، وابن أبي شيبة (2/267) في «مصنفيهما» ، والبيهقي (8/208) من طريق عمار الدهني، عن أبي الطفيل، عن علي، في بَعْثِهِ معقل السُّلمي إلى بني ناجية، فوجدهم ثلاثة أصناف ... وفيه: وصِنْفٌ أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام إلى النصرانية ... قال: فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم.. إلخ. (2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/176 رقم 18728) عن معمر، عن قتادة قال: تُسبى وتباع، وكذلك فعل أبو بكر بنساء أهل الردة، باعهم، وذكر قبله قول الحسن في المرتدة: تُسبى وتكره. وأخرجه -أيضاً- عن الحسن: ابن أبي شيبة (6/585- ط. دار الفكر) قال: لا تقتلوا النساء إذا هُنَّ ارتددن عن الإسلام، ولكن يُدْعَيْن إلى الإسلام، فإن هنَّ أبين سُبين، فيجعلن إماء المسلمين، لا يقتلن. وأخرج عنه قوله: لا تقتل، تُحبس. (3) كذا في الأصل، ومصحّحة في هامش المنسوخ: «بهنَّ» ، والمثبت أصوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 منهن حدثٌ يوجب قتلهن: من قتال، أو قَتلِ أحدٍ من المسلمين، وغير ذلك مما أثبته الشرع. فأما إنْ تعدَّيْنَ في مثل ذلك؛ فلا يمتنع القتل. خرَّج أبو داود (1) عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم -يعني بني قريظة- إلا امرأة، إنها لعندي تُحَدِّثُ، تضحك ظهراً وبَطْناً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسوق، إذْ هَتَفَ هاتفٌ باسمها: أين فُلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حَدَثٌ أحدثته. قالت: فانطُلِق بها فضربت عنقها. فليس النهي عن قتل النساء يراد به العموم والإطلاق؛ ألا ترى إلى قتل المرأة قوداً بالنفس؛ وحدّاً في الزنا؟ وكذلك الردّةُ، والله أعلم. فصل وأما اختلافهم في ميراث المرتد إذا قُتِل أو مات على رِدّته، ففي ذلك قولان   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في قتل النساء) (رقم 2671) من طريق محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة. قلت: وهذا إسناد حسن؛ من أجل محمد بن إسحاق. وبقية رجاله ثقات، رجال الشيخين. وأخرجه أحمد (6/277) ، والحاكم (3/35-36) ، والبيهقي في «الكبرى» (9/82) ، وفي «معرفة السنن والآثار» (18018) من طريقين، عن ابن إسحاق، به. وهو في «السيرة النبوية» لابن هشام (2/242) من حديث ابن إسحاق بهذا الإسناد. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. قلت: لم يحتج مسلم بمحمد بن إسحاق، إنما أخرج له في المتابعات. ونقل البيهقي عن الشافعي قوله: فحدثني أصحابنا أنها كانت دلَّت على محمود بن مسلمة رحًى، فقتلته، فقتلت بذلك. ونقل -أيضاً- قوله: قد جاء الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل القرظية، ولم يصحَّ خبر على أيّ معنىً قتلها، وقد يحتمل أن تكون أسلمت، ثم ارتدت ولحقت بقومها، فقتلها لذلك، ويحتمل غيره. وقد مضى ذكر حديث هذه المرأة، وأنها دلَّت على خلاد بن سويد حَجَراً فقتلته، وليس على محمد بن مسلمة. وقولها: «ظهراً وبطناً» ، أي: تنقلب من كثرة الضحك ظهراً لبطن، وبطناً لظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 مشهوران: ذهبت طائفة إلى أنه يرثه ورثته من المسلمين، رُوي عن علي (1) ، والحسن البصري (2) ،   (1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/106 رقم 10143) عن عبد الله بن أبي كثير، عن شعبة، عن الحكم، أن عليّاً قال: «ميراث المرتد لولده» . وأخرجه ابن حزم في «المحلّى» (11/197) من طريق دثار بن يزيد عن عبيد بن الأبرص الأسدي، عن علي، مثله. وقال البيهقي في «مختصر الخلافيات» (4/31) : «وروي عن حجاج بن أرطاة، عن الحكم: أن عليّاً -رضي الله عنه- قضى في ميراث المرتد أنه لأهله من المسلمين» . ثم قال: «وهذا منقطع. والحجاج غير محتج به» . قال: «ورواه شريك، عن المغيرة، عن علي» . وقال: «وهو -أيضاً- منقطع» . وانظر: «السنن الكبرى» (6/254) . وروى عبد الرزاق (6/104 و10/169، 339) ، وابن حزم في «المحلّى» (11/197) عن أبي عمرو الشيباني، أنّ عليّاً -رضي الله عنه- استتاب رجلاً مرتدّاً، فقال: «أما حتى ألقى المسيح فلا» ، فأمر به فضربت عنقه، ودفع ميراثه إلى ولده من المسلمين. وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (6/105) ، «شرح معاني الآثار» (3/266) ، «الخراج» لأبي يوسف (216) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/249) . ونقل ابن المنذر في «الإشراف» (3/164) والبيهقي تضعيف أحمد لحديث علي -رضي الله عنه-. وروي عنه -رضي الله عنه-، أن مال المرتد لبيت مال المسلمين. ولا يثبت هذا عن علي؛ فالأثر ذكره مسنداً: ابن حزم في «المحلّى» (9/305) من طريق الحارث الأعور، عن علي. والحارث، قال المغيرة فيه: لم يكن الحارث يصدق عن علي في الحديث. وانظر: «ميزان الاعتدال» (رقم 1627) . وحكى ابن حزم أن مذهب ابن مسعود: أنه لورثته من المسلمين، قال: «ولم يصح» . قلت: أخرجه عبد الرزاق (6/105 رقم 10140) بسنده إلى الحكم بن عتيبة، عن ابن مسعود. وفيه رجل مبهم. (2) كان -رحمه الله- يقول: ميراث المرتد للمسلمين، وقد كانوا يُطيِّبونه لورثته. أخرجه عنه: عبد الرزاق في «المصنف» (6/107 رقم 10146) وفيه رجل مجهول. وانظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (2/186 ب) ، «شرح معاني الآثار» (3/267) ، «سنن سعيد بن منصور» (3/1/81) ، «تفسير القرطبي» (3/49) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/102) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/249 أو 3/163 ط. الباز) ، «شرح السنة» (8/365) ، «المغني» (9/162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 والشعبي (1) ، وهو قول أبي حنيفة (2) ، والليث وإسحاق (3) . وذهبت طائفة إلى أنه لا حق لورثته في ميراثه، وإنما ماله فيءٌ لجماعة المسلمين، وهو قول مالكٍ (4) ، والشافعي (5) ،   (1) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/249، أو 3/163- ط. الباز) ، «المحلّى» (11/197) ، «المغني» (9/162) . (2) مذهب أبي حنيفة أنه إن مات أو قتل على ردَّته؛ انتقل ما اكتسبه في إسلامه إلى ورثته المسلمين، وكان ما اكتسبه في حال ردّته فيئاً. وقال أبو يوسف ومحمد: كلاهما لورثته. وانظر: «الرد على سير الأوزاعي» (ص 111) ، «الخراج» لأبي يوسف (216) ، «شرح السير الكبير» (5/149، 197) ، «الأصل» . كتاب الولاء (باب ولاء المرتد) (4/267) ، «مختصر الطحاوي» (258) ، «اللباب» (4/150، 197) ، «الهداية» (2/459) ، «المبسوط» (10/104) ، «بدائع الصنائع» (7/138) ، «الاختيار» (4/232-233) ، «عمدة القاري» (23/260) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/ 472 رقم 1625 و4/440 رقم 2131) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/123) ، «ملتقى الأبحر» (1/375) ، «تحفة الملوك» (193) ، «إعلاء السنن» (12/585) ، «جمل الأحكام» (307) . (3) وهو مذهب الحكم بن عتيبة. حكاه ابن المنذر عنه وعن الليث وإسحاق في «الإشراف» (2/249 أو 3/163-ط. الباز) . وفرَّق الأوزاعي بين ما إذا كان المرتد في دار الإسلام أو لا، قال: إذا كان في دار الإسلام؛ قُتل وقسم ماله بين ورثته؛ حكاه ابن المنذر في «الإشراف» (2/249 أو 3/163- ط. الباز) ، وحكى غيره عنه أن مذهبه التوريث مطلقاً. وانظر: «المحلّى» (11/197) ، «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (4/440 رقم 2131) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/510) . (4) انظر: «المدونة» (3/87) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «الكافي» (582) ، «مقدمات ابن رشد» (3/221) ، «الإشراف» (4/179 رقم 1535- بتحقيقي) ، «جامع الأمهات» (ص 513) ، «عيون المجالس» (4/1902 رقم 347) ، «تفسير القرطبي» (3/49) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/306) ، «الخرشي» (8/66) ، «الشامل» (2/ق 171) لبهرام. (5) انظر: «الأم» (4/87-88، 310 و6/174) ، «مختصر المزني» (ص 140) ، «الإقناع» للماوردي (ص 128، 175) ، «مختصر الخلافيات» (4/29) ، «مغني المحتاج» (3/25) ، «منهاج الطالبين» (2/344) ، «روضة الطالبين» (6/30) ، «البيان» للعمراني (9/18 و12/53) ، «المجموع» (19/ 235) ، «التهذيب» للبغوي (7/289-290) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/249 أو 3/163- ط. الباز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 وأبي ثور (1) ، وغيرهم (2) ، وهو الأرجح، لما خرَّجه مسلم (3) عن أسامة بن زيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرث المسلم الكافر» . وهذا نص في ذلك. وفي المسألة قول ثالث: قال أبو محمد بن حزم (4) : كل ما ظفر به من مال المرتد، فسواءٌ رجع إلى الإسلام أو لم يرجع؛ هو لجماعة المسلمين، وأما ما لم يظفر به من ماله قبل قتله؛ فهو باقٍ على ملكه: إن رجع إلى الإسلام؛ وَرِثه ورثته من المسلمين، وإن لم يرجع؛ ورثه ورثته من الكفار، إن كان له ورثة كفار، فإن لم يكونوا (5) له؛ فهو لجماعة المسلمين. مسألة واختلفوا في حكم ولد المرتد، فقال الشافعي (6) : ولد المرتد على حكم   (1) واختاره ابن المنذر، ونقله عن أبي ثور في «الإشراف» (2/249) ، وابن قدامة في «المغني» (9/162) . (2) كربيعة شيخ مالك، وابن أبي ليلى. انظر: «الإشراف» (2/249) ، «المحلّى» (11/197) ، «المغني» (9/162) ، «عيون المجالس» (4/1902) . واختلف فيه عن أحمد: فحكى إسحاق بن منصور عنه أنه قال: ماله للمسلمين. وهو مشهور المذهب. وحكى الأثرم عنه أنه قال: كنت أقول به، ثم جَبنْتُ عنه، قال: هو كما ترى، قُتل على الكفر، فكيف يرثه المسلمون؟ وقال: هو في بيت المال، أفاده ابن المنذر. وانظر: «المغني» (9/162 و12/272) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/ 1137) ، «الواضح شرح مختصر الخرقي» (1/218) ، «الإنصاف» (7/352 و10/339) ، «شرح الزركشي» (6/ 2725) ، «المقنع» لابن البنا (2/847) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/577) ، «كشاف القناع» (6/ 182-183) ، «الإقناع» (4/305) ، «الكافي» (3/161) ، «منتهى الإرادات» (2/503) . (3) في «صحيحه» في كتاب الفرائض (رقم 1614) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفرائض (باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) (رقم 6764) . (4) في «المحلّى» (9/304 المسألة رقم 1744) . (5) كذا في الأصل، ولعل الصواب: «يكن» . (6) فرّق الشافعية بين أن يكون الولد انعقد بين الزوجين قبل الردة أو بعدها، فإن انعقد قبل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 الإسلام، فإن بلغوا فأبوا من الإسلام؛ قتلوا بعد أن يستتابوا، ولا تُسبى للمرتد ذرية، وقال الأوزاعي (1) : «إن كان تزوج في دار الحرب، ووُلد له، ثم راجع الإسلام؛ أُلحقت به ذريته، وَوُضِعَت امرأته في المقاسم، [وإن أبى أن يُسلم؛ وضعت امرأته وولدها في المقاسم] » . وقال أبوحنيفة (2) : «إن ارتد رجل وامرأته عن الإسلام معاً؛ فهما على النكاح، فإن لحقا بدار الحرب، فحملت في دار الحرب فولدت، ثم ظُهر على ولدها؛ فهو فيء (3) ، ويجبر على الإسلام إذا سُبي صغيراً، وإن وُلد لولدهما ولد، ثم ظُهر على ولد الولد؛ كان فيئاً، ولم يجبر على   = الردة؛ فمسلم، حتى لو ارتدت حامل؛ فلا يحكم بردَّة الولد، فإن بلغ وأعرب بالكفر، كان مرتداً بنفسه، وإن حدث الولد بعد الردة، وكانا مرتدين، فهو كافر تبع لهما. وهو المشهور الصحيح من المذهب. فعلى القول بإسلامه؛ فلا يُسترق بحال، وإن بلغ وأعرب بالكفر: فمرتد. انظر: «الأم» (6/172) ، «مختصر المزني» (260) ، «الإقناع» للماوردي (ص 175) ، «الحاوي الكبير» (16/425) ، «حلية العلماء» (7/630) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/252) ، «مغني المحتاج» (4/ 135، 136، 141) ، «معالم السنن» (2/202) ، «البيان» للعمراني (12/59) ، «روضة الطالبين» (10/ 77) ، «المجموع» (21/76) ، «فتح الباري» (12/280) ، «السراج الوهاج» (519) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 231) . قال الخطابي: «لم ينقرض العصر -أي: عصر الصحابة- حتى أجمعوا أنه لا يُسبى ولد المرتد» . (1) ذكره عنه ابن المنذر في «الإشراف» (2/252) ، وما بين المعقوفتين منه، وعليه في الأصل إلحاق، ولم يظهر في المصورة، وأُثبت في المنسوخ إلا أن فيه: «أبى أن يُسبى» . (2) نقل صاحب «الهداية» عن أبي حنيفة: أن ولد الولد يجبر على الإسلام تبعاً للجد، وأصله التبعيَّة في الإسلام. قال: وهي رابعة أربع مسائل كلها على الروايتين -أي: عن أبي حنيفة-، والثانية: صدقة الفطر، والثالثة: جرّ الولاء، والأخرى: الوصية للقرابة. انظر: «شرح السير الكبير» (5/197) ، «مختصر الطحاوي» (ص 259) ، «الهداية» (2/463) ، «تحفة الفقهاء» (3/309) ، «بدائع الصنائع» (7/139-140) ، «البناية» (5/882) . وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/252-253) . (3) في فتاوى البرزلي (2/29) : «ولد المرتدة في دار الحرب من مرتدٍّ أو حربيٍّ فيءٌ مطلقاً؛ للحكم لهم بالدار، كأولاد أهل الحرب، ومثله أولاد الحربية من حربيٍّ أو مرتد» ، والعبارة المنقولة عند المصنف عن أبي حنيفة هي عبارة ابن المنذر في «الإشراف» (3/166) ، وعنده: «فإنه فيء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 الإسلام، إنما يجبر على الإسلام المرتدون وأبناؤهم (1) لأصلابهم، وأما ولد ولدهم الذين ولدوا في دار الحرب، فهم فيء لا يجبرون على الإسلام» . قال أبو محمد بن حزم (2) : «كل من نالته ولادة مسلم أو مسلمة، بأي وجه كان، لم يقبل منه إلا الإسلام أو السيف، وإن بَعُدَ إلى ألف أم، أو ألف أب وأكثر، وسواء بانَ المرتدون بدارهم أو لم يَبيِنوا، دافعوا عن أنفسهم أو لم يدافعوا؛ لحقوا بأرض الحرب أو لم يلحقوا؛ حكمهم في كل شيءٍ كما ذكرنا» . يعني ما تقدم من قوله في وجوب القتل وأحكام الوراثة وغير ذلك. قال: «إلا أنهم إن دافعوا، غُنِمت أموالهم وقسمت، كأموال أهل الحرب ولا فرق، والمرأة المرتدة في كل ما ذكرنا من قتل وغيره كالرجل، والعبد والأَمَة كذلك فلم يَجُزْ سباؤهم، ولا استحياؤهم، إلا أن يكونوا أصاغر فيستحيون حتى يبلغوا؛ فإن أسلموا؛ وإلا قتلوا» . والأرجح ما توافق عليه قوله وقول الشافعي، ونحوه من مذهب مالك في إجبار ولد المرتد على الإسلام (3) ، فإن كانوا أصاغر فبلغوا فأبوا دين الإسلام قتلوا، ولا تسبى للمرتد ذرية، وقد تقدم من القول في وجه الدليل على صحة   (1) عبارة ابن المنذر: «وأولادهم» . (2) أسهب القول في ميراث المرتد: لمن هو بعده؟، في «المحلّى» (11/197- وما بعدها) ، ولم أجد العبارة التي نقلها المصنف هنا. (3) انظر: «عقد الجواهر الثمينة» (3/300) ، «المفهم» (1/186) -وفيه: «وكان أبو بكر يرى سَبْي أولاد المرتدين، وبذلك قال أصبغ بن الفرج من أصحابنا، وكان عمر يرى أنهم لا يُسبون، ولذلك ردَّ سبيهم، وبهذا قال جمهور العلماء وأئمة الفتوى» -، «إكمال المعلم» (1/244) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/178 رقم 1533- بتحقيقي) ، «حاشية الدسوقي» (4/305) . قلت: وهو مذهب الحنابلة أنه لا يجري على أولاد المرتدين ممن كانوا قبل الردَّة رقٌّ، بخلاف ما لو ولد حال الردّة، فإنه يسترق. انظر: «المغني» (12/282) ، «رؤوس المسائل» (3/1137) ، «المقنع» (3/1111) ، «شرح الزركشي» (6/256، 258) ، «الواضح» (2/219) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/452) ، «مسائل الإمام أحمد» (2/93- رواية ابن هانئ) ، «الإنصاف» (10/344) ، «الروايتين والوجهين» (2/310) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 الأصل الذي يشتمل على هذا وأمثاله في (فصل: المفاداة بأبنائه المشركين) ، من (الباب الخامس) ما فيه غُنْية لمن تأمله. قال أبو الوليد بن رشد (1) في ارتداد أهل بلد أو حصن: «الذي ذهب إليه جمهور العلماء وأئمة السلف: أن يُقتالوا؛ فيقتل رجالهم، ولا تسبى ذراريهم، وأما أموالهم فهي فيءٌ للمسلمين. قال: وقال أصبغ: تُسبى ذراريهم ونساؤهم، وتقسم أموالهم، ويقتل كبارهم على حكم الناقضين من أهل الذمة؛ لأنهم جماعة، وإنما يكون الارتداد في الواحد وشبهه، وهو الذي خالفت فيه سيرةُ عمر بن الخطاب سيرةَ أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنهما- في الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ سار فيهم أبو بكر سيرة الناقضين، فقتَلَ الكبارَ، وسبَى النساءَ والصغار، وجرت فيهم المقاسم وفي أموالهم، فلما وُلِّيَ عمر بعده نقض ذلك، وسارَ فيهم سيرة المرتدين: رَدَّ نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم وإلى الحرية، وأخرجهم من الرقّ والسِّباء، وحملهم محمل ذرية المرتدين: أنهم على الإسلام، إلاّ من أباهُ منهم بعد بلوغه، وما أَباه (2) أحد منهم على عمر، ولا قبل ذلك، بل أَقَرَّ كلُّهم بالإسلام ساعة سُبُوا» . قلت: فذهب أصبغ في سباء ذرية المرتدين إذا كانوا جماعة مذهباً شاذّاً؛ حيث فرَّق بين حكم الجماعة والآحاد من غير دليل، كما ذهب أشهب في أهل الذمة إذا نقضوا مذهباً شاذّاً: أن لا يُسبوا، وكلا القولين غير سديد، وقد تقدم الرَّدُّ على أشهب. مسألة واختلفوا في حكم ما أصاب المرتدُّ حال ارتداده من دمٍ ومال، فقيل: حالهم في ذلك كلِّه، والحكمُ عليهم بما أصابوه كحال المسلمين، لا يختلف في   (1) في «البيان والتحصيل» (3/58) . (2) في منسوخ أبي خبزة: «أباهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 العقل والقود والضمان، وإليه ذهب الشافعي (1) ، قال: وسواءٌ قبل يقهرون (2) وبعدما قهروا، فتابوا أو لم يتوبوا، لا يختلف ذلك. وقيل: إنهم إذا حاربوا أو نابذوا المسلمين، لم يؤخذوا بشيءٍ من ذلك، وهم فيه كالمشركين، رُوي ذلك في قولٍ عن الشافعي -أيضاً- (3) . وحكى أبو الوليد بن رشد (4) : أنه لا اختلاف -يعني: بين المالكية- في أن المرتدَّ إذا لحق بدار الشرك فتَنَصَّرَ، وأصاب الدماء والأموال، ثم أُخِذ فأسلم؛ أنه يُهدر عنه جميع ما أصاب (5) ، كالحربي إذا أسلم سواء، وهذا إذا صحَّ ارتداده بكونه على بصيرةٍ منه في الكفر، وأنه لم يفعل ذلك مُجوناً وفسقاً. قال: «ولو ارتدَّ وأصاب الدماء في بلد الإسلام، ثم أسلم» ؛ فَذَكَرَ ما ظاهره: أن لا خلاف بين المالكية في أنَّ الارتداد لا يُسْقِطُ عن المرتد شيئاً من حقوق الناس، في الدماء والأموال والجراح. واختلف في حقوق الله -تعالى- من الزنى، والسرقة، وحد الحرابة؛ فعن ابن القاسم: أن ذلك يُهدر عنه، وحكى ابن حبيب عن أصبغ، واختاره (6) هو: أن   (1) انظر: «الأم» (6/39- ط. دار الفكر) ، «مختصر المزني» (259، 267) ، «الإقناع» (174) ، «المهذب» (2/221) ، «روضة الطالبين» (10/81) ، «المنهاج» (131) ، «حلية العلماء» (7/629) ، «البيان» للعمراني (12/62) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/254-255) ، «المجموع» (19/239) . (2) كذا في الأصل والمنسوخ، ومطبوع «الأم» ، ولعلَّ الصواب: قبل أن يقهروا. انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/255) . (3) انظر: «الأم» (4/228-229 و6/176) . وفرَّق الشافعية بين أن يكون المرتد أتلف شيئاً في غير القتال، أو في القتال. ففي غير القتال: يضمن، وفي القتال: لا يضمن. انظر: «روضة الطالبين» (10/55، 81) . (4) في «البيان والتحصيل» (2/601) . (5) انظر في مذهب المالكية: «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «مقدمات ابن رشد» (3/221) ، «المعونة» (3/1361) ، «القوانين الفقهية» (ص 355) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 300) ، «جامع الأمهات» (ص 254) ، «الإشراف» (4/177 رقم 1532- بتحقيقي) ، «عيون المجالس» (2/921 رقم 641) ، وذكر ابن عبد البر في «الكافي» (1/485) أنهم يطالبون بذلك كلِّه. (6) كذا في الأصل، وفي مطبوع «البيان والتحصيل» (2/601) ، وفي المنسوخ: «واختار» !! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 الرِّدَّة لا تُسْقِطُ شيئاً من ذلك؛ لأنه يتهم أن (1) يرتد في الظاهر؛ ليُسْقِطَ ذلك عن نفسه، وقال أبو حنيفة (2) : ما جَنَى في رِدَّته؛ فهو عليه في ماله (3) . فصل: في الزِّنديق (4)   (1) كذا في الأصل، وفي مطبوع «البيان والتحصيل» ، وفي المنسوخ: (من) بدل (أن) . (2) قال محمد بن الحسن الشيباني في «السير الكبير» (5/212- 213) في المرتد: «ولو أصاب ذلك بعدما لحق بدار الحرب مرتداً، ثم أسلم؛ فذلك كله موضوع عنه، وما أصاب المسلم من حدٍّ لله في زنىً أو سرقة أو قطع طريق، ثم ارتدَّ، أو أصابه بعد الردّة، ثم لحق بدار الحرب، ثم جاء تائباً، فذلك كله موضوع عنه، وإن أصاب دماً في قطع الطريق؛ فعليه القصاص» . وقال الكاساني في «بدائع الصنائع» (7/137) : «ولو جنى المرتد جناية، ثم لحق بدار الحرب، ثم عاد إلينا ثانياً، فما كان من حقوق العباد كالقتل والغصب والقذف يؤخذ به، وما كان من حقوق الله -تبارك وتعالى- كالزنى والسرقة وشرب الخمر يسقط عنه» . ففرق الحنفية بين الجناية في حق الله، وفي حقوق العباد، كما حكى ابن رشد الخلاف المذكور من كلام ابن القاسم وأصبغ. وانظر: «مختصر الطحاوي» (ص 261) ، «الهداية» (2/460) ، «اللباب» (4/150) ، «البناية» (5/865، 867) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/508 رقم 1655) . (3) وذهب الحنابلة -أيضاً- إلى أنهم يؤخذون بذلك، إن أتلفوا نفوساً أو أموالاً. وهو أحد قولي الشافعي الماضي ذكرهما، قالوا: لأنه كفر بعد إيمان، فلا يسقط الضمان في الأنفس والأموال. انظر: «المغني» (12/284) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1139) ، «الإنصاف» (10/342) ، «المبدع» (9/185) ، «الفروع» (6/175) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/582 رقم 1834) ، «المحرر» (2/168-169) ، «كتاب التمام» (2/201) . والراجح من هذا كلِّه -والله أعلم- قول من قال: إنهم لا يؤخذون بشيءٍ من ذلك كلِّه؛ وذلك بما ثبت أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- والصحابة لم يؤاخذوا من رجع من أهل الردَّة بشيءٍ مما قتلوا أو أتلفوا؛ لأنهم فئة ممتنعة، قاتلت على تأويلٍ بدينٍ كأهل الحرب. وانظر حول خبر المرتدين: «تاريخ ابن جرير» (3/250-251، 259-260، 261) ، «الردّة» للواقدي (86، 95، 96، 97، 100، 101) ، «الفتوح» (1/15) لابن أعثم، «فتوح البلدان» للبلاذري (1/113-ط. المنجد) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/206) . (4) الزنديق: هذا اللفظ ليس من كلام العرب، وهو فارسي معرَّب، معناه: من يقول بدوام = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 يُقتل (1) على كل حال؟ فقالت طائفة: يُكَفُّ عنه إذا أظهر الإسلام؛ لأن ما أظهره من ذلك عصمةٌ لدمه، وإليه ذهب الشافعي (2) ، وقالت طائفة: يقتل أبداً ولا يستتاب، ولا يقبل منه ما أظهره من الإسلام، وهو قول مالك (3) ، والليث،   = الدهر. وإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامة قالوا: ملحد، ودَهري (بفتح الدال) ، وإذا أرادوا معنى السن قالوا: دُهري (بضم الدال) . قال ابن حجر في «فتح الباري» (12/270-271) : «وأصل الزنادقة أتباع ديصان ثم ماني ثم مَزْدك، وحاصل مقالتهم: إن النور والظلمة قديمان، وإنهما امتزجا. فحدث العالم كله منهما. فمن كان من أهل الشر فهو من أهل الظلمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور. وكان بهرام جد كسرى قد قتل ماني وأصحابه، وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك. وقام الإسلام والزنديق يُطْلقُ على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل، ومن ثَمَّ أُطلِقَ الاسم على كل من أسَرَّ الكفر وأظهر الإسلام، وعلى من لا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بوحدانية الخالق. حتى قال مالك: الزندقة ما كان عليه المنافقون، وكذا أطلق الشافعية وغيرهم لفظ (الزنديق) على كل من يُظهر الإسلام ويُخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك، وإلا فأصلهم ما ذكرت» . انتهى بتصرف. وانظر: «تهذيب اللغة» للأزهري (9/400) ، «المعرَّب» للجواليقي (166) ، «المغرب» (1/ 235) ، «القاموس المحيط» (3/235) ، «مشارق الأنوار» للقاضي عياض (1/311) ، «الأم» (6/156) . (1) في منسوخ أبي خبزة: «تُقْبل» ، وكتب فوقها: «كذا» . أي: كذا هي. (2) انظر: «الأم» (6/39) ، «مختصر المزني» (259) ، «الحاوي الكبير» (16/408) ، «روضة الطالبين» (10/75-76) ، «المهذب» (2/223) ، «مغني المحتاج» (4/140-141) ، «السراج الوهاج» (520) ، «نهاية المحتاج» (7/399) ، «المجموع» (19/232) . وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/248) ، «حلية العلماء» (7/626، 635) ، «فتح الباري» (12/272، 273) ، «إرشاد الساري» (10/75) . وهو مذهب الحنفية في إحدى الروايتين، والثاني: لا تقبل توبته. انظر: «أحكام القرآن» (3/274- ط. إحياء التراث) للجصاص، «شرح معاني الآثار» (3/ 210- ط. دار الكتب العلمية) ، «شرح فتح القدير» (6/98) ، «حاشية ابن عابدين» (3/296) . (3) انظر: «المعونة» (3/1363) ، «التفريع» (2/231) ، «الرسالة» (240) ، «الكافي» (585) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/298) ، «الإشراف» (4/172 رقم 1526- بتحقيقي) ، «الخرشي» (8/67) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وأحمد (1) ، وإسحاق (2) ، وكذلك أهل الظاهر (3) : يرون قتله من حيث أصلهم في المرتد: أنه لا تعتبر مراجعته الإسلام في إسقاط ما ثبت عليه من القتل، وليس هذا هو مسلك مالك ومن ذكر معه في قتل الزنديق من غير استتابة؛ لأنهم يرون استتابة المرتد دون الزنديق، وإنما فرقوا بينهما في ذلك من حيث أن الزنديق ليس على دينٍ يعتقده، فيرى التزامَه وإظهارَه عبادةً، حتى لا يسمح بالرجوع عنه إلا بعد أن ينتقل عن ذلك الاعتقاد، ويعتقد ما يظهره من الإسلام، وإنما الزنديق جاحدٌ مبطل لا يعتقد شيئاً دِيناً، فتظاهره بالإسلام خداعٌ ودفاع، وليس مَبْنيّاً على صحة اعتقاد، هذا وجه ما ذهبوا إليه. قال مالك في «الموطأ» (4) : «معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - -فيما نرى والله أعلم-:   = «الشرح الكبير» (4/306) ، «جواهر الإكليل» (2/281) ، «حاشية الدسوقي» (4/302) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك» (5/647) . وهو مذهب الليث بن سعد -كما ذكر ذلك المصنف-. انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/247) ، «المغني» لابن قدامة (12/269) ، «إعلام الموقعين» (4/549- بتحقيقي) . (1) في إحدى الروايات عنه، ونصرها كثير من أصحابه، بل هي أنصُّ الروايات عنه. قاله ابن القيم في «الإعلام» (4/549- بتحقيقي) . انظر: «المقنع» لابن قدامة (ص 307) ، «الإنصاف» (10/232-233) ، «المغني» (12/269) ، «شرح الزركشي» (6/236) ، «الهداية» لأبي الخطاب (2/109) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/576 رقم 1824) ، «المحرر» (2/168) ، «الروايتين والوجهين» (2/305) ، «الفروع» (6/170) ، «كتاب التمام» (2/200) ، «كشاف القناع» (6/180) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1136) ، «الإفصاح» لابن هبيرة (2/229) . وانظر: «الصارم المسلول» (ص 340- وما بعدها أو 3/651- ط. ابن حزم) ، «عمدة القاري» (24/77) ، «أدب القضاء» (425) ، «نيل الأوطار» (7/204-205) . (2) مذهبه في «الإشراف» لابن المنذر (2/247- ط. محمد نجيب) ، و «الصارم المسلول» (2/16- ط. رمادي) ، و «إعلام الموقعين» (4/549- بتحقيقي) . (3) انظر في مسألة المرتد واستتابته في مذهب الظاهرية: «المحلَّى» (11/188- وما بعدها) . (4) في كتاب الأقضية (باب القضاء فيمن ارتدَّ عن الإسلام) (بعد رقم 603- ط. دار إحياء التراث) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 «من غيَّر دينه فاضربوا عنقه» (1) : أنه من خرج من الإسلام إلى غيره: مثل الزنادقة وأشباههم، فأولئك إذا ظُهِرَ عليهم قتلوا ولم يُسْتَأْنوا؛ لأنه لا تعرف توبتهم، وأنهم كانوا يُسِرُّون الكفر، ويعلنون الإسلام، فلا أرى أن يستتاب هؤلاء، ولا يقبل منهم قولهم. وأما من خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك فإنَّه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل» . ودليل ما ذهب إليه الشافعي: ما خرَّجه مسلم (2) ، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله» . ثم قرأ: {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] . وخرَّج -أيضاً- (3) ، عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة، فصبَّحنا الحُرقاتِ من جُهينة، فأدركتُ رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فَطَعَنْتُهُ، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أقال: لا إله إلا الله وقَتَلْتَهُ» ؟! قال: [قلت] (4) : يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح! قال: «أفلا شَقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا» ؟! فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمتُ يومئذٍ. واحتجَّ الشافعيُّ بقوله -تعالى- في المنافقين: {اتَّخَذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16، المنافقون: 2] . قال (5) : «فهذا يدل على أن إظهار الإيمان جُنَّةٌ من   (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (رقم 603) بهذا اللفظ مرسلاً. من حديث زيد بن أسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحديث وصله البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد (باب لا يعذب بعذاب الله) (رقم 3017) من طريق أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس. (2) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا ... ) (رقم 21) . وقد مضى. (3) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله) (رقم 96) . (4) ساقطة من المنسوخ. (5) في «الأم» (باب ما يحرم به الدم في الإسلام) (6/156، 158) ، وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/248) ، «الإقناع» له -أيضاً- (2/586) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 القتل» . وهذه كلها أدلةٌ واضحة، وحجج قوية فيما ذهب إليه الشافعي، والله أعلم (1) . فصل: فيمن سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي عليه الجماعة من أهل العلم: أنًّ من سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قتله، وممن قال بذلك: مالك (2) ، والشافعي (3) ، والليث بن سعد (4) ،   (1) الخلاف بين الأئمة في قبول توبة الزنديق في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله -تعالى- لها في الباطن وغفران الله -تعالى- لمن تاب وأقلع ظاهراً وباطناً؛ فلا خلاف فيه. أفاده ابن قدامة في «المغني» (10/80) . نعم، لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام، وعلى التوبة النصوح، وتكرر ذلك منه، لم يقتل كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة. قاله بحروفه ابن القيم في «الإعلام» (4/550- بتحقيقي) . وانظر في بسط المسألة مع أدلتها: «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» (ص 444- 454) ، «أحكام المرتد في الشريعة» (ص 206-207) ، «أثر الشهبات في درء الحدود» (ص 513-519) . (2) انظر: «التفريع» (2/232) ، «الإشراف» (4/257 المسألة رقم 1601- بتحقيقي) ، «الرسالة» (240) ، «الكافي» (585) ، «البيان والتحصيل» (16/396- 399، 413- 414) ، «الذخيرة» (12/18-27) ، «شرح زروق على الرسالة» (2/253) ، «حاشية الدسوقي» (4/309) ، «القوانين الفقهية» (ص 395) ، «منح الجليل» (4/476) ، «تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك» (5/654) . وانظر: «الشفا» للقاضي عياض (2/215-ط. دار الكتب العلمية) ، «نهاية السول في خصائص الرسول» لابن دحية (ص 261) ، «المعيار المعرب» للونشريسي (2/326- 327) . وقد استوعب شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (3/573-575) الأقوال والتصورات عن مالك. (3) «الأم» (4/208) ، «مختصر المزني» (277) ، «روضة الطالبين» (10/332) ، «معالم السنن» (6/199-200- مع «مختصر المنذري» ) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 239) ، «الحاوي الكبير» (18/367) ، «مغني المحتاج» (4/141) للشربيني، «الأوسط» ، كتاب الحدود (2/682 رقم 285) (رسالة علمية) ، «الإجماع» (ص 153 رقم 722) ، «الإشراف» (2/244) ، «الإقناع» (2/584) ؛ جميعها لابن المنذر، «زاد المحتاج» (4/358) ، «حواشي الشرواني وابن القاسم» (9/302) ، «الإعلام بقواطع الإسلام» (144) . (4) انظر في مذهب الليث بن سعد: «الشفا» للقاضي عياض (2/393- مع شرحه لعلي القاري. ط. دار الكتب العلمية) ، «المحلّى» لابن حزم. مسائل التعزير وما لا حدّ فيه (11/415 المسألة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 وأحمد (1) ، وإسحاق (2) ، وأهل الظاهر. قال أبو محمد بن حزم (3) : كل من سبَّ الله -عز وجل-، أو مَلَكاً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء، وهو يدري أنه مَلَكٌ أو نبيٌّ، أو سبَّ القرآن، أو سورةً منه، أو آية، أو شيئاً من شرائع الإسلام، أو استهزأ بشيء مما ذكرنا، أو استخفّ به، فإن كان مسلماً قتل على الرِّدَّة على ما قدمنا -يعني في أنه لا تقبل توبته، وفي غير ذلك من أحكام ماله ووراثته وسائر أحواله-. قال: وإن كان ذميّاً قتل، وأخذ ماله، إلا أن يُبادر فيسلم؛ فلا شيء عليه، ومالُه الذي لم يؤخذ بَعْدُ لَهُ، وأما الذي أخذ فلجماعة المسلمين.   = رقم 2308) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/244) . (1) انظر: «المغني» (12/405) ، «شرح الزركشي» (4/7-12) ، «الفروع» (6/287) ، «المبدع» (9/97) ، «الإنصاف» (10/332) ، «مسائل أحمد» لأبي داود (ص 226) ، «السنن» له بعد حديث رقم (4363) ، «مسائل أحمد» (3/1292- رواية عبد الله) ، «الهداية» لأبي الخطاب (2/110) ، «أحكام أهل الملل» للخلاَّل (ص 255-256 رقم 724) ، «كشاف القناع» (6/168) ، «الشافي» لغلام الخلال -كما في «الصارم المسلول» (2/18-19) -، «معونة أُولي النهى» لابن النجار (8/544-558) ، «المعتمد» للقاضي أبي يعلى -كما في «الصارم المسلول» (3/957- ط. رمادي والمؤتمن) ، «مسائل أحمد» - رواية حرب الكرماني -كما في «السيف المسلول» للسبكي (ص 285- ط. دار الفتح) ، «الإنصاف» (4/257) ، «الأحكام السلطانية» للقاضي أبي يعلى (ص 159) ، «المحرر» (2/188) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الصارم المسلول» (3/620) -في الذمي إذا سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - -: «فيه ثلاثة أقوال: أحدها يقتل بكل حال، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، ومذهب مالك إذا تاب بعد أخذه، وهو وجه لأصحاب الإمام الشافعي ... » . (2) قال: «أجمع المسلمون أنَّ من سب الله، أو سبَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو دفع شيئاً مما أنزل الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله -عز وجل- أنه كافرٌ بذلك، وإن كان مقرّاً بكل ما أنزل الله» . نقله عنه: ابن عبد البر في «التمهيد» (4/226) ، وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/244) ، «الصارم المسلول» (ص 252- ط. رئاسة الافتاء بالرياض) . وروى ابن سعد في «الطبقات» (5/379) بسنده إلى عمر بن عبد العزيز قوله: «لا يقتل أحد في سبِّ أحد، إلا في سبِّ نبيٍّ» . وانظر: «السيف المسلول» للسبكي (119- وما بعدها) . (3) في «المحلّى» (11/413) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 وحُكي عن أبي حنيفة (1) أنه قال: لا يقتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمَّة، ما هم عليه من الشرك أعظم. والدليل على وجوب قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) : أنه بذلك منتقصٌ له، مستهينٌ بحرمته، وفي ذلك تكذيب بما ورَدَ في القرآن، وثبت بالتواتر والإجماع من علوِّ قدره - صلى الله عليه وسلم -، وكَرَمه (3) ، وما فضَّله الله -تعالى- به، وكذلك القول في جميع الأنبياء -عليهم السلام- وملائكةالله الكرام، وفي القرآن، وشرائع الإسلام كما ذكر أبو محمد؛ لأن كل ذلك مما جاء بالشرع المتواتر: أن الله -تعالى- اصطفاه   (1) فرق الحنفية بين الساب المسلم، والذميِّ، فقالوا بقول الجمهور في ردَّة المسلم ووجوب قتله، وأما الذمي فلا ينتقض عهده بسبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 262) ، «القدوري» (ص 117) ، «اللباب» (4/147-148) ، «الخراج» لأبي يوسف (ص 217) ، «مختصر اختلاف العلماء» (3/504 رقم 1652) ، «أحكام القرآن» (3/427) ؛ كلاهما للجصاص، «الهداية» (2/456) ، «البناية» (5/842) ، «النتف في الفتاوى» للسغدي (2/694) ، «إعلاء السنن» (12/604) . (2) من قواطع الأحكام في الإسلام أنّ من سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر مرتدٌّ، وعقوبته القتل. وقد حكى ابن القيم -رحمه الله- في «الزاد» (3/214) إجماع المسلمين من الصحابة -رضي الله عنهم- فمن بعدهم. وهذا إجماع محكيٌّ لدى عامة أهل العلم، وممن حكاه: الخطابي في «معالم السنن» (6/ 199) ، وشيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (3/695-701) ، والسبكي في «فتاويه» (2/573) . بل قرر ابن سحنون من علماء المالكية: أن من شكَّ في كفر ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعذابه فهو كافر. (3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «الصارم المسلول» (2/16-ط. رمادي) : «وتحرير القول فيها (أي في مسألة سب النبي - صلى الله عليه وسلم -) : أنَّ السابَّ إن كان مسلماً، فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة، مثل: إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذمياً فإنه يقتل -أيضاً- في مذهب مالكٍ وأهل المدينة.. وهو مذهب أحمد، وفقهاء الحديث ... » . وانظر: «السيف المسلول» للسبكي (ص 119- وما بعدها) . وقد أفضت الكلام على هذه المسألة في تحقيقي لكتاب «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي (4/258-262) ، فانظره غير مأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 واختاره وفضّله، فمن وصفَ شيئاً من ذلك بَعْدُ بغير ما وصَفَه الله -عز وجل- مما ينافيه ويضاده؛ فقد كذَّب بما أعلم به الله من ذلك في كتابه وتواتر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم من دين الأمة ضرورة، وذلك هو نفس الكفر وصريحه، وهذا مأخذ في الاستدلال على هذا المعنى، وإن لم أقف عليه نصاً على هذا المسلك لأحد، فهو نظر صحيح لا يعترض، بل إن لم يكن هذا هو المستند، فلا يوجد على القتل دليل يُرضَى. ومما يزيد -عندي- هذا المأخذ -الذي أنا من صحته على يقين- وضوحاً في ذلك: قول الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب: 57] ، فجعل -تعالى- اللعنةَ والوعيد لمن آذى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - مأخذةً، مع اللعنةِ والوعيدِ لمن آذى الله سبحانه وتنزَّهَ، إذا هو وصفه بغير صفته، أو نَسَب إليه ما لا ينبغي في جلاله وعظمته وربوبيته، تعالى الله عما يقول المبطلون علوّاً كبيراً، وهو الكفر الصريح لا محالة. فلمّا سوَّى اللهُ -تعالى- في ذلك مُؤْذِيَهُ بِمُؤْذي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفرق بينه وبين غيره من كافة المسلمين؛ فقال -تعالى- في الآية بعده: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب: 58] ، وشتَّان بين هذا الوعيد والأول؛ كان ذلك أدلَّ دليلٍ على أن سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنقصه وغير ذلك، مما يفضي إلى الاستهزاء والأذى: كفر بما أنزل الله -عز وجل-، وهذا كله دليل صحيح واضح، والحمد لله. وإذا تقرر هذا؛ فكان يجب أنه متى تاب فاعل ذلك، وراجع الحق: أُقيل، على مذهب من يرى قبول توبة المرتد، وهم أكثر أهل العلم، إلا أني لا أعلم قالوا ذلك فيمن كان مسلماً قَبْلُ: إنما هو القتل بكل حال؟ فلعل ذلك محمول عندهم محمل إقامة الحدود: إذا وجبت أقيمت، ولا تغني التوبة في دفعها شيئاً، لكنه يلزمهم مثل ذلك في القضاء بقتل المرتد على كل حال، كما ذهب إليه أهل الظاهر وغيرهم ممن يقول به، ولذلك لم يلزمهم هنا هذا الاعتراض ولا الانتقاض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 قال أبو بكر بن المنذر (1) : ومما يحتج به في هذا الباب -يعني قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - -: قصة كعب بن الأشرف، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله؟» فانتدب له جماعة بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقتلوه (2) . الفصل الثاني: في أحكام المحاربين قال الله - عز وجل-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33- 34] . واختلف أهل العلم في المحارب المراد بالآية وأحكامِه في ثلاثة مواضع: الأول: هل المراد بالآية الكفار أو المسلمون؟ والثاني: في وضع العقوبات المحدودة في الآية عليه: هل ذلك على التخيير أو على الترتيب؟ والثالث: في حكم توبته، وما الذي يُهدر عنه إذا جاء تائباً من جناياته؟ فصل فأما اختلافهم في المحارب المراد بالآية، ففي ذلك أقوال:   (1) انظر: «الإقناع» لابن المنذر (2/584) . (2) أخرجه البخاري في عدة مواطن (رقم 2510، 3031، 3032، 4037) ، ومسلم (1801) وغيرهما. وقد مضى تخريجه. وانظر في قصة قتل كعب بن الأشرف: «السير والمغازي» لابن إسحاق (ص 316-321) ، «مغازي الواقدي» (1/184-193) ، «السيرة النبوية» لابن هشام (2/51-58) ، «طبقات ابن سعد» (2/31) ، «تاريخ الطبري» (2/488) ، «تفسير الطبري» (5/132- وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 قالت طائفة: لا يطلق على المسلم أنه محاربُ الله ورسولَه، إنما ذلك في الكفار المعاندين لدين الله -عز وجل-، وأما المسلم الذي يخرج متلصِّصاً، فلا يُسَمَّى بذلك. رُوي هذا القول عن ابن عباس (1) ، ويُعزى كذلك إلى الحسن البصري وعطاء وغيرهم (2) . واحتج بعض من ذهب إلى هذا بخبر العُرَنيِيِّن (3) ، بما وقع في بعض طرقه:   (1) أخرجه عنه أبو داود في «سننه» (4372) ، والنسائي في «المجتبى» (رقم 4046) ، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقدر عليه؛ لم يكن عليه سبيل، وليست هذه الآية للرجل المسلم، فمن قَتَل، وأفسد في الأرض، وحارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقدر عليه؛ لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. قال المنذري: في إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال. وقال الحافظ في «التقريب» (4717) : صدوق يهم. فحديثه قابل للتحسين. ولذا حسّنه شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «صحيح أبي داود» . وعزاه لابن عباس: ابن المنذر في «الإشراف» (1/529) ، وابن حزم في «المحلّى» (11/300) . وانظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (2/92) ، «تفسير القرآن» لابن كثير (2/50) ، «لباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي (ص 91) ، «نيل الأوطار» (7/176) . (2) روى أثر الحسن: ابن جرير في «التفسير» (6/206) ، رواه عن عكرمة وعبد الكريم بن مالك الجزري، مولى بني أمية، عنه. ورواه ابن حزم (11/300) من طريق أشعث، عن الحسن، به. وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (1/529) ، «المحلّى» (11/301) ، «فتح الباري» (12/109) . وعن سعيد بن جبير والحسن، قالا: المحاربة لله: الكفر به. نقله عنهما البخاري، ولم يعزه لأحد. انظر: «الفتح» (8/273-274) . والأثر عن عطاء، رواه ابن حزم في «المحلّى» (11/301) من طريق معمر، عنه وعن قتادة. وهو مذهب الضحاك بن مزاحم، وابن جريج، كما في «المحلّى» -أيضاً-. وقد ردّ ابن حزم هذا القول. انظر: «المحلّى» (11/303- وما بعدها) . (3) الخبر: رواه البخاري في «صحيحه» في عدة مواطن. بالأرقام (233، 1501، 3018، 4192، 4193، 4610، 5685، 5686، 5727، 6802، 6803، 6804، 6805، 6899) . ومسلم في «صحيحه» في كتاب القسامة والمحاربين (باب حكم المحاربين والمرتدين) (رقم 1671) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 «أنهم كفروا بعد إسلامهم» ، وفيهم نزلت الآية. وقال أكثر الفقهاء (1) : إن كل من خرج من المسلمين فسوقاً، فشهر السلاح، وحارب المسلمين وأخافهم؛ فيصح عليه أنه حارب الله ورسوله، أي: أهل دين الله؛ فيكون حكمه ما ذكر الله في الآية. خرّج مسلم (2) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حمل علينا السلاح فليس منّا» . وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وأحمد، وأهل الظاهر، وغيرهم (3) . واحتج المستدلُّ على صحة هذا المذهب، ردًّا علىمن زعم أن الآية في المشركين بأشياء راجحة، منها: إجماع العلماء على أن المشرك إذا فعل هذه الأشياء، ثم أسلم قبل أن يتوب منها؛ أنه لا يقام عليه شيء من حدودها؛ لقول الله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ   (1) ويعزى كذلك للحسن البصري، وقتادة، وعطاء، والكلبي. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/108، 111) ، «المحلَّى» (11/302) ، «تفسير ابن جرير» (6/210-211) . (2) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حمل علينا السلاح فليس منّا» ) (رقم 161) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- مرفوعاً، وفي الأصل: «السلاح علينا» ، والمثبت من المنسوخ و «صحيح مسلم» . وأخرجه من حديث ابن عمر: البخاري في موطنين من «صحيحه» (رقم 6874، 7070) . وأخرجه البخاري (رقم 7071) ، ومسلم (رقم 163) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (رقم 162) من حديث إياس بن سلمة، عن أبيه، مرفوعاً بلفظ: «مَنْ سَلَّ علينا السلاح فليس مِنّا» . (3) واختاره ابن جرير في «تفسيره» (6/208) . انظر: «اختلاف الفقهاء» (243) للطبري، «مختصر الطحاوي» (ص 275) ، «الأم» (6/164- ط. دار الفكر) ، «مغني المحتاج» (4/180) ، «الإنصاف» (10/291) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/92) ، «عيون المجالس» (5/2142) ، «بداية المجتهد» (2/584- ط. دار الكتب الحديثة - القاهرة) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 741- 742) ، وفي المنسوخ: «وقال به مالك ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وأيضاً؛ فلو كانت في المشركين؛ لوجب أن يقام ذلك على كل من قُدر عليه منهم قبل أن يتوب، فكان يكون ذلك حكم الأسرى، وهو مما لم يقله أحدٌ بإجماع (1) . فصل وأما اختلافهم في وضع العقوبات التي ذكر الله -تعالى- في المحارب: هل ذلك على التخيير أو هو مرتب على قدر جناياته؟. فالذي ذهب إليه مالك (2) ، وأبو ثور (3) ، وقاله أبو محمد بن حزم (4) : أن الأمر في ذلك إلى الإمام، يجتهد فيه، وينظر على حسب الحال والمصلحة، وموقع الكف والنَّكال، وروي التخيير كذلك عن ابن عباس (5) ، وقاله سعيد بن   (1) قال ابن كثير في «التفسير» -عن هذه الآية-: والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم، ممن ارتكب هذه الصفات. ثم ذكر -رحمه الله- حديث العُرَنِييِّن مستدلاًّ به على صحة هذا المذهب. وانظر: «تفسير الطبري» (6/208-209) . (2) «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «الكافي» (1/ 487) ، «المنتقى» (7/171) ، «مقدمات ابن رشد» (3/227) ، «المعونة» (3/1366) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/183 رقم 1539- بتحقيقي) ، «النوادر والزيادات» (14/462) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/342) ، «تبصرة الحكام» (2/188-189) ، «تفسير القرطبي» (6/152) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596) ، «بداية المجتهد» (2/526- ط. دار الحمامي بمصر) ، «المنتقى» (7/171) للباجي. (3) نقل ذلك عنه الطبري وغيره. انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (246، 247- تحقيق يوسف شخت) ، «فتح القدير» (5/ 423) ، «المغني» (8/289) ، «إرشاد السالك» (3/156) ، «تفسير القرطبي» (6/152) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/532) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/183 رقم 1539- بتحقيقي) ، «فقه الإمام أبي ثور» (ص 743) . (4) في «المحلّى» (11/318-319) . وانظر: «التشريع الجنائي» (2/647) . (5) أخرجه عنه: الطبري في «تفسيره» (6/214) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 المسيب (1) ، وعمر بن عبد العزيز (2) ، ومجاهد (3) ، والضحاك (4) . وذهب الشافعي (5) ، وأبو حنيفة (6) ، والأوزاعي (7) ، وسفيان الثوري، وأبو   = وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (1/532) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596) ، «تفسير الرازي» (11/215) . (1) رواه الطبري في «تفسيره» (6/214) ، وابن أبي شيبة (12/286 رقم 12846) . وهو مذهب الحسن البصري، وعطاء، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وأبي مجلز، كما رواه عنهم: عبد الرزاق في «المصنف» (10/108 رقم 18542) ، والطبري في «التفسير» (6/214) ، وأفاده القرطبي في «تفسيره» (6/151) . وانظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (12/285 رقم 12844) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/531) . (2) مذهبه في «الموطأ» (7/171- مع «المنتقى» ) ، ونقله عنه القرطبي في «تفسيره» (6/152) . (3) رواه عنه الطبري -أيضاً- (6/214) ، وعبد الرزاق (10/110، 111 رقم 18549، 18550) ، وابن أبي شيبة (12/285 رقم 12844) في «مصنفيهما» . وانظر: «الإشراف» (1/532) . (4) الضحاك: هو ابن مزاحم. وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/108-109) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/532) ، «شرح السنة» للبغوي (10/261) ، «المحلّى» (11/300- وما بعدها) ، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/283) ، «الدر المنثور» (3/69) . (5) «الأم» . كتاب الحدود وصفة النفي (حد قاطع الطريق) (6/164) ، «مختصر المزني» (265) ، «روضة الطالبين» (7/366) ، «الحاوي الكبير» (17/234) ، «المهذب» (2/301-302-ط. مصطفى الحلبي) ، «مغني المحتاج» (4/182) ، «حلية العلماء» (8/80) ، «الإقناع» للماوردي (173) ، «الإقناع» لابن المنذر (1/334) ، «الإشراف» له أيضاً (1/531) . (6) قال أبو حنيفة: الإمام مخير، إن شاء جمع القتل والقطع، وإن شاء جمع القطع والصلب، ثم قتل بعد الصلب. انظر: «الجامع الصغير» (58) ، «مختصر الطحاوي» (275، 276) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «الهداية» (2/423) ، «المبسوط» (9/195، 198) ، «بدائع الصنائع» (7/93) ، «اللباب» (3/212) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 497- ط. المطبعة البهية) . (7) عن الأوزاعي -رحمه الله- روايتان: الرواية الأولى: هي التي عزاها له المصنف -رحمه الله-. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 يوسف، وأحمد بن حنبل (1) : إلى أنَّ العقوبات مرتبةٌ على مقادير الجنايات، بحسب ما عرف من الشرع في جزاء أمثالها، وليس في شيءٍ من ذلك للإمام اختيار، ورُوي -أيضاً- هذا القول الثاني عن ابن عباس (2) ، إلا أنهم اختلفوا في ترتيب ذلك اختلافاً، نشير منه إلى أشهره -إن شاء الله تعالى-. فأما مستند من ذهب إلى أن الإمام مخير (3) في عقوبات المحاربين بحسب   (1) انظر: «المغني» (12/476) ، «المقنع» لابن البنا (3/1137-1138) ، «شرح الزركشي» (6/365-366) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/515) ، «الواضح» (2/239) ، «مسائل أحمد» (278- رواية الكوج) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/667 رقم 1923) ، «الرعاية الصغرى» (2/353) . (2) أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/109 رقم 18544) عن إبراهيم [هو ابن محمد ابن أبي يحيى] ، عن داود [هو ابن الحصين القرشي الأموي] ، عن عكرمة، والطبري في «التفسير» (6/213) من طريق حجاج، عن عطية العوفي، كلاهما عن ابن عباس. وحجَّاج: هو ابن أرطاة: كثير الخطأ والتدليس. وعطية العوفي: ضعيف. وأخرجه الشافعي في «الأم» (6/164- ط. دار الفكر) ، ومن طريقه البغوي في «شرح السنة» (10/261 رقم 2570) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/283) ، عن إبراهيم، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس. وإبراهيم: هو ابن محمد بن أبي يحيى: وهو متروك. وداود بن الحصين: ثقة إلا في عكرمة. قال علي بن المديني: ما روى عن عكرمة، فمنكر الحديث. وضعفه ابن عدي بإبراهيم بن أبي يحيى. انظر: «تهذيب الكمال» (2/412- ط. الرسالة) . وصالح مولى التوأمة: اختلط بأخره. وانظر: «أحكام القرآن» للجصاص (2/496) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596) ، «تفسير القرطبي» (6/151-152) ، «التلخيص الحبير» (4/134-135- ط. مؤسسة قرطبة) . واختار هذا القول: ابن جرير في «التفسير» (6/215) . (3) بعدها في الأصل والمنسوخ: «تخير» ، وفي هامش المنسوخ: «تخيير» ، وحذفها هو الأليق بالسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 المصلحة (1) ، فذلك ظاهر الآية؛ لأن عرف اللغة في سياق (أو) على مثل ذلك: أن يكون بمعنى التخيير، كآية كفارة اليمين، وآية فدية الأذى، لا اختلافَ في ذلك أنه تخيير، فكذلك ها هنا، ولله -تعالى- أن يعاقب من شاء كيف شاء. ومستند من ذهب إلى وضع العقوبات مرتبةً على الجنايات بحسب ما عهد من إجرائها في الشرع: ما تقرر ووجب من حفظ الدماء والأبشار إجماعاً؛ فلم يكن التصرف في واحدٍ منها إلا بيقين. ولما شرع في عقوبات المحارب أشياء تختلف، وكانت جناياته كذلك تختلف؛ كان الوجه: وضع كل عقوبة منها على ما يقابلها مما تقرر في مثله، أو جنسه بنصِّ الشَّرع؛ لأن التَّخيير هنا ليس نصّاً مقطوعاً عليه، ولا ظاهراً -أيضاً-؛ ألا ترى أن (أو) قد تقع في اللغة هذا الموقع، ثم لا يُراد بها التخيير، وتكون للتفصيل (2) : ترد كل قسم إلى ما يليق به مما عرف قبل ذلك أو معه، بنصٍّ أو قرينة، وذلك مثل قول القائل: حد الزاني: جلد أو رجم، لا يُراد بها التخيير في عقوبة كل زانٍ، بل معناه تفصيلُ العقوبة وتنويعها، بحسب أنواع الزناة، فالزاني البكر يجلد، والثيّب يرجم، فليست (أو) في نحو هذا من التخيير في شيء. ومن ذلك قول جعفر بن عُلَيَّة الحارثي: أَلَهْفَى بِقُرَّى سَحْبلٍ حينَ أَجْلَبتْ ... علينا الولايا والعدوُّ المباسِلُ   (1) مذهب المالكية أن له قتله وإن لم يكن قَتْل. انظر: «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/ 232) ، «الرسالة» (240-241) ، «المنتقى» (7/174) ، «الكافي» (582-584) ، «مقدمات ابن رشد» (3/ 227) ، «المعونة» (3/1366) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «عقد الجواهر» (3/342) ، «تبصرة الحكام» (2/188-189) ، «الإشراف» (4/183- بتحقيقي) ، «تفسير القرطبي» (6/152) . (2) وللتنويع. ورجح الطبري هذا المعنى. انظر: «تفسير الطبري» (6/214-215) ، «بداية المجتهد» (2/526- ط. دار الحمامي) ، «فتح الباري» (12/110) . وقال ابن المنذر في «الإشراف» (1/533) : وقد رُوينا عن ابن عباس أنه قال: ما كان في القرآن أو، أو؛ فصاحبه بالخيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 فقالوا: لنا ثنتان لا بُدَّ منهما ... صُدورُ رماحٍ أشرعت أو سَلاسِلُ (1) لم يرد أنَّا نتخير في ذلك واحدة، وإنما أراد أن كلتيهما مفعول، يتنوع بحسب ما يكون منكم، فمن قاتل، أصابته رِماحُنا، ومن ألقى بيده، أَسَرْناه في السلاسل. فيكون على هذا معنى الآية: إنَّ لكل حالةٍ نوعاً من هذه العقوبات على ترتيب أوضاعها بالشرع. وبالجملة؛ فلكلِّ مذهبٍ مُستندٌ قويٌّ، إلاَّ أنَّ الأولى أن لا يُقدَمَ على دمِ مسلمٍ إلا بيقين، والخطأ في استحيائه أقرب من الخطأ في قتله، والله أعلم. واتفق القائلون بترتيب العقوبات على أنه لا يُقتلُ المحارب إلا إن قَتَلَ، وأنه إنْ قَتَل يُقْتلُ على كل حال، وليس لولي دم المقتول مَدخلٌ في العقوبات؛ لأنَّ قتله واقعٌ موقع الحدِّ في الحرابة. ثم اختلفوا في أشياء؛ فقال قوم: إذا شهر السلاح وقَتَل؛ قُتِل، فَإنْ أخذَ المالَ ولم يَقْتُل؛ قُطِع من خلاف، وإن قَتَلَ وأخذ المال؛ قُتِل وصُلِبَ، رُوي ذلك عن قتادة وعطاء الخراساني (2) ، وإليه ذهب الأوزاعي (3) ، إلا أنه قال في الذي يَقْتُلُ   (1) البيتان -كما قال المصنف- لجعفر بن علية الحارثي. انظر: «لسان العرب» (11/331- سَحْبَل) ، «تاج العروس» (13/398- قرر، سَحْبَل) ، «المخصَّص» لابن سيده (14/35) ، «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (ص 45) ، «شرح شواهد المغني» للسيوطي (1/303) ، «شرح الأشموني» (2/464) ، «مغني اللبيب» لابن هشام (1/65) ، «همع الهوامع» (2/134) ، «الدرر اللوامع» (6/119) . (2) رواه عبد الرزاق في «المصنف» (10/108 رقم 18542) ، وزاد معهما: الكلبي، ومن طريقه الطبري في «التفسير» (6/212) ، ولم يسمّ الكلبي. قالوا في الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } : هذه في اللصّ الذي يقطع الطريق ... وقالوا: فإن أُخِذَ قبل أن يفعل شيئاً من ذلك نُفي. وروى نحوه: البيهقي في «الكبرى» (8/283) . ونقله عن عطاء وقتادة وأبي مجلز وإبراهيم النخعي: ابن المنذر في «الإشراف» (1/531) . (3) نقله عنه ابن المنذر في «الإشراف» (1/531، 534) ، والطبري في «اختلاف الفقهاء» (244-245-ط. يوسف شخت) ، وابن حزم في «المحلى» (11/315) ، وانظر: «فقه الأوزاعي» (2/ 339-340) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 ويأخذ المال: يُصلبُ أوّلاً ثم يقتل مصلوباً. ورُوي عن بعضهم: فيمن قَتلَ وأخذ المال: أنه يُقطع من خلاف، ثم يصلب، فجَمَعَ عليه عقوبتين. وقال أبو حنيفة (1) : «إذا قَتَل قُتل، وإذا أخذ المال ولم يَقْتُل، قُطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذَ المال وقَتَل؛ فالسلطان مخير فيه: إن شاء قطع يده ورجله وقَتَله، وإن شاء لم يَقْطَعْ يده ورجله، وقَتَله وصلبه» . وهذا أبعد من الأول؛ لأنه جعل الخيرة إلى الإمام بغير دليل، وهو لا يرى الآية على التخيير، وجمع عليه عقوبتين. وقال الشافعي (2) : «إذا أخذ المال؛ قطعت يده اليمنى وحُسمت، ثم قُطعت رجله اليسرى وحُسمت في مكان واحد وخُلِّي، وإذا قَتَل؛ قُتل ودُفع إلى أوليائه يدفنونه، وإذا أخذ المال وقَتل؛ قُتِل وصُلب. ورُوي عنه أنه يُصلبُ ثلاثة أيام» . قال (3) : «وإن حضر وكَثَّر وهَيَّب، وكان رِدْءاً للعدوِّ؛ عُزِّر وحُبس» . قال أبو محمد بن حزم (4) فيما ذهب إليه، من أن العقوبات في ذلك على التخيير، كما ذهب إليه مالك (5) ومن ذُكر معه: «الإمام مخير فيه، إن شاء ضربَ   (1) انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 275، 276) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «الهداية» (2/ 423) ، «البناية» (5/625-626، 630) ، «الجامع الصغير» (58) ، «اللباب» (3/211-212) ، «بدائع الصنائع» (7/95) ، «المبسوط» (9/195، 198) ، «ملتقى الأبحر» (1/352) . وقال أبو يوسف في الذَي قتلَ وأخذ المال: «يُصلبُ وهو حيٌّ، ثم يقتل على الخشبة» . وهو قول الكرخي. وقال الطحاوي: يصلب مقتولاً. انظر: «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «المبسوط» (9/195- 196) . (2) انظر: «الأم» (6/164) ، «مختصر المزني» (ص 265) ، «المهذب» (2/285) ، «الحاوي الكبير» (17/241) ، «روضة الطالبين» (10/156- 157) ، «الأحكام السلطانية» (ص 239) ، «مغني المحتاج» (4/181- 182) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/531) ، «حلية العلماء» (8/83- 84) . (3) الموطن السابق من «الأم» . (4) في «المحلّى» (11/315، 317-318) . (5) أي ليس على هوى، وإنما هو مخير في العقوبات المذكورات في الآية على قدر جُرمهم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 عنقه، وأمر بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وجائز للإمام أن يُصلي عليه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف: اليمنى من جهة، إمَّا مِنْ يدٍ، وإمَّا مِنْ رجل، واليسرى من جهةٍ كذلك، ثم يكويه؛ ليرقأ الدم، ويُطلِقهُ، ولا يحلُّ له أنْ يسجنه، ولا أن يضربه، وإن شاء صلبه حيّاً، وتركه حتى يموت، وَيَجِفَّ وييبس، فإذا يبس جِلده، وسَالَ ودكُه؛ أمر بإنزاله، وغَسْله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه. وللإمام أن يصلي عليه، ولا يحل أن يُنْحَرَ برمحٍ، ولا أنْ يُرْمى بِنَبْلٍ ولا حجارة، ولا أن تضرب عنقه ثم يصلبه، ولا أن تُقْطَعَ له يَدٌ ورجل، ثم يُقتلَ أو يصلب، ولا أن يضرب.   = انظر: «المدونة» (4/428) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «المنتقى» (7/174) ، «مقدمات ابن رشد» (3/227) ، «تفسير القرطبي» (6/152) ، «المعونة» (3/1366) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «الكافي» (1/487) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/342) ، «تبصرة الحكام» (2/187) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/183 رقم 1539- بتحقيقي) . وإن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد، ثم حُسما وخلِّي، وإذا لم يقتل، ولم يأخذ المال نُفي. ومذهب الحنابلة أنه إذا أخذ المال وقَتَلَ؛ قتِلَ، وصُلب، ولم يُقطع، والصلب يكون بعد القتل. انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1137- 1138) ، «المغني» (12/477) ، «شرح الزركشي» (6/ 365) ، «مسائل الإمام أحمد» (278- رواية الكوسج) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/515) ، «الواضح» (2/239) . وما قرره مالك، وأيده ابن حزم قويٌّ ووجيه. وقال ابن حزم: «للإمام أن يصلب المحارب حيّاً، ويترك حتى ييبس ويجف كله؛ لأن الصلب في كلام العرب يقع على معنيين: أحدهما: من الأيدي، والربط على الخشبة، قال -تعالى- حاكياً عن فرعون: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] . والوجه الآخر: التثبيت، قال الشاعر عن فلاة مضلة: بها جيفُ الحسرى فأما عظامها ... فبيضٌ وأما جلدها فصليبُ يريد: أن جلدها يابس، فوجب جمع الأمرين معاً، حتى إذا أَنْفَذنا أمر الله -تعالى- فيه، وجب به ما افترضه الله -تعالى- للمسلم على المسلم، من الغسل والتكفين والصلاة والدفن» . وانظر: «الفقه الإسلامي وأدلته» (6/138) ، «حد الحرابة» (73-76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 وإن شاء نفاه. وصِفَةُ نَفْيِهِ أنه كلما حَصَل في بلد نُفي عنه أبداً، هكذا حتى يموت، وسواء قَتل وأخذ المال، أو لم يفعل شيئاً من ذلك، يعني: إذا كان قد أخاف الطريق، وحارب أهله على أموالهم؛ فهو عنده محارب، سواء كان في المصر أو خارج المصر، ليلاً أو نهاراً» . هكذا نصُّ قوله. وكان مما اختلفوا فيه من هذا الفصل: صفة النفي الذي ذكره الله -تعالى-، فقال الكوفيون (1) : لما قال الله -عز وجل-: {أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] عُلِم أنهم لا بد لهم أن يستقروا في الأرض؛ لم يكن شيء أولى بهم من الحبس؛ لأنه إذا حُبِس فقد نُفي من الأرض، من موضع استقراره. وقال مالك (2) : «ينفى من البلد الذي أَحْدَثَ فيه هذا إلى غيره، ثم يحبس فيه» ، حَملاً على قولهم في نفي الزاني. وقال الزهري (3) : نَفْيُهُ: أن يُطلبَ فلا يُقْدر عليه، كلما سُمع به في أرض طُلب. وعلى نحو ذلك يجيء ما رُوي عن الشافعي: أنَّ نفيهم: أن يُطلبوا حتَّى يؤخذوا، فتقام عليهم الحدود (4) .   (1) أي الحنفية. انظر: «مختصر الطحاوي» (ص 275) ، «الهداية» (2/423) ، «البناية» (5/ 628) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «بدائع الصنائع» (7/94-95) ، «المبسوط» (9/199) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/214) ، «حاشية رد المحتار» (4/113-114) ، «ملتقى الأبحر» (1/352) . (2) «المدونة» (6/237- ط. دار صادر) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «الذخيرة» (12/ 127، 131) ، «قوانين الأحكام» (311) ، «الكافي» (1/487) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/598) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/184 رقم 1540- بتحقيقي) ، «بداية المجتهد» (2/490) ، «عيون المجالس» (5/2145 رقم 1556) ، «تبصرة الحكام» (2/188) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/343) ، «الشرح الكبير» (4/349) ، «تفسير القرطبي» (6/153) ، «المنتقى» للباجي (7/173) ، «أقضية النبي - صلى الله عليه وسلم -» لابن فرج (12) . واختار ابن العربي الحبس؛ كالحنفية، واختار مذهب المالكية: ابن جرير في «تفسيره» (6/218) . (3) نقله عنه: ابن المنذر في «الإشراف» (1/535) . (4) انظر: «الأم» (6/164- 165) ، «مختصر المزني» (265) ، «السنن الكبرى» (8/283) ، «الحاوي الكبير» (17/239) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 247) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 62) ، «المهذب» (2/284) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/535) ، «أسنى المطالب» (4/154) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 فصل وأما اختلافهم في المحارب يجيء تائباً من قبل أن يُقْدَر عليه: ما الذي يُهْدَرُ (1) عنه بالتوبة؟ فقال قتادة والزهري في قوله -تعالى-: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] : ذلك لأهل الشرك (2) . فظاهر هذا القول أن المحارب المسلم لا يُهدر عنه شيءٌ من جناياته، والله أعلم. وقال أكثر أهل العلم: إنه (3) يتناول المحارب المسلم، فإذا تاب قبل أن يُقدر عليه، وكان جَنَى في حرابته جنايات، سقط عنه ما كان من حدٍّ لله، وأُخذ بحقوق الآدميين، فاقتص منه في النفس والجراح، وضمن ما استهلك من الأموال، وأخذ ما وجد من   = «حلية العلماء» (8/80-81) . وإلى هذا ذهب الإمام أبو ثور. انظر: «اختلاف الفقهاء» للطبري (255) . ومذهب الحنابلة: أن النفي معناه: أن يُشَرَّدوا؛ فلا يتركوا يأوون في بلد. وحكي عن أحمد رواية أخرى معناها: أنَّ نفيهم: طلب الإمام لهم، فإذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم. انظر: «المغني» (12/482- ط. دار هجر) ، «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى (ص 263) ، «الإنصاف» (10/298) ، «المقنع» لابن البنا (3/1139-1140) ، «شرح الزركشي» (6/370) «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/520) ، «الواضح» (2/240) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/669 رقم 1927) . والراجح في هذه المسألة -والله أعلم- ما ذهب إليه مالك، وتبعه ابن حزم: أن نفي المحارب من الأرض يكون بحسب ما يراه الإمام، إما بطرده بحيث لا يأوي في بلد، وإمَّا بحبسه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (15/310) : «وهذا أعدل وأحسن» . وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/109) ، «المحلّى» (11/318-319) ، «تفسير الألوسي» (6/120) ، «العقوبة في الفقه الإسلامي» لأحمد بهنسي (ص 174) ، «حد الحرابة» (ص 81-83) ، «التشريع الجنائي» (2/649) ، «أحكام السجن ومعاملة السجناء» (ص 43-44) . (1) كذا في المنسوخ، وفي هامشه: «أو: يهدر» ، والمثبت من الأصل. (2) قول قتادة أخرجه عنه عبد الرزاق في «المصنف» (10/108 رقم 18542) ، ومن طريقه الطبري في «التفسير» (6/212) . وهو قول عطاء -أيضاً-. ونقله عن قتادة والزهري: ابن المنذر في «الإشراف» (1/536) . (3) في منسوخ أبي خبزة: «أن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 ذلك عنده، وهذا مذهب مالك (1) ، والشافعي (2) ، وأبي ثور (3) ، وأصحاب الرأي (4) . وقال أبو محمد بن حزم (5) : إن تاب المحارب قبل أن يُقدر عليه، سقط عنه كل ما ذكرنا -يعني: حد الحرابة-، المختص القيام فيها إلى السلطان. قال: ولا شيء عليه إلا ضمان ما أتلف من مال، والخيار لوليِّ المقتول إن كان قتل أحداً، والقصاص في الأعضاء إلى المجني عليه. ونقل عن بعض السلف أنهم ذهبوا إلىأن كلَّ ذلك يُهدَرُ عنه، إلاّ مالاً قد وجد بعينه، فهو مردود، وقد يُعزى إلى مالك بعض ذلك في رواية عنه. فأقول: لما كان حكم الله -عز وجل- فيمن أصاب حدّاً من حدود الله أو حقّاً لذي حق؛ أن يقام ذلك عليه، ولا يسقط شيء من ذلك إلا بيقين، وكان المحارب استحق على حَرابته العقوبة التي سَمَّى الله -تعالى- في قوله: {إِنَّمَا   (1) «الرسالة» (241) ، «التفريع» (2/233) ، «النوادر والزيادات» (14/481) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/344) ، «المعونة» (3/1367) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «الذخيرة» (12/ 133) ، «أسهل المدارك» (3/156-157) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/187 رقم 1543- بتحقيقي) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/600) ، «بداية المجتهد» (2/382) ، «تفسير القرطبي» (6/155) ، «المنتقى» (7/174) . (2) «الأم» (6/152) ، «مختصر المزني» (265) ، «المهذب» (2/285) ، «الحاوي الكبير» (17/255-260) ، «مغني المحتاج» (4/184) ، «حلية العلماء» (7/88) ، «الإشراف» لابن المنذر (1/536) . وانظر: «سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي» (3/217-218) . (3) نقل مذهب أبي ثور: ابن المنذر في «الإشراف» (1/536) ، والطبري في «اختلاف الفقهاء» (253) ، وابن قدامة في «المغني» (12/483) . وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 744) . (4) انظر: «مختصر الطحاوي» (276) ، «تحفة الفقهاء» (3/156) ، «الهداية» (2/424) ، «اللباب» (3/213) ، «المبسوط» (9/198) ، «البناية» (5/636) . وهو مذهب الحنابلة، انظر: «المقنع» لابن البنا (3/1140) ، «المغني» (12/483) ، «شرح الزركشي» (6/371) ، «الفروع» (6/140-142) ، «المبدع» (9/151) ، «الإنصاف» (10/297-299) ، «المحرر» (2/ 161) ، «مسائل الإمام أحمد» (277-278- رواية الكوسج) . (5) في «المحلّى» (11/130-131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ؛ وجب أن يكون الاستثناء في قوله -تعالى-: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] عائداً على ما سُمِّيَ من عقوبات الحرابة التي لم يَجْرِ إلا ذكرها، واستحال أن يرجع ذلك على ما لم يَجْرِ في الخطاب، لا بصيغةٍ ولا بمفهوم؛ فكان كلُّ جناية جناها المحارب سوى نفس الحرابة باقياً على ما ثبت لها من أحكام الشرع، فوجب بيقينٍ أن يقام على المحارب بعد توبته كلُّ حدٍّ لله أصابه في حرابته، أو قبلها: من زنىً، وسرقةٍ، وشُربٍ، وغيرِ ذلك، وكذلك حقوق الناس في الأموال، والأبدان، والأعراض ولا بُدَّ، إلاَّ أن يُسقِطَ شيئاً من ذلك عنه أحَدٌ مِمَّن وَجَب له ذلك، ولا يندفع عنه بالتوبة إلا حَدُّ الحرابة فقط -والله الموفق-. مسألة اختلفوا فيمن شهر السلاحَ، وقطع الطريق في مصرٍ من الأمصار، أو قرية من القرى، فَقَتَلَ وأخذ المال: فقال قوم: لا تكون المحاربة في المصر، إنما تكون خارجاً من المصر، قاله أبو حنيفة (1) ، والثوري، وإسحاق (2) . وقال قوم: حكم ذلك في الصحراء والطرق والمنازل والأمصار واحد، فحدودهم واحدة، قاله الشافعيُّ (3) ، ..............................................   (1) «مختصر الطحاوي» (276) ، «المبسوط» (9/201) ، «الاختيار» (3/72) ، «تحفة الفقهاء» (3/247) ، «بدائع الصنائع» (7/90-91) ، «البناية» (5/640) ، «حاشية رد المحتار» (4/113) ، «مجمع الأنهر» (1/629) ، «رؤوس المسائل» (ص 499) ، «أحكام القرآن» للجصاص (2/502) . (2) نقل مذهب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه: ابن المنذر في «الإشراف» (1/537) . وانظر: «المحلّى» (11/303) . (3) «الأم» (6/140- ط. بولاق) ، «مختصر المزني» (ص 265) ، «التنبيه» (150) ، «المهذب» (2/285) ، «الوجيز» (2/179) ، «روضة الطالبين» (10/155) ، «المنهاج» (ص 134- ط. مصطفى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 وأبو ثور (1) ، وغيرهم (2) . قال أبو محمد بن حزم (3) : سواء ذلك في المصر وخارج المصر، ليلاً أو نهاراً، كل ذلك إذا أخاف الطريق، وحارب أهله على أموالهم؛ فهو المحارب. واختلف في ذلك عن مالك، فمرةً أثبتَ له حكم المحاربة، ومرةً نَفَى (4) ، والأرجح الإثبات (5) إذا كان منه من المحاربة والفساد الذي ذكره الله -تعالى- ما يكون من فاعل ذلك في الطرق والبراري وغيرها؛ لأن الآية عامةٌ، لا تخصُّ موضعاً دون موضع، ولا وقتاً دون وقت. قال بعض أهل العلم: وربما كان ذلك في المصر أعظم جرماً (6) .   = الحلبي) ، «أسنى المطالب» (4/154) ، «حلية العلماء» (8/85) ، «مغني المحتاج» (4/181) . (1) نقل مذهب أبي ثور: ابن المنذر في «الإشراف» (1/537) ، والطبري في «اختلاف الفقهاء» (251) ، وابن قدامة في «المغني» (10/303) ، والشوكاني في «النيل» (7/130) ، وانظر: «فقه الإمام أبي ثور» (ص 742) . (2) وهو الأرجح في مذهب المالكية. انظر: «الكافي» (2/1089) . وهو -كذلك- مذهب الأوزاعي. انظر: «المغني» (10/303) ، «نيل الأوطار» (7/130) ، «فقه الإمام الأوزاعي» (2/338-339) . (3) انظر: «المحلّى» (11/307) . (4) نسب ابن رشد في «بداية المجتهد» (2/380) إلى مالك القول بثبوت المحاربة في المِصر، ونسب الباجي في «المنتقى» (7/169) نفي المحاربة في المصر لعبد الملك بن الماجشون. وانظر: «النوادر والزيادات» (14/478) . (5) انظر: «المدونة» (4/430) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/341) ، «الذخيرة» (12/123) ، «النوادر والزيادات» (14/478) ، «جامع الأمهات» (ص 523) ، «قوانين الأحكام» (311) ، «الشرح الكبير» (4/348) ، «الخرشي» (8/104) ، «أحكام القرآن» لابن العربي (2/596- 597) ، «تفسير القرطبي» (6/151) . (6) الراجح أن شهر السلاح في البنيان لأخذ المال: حرابة، ومن فعل ذلك بأي نوع من أنواع القتال؛ فهو محارب قاطع، يحد بحد الحرابة. قاله ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/315، 316) ، وعلّل ذلك بمعنى قويٍّ، قال: «وهذا هو الصواب، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله» ، قال: «ولو حاربوا بالعصي والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها؛ فهم محاربون -أيضاً-» . وفي هذه المسألة صدر قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (رقم 85) بتاريخ (11/ 11/1401هـ) ، المبلغ للمحاكم الشرعية برقم (122/12ت) في (11/10/1402هـ) وخلاصته: أولاً: إن جرائم الخطف والسطو لانتهاك حرمات المسلمين على سبيل المكابرة والمجاهرة من ضروب المحاربة، والسعي في الأرض فساداً، المستحقة للعقاب الذي ذكره الله -سبحانه- في آية المائدة، سواء وقع ذلك على النفس أو المال أو العرض، أو أحدث إخافة السبيل وقطع الطريق، ولا فرق في ذلك بين وقوعه في المدن والقرى أو في الصحارى والقفار. ثانياً: أن «أو» الواردة في آية المائدة للتخيير، وهذا رأي الأقلية، وعليه العمل، وأكثر أعضاء الهيئة يرونها للترتيب. ثالثاً: وهذا محل خلاف، والعمل على هذا النص: أن الخيار المقصود في الآية معنيٌّ به الإمام (وليُّ الأمر) ، وليس القاضي، وأن الإمامَ مخيَّرٌ في إيقاع أي العقوبات الأربع شاء: من قتل، أو صلب حتى الموت، أو تقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو نفي من الأرض: بأن يحبس المحارب حتى يموت في السجن، وإسناد الاختيار إلى القضاة سوف يكون له آثار لا تخدم مصلحة الأمة، ولا يحصل معها زجر المفسدين، وأن هذا الاختيار للإمام في أنواع الحرابة كافة، والفساد المنصوص على حكمه في آية المائدة، ولا يستثنى من ذلك كون المحارب قتل أحداً في أثناء حرابته، فإذا تحقق للإمام أن عدم قتله أعظم دفعاً للمفاسد وأكبر جلباً للمصالح؛ فله أن يختار عقوبة غير القتل من العقوبات المنصوص عليها في الآية. رابعاً: يتولى نواب الإمام القضاة إثبات نوع الجريمة والحكم فيها، فإذا ثبت لديهم أنها من المحاربة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والسعي في الأرض فساداً؛ فعليهم أن يقترحوا العقوبة التي يرونها مناسبة حسب اجتهادهم، مراعين واقع الجرم، وظروف الجريمة، وأثرها في المجتمع، وما يحقق المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، وللإمام ولي الأمر أن يوافق على العقوبة التي اقترحها القضاة أو يختار عقوبة غيرها من العقوبات المنصوص عليها في آية المائدة. خامساً: نظراً إلى أن جرائم الخطف والسطو من القضايا المهمة؛ فتختص بنظرها المحاكم العامة من قبل ثلاثة قضاة، كما هو الحال في قضايا القتل والرجم، وترفع للتمييز، ثم لمجلس القضاة الأعلى لمراجعة الأحكام الصادرة بخصوصها براءةً للذمة، واحتياطاً لسفك الدماء. انظر: «التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل» (2/657-659) بواسطة التعليق على «مختصر الخلافيات» (4/461-462) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 فصل: في دفاع الرجل عن نفسه وماله خرَّج مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» . وخرّج (2) عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» ، قال: أرأيت (3) إن قَتَلْتُهُ؟ قال: «هو في النار» . والمحفوظ عن جماعة أهل العلم (4) : أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله إذا أريد ظلماً، وممن قال بذلك: مالك (5) ، والشافعي (6) ،   (1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حقٍّ كان القاصد مهدر الدم في حقه) (226) (141) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المظالم (باب من قاتل دون ماله) (رقم 2480) . (2) الكتاب والباب السابقان (225) (140) . (3) في الأصل: «إن رأيت» . وهو خطأ. (4) نقله المصنف من «الإشراف» لابن المنذر (1/540) . (5) في المسألة قولان عند المالكية، وهو أن دفع الصائل عن النفس واجب -وهو أصح القولين في المذهب-. والقول الثاني: أن الدفع جائز لا واجب؛ فإن شاء أسلم نفسه، وإن شاء دفع عنها. انظر: «التفريع» (2/233) ، «الكافي» (2/1089) ، «جامع الأمهات» (ص 525) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/353) ؛ «الذخيرة» (12/262) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/ 357) ، «منح الجليل» (4/561) ، «الخرشي» (5/354) ، «المنتقى» للباجي (7/170) . (6) مذهب الشافعية: أنه يجب الدفع إذا كان المعتدي كافراً، أو بهيمة، أو مسلماً مهدر الدم، فإن كان المعتدي مسلماً محقون الدم، فيجوز الدفاع عن النفس ولا يجب. وذكر الروياني من الشافعية أنه لا يجب دفع الكافر ولا البهيمة أو المسلم مهدر الدم، بل يستحب. وقال النووي في «الروضة» (10/188) متعقباً كلام الروياني: «هو غَلَطٌ» . انظر: «الأم» (6/26-27- ط. بولاق) ، «منهاج الطالبين» (3/248-249) ، «تحفة المحتاج» (9/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 وأبو حنيفة (1) ، وأحمد (2) ، وإسحاق (3) ، وعوام أهل العلم (4) . قال أبو بكر بن المنذر (5) : «إلا السلطان، فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين (6) : على أن من لم يُمكنه أن يمنع نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته: أنه لا يحاربه، ولا يخرج عليه؛ للأخبار الدالة على ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم،   = 181) ، «أسنى المطالب» (4/168) ، «روضة الطالبين» (10/188) ، «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/513- المطبوع بهامش «إرشاد الساري» ) ، «حاشية القليوبي وعميرة» (4/206) ، «مغني المحتاج» (4/ 194) ، «حاشية العبادي على تحفة المحتاج» (9/182) ، «حاشية الرملي» (4/166، 168) . (1) مذهب الحنفية: أنه يجب على المُعتدَى عليه دفع الاعتداء عن نفسه مطلقاً. انظر: «الهداية» (4/165- ط. البابي الحلبي) ، «بدائع الصنائع» (7/93) ، «حاشية ابن عابدين» (5/481) ، «البحر الرائق» (8/344) ، «الفتاوى البزازية» (6/433) ، «تبيين الحقائق» (6/110) . (2) مذهب الحنابلة: أنه يجب عليه الدفع عن نفسه -في أصح الروايتين- في غير الفتنة، أما في وقت الفتنة؛ فلا يجب عليه الدفع عن نفسه. انظر: «المغني» (12/531، 533- ط. دار هجر) ، «كشاف القناع» (4/92 و6/155) ، «المبدع» (9/155) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/541) ، «شرح الزركشي» (6/409، 412، 413) ، «الواضح» (2/245) ، «مسائل الإمام أحمد» (263- رواية الكوسج- رسالة ماجسيتر/تحقيق سليمان بن محمد البلوشي) ، «المقنع» لابن البنا (3/1149) . (3) نقل مذهبه: ابن المنذر في «الإشراف» (1/540) . (4) وهو مذهب ابن عمر، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وغيرهم. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/112-117) ، «الإشراف» (1/540) ، «المحلّى» (11/ 308-309) ، «مراتب الإجماع» (ص 144) ، «شرح النووي» (1/513-بهامش «إرشاد الساري» ) ، «المغني» (12/531) ، «تهذيب الآثار» (1/36- مسند ابن عباس) ، «نظرية الدفاع الشرعي» للدكتور يوسف قاسم (ص 78) ، «التدابير الواقية من القتل في الإسلام» لعثمان دوكوري (ص 223- وما بعدها) ، «الجريمة» لأبي زهرة (1/530) ، «الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية» للسرطاوي (ص 63) . واختلف العلماء في وجوب الدفاع عن المال وعدمه، وكذلك في الدفاع عن الغير. انظر: «الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية» (ص 76-82) ، «التدابير الواقية من القتل في الإسلام» (ص 227) ، «التشريع الجنائي» (1/576-581) . (5) في «الإشراف» (1/540) . (6) في مطبوع «الإشراف» : كالمجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 وترك قتالهم والخروج عليهم، ما أقاموا الصلاة» (1) . خرَّج مسلم (2) ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه؛ فليصبر، فإنه من يفارق الجماعة شبراً فمات؛ فميتته جاهلية» . وخرَّج -أيضاً- (3) عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سَلم، ولكن من رضي وتابع» ، قالوا: يا رسول الله: أفلا نقاتلهم؟! قال: «لا! ما صلُّوا» . (أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه) ، كذا في كتاب مسلم متصلاً بالحديث. وخرَّج -أيضاً- (4) عن عوف بن مالك الأشجعي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خيار أئمتكم: الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟! قال: «لا! ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا مَنْ وَلِيَ عليه والٍ؛ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يداً من طاعة» .   (1) ردَّ ابن حزم في «المحلّى» (11/99) هذا القول، فقال: «لم نجد الله -تعالى- فرَّق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره، بل أمر -تعالى- بقتال من بَغى على أخيه المسلم عموماً، حتى يفيء إلى أمر الله -تعالى-، وما كان ربك نسياً. وكذلك قوله -عليه السلام-: «من قتل دون ماله فهو شهيد» عموم، لم يخصَّ معه سلطاناً من غيره، ولا فرق في قرآن ولا حديث ولا إجماع ولا قياس بين من أريد ماله، أو أريد دمه، أو أريد فرج امرأته، أو أريد ذلك من جميع المسلمين، وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله، وهذا لا يحلُّ بلا خلاف» . وانظر: «تفسير القرطبي» (6/156) . (2) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن) (رقم 1849) . (3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلُّوا، ونحو ذلك) (1854) (63) . (4) في كتاب الإمارة (باب خيار الأئمة وشرارهم) (1855) (66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 الفصل الثالث: في حكم قتال أهل البغي قال الله -عز وجل-: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . خرَّج مسلم (1) ، عن أنس بن مالك قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أتيت عبد الله بن أُبَيّ؟ قال: فانطلق (2) إليه، وركب حماراً، وانطلق المسلمون، وهي أرض سَبِخَةٌ (3) ، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عَنّي، فوالله لقد آذاني نتن حمارك. قال: فقال رجل من الأنصار: والله! لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحاً منك. قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابُه. قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنِّعال، فبلغنا أنها أنزلت فيهم: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] . قال ابن المنذر (4) : فأمر الله سبحانه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، إذا اقتتل طائفتان من المؤمنين: أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصفَ بعضهم من بعض، فمن أبى منهم فهو باغٍ، وحقٌّ على الإمام والمؤمنين أن يجاهدوهم؛ حتى يفيئوا إلى أمر الله. وخرَّج مسلم (5) عن أبي هريرة قال: لمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستُخْلِف   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصبره على أذى المنافقين) (1799) (117) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الصلح (باب ما جاء في الإصلاح بين الناس) (رقم 2691) . (2) في منسوخ أبي خبزة: «انطلق» . (3) السَّبِخة: بفتح السين المهملة، وكسر الباء الموحدة بعدها، أي: ذات سباخ، وهي الأرض التي لا تنبت. انظر: «فتح الباري» (298) . (4) في «الإشراف» (2/385) نحوه. (5) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله..) (32) (20) . وأخرجه البخاري (1399، 1456، 1457، 6924، 6925، 7284، 7285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصمَ منِّي ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» ؟! فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقَاتَلْتُهُم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شَرَح صدرَ أبي بكر للقتال؛ فعرفت أنه الحق. قال ابن المنذر (1) : «يقال: إن أبا بكر قاتل الذين منعوا الصدقة، وقاتل قوماً كفروا بعد إسلامهم، ولم يختلف الناس أن قتال الكفار يجب، ولا يجوز أن يظن بعمر بن الخطاب أنه شكَّ في قتال أهل الكفر، وإنما وقف عن قتال من منع الزكاة، إلى أن شرح الله صدره للذي شرح صدر أبي بكر له. وقال الشافعي (2) : أهل الردة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربان: ضربٌ منهم كفروا بعد إسلامهم، وقوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات» (3) . فقوم ارتدوا بالكفر، وقوم قيل لهم ذلك بمنع الحق، قال (4) : «ومن رجع عن شيء جاز أن يقال: ارتد عن كذا» ، يعني: فلذلك جاز أن يطلق عليهم اسم الردة، وإن كان منهم مسلمون. قال ابن المنذر (5) : «فقاتل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- جميع هؤلاء، ولم يُعْلَمْ أَحَدٌ في الوقت الذي رأى عمر مثل ما رأى أبو بكر -رضي الله عنهما- من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتنع مِنْ قتالهم، ولا رأى خلافه، فكان هذا -مع دلائل سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - كالإجماع من المهاجرين والأنصار   (1) في «الإشراف» (2/387) . وانظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (4/1709) . (2) في «الأم» (4/227- ط. دار الفكر) . (3) إلى هنا انتهى كلام ابن المنذر. (4) أي الشافعي في «الأم» (4/227) . (5) في «الإشراف» (2/388) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 على أن ذلك بحقٍّ وجب عليه القيام به» . فإذا ثبت ذلك، فمعنى قول أهل العلم: إنه يجب على من اعتزل جماعة المسلمين وإمامهم، ومنعوه حقّاً من الحقوق الواجبة عليهم، وأداء الطاعة فيما افترضه الله له قبلهم، من غير علة يحق على الإمام رفعها عنهم، ثم دعاهم مع ذلك الإمام إلى الإنابة والإقلاع فلم يقبلوا منه، فواجبٌ عليه حربهم وقتالهم، وحقٌّ عليهم وعلى المسلمين القيام في ذلك معه، والنُّصرة على الحق؛ لقيام الأدلة على ذلك، وقال الله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . وفي حديث عبد الله بن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ... إنها تخلف من بعدهم خُلوف: يقولون ما لايفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ... » الحديث، وقد تقدّم بكماله، خرّجه مسلم (1) . وكان من خاصِّ ما وردَ في هذا الباب: الآثار الثابتة في أمر الخوارج، ووجوب قتالهم وقتلهم. خرَّج مسلم (2) ، عن عليٍّ -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيخرج في آخر الزمان قوم: أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً لمن قَتلهم عند الله يوم القيامة» . وخرّجَ -أيضاً- (3) ، عن أبي سعيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوماً يكونون في أمته، يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التَّحالُقُ، قال: «هم شر الخلق -أو: من شرِّ   (1) في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان) (80) (50) . (2) في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب التحريض على قتل الخوارج) (1066) (154) . (3) في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب ذكر الخوارج وصفاتهم) (1064) (149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 الخلق-، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» . وفي الباب عن أبي ذرٍّ (1) ، وجابرٍ (2) ، وسهل بن حنيف (3) ، وغيرهم. والنظر في هذا الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: الأول: في تقسيم أهل البغي وأحوالهم، ومتى يجب التعاون على قتالهم أو يحرم؛ لاختلاط الفتن؟ الثاني: معرفة الحدِّ الواجب في قتالهم، ومتى يجب الكفُّ عنهم؟ الثالث: معرفة الحكم في جناياتهم، وما يُسْتَولى عليه من أموالهم.   (1) حديث أبي ذر، أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب الخوارج شرّ الخلق والخليقة) (1067) (158) من حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي (أو سيكون بعدي من أمتي) قومٌ يقرؤون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة» . فقال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري، أخا الحكم الغفاري، قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر: كذا وكذا؟ فذكرت له هذا الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2) حديث جابر، أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (باب ذكر الخوارج وصفاتهم) (1063) (142) ، من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة، مُنْصَرَفهُ من حُنين، وفي ثوب بلال فضَّةٌ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبض منها، يعطي الناس، فقال: يا محمد! اعدل، قال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» . فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله! فأقتل هذا المنافق، فقال: «معاذ الله! أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إذا هذا وأصحابه يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرَّميَّة» . وفيه عنعنة أبي الزبير عن جابر، لكنه صرح بالسماع عند مسلم، في الرواية التي بعدها. وأخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس (باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين) (رقم 3138) من حديث عمرو بن دينار، عن جابر، مختصراً. (3) حديث سهل بن حنيف، أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين (باب من ترك قتال الخوارج للتألف، وأن لا ينفر الناس عنه) (رقم 6934) ، ومسلم في كتاب الزكاة (باب الخوارج شرُّ الخلق والخليقة) (1068) (159) ، من حديث يُسَيْر بن عمرو، قال: سألت سهل بن حنيف: هل سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الخوارج؟ فقال: سمعته -وأشار بيده نحو المشرق-: «قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم، لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 النظر الأول: في تقسيم أهل البغي وأحوالهم المخالفون على الجماعة ضربان: * ضرب امتنعوا عن أداء الحقوق، ونزعوا أيديهم من الطاعة؛ فسقاً، ومجوناً، واجتراءً على حدود الله، من غير أن يُنَصِّبوا إماماً، ولا يعتقدوا طاعة، فهؤلاء أهل كبيرةٍ، ومنكرٍ ظاهرٍ يجب تغييره، (فإن لم) (1) تنفع في ذلك موعظتهم وتذكيرهم بالله -تعالى-، وتخويفهم من عقابه، ولم يمكن حملهم على منهج الشرع إلا بقتالهم، ولم يكن قتالهم يؤول إلى فتنة يُتّقى فيها من تفاقم الأمر، والانجرار إلى ما هو أفجر وأنكر من الأول؛ فواجبٌ مقاتلتهم على ذلك؛ حتى يفيئوا إلى أمر الله: يرجعوا إلى الحقِّ، وأداء ما لزمهم، وينزعوا عن باطلهم. والدليل على ذلك ما تقدم من الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله -تعالى-: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: « ... فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن» (2) ، وأما الإجماع: ففي قتال (3) مانعي الزكاة (4) . ** والضرب الثاني: من خالف على إمام المسلمين، فعقدوا البيعة لآخر، يزعمون أنه أحق، وهذا الضرب له حالتان: فالواحدة: أن تكون الإمامة قد صَحَّت وانعقدت بتمام البيعة لرجل عَدْلٍ، مستوفٍ شروط الإمامة، فيخرج عليه بعض من بايعه.   (1) في منسوخ أبي خبزة (من لم) ، وكتب في هامش النسخة: «ولعلها: ولم» . (2) أخرجه مسلم (80) (50) وقد مضى. (3) في المنسوخ قبلها علامة إلحاق في الهامش، ولكن الكلمة في الهامش غير واضحة. (4) فمانعوا الزكاة يقاتلون باتفاق الصحابة، حتى يؤدوا حقَّ الله فيها. انظر: «المغني» (2/476-ط. هرَّاس) ، «المجموع» (5/304) ، «الاستذكار» (رقم 13080- ط. قلعجي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 والأخرى: أن يفترق الناس فرقتين، فيعقد كل فريق الإمامة لرجلٍ منهم، ويدعو كلٌّ إلى حزبه. فأما الحالة الأولى، حيث يخرج على الإمام العدل بعض من بايعه (1) ، يدَّعي أنه أحق بالأمر منه، أو يزعم أنه أنكر على الإمام أمراً من الباطل والجور، وما أشبه ذلك من ضروب التأويل التي يدعيها أمثال هؤلاء، أو يكون طالبَ دنيا فقط، أو متعصِّباً لباطل، وما أشبه ذلك، فيجب في أهل التأويل على الإمام العادل أن ينظر فيما ذكروا أنهم أنكروا عليه، فإن صحَّ ما زعموه من ظلم وباطل، أو جَوْرٍ، وغير ذلك من شيء أنكروه، مما لعله غفل عنه، أو غلط فيه، ونحو ذلك من وجوه الإمكان التي لا تستحيل على البشر، فها هنا يَتَعيَّنُ عليه الرجوع إلى صواب ما أوجبه الشرع من الحق. قال الله -تعالى-: {يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . فإذا رجع عن ذلك، ووجب عليهم العود فلم يفعلوا، أو كان ما نسبوه إليه، أو أوَّلوه عليه باطلاً، أو كانوا إنما يطلبون المال، أو تعصباً، أو غير ذلك من أنواع الباطل، ثم وعظهم فلم يتعظوا، وخَوَّفهم فلم ينزجروا؛ فواجبٌ عند ذلك قتالهم، وعلى الناس المعونة لإمامهم العدل على هؤلاء، حتى يراجعوا الحق (2) . فقال الشافعي (3) : إذا كان لأهل البغي جماعة تكثر، واعتقدوا ونصبوا إماماً، وأظهروا حكماً، وامتنعوا من حكم الإمام العادل، فهذه هي الفئة الباغية، فينبغي إذا فعلوا هذا أن يسألهم: ما نقموا؟ فإن ذكروا مظلمةً بيِّنةً رُدَّت، وإن لم يذكروها، قيل لهم: عودوا. فإن فعلوا قُبِلَ منهم، وإن لم يجيبوا قوتلوا بعد أن يدعوا. خرَّج مسلم (4) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:   (1) في الأصل والمنسوخ: «تابعه» . ومصححة في هامش المنسوخ إلى: «بايعه» . (2) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/402) . (3) في «الأم» (4/230- ط. دار الفكر) ، أو (5/524-ط. دار الوفاء) . (4) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول) (رقم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 « ... ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فلْيطعه إن استطاع، فإذا جاء آخر فنازعه؛ فاضربوا عنق الآخر» . وخرَّج -أيضاً- (1) ، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما» . وخرَّج -أيضاً- (2) ، عن عرفجة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنها ستكون هناتٌ وهناتٌ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف، كائناً من كان» . وخرَّج -أيضاً- (3) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات؛ مات ميتةً جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبة (4) ، ويقاتل للعصبة؛ فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب بَرَّها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدها؛ فليس منِّي» . قوله: «تحت راية عميَّة» ، أي: فتنة وجهالة، كأنه مأخوذ من العمى، قال في «مختصر العين» (5) : العُمِّيَّة والعِمِّيَّة: الضلالة، يقال: قتل فلان عمِّياً، وهي فَعيلةٌ وفِعلى: من العمى. فصل وأما الحالة الثانية: حيث يفترق الناس على إمامين، ويكثر العدد في كل فريق   = 1844) وهو طرفٌ من حديث طويل. (1) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب إذا بويع لخليفتين) (رقم 1853) . (2) في كتاب الإمارة (باب حكم من فرَّق أمر المسلمين وهو مجتمع) (رقم 1852) . (3) كتاب الإمارة (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهرو الفتن ... ) (رقم 1848) (54) . (4) في المنسوخ: «للعصبية» ، والتصحيح من «صحيح مسلم» . (5) الذي في «مختصر العين» (1/102) للزُّبيدي: «العَمَهُ: التردد في الضلالة، ورجل عَمِهٌ، وقد عَمِهَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 من الجهتين، ويُشْكل الأمر، ويجلّ الخطب، فذلك حين قيح الفتن؛ فالواجب عند ذلك الكفُّ، والتوقف عن كل فريق، وطَلبُ السلامة لدينه، بالاعتزال والفرار عن الفتنة، والاستسلام لأمر الله -عز وجل- (1) ، كما صحَّ في مثل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه أمر وأوصى، وكما فعل السلف الصالح، وفي مثل ذلك وشبهه يكون موقعُ قولهِ -تعالى-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ... } [المائدة: 105] . خرَّج مسلم (2) عن أبي بَكْرَة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار» ، قال: فقلت -أو قيل-: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه قد أراد قتل صاحبه» . وخرَّج -أيضاً- (3) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستكون فتن، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تَشَرَّف لها تَسْتَشْرِفُهُ، ومن وجد فيها ملجأً فَلْيعُذ به» . وخرَّج -أيضاً- (4) ، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنٌ، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا، فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبلٌ فليلْحق بإبله، ومن كانت له غنم   (1) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/403) . (2) في كتاب الفتن (باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما) (14) (2888) . وأخرجه البخاري في كتاب الإيمان (باب {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فسماهم المؤمنين) (رقم 31) . وفي كتاب الديات (باب قول الله -تعالى-: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} ) (رقم 6875) . وفي كتاب الفتن (باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما) (رقم 7083) . (3) في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب نزول الفتن كمواقع القطر) (رقم 2886) . وأخرجه البخاري في كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (رقم 3601) . وفي كتاب الفتن (باب تكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم) (رقم 7081، 7082) . (4) في «صحيحه» في الكتاب والباب السابقين (رقم 2887) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه» . قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: «يعمد إلى سيفه، فيدقّ على حدِّه بحجر، ثم ليَنْجُ إن استطاع النَّجاء، اللهم هل بلَّغتُ؟ اللهم هل بلَّغت؟ (1) » قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهتُ حتى يُنْطَلَق بي إلى أحد الصَّفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: «يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار» . وخرَّج (2) عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشَّر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم» ، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَن» ! قال: قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يُستَنُّون بغير سُنَّتي، ويهتدون بغير هَدْيي، تعرف منهم وتنكر» ، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» ، فقلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا» ، قلت: يا رسول الله، فما ترى إنْ أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامَهم» ، فقلت: فإن لم تكُن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلَّها، ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرة، حتى يدركك الموتُ، وأنت على ذلك» . وخرّج -أيضاً- (3) ، عن أبي سعيد قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا   (1) في مطبوع «صحيح مسلم» مكررة ثلاث مرات. (2) أي: مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ... ) (رقم 1847) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (رقم 3606، 3607- مختصراً) . وفي كتاب الفتن (باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة) (رقم 7084) . (3) في «صحيحه» في كتاب الإمارة (باب فضل الجهاد والرباط) (123) (1888) . وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب أفضل الناس مؤمن يجاهد = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 رسول الله؟ قال: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله» ، قال: ثم من؟ قال: «رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه، ويدع الناس من شَره» . وروَى أبو بكر بن المنذر (1) مسنداً إلى أيوب بن عبد الله اللخمي قال: كنت عند عبد الله بن عمر، وهو يخلط لبعيره عَلَفاً، فجاءه نَفَر، فقالوا: ما تأمرنا يا أبا عبد الرحمن؟ هذا ابن الزبير، وابن مروان، ونَجدة، كلُّ واحدٍ منهم يدعو إلى نفسه! فقال رجل منهم: يقول الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّهِ} [الأنفال: 39] ، فقال ابن عمر: قد قاتلتُ أنا وأصحابي حتى كان الدِّين كلُّه لله، وذهب الشِّرك، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله! فقال رجل: لو فعل الناس مثل ما فَعَلْتَ؛ ما قام لله دين! فقال ابن عمر: لو فعَلَ الناس مثل ما فَعَلْتَ؛ ما أغلقت أمُّك عليها بابها، ولا اتَّكَأتَ في بيتك مضطجعاً! وأسند إلى ابن عباس، أن سائلاً سأله، قال: إني بايعتُ ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام! قال: فقال: لا تقاتل أهل القبلة، ولكن ابْتعْ بَغْلاً أو بغلين، أو غلاماً أو غلامين، ثم انطلق نحو المشرق، فإنّك إنْ قُتلتَ على ما أنتَ عليه؛ قُتلتَ   = بنفسه وماله في سبيل الله) (2786) ، وفي كتاب الرقاق (باب العزلة راحة من خلاّط السوء) (رقم 6494) ، وخرجته بتفصيل في تعليقي على «العزلة والانفراد» (198) لابن أبي الدنيا. (1) في كتابه «الأوسط» -الجزء المفقود منه-، وقد أشار في كتابه «الإشراف» (2/403) إلى أنه ذكر الأخبار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. وأصل الحديث في «صحيح البخاري» (رقم 4513) من حديث نافعٍ عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، دون الزيادة من قوله: «فقال رجل: لو فَعَلَ الناس مثل ما فعلت ... » . وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/496) إلى أبي الشيخ وابن مردويه في «تفسيريهما» . وانظر: «تاريخ دمشق» لابن عساكر (31/187-188) . وسيذكر المصنف أخباراً عن السلف في فضل العزلة عند اشتداد الفتنة، ذكرها ابن المنذر في «الأوسط» -الجزء المفقود- مسندة. وقد أشار إلى ذلك في «الإشراف» (2/405) حيث قال: وقد ذكرت أخباراً تدل على فضل العزلة في الفتن وسائر الأوقات، التي تركت ذكرها ههنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 إن شاء الله شهيداً. وأسند -أيضاً- إلى عبد الملك بن عمير، قال: رأيت أبا موسى أيام الفتنة يخرج من داره، فيصلِّي مع الإمام، فإذا قال الإمام: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله؛ وَثَبَ، فدخل داره، ورأيتُ عليه عمامةً سوداء، وبُرنساً أسود (1) . وعن طلحة بن عبيد الله، كان يقول: «أقلُّ العيب على المرء أن يجلس في داره» (2) . وعن أبي الدَّرداء قال: «نِعم صومعة المرء المسلم بيته، يكفُّ سمعه وبصره ودينه وعرضه، وإياكم والجلوس في الأسواق، فإنها تُلهي وتُلغي» (3) .   (1) أسند الخطابي في «العزلة» (ص 91) إلى الأزرقي قال: لما انصرف أبو موسى الأشعري من الحَكمين نزل مكة، فبنى سقيفة من حجارة على فُوَّهة شعب أبي الدّب. وهناك مقبرة، فقال: «أجاور قوماً لا يغدرون» ، يعني: أهل القبور. وإسناده واهٍ. وانظر في عزلته: «العزلة» لابن أبي الدنيا (رقم 183- بتحقيقي) ، و «الزهد» لأبي داود (285) . (2) أخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 254) -ومن طريقه ابن أبي الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 24- بتحقيقي) - عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن طلحة بن عبيد الله، به. وأخرجه هناد في «الزهد» (رقم 1236) ، وأبو داود في «الزهد» (رقم 117، 118) ، وابن أبي الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 110، 111) ، وابن سعد في «الطبقات» (3/221) ، وحنبل في «جزئه» (رقم 17) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 81، 99) ، ونعيم بن حماد في «زيادات الزهد» (رقم 12) ، والخطابي في «العزلة» (ص 70) -ومن طريقه ابن عربي في «محاضرة الأبرار» (1/ 307) -، وابن الأعرابي في «معجمه» (رقم 1241- ط. دار ابن الجوزي) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (2/735 رقم 803، أو رقم 366- منتقى السِّلفي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (25/104- ط. دار الفكر) -، وابن عبد البر في «التمهيد» (17/442-443) ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» (10/ 118- جمل منه/ ط. دار الفكر) ، من طرقٍ عن إسماعيل، به. وهو في «المطالب العالية» (3/5) معزوٌ لمسدد في «مسنده» . وصححه ابن حجر والبوصيري. وأخرجه الخرائطي في «مكام الأخلاق» (ص 160) من طريق آخر عن طلحة. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 25- بتحقيقي) ، عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، عن يحيى بن سعيد، عن ثور بن يزيد، عن سليم بن عامر، عن أبي الدرداء، به. وإسناده صحيح. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 وعن أبي ذرٍّ الغفاري قال: «الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خيرٌ من الوحدة، وإملاء الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر» (1) .   = وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ق 387) عن حفص ويحيى بن سعيد، عن ثور، به. وأخرجه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (2/736 رقم 804، أو رقم 367- منتقى السِّلفي) : حدثنا عمر بن شبَّة، نا يحيى بن سعيد القطان، به. وأخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 251) -ومن طريقه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/309، أو 8/267- ط. دار الفكر) ، وأحمد في «الزهد» (رقم 135) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الحدائق» (3/195) -، وابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 80) -، وهناد في «الزهد» (رقم 1235) ، والأصبهاني في «الترغيب» (2/912 رقم 2234) ، والبيهقي في «الشعب» (7 رقم 10656) من طريق سفيان، وابن عبد البر في «التمهيد» (17/441-442) ، والبيهقي في «الزهد» (رقم 129) من طريق عيسى بن يونس، والخطابي في «العزلة» (ص 70-71) ، وابن الجوزي في «صفة الصفوة» (1/640) من طريق حفص؛ كلهم عن ثور، به. وأخرجه نعيم بن حماد في «زياداته على الزهد» (رقم 25) : بلغني عن ثور، به. وهو عند الديلمي في «الفردوس» (4 رقم 6792) . وذكره ابن الجوزي في «التبصرة» (2/289) ، والجاحظ في «البيان والتبيين» (3/132) ، والعاملي في «المخلاة» (ص 121) ، وعزاه ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (10/405) لطاوس، وأسنده ابن البناء في «الرسالة المغنية» (رقم 16) بإسناد صالح عن الفضيل بن عياض، وأسنده المزيّ في «تهذيب الكمال» (32/529) عن الحسن البصري قوله. (1) أخرجه ابن الدنيا في «العزلة والانفراد» (رقم 158- بتحقيقي) ، عن محمد بن عثمان العجلي، حدثنا أبو أسامة، أخبرني سفيان، عن أبي المحجَّل، عن ابن عمران بن حطان، عن أبيه، قال أبو ذر: «الصاحب الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، وعمل الخير خير من الصامت، والصامت خير من عمل الشر، والأمانة خير من الخائن، والخائن خير من ظنّ السوء» . قلت: وهذا إسناد حسن. إلا أني أخشى من علة الانقطاع؛ فعمران سمع ممن تأخرت وفاته من الصحابة، مثل أبي موسى، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، ولم أظفر بنصٍّ فيه إثبات أو نفي السماع من أبي ذر، وأداة التحمل لا تساعد على ذلك. وأبو المحجل، اسمه: رديني بن مرة -وقيل: ابن مخلد، وقيل: ابن خالد-، البكري، قال أبو حاتم الرازي: «ما علمتُ إلا خيراً» ، وقال ابن معين: «ثقة» . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = انظر: «الجرح والتعديل» (3/516) ، و «التاريخ الكبير» (3/331) ، و «طبقات ابن سعد» (6/ 323) ، و «ثقات ابن حبان» (8/246) . وابن عمران هو معفس بن عمران بن حطان السدوسي، سكت عنه البخاري في «تاريخه» (8/ 64) ، وبيّض له ابن أبي حاتم (8/433) ، وذكره ابن حبان في «ثقاته» (7/525) ، وروى عنه ثلاثة؛ فيحسّن حديثه -إن شاء الله-. وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/341) -ومن طريقه ابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 39- مقتصراً على «الساكت خير من قيل الشر» ، ورقم 65- مقتصراً على «الوحدة خير من صاحب السوء» ) ، وابن حبان في «روضة العقلاء» (ص 101) : أنا أبو أسامة، به. وخالف أبا أسامة: عبد الرزاق؛ فرواه عن سفيان، عن أبي المحجّل، عن رجل، عن أبي ذر، به؛ إلا أنَّ فيه: «الأمانة خير من الخاتم، والخاتم خير ... » . أخرجه الخطابي في «العزلة» (ص 146) ، وقال المعلِّق عليه: «يعني: إذا كان لك مال، فختمت عليه حتى لا تسيء الظن بأهلك وخدمك؛ فهو خير أن تتركه غير مختوم وتظن بالناس الظنون» . ونقله من المعلق على «صفة الصفوة» (1/596) وهو فيه معزوٌّ لعمر، وعزي في مطبوع «روضة العقلاء» إلى أبي الدرداء! * تنبيه: وقع بدل «سفيان» في «العزلة» للخطابي (ص 49-ط. غير المحققة) : أبو سليمان، وقال محققها الأستاذ ياسين السوّاس (ص 146) : «وفي الأصل: «أبو سليمان» ، ثم شطب على لفظ (أبو) وجعلت «سليمان» : «سفيان» » . وخالف سفيان: شريك؛ فرواه عن أبي المحجل، عن صدقة بن أبي عمران بن حطان؛ قال: أتيتُ أبا ذر، فوجدتُه في المسجد مُحْتَبِيًا بكساءٍ أسود وَحْدَهُ، فقلتُ: يا أبا ذر! ما هذه الوحدة؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الوحدة خير من جليس السوء ... » . أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/343-344) -ومن طريقة البيهقي في «الشعب» (4 رقم 4993- ط. دار الكتب العلمية، و9 رقم 4639-ط. الهندية) و «الزهد» (رقم 235) عن محمد بن الهيثم القاضي، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (1/467 رقم 475، و2/739 رقم 809، أو رقم 372- منتقى السِّلفي) : حدثنا سعدان بن يزيد البزار، عن الهيثم بن جميل الأنطاكي، نا شريك، به. ووهم فيه شريك وهمين: الأول: قوله: «صدقة بن أبي عمران» ، وصوابه ما تقدم. والآخر: رفعه، والصواب أنه موقوف. ولعل الوهم من الرواة عن شريك، أو أنه اضطرب فيه؛ إذ رواه عنه عون بن سلام وأوقفه، كما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 النظر الثاني: في معرفة حدِّ قتال أهل البغي الفرقة الباغية على الوجوه المتقدِّمة، إذا لم ترجع بوعظ ولا استصلاح إلى الإمام العادل، ولم يُرْجَ إقلاعهم، فإنَهم يقاتلون على ذلك، ما داموا على حالهم من الامتناع والخلاف، حتى يفيئوا إلى أمر الله. واختلف أهل العلم في قتلهم إذا أدبروا منهزمين، أو أُخذوا مأسورين، أو أُثبتوا مثخنين، فقال الشافعي (1) : «لا يقتل منهم المُدْبِر ولا الأسير ولا الجريح   = عند التيمي في «الترغيب» (رقم 1710) ، وسمى ابن عمران: «معفس» ، وتصحف في المطبوع إلى «معفر» ؛ فليصحح. قال ابن حجر في «فتح الباري» (11/331 تحت رقم 6494) -بعد عزوه الأثر للحاكم-: «سنده حسن» ، ثم قال: «لكن المحفوظ أنه موقوف عن أبي ذرٍّ أو عن أبي الدرداء، وأخرجه ابن أبي عاصم» . قلت: وأخرجه الديلمي في «الفردوس» (4 رقم 7262) ، والدولابي في «الكنى» (2/ 107) ، وأبو الشيخ، والعسكري -كما في «المقاصد الحسنة» (رقم 1261) -، وابن عساكر في «تاريخه» -كما في «فيض القدير» (6/373) -، والقضاعي في «الشهاب» (1266) . وللموقوف طريق آخر، انظره عند الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (1/468 رقم 476، و2/740 رقم 810) ، وأخرجه ابن وهب في «جامعه» (1/457 رقم 342) بلاغاً إلى أبي ذر. وورد عن جمع، ومن مرسل الحسن، كما عند ابن وهب في «الجامع» (2/ 601-602 رقم 504) . وانظر: «التمهيد» (17/447) ، «تاريخ دمشق» (17/ق 10) ، «أنساب الأشراف» (13/72) ، «الدرر المنتثرة» (432) ، و «التمييز» (1562) ، و «كشف الخفاء» (رقم 2893) ، و «السلسلة الضعيفة» (رقم 2422) ، و «أسنى المطالب» (رقم 1656) . وقد نظم الشاعر معنى هذه المقولة: وحدة الإنسان خير ... من جليس السوء عنده وجليس الخير خير ... من قعود المرء وحده قال السَّهرَوَردي في «عوارف المعارف» (430) : «وقد نبه القائل نظماً على حقيقةٍ جامعة لمعاني الصحبة والخلوة، وفائدتهما وما يحذر فيهما بقوله ... » وذكرهما. وقد ورد نحوه بإسناد ضعيف، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. انظره في «العزلة والانفراد» (رقم 162- بتحقيقي) . (1) في «الأم» (4/231- ط. دار الفكر) ، ونقله عنه ابن المنذر في «الإشراف» (2/389) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 بحال» ، وهو المرويُّ عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، أنه قال يوم الجمل: «لا تقتلوا مدبراً، ولا تذفِّفوا على جريح، ولا تقتلوا أحداً صبراً، ولا توطأ أم ولد، ولا النساء على عدتهن، والميراث على كتاب الله» (1) . وروي -أيضاً- أنه قال في يوم الجمل: «لا يذفف على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابه فهو آمن، ولا يتبع مدبر» (2) . وقد روي نحو ذلك عن عمار بن ياسر (3) . وقال أصحاب الرأي في الخوارج: إذا هُزموا ولهم فئة يلجؤون إليها، فينبغي لأهل الجماعة أن يقتلوا مدبرهم، وأن يُجهزوا على جريحهم، وأن يقتلوا من أسروا منهم، فإن انهزموا، ولم تكن لهم فئةٌ يلجؤون إليها؛ لم يقتل مدبرهم،   = وفي مطبوعه ومطبوع «الأم» : «ولا الأسير، ولا الجريح بحال» . وانظر: «المهذب» (2/218) ، «روضة الطالبين» (10/57، 58) ، «المجموع» (19/200) ، «منهاج الطالبين» (3/192) ، «البيان» للعمراني (12/22-23) ، «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 60) ، «مغني المحتاج» (4/127) ، «التهذيب» للبغوي (7/281) ، «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لابن جماعة (ص 243) . (1) أخرج نحوه سعيد بن منصور في «سننه» (3/389، 390، 391 رقم 2947، 2948، 2950) . (2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/263، 267، 268، 281) ، -ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/181) - من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: أمر عليٌّ مناديه، فنادى يوم البصرة: «لا يتبع مدبر ... » . وأخرج نحوه عبد الرزاق في «المصنف» (10/123 رقم 18590) -ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (11/101) -، وسعيد بن منصور في «سننه» (3/390 رقم 2948) ، وأبو يوسف في «الخراج» (ص 234- ط. المكتبة الأزهرية) من طريق جعفر بن محمد، به. وانظر: «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 60) ، «البداية والنهاية» (7/245) ، «التلخيص الحبير» (4/89-90) . وقوله: «ولا يذفف على جريح» (بالدال والذال لغتان) : أي: لا يجهز عليه. انظر: «تهذيب اللغة» (14/73) ، «الفائق» (1/403) ، «النهاية» (2/64) . (3) أخرجه عبد الرزاق (10/124 رقم 18591) ، والبيهقي في «الكبرى» (8/181) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 ولم يجهز على جريحهم، ولم يقتل أسراهم، ولكن يعاقبون، ويضرب من أخذ منهم ضرباً وجيعاً، ويُحبسون حتى يُقلعوا عما هم عليه، ويحدثوا توبة (1) . وإليه ذهب الأوزاعي في قتل من له فئة (2) . وقال أبو محمد بن حزم (3) : «ومن انهزم منهم، فإن كانت هزيمته إلى حصن، أو إلى جماعة منهم، أو ليبتعدوا عن الطلب، ويبقوا على رأيهم؛ أُتْبِعوا ولا بُدَّ، وإن كانت هزيمتهم افتراقاً، وتركاً لما هم عليه؛ لم يجز أن يُتْبَعُوا، ولا يُجْهَزُ على جريح من أحدِ هذه الطوائف، ولا يقتل منهم أسير، فمن قتله فعليه القود» . فلم يفرق أبو محمد في الجريح والأسير بين أن تكون له فئةٌ أو لا تكون، لا يحل قتلهم بحال. وروي عن ابن عباس -وقد سُئل عن أناس من الخوارج قاتلوا فانهزموا: أنقتلهم؟ قال: «اقتلهم ما كانت لهم فئةٌ يرجعون إليها، فإذا لم تكن لهم فئة؛ فلا تقتلوا مقبلاً ولا مدبراً» (4) . لعله إنما يعني مقبلاً في غير قتال، لا على أن يكون مقبلاً في القتال، فإن كل مقاتل على باطل؛ فلا ينبغي تركه، ولا يجب الكَفُّ عنه، والله أعلم. والأظهر ما قاله الشافعي (5) في وجوب الكفّ عن المدبر والجريح المُثْخَنِ   (1) انظر: «تحفة الفقهاء» (3/313) ، «الهداية» (2/464) ، «بدائع الصنائع» (7/140-141) ، «المبسوط» (10/126) ، «أحكام القرآن» للجصاص (3/283- 284) . (2) قال: «وما تحلُّ هذه السيرة في الفئة إذا افترقت الأمة، ولا في الطائفتين اللتين نزل فيهما وفي أشباههما القرآن، ولا في الخوارج إذا هزمهم المسلمون: قتل أسيرهم، والإجازة على جريحهم» . انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/390) . (3) في «المحلّى» (11/101) . (4) انظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/390) ، «المغني» (12/252) . (5) وهو مذهب المالكية والحنابلة. انظر في مذهب المالكية: «الذخيرة» (12/7) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/294) ، «جامع الأمهات» (ص 512) ، «المنتقى» للباجي (7/170-171) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/300) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 والأسير، وهو ظاهر فعل عليٍّ -رضي الله عنه-، ولم يفرِّق بين أن تكون لهم فئة أَوْ لا، واحتجَّ الشافعي لذلك قال (1) : «يقول الله -عز وجل- في الفئة الباغية: { ... حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] ، ولم يستثنِ الله -تعالى-، فسواءٌ كانت للذي فاء فئةٌ، أو لم تكن، فمتى فاء -والفيئة: الرجوع-؛ لم يحلَّ دمه» . قال أبو بكر بن المنذر (2) : «وقد رُوينا في هذا الباب حديثاً مرفوعاً، في إسناده مقال، ولو كان صحيحاً كانت فيه حجة لمن قال هذا القول» ، وذكر بإسناده، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «هل تدري كيف حكم الله فيمن بَغَى من هذه الأمة؟ قال: لا يُجْهَز على جريحها، ولا يُطْلَب هاربها، ولا يُقْتَل أسيرها» (3) .   = وفي مذهب الحنابلة: «المغني» (12/252) ، «المقنع» لابن البنا (3/1106) ، «الواضح» (2/214) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1133) ، «شرح الزركشي» (6/225-227) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/442) ، «المبدع» (9/162-163) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/ 571 رقم 1819) . (1) في «الأم» (4/231) . (2) لعلّه في «الأوسط» الجزء المفقود منه. (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/155) -وعنه البيهقي في «الكبرى» (8/182) -، والبزار في «مسنده» (2/359 رقم 1849- «كشف الأستار» ) -ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (11/101-102) -، والطبراني في «الأوسط» -كما في «مجمع البحرين» (5/134 رقم 2809) ، و «مجمع الزوائد» (6/243) -، وابن عدي في «الكامل» (6/2096) ، من حديث كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن مسعود: ... وذكر الحديث. وقال البزار: «لا نعلمه يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، ولا رواه عن نافع إلا كوثر» . وسكت عنه الحاكم. وتعقبه الذهبي فقال: «كوثر متروك» . وقال في «المهذب في اختصار السنن الكبير» للبيهقي: «كوثر واهٍ» ، وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال الإمام أحمد: أحاديثه بواطيل، ليس بشيء، وقال الدارقطني وغيره: مجهول، وقال البخاري: منكر الحديث. انظر: «تاريخ ابن معين» (195) ، «علل أحمد» (1/170، 249، 294) ، «التاريخ الكبير» (7/ 245) ، «الضعفاء الصغير» (102) ، «أحوال الرجال» (200) ، «ضعفاء أبي زرعة» (2/652) ، «ضعفاء = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 قال: «وقد تُكُلِّم في كوثر؛ كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عنه، وقال محمد بن إسماعيل: كوثر عن نافع: منكر الحديث» . النظر الثالث: في معرفة أحكام جناياتهم، وما أصابوه وأصيب منهم أهل البغي -كما تقدم- ضربان: متأوِّل وطالب دنيا بالفسوق، فأما الفسّاق فلا يختلف أنهم متبعون بكل ما جنوا وأصابوا من دمٍ، ومالٍ، وحقٍّ لذي حق، وكذلك في الحدود إن أصابوا من النساء حراماً، وغير ذلك؛ لأن هؤلاء أصابوا ما أصابوه وهم عالمون بالتَّحريم، متعمّدون لارتكاب المعاصي، غير متأولين، ولا معتقدين لصواب ذلك من دينهم، فوجب أن يُقادَ منهم بمن قتلوا عمداً، ويُقتصَّ لمن جَرَحوا، وتقام عليهم حدود الله فيما ثبت من ذلك منهم، ويغرمون جميع ما استهلكوا من مال، ويرجع جميع ما يوجد في أيديهم لإنسان. قال الله -تعالى-: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءِ للَّهِ} [المائدة: 8] ، وقال -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] ، وقال -تعالى-: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] . وليس في هذا النوع خلافٌ أعلمه، وكذلك ما استولي عليه من أموالهم وأحوالهم (1) هي لهم، وعلى ملكهم، لا يحل لأهل العدل الذين قاتلوهم ولا غيرهم أن يتمسكوا من ذلك بشيء، بل يُرَدُّ كل حق إلى مستحقِّه، وتُستوفى منهم الحقوق   = النسائي» (228) ، «ضعفاء العقيلي» (4/11) ، «الجرح والتعديل» (7/176) ، «المجروحين» (2/ 228) ، «الكامل» (6/2096) ، «ضعفاء الدارقطني» (145) ، «ضعفاء ابن شاهين» (161) ، «المغني من الضعفاء» (2/534) ، «الميزان» (3/416) ، «اللسان» (6/426- ط. أبي غدة) ، «التخليص الحبير» (4/ 83-84) ، «الدراية» (2/139) . (1) غير واضحة في الأصل والمثبت من منسوخ أبي خبزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 التي وجبت عليهم؛ لأنه لم يكن منهم فيما فعَلوا قول ولا عمل يخرجهم عن الإسلام، ولا يوجب استحلال أموالهم ولا أحوالهم (1) إلا بحقِّها، قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] . وخرَّج مسلم (2) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ... كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» . وأما ما اختلف أهل العلم في أهل البغي الذين يخرجون متأولين: كالخوارج وأضرابهم؛ ممَّن عرضت لهم شبهة في النظر، فاعْتَقَدَ (3) تكفيرَ من خالف مذهبهم، واستباحوا بذلك الدماء والأموال والفروج بالسِّباء في المسلمين؛ فقالت طائفة: ما أصاب هؤلاء أو أصيب منهم، من دم وجراحة فهو هَدْرٌ، رُوي ذلك عن سعيد بن المسيب (4) ، وقال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه قال: الدماء موضوعة عنهم، وأما الأموال: فرأيي إن وَجدوا شيئاً بعينه أخذوه، قال: ولم يُتبعوا بشيء، يعني: مما استهلكوه؛ لأنهم إنما استهلكوها على التأويل (5) .   (1) غير واضحة في الأصل والمثبت من المنسوخ. (2) في «صحيحه» في كتاب البر والصلة والآداب (باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودَمه وعرضه وماله) (2564) (32) . (3) كذا في الأصل والمنسوخ، والأصوب أن تكتب: «فاعتقدوا» . (4) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/122 رقم 18587) عن سعيد بن المسيب قال: إذا التقت الفئتان، فما كان بينهما من دمٍ أو جراحة فهو هَدْرٌ، ألا تسمع إلى قول الله -عز وجل-: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فتلا الآية حتى فرغ منها، قال: فكلُّ واحدة من الطائفتين ترى الأخرى باغية. قال ابن حزم في «المحلّى» (11/106) في قول سعيد: ليس بشيء؛ لأن الله -تعالى- لم يكلنا إلى رأي الطائفتين، لكن أمرَ من صحَّ عنه بغيُ إحداهما بقتال الباغية، ولو كان ما قاله سعيد -رحمه الله-؛ لما كانت إحداهما أولى بالمقاتلة من الأخرى، ولبطلت الآية، وهذا لا يجوز. وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (2/390-391) . (5) انظر: «المدونة» (1/407- ط. المطبعة الخيرية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وقال الشافعي (1) : «ما أصاب أهل البغي في حال الامتناع على وجهين: أحدهما: ما أصابوه من دم ومالٍ [وفَرْج] (2) على التأويل، ثم ظُهِر عليهم بَعْدُ؛ لم يقم عليهم منه شيء، إلا أن يوجد مال بعينه فيؤخذ» . والوجه الثاني: ما أصابوه على غير وجه التأويل من حدٍّ لله أو للناس، ثم ظُهر عليهم؛ رأيت أن يُقام عليهم، كما يقام على غيرهم، ممَّن هرب من حدٍّ، أو أصابه وهو في بلادٍ لا واليَ لها، ثم جاءها والٍ» . وقال أهل الرأي (3) نحواً مما قال الشافعي في الدم والمال يصيبه أهل البغي   (1) في «الأم» (4/231- ط. دار الفكر) . وانظر: «المهذب» (2/221) ، «منهاج الطالبين» (ص 131-ط. مصطفى الحلبي، أو 3/ 191- ط. دار البشائر الإسلامية) ، «التنبيه في الفقه الشافعي» (ص 230) ، «روضة الطالبين» (7/ 275- ط. دار الكتب العلمية) ، «السنن الكبرى» (8/175) ، «الإشراف» لابن المنذر (2/391) ، «البيان» للعمراني (12/30) ، «المجموع» (19/207- ط. دار الفكر) . وعدم الضمان في النفس والمال هو الراجح من مذهب الشافعية. والوجه الآخر عند الشافعية -وهو المرجوح-: هو رواية عن الإمام أحمد، والأشهر عند الحنابلة -أيضاً- عدم الضمان. (2) كتب أبو خبزة في هامش نسخته عند هذا الموطن: «أَكَلَتْها الأَرَضَة» . قلت: وما أثبتناه من مطبوع «الأم» للشافعي. (3) انظر: «مختصر الطحاوي» (257-258) ، «تحفة الفقهاء» (3/537) ، «المبسوط» (10/ 127-128) ، «الهداية» (2/465) ، «اللباب» (4/156) ، «بدائع الصنائع» (7/141) ، «رؤوس المسائل» للزمخشري (479) ، «تحفة الملوك» (ص 197) ، «جمل الأحكام» (384) ، «إعلاء السنن» (12/633) . وهو مذهب المالكية فيما سبق نقله عن ابن القاسم. انظر: «المدونة» (1/407) ، «التفريع» (2/232) ، «الرسالة» (240-241) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/294) ، «جامع الأمهات» (512) ، «الكافي» (582) ، «المعونة» (3/1365) ، «مقدمات ابن رشد» (3/221) ، «الإشراف» للقاضي عبد الوهاب (4/181- بتحقيقي) . وهو -أيضاً- مذهب الحنابلة. انظر: «المغني» (12/250) ، «المقنع» لابن البنا (3/1106) ، «شرح الزركشي» (6/229) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 بالتأويل، قالوا: وكذلك لا يؤخذ (1) للخوارج ما أصاب أهل الجماعة منهم، من دمٍ أو جراحٍ، إلا أن يوجد مالٌ بعينه فَيُردُّ عليهم. فأقول: يحتمل -إن شاء الله- أن يقال: ما أصابه أهل البغي من أموال أهل العدل بالتأويل، فهو على وجهين: * منه تأويل يشكل مثله، وتكون له شبهةٌ يخفى الخطأ فيه، ومَأخذٌ لا يَبْعدُ أن يؤدَّى إليه سابقٌ من النَّظر عند قوم، وإن كان ذلك خطأ عند أهل التحقيق، فما كانت هذه سبيله؛ أمكن أن يقال: إنهم لا يُتبعون فيما استهلكوه على ذلك بشيء، وعليه أكثر العلماء، وقد قيل -أيضاً-: إنهم يضمنون. ** وما كان مما لا يُشكل، والخطأ فيه ظاهر، وهو لايجري على طريقة أخذِ العلماء ونظرهم وتأويلهم بوجهٍ من الوجوه وإن بَعُد، بل يكون وقوعهم فيه بجهلٍ، وخروجٍ عن طرق العلم بكل حال، وتأويلهم باطل باتفاق؛ فسبيل ما كان هكذا: أن يتبعوا به؛ لأنه -بلا شك- أكلُ مالٍ بالباطل، وقد حرم الله ذلك، وأمر بالقيام بالقسط، وقال -تعالى- في الفئة الباغية: {فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات: 9] ، فمن الإصلاح بالعدل: أن تُردَّ الحقوق والظلامات إلى مستحقّها، ويُعدى المظلوم على الظالم، هذا هو العدل والإقساط كما أمر الله -تعالى-، والكلام إنما هو فيما استهلكوه من الأموال، وأما ما وجد؛ فالاتفاق على أنه مردود لصاحبه، وهذا كله تفصيل في الأموال، وأما في الدماء والجراحات؛ فالأظهر أن لا قودَ في شيء من ذلك على حال، إذا كان إصابتهم ذلك بتأويل، سواءٌ في ذلك ما كان لهم فيه شبهة، أو كان من الخطأ المتفق عليه. والفرق بين الأموال فيما فَصَّلْتُهُ وحقوقِ الأبدان: أنَّ القصاص لا يثبت إلا   = «الواضح» (2/214) ، «شرح المختصر» لأبي يعلى (2/444) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1132) ، «الروايتين والوجهين» (2/306) ، «رؤوس المسائل الخلافية» للعكبري (5/569) . (1) في نسخة أبي خبزة: «يوجد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 بتعمّد التّعدي والظلم، وغُرْمُ المال المتلف ثابتٌ على كل حالٍ من قصد الغَصْب، أو ظنّ الاستباحة والحِلِّيَّة، أو غير ذلك من الأحوال؛ بل يجب ذلك مع الأحوال التي لا يقع عليها التكليف، كالناسي والطفل: جَعَل الشرع ذلك كلَّه أسباباً للتَعَبُّد (1) بالغرم، فلم يتوقف إغرام المتلفات من الأموال على قصد التَعَدِّي فقط. وأما أمر القود والقصاص: فمن باب العقوبة والعذاب؛ فلم يثبت إلا على من تعمد ظلماً، لكن قد ينبغي أن يقال: فإذا سقط القود من مثل ذلك؛ لكونه لم يتعمد العدوان؛ فكان يجب أن يعقبه العقل والأرش إذا كان التأويل باتفاق، كالحال في جنايات الخطأ، فيكون ذلك فرق ما بين التأويلين في الدماء، كما كان الغرم فرق ما بين التأويلين في الأموال؛ فهو قول صحيح، ووجه ظاهر مستقيم، وهو الأرجح عندي، والله أعلم. ونحوه يقول أبو محمد بن حزم (2) ، قال في أهل البغي: إن خرجت طائفة، إما بتأويلٍ خطأ: كالخوارج ومن سَلَكَ تلك الطريق، وإما بلا تأويل، لكن طلب رئاسة، أو تعصباً لإنسان بعينه، أو لأهل بيتٍ بعينه، لا لإنكار منكر؛ فإنَّ هاتين الطائفتين هي الطائفة الباغية، ففرضٌ على أهل العدل قتالهم، إمَّا حتى يفيئوا إلى الله، ويتركوا طلبهم للريّاسة (3) ، وتأويلهم الفاسد، فإذا تركوا ذلك؛ فلا شيء عليهم إلا القود في المتعصّبةِ وطالبةِ الدُّنيا فيمن قَتَلوا، أو الدِّية، يعني: إذا قَبِلَ ذلك منهم أولياءُ المقتول. قال: وأما المتأولة: فالدية فقط، ولا قودَ في ذلك، وكلهم يضمنون ما أتلفوا من الأموال. وعند الشافعية قولان: أحدهما ما تقدم من قول الشافعي وتفصيله.   (1) كذا في الأصل والمنسوخ، ويمكن أن يقال: «للتعمّد بالغُرْم» . (2) في «المحلّى» (11/97، 104، 106، 107) . (3) أثبتها أبو خبزة: «للدية» . وكتب في الهامش: «كذا، ولعلها: للرياسة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 والثاني: أنه يجب على أهل البغي الضَّمان على كلِّ حالٍ فيما أتلفوا؛ لأنه بعدوان (1) . ولهم في تأويل هذا القول وجهان: أحدهما: أنه يراد به الضمان في القصاص وسائر الأحكام. والثاني: أن ذلك في غير القصاص، وأما القصاص فلا يجب قولاً واحداً؛ لأنه يسقط بالشبهة، وقد كان لأهل البغي شبهةٌ في القتل بتأويلهم، فهذا القول نحوٌ مما ذكرناه. فصل واختلف أهل العلم فيما وُجد بعينه من أموال أهل البغي في أيدي فريق العدل؛ فقال الشافعي (2) : «يجب ردُّه على صاحبه؛ لأنه مالُ مسلمٍ، قال: ولا يستمتع من أموالهم بدابة تركب، ولا متاعٍ، ولا سلاحٍ يقاتل به في حربهم، وإن كانت قائمة، ولا بعد تَقَضّيها، ولا غير ذلك من أموالهم، وذلك أن الأموال في القتال إنما تحل من أهل الشرك الذين يتحولون إذا قدر عليهم؛ فأما من أسلم، فلا يؤخذ ماله» . وروي نحو ذلك عن عليٍّ (3) -رضي الله عنه-. وذهبت طائفة (4) في الخوارج إلى أنهم تُغنم أموالهم، وحملوهم محمل   (1) انظر: «مختصر المزني» (259، 267) ، «الإقناع» (174) ، «حلية العلماء» (7/619، 629) . (2) في «الأم» (4/233) ، وانظر: «منهاج الطالبين» (3/192-193) ، «التهذيب» للبغوي (7/281) ، «البيان» للعمراني (12/28) ، «المجموع» (19/205) . وهو مذهب الحنابلة في المشهور عنهم، انظر: «المقنع» لابن قدامة (3/511) ، «رؤوس المسائل الخلافية» (5/571) ، «رؤوس المسائل» لأبي جعفر الهاشمي (3/1133) . (3) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (10/122، 123، 124) ، «الخراج» لأبي يوسف (ص 254، 255) ، «المحلّى» (11/100) ، «الإشراف» (2/392) ، «موسوعة فقه علي بن أبي طالب» (ص 131) . (4) كالحسن بن حي، قال: أموال اللصوص المحاربين مغنومة مُخَمَّسة، ما كان منها في عسكرهم، وذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة إلى تخميس سلاح وكراع أهل البغي دون الأموال. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 أهل الكفر، واستدل من ذهبَ إلى ذلك بما تضمَّنتهُ ظواهر الآثار في شأنهم، وأنهم: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم» ، وأنهم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (1) ، وأنهم: «شرُّ الخليقة» (2) ، إلى غير ذلك مما ورَدَ فيهم، مما ظاهره التكفير (3) ، وفرقوا بينهم وبين غيرهم من أهل البغي.   = وقد ردَّ كلامهما ابن حزم، انظر: «المحلَّى» (11/102، 103) . وقال ابن المنذر في «الإشراف» (2/393) عن هذا المذهب: هذا قول طائفة من أهل الحديث، ولا أعلم أحداً وافقهم على هذه المقالة. (1) مضى تخريجه بالتفصيل (ص 654) . (2) أحاديث ذكر الخوارج وصفاتهم كثيرة مشتهرة، والصفات المذكورة في «الصحيحين» . انظر -على سبيل المثال-: «صحيح البخاري» (الأرقام 3138، 3344، 3610، 3611، 4351، 4667، 5057، 6163، 6930، 6931، 6933، 6934، 7432) . و «صحيح مسلم» (الأرقام 1063-1068) . (3) وقد فصَّل تفصيلاً حسناً، وجمع بين النصوص التي فيها ذكر الخوارج، وأنهم شر الخلق والخليقة، والنصوص التي فيها تحريم دم ومال المسلم، وكذا الآيات التي فيها ذكر البغاة: ابن حزم في «المحلّى» (11/104-105) . فانظره هناك. والله الموفق. أما بالنسبة إلى تكفيرهم، فالأصل عدمه، ما لم يقم برهان واضح على ذلك. فمن وصل منهم إلى إنكارِ مُجْمَعٍ عليه معلوم من الدين بالضرورة، كمن يقول ببعث نبيّ، أو ينكر سورة يوسف، فهو كافر، وذهب غير واحد من المحققين إلى هذا، قال الشاطبي في «الموافقات» (5/175- بتحقيقي) : «ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام، والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه» ، وأكده بمؤيِّدات، وتعرض للمسألة في كتابه العظيم «الاعتصام» (3/151، 179) ، وأيده بعمل السلف، قال (3/151) : «وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم» ، ثم ذكر صنع عليٍّ في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، وكذا هجر السلف لِمَعْبَدٍ القدَري، ولم يقيموا عليه حدّ الردة، وصنيع عمر بن عبد العزيز مع الحرورية. ثم قال (2/695- ط. ابن عفان) : «ومن جهة النظر: إنا وإن قلنا: إنهم متبعون للهوى ولِمَا تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضناهم كذلك لكانوا كفاراً؛ إذ لا يتأتى ذلك من آخذٍ في الشريعة إلا مع ردّ محكماتها عناداً، وهو كفر، وأما من صدّق بالشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغاً يظن به أنه متّبع للدليل، فمثله لا يقال فيه: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل هو متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يزاحمه الهوى في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 وذهب قوم إلى التفريق بين أن يظفر بعسكرهم، ولهم فئة يلجؤون إليها أو لا تكون لهم فئة؛ فمن تاب منهم، رُدَّ إليه ما عُرف أنه له من مالٍ وسلاح وكُراع، دون من كانت له فئة وأَصَرَّ على أمره، وأظنه قول أصحاب الرأي (1) ، قال أبو محمد   = مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات؛ فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة. وأيضاً؛ فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة في مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة، ومن أشد مسائل الخلاف مثلاً مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها؛ فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحدٍ منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معاً؛ فحصل في هذا الخلاف الشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع. وأيضاً؛ فقد يعرض الدليل على المخالف منهم؛ فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على عليّ -رضي الله عنه- ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع، كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة» . ا. هـ وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية نحو هذا في «منهاج السنة النبوية» (3/19- وما بعدها) ، وفي «الردّ على البكري» (ص 256-260) ، و «مجموعة الرسائل والمسائل» (5/199-204) ؛ فانظر كلامه فإنه من النفائس، وقلّما تعثر على مثله-بالاستطراد والتأصيل والتقعيد- في غيره. وهذا -أعني: عدم التكفير- ما نَحَى إليه جماهير العلماء والباحثين؛ كما تراه في «الاقتصاد في الاعتقاد» (الباب الرابع: بيان من يجب تكفيره من الفرق) للغزالي، «أصول الدين» للبغدادي (ص 332-333) ، «فتح الباري» (12/283-302) ، و «شرح مشكاة المصابيح» (1/147-148) للشيخ علي القاري، و «حديث افتراق الأمة» للصنعاني. (1) مذهب الحنفية في أموال أهل البغي من سلاح وكراع، أنه: يجوز الاستعانة بها على حربهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها؛ رُدَّت إليهم، على ما ذكره المصنف في التفريق بين من كانت لهم فئة يلجؤون إليها، ومن لم تكن لهم. انظر: «تحفة الفقهاء» (3/313) ، «اللباب» (4/155) ، «الهداية» (2/465) ، «البناية» (5/896) ، «بدائع الصنائع» (7/141) ، «إعلاء السنن» (12/631-632) . وهذا مذهب المالكية، انظر: «جامع الأمهات» (ص 512) ، «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 295) ، «الذخيرة» (12/11-12) ، «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (4/300) . ونقل ابن حزم في «المحلّى» (11/102) عن مالك أن مذهبه كمذهب الشافعي، وهذا خطأ على مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 ابن حزم (1) : ولا يحل أخذ شيءٍ من أموالهم، وهي مضمونة على من أخذها إلا ما عُقر في حال القتال من فرس، أو كسر من سلاح، فلا ضمان فيه؛ وكذلك لا شيء فيمن قتل منهم في القتال. وهذا نحو قول الشافعي في ذلك، وقد احتج له الشافعي حسبما ذكرنا عنه، وهو الصحيح: أن لا يستباح منهم مال بِحال، إلا ما استُهلك في حومة القتال لضرورة دفاعهم، والنظر في استصلاحهم المأمور به شرعاً، لأن الله -تعالى- يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وهؤلاء إنما أبيح قتالهم لاستصلاح فاسدهم، وردعهم عن الإقبال على باطلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، فلم يؤذن في أموالهم؛ ولا في سِبائهم بالوجه الذي أذن به في الكفار، بل كل ذلك منهم معصوم بحرمة الإسلام، إلا المقدار الذي شرع من قتالهم فقط، وليس كل من وجَبَ قتله أو قتاله يستباح لذلك ماله، وفيما نَبَّه عليه الشافعي -رحمه الله- من ذلك مُقنعٌ، والحمد لله. قال الله ربنا -جل جلاله-: {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 17-18] . باب: من الدعاء والذِّكر المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يختم به هذا المجموع بحول الله -تعالى- مسلم (2) ، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» .   (1) انظر: «المحلّى» (11/103-104) . (2) في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب التعوذ من شرِّ ما عُمل، ومن شرِّ ما لم يُعمل) (73) (2722) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 ما يقال إذا خرج من بيته، أو شرع في سفره الترمذي (1) ، عن أم سلمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال: «بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني (2) أعوذ بك من أن نَزِلَّ، أو نَضِلَّ، أو نَظْلِم، أو نُظْلَم، أو نَجْهَل، أو يُجْهَلَ علَينا» . أبو داود (3) ، عن أبي هريرة قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَافَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ   (1) في «جامعه» في أبواب الدعوات (باب رقم 35) . وأخرجه الحميدي (303) ، وأحمد (6/306، 318، 321) ، وعبد بن حميد (1536) ، وأبو داود (5094) ، وابن ماجه (3884) ، والنسائي في «المجتبى» (8/268، 285) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (86، 87) ، والحاكم (1/519) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/65) ، والبيهقي (5/251) ، والخطيب في «التاريخ» (11/141) ، وهو صحيح. وانظر: «صحيح الترمذي» (2725) لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (2) كذا في الأصل والمنسوخ: وصوابه: «إنّا نعوذ ... » . (3) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يقول الرجل إذا سافر) (رقم 2598) . وأخرجه أحمد (2/433) ، والنسائي في «المجتبى» (8/273) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (500) ، والطبراني في «الدعاء» (808) ، والبيهقي في «الدعوات الكبير» (799) ، والمحاملي في «كتاب الدعاء» (رقم 27) من حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وقال شيخنا الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (7/349- 350-ط. غراس) ما نصُّه: وله طريق أخرى، يرويها شعبة، عن عبد الله بن بِشْرٍ الخثعمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة ... ، به، وزاد في رواية: «اللهم! اصْحَبْنَا بنُصْحِك، واقبَلْنا بذمَّتك» . أخرجه الترمذي (3434) ، والنسائي في (الاستعاذة) ، وأحمد (2/401) ، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» ، وهو كما قال أو أعلى؛ فإن رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير الخثعمي، وقد وثقه ابن حبان. وقال أبو حاتم: «شيخ» ، وروى عنه جمع من الثقات -غير شعبة- منهم سفيان الثوري. وله متابع عند الحاكم (2/99) ، وله شاهد من حديث ابن عباس.. أتم منه: أخرجه ابن حبان (969) ، وأحمد (1/256 و299-300) ، وابنه -أيضاً- من طريق أبي الأحوص عن سِماك بن حرب، عنه، وسنده جيد. ومن حديث عبد الله بن سرجس: أخرجه مسلم (4/105) ، والترمذي (3435) ، والنسائي في «الاستعاذة» ، وابن ماجه (3888) ، والدارمي (2/287) ، والطيالسي (1180) ، وأحمد (5/82) . وقال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ اطْوِ لَنَا الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ» . وفيه (1) ، عن ابْنَ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بِعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13] ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِن الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، اللَّهُمَّ اطْوِ لَنَا الْبُعْدَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ» ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ فِيه: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» . ما يقال إذا ودَّع مسافراً أو جيشاً أبو داود (2) ، عن عبد الله الخطمي قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يستودع   (1) أي «سنن أبي داود» في كتاب الجهاد (الباب السابق) (رقم 2599) . وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الحج (باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره) (رقم 1342) . ووقعت زيادة عند أبي داود -بعد هذا- وهي: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه إذا عَلوا الثنايا؛ كبَّروا، وإذا هبطوا، سَبَّحوا، فوضعت الصلاة على ذلك» . ورواه عبد الرزاق (9232) ، والترمذي (3444) ، والنسائي في «التفسير» ، و «عمل اليوم والليلة» من «الكبرى» -كما في «التحفة» (6/16) -، وابن خزيمة (2542) ، وأحمد (2/144، 150) ، والطيالسي (1931) ، والدارمي (2/287) دون هذه الزيادة. وهذه الزيادة لا تصح في الحديث المرفوع، فهي مدرجة في الحديث، وسيذكرها المصنف قريباً. وأيضاً؛ فإن قوله: «فوضعت الصلاة على ذلك» شاذة. وانظر تفصيل الكلام عليها: «صحيح سنن أبي داود» (7/351-353- ط. غراس) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب في الدعاء عند الوداع) (رقم 2601) . = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 الجيش قال: «أَستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتم أعمالكم» . ما يقال إذا صَعَّد في سفره أو صوَّب أبو داود (1) ، من حديث ابن عمر: ... وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه إذا علوا الثنايا؛ كبروا، وإذا هبطوا؛ سبَّحوا، فوضعت الصلاة على ذلك. البخاري (2) ، عن أبي موسى الأشعري: قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكُنَّا إذا أشرفنا على وادٍ؛ هلَّلْنا وكبَّرنا، وارتفعت أصواتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها النَّاس! ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنه معكم، إنه سميع قريب» . مسلم (3) ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُمْ يَصْعَدُونَ فِي ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ كُلَّمَا عَلا ثَنِيَّةً؛ نَادَى: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: فَقَالَ   = والذي في مطبوع «السنن» : «وخواتيم» . وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وانظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم 15) . وأخرجه النسائي (507) ، وابن السني (498) ؛ كلاهما في «عمل اليوم والليلة» ، وابن أبي شيبة في «مسنده» -كما في «إتحاف الخيرة المهرة» (6/302 رقم 5949) -، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/114) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (15/196 رقم 5942) ، والمحاملي في «الدعاء» (90-91) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/1804 رقم 4562) ، والحاكم (2/97-98) ، والبيهقي (7/282) ، وهو صحيح، كما في «الأذكار» (1/553) . (1) في «سننه» (رقم 2599) ، وقد سبق قريباً الكلام على هذه اللفظة، وأنها مدرجة في الحديث. (2) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير) (رقم 2992) . وتتمته: «تبارك اسمه، وتعالى جدّه» . وأخرجه البخاري نحوه (رقم 6384، 6409، 6610، 7386) وفيه زيادة. وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب استحباب خفض الصوت بالذكر) (رقم 2704) بالزيادة، وستأتي في الحديث الذي بعده. (3) في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب استحباب خفض الصوت بالذكر) (45) (2704) . وأخرجه البخاري (رقم 6384، 6409، 7386) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ لاَ تُنَادُونَ أَصَمَّ، وَلا غَائِبًا» ، قَالَ: فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوسَى -أَوْ: يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ- أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ؟ قُلْتُ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» . ما يقال في السفر إذا أقبل الليل، أو نزل منزلاً أبو داود (1) ، عن عبد الله بن عمر قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَافَرَ، فَأَقْبَلَ   (1) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل) (رقم 2603) من حديث الزبير بن الوليد، عن عبد الله بن عمر، به. وإسناده ضعيف؛ لأجل الزبير بن الوليد هذا، فهو مجهول. وذكره ابن حبان في «الثقات» (3/76) على قاعدته في توثيق المجاهيل. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (10398) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (563) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (2572) ، والحاكم في «المستدرك» (1/441، 2/100) ، وأحمد (2/132، 3/124) ، والبيهقي في «الكبرى» (5/253) . وانظر: «ضعيف سنن أبي داود» (10/323-ط. غراس) . قوله: «يا أرضُ، ربِّي ورَبُّكِ الله» بكسر الكاف؛ لأن الخطاب للأرض، قيل: فيه إشعار بأن للأرض شعور بكلام الداعي، وقيل: خاطب الأرض اتساعاً، والأول هو الصواب بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، فقد كَلَّمَهُ وخاطبه الجمادُ. ثم شر الأرض نفسها هو الشر الذي لا دخل فيه لشيء معين من صفاتها. وشر ما فيها من صفاتها كاليبوسة والبرودة وضدهما، هو الشر الذي فيه دخل لغلبة صفاته، وشر ما خلق فيها هو شر ما استقر فيها من الحشرات والبهائم. وشر ما يدب عليها، أي: يتحرك عليها من المؤذيات وإن كان مندرجاً فيه، لكنْ صُرِّحَ به اعتناءً بالاستعاذة منه لعظم شره. وكذا تخصيص الأسود كالأفعى، وهو الحية العظيمة التي فيها سواد، وهوأخبث الحيات لذلك. قال الخطابي: ساكن البلد هم الجن الذين هم سكان الأرض، فالبلد من الأرض ما كان مأوى للحيوان، وإن لم يكن فيه بناء ومنزل، وقال: يحتمل أن المراد بالوالد: إبليس، وما وَلَد: الشياطين، قلت: ويحتمل أن المراد كل والد ومولود على عموم النكرة في الإثبات، كما في قوله -تعالى-: {عَلِمَتْ نَفْسٌ ... } ، والله -تعالى- أعلم. قال ابن علان في «الفتوحات الربانية» (3/167) تعليقاً على قول الخطابي: «ساكن البلد: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 الليْل قَالَ: «يَا أَرْضُ، رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ، وَشَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَدبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ، وَمِنْ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» . مسلم (1) ، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» . ما يقال في الانتصار بالله إذا غزا، وعند خوف العدو أبو داود (2) ، عن أنس قال: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا قَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ» . وأسند ابن المنذر (3) إلى أبي موسى، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف قوماً   = الجن» ، أي: بناء على أن المراد بالبلد الأرض، ومنه قوله -تعالى-: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} ، وهو الظاهر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قاله في البراري لا في الأبنية، أما إذا أريد بالبلد ما هو المتبادر منه من الأبنية، فُسِّرَ البلد بمأوى الحيوان من الأرض الشامل للأبنية وغيرها، وفُسِّرَ الساكن بالجن. (1) في «صحيحه» في كتاب الذكر والدعاء (باب في التعوُّذ من سوء القضاء، ودَرك الشقاء) (54) (2708) . (2) في «سننه» في كتاب الجهاد (باب ما يُدْعى عند اللقاء) (رقم 2632) . وأخرجه الترمذي (3578) ، وأبو عوانة (4/86) ، وأحمد (3/184) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (604) ، وابن حبان (1661) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 91) ، وفي «الدعوات الكبير» (425) ، والضياء في «المختارة» (6/238، 239 رقم 2360، 2361، 2362) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/52) من طرقٍ عن أنس -رضي الله عنه-، ووقع عند بعضهم زيادة في أوله، وقال الترمذي: «حسن غريب» . وانظر: «صحيح سنن أبي داود» (7/383- ط. غراس) لشيخنا الألباني -رحمه الله-. (3) في «الأوسط» (القسم المفقود) . والحديث أخرجه: أبو داود (1537) ، والنسائي في «الكبرى» (8631، 10437) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (601) ، وأحمد (4/414-415) ، والطيالسي (524) ، والروياني (461) ، والبزار = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 قال: «اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم» . مسلم (1) ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيع الحِسَاب، هَازِمَ الأَحْزَابِ، اللهم اهْزِمْهُمْ وزلزلهم» . وفي بعض طرقه (2) : «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ؛ اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» . ما يقال إذا رأى قريةً يريد دخولها، أو بلداً أسند ابن المنذر (3) إلى صهيب؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير قرية قطُّ يريد   = (3136) في «مسانيدهم» ، والحاكم في «المستدرك» (2/142) ، وابن حبان (4765) ، والقضاعي (1482) ، وابن المقرئ في «معجمه» (1358) ، والطبراني في «الأوسط» (2531) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (328) ، والبيهقي في «السنن» (5/253) ، وفي «الدعوات» (420) ، وابن حجر في «الأمالي المطلقة» (ص 127) ، من طرقٍ عن أبي موسى الأشعري، به. وقال الحاكم: «صحيح على شرطهما» ، ووافقه الذهبي، وصححه العراقي (1/295) ، والنووي في «رياض الصالحين» (رقم 993- تحقيق شيخنا الألباني) ، وحسَّنه الحافظ ابن حجر، كما في «الفتوحات الربانية» (4/16) . وانظر: «صحيح سنن أبي داود» (5/263- ط. غراس) . (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب استحباب الدعاء بالنَصر عند لقاء العدو) (22) (1742) . وأخرجه البخاري (2933، 4115، 6392، 7489، 7491) . (2) في باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء (20) (1742) . وهو طرف من حديث قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو ... » . وأخرجه البخاري (2818، 2833، 2965، 3024، 7237) . (3) في القسم المفقود من «الأوسط» . وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/471-472) ، والنسائي في «المجتبى» (3/73) ، و «السنن الكبرى» (1/400 رقم 1269، و5/256 رقم 8827) ، وفي «عمل اليوم والليلة» (543، 544، 545) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (2565) ، والطحاوي في «المشكل» (3/215) ، وأبو يعلى في «المسند الكبير» -ومن طريقه الضياء في «المختارة» (8/71-72 رقم 67) -، والخرائطي في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 دخولها، إلا قال حين يراها: «اللهم ربَّ السموات السبع وما أَظْلَلْنَ، وربَّ الأرضين السَّبع وما أَقْلَلْنَ، وربَّ الشَّياطين وما أَضْلَلْنَ، وربَّ الرياح وما أَذْرَيْنَ؛ أسألك خيرَ هذه القرية، وخيرَ أهلها، وخيرَ ما فيها، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ أهلها، وشرِّ ما فيها» . ما يقال إذا قفل من غزو أو سفر مسلم (1) ، عن عبد الله بْنِ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَفَلَ مِنْ الْجُيُوشِ أَو السَّرَايَا أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، إِذَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ، أَوْ فَدْفَدٍ؛ كَبَّرَ ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» .   = «مكارم الأخلاق» (2/792 رقم 878) ، والمحاملي في «الدعاء» (49، 50) ، والحاكم في «المستدرك» (1/446، 2/100) ، وابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» (525) ، والطبراني في «الدعاء» (838) ، وفي «المعجم الكبير» (7299) ، وابن حبان في «صحيحه» (6/425- 526 رقم 2709- «الإحسان» ) ، وأبو نعيم (6/46) ، والبيهقي في «الكبرى» (5/252) من طرقٍ عن موسى بن عُقبة، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن كعب الأحبار، عن صهيب بن سنان، به. قال الحاكم: «صحيح الإسناد» . وقال الهيثمي في «المجمع» (10/135) : «رجاله رجال الصحيح، غير عطاء بن أبي مروان وأبيه، وكلاهما ثقة» . وأبو مروان، ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/659) ، وروى عنه جمع؛ فإسناده حسن. وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر، فيما نقله عنه صاحب «الفتوحات الربانية» . وله طريق آخر إسناده صحيح عند النسائي في «الكبرى» (5/256 رقم 8826) ، و «عمل اليوم والليلة» (543) ، ومن طريقه الطحاوي في «المشكل» (3/215) . (1) في «صحيحه» في كتاب الحج (باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره) (428) (1344) . وأخرجه البخاري (1797، 2995، 3084، 6385، 4116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 البخاري (1) ، عَنْ أَنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ.. الحديث، وفيه: فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» . فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، صلى الله عليه وسلم تسليماً. تم كتاب (الإنجاد) ، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً. وهذه النسخة المباركة أمر بنسخها سيدنا ومولانا: الخليفة الإمام، الواثق بالله -تعالى-، المعتمد عليه، أمير المؤمنين أبو العُلى، ابن سيدنا ومولانا، الأمير المجاهد في سبيل الله: أبي عبد الله، ابن سيدنا ومولانا المجاهد في سبيل الله: أبي حفص، ابن سيدنا ومولانا الخليفة الإمام أمير المؤمنين، أدام الله -تعالى- أيامهم، وشكر اعتناءهم بالعلم واهتمامهم، وجعل ... (2) إليهم، في وقت تتكامل سعوده، وتتتابع بالمسرة وفُودُه بمنِّه. وكان كمالها في عشر جمادى الأولى سنة ... . نقلت هذه النسخة المباركة من الأصل العتيق الذي ... هو أصل المؤلف الذي بخطه ... وذلك على يَدِ عبد الله (وهنا اسم الناسخ داخل شكل عدليٍّ غير واضح) (3) . انتهت بحمد الله وتوفيقه. *****   (1) في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب ما يقول إذا رجع من الغزو) (رقم 3085) . (2) كتب الناسخ في الهامش بعدها: «مأكولة» . (3) من كلام أبي خبزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685