الكتاب: أسرار البيان في التعبير القرآني المؤلف: فاضل بن صالح بن مهدي بن خليل البدري السامرائي   (هذا هو نص الكتاب المطبوع، وهو غير المحاضرة المفرغة التي تحمل نفس الاسم)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- أسرار البيان في التعبير القرآني - كتاب فاضل صالح السامرائي الكتاب: أسرار البيان في التعبير القرآني المؤلف: فاضل بن صالح بن مهدي بن خليل البدري السامرائي   (هذا هو نص الكتاب المطبوع، وهو غير المحاضرة المفرغة التي تحمل نفس الاسم)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] تقديم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً والصلاة والسلام على رافع لواء الهدى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والداعين بدعوته وبعد: فقد كنت أسمع من يقول: إن القرآن معجز وإنه أعلى كلام وإنه لا يمكن مجاراته أو مداناته وأن الخلق أجمعين لو اجتمعوا على أن يقولوا مثله ما استطاعوا. وقد قرأت في كثير من الكتب نحواً من هذا القول. وكنت آرى في هذا غلواً ومبالغة، دفع القائلين به حماسُهم الديني وتعصبهم للعقيدة التي يحملونها. وكنت أقرأ كثيراً من التعليلات التي يستدل بها أصحابها على سمو هذا التعبير كارتباط الآيات ببعضها وارتباط فواتح السور بخواتيمها وارتباط السور بعضها ببعض واختيار الألفاظ دون مرادفاتها ونحو ذلك فلا أراها علمية وأجد كثيراً منها متكلفاً، وكنت أقول: إنه لو كان التعبير على غير ذلك لعلُّلوه أيضاً فإن الإنسان لا يعدم تعليلاً لما يريد، إلا أنه بمرور الزمن وبعد اطلاعي على مؤلفات أحسبها غير قليلة في كُتب اللغة والتفسير والإعجاز والبلاغة ونحوها - وذلك بحكم اختصاصي - بدأت أميل إلى تصديق هذه المقولة، فقد اتضح لي أن قسماً غير قليل مما كُتبَ بروحٍ علمية عالية وإن كان كثير مما كُتب لا أزال أراه الآن كما كنت أراه من قبل. ثم قررت أن أدرس النص القرآني بنفسي فبدأت أُجري موازنات بين كثير من الآيات من حيث التشابه والاختلاف في التعبير، والتقديم والتأخير، والذكر والحذف وما إلى ذلك من أمور لغوية وبلاغية ومعنوية وأفحصها فحصاً دقيقاً فراعني ما رأيت من الدقة في التعبير والإحكام في الفن والعلو في الصنعة. وجدتُ تعبيراً فنياً مقصوداً حُسِبَ لكل كلمة فيه حسابُها بل لكل حرف بل لكل حركة. وكلما أمعنت النظر والتدقيق والموازنة ازددتُ بذاك يقيناً وبصيرة. وانتهيت إلى حقيقة مسلّمة بالنسبة إليّ وهي أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من كلام البشر وأن الخلق أولهم وآخرهم لو اجتمعوا على أن يفعلوا مثل ذلك ما قدروا عليه ولا قاربوا. وأنا لا أطلب من القارئ أن يسلّم بهذه الحقيقة فإن هذا طلبٌ لا مطمع منه لمجرد القول والأدعاء، وإنما الذي أطلبه منه أن يخلع عنهُ جلباب العصبية وينظر بروح علمية مجردة. وأنا لا أشك في أنه سيصل إلى ما وصلتُ إليه. صحيح أن كثيراً من الناس ليس لديهم اطلاع على المسلّمات اللغوية وليس لديهم معرفة بأحكام اللغة وأسرارها ومن الصعب أن يهتديَ هؤلاء إلى أمثال هذه المواطن من غير دليل يأخذ بأيديهم يدلّهم على مواطن الفن والجمال ويُبصّرهم بأسرار التعبير ويوضح لهم ذلك بأمثلة يَعُونَها ويفهمونها. وهذا الكتاب أحسبه من هذا النمط فما هو إلا دليل يشير إلى شيء من مواطن الفن والجمال ويبصّر بقسم من أسرار التعبير. أنا لا أقول إني وضعت الكتاب بعيداً من العصبية والهوى وإن كان يخيّل إليّ أني فعلت ذاك، ولا أفترض أن القارئ سيسلّم بكل ما يجده فيه ولا أطلب منه ذاك ولكني أدعو القارئ أن يقرأ بعقل متفتح وقلب يقظان وأن يصبر على ما لم يسبق له به علم من أمور اللغة حتى يَعِيَها وذلك ليس بأمر عسير. وأظنه متى فعل ذلك سيبصر ما أبصرناه وينتهي إلى ما انتهينا إليه. نسأله تعالى أن يلهمنا الرشد ويجنبنا الزلل إنه سميع مجيب. فاضل السامرائي التعبير القرآني لا خلاف بين أهل العلم أن التعبير القرآني تعبير فريد في عُلُوِّهِ وسُمُوِّهِ وأنه أعلى كلام وأرفعه. وأنه بهر العرب فلم يستطيعوا مداناته والإتيان بمثله مع أنه تَحدَّاهم أكثر من مرة. لقد تحدى القرآنُ العرب ثم جميع الخلق بأن يأتوا بمثله ثم أخبر أنهم لن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. فقد تحداهم أولاً بأن يأتوا بعشر سور مثله إن كانوا يرون أنه مفترى فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 13-14] . فلما انقطعوا وقامت الحجة عليهم تحداهم بأن يأتوا بسورةٍ من مثله وأخبر أنهم لن يفعلوا فانقطعوا أيضاً وقامت الحجة عليهم، قال تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صادقين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ للكافرين} [البقرة: 23-24] . وأَكَّد التحدي بقوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . دعا القرآن العرب إلى أن يأتوا بسورة من مثله ويشمل هذا التحدي قِصارَ السور كما يشمل طوالها فهو تَحدَّاهم بسورة الكوثر والإخلاص والمعوذتين والنصر ولإيلاف قريش أو أية سورة يختارونها، ومن المعلوم أن العرب لم يحاولوا أن يفعلوا ذلك فقد كانوا يعلمون عجزهم عنه، ورأوا سبيل الحرب والدماء وتجميع الأحزاب أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن. ومن الثابت أن القرآن الكريم كان يأخذهم بروعة بيانه وأنهم لا يملكون أنفسهم عن سماعه ولذلك سعوا إلى أن يحولوا بين القرآن وأسماع الناس. سعوا إلى أن لا يصل إلى الأذن لأنهم يعلمون أن مجرد وصوله إلى السمع يُحْدِثُ في النفس دَويّاً هائلاً وهِزَّة عنيفة وقد حكى الله عنهم هذا الأسلوب فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهاذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] . وكان صناديد قريش وأعتاهم محاربةً للرسول وأشدهم كيداً له ونيلاً منه لا يملكون أنفسهم عن سماعه، فقد كان كل من أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق يأخذ نفسه خِلْسةً لسماعه في الليل والرسول في بيته لا يعلم بمكانهم ولا يعلم أحد منهم بمكان صاحبه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا. حتى إذا كنت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفروا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. وقد أخبر الله نبيه بهذا الأمر فقال: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47] . وما قول الوليد بن المغيرة بِسِرٍّ. فقد اجتمع إليه نفر من قريش ليُجمعوا على رأي واحد يصدرون عنه يقولونه للناس في الموسم فقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: مجنون. فكان يرى هذه الأقوال ويُفَنِّدها ثم قال: "والله إنَّ لقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يُعلى عليه". إن التعبير القرآن تعبير فني مقصود. كل لفظة بل كل حرف فيه وُضِعَ وضعاً فنياً مقصوداً، ولم تُراعَ في هذا الموضع الآية وحدها ولا السورة وحدها بل رُوعي في هذا الوضع التعبير القرآني كله. لقد انتبه القدماء إلى أن السور التي بدأت بالحروف المفردة بنيت على ذلك الحرف، فإن الكلمات القافيّة ترددت في سورة (ق) كثيراً والكلمات الصاديّة ترردت في صروة (ص) كثيراً وهكذا. جاء في (ملاك التأويل) في السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة: "إن هذه السور إنما وقع في أول كل سورة منها ما كثر تَردادهُ فيما تركب من كَلِمها. ويوضحُ لك ما ذكرت أنك إذا نظرت في سورة منها بما يماثلها في عدد كلمها وحروفها وجدت الحرف المفتتحَ بها تلك السورة إفراداً وتركيباً أكثر عدداً في كلمها منها نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها وحروفها". واستندوا إلى الإحصاء، جاء في (ملاك التأويل) عن سبب بدء سورة (لقمان) بـ (ألم) وسرة يونس بـ (ألر) : "أنَّه تكرر في سورة يونس من الكلام الواقع فيها الراء مائتا كلمة وعشرون كلمة أو نحوها. وأقر السور إليها مما يليها بعدها من غير المفتتحة بالحروف المقطعة سورة النحل وهي أطول منها. والوارد فيها مما تركب على الراء من كَلِمها مائتا كلمة مع زيادتها في الطول عليها". وانتبهوا إلى شر آخر وهو أن عدد هذه الحروف أربعة عشر حرفاً أي بمقدار نصف حروف المعجم ترددت في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشرة حرفاً وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. وبيان ذلك أن فيها من الحروف المهموسة نصفها، ومن المجهورة نصفها، ومن الشديدة نصفها، ومن الرخوة نصفها، ومن المطبقة نصفها، ومن المنفتحة نصفها، ومن المستعملة نصفها، ومن المنخفضة نصفها، ومن حروف القلقلة نصفها، وقد ذكر من هذه الأنصاف ما هو كثير الدروان في الكلام، فسبحان الذي دَقَّتْ في كل شيء حِكمتُه. وليس هذا كل شيء في الإحصاء بل هناك شيء آخر وربما أشياء. أفلم تقرأ لإحصاءات الأخرى في كتاب الله العزيز لترى العجب؟ لقد تبين أنه لم توضع الألفاظ عبثاً ولا من غير حساب، بل هي موضوعة وضعاً دقيقاً بحساب دقيق دقيق. لقد تبين: أن (الدنيا) تكررت في القرآن بقدر (الآخرة) فقد تكرر كُلُّ منهما 115 مرة. وأن (الملائكة) تكررت بقدر (الشياطين) فقد تكرر كل منهما 88 مرة. وأن (الموت) ومشتقاته تكرر بقدر (الحياة) فقد تكر كل منهما 145 مرة. وهل الموت إلا للأحياء؟ وأن (الصيف) والحر تكررا قدر لفظ (الشتاء) والبرد فقد تكرر كل منهما خمس مرات. وأن لفظ (السيئات) ومشتقاتها تكرر بقدر لفظ (الصالحات) ومشتقهاتها فقد تكرر كل منهما 167 مرة. وأن لفظ (الكفر) تكرر بقدر لفظ (الإيمان) فقد تكرر كل منهما 17 مرة. وتكرر لفظ (كفراً) بقدر لفظ (إيماناً) فقد تكرر كل منهما ثماني مرات. وأنه تكرر ذكر (إبليس) بقدر لفظ الاستعاذة فقد تكرر كل منهما 11 مرة. وأن ذكر (الكافرين) تكرر بنفس عدد النار. وهل النار إلا للكافرين؟ وأن ذكر (الحرب) تكرر بعدد الأسرى. وهل الأسرى إلا من أوزار الحرب؟ وأن لفظ (قالوا) تكرر 332 مرة "ومن عجبٍ ن يتساوى هذا مع لفظ (قل) الذي هو أمرٌ من الله إلى خلقه، فسبحان من قال (قل) 332 مرة فكان القول 332 مرة". وأن لفظ (الشهر) تكرر 12 مرة بعدد الشهور السنة. وأن لفظ (اليوم) تكرر 365 يوم بعدد أيام السنة. وأن الفظ (الأيام) تكرر 30 مرة بعدد أيام الشهر. وقد تقول: ولِمَ لم يعكس فيذكر اليوم ثلاثين مرة بقدر أيام الشهر و (الأيام) 365 مرة بقدر أيام السنة؟ والجواب أن العرب تستعمل الجمع تمييزاً لأقل العدد وهو ثلاثة إلى عشرة فتقول: ثلاثة رجال، وأربعة رجال، وعشرة رجال. فإن زاد على العشرة وصار كثرة جاءت بالمفرد فتقول: عشرون رجلاً. مائة رجل، وألف رجل. فالجمع يوقعونه تمييزاً للقلة والمفرد يقعونه تمييزاً للكثرة. وكثيراً ما يوقعون المفرد للكثرة بخلاف الجمع من ذلك الوصف بالمفرد والوصف بالجمع. فالوصف بالمفرد يدل على الكثرة، والوصف بالجمع يدل على القلة فقولك (أشجار مثمرات) يدل على أن عدد الشجرات قليل بخلاف ما لو قلت (أشجار مثمرة) فإنه يدل على أن الأشجار كثيرة. ويوقعون ضمير المفرد للكثرة وضمير الجمع للقلة. ألا ترى أن قولك: "الرماح تَكسّرن" يعني أن الرماح قليلة وذلك لمجيء نون النسوة بخلاف قولك: "الرماح تكسَّرتْ" فإنها تعني أن الرماح كثيرة. والنون في الأصل للجمع والتاء للمفرد. ألا ترى في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . كيف لما قال: (إثنا عشر شهراً) قال: (منها) . لما قال: (أربعة) قال: (فيهن) فاستعمال المفرد (منها) للكثرة والجمع (فيهن) للقلة. وغير ذلك. فهو جرى على سنن كلام العرب في التعبير. والقرآن أُنزل بلسان عربي مبين وغير ذلك وغيره. فأي إعجاز هذا أيها الناس! أي إعجاز هذا أيها العلماء! أي إعجاز هذا أيها المفتونون بالعلم! ومن يدري ماذا سيجدُّ بعد في دراسات القرآن الكريم وماذا سيرى الناس من عجائبه؛ فإن هذا الكتاب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقضي عجائبه ولا يَخلَقُ من كثرة الرد" ثم إن القرآن له خصوصيات في استعمال الألفاظ: فقد اختص كثيراً من الألفاظ باستعمالات خاصة به مما يدل على القصد الواضح في التعبير فمن ذلك أنه: استعمل (الرياح) حيث وردت في القرآن الكريم في الخير والرحمة، واستعمل (الريح) في الشر والعقوبات قال تعالى: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وانظر الفرقان [48] والنمل [63] . وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} [الروم: 46] . في حين قال: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117] . وقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] . وقال: {فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] . وغير ذلك وغيره. ولم يستعمل الريح في الخير إلا في موطن واحد أعقبها بالشر وهو قوله تعالى: {إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22] وهي خاتمة غير حميدة. ومن ذلك ذِكْرُ المطر فإنك "لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام بخلاف الغيث الذي يذكره القرآن في الخير. قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} [النمل: 58] وانظر الشعراء [173] . وقال {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} [الأعراف: 84] . وقال: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} [الفرقان: 40] . في حين قال: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولي الحميد} [الشورى: 28] . وقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] . ومن ذلك ما اختص به القرآن الكريم في استعمال العيون والأعين. فلم يستعمل العيون إلا لعيون الماء. وقد وردت كلمة (العيون) في القرآن الكريم في عشرة مواطن كلها بمعنى عيون الماء من مثل قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] وقوله: {فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] . في حين جمع العين الباصرة على أعين مثل قوله تعالى: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} [الكهف: 101] وقوله: {سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] وقوله: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} [المائدة: 83] . ومن ذلك استعمال (وصى) و (أوصى) فكل ما ورد فيه من (وصّى) بالتشديد فهو في الدين والأمور المعنوية، وكل ما ورد من (أوصى) فهو في الأمور المادية. قال تعالى: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] وقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} [النساء: 131] . في حين قال: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] وهو في المواريث. وقال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . وهي كما ترى كلها في الأمور المادية. ولم ترد (أوصى) في القرآن الكريم للأمور المعنوية إلا في موطن واحد اقترنت فيه بأمر مادي وهو قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31] فإنه قال (أوصاني) لما اقتنرت الصلاة بالزكاة والزكاة أمر مادي يتعلق بالأموال كما هو معلوم. ومن ذلك قوله تعالى: (يشاقّ) و (يشاقق) وهما لغتان: الفَكُّ لغةُ الحجاز والإدغام لغة تميم، ولكن القرآن استعملهما استعمالاً خاصاً فحيث ورد ذكر الرسول فك الإدغام. وحيث لم يرد ذكْرُ الرسول بل ورد ذكر الله وحده أدغم. قال تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 13] . وقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} [النساء: 115] في حين قال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الحشر: 4] . ولعله وحّد الحرفين وأدغمهما في حرف واحد لأنه ذكر الله وحده وفكَّهما وأظهرهما لأنه ذكر الله والرسول فكانا اثنين. وخصوصيات الاستعمال القرآني كثيرة لا نريد أن نستقصيها الآن ولكن أردنا فقط أن نضرب أمثلة على ذلك لنتبين (القصد) والدقة في اختيار ألفاظ القرآن. ومع هذا الاستعمال الرياضي الإحصائي العجيب للألفاظ فالتعبير القرآني هو في قمة الأدب والفن. فإنك إذا نظرت إلى أَيِّ ضَرْبٍ من ضروب التعبير فيه وجدته وحدة متكاملة ليس فيها نُبوٌّ ولا اختلاف. فإذا نظرت إلى التوكيد مثلاً وجدته على تباعد مواطنه وتفرقها في القرآن وحدة فنية متكاملة متناسباً في كل موطن مع السياق الذي ورد فيه منسقاً معه ومنسقاً مع كل المواطن الأخرى التي ورد فيها التوكيد. فالقرآن قد يؤكد بـ (إنّ) وحدها مثلاً، أو قد يؤكد باللام أو يجمع بينهما، ولو أنعمت النظر لوجدت أن كل موضع يقتضي التعبير الذي عبر به فلا يصح أن تزاد اللام في الموضع المنزوع منه ولا تحذف في موطن الذِّكْرِ أينما وردت في القرآن وكذلك (إنّ) ونحوها. فهو يقول مثلاً: (إن الله شديد العقاب) مؤكداً بإن وحدها في مواطن عديدة من القرآن. ويقول: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} [الرعد: 6] مؤكداً بإن واللام. ويقول: {والله شَدِيدُ العقاب} [آل عمران: 11] بلا توكيد. ويقول: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218] بلا توكيد في مواضع متعددة تبلغ ثلاثة عشر موضعاً. ويقول: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] مؤكداً بإن في أكثر من عشرين موضعاً. ويؤكد بإن واللام في مواضع أخرى متعددة. ويحذف ويؤكد في تعبيرات أخرى تبلغ المئات وهو يراعي في كل ذلك الدقة في التعبير ووضع كل لفظ في مكانه حسبما يقتضيه السياق بحيث لا يصح وضع تعبير مُؤكَّد في مكان غير مؤكد، ولا ما أُكِّد بأكثر من مؤكد في موطن أُكد بمُؤكدٍ واحد. وكذا الأمر في غير (إنّ) فهو يقول مثلاً: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين} [هود: 47] بلا توكيد. ويقول مرة أخرى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] بتوكيد الجواب. ويقول مرة ثالثة: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 149] بتوكيد الجواب وبذكر اللام الموطئة قبل الشرط، كل ذلك حسبما يقتضيه الموطن والسياق، ولا يصح البتة وضع آية من هذه الآيات في غير سياقها وموطنها كما سنبين ذاك. فلو نظرت إلى التوكيد في القرآن لوجدته لوحة فنية عالية متناسقة على سعة التوكيد واختلاف المؤكدات وتنوعها. وقُلْ مثل ذلك عن الاستفهام. فهو قد يستفهم مرة بالهمزة ومرة بـ (هل) فهو مرة يقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله} [المائدة: 60] . ومرة يقول: {أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} [الحج: 72] . ومرة يستفهم بـ (ما) ومرة بـ (ماذا) والقصة واحدة. فيقول مرة في إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 70] . ويقول: مرة أخرى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85] وغير ذلك وغيره. وقُلْ مثل ذلك عن التقديم والتأخير. فهو قد يُقدِّمُ كلمةً في مكان ويُؤخِّرها في مكان. أو يقدم عبارة في مكان ويؤخرها في مكان فهو يقدم (السماء) على (الأرض) مرة، ومرة يقدم (الأرض) على السماء، ومرة يقدم (الإنس) على (الجن) ، ومرة يقدم (الجن) على (الإنس) . ومرة يقدم (الركوع) على (السجود) ومرة يقدم (السجود) على (الركوع) فهو مرة يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} [الحج: 77] ومرة أخرى يقول: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] . ويقول مرة: {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] . ويقول مرة أخرى: {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} [البقرة: 264] . وهو قد يذكر كلمة أو عبارة في موطن لا يذكرها في موطن آخر يبدو شبيهاً به فهو يقول مثلاً في موطن: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] ويقول في موطن آخر: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] فيزيد عبارة (ولا ينظر إليهم) . وغير ذلك وغيره. كل ذلك يضعه وضعاً فنياً في غاية الروعة والجمال. ثم هو يجمع بين ضروب القول المختلفة ويُؤلِّفُ بينها في حشدٍ فني عجيب لا يملك العارف بشيء من أسرار التركيب إلا أن يسجد لصاحب هذا الكلام إجلالاً وخشوعاً {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] . لقد دُرِسَ التعبيرُ القرآني دراساتٍ مستفيضة وأُولِيَ من النظر ما لم يَنَلْهُ نصٌّ آخر في الدنيا. فقد دُرِسَ من حيث تصويره الفني فكان أجمل تصوير وأبرع لوحة فنية. ودرس من حيث نظمه وموسيقاه فكان أروع عقد منظوم وأعذب قطعة فنية موسيقية. وهل يشك أحد في فخامة نظمه وحلاوة موسيقاه وعذوبة جرسه وحسن اختيار ألفاظه وجمال وقع آياته؟! ودُرسَ تناسبُ سورهِ سورةً سورة، وتناسب آياته آية آية، وتناسب فواتح السور وخواتمها، فكان قطعة فينة واحدة محكمة الربط فخمة النسج، وكان كما قال الفخر الرازي: إن القرآن كالسورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بل هي كالآية الواحدة. ودرس من حيث إعجازه فكانت جوانب إعجازه لا تحصى. أَهُوَ في أسلوبه وتعبيره، أم هو في تشريعه وفقهه، أم في معالجته جوانب الحياة المختلفة على أكمل وجه وأبهى صورة، أم هو في إخباره عن الأمم الماضية والأقوام البائدة. أم هو في إخباره عما سيقع. أم هو فيما قرره من حقائق علمية وكونية يكتشف الناس على مدى الدهر قسما منها، أم هو فيما وضعه من قواعد وأصول التربية ومعرفته بأدواء القلوب والنفوس. أما هو فيما ذكره من سنن التاريخ والخلق أو فيما ذكره من أصول علم الاجتماع أو غير ذلك وغيره. أم هو في كل ذلك وأشياء أخرى فوق ذلك؟! أهو كتاب لغة أم كتاب أدب أم كتاب تشريع أم كتاب اقتصاد أم كتاب تربية أم كتاب تاريخ أم كتاب اجتماع أم كتاب سياسة أم كتاب عقائد أم هو كل ذلك وفوق ذلك؟! عجيب أمر هذا الكتاب! يراه الأديبُ معجزاً ويراه اللغوي معجزاً، ويراه أرباب القانون والتشريع معجزاً، ويراه علماء الاقتصاد معجزاً، ويراه المربون معجزاً، ويراه علماء النفس والمَعْنيون بالدرسات النفيسة معجزاً، ويراه علماء الاجتماع معجزاً، ويراه المصلحون معجزاً، ويراه كل راسخٍ في علمه معجزاً. لقد كشف لهم وهم يبحثون في وجوه إعجازه عن بحار ليس لها ساحل، وغاصوا في لُجَجٍ ليس لها قعر، وكُلٌّ عاد بلؤلؤةٍ كريمة أو عقد نظيم، وبقيت ثُمَّةَ خزائن تفوق الحصر لم يَلِجها الوالجون وكنوز لا يطيقها إحصاء، لم تمتد إليها الأيدي، تفنى الدنيا ولا تفنى، ويبلى كل جديد ولا تبلى. فيها من عجائب صنع الله ما لو اطَّلعتَ عليه لم تعرف كيف تصنع ولا سْتبَدَّ بكَ عَجَبٌ لا ينتهي وتمكن منك انبهار لا ينقضي. ومفتاحُ ذلك تَدَبُّرهُ والنظرُ فيه. فامنحه شيئاً من التدبر والنظر يمنحك من أسراره ما لم يكن منك ببال. إنه يعطيك أضعاف ما تعطيه. إن هذا الكتاب يمنحُ مَنْ نظر فيه وتدبره خزائن بغير حساب ويفتح الله عليه من ألطافه ما يَجِلُّ عن الوصف فلا تُضيِّع هذه الصفقة الرابحة وإلا فأنت والله مغبون. أأدركتَ الآن سر قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] . أمّا أنهم لو تدبروه لَفُتحت أقفال القلوب ولان ما كان عصيّاً من الأفئدة، وَلأُوقدت مصابيح عهدُها بالنور بعيد، وأشرقت دروب لم يسقط عليها فيما مضى نور، ولحيت نفوس ما عرفت قبل ذلك حياة. ألم يُسَمِّهِ اللهُ نوراً فقال: {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] . أولم يُسَمِّه الله روحاً فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولاكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ؟ فهو روح ونور - وهل بعد ذلك شيء! وهل قبله شيء! ليت شعري هل يفقه الناس؟ ألا ليت الناس يفقهون. البنية في التعبير القرآني يستعمل القرآن الكريم بُنيةَ الكلمة استعمالاً في غاية الدقة والجمال: 1- فمن ذلك استعمال الفعل والاسم. فمن المعلوم أن الفعل يدل على الحدوث والتجدد والاسم يدل على الثبوت تقول: هو يتعلم وهو متعلم. فـ (يتعلم) يدل على الحدوث والتجدد أي: هو آخذٌ في سبي التعلم بخلاف: (متعلم) فإنه يدل على أنَّ الأمر تم وثبت وأن الصفة تمكنت في صاحبها. ومثله: هو يجتهد ومجتهد. وربما كان الأمر لم يحدث بعد ومع ذلك يؤتى بالصغية الاسمية للدلالة على أن الأمر بمنزلة الحاصل المستقر الثابت وذلك نحو قولك: أتراه سيفشل في مهمته؟ فتقول: هو فاشل وذلك لوثوقك بما قررته أي: كأن الأمر تم وحصل وإن لم يحدث فعلاً، ومن هذا الضرب قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . فهو لم يجعله بعد ولكن ذكره بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة فكأنه تم واستقر وثبت. ومثله قوله تعالى لنوح عليه السلام: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] فلم يقل: سأغرقهم أو إنهم سيغرقون. ولكنه أخرجه مخرج الأمر الثابت أي: كأن الأمر استقر وانتهى. ومثله قوله تعالى في قوم لوط عليه السلام: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هاذه القرية} [العنكبوت: 31] ولم يقولوا: سنُهلك. فذكرها بالصيغة الاسمية للدلالة على الثبات أي: كأن الأمر انتهى وثبت. فخلاصة الأمر أن الفعل يدل على الحدث والتجدد والاسم يدل على الثبوت والاستقرار. وقد استعمل القرآن الفعل والاسم استعمالاً فنياً في غاية الفن والدقة. فمن ذلك قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] . فاستعمل الفعل مع الحي فقال: (يخرج) واستعمل الاسم مع الميت فقال: (مخرج) وذلك لأن أبرز صفات الحي الحركة والتجدد فجاء معه بالصغية الفعلية الدالة على الحركة والتجدد، ولأن الميت في حالة همود وسكون وثبات جاء معه بالصغية الاسمية الدالة على الثبات فقال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} [الأنعام: 95] . وقد تقول: ولماذا قال في سورة آل عمران: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} [آل عمران: 27] بالصيغة الدالّة على التجدد في الموطنين؟ فنقول: إنَّ السياق في آل عمران يختلف عنه في الأنعام، وذلك أن السياق في آل عمران وهو في التغيير والحدوث والتجدد عموماً، فالله سبحانه يؤتي مُلْكه مَنْ يشاء أو ينزعه منه، ويُعِزُّ من يشاء أو يُذِله، ويغير الليل والنهار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وغير ذلك من الأحداث، فالسياق كله حركة وتغيير وتبديل فجاء بالصغية الفعلية الدالة على التحدد والتغيير والحركة. قال تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26-27] . في حين أن السياق في سورة الأنعام مختلف وليس السياق في التغييرات وإنما هو في صفات الله تعالى وقدرته وتفضله على خلقه. قال تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} [الأنعام: 95-96] . فأنت ترى أنه بدأ الآية بالجملة الاسمية وكان مُسْنَدها اسماً أيضاً ثم جاء بعده باسمين آخرين هما (مخرج الميت) و (فالق الإصباح) ثم ذكر أنه (يخرج الحي) بالصورة الفعلية لما ذكرت من حركة الحي بخلاف ما في الآية آل عمران من دلالة على التغير والحركة. فالسياق مختلف ولذا تتوالى الأفعال في هذه الآية، فوضع كل صغية في المكان اللائق بها. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون} [الأعراف: 193] . "فَفرَّقَ بين طرفي التسوية فقال: (أدعوتموهم) بالفعل ثم قال: (أم أنتم صامتون) بالاسم ولم يسوِّ بينهما فلم يقل: أدعوتموهم أم صمتّم بالفعلية. أو: أأنتم داعوهم أم صامتون. وذلك أن الحالة الثابتة للإنسان هي الصمت وإنما يتكلم لسبب يعرض له. ولو رأيت إنساناً يكلم نفسه لاتَّهمته في عقله. فالكلام طارئ يحدثه الإنسان لسبب يعرض له ولذا لم يسوِّ بينهما بل جاء للدلالة على الحالية الثابتة بالاسم: (صامتون) وجاء للدلالة على الحال الطارئة بالفعل: (دعوتموهم) أي: أأحدثتم لهم دعاء أم بقيتم على حالكم من الصمت". جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "إن قيل: هلا قيل: أم صَمَتُّم؟ ولِمَ وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية. قلت: لأنهم كانوا إذا حَزَبَهم أمر دعوا الله دون أصنامهم.. فكانت حالتهم أن يكونوا صامتين عن دعوتهم. فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم". ومن ذلك قوله تعالى: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] . وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . فقد جاء في الآية الأولى بالصغية الاسمية (مهلك) وفي الثانية بالصيغة الفعلية (ليهلك) وذلك أن الآية الأولى في سياق مشهد من مشاهد يوم القيامة عمّا كان في الدنيا قال تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النار مثواكم خالدين فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ * وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 128-131] . فقد ذكر صفة الله وهو أنه لم يهلك قوماً بظلم وهم غافلون لم يُكَلَّفُوا وليم يأتهم رسل ينذرونهم. فالذين لم ينذروا غافلون قال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] . فهو في سياق أمرٍ ثبتَ واستقرَّ وانتهى فجاء بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت. في حين أن الكلام في سورة هود على هذ الحياة وشؤونها وذكر سنة الله في الأمم قال تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ * واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 112-117] . فهو - كما ترى - في سياق الدنيا وسنن البقاء فجاء بالصيغة الفعلية لأن الأمم تَحدثُ وتتجدج وتهلك ويأتي غيرها وهكذا. فجاء بالصيغة الدالة على الحدوث والتجدد (ليهلك) . ثم انظر كيف جاء في الآية الأولى بـ (لم) الدالة على المضي (ذلك أنْ لم يكنْ رَبُّكَ) لأن الأمر حصل وتم في الدنيا فهو ماضٍ بالنسبة إلى الآخرة. وجاء ههنا بلام الجحود التي تدخل على الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} [هود: 117] . أما ما ختم به كل آية من الآيتين فله كان آخر. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] . فقد جاء في صدر الآية بالفعل: (ليعذبهم) وجاء بعده بالاسم: (مُعَذِّبهم) وذلك أنه جعل الاستغفار مانعاً ثابتاً من العذاب بخلاف بقاء الرسول بينهم فإنه - أي العذاب - موقوتٌ ببقائه بينهم. فذكر الحالة الثابتة بالصيغة الاسمية والحالة الموقوتة بالصيغة الفعلية وهو نظير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] فالظلم من الأسباب الثابتة في إهلاك الأمم فجاء بالصيغة الاسمية للدلالة على الثبات، ثم انظر كيف جاءنا بالظلم بالصيغة الاسمية أيضاً دون الفعلية فقال: (وأهلها ظالمون) ولم يقل: (يظلمون) وذلك معناه أن الظلم كان وصفاً ثابتاً لهم مستقراً فيهم غير طارئ عليهم فاستحقوا الهلاك بهذا الوصف السيئ. فانظر كيف ذكر أنه يرفع العذاب عنهم باستغفارهم، ولو لم يكن وصفاً ثابتاً فيهم، وأنه لا يهلكهم إلا إذا كان الظلم وصفاً ثابتاً فيهم، فإنه جاء بالاستغفار بالصيغة الفعلية (يستغفرون) وجاء بالظلم بالصيغة الاسمية (ظالمون) . فانظر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه. ومن ذلك قوله تعالى في وصف المنافقين: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] . "فقد فَرَّقَ بين قولهم للمؤمنين وقولهم لأصحابهم فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث (آمنا) ، وخاطبوا جماعتهم بالجملة الاسمية المؤكدة الدالة على الثبوت والدوام (إنّا معكم) ولم يسوِّ بينهما فلم يقولوا: (إنا مؤمنون) كما قالوا: (إنا معكم) وذلك إمّا لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعثٌ ومُحَرِّكٌ، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق ورغبة واعتقاد ... وإما مخاطبة إخوانهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للمتكلم به وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم فكان مظنّة للتحقيق وَمِئنَّةً للتوكيد". ومن لطيف الاستعمال الفني للفعل والاسم قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [غافر: 61] . فاستعمل مع الليل الفعلَ (لستكنوا فيه) ومع النهار الاسم (مبصراً) ولم يسوِّ بينهما فلم يقل: ساكناً ومبصراً ولا لتسكنوا فيه، ولتبصروا فيه مع أن الاستعمال الحقيقي هو: (لتبصروا فيه) . وذلك أنه جمع الحقيقة والمجاز في تعبير واحد ولو جعلهما بصورة تعبيرية واحدة لفاتت هذه المزية الفنية فإنه ذكر نعمة الله علينا في الليل فقال {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: 67] . ولو قال: "هو الذي جعل لكم الليل ساكناً" لم يكن فيه دلالة نعمة على الخلق من ناحية ولكانت (لكم) هنا زائدة ليس لها فائدة، فهو جاء بـ (لكم) وبالصيغة الفعلية للدلالة على قصد النعمة والتفضل علينا. وعلاوة على ذلك فإنه لو قال: (ساكناً) لم يكن التعبير مجازياً لأن الليل يصح أن يوصف بالسكون فيقال: ليل ساكن وليل ساجٍ، فتحويله إلى الصيغة الاسمية ليس فيه فائدة معنوية ولا فنية، ولَمَّا تقررت دلالة النعمة في صدر الآية كان العدول إلى التعبير المجازي بعد ذلك كسباً فنياً. فعدل من الفعل إلى الاسم ومن الحقيقة إلى المجاز العقلي فقال: {والنهار مُبْصِراً} [غافر: 61] وذلك أن النهار لا يبصر بل يبصر من فيه: فجمع بين التعبير الحقيقي والمجازي ودلّ على المقصد الأول من الآية وهو الدلالة على النعمة بأقرب طريق فكسب المعنى والفن معاً. ولو قال: "لتسكنوا فيه ولتبصروا فيه" لفات التعبير الفني الجميل تعبير المجاز. ولو قال: "ساكناً ومبصراً" لفاتت الدلالة على النعمة التي هي المقصد الأول من هذه الآية. ولو قال: "ساكناً ولتبصروا فيه" لفات المجاز في التعبيرين ولكان التعبير سمجاً لا معنى تحته كما أوضحنا قبل قليل. فانظر كيف دل على المعنى بأسلوب فني جميل من أخصر طريق وأيسره. فأنت ترى أنه لو وضع الكلام بأية صورة غير الصورة التي عبر بها القرآن ما أدى هذا المؤدى. هذا علاوة على ما في جعلِ النهار مبصراً من جمالٍ وزيادة في المعنى فقد أفاد هذا العدول إلى الاسمية معنيين: الأول: أننا نبصر فيه كما قيل: ليل نائم والمقصود: نائم أهله. والمعنى الآخر: أنه جعله مبصراً أيضاً يبصر أعمالنا ويكون شاهداً علينا بالخير والشر فكأن له عينين تُبصران. فنحن نبصر فيه وهو يبصر أيضاً. فانظر إلى جمال هذا التعبير ودقته وروعته. جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: لِمَ قرن الليل بالمفعول له والنهار بالحال؟ وهَلاَّ كانا حالين أو مفعولاً لهما فيراعى حق المقابلة؟ قلت: هما متقابلان من حيث المعنى لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل: "لتبصروا فيه" فاتتِ الفصاحةُ التي في الإسناد المجازي. ولو قيل: ساكناً، والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج وساكن لا ريح فيه، لم تتميز الحقيقة من المجاز". ومن جميل التعبير بالفعل والاسم ما جاء في سورة (الكافرون) وهو قوله تعالى: {قُلْ ياأيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1-6] . فأنت ترى أن الرسول نفى عبادة الأصنام عن نفسه بالصيغتين: الفعلية والاسمية (لا أعبد ما تعبدون) و (ولا أنا عابد ما عبدتم) وبالفعلين: المضارع والماضي (تعبدون) و (عبدتم) . ونفى عن الكافرين العبادة الحقة بصيغة واحدة مرتين هي الصيغة الاسمية: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) . ومعنى ذلك أنه نفى عبادة الأصنام عن نفسه في الحالتين الثابتة والمتجددة في جميع الأزمنة وهذا غاية الكمال. إذ لو اقتصر على الفعل لقيل: إن هذا أمر حادث قد يزول. ولو اقتصر على الاسم لقيل: صحيح أن هذه صفة ثابتة ولكن ليس معناه أنه مستمر على هذا الوصف لا يفارقه، فإن الوصف قد يفارق صاحبه أحياناً، بل معناه أن هذا وَصْفُه في غالبِ أحواله، فالحليم قد يغضب ويعاقب، والجواد قد يأتيه وقت لا يجود فيه إذ هو ليس في حالة جُودٍ مستمر لا ينقطع، والرحيم قد يأتيه وقت يغضب فلا يرحم. ولئلا يُظَنَّ ذاك في الرسول أعلن براءته من معبوداتهم بالصغتين الفعلية والاسمية: الصيغة الفعلية الدالة على الحدوث والصيغة الاسمية الدالة على الثبات ليعلم براءته منها في كل حالة. ثم إنه استغرق الزمن الماضي والحال والاستقبال باستعماله الفعل الماضي والمضارع، في حين نفاه عنهم بالصيغة الاسمية فقط. فإصراره هو على طريقه أقوى من إصرارهم، وحاله أكمل من حالهم والنفي عنه أَدومُ وأبقى من النفي عنهم: ثم انظر كيف أنه لما خاطبهم بالصورة الاسمية قائلاً: (قل يا أيها الكافرون) نفى عنهم العبادة الحقة بالصورة الاسمية أيضاً فقال: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) . فإنهم لما اتصفوا بكفرهم على وجه الثبات نفى عنهم عبادة الله على وجه الثبات أيضاً. وهو تناظر جميل. ومن جميل استعمال القرآن للفعل والاسم أنه يستعملهما استعمالاً مناسباً مع وقوع الحدث في الحياة فإذا كان مما يتكرر حدوثه ويتجدد استعمله بالصورة الفعلية وإذا لم يكن كذلك استعمله بالصورة الاسمية. فمن ذلك مثلاً استعمال القرآن للفعل (ينفق) فإنه يستعمله بالصيغة الفعلية لأن الإنفاق أمر يتكرر ويحدث باستمرار قال تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] فاستعمل الفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث لأن الإنفاق أمر يتجدد. ونحوه قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] وقوله: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [النساء: 38] . ولم ترد بالصورة الاسمية إلا في آية واحدة هي قوله تعالى: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] وهو في سياقِ أوصافِ المؤمنين الدالة على الثبات. ومن ذلك استعمال القرآن للإيمان، فقد استعمله بالصيغة الاسمية كثيراً وذلك لأن الإيمان له حقيقة ثابتة تقوم بالقلب وليس كالإنفاق يحدث وينقطع قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] . وقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه: 112] . وقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين [الروم: 47] . وغيرها وغيرها. كما استعمله بالصيغة الفعلية في المواطن الدالة على الحدوث، قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] فجاء به بالصغية الفعلية لأنه هنا أمر دال على الحدوث لا الثبوت فإنه لم يحصل بعد. ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء} [البقرة: 13] وغير ذلك وغيره. جاء في (البرهان) "ومن هذا يعرف لم قيل: (الذين ينفقون) ولَمْ يقلْ: (المنفقين) في غير موضع؟ وقيل كثيراً: المؤمنون والمتقون، لأن حقيقة النفقة أمر فعلي شأنه الانقطاع والتجدد بخلاف الإيمان فإنَّ له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها وإن غفل عنها، وكذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والضلال والعمى والبصر فمعناها أو معنى وصف الجارحة؛ كل هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر، وآثار تتجدد وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين إلا أن لكل محل ما يليق به. فحيث يراد تجدد حقائقها أو آثارها فالأفعال. وحيث يراد الاتصاف بها فالأسماء". ومن ذلك استعماله للاستغفار فإنه لما كان الاستغفار يحدث ويتجدد جاء به بالصيغة الفعلية كثيراً شأن الإنفاق قال تعالى: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7] . وقال: {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: 5] . ولم يرد بالصيغة الاسمية إلا في آية واحدة هي التي ورد فيها الإنفاق اسماً وهي قوله تعالى: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] أي أصحاب هذه الصفات. ومثل ذلك التسبيح فإنه ورد بالصيغة الفعلية كثيراً للسبب نفسه وذلك نحو قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] . و {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجمعة: 1] . ولم يرد بالصيغة الوصفية إلا في آيتين: إحداهما: في صوف نبي الله يونس عليه السلام قال: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144] . بمعنى أنه كان هذا وصفه الثابت. فنجا لأه كان من أصحاب هذا الوصف. والمجيء بالصيغة الوصفية هنا إشارة إلى أن مداومة التسبيح تخلِّص من الكروب والمكاره، وأن يونس إنما نجا من هذه الشدة بمداومة التسبيح. والثانية: في صفة الملائكة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} [الصافات: 165-166] أي هذه صفتهم الثابتة. وقد ذكر الله سبحانه أن الملائكة {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] إذن فالتسبيح وصف ثابت فيهم. "وانظر هنا إلى لطيفة وهو أن ما كان من شأنه ألا يفعل إلا مجازاة وليس من شأنه أن يذكر الاتصاف به لم يأت إلا في تراكيب الأفعال كقوله تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: 27] وقال: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا} [الحج: 54] {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] . ومنه قوله تعالى: {تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] لأن البصر صفة لازمة للمتَّقِي، وعين الشيطان ربما حجبت فإذا تذكر رأى المذكور ولو قيل: (يبصرون) لأنبأ عن تجدد واكتساب لا عَود صفة". ثم انظر كيف ذكر الله الإضلال وأضافه إلى نفسه بالصورة الفعلية فقط للدلالة على أن هذا الأمر طارئ يفعله مع من يستحقه ولم يسند هذا الأمر إلى نفسه بالصورة الاسمية للدلالة على أن هذا ليس من صفات الله ونعوته قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر: 34] وقال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} [غافر: 74] وقال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] . في حين وصف الشيطان بذاك فقال: {هاذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] فجعله وصفاً ثابتاً له ويجدده أيضاً فقال: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الحج: 3-4] وقال الشيطان عن نفسه: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: 119] . فجعل وصف الشيطان الثابت والمتجدد الإضلال، كما جعل الله وصف ذاته العليَّة الثابت والمتجدد الهداية فقال: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا} [الحج: 54] . وقال: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31] وقال: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: 16] وقال: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] فشتان ما بين الوصفين. ومن بدائع الفن في هذا الباب قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات: 25] . "ففرق الله سبحانه وتعالى بين السلامين فجعل الأول بالنصب والثاني بالرفع ولم يسوِّ بينهما، وذلك لأن قوله: (سلاماً) بالنصب تقديره: نُسَلِّمُ سلاماً أي بتقديرِ فِعْلٍ. وقوله: (سلام) تقديره: (سلام عليكم) أي: بتقدير اسمية الجملة. والاسم أثبت وأقوى من الفعل فدل على أن إبراهيم عليه السلام حَيَّا الملائكة بخير من تحيتهم. قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} [النساء: 86] فرد التحية خير منها. وجاء في "التفسير الكبير" أن "إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الاسمية فإنها أدل على الدوام والاستمرار". ومنه قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] فجاء بالصبر مرفوعاً أي: بتقدير الجملة الاسمية لأنه وَطَّنَ نفسه على الصبر الطويل الدائم الذي لا يعرف له نهاية والذي قد يستغرق ما بقي من عمره، ولم يقل: (فصبراً) بالنصب بتقدير الفعل أي: لأصبر صبراً، لأنه يدل على الصبر الحادث الذي يتغير لا الصبر الدائم الثابت. فَثمَّةَ فَرْقٌ بين الاستعمالين والمعنيين. ومن هذا الباب قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] فانظر كيف جاء بالطلقة الثالثة بالرفع، وذلك لأنها الطلقة الأخيرة والحكم معها يكون على وجه الدوام، إمّا الإمساك بالمعروف أو التسريح الذي لا رجعة فيه، فانظر كيف لم يقلها بالنصب وذلك لأن النصب موقوت. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] كيف جاء بـ (ضرب) منصوباً وذلك على تقدير الفعل أي: فاضربوا، ولم يأت به بالرفع وذلك لأنه موقوت بالمعركة وليس أمراً دائماً. ومثله قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] فاظر كيف قال: (ويل) بالرفع ولم يقل: (ويلاً) بالنصب وذلك لأنه بالرفع جملة اسمية وبالنصب جملة فعلية، فأخبر أن لهم عذاباً دائماً لا ينقطع أو دعا عليهم به. ولو قال: (ويلاً) بالنصب لكان إخباراً بالعذاب غير الدائم. ثم انظر كيف قال في آخر السورة: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمزة: 8-9] فأخبر أن أبوابها مغلقة عليهم لا تنفتح إشارة إلى دوام العذاب وخلوده، وكيف ناسب ذلك أول السورة برفع الويل. فانظر هذا التنسيق الجميل في التعبير والمعنى بين المفتتح والختام. وفي هذا القدر كفاية فإن غرضنا التمثيل وليس الاستقصاء فإن الاستقصاء يطول. 2- وكذلك استعماله للأبنية الأخرى فهو يستعملها استعمالاً فنياً عجيباً ويضعها وضعاً معجزاً، فمن ذلك أنه يأتي بالفعل ثم لا يأتي بمصدره بل يأتي بمصدر فعلٍ آخر يلاقيه في الاشتقاق فيجمع بين معنى الفعل ومعنى المصدار من أقرب طريق وأيسره وذلك نحو قوله تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فإنه جاء بالفعل (تبتّل) غير أنه لم يأت بمصدره وإنما جاء بمصدر فعل آخر هو (بتّل) وذلك أن مصدر تبتل هو (التبتُّل) فإن مصدر (تفعَّل) يكون على (التَّفَعُّل) كتعلّم تعلُّماً وتقدّم تقدّماً. وأما (التبتيل) فهو مصدر بَتَّلَ لا تَبتّل فإن (التفعيل) هو مصدر (فعّل) كعلّم تعليماً وعظّم تعظيماً. وكان المتوقَّع أن يقول (وتبتل إليه تبتلاً) غير أنه لم يقل ذاك. وسبب ذلك أنه أراد أن يجمع بين مَعْنَيي التبتل والتبتيل، وذلك أن تبتّل على وزن تفعّل و (تَفَعَّلَ) : يفيد التدرُّجَ والتكلف مثل: تجسس وتحسس وتبصّر وتدرّج وتمشّى وَغَيرها، فإن في تجسس وتحسس وبقية الأفعال تدرّجاً وتكلفاً. ألا ترى أنّ في (تبصّر) من التدرج وإعادة النظر والتكلف ما ليس في (بصر) ، وفي (تمشّى) من التدرج ما ليس في (مشى) ؟ وأما (فعّل) فيفيد التكثير والمبالغة وذلك نحو: كسر وكسّر، فإن في كسّر المضاعف من المبالغة والتكثير ما ليس في كَسَرَ الثلاثي فقولك: (كسّرت القلم) يفيد أنك جعلته كسرة كسرة بخلاف ما إذا قلت: (كَسَرْتُ القَلَمَ) فإنه يفيد أنك كسرته مرة واحدة. كذلك قولك: (قطّعت اللحم) فإنه يفيد أنك جَعلته قطعة قطعة بخلاف ما إذا قلت: (قطعت اللحم) بلا تضعيف فإنه يفيد أنك قطعته مرة واحدة. وتقول (موّتت الإبل) إذا كثر فيها الموت ولا يقال: (موّت البعير) لأنه ليس في موت البعير تكثير. فالله سبحانه جاء بالفعل لمعنى التدرج ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر هو التكثير، وجمع المعنيين في عبارة واحدة موجزة ولو جاء بمصدر الفعل (تبتّل) فقال: (وتبتل إليه تبتُّلاً) لم يفد غير التدريج وكذلك لو قال (وبتّل نفسك إليه تبتيلا) لم يُفِدْ غيرَ التكثير. ولكنه أراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة والمصدر من صيغة أخرى وجمعهما فهو بدل أن يقول: (وتبتَّلْ إليه تَبَتُّلاً وبَتِّلْ نفسَكَ إليه تبتيلاً) جاء بالفعل لمعنى ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر، ووضعهما وضعاً فنياً فكسب المعنيين في آن واحد وهذا باب شريف جليل. جاء في (التفسير القيم) : "ومصدر تبتل إليه: (تبتُّل) كالتعلُّم والتفهم ولكن جاء على (التفعيل) مصدر (فعلّ) لسر لطيف. فإن في هذا الفعل إيذاناً بالتدريج والتكليف والتعلّم والتكثير والمبالغة. فأتى بالفعل الدال على أحدهما وبالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتّل نفسك إلى الله تبتيلاً وتبتل إليه تبتُّلاً، ففهم المعنيان من الفعل ومصدره. وهذا كثير في القرآن وهو من حسن الاختصار والإيجاز". وليس هذا كل شيء في هذا الجزء من الآية بل انظر الوضع الفني التربوي الآخر وهو أنه جاء بالفعل الدال على التدرج أولاً، بالمعنى الدال على الكثرة والمبالغة بعده وهو توجيه تربوي حكيم، إذ الأصل أن يتدرج الإنسان من القلة إلى الكثرة، والمعنى: احمل نفسك على التبتل والانقطاع إلى الله في العبادة شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الكثرة، والمعنى: ابدأ بالتدرج في العبادة وانته بالكثرة. وليس من الحكمة أن يضع الصيغة الدالة على الكثرة والمبالغة أولاً ثم يأتي بالصيغة الدالة التدرج والتكلف فيما بعد، بل الطريق الطبيعي أن يتدرج الإنسان في حمل النفس على الشيء من القلة إلى الكثرة والمبالغة حتى يكون وصفاً ثابتاً له. فهو وضعها وضعاً تربوياً أيضاً. ثم انظر كيف وضعها ربنا وضعاً فنياً عجيباً آخر فجاء للدلالة على معنى التدرج والحدوث بالصغية الفعلية، لأن الفعل يدل على الحدوث والتجدد فقال: (وتبتل) ثم جاء للدلالة على معنى المبالغة والكثرة والثبوت بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت والكثرة لأنها الحالة الثابتة المرادة في العبادة. أما حالة التدرج فهي حالة موقوتة يراد منها الانتقال لا الاستمرار والاستقرار، فجاء لكل معنى بما يناسبه. ومثله قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 60] والقياس أن يقول: (أن يُضلهم إضلالاً بعيداً) "لأن مصدر (أضلّ) : الإضلال أما الضلال فهو مصدر ضلّ، قال تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116] والمعنى أن يُضلهم فيضلّوا ضلالاً بعيداً، وقد جمع المعنيين: الإضلال والضلال في آن واحد. والمعنى أن الشيطان يريد أن يُضلهم ثم يريد بعد ذلك أن يَضلّوا هم بأنفسهم، فالشيطان يبدأ المرحلة وهم يُتِمُّونها. فهو يريد منهم المشاركة في أن يبتدعوا الضلال ويذهبوا فيه كل مذهب. يريد أن يطمئنوا إلى أنهم يقومون بمهمته هو". ولو جاء بمصدر الفعل المذكور لما زاد عن معنى الفعل المذكور، ولكنه جاء بالفعل لمعنى، وجاء بالمصدر لمعنى آخر، فجمع بين المعنيين، والمعنيان مرادان والله أعلم. وقد يَستعملُ في كان ما صيغةً ثم يعدلُ في مكان آخر عن تلك الصيغة، فيحولها إلى صيغة أخرى بحسب ما يقتضيه السياق والمعنى. فمن ذلك قوله تعالى: {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هاذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2] . وقوله: {قَالَتْ ياويلتىءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهاذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] . وقوله في مكان آخر: {أَجَعَلَ الآلهة إلاها وَاحِداً إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . فأنت ترى أنه قال في سورة ق: (هذا شيء عجيب) وفي هود: (إنّ هذا لشيء عجيب) وفي سورة ص: (إنّ هذا لشيء عجاب) فَعدلَ من عجيب إلى عُجاب، وذلك أنه تدرج في العجب بحسب قوته ففي سورة (ق) ذكر أنهم عجبوا من أن يجيء منذر منهم فقالوا: (هذا شيء عجيب) . وفي سورة هود كان العجب أكبر لأنه من خلاف المعتاد أن تَلِدَ امرأةٌ عجوز وعقيم (انظر سورة الذاريات 29) وبعلها شيخ إذْ كُلُّ ذلك يدعو إلى الغرابة والعجب فالعجوز لا تلد، فإذا كانت عقيماً كانت عن الولادة أبعد إذ يتسحيلُ على العقيم أن تلد. فإذا اجتمع إلى كل ذلك أن بلعها شيخ كان أبعدَ وأبعد ولذا أكَّدَ العجب بإنّ واللام فقال: {إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] . بخلاف آية (ق) فإنه لم يؤكد العجب. وأما في سورة (ص) فقد كان العجب عند المشركين أكبر وأكبر إذ كيف يمكن أن يؤمنوا بوحدانية الإله ونفي الشرك وهم قوم عريقون فيه؟ بل إن الإسلام جاء أول ما جاء ليردعهم عن الشرك ويردهم إلى التوحيد، وحَسْبُكَ أن كلمة الإسلام الأولى هي: (لا إله إلا الله) وقد استسهلوا أن يحملوا السيف ويعلنوا الحرب الطويلة على أن يُقِرُّوا بهذه الكلمة، فالقتل أيسرُ عندهم من النطق بكلمة التوحيد، ولذا كان العجب عندهم أكبر وأكبر فجاء بإن واللام وعدل من (عَجِيب) إلى (عُجَاب) وذلك أن (فُعَالاً) أبلغ من (فَعِيل) عند العرب فـ (طُوال) أبلغ من (طويل) فإذا قلت: (هو رجل طويل) فهو الطول يكون مثله، فإذا زاد عن المعتاد قلت: هو طُوال ونحوه: كريم وكُرام، وشجيع وشُجاع. فانظر كيف عدل من صيغة إلى صيغة بحسب ما يقتضيه المقام، وانظر كيف يراعي دقة التعبير في كل موضع، وكيف يلحظ كل كلمة ويضعها في المكان المناسب على تباعد الأمكنة. ومن ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هاذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] . وقوله في مكان آخر على لسانه أيضاً: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26-27] . فانظر كيف عدل من (بريء) إلى (براء) من الصفة المشَبّهة على المصدر "وأنت ترى الفرق بين المقامين فإن إبراهيم عليه السلام في آية الأنعام في مقام الحيرة والبحث عن الحقيقة لا يعرف ربه على وجه التحقيق، فقد ظن أن الكوكب ربه ثم القمر ثم الشمس ثم أعلن البراءة من كل ذلك. أما في الآية الثانية فهو في مقام التبليغ فقد أصبح نبياً مرسلاً من ربه أعلن حربه على الشرك وأعلن البراءة مما يعبد قومه، فهناك فرق بين المقامين والبراءتين". ولذا قال في الآية الأولى: (بريء) وفي الثانية: (براء) وذلك أن (براء) أقوى من بريء فإنها براءة بصيغة المصدر الذي هو الحدث المجرد فإن قولك: (هو رجل عدل) أبلغ من قولك (هو رجل عادل) وذلك لأن معناه أنه أصبح هو العدل، أي: لكثرة ممارسته للعدل صار هو العدل نفسه. وقولك: (هو رجلُ سوء) أبلغ من قولك: (هو رجل سيّئ) فمعنى رجل سيِّئ أنه اتصف بالسوء ومعنى (رجل سوء) أنه لكثرة ممارسته السوء أصبح هو السوء، ومثله قوله تعالى في ابن نوح عليه السلام: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] لم يقل إنّه عامل غير صالح، والمعنى أن ابنك تحوّل إلى عمر غير صالح ولم يبق فيه من عنصر الذات شيء، أي: تحول إلى حدث مجرد وأن العمل غير الصالح لو تجسّد لكان ابنك. فالبراءة في آية الزخرف أشد. ثم انظر كيف ناسب هذه القوة في البراءة والشدة بتوكيد الكلمة بمجيء النون - أعني نون الوقاية - في آية الزخرف زيادةً في التوكيد فقال: (إنني براء) ولم يأت بها في آية الأنعام بل قال: (إني بريء) وأن النون في مثل هذا المقام تفيد التوكيد. فانظر كيف أكد براءته في آية الأنعام بالنون وبتحويل الصيغة إلى المصدر وهي نظيرة ما مر من آيات العجب السابقة. فانظر إلى جمال هذا التعبير ودقته وكيف أن القرآن كاللوحة الفنية الواحدة المتناسقة لوحظ فيها كُلُّ جزئيةٍ من جزئياتها واعتنى بكل لمسة من لمساتها، وصدق الإمام الرازي إذ قال: القرآن كالسورة الواحدة بل كالآية الواحدة. وقد يجمع بين صيغتين من مادة واحدة احتياطاً للمعنى وذلك كقوله تعالى: (الرحمن الرحيم) فإ، ّ (الرحمن) على وزن فَعْلآن و (الرحيم) على وزن فعيل فجمع بينهما، وذلك أن صيغة (فعلان) تدل على الصفات المتجددة، وذلك نحو: عطشان وجوعان وغضبان ونحوها، فإن العطش في: عطشان، ليس صفةً ثابتة بل يزولُ ويتحول، وكذلك جوعان وغضبان، بخلاف: (فعيل) فإنه يدل على الثبوت وذلك نحو: كريم وبخيل وطويل وجميل فإن هذه صفات ثابتة فليس (طويل) مثل: (عطشان) في الوصف ولا (قبيح) مثل (جوعان) . "ودلالة هذا البناء على الحدوث بارزة في لغتنا الدارجة تقول: (هو ضعفان) إذا أردت الحدوث فإن أردت الثبوت قلت: (هو ضعيف) ، وكذلك سمنان وسمين: ألا ترى أنك تقول لصاحبك: أنت ضعفان، فيرد عليك: أنا منذ نشأتي ضعيف. وتقول له: أراك طولان. فيقول: أنا طويل منذ الصغر. وهذا من أبرز ما يميز صيغة (فعلان) عن (فعيل) ... فإن صيغة (فعلان) تفيد الحدوث والتجدد، وصيغة (فعيل) تفيد الثبوت فجمع الله سبحانه لذاته الوصفين. إذ لو اقتصر على (رحمن) لضن ظان أن هذه صفة طارئة قد تزول كعطشان وريان. ولو اقتصر على (رحيم) لظن أن هذه صفة ثابتة ولكن ليس معناها استمرار الرحمة وتجددها، إذ قد تمر على الكريم أوقات لا يكرم فيها وقد تمر على الرحيم أوقات كذلك. والله سبحانه متصف بأوصاف الكمال فمجمع بينهما حتى يعلمَ العبدُ أن صفته الثابتة هي الرحمة وأن رحمته مستمرة متجددة لا تنقطع، حتى لا يَستبدَّ به الوهمُ بأن رحمته تَعرضُ ثم تنقطع أو قد يأتي وقت لا يرحم فيه سبحانه - فجمع الله كمال الاتصاف بالرحمة لنفسه". ومن ذلك أنه يستعمل صيغةَ جمعٍ في مكان ثم يستعمل صيغة جمع أخرى في مكان آخر يبدو شبيهاً بالأول وذلك نحو قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] . وقوله: {إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43] . فأنت ترى أن العدد في الآيتين واحد هو سبع، ولكن استعمل معه: (سنبلات) مرةً ومرةً أخرى: (سنابل) وسِرُّ ذلك أن سنابل جمع كثرة وسنبلات جمع قلة، وقد سيقت الآية الأولى في مقام التكثير ومضاعفة الأجور فجيء بها على (سنابل) لبيان التكثير. وأما قوله: (سبع سنبلات) فجاء بها على لفظ القلة لأن السبعة قليلةً ولا مقتضى للتكثير. فجاء لكل موضع بما يقتضيه السياق. ومن لطيف استعمال القلة والكثرة ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحل: 120-121] . وقوله: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] . فجمع النعمة في آية النحل جمع قلة (أنعُم) وجمعها في لقمان جمع كثرة (نِعمَه) وذلك أن نعم الله لا تحصى، فلا يطيق الإنسان شكرها جميعها، ولكن قد يشكر قسماً منها، ولذلك لما ذكر إبراهيم وأثنى عليه قال: إنه شاكر لأنعمه، ولم يقل: لنعمه، لأن شكر النعم ليس في مقدور أحد، بل إن إحصاءها ليس في مقدور أحد فكيف بشكرها؟ قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] . وأما الآية الثانية فهي في مقام تعداد نعمه وفضله على الناس فقال: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] . فذكرها بِزِنةِ جمع الكثرة. وقد ذكرت في كتابي (معاني الأبنية في العربية) أمثلة أخرى لاستعمامل صيغ الجموع المختلفة. وقد يستعمل المفرد مرة والجمع مرة أخرى مع أن الموضعين يبدوان متشابهين فمن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] . وقوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] . فقال مرة: (معدودة) ومرة أخرى: (معدودات) مع أن القصة واحدة. والحقيقة أن السياق في الموضعين مختلف. وإيضاح ذلك أن المفرد المؤنث إذا وقع صفة للجمع دل على أن الموصوف أكثر منه إذا كانت صفته جمعاً سالماً، فإنك إذا قلت: (في بلدنا جبال شاهقة) دل ذلك على أن عندكم جبالاً كثيرة بخلاف ما إذا قلت: (في بلدنا جبال شاهقات) فإنه يدل على القلة. والأنهار في قولك: (أنهار جارية) أكثر منها في: (أنهار جاريات) وعلى هذه فالأيام المعدودة أكثر من الأيام المعدودات وسبب ذلك أن المقامين مختلفان. أما الأولى فالكلام فيها على بني إسرائيل وقد أكثر من الكلام عليهم وفي صفاتهم السيئة فذكر أنهم يُحَرِّفُونَ كلام الله وهم يعملون. قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 75-76] . فهم يعرفون جُرْمهم ويُقرُّون به ويعملون به عن قصد وإصرار وقد تَوعَّدهم الله بالعذاب الشديد فقال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هاذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] . إذن فهم يعملون بالجرم عن قصد ويحرفونه عن علم ليشتروا به ثمناً قليلاً. وإذن فهم يعلمون أن الله معاقبهم على هذا الجرم فقالوا: (إلا أياماً معدودة) فجاء بصغية الكثرة. وليس الأمر كذلك في آية آل عمران فقد قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ * ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23-24] . فليس في آية آل عمران مثل الجرم المذكور في سورة البقرة من ارتكاب الذنب العمد وتحريف كلام الله، ففرقٌ كبير بين المقامين. فجاء بزمن العذاب الطويل للجرم الكبير، والقليل للذنب القليل فقال: (معدودات) بصيغة جمع القلة في آل عمران، بخلاف آية البقرة فسبحان الله رب العالمين. ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض} [الأنبياء: 4] . وقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] . فقال في آية الأنبياء: (السماء) وفي آية الفرقان: (السماوات) وسبب ذلك أن القول عام يشمل السر والجهر فهو أعم من السر ألا ترى أنك تقول: قلت في نفسي كذا وكذا؟ قال تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} [المجادلة: 8] . جاء في (الكشاف) أن "القول عام يشمل السر والجهر فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة فكان آكد في بيان الاطلاع على نحوٍ أهم". والسماء هنا أعم من السماوات وذلك أن (السماء) في القرآن تستعمل على معنيين فهي إما أن تكون واحدة السماوات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5] ، وقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 14-15] . وإما أن تكون لكل ما علاك فتشمل السماوات وغيرها كالسحاب والمطر والجو وغيره قال تعالى: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} [نوح: 11] والسماء هنا بمعنى المطر. وقال: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [الرعد: 17] والسماء هنا بمعى السحاب. وقال: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} [الأنعام: 125] والسماء هنا بمعنى الجو. والمعنى أن الضالّ عن الحق يكون صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعَّد في الجو لأن المرتفعَ في الجو يضيقُ صدره لاختلال الضغط كما هو معلوم. وهذا إعجاز علمي علاوة على الإعجاز اللغوي، لأنه أخبر بهذه الحقيقة العملية قبل اختراع المنطادات والطائرات بِدُهور. وقال: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] . والسماء هنا بمعنى السقف، أي: مَنْ كان يظن أن لن ينصر الله محمداً فليمدد حبلاً إلى سقف بيته ثم ليخنق نفسه به لأن محمداً منتصرٌ لا محالة. وهذا إعجاز آخر لأنه إخبار عن المستقبل وقد تحقق ذاك. ولا شك أن السماء بهذا المعنى الثاني أعم وأشمل من السماوات لأنها تشمل السماوات وغيرها مما علا وارتفع. فجاء بـ (القول) الذي هو أعم من (السر) مع السماء التي هي أعم من السماوات فاستعمل العام مع العام والخاص مع الخاص. ألا ترى كيف قال تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] . وقال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: 21] . فلما جاء بالسماوات قال: (عرضها السماوات والأرض) ، ولما جاء بالسماء التي هي أعم من السماوات قال: (عرضها كعرض السماء والأرض) فجاء بكاف التشبيه وذلك لأن السماء أعرض بكثير من السماوات. ثم ألا ترى كيف قال الله تعالى في كُلٍّ من الآيتين، ففي آية السماوات قال: (أعدت للمتقين) وفي آية السماء قال: (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) وذلك لأن المتقين أخص من المؤمنين بالله ورسله، لأن المتقي لا يكون إلا مؤمناً أما المؤمن بالله ورسله فقد لا يكون متقياً، فالمؤمنون بالله ورسله أكثر من المتقين فجاء للطبقة الواسعة وهم المؤمنون بالله ورسله بذكر صفتها الواسعة (كعرض السماء) وجاء مع الطبقة الخاصة الذين هم أقل ممن قَبلَهم وهم المتقون بلفظ: (السماوات) التي هي أهل سعة من السماء فناسب بين السعة والعدد. ثم انظر كيف زاد في آية الحديد قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: 21] . وذلك لما زاد تفضله على الخلق فوسَّعَ دائرة الداخلين في الجنة، وجعلها في المؤمنين عامة ولم يقصرها على المتقين منهم، ذكر هذا الفضل في آية الحديد. ثم انظر كيف أنه لما ذكر الجنة بأوسع صفة لها وذكر كثرة الخلق الداخلين فيها وذكر فضله العظيم على عباده قال: (سابقوا) وفي الآية الأخرى قال: (سارعوا) وذلك لأن كثرة الخلق المتوجهين إلى مكان ما تستدعي المسابقة إليه لا مجرد المُسَارعة. فانظر كيف ذكر في آية الحديد (المسابقة) وهي تشمل المسارعة وزيادة، وذكر (السماء) وهي تمشل السماوات وزيادة، وذكر المؤمنين بالله ورسله وهم يشملون المتقين وزيادة. وزاد فيها ذكر الفضل على المغفرة والجنة. فجعل في كل موضع ما يناسبه من الألفاظ فَجَلَّتْ حِكمةُ الله. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13-14] . فقال في أصحاب الجنة: (خالدين فيها) بالجمع وفي أصحاب النار: (خالداً فيها) بالإفراد وقالوا: إن الحكمة في جمع الوصف أولاً للإشعار بالاجتماع المُسْتلزمِ لزيادة الأنس والسعادة عند أهل الجنة فإن الوحدة لا تُطاق، وإفراده لزيادة التعذيب عند أهل النار فإنه تعذيب بالنار والوحدة. جاء في (حاشية يس على التصريح) في هاتين الآيتين: "ولعل الحكمة في جمع الوصف أولاً بذلك الاعتبار وإفراده ثانياً باعتبار اللفظ، ما في صيغة الجمع من الإشعار بالاجتماع المستلزم للتأنس زيادة في النعيم وما في الإفراد من الإشعار بالوحدة المستلزم للوحدة زيادة في التعذيب كما ذكره المولى أبو السعود. وقيل: إنه لما ذكر في الأول جنات متعددة لا جنة واحدة قال: (يدخله) والضمير المنصوب في (يدخله) وإن كان مجموعاً في المعنى فهو في اللفظ مفرد من حيث هو مفرد، والمفرد من حيث هو مفرد لا يصح أن يكون في جنات متعددة فجاء (خالدين) لرفع هذا الإبهام اللفظي، فهو اعتبار لفظي ومناسبة لفظية وإن كان المعنى صحيحاً. أم الآية الثانية فذكر فيها ناراً فناسبها الإفراد في (خالداً) ". ومن ذلك قوله تعالى في قصة صالح: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} [الأعراف: 79] . وقوله في قصة شعيب: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين} [الأعراف: 93] . فأفرد الرسالة مع صالح وجمعها مع شعيب فقال: (رسالات) قالوا: وذلك أن شعيباً بُعث إلى أمتين: مَدْين وأصحاب الأيكة، وصالحاً بعث إلى أمة واحدة، قال تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85] . وقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 176-177] . ومدين غير أصحاب الأيكة، وشعيب عليه السلام كان من مدين ولم يكن من أصحاب الأيكة ولذلك إذا ذكرت مدين قال: (أخوهم) وإذا ذكر أصحاب الأيكة لم يقل: (أخوهم) . قال تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85، هود: 84، المؤمنون: 36] . وقد ذكر الله جملة من الأنبياء وأممهم في سورة الشعراء، وكلهم قال فيه (أخوهم) إلا أصحاب الأيكة. قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 123-124] . وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 146-142] . وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 160-161] . ثم قال بعد ذلك: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 176-177] . فانظر كيف قال: (أخوهم) مع الأنبياء الذين أُرسلوا إلى أقوامهم ولم يقل ذلك فيمن أُرسلَ إلى غير قومه. فشعيب أرسل إلى أمتين ولذلك جمع الرسالة فقال: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبِّي} [الأعراف: 93] . وقال صالح: {أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} [الأعراف: 79] . ثم لو نظرت إلى ما ذكره كل من صالح وشعيب عليهما السلام وبلغ به قومه لوجدت أن ما ذكره شعيب من الأوامر والنواهي أ: ثر مما ذكره صالح. قال تعالى على لسان صالح بعد أن ذكر نعمة الله عليهم: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين * الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ * قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 150-153] . وقال على لسان شعيب: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين * أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين * وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم * وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ * واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين * قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 179-185] . فهي في حق صالح رسالة، وفي حق شعيب رسالات. ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78] . وقوله: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67] . وقوله: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] . فأنت ترى حيث ذكر الصيحة جمع الدار وحيث ذكر الرجفة وهي الزلزلة الشديدة وَحَّدَ الدار، وذلك لأن الصيحة تبلغ أكثر مما تبلغ الرجفة فالرجفة تختص بجزء من الأرض، أما الصيحة فإنما يبلغ صوتها مساحة أكبر من مساحة الرجفة فلذلك وحّد مع الرجفة وجمع مع الصيحة. وقريب من ذا قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] . وقوله: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] . فقال (يستمعون) بلفظ الجمع وقال بعده: (ينظر) بلفظ المفرد وذلك لأن المستمعين أكثر من الرائين على وجه العموم، ألا ترى أننا نستمع إلى أناس كثير لا نراهم في الإذاعات وأشرطة التسجيل وغيرها من وسائل السمع، فجمع المستمعين لأنهم أكثر وإن كان لفظ (مَنْ) يحتمل الجمع المفرد. وذكر الكرماني أنما فرّق بينهما "لأن المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف النظر فكان في المستمعين كثرة، فجمع ليطابق اللفظ المعنى. ووحَّد (ينظر) حملاً على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم". وربمما كان ذلك لسبب آخر علاوة على ما ذكر فإن التأثر بالدعوة يكون بحسب أثر الاستماع لا بحسب الرؤية، فوحّد النظر لأن رؤيته صلى الله عليه وسلم واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الرائين. وجمع الاستماع لأن الاستماع يختلف أثره من شخص لآخر. فالكلام تختلف مواقعه من مستمع لآخر، ولذلك وحّد الرائين لأنهم يرون شيئاً واحداً وجمع المستمعين لأن أثر ذلك مختلف عندهم. وقريب من ذا قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100-101] فجمع الشافع ووحَّدَ الصديق: "فإن قلت: لِمَ جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق" "ولأن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء" وبخاصة أنه وصف الصديق بأنه حميم فإن ذلك أندر. وقريب من ذا قوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولاكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 1-2] . فجمع أولاً فقال: (ترونها) ثم وَحَّد فقال: (وترى الناس) جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: لِمَ قيل أولاً: (ترون) ، ثم قيل: (ترى) على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها. وهي معلقة أخيراً يكون الناس على حال السكر فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم وهذا باب واسع نكتفي منه بهذا القدر. التقديم والتأخير يمكننا تقسيم أحوال التقديم والتأخير إلى قسمين: الأول: تقديم اللفظ على عامله نحو: (خالداً أعطيتُ) و: (بمحمدٍ اقتديتُ) . الثاني: تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير الامل وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] ، وقوله: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [المائدة: 3] ومثل: (أَعرتُ خالداً كتابي) و: (أعرت كتابي خالداً) . 1- تقديم اللفظ على عامله: ومن هذا الباب تقديم المفعول به على فعله، وتقديم الحال على فعله، وتقديم الظرف والجار والمجرور على فعلهما، وتقديم الخبر على المبتدأ ونحو ذلك. وهذا التقديم في الغالب يفيد الاختصاص فقولك: (أنجدت خالداً) يفيد أنك أنجدت خالداً ولا يفيد أنك خَصَصتَ خالداً بالنجدة بل يجوز أنك أنجدت غيره أو لم تنجد أحداً معه. فإذا قلت: (خالداً أنجدت) أفاد ذلك أنك خصصت خالداً بالنجدة وأنك لم تنجد أحداً آخر. ومثل هذا التقديم في القرآن كثير. فمن ذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5-6] فقد قام المفعول به (إياك) على فعل العبادة وعلى فعل الاستعانة دون فعل الهداية فلم يقل: (إيانا اهد) كما قال في الأولين؛ وسبب ذلك أن العبادة والاستعانة مختصتان بالله تعالى، فلا يُعبَدُ أحدٌ غيره ولا يستعان به. وهذا نظير قوله تعالى: {بَلِ الله فاعبد وَكُن مِّنَ الشاكرين} [الزمر: 66] وقوله: {واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] فقدم المفعول به على فعل العبادة في الموضعين وذلك لأن العبادة مختصة بالله تعالى. ومثل التقديم على فعل الاستعانة قوله تعالى: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} [إبراهيم: 12] ، وقوله: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] ، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] فقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص وذلك لأن التوكل لا يكون إلا على الله وحده والإنابة ليست إلا إليه وحده. ولم يقدم مفعول الهداية على فعله فلم يقل: (إيانا اهد) كما قال: (إياك نعبد) وذلك لأن طلب الهداية لا يصح فيه الاختصاص إذ لا يصح أن تقول: اللهم اهدني وحدي ولا تَهْدِ أحداً غيري أو خصّني بالهداية من دون الناس. وهو كما تقول: اللهم ارزقني واشفني وعافني. فأنت تسأل لنفسك ذلك ولم تسأله أن يخصك وحدك بالرزق والشفاء والعافية فلا يرزق أحداً غيرك ولا يشفيه ولا يعافيه. ومن هذا النوع من التقديم قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرحمان آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] فقدم الفعل (آمنا) على الجار والمجرور (به) وأخر (توكلنا) عن الجار والمجرور (عليه) وذلك أن "الإيمان لما لم يكن منحصراً في الإيمان بالله، بل لا بد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين، قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه". ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} [الشورى: 53] "لأن المعنى أن الله تعالى مختص بصيرورة الأمور دون غيره. ونحو قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25-26] . فإن الإياب لا يكون إلا إلى الله، وهو نظير قوله تعالى: {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد: 36] وقوله: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [القيامة: 30] فالمساق إلى الله وحده لا إلى ذات أخرى، وهذا ليس من التقديم من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي كما ذهب بعضهم بل هو لقصد الاختصاص نظير قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [يونس: 4] ، وقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] ، وقوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93] وغير ذلك من الآيات. ومن هذا الباب قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} [فصلت: 47] فعلم الساعة مختص بالله وحده لا يعلمه أحد غيره ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] فقدم الظرف الذي هو الخبر على المبتدأ وهو نظير الآية السابقة. ونحوه قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] فقدم الظرف الذي هو الخبر على المبتدأ (مفاتح الغَيْب) وذلك لاختصاصه سبحانه يعلم الغَيْب. ألا ترى كيف أكد ذلك الاختصاص بأسلوب آخر هو أسلوب القَصْر فقال: (لا يعلمها إلاّ هو) ؟ وقد يكون التقديم من هذا النوع لغرض آخر كالمدح والثناء والتعظيم والتحقير وغير ذلك من الأغراض، إلا أن الأكثر فيه أن يفيد الاختصاص. ومن التقديم الذي لا يفيد الاختصاص قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} [الأنعام: 84] فهذا ليس من باب التخصيص إذ ليس معناه أننا ما هدينا إلا نوحاً وإنما هو من باب المدح والثناء. ونحو قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9-10] إذ ليس المقصود به جوازُ قهرٍ غير اليتيم ونهر غير السائل، وإنما هو باب التوجيه فإن اليتيم ضعيف وكذلك السائل وهما مظنّة القهر، فقدمهما للاهتمام بشأنهما والتوجيه إلى عدم استضعافهما. 2- تقديم اللفظ وتأخيره على غير العامل. إن تقديم الألفاظ بعضها على بعض له أسباب عديدة يقتضيها المقام وسياق القول، يجمعها قولهم: إن التقديم إنما يكون للعناية والاهتمام. فما كانت به عنايتك أكبر قَدَّمتَهُ في الكلام. والعناية باللفظة لا تكون من حيث إنها لفظة معينة بل قد تكون العناية بحسب مقتضى الحال. ولذا كان عليك أن تقدم كلمة في موضع ثم تؤخرها في موضع آخر لأن مراعاة مقتضى الحال تقتضي ذاك. والقرآن أعلى مثل في ذلك فإننا نراه يقدم لفظة مرة ويؤخرها مرة أخرى على حسب المقام. فنراه مثلاً يقدم السماء على الأرض ومرة يقدم الأرض على السماء، ومرة يقدم الإنس على الجن ومرة يقدم الجن على الإنس، ومرة يقدم الضر على النفع ومرة يقدم النفع على الضر، كل ذلك بحسب ما يقتضيه فن القول وسياق التعبير. فإذا أردت أن تبين أسباب هذا التقديم أو ذاك فإنه لا يصح الاكتفاء بالقول إنه قدم هذه الكلمة هنا للعناية بها والاهتمام دون تبيين موطن هذه العناية وسبب هذا التقديم. فإذا قيل لك مثلاً: لماذا قدم الله السماء على الأرض هنا؟ قلت: لأن الاهتمام بالسماء هنا أكبر. ثم إذا قيل لك: ولماذا قدم الله الأرض على السماء في هذه الآية؟ قلت: لأن الاهتمام بالأرض هنا أكبر. فإذا قيل لك: ولماذا كان الاهتمام بالسماء هناك أكبر وكان الاهتمام بالأرض أكبر؟ وجب عليك أن تبين سبب ذلك وبيان الاختلاف بين الموطنين، بحيث تُبين أنه لا يصح أو لا يَحْسُنُ تقديم الأرض على السماء فيما قدمت فيه السماء، أو تقديمُ السماء على الأرض فيما قدمت الأرض بياناً شافياً. وكذلك بقية المواطن الأخرى. أما أن تكتفي بعبارة أن هذه اللفظة قدمت للعناية والاهتما بها فهذا وجه من وجوه الإبهام. والاكتفاءُ بها يضيع معرفة التمايز بين الأساليب فلا تعرف الأسلوب العالي الرفيع من الأسلوب المهلهل السخيف، إذ كل واحد يقول لك: إن عنايتي بهذه اللفظة هنا أكبر دون البصر بما يستحقه المقام وما يقتضيه السياق. إن فن التقديم والتأخير فن رفيع يعرفه أهل البصر بالتعبير والذين أُوتوا حظاً من معرفة مواقع الكلام وليس ادعاء يُدَّعى أو كلمة تقال. وقد بلغ القرآن الكريم في هذا الفن - كما في غيره - الذروة في وضع الكلمات الوضعَ الذي تستحقه في التعبير بحيث تستقر في مكانها المناسب. ولم يكتف القرآن الكريم في وضع اللفظة بمراعاة السياق الذي ودرت فيه بل راعى جميع المواضع التي وردت فيها اللفظة ونظر إليها نظرة واحدة شاملة في القرآن الكريم كله. فترى التعبير متسقاً متناسقاً مع غيره من التعبيرات كأنه لوحة فنية واحدة مكتملة متكاملة. إن القرآن الكريم دقيق في وضع الألفاظ ورصفها بجنب بعض دقة عجيبة فقد تكون له خطوط عامة في التقديم والتأخير، وقد تكون هناك مواطن تقتضي تقديم هذه اللفظة أو تلك، كل ذلك مراعى فيه سياق الكلام والاتساق العام في التعبير على أكمل وجه وأبهى صورة. وسنوضح هذا القول المجمل ببيان شاف. إن القرآن - كما ذكرت - يقدم الألفاظ ويؤخرها حسبما يقتضيه المقام فقد يكون سياق الكلام - مثلاً - متدرجاً حسب القدم والأولية في الوجود، فيرتب ذكر الكلمات على هذا الأساس فيبدأ بالأقدم ثم الذي يليه وهكذا وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فخلق الجن قبل خلق الإنس بدليل قوله تعالى: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] فذكر الجن أولاً ثم ذكر الإنس بعدهم. ونحو قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] لأن السِّنة وهي النعاس تسبق النوم فبدأ بالسنة ثم النوم. ومن ذلك تقديم عاد على ثمود قال تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38] فإن عاداً أسبق من ثمود. وجعلوا من ذلك تقديم الليل على النهار والظلمات على النور قال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر} [الأنبياء: 33] فقدم الليل لأنه أسبق من النهار وذلك لأنه قبل خلق الأجرام كانت الظلمة، وقدم الشمس على القمر لأنها قبله في الوجود. وقال: {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} [النور: 44] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ومثل تقديم الليل على النهار تقديم الظلمات على النور كما ذكرت. قال تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وذلك لأن الظلمة قبل النور لما مر في الليل. قالوا: ومن ذلك تقديم العزيز على الحكيم حيث ورد في القرآن الكريم قال تعالى: {وَهُوَ العزيز الحكيم} [الحشر: 1] قالوا: لأنه عَزَّ فَحكَمَ. ومنه تقديم القوة على العزة لأنه قوي فعزّ أي غلب فالقوة أول قال تعالى: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40، 47] وقال: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 25] . وقد يكون التقديم بحسب الفضل والشرف، ومنه تقديم الله سبحانه في الذكر كقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولائك رَفِيقاً} [النساء: 69] . فقدم الله على الرسول، ثم قدم السعداء من الخلق بحسب تفاضلهم، فبدأ بالأفضلين وهم النبيون ثم ذكر من بعدَهم بحسب تفاضلهم. كما تدرج من القلة إلى الكثرة فبدأ بالنبيين وهم أقل الخلق، ثم الصدّيقين وهم أكثر، ثم الشهداء ثم الصالحين، فكل صنف أكثر من الذي قبله فهو تدرج من القلة إلى الكثرة ومن الأفضل لى الفاضل. ولا شك أن افضل الخلق هم أقل الخلق إذ كلّما ترقى الناس في الفضل قلَّ صنفهم. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [لأحزاب: 7] فبدأ بالرسول لأنه أفضلهم. وجعلوا من ذلك تقديم السمع على البصر قال تعالى: {وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11، عافر: 20] وقال: {هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1، غافر: 56] . وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2] . قدم السمع على البصر. وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان: 73] . فقدم الصُمّ وهم فاقدو السمع على العميان هم فاقدو البصر. قالوا: لأن السمع أفضل. قالوا: والدليل على ذلك أن الله لم ييبعث نبياً أَصَمَّ، ولكن قد يكون النبي أعمى كيعقوب عليه السلام فإنه عمي لفقدِ ولده. والظاهر أن السَّمع بالنسبة إلى تلقي الرسالة أفضل من البصر، ففاقد البصر يستطيع أن يفهم ويعي مقاصد الرسالة فإن مهمة الرسل التبليغ عن الله. والأعمى يمكن تبليغه بها ويتيسر استيعابه لها كالبصير، غير أن فاقد السمع لا يمكن تبليغه بسهولة. فالأصم أنأى عن الفهم من الأعمى، ولذا كان من العميان علماء كبار بخلاف الصُّمِّ. فلكون متعلق ذلك التبليغ كان تقديم السمع أولى. ويمكن أن يكون تقديم السمع على البصر لسبب آخر عدا الأفضلية، وهو أن مدى السمع أقل من مدى الرؤية، فقدم ذا المدى الأقل متدرجاً من القصر إلى الطول في المدى، ولذا حين قال موسى في فرعون: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} [طه: 45] قال الله تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] فقد فقدم السمع لأنه يوحي بالقرب إذ الذي يسمعك يكزن في العادة قريباً منك بخلاف الذي يراك فإنه قد يكون بعيداً وإن كان الله لا يندّ عن سمعه شيء. وقد يكون التقديم بحسب الرتبة وذلك كقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 10-12] "فإن الهمَّاز هو العيَّاب وذلك لا يفتقر إلى مشي بخلاف النميمة فإنها نقلٌ للحديثِ من مكان إلى مكان عن شخص إلى شخص". فبدأ بالهماز وهو الذي يعيب الناس وهذا لا يفتقر إلى مشي ولا حركة، ثم انتقل إلى مرتبة أبعد في الإيذاء وهو المشي في النميمة، ثم انتقل إلى مرتبة أبعد من الإيذاء، وهو أنه يمنع الخير عن الآخرين، وهذه مرتبة أبعد في الإيذاء مما تقدمها. ثم انتقل إلى مرتبة أخرى أبعد مما قبلها وهو الاعتداء، فإن منع الخير قد لا يصحبه اعتداء، أما العدوان فهو مرتبة أشد في الإيذاء. ثم ختمها بقوله: (أثيم) وهو وصف جامع لأنواع الشرور، فهي مرتبة أشد إيذاءً. جاء في (بدائع الفوائد) : "وأما تقدم (هماز) على (مشاء بنميم) فالرتبة لأن المشي مرتب على القعود في المكان. والهماز هو العياب وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه بخلاف النيميم. وأما تقدم (مناع للخير) على (معتدٍ) فبالرتبة أيضاً لأن المناع يمنع من نفسه والمعتدي يعتدي على غيره ونفسه قبل غيره". وجعلوا منه تقدم السمع على العلم حيث وقع في القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَهُوَ السميع العليم} [البقرة: 137] وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61] وذلك أنه "خبر يتضمن التخويف والتهديد، فبدأ بالمسع لتعلقه بما يقرب كالأصوات وهمس الحركات، فإن مَنْ سمع حِسَكَ وخَفيّ صوتك أقرب إليك في العادة ممن يقال لك: إنه يعلم وإن كان علمه تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن وواقعاً على ما قرب وشطن. ولكن ذكر السميع أوقعُ في باب التخويف من ذكر العليم فهو أولى بالتقديم". ويمكن أن يُقال: إن السمع من وسائل العلم فهو يسبقه. وجعلوا منه أيضاً تقديم المغفرة على الرحمة نحو قوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] في آيات كثيرة وقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100] قالوا: وسبب تقديم الغفور على الرحيم أن "المغفرة سلامة والرحمة غينمة، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرحيم الغفور} [سبأ: 2] فالرحمة شملتهم جميعاً والمغفرة تخص بعضاً. والعموم قبل الخصوص بالرتبة". وإيضاح ذلك أن جميع الخلائق من الإنس والجن والحيوان وغيرهم محتاجون إلى رحمته، فهي برحمته تحيا وتعيش وبرحمته تتراحم. وأما المغفرة فتخص المكلفين فالرحمة أعم. ومن التقديم بالرتبة أيضاً قوله تعالى في من يكنز الذهب والفضة: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] فبدأ بالجباة ثم الجنوب ثم الظهور "قيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا وإذا ضمهم وإياه مجلس أزْوَرُّوا عنه وتولوا بأركانهم وولَّوهُ ظهورهم". فتدرج بحسب الرتبة. وقد يكون التقديم بحسب الكثرة والقلة فقد يرتب المذكورات متدرجاً من القلة إلى الكثرة حسبما يقتضيه المقام وذلك نحو قوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125] فكل طائفة هي أقل من التي بعدها فتدرّج من القلة إلى الكثرة. فالطائفون أقل من العاكفين لأن الطواف لا يكون إلاّ حول الكعبة. والعكوف يكون في المساجد عموماً. والعاكفون أقل من الراكعين لأن الركوع أي: الصلاة تكون في كل أرض طاهرة، أما العكوف فلا يكون إلاّ في المساجد. والراكعون أقل من الساجدين وذلك لأن لكل ركعة سجدتين ثم أن كل راكع لا بد أن يسجد وقد يكون سجود ليس له ركوع كسجود التلاوة وسجود الشكر. فهو هنا تدرّج من القلة إلى الكثرة. ولهذا التدرج سبب اقتضاه المقام فإن الكلام على بيت الله الحرام. قال تعالى: {وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125] فالطائفون هم ألصق المذكورين بالبيت لأنهم يطوفون حوله، فبدأ بهم ثم تدرج إلى العاكفين في هذا البيت أو في بيوت الله عموماً ثم الرُّكَّعِ السجود الذي يتوجهون إلى هذا البيت في ركوعهم وسجودهم في كل الأرض. ونحوه قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] فبدأ بالركوع وهو أقل المذكورات، ثم السجود وهو أكثر، ثم عبادة الرب وهو أعم، ثم فعل الخير. وقد يكون الكلام بالعكس فيتدرج من الكثرة إلى القلة وذلك نحو قوله تعالى: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] فبدأ بالقنوت وهو عموم العبادة، ثم السجود وهو أقل وأخص، ثم الركوع وهو أقل وأخص. ومنه قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2] فبدأ بالكفار لأنهم أكثر قال تعالى: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] . ونحوه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} [فاطر: 32] فقدم الظالم لكثرته ثم المقتصد وهو أقل ممن قبله ثم السابقين وهم أقل. جاء في (الكشاف) في هذه الآية: (فإن قلت: لِمَ قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم وأن المقتصدين قليلا بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل) . ألا ترى كيف قال الله تعالى في السابقين: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 13-14] إشارة إلى نُدرتهم وقلة وجودهم؟ قالوا: ومن هذا النوع من التقديم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] قدم السارق على السارقة لأن السرقة في الذكور أكثر. وقدم الزانية على الزاني في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] لأن الزنى فيهن أكثر. ألا ترى أن قسماً من النساء يحترفن هذه الفعلة الفاحشة؟ وجاء في حاشية ابن المنير على "الكشاف" قوله: "وقدم الزانية على الزاني والسبب فيه أن الكلام الأول في حكم الزنى والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع والكلام"، و"لأن مفسدته تتحقق بالإضافة إليها". وقد يكون التقديم لملاحظ أخرى تتناسب مع السياق فنراه يقدم لفظة في موضع ويؤخرها في موضع آخر بحسب ما يقتضي السياق. فمن ذلك تقديم لفظ (الضرر) على (النفع) وبالعكس قالوا: إنه حيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع، قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} [الأعراف: 188] فقدم النفع على الضرر وذلك لأنه تقدمه في قوله {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولائك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178] فقدم الهداية على الضلال، وبعد ذلك قال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء} [الأعراف: 188] فقدم الخير على السوء ولذا قدم النفع على الضرر إذ هو المناسب للسياق. وقال: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} [يونس: 49] فقدم الضرر على النفع وقد قال قبل هذه الآية: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] وقال: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] . فقدم الضر على النفع في الآيتين. ويأتي بعد هذه الآية قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} [يونس: 50] فكان المناسب تقديم الضرر على النفع ههنا. وقال: {قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} [الرعد: 16] . فقدَّم النفع على الضرر، قالوا: وذلك لتقدم قوله تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15] فقدم الطوع على الكره. وقال: {فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} [سبأ: 42] فقد النفع على الضر، قالوا: وذلك لتقدم قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [سبأ: 39] فقدم البسط. وغير ذلك من مواضع هاتين اللفظتين. ومن ذلك تقديم الرحمة والعذاب. فقد قيل إنه حيث ذكر الرحمة والعذاب بدأ بذكر الرحمة كقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} [المائدة: 18] وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43] وقوله: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول} [غافر: 3] . وعلى هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: "إن رحمتي سبقت غضبي" وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمةُ فيها تقديم ذكر العذاب ترهيباً وزجراً. من ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40] لأنها وردت في سياق ذِكْرِ قُطَّاع الطرق والمحاربين والسراق فكان المناسب تقديم ذكر العذاب وذلك أنها وردت بعد وقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فقدم القتل على الإحياء، وثم قال بعدها: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ، ثم جاء بعدها: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] ، ثم جاء بعدها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40] . فأنت ترى أن المناسب ههنا تقديم العذاب على المغفرة. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إلى قوله: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [المائدة: 40] . "فإن قلت: لِمَ قدم التعذيب عن المغفرة؟ قلت: لأنه قُوبل بذلك تَقدُّمُ السرقةِ على التوبة". ومن ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 21] وذلك لأنها في سياق إنذار إبراهيم لقومه ومخاطبة نمورد وأصحابه وأن العذاب وقع بهم في الدنيا. فقد أنذر إبراهيم قومه قائلاً: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فابتغوا عِندَ الله الرزق} [العنكبوت: 17] ثم قال: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} [العنكبوت: 18] وهددهم بعد بقوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ أولائك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وأولائك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت: 22-23] فأنت ترى أن السياق يقتضي العذاب هنا. وقد يكون التقديم والتأخير على نمط آخر غير الذي ذكرت من تقديم الضرر والنفع والعذاب والمغفرة وغيرها من الخطوط العامة. فقد يقدم لفظة في كان ويؤخرها في مكان آخر حسبما يقتضيه السياق. فمن ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] . وقوله: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً * لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 19-20] فقد الفجاج على السبل في الآية الأولى، وأخَّرها عنها في آية نوح وذلك أن الفج في الأصل هو الطريق في الجبل أو بين الجبلين، فلما تقدم في آية الأنبياء ذكر الرواسي وهي الجبال قدم الفجاج لذلك، بخلاف آية نوح فإنه لم يرد فيها ذكرٌ للجبال فأخرها. فوضع كل لفظة في الموضع الذي تقتضيه. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 157-158] فقدم القتل على الموت في الآية الأولى، وقدم الموت في الآية التي تليها وسبب ذلك - والله أعلم - أنه لما ذكر في الآية الأولى (في سبيل الله) وهو الجهاد قدم القتل إذ هو المناسب لأن الجهاد مظنة القتل، ثم هو الأفضل أيضاً ولذا ختمها بقوله: (لمغفرة من الله ورحمة) فهذا جزاء الشهيد ومن مات في سبيل الله. ولما لم يقل في الثانية: (في سبيل الله) قدم الموت على القتل لأنه الحالة الطبيعية في غير الجهاد ثم ختمها بقوله: (لإلى الله تحشرون) إذ الميت والمقتول كلاهما يحشرُهُ الله إليه. فشتان ما بين الخاتمتين. فلم يزد في غير الشهيد ومن مات على أن يقول: (لإلى الله تحشرون) وقال في خاتمة الشهيد: (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) فوضع كل لفظة الموضع الذي يقتضيه السياق. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] فقدم الأنعام على الناس. وقال في مكان آخر: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31-32] فقدم الناس على الأنعام وذلك أنه لما تقدم ذكر الزرع في آية السجدة ناسب تقديم الأنعام، بخلاف آية عبس فإنها في طعام الإنسان قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} [عبس: 24] إلى أن يقول: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً *وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 27-32] ألا ترى كيف ذكر طعام الإنسان من الحب والفواكة أولاً ثم ذكر طعام الأنعام بعده وهو الأبّ أي: التبن، فناسب تقديم الإنسان على الأنعام ههنا كما ناسب تقديم الأنعام على الناس ثَمَّ. فسبحان الله رب العالمين. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] . وقوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] فقدم رزق الآباء في الآية الأولى على الأبناء، وفي الآية الثانية قدم رزق الأبناء على الآباء، وذلك أن الكلام في الآية الأولى موجه إلى الفقراء دون الأغنياء فهم يقتلون أولادم من الفقر الواقع بهم لا أنهم يخشونه، فأجبت البلاغةُ تقديمَ عِدَتِهم بالرزق تكميل العِدَةِ برزق الأولاد. وفي الآية الثانية الخطاب لغير الفقراء وهم الذي يقتلون أولادهم خشية الفقر لا أنهم مفتقرقون في الحال، وذلك أنهم يخافون أن تسلبهم كلف الأولاد ما بأيديهم من الغنى فوجب تقديم العدة برزق الأولاد فيأمنوا ما خافوا من الفقر. فقال: لا تقتلوهم فإنا نرزقهم وإياكم، أي إن الله جعل معهم رزقهم فهم لا يشاركونكم في رزقكم فلا تخشوا الفقر. ومن ذلك قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] . وقوله: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] فقدم القلوب على السمع في البقرة، وقدم السمع على القلب في الجاثية وذلك لأنه في البقرة ذلك القلوب المريضة فقال: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] فقدم القلوب لذلك. وفي الجاثية ذكر الأسماع المعطلة فقال: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 7-8] فقدم السمع. فوضع كل لفظة في المكان الذي يناسبها. ثم إن آية البقرة ذكرت من أصناف الكافرين من هم أشد ضلالاً وكفراً ممن ذكرتهم آيةُ الجاثية فقد جاء فيها قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 6-7] . وجاء في الجاثية قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلاهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] فقد ذكر في البقرة أن الإنذار وعدمه عليهم سواء وأنهم مَيؤوسٌ من إيمانهم. ولم يقل مثل ذلك في الجاثية. ثم كرر حرف الجر (على) مع القلوب والأسماع في آية البقرة مما يفيد توكيد الختم فقال: {على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] . ولم يقل مثل ذلك في الجاثية، بل انتظم الأسماع والقلوب بحرف جر واحد فقال: (وختم على سمعه وقلبه) . ثم قال في البقرة: {وعلى أبصارهم غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] بالجملة الاسمية، والجملة الاسمية كما هو معلوم تفيد الدوام والثبات، ومعنى ذلك أن هؤلاء لم يسبق لهم أن أبصروا وإنما هذا شأنهم وخِلْقتهم فلا أملَ في إبصارهم في يوم من الأيام. في حين قال في الجاثية: {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] بالجملة الفعلية التي تفيد الحدوث. ومعلوم أن (جعل) فِعلٌ ماض، ومعنى ذلك: أن الغشاوة لم تكن قبل الجعل يدلك على ذلك قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23] مما يدل على أنه كان مبصراً قبل تَردِّيه. ثم ختم آية البقرة بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] ولم يقل مثل ذلك في الجاثية. فدل على أن صفات الكفر في البقرة أشد تمكناً فيه. ولذا قدم ختم القلب على ما سواه لأنه هو الأهم، فإن القلب هو محل الهدى والضلال، وإذا ختم عليه فلا ينفع سمع ولا بصر قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولاكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] . وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" فكان تقديم القلب في البقرة أولى وأنسب، كما أن تقديم السمع في الجاثية أنسب. ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هاذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [النمل: 68] . وقوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هاذا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [المؤمنون: 83] . فقدم (هذا) في الآية الأولى وأخرها في الآية (المؤمنون) وذلك "أن ما قبل الأولى: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل: 67] ، وما قبل الثانية: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم تراباً. والجهة المنظرو فيها هنا كونهم تراباً وعظاماً. ولا شبهة أن الأولى أدخلُ عندهم في تبعيد البعث ذلك أن البِلَى في الحالة الأولى أكثر وأشد وذلك أنهم أصبحوا تراباً مع آبائهم. وأما في الآية الثانية فالبلى أقل وذلك أنهم تراب وعظام فلم يصبهم ما أصاب الأولين من البلى، ولذا قدم (هذا) في الآية الأولى لأنه أدعى إلى العجب والتعبيد. ومن ذلك قوله تعالى: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إلاه إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102] . وقوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ} [غافر: 62] . فأنت ترى أنه قدم في آية الأنعام: {لا إلاه إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 102] وأخر {خالق كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] وفي غافر جاء بالعكس. وذلك أنه في سياق الإنكار على الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص ونَفْيِ الصاحبةِ والولد قال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وبنات بِغَيْرِ عِلْمٍ سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إلاه إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 100-102] . فأنت ترى أن لكلام على التوحيد ونفي الشرك والشركاء والصاحبة والولد ولذا قدم كلمة التوحيد: {لا إلاه إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 102] على: {خالق كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] وهو المناسب للمقام. ثم انظر كيف قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] بعد قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} [الأنعام: 101] فأخَّر الخلق بعد التوحيد، وهو نظير تأخيره بعد قوله: {لا إلاه إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 101] فقال: {لا إلاه إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] وهو تناظر جميل. أما في (غافر) فليس السياق كذلك وإنما هو في سياق الخلق وتعداد النعم قال تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] إلى أن يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ * ذلكم الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ} [غافر: 60-62] . فالكلام كما ترى على الخَلْق وعلى نعم الله وفضله على الناس لا على التوحيد فقدم الخلق لذلك فوضع كل تعبير في موطنه اللائق حسب السياق. جاء في (البرهان) للكرماني: "قوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62] في هذه السورة. وفي المؤمن {خالق كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ} [غافر: 62] لأن فيها قبله ذكر الشركاء والبنين والبنات، فدمغ قول قائله بقوله: {لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ} [غافر: 62] ثم قال: {خالق كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62] . وفي (المؤمن) قبله ذكر الخلق وهو {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] فخرج الكلام على إثبات خلق الناس لا على نفي الشريك فقدم في كل سورة ما يقتضيه قبله من الآيات". ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} [الأنفال: 72] . وقوله: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولائك هُمُ الفائزون} [التوبة: 20] . فقدم الأموال والأنفس على (في سبيل الله) في سورة الأنفال. وقدم (في سبيل الله) على الأموال والأنفس في سورة التوبة. وذلك لأنه في سورة الأنفال تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة من مثل قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} [الأنفال: 67] وهو المال الذي فدى الأسرى به أنفسهم، وقوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] أي: من الفداء، وقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} [الأنفال: 69] وغير ذلك فقدم المال ههنا، لأن المال كان مطلوباً لهم حتى عاتبهم الله في ذلك فطلب أن يبدؤوا بالتضيحة به. وأما في سورة التوبة فقد تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله من مثل قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16] . وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} [التوبة: 19] . فقدم ذكر: (في سبيل الله) على الأموال والأنفس وهو المناسب ههنا للجهاد كما قدم الأموال والأنفس هناك لأنه المناسب للأموال. ومنه قوله تعالى: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] . وقوله: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] . قدم (مواخر) على الجار والمجرور في النحل وقدم (فيه) على (مواخر) في فاطر. وذلك أنه تقدم الكلام في النحل على وسائط النقل، فذكر الأنعام وأنها تحمل الأثقال، وذكر الخيل والبغال والحمير لنركبها وزنية، ثم ذكر الفلك وهي واسطة نقل أيضاً فقال: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14] . قدم المواخر لأنها من صفات الفُلْك وهذا التقديم مناسب في سياق وسائق النقل. وليس السياق كذلك في سورة فاطر وإنما قال الله: {والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} [فاطر: 11] ثم قال: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12] . فالكلام هنا على البحر وأنواعه وما أودع الله فيه من نعم. فلما كان الكلام على البحر قدم ضمير البحر على المخر فقال: (وترى الفلك فيه مواخر) . فانظر كيف أنه لما كان الكلام على وسائط النقل والفلك قدم حالة الفلك، ولما كان الكلام على البحر ذكر ما يتعلق به. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هاذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء: 89] . وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هاذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] . قدم (للناس) على (في هذه القرآن) في الإسراء وأخرها في (الكهف) وذلك لأنه تقدم الكلام في (الإسراء) على الإنسان ونِعَم الله عليه ورحمته به فقال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} [الإسراء: 83] . فناسب ذلك تقديم الناس في سورة الإسراء. ولم يتقدم مثل ذلك في الكهف. ثم انظر في افتتاح كل من السورتين فقد بدأ سورة الكهف بقوله: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف: 1-2] . فقد بدأ السورة بالكلام على الكتاب وهو القرآن ثم ذكر بعده أصحاب الكهف وذكر موسى والرجل الصالح وذكر ذا القرنين وغيرهم من الناس، فبدأ بذكر القرآن ثم ذكر الناس، فكان المناسب أن يقدم ذكر القرآن على الناس في هذه الآية كما في البدء. وأما سورة الإسراء فقد بدئت بالكلام على الناس ثم القرآن. فقد بدئت بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . ثم تكلم على بني إسرائيل، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ هاذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء: 9] . فكان المناسب أن يتقدم ذكر الناس فيها على ذكر القرآن في هذه الآية. وهذا تناسب عجيب بين الآية ومفتتح السورة في الموضعين. ثم انظر خاتمة الآيتين، فقد ختم آية الإسراء بقوله: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء: 89] والكُفُور: هو جحد النعم، فناسب ذلك تقدم ذكر النعمة والرحمة والفضل ألا ترى أن مقابل الشكر الكفران ومقابل الشاكر الكفور قال تعالى: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] فكان ختام الآية مناسباً لما تقدم من السياق. أما آية الكهف فقد ختمها بقوله: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] لما ذكر قبلها وبعدها من المحاورات والجدل والمراء من مثل قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] . وقوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 37] . وبعدها: {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [الكهف: 56] . وذكر محاورة موسى والرجل الصالح ومجادلته فيما كان يفعل. وقال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} [الكهف: 22] . ولم يرد لفظ الجدل ولا المحاورة في سورة الإسراء كلها. فما ألطف هذه التناسق وأجمله وما أَجَلَّ هذا الكلام! ومن ذلك قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] . وقوله {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18] . فقال في آية البقرة: {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} [البقرة: 264] فقدم الشيء وأَخَّرَ الكَسْب. وقال في سورة إبراهيم: {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] فقدّم الكسب وأخّر الشيء، وذلك أن آية البقرة في سياق الإنفاق والصدقة، والمنفقُ معطٍ وليس كاسباً، ولذلك أَخَّر الكسب فقال: {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} [البقرة: 264] . وأما الآية الثانية فهي في سياق العمل، والعامل كاسب فقدم الكسب. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم} [آل عمران: 126] . وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] . فقدم القلوب على الجار والمجرور في آل عمران فقال: (ولتطمئن قلوبكم به) ، وأخَّرها عنه في الأنفال فقال: (ولتطمئن به قلوبكم) علماً بأن الكلام على معركة بدر في الموطنين غير أن الموقف مختلف. ففي آل عمران ذكر معركة بدر تمهيداً لذكر موقعه أُحد وما أصابهم فيها من قرح وحزن والمقام مقام مَسْح على القلوب وطمأنةٍ لها من مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} [آل عمران: 139-140] إلى غير ذلك من آيات المواساة والتصبير فقال في هذا الموطن: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] فذكر أن البشرى (لهم) ، وقَدَّمَ (قلوبهم) على الإمداد بالملائكة فقال: {إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] كل ذلك من قبيل المواساة والتبشير والطمأنينة. ولما لم يكن المقام في الأنفال كذلك، وإنما المقام ذكر موقعة بدر وانتصارهم فيه ودور الإمداد السماوي في هذا النصر وقد فصل في ذلك أكثر مما ذكر في آل عمران فقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 9-12] . أقول لما كان المقام مختلفاً خالف في التعبير. إنه لما كان المقام في الأنفال مقام الانتصار وإبراز دور الإمداد الرباني قدم (به) على القلوب والضمير يعود على الإمداد. ولما كان المقام في آل عمران هو الطمأنة وتسكين القلوب قدمها على الإمداد فقال: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 10] وزاد كلمة (لكم) فقال: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ} [آل عمران: 126] زيادة في المواساة والمسح على القلوب فجعل كلاً من مقامه. ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] . وقوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145] . فقد قال في آية البقرة: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] فقدم (به) على (لغير الله) . ومعنى: (ما أهل به) : ما رُفع الصوتُ بذبحهِ وهو البهمية. وقال في آيتي المائدة والأنعام: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [المائدة: 3] فقدم (لغير الله) على (به) وذلك أن المقام في آية الأنعام هو في الكلام على المفترين على الله ممن كانوا يشرعون للناس باسم الله وهم يفترون عليه فقال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هاذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهاذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ هاذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ} [لأنعام: 136-138] . إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن ثمة ذوات غير الله تُحلِّلُ وتُحَرِّمُ مفتريةً على الله، وذوات يزعمون أنها شركاء لله تُعبد معه ونصيبها أكبر من نصيب الله في العبادة، ولذا قدم إبطال هذه المعبودات من غير الله على (به) فقال: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] لأنه هو مدار الاهتمام والكلام. والكلام في المائدة أيضاً على التحليل والتحريم ومَنْ بيدِه ذلك، ورفض أية جهة تُحلِّلُ وتُحرِّم من غير الله فإن الله هو يحكم ما يريد. قال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله ... * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ... * يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ ... } [المائدة: 1-4] . فهو يجعل التحليل والتحريم بيده ويرفض أية جهة أخرى تقوم بذلك، لأن ذلك من الشرك الذي أبطله الإسلام ولذا قدمه في البطلان فقال: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [المائدة: 3] . ثم إنه جاء في الموطنين بذكر اسم الله على الذبائح فذكر في آية الأنعام أن المشركين لا يذكرون اسم الله على بعض ذبائحهم تعمداً فقال: {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} [الأنعام: 138] . وأمر في آية المائدة بذكر اسم الله فقال: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} [المائدة: 4] فناسب ذلك تقديم بطلان ذكر غير الله. وأما في البقرة فليس كذلك فلم يذكر أن جهة أخرى تقوم بالتحليل والتحريم وإنما الكلام على ما رزق الله عباده من الطيبات فقال: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] . وقال بعدها: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [لبقرة: 172-173] . فلما كان المقام مقام الرزق والطعام والأمر بأكل الطيبات قدم (به) . والضمير يعود على ما يذبح وهو طعام مناسبة للمقام والله أعلم. ومن ذلك قوله تعالى: {أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16-17] . وقوله: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] . فقدم خَسْفَ الأرضِ على إرسال الحاصب في آية المُلك، وأخَّر عذابَ الأرض عما يأتي من السماء في آية الأنعام. وذلك أن آية الملك تَقدَّمها قولُه تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} [المُلك: 15] فكان أنسب شيء في الموعظة تذكيره بخسفها من تحتهم. "أما آية الأنعام فتقدمها قوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] فصرف هذا الخطاب تفكر النفس في عين الجهة التي ذكر منها القهر، وكان أنسب شيء ذكر منها القهر وكان أنسب شيء ذكر التخويف من تلك الجهة بخلاف آية المُلك". ومما زاد ذلك حسناً قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] والحَفَظةُ: هم الملائكة، والملائكة مسكنهم في السماء، وربنا يرسلهم من فوق فناسب تقديم هذه الجهة على غيرها. ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة فإن فيها كفاية فيما أحسب فهي تدل على دلالة واضحة على أن التعبير القرآني تعبير مقصود، كلُّ لفظٍ فيه وُضِعَ وضعاً فنياً مقصوداً، وأنه لم يقدم لفظة على لفظة إلا لغرض يقتضيه السياق. وقد رُوعيَ في ذلك التعبير القرآني كله ونظر إليه نظرة واحدة شاملة. وأظن أن ما مر من الأمثلة تريك شيئاً من فخامة التعبير القرآني وعُلُوِّهِ وأن مثل هذا النَّظْم لا يمكن أن يكون في طوق بشر فسبحان الله رب العالمين. الذكر والحذف يدخل في هذا الموضوع ما حذف وأصله أن يذكر، كحذف حرف أو فعل أو اسم مما أصله أن يذكر. كما يدخل فيه في ما ذكر في موطن، ولم يذكر في موطن آخر يبدو شبيهاً به لأن الموطن أقتضاء. القسم الأول: قد يحذف في التعبير القرآن لفظ أو أكثر حسبما يقتضيه السياق، فقد يحذف حرفاً أو يذكره أو يجتزئ بالحركة للدلالة على المحذوف، كل ذلك لغرض بلاغي تلحظ فيه غاية الفن والجمال، فمن ذلك قوله تعالى: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: 97] . وهذه الآية قالها ربنا في السَّدِّ الذي صنعه ذو القرنين من قطع الحديد والنحاس المُذاب. قال تعالى على لسان ذي القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: 96-97] . قال: (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي: يصعدوا عليه، فحذف التاء، والأصل: (استطاعوا) ، ثم قال: (وما استطاعوا له نقباً) بإبقاء التاء. وذلك أنه لما كان صعود السد الذي هو سبيكة من قطع الحديد والنحاس أيسرُ من نَقْبهِ وأخف عملاً، خَفَّفَ الفعل للعمل الخفيف، فحذف التاء، فقال: (فما اسطاعوا أن يظهروه) وطَوَّلَ الفعلَ فجاء بأطول بناء له للعمل الثقيل الطويل فقال: (وما استطاعوا له نقباً) فحذف التاء في الصعود وجاء بها في النقب. ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] . وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] . فَحُذفت النون من (أنّا) في آية آل عمران، وثَبتت في آية المائدة فقيل: (أننا) وسبب ذلك والله أعلم "أن آية المائدة لما ورد فيها من التفصيل فيما يجب الإيمان به وذلك قوله: (أن آمنوا بي وبرسولي) فجاء على أتم عبارة في المطلوب وأوفاها ناسب ذلك (أننا) على أوفى الحالين وهو الورود على الأصل. ولما لم يقع إفصاحٌ بهذا التفصيل في سورة آل عمران حين قال تعالى: (قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله) ، فلم يقع هنا: (وبرسوله) إيجازاً للعلم به وشهادة السياق ناسب هذه الإيجازُ الإيجازَ، كما ناسب الإتمامُ فيى آية المائدة الإتمامَ، فقيل هنا: (واشهد بأنَّا مسلمون) وجاء كُلٌّ على ما يجب، ولو قدّر ورود العكس لما ناسب". يضاف إلى ذلك أنه قال في المائدة: (وإذا أوحيت إلى الحواريين) أي، أن الله هو الذي أوحى إليهم وثَبَّتهم، فناسب ذلك زيادة النون تأكيداً لأن النون قد تأتي في مقام التأكيد. ولم يَرِدْ مثلُ ذلك في آية آل عمران فناسب كُلٌّ في موضعه. ومن ذلك قوله تعالى في سورة النحل: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] . وقوله في سورة النمل: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: 70] . فحذف نون (تكن) في آية النحل، وأبقاها في آية النمل. وذلك أن السياق مختلف في السورتين. فالآية الأولى نزلت حين مَثَّلَ المشركون بالمسلمين يوم أُحد: "بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مُثِّلَ به فرآه مبقور البطن فقال: "أما والذي أحلف به لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك". فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} فَكفَّرَ عن يمينهِ وكَفَّ عما أراده" فقد أوصاه ربنا بالصبر ثم نهاه أن يكون في ضيق من مكرهم فقال له: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [لنحل: 127] أي: لا يكن في صدرك ضيق مهما قلَّ. فحذف النون من الفعل إشارة إلى ضرورة حذف الضيق من النفس أصلاً. وهذا تَطييبٌ مناسب لضخامة الأمر وبالغِ الحزن، وتخفيف لأمر الحدث وتهوينه على المخاطب، فخفف الفعل بالحذف إشارةً إلى تخفيف الأمر وتهوينه على النفس. أما الآية الثانية فهي في سياق المحاجّة في المعاد، وهو مما لا يحتاج إلى مثل هذا التصبير قال تعالى: {وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هاذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين * وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: 67-70] . جاء في (البرهان) للكرماني: إنما خُصَّتْ سورة النحل بحذف النون موافقة لما قبلها وهو قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] . والثاني: "أن هذه الآية نزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين قُتل عمه حمزة ومُثِّلَ به فقال عليه الصلاة والسلام: "لأَفعلنَّ بهم ولأصنعن" فأنزل الله تعالى: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 126-127] ليكون ذلك مبالغة في التسلّي، وجاء في النمل على القياس لأن الحزن هناك دون الحزن هنا والله أعلم". ونحو هذا قوله تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [هود: 17] . وقوله: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} [السجدة: 23] . فقال في الآية الأولى: (فلا تك في مرية) بحذف نون تكن. وقال في الثانية: (فلا تكن في مرية) بذكرها وذلك أن السياق في الآيتين مختلف، فقد قال في الآية الأولى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً أولائك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [هود: 17] . وقال في الثانية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 23-24] . فإن الآية الأولى تَثبيتٌ للرسول ونَهيٌ له عن الريب والمِرْية، فقد بدأ الكلام بقوله: إنه كان على بينة من ربه، ثم يتلوه شاهد منه، ثم قبله كتاب موسى، وختمه بقوله: (إنه الحقُّ من ربك) فناسب ذلك أن يقال: (فلا تك في مرية منه) بخلاف الآية الأخرى فإنها ليس فيها مثل هذه الدواعي كما تَرى. ثم إن الكلام في الآية الأولى على القرآن الكريم وعلى قوم الرسول وتهديد من يكفر به، والكلام في الثانية على التوراة وبني إسرائيل. فناسب الحذف من الآية الأولى دون الثانية تثبيتاً للرسول ونهياً له عن الريبة فيه، وذلك أنه طلب منه أن لا يكون في شيء من المرية أصلاً. فلما كان الكلام في القرآن وفي قومه ناسب الحذف ها هنا دون الثانية. وجاء في (البرهان) للزركشي أن حذف النون في نحو هذا قد يكون "تنبيهاً على صغر مبدأ الشيء وحقارته، وأن منه ينشأ ويزيد إلى ما لا يحيط بعلمه غير الله مثل: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} [القيامة: 37] حذف النون تنبيهاً على مبتدأ الإنسان وصِغَرِ قَدْرِهِ بحسب ما يدرك هو من نفسه ثم يترقى في أطوار التكوين: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [يس: 77] فهو حين كان نطفة كان ناقص الكون.. وكذلك {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} [النساء: 40] حذفت النون تنبيهاً على أنها وإن كانت صغيرةَ المقدار حقيرة في الاعتبار فإن إليه ترتيبها وتضاعيفها، ومثلها: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] ، وكذلك: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ} [غافر: 50] جاءتهم الرسل من أقرب شيء في البيان الذي أقل مبدأ فيه، هو الحس إلى العقل إلى الذكر، ورقَّوهم من أخفض رتبة وهي الجهل إلى أرفع درجة في العلم وهي اليقين، وهذا بخلاف قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 105] فإن كون تلاوة الآيات قد أكمل كونه وتَمَّ. وكذلك: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97] هذا قد تم تكوينه ... وكذلك {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} [غافر: 85] انتفى عن إيمانهم مبدأ الانتفاع وأقله ما انتفى أصله". ومن ذلك ذِكْرُ ياء المتكلم أو حذفها والاجتزاء بالكسرة، وإن لم تكن ياء المتكلم من الحروف، وذلك نحو قوله تعالى: {قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] . وقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 55] . فقد حذف الياء واجتزأ بالكسرة في الأعراف فقال: (ثم كيدون) وذكرها في هود فقال: (فكيدوني) . ويمكن هنا أن نذكر أصلاً عاماً في ذكر الياء وحذفها وهو: أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء يختلف عن ذكر الياء في كل ما ورد في القرآن الكريم عدا خواتم الآي والنداء، ولها في كل ذلك خط عام إضافة إلى السياق الخاص، ففي كل موطن ذكر الياء فيه يكون المقام مقامَ إطالة وتفصيل في الكلام، بخلاف الاجتزاء بالكسرة فإن فيه اجتزاء في الكلام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الياء تتردد مُظهرةً في المواطن التي تذكر فيها الياء أكثر من المواطن التي يجتزأ بالكسرة عنها. وقد تتردد الكلمة ذات الياء المظهرة في السورة أكثر من تردد الكلمة ذات الياء المجتزأة في موطنها. هذا علاوة على السياق لخاص الذي يقتضي الذكر والحذف كما سنبين، ونعود إلى الآيتين اللتين ذكرناهما، فإن المقام في هود مقام تحدٍّ كبير ومواجهة، فأظهر نفسه زيادة في التحدي، إذ المتحدي وطالب المواجهة لا بد أن يظهر نفسه وليس الأمر كذلك في الأعراف فإنه ليس فيها هذا التحدي، يدل على ذلك سياق كل من الآيتين فقد قال في الأعراف: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 194-195] . وأما هود فالمقام فيها مختلف فقد دعاهم هود إلى عبادة الله وحده وترك ما عداه فقال لهم: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود: 50] ونصح لهم بالتوبة والاستغفار ليرضى عنهم خالقهم ويزيدهم من فضله فرفضوا قوله وردّوا عليه قائلين: {ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 53-55] . فهم لم يكتفوا بردِّ دعوتهِ وعدم التصديق به، بل قالوا له: إن بعض آلهتهم اعتراه بسوء مما جعله يتحداهم ويتحدى آلهتهم، فأشهد الله وأشهدهم على البراءة من آلهتهم، ثم دعاهم جميعاً إلى كيدهم له ثم لا يمهلونه إن استطاعوا، فزاد كلمة: (جميعاً) زيادة في التحدي رداً على قولهم: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} [هود: 54] . إنهم قالوا له: إن أحد آلهتهم اعتراه بسوء، فتحدى الجميع ثم أظهر نفسه، فذكر الياء زيدة في التحدي. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إن التحدي والمواجهة في هود أطول وأكثر مما في الأعراف (انظر الآيات 50-58) فذكر الياء في هود لأن الياء أطول من الكسرة. وحذف الضمير واجتزأ بالكسرة في الأعراف، فناسب بين طول الكلمة والسياق، فجعل الكلمة الطويلة للسياق الطويل والكلمة المتجزأة للسياق المجتزأ. ومن ناحية أخرى نرى أنه قد تردد ذكر ياء الضمير في هود في هذا الموطن مرات عديدة وليس الأمر كذلك في الأعراف فقد قال: {إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء.. *.. فَكِيدُونِي جَمِيعاً.. * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ.. إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ.. إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 54-57] . وليس الأمر كذلك في الأعراف فإنه لم يظهر الياء في السياق إلا مرة واحدة وهو قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله} [الأعراف: 196] . فناسب ذكر الياء ما ورد في هود: وناسب الاجتزاء بالكسرة سياق ما ورد في الأعراف. ثم انظر من ناحية أخرى كيف قال في آية الأعراف: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] فأدخل (ثم) على الكيد والفاء على الإنظار. وفي هود بالعكس أدخل الفاء على الكيد و (ثم) على الإنظار. والفاء تفيد التعقيب أما (ثم) فتفيد التراخي. فقد طلب منهم في الأعراف عدم المهلة في الإنظار. وعدم الإنظار هو المناسب لسياق الأعراف، فقد ذكر في هذه السورة تعجيل العقوبات لمستحقيها في الدنيا. بخلاف سورة هود فإن سياقها في الإمهال في إيقاع العقوبات. فقد بدأت الأعراف بقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] فذكر حلول العقوبات وإهلاك الأمم. في حين قال: في هود: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] فذكر التمتع والإمهال. وقال في هود أيضاً: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] فذكر تأخير العذاب إلى أجل وهو الإمهال. وقال في الأعراف: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] فقال: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأعراف: 95] بعد قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} [الأعراف: 95] ، وهو نظير قوله: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] . فالاستدراج المذكور في الآية وهو قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} [الأعراف: 95] نظير الكيد في قوله: {ثُمَّ كِيدُونِ} [الأعراف: 195] معنى واستعمالاً فكلاهما بثم وكلاهما إمهال. وقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأعراف: 95] نظير قوله: {فَلاَ تُنظِرُونِ} فكلاهما بالفاء وكلاهما عدم إنظار. فانظر إلى التناظر الجميل بين الآيتين. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} [الأعراف: 95] {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} . {ثُمَّ كِيدُونِ} [الأعراف: 95] {فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 95] . ثم انظر إلى القصص في السورتين ترَ الفرق واضحاً بين السياقين. فانظر إلى قصة نوح في الأعراف فهي موجزة، وظاهرٌ فيها عدم الإمهال فقد قال لهم نبيهم: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 63] وبعدها قال الله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} [الأعراف: 64] . فجاء بالفاء دالاً على سرعة إنزال العقوبة وعدم الإنظار {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ} [الأعراف: 64] . أما في هود فالكلام طويل وهناك مهلة حتى استبطؤوا ما وعدهم به: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 32-33] . وكذلك قصة عاد فقد قال في خاتمتها في الأعراف: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72] . وقال في هود: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِي هاذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 58-60] . فانظر كيف عجّل العقوبة لهم في الأعراف فجاء بالفاء الدالة على عدم الإمهال، بخلاف ما في سورة هود. وكذا قصة صالح فقد قال في نهايتها في الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78] . وقال في هود: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز * وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 66-67] . فذكر إنزال العقوبة بالفاء في الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 78] وقال في هود: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] . وهكذا، فأنت ترى أن سياق الأعراف هو عدم المهلة في الإنظار، بخلاف السياق في سورة هود. ولذا كان الأليق أن يأتي بالفاء مع عدم الإنظار في الأعراف فيقول: (فلا تنظرون) وأن يأتي بـ (ثم) معه في هود فيقول: (ثم لا تنظرون) . وهنالك أمر فني آخر، وهو أنه حيث اجتمعت ثم والفاء في الأعراف قدم (ثم) على الفاء، ومنها الآية المذكورة وفي هود بالعكس. فقد قال في الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الأعراف: 11] . وقال: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] . وقال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا} [الأعراف: 103] . وقال: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] . وقال في هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 55] . وقال: {فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 61] . فما أجمل هذا التناسق وما أجلَّ هذا الكلام! ومن ذلك: أي ذِكْرُ ياءِ المتكلم أو حذفها قوله تعالى: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هاذا رَشَداً} [الكهف: 24] . وقوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} [القصص: 22] . فإنه حذف ياء الضمير واجتزأ بالكسرة في (الكهف) فقال: (يهدين) ، وأَبرزَ الضميرَ في القصص فقال: (يهديني) وذلك أن المقام يستدعي إبراز ياء المتكلم، لأنه مقام التجاءٍ وخوفٍ وخشية، والخوف يستدعي أن يلصق الإنسان بمن يحميه ويلقي بنفسه كلها عليه، ويستدعي أن يلتجئ إلى من ينصره ويأخذ بيده بكل أحاسيسه ومشاعره التجاءً كاملاً، وهذا هو الموقف الأول، فقد خرج موسى خائفاً يترقب فاراً من بطش فرعون، فالتجأ إلى ربه التجاء الخائف الوَجِلِ طالباً منه أن يهديه سواء السبيل، ولذا أظهر الياء دلالة على كمال الالتجاء وإلقاء النفس كلها أمام خالقه. بخلاف ما في الكهف فإنه ليس المقام كذلك فإنه قال: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هاذا رَشَداً} [الكهف: 23-24] . فالفرق كبير بين المقامين، فمقام موسى في القصص يستدعي إلقاء النفس كلها أمام ربه وخالقه. ولما كان الخائف الضعيف يطلب أولاً من يحميه ويلتجئ إليه قدم (الرب) على فعل الهداية لأنه هو الملجأ فقال: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} [القصص: 22] . بخلاف ما في الكهف فإن المقام فيها مقام ذكر القول الحق فيما اختلفت فيه الأقوال، وبيان الأمر الصحيح فيما تباينت فيه الآراء، وهذا أمر يحتاج إلى الهداية والرشد، فقدم الهداية وهذا من دقيق الاستعمال. ثم لننظر من ناحية أخرى فإن ياء الضمير تكرر في (القصص) أكثر مما في الكهف فناسب ذكر الياء في القصص. ثم إن لفظ الهداية تكرر في القصص اثنتي عشرة مرة. أما في الكهف فقد تردد خمس مرات، فزاد اللفظ في القصص لما زاد تردده. وهذا الأمر مراعى في القرآن الكريم كما ذكرت. ألا ترى كيف قال الله تعالى في سورة الأعراف: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي} [الأعراف: 178] بإثبات الياء، في حين قال في سورة الإسراء: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} [الإسراء: 97] ، وفي سورة الكهف: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} [الكهف: 17] . بالاجتزاء بالكسرة فيهما، وذلك أن لفظ الهداية تردد في سورة الأعراف أكثر مما تردد في سورتي الإسراء والكهف مجتمعتين. فقد ورد في الأعراف سبع عشرة مرة، في حين ورد في الإسراء ثماني مرات وفي الكهف ست مرات، فلما زادت ألفاظ الهداية في سورة الأعراف على ما في السورتين زاد لفظ: (المهتدي) على ما في السورتين. وقال: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة} [الإسراء: 62] بالاجتزاء بالكسرة. وقال: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10] ، فذكر الياء. وذلك أنه تردد فعل التأخير مرتين في سورة (المنافقون) في حين ذكر مرة واحدة في سورة (الإسراء) فزاد في موطن الزيادة وحُذِفَ من موطن الاجتزاء. ونعود إلى آيتي الهداية في القصص والكهف، فنقول علاوة على ما مر: إن مقام التبسط والتطويل في (القصص) في قصة موسى أكثر بكثير مما ورد في (الكهف) ، فإن المقام في (الكهف) مقام إيجاز جاء عرضاً في أثناء قصة أصحاب الكهف. فلما طوَّل الكلام وتَبسَّط طوّل الفعل بذكر الضمير في (القصص) ، ولما اجتزأ القول في (الكهف) اجتزأ بذكر الكسرة عن الضمير، وهو نظير ما سبق ذكره في الآيتين السابقتين. ومما حسّن الحذف في الكهف علاوة على ما ذكرنا حذفه الياء من لفظ الهداية في موضع آخر من السورة، واجتزاؤه بالكسرة، وذلك هو قوله تعالى: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17] هذا علاوة على حذف الياء في مواطن أخرى متعددة في هذه السورة، وذلك نحو قوله تعالى: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39] بحذف الياء من (ترني) . وقوله: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 40] بحذف الياء من (يؤتيني) . وقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [لكهف: 66] بحذف الياء من (تعلمني) . وقوله: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] بحذف الياء من (نبغي) . فانظر كيف تعاضد المعنى والسياق والألفاظ والإحصاء على وضع كل لفظة في موضعها. ومن هذا النوع من الذكر والحذف قوله تعالى: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني} [البقرة: 150] . وقوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون} [المائدة: 3] . وقوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} [المائدة: 44] . فذكر الياء في (اخشوني) في آية البقرة، وحذفها واجتزأ بالكسرة في آيتي المائدة، وذلك أن السياق في البقرة يستدعي تحذير المسلمين من خشية الناس وعدم الالتفات إلى أراجيفهم، كما يستدعي توجيههم إلى مراقبة الله تعالى وخشيته أكثر بكثير مما في المواطنين الآخرين، وذلك أن السياق في البقرة في تبديل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في مكة، وقد أرجف اليهود والمنافقون بسبب هذا التغيير وأكثروا القول فيه، فاستدعى ذلك توجيه المسلمين إلى عدم الالتفات إلى أقوال أعداء الله أو خشيتهم، وإنما عليهم أن يخشوا الله وحده فأبرز الضمير العائد على الله فقال: (فلا تخشوهم واخشوني) . فقد بدأت الآيات بقوله: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] . إلى أن يقول: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 149-150] . في حين كان سياق الآية الثانية يختلف عن ذلك، فهو يدور على ذكر المحرمات من الأطعمة. قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} [المائدة: 3] ثم قال: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون} [المائدة: 3] فالكفار يائسون من محاربة الإسلام بعد أن أظهره الله وأعلى كلمته. فالمحاربة في الموقف الأول ومظنة خشية الناس أكبر، بخلاف آية المائدة التي أنزلت بعدما أظهر الله دينه. وكذا الأمر في الآية الأخرى وهي الآية 44 من سورة المائدة، فإنه ليس فيها ما يستدعي الخشية من الناس، وليس فها إرجاف ولا محاربة. قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} [المائدة: 44] . فانت ترى أن سياق آية البقرة وما فيها من خصومة وملاحَّة ومحاجَّة ومحاربة يستدعي جانباً كبيراً من الخشية، فأظهر الله نفسه طلباً لمراقبته وخشيته وعدم الاكتراث بأقوال المرفجين، بخلاف ما في الآيتين الأخريين. ثم انظر طول السيا وتكراره في سورة البقرة فقد بدأ بقوله: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] . وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} [البقرة: 143] . فذكر أن تغيير القبلة كبير عند الناس. ثم ذكر بعدها: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . ثم أخبر أن الذين أوتوا الكتاب لا يتبعون قبلة الرسول مهما جاءهم بالبينات فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] وهكذا. فأنت ترى أنه أطال القول ههنا، فكان المناسب أن يطيل بذكر الضيمر أيضاً وهو المناسب لإطالة السياق بخلاف ما في الآيتين الأخريين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنه أبرز الضمير (الياء) في سياق آية البقرة أكثر مما في المواطنين الآخرين من مثل قوله: (وأخشوني) : و (ولأتم نعمتي) (فاذكروني) (واشكروا لي) وغيرها. فناسب كل ذلك الياء في آية البقرة بخلاف آيتي المائدة. وهذا كما ترى نظير ما مر من ذكر الياء وحذفها آنفاً. وشبيه بهذا الذكر والحذف وليس منه قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام: 158] . وقوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 52-53] . وقوله: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 102-105] . فحذف الياء من (يأت) ، واجتزأ بالكسرة في آية هود دون الآيتين السابقتين. ولهذا الحذفِ سَببهُ. فقد ذكر الله في عدة مواطن من هود تَعجُّلَ الذين كفروا للعذاب. كما تردد الوعد بقرب نزوله فقد قال: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] . وقال قوم نوح: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32] . وقال صالح لقومه: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 64-65] . وقال في قوم لوط: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . وقال في موطن آخر: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] . فأنت ترى أنه تردد استعجال العذاب من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه تردد الوعد بقرب حلوله، فكان من المناسب الحذف من فعل الإتيان إشعاراً بقرب حلوله. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ذكر في سورة (هود) عقاب الأمم السابقة وهلاكهم، ثم ذكر أن يوم القيامة آتٍ وأنه سيحل فيه عقاب الكافرين كما حل عقاب الأمم السابقة، وإن هو إلا أجل معدود فيحل. فحذف الياء من فعل الإتيان للدلالة على سرعة الإتيان، وليس الأمر كذلك في الآيات الأخرى. هذا ومن ناحية أخرى أنه تردد ذكر الإتيان باشتقاقاته المختلفة في كل من (الأنعام) و (الأعراف) أربعاً وعشرين مرة وفي (هود) تردد ثلاث عشرة مرة، فلما كثر الفعل في سورتي الأنعام والأعراف كثّر البناء، ولمّا قلّ تردده في هود قلل من البناء. وهو نظير ما في (المتهد) و (المتهدي) وغيرها مما سبق ذكره. ويمكن أن يضاف شيء آخر: وهو أنه لما منع الكلام في آية هود إلا بإذنه، حذف من الكلام فحذف الياء من (يأتي) وحذف التاء من فعل التكلم فقال: (تَكلَّمُ) ولم يقل: (تتكلم) إشعاراً بقلة الكلام في ذلك الوقت. وهكذا مما يدعو إلى العجب. ومن بديع الذكر والحذف قوله تعالى: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] . فقال في أصحاب الجنة: (ما وعدنا ربنا حقاً) وقال في الكافرين: (ما عد ربكم حقاً) ولم قل: (ما وعدكم) وذلك أن الكفارين كانوا منكرين لأصل الوعد والوعيد، وليسوا منكرين لما وعدهم به فقط، فكأنه قال: هل وجدتم وعد ربكم حقاً؟ بخلاف المؤمنين فإنهم كانوا ينتظرون ما وعدهم ربهم من الخير والكرامة فقال: (وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً) . جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: هَلاَّ قيل: ما وعدكم ربكم كما قيل: ما وعدنا ربنا؟ قلت: حذف ذلك تخفيفاً لدلالة (وعدنا) عليه. ولقائلٍ أن يقول: أطلق ليتناول كلَّ ما وعدَ اللهُ من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة، لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم، وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم، فأطلق لذلك". ومن ذلك قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 174-175] . وقوله: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 178-179] فذكر الضمير في (أبصرهم) الأولى وحذفه من الثانية فقال: (وأبصر) . قالوا: وسبب ذلك أن الأولى كانت بسبب نزول العذاب بهم يوم بدر وما حلّ بهم من قتل وأسر، فَلما تضمنت المعركة ما تضمنت من قتل صناديد قريش وأسرهم وشفاء صدور المؤمنين قال: (وأبصرهم) . وأما الثانية فكانت في يوم فتح مكة وليس فيه قتل ولا أسر وإنما هو هداية ورحمة، ثم إن فتح مكة كان فتحاً لجزيرة العرب ولذا أطلق فقال: (وأبصر) لأنه ليس مختصاً بأهل مكة كما كان في بدر. فلما كانت وقعة بدر خاصة بأهل مكة وقد حَلَّ عليهم العذاب وحدهم قال: (أبصرهم) ، ولما كان الفتح ليس فيه قتل جماعة ولا أسر وكان أثره عاماً أطلق فقال: (وأبصر) . جاء في (البرهان) في هاتين الآيتين: "ومن فوائد قوله تعالى في الأوليين: (وأبصرهم) وفي هاتين (فأبصر) أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلاً وأسراً وهزيمة ورعباً. فلما تضمنت التشفي بهم قيل له: (أبصرهم) . وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم، فلم يكن وفقاً للتشفي بهم بل كان في استسلامهم لعينه قرة ولقلبه مَسَرَّة فقيل له: (أبصر) . ومن بديع الذكر والحذف. قوله تعالى: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} [الأعراف: 101] . وقوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} [يونس: 74] . فحذفه (به) من آية الأعراف، بخلاف آية يونس، وذلك أن الإطلاق هو سياق الأعراف، والتخصيص هو سياق سورة يونس، فقد جاء قبل آية الأعراف قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرىءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بركات مِّنَ السمآء والأرض ولاكن كَذَّبُواْ فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . في حين أن السياق في يونس سياق الذكر لا الإطلاق، فقد جاء قبل الآية المذكورة قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] . وهو نظير الذكر في الآية التي بعدها (بما كذبوا به) . فانظر كيف قال في الأعراف: (ولكن كذبوا فأخذناهم) وقال: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) فلم يذكر بما كذبوا. وانظر كيف قال في يونس: (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) ثم قال بعدها: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) فذكر بماذا كذبوا في الموطنين، فاستدعى في كل سياق ما ورد من ذِكْر وحذف. ثم انظر السياق بعد كل من الآيتين فقد قال في سورة الأعراف: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} [الأعراف: 103] . وقال في سورة يونس: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بآياتنا} [الآية: 75] . فذكر في الأعراف أنه بعث موسى. وفي يونس ذكر أنه بعث موسى وهرون فزاد ذكر (هرون) . فانظر كيف لما زاد (به) في الآية الرابعة والسبعين وزاد (بآياتنا) في الآية الثالثة والسبعين زاد (هرون) في السياق. فأية دقة هذه؟ وأي فن هذا أيها الناس؟! جاء في (البرهان) للكرماني أنه ذكر في الأعراف: (بما كذبوا) "لأن أول القصة في هذه السورة: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرىءَامَنُواْ} [الأعراف: 96] . وفي هذه الآية: {ولاكن كَذَّبُواْ} [الأعراف: 96] وليس بعدها الباء فختم القصة بمثل ما بدأ به. وكذلك في يونس وافق ما قبله وهو: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ} [يونس: 73] (كذبوا بآياتنا) فختم بمثل ذلك فقال: (بما كذبوا به) . ومن طريف الذكر والحذف في القرآن الكريم ذكر الاسم الموصول وحذفه، فقد ذكر القرآن الكريم الاسم الموصول في مواطن، وحذفه من مواطن أخرى، فقد قال مرة: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [طه: 6] بتكرير الاسم الموصول. وقال مرة أخرى: {لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} [البقرة: 116] فلم يكرره. وقال مرى أخرى: {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} [العنكبوت: 52] . وقال مرة: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الحشر: 1] وقال مرة أخرى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الحديد: 1] . وهذا يقتضينا المساءلة عن ذكر سَببِ ذِكْرِ ما ذكرَ وحذفِ ما حذف، إذ من المعلوم أنه لا بد في الكلام البليغ من سبب للذكر والحذف، وخصوصاً في القرآن الكريم الذي هو أعلى الكلام. لقد ذكر بعضهم أنه تأمل ما في التنزيل العزيز من قوله تعالى: (من في السماوات والأرض) و: (من في السماوات ومن في الأرض) وقوله: (ما في السماوات والأرض) وقوله: (ما في السماوات وما في الأرض) فوجد "أنه حيث قصد التنصيص على الأفراد ذكر الموصول والظرف، ألا ترى إلى المقصود في سورة يونس من نَفْيِ الشركاء الذين اتخذوهم في الأرض، وإلى المقصود في آية الكرسي من إحاطة الملك. وحيث قُصد أمر آخر لم يذكر الموصول إلا مرة واحدة إشارة إلى قصد الجنس وللاهتمام بما هو المقصود في تلك الآية. ألا ترى في سورة الرحمن المقصود منها عُلُوُّ قدرةِ الله تعالى وعلمه وشأنه وكونه مسؤولاً ولم يقصد السائلين". وهذا صحيح فإنه إذا قصد التنصيص على الأفراد ذكر الموصول وذلك نحو قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68] فهنا قصد التنصيص على كل فرد من أفراد السماوات والأرض على وجه التخصيص فكرر (من) لذلك، ونحوه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [النمل: 87] . غير أن هذا واحد من الأسباب التي تدعو إلى تكرار الاسم الموصول وليس هو السبب الوحيد. وهناك أسباب أخرى للتكرار منها: أنه إذا كان الموطن دالاً على التفصيل والإحاطة كرر الاسم الموصول، بخلاف ما إذا كان الكلام مجملاً غير مفصل، وذلك نحو قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 6-7] . فكرر (ما) قائلاً: (يعلم ما في السماوات وما في الأرض) وذلك لأن الموطن مواطن إحاطة وتفصيل، بخلاف قوله تعالى: {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض والذين آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولائك هُمُ الخاسرون} [العنكبوت: 52] فلم يُكَرِّرْ (ما) . وأنت تحس الفرق واضحاً بين الموطنين والسياقين، فإن في آية المجادلة من ذكر لِسَعةِ عِلْمِ الله وشموله وإحاطته بالجزئيات والتفصيلات ما ليس في آية العنكبوت، فقد ذكر في آية المجادلة أنه لا ينَدُّ عنه شيء ولا يغيب عنه مجلس قَلَّ أو كثر، ثم ينبئ الله أهله بكل ما قالوا وما تناجوا به، أحصاه الله ونسوه وهو بكل شيء عليم. فأنت ترى في آية المجادلة من التفصيل ما ليس في آية العنكبوت. فلما فصّل في آية المجادلة أعاد ذكر (ما) ولما أَجملَ في العنكبوت أجمل في ذكر الموصول فلم يُعِدْ ذكره. ومن ذلك قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6] فكرر (ما) لأن الموطن موطن شمول وإحاطة وتفصيل، فقد ذكر أن له (ما في السماوات) ، و (ما في الأرض) و (ما بينهما) و (ما تحت الثرى) بخلاف قوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَلَهُ الدين وَاصِباً أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} [النحل: 52] فأنت ترى الفرق واضحاً بين السياقين في التفصيل والإحاطة، فكرر في موطن التفصيل وأجمل في موطن الإجمال. ونحوه قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرحيم الغفور} [سبأ: 1-2] . فالتفصيل في هاتين الآيتين واضح، ولذا كرر الاسم الموصول بخلاف قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . ونحو ذلك قوله تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15] فلم يكرر الموصول في حين قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} [الحج: 18] . فكرر (من) ههنا بخلاف الآية الأولى. ومقام التفصيل واضح في آية الحج، فقد ذكر الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثيراً من الناس بخلاف آية الرعد. ففي مقام التفصيل كرر وفصّل وفي مقام الإجمال أجمل وأوجز. وقد يكون إعادة ذكر الموصول لأمر آخر وهو ذكر أمر يتعلق بصلته، فمن الملاحظ في القرآن الكريم أنه إذا كرر الاسم الموصول فقال: (ما في السماوات وما في الأرض) فإنه يريدُ أن يَخُصَّ أهلَ الأرض بذكرِ أمرٍ من الأمور، وإذا لم يكرر (ما) فإنه لا يريد أن يذكرهم بأمر خاص بهم. ويتضح هذا من آيات التسبيح خاصة نحو قوله تعالى: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [الحديد: 1] و {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الحشر: 1] . فحيث كرر (ما) في آيات التسبيح فإنه ذكر أهل الأرض بعدها، وحيث أجمل لم يذكرهم. وإليك أمثلة على ذلك. قال تعالى في (سورة الحديد) : {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم * لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الحديد: 1-4] . وقال في (سورة الحشر) {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم * هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} [الحشر: 1-2] . فأنت ترى أنه في آيات الحديد لم يعقب التسبيح بالكلام على أهل الأرض، بخلاف آية الحشر فقد قال بعدها: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ} [الحشر: 2] ويستمر في ذكر أحوالهم. ويدلك على ذلك أنه في آخر سورة الحشر لم يكرر (ما) حين لم يذكر شيئاً عن أهل الأرض بعد الآية، فقد قال: {هُوَ الله الخالق البارىء المصور لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} [الحشر: 24] . فكرر في أول السورة وأجمل في آخرها لما ذكرناه والله أعلم. ونحوه ما جاء في سورة الصف، قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم * ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 1-4] . ويمضي في الكلام على أهل الأرض فكرر (ما) لأنه خَصَّ هل الأرض بعدها بالذكر، ونحوه قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم * هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم} [الجمعة: 1-3] . ويمضي في الكلام على أهل الأرض. ونحوه قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 1-2] . ويمضي في الكلام على أهل الأرض. فكل موطن كرر فيه (ما) أعقبه بالكلام على أهل الأرض. في حين قال في سورة النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض ... * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ... * يُقَلِّبُ الله الليل والنهار ... } [النور: 41-44] . فلم يكرر (من) إذ لم يعقب التسبيح بالكلام على أهل الأرض. ونكتفي بهذه النماذج وإلاَّ فإن الأمر يطول ويطول. ثم نأتي إلى القسم الثاني: وهو ما ذكر في موطن ولم يذكر في موطن آخر يبدو شبيهاً به، وليس عدم ذكره من باب الحذف لنرى كيف يكون الكلام المعجز، لنرى كيف تكون الصياغة العجيبة في فن القول والتعبير. لنرى الكلام الذي قالت فيه الجن حين سمعته: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} [الجن: 1-2] . القسم الثاني: وهو أن يذكر في موطن ما لا يذكره في موطن آخر يبدو شبيهاً به، وليس عدم ذكره من باب الحذف، وإنما هو قد يزيد لفظاً أو أكثر مراعاة لما يقتضيه السياق أو يستدعيه المقام. فقد يزيد حرفاً في مكان ولا يذكره في مكان آخر حسبما يقتضيه موطن الكلام. فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إلاه غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] . وقوله: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} [الأنعام: 47] . فأنت ترى أنه قال مرة: (أرأيتم) ومرة أخرى: (أرأيتكم) بزيادة الكاف. وهذه الزيادة إنما تكون لغرض توكيد الخطاب، وذلك كأن يكون المُخاطَبُ غافلاً أو يكون الأمر يوجب زيادة التنبيه. وإنما فرق بين الخطابين ههنا لسببين والله أعلم: الأول: أنه قال في الآية الأولى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} [الأنعام: 46] فاحتاجوا بعد إلى زيادة في التنبيه والخطاب، وذلك أنّ فاقد السمع والبصر والمختوم على قلبه به حاجة إلى زيدة خطاب وتنبيه أكثر من السَّوِيّ فقال فيما بعد: (أرأيتكم) . والسبب الثاني: أن الآية الثانية أشد من الآية الأولى تنكيلاً وعذاباً، فإن فيها عذاب الله الذي هو أشد من أخذ السمع والبصر، فاحتاج الموقف إلى تنبيه أكثر وزيادة حذر وحيطة فجاء بكاف الخطاب. وقد تقول: ولِمَ قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} [يونس: 50] ولم يقل: (أرأيتكم) كما قال في الآية السابقة، أو كما قال في آية أخرى من سورة الأنعام فقد قال: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمُ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صادقين} [الأنعام: 40] والآيات متشابهة والموقف واحد؟ والحقيقة أن الموقف مختلف والسياق غير متفق. فإنه لا ينبغي أن ينظر إلى الآيات مجردة، بل تؤخذ في مواطنها وسياقها، وهكذا ينبغي أن ينظر إلى كل نص أدبي، فإن اللغة ليست جملاً مفردة بل هي مواقف ومواطن، وقد تصلح جملة في موطن ولا تصلح في موطن آخر. وإليك إيضاح الفرق بين الآيتين: قال تعالى في سورة الأنعام: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمُ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صادقين} [الأنعام: 39-40] . فأنت ترى أنه وصف الذين كذبوا بآيات الله بالصمم والبكم وأنهم في الظلمات فاحتاجوا إلى زيادة تنبيه وخطاب ليسمعوا وليَعُوا. وهذا شبيه بالموقف الذي سبق أن ذكرناه آنفاً في قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} [الأنعام: 46] بخلاف سورة يونس التي ليس فيها هذا الأمر. جاء في (البرهان) : "وأما أرأيتك فقد وقعت هذه اللفظة في سورة الأنعام في موضعين وغيرها وليس لها في العربية نظير، لأنه جمع فيها بين علامتي خطاب وهما التاء والكاف. والتاء اسم بخلاف الكاف، فإنها عند البصريين حرف يفيد الخطاب، ولجمع بينهما يدل على أن ذلك تنبيهاً (كذا) على مبناها عليه من مرتبة وهو ذكر الاستبعاد بالهلاك، وليس فيما سواها ما يدل على ذلك فاكتفى بخطاب واحد. قال أبو جعفر بين الزبير: "الإتيان بأداة الخطاب بعد الضمير المفيد لذلك تأكيد باستحكام غفلته، كما تحرك النائم باليد والمفرط الغفلة باليد واللسان، ولهذا حذفت الكاف في آية يونس [50] لأنه لم يتقدمها قبلها ذكر صم ولا بكم يوجب تأكيد الخطاب، وقد تقدم قبلها قوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} [يونس: 31] . إلى ما بعدهن فحصل تحريكهم وتنبيههم بما لم يبق بعد إلاَّ التذكير بعذابهم" انتهى. ومثل هذا الذكر والحذف قوله تعالى: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [آل عمر ان: 65-66] . وقوله: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَا أَنْتُمْ هاؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء: 107-109] . فذكر (ها) التنبيه قبل الضمير وقبل اسم الإشارة في آية آل عمران: (ها أنتم هؤلاء) لأنه أراد أن يُقَرِّعهم ويزيد في تنبيههم ولومهم لأنهم جادلوا بالباطل وهم يعلمون، فكرر التنبيه مرة قبل الضمير ومرة قبل اسم الإشارة فقال: (ها أنتم هؤلاء حاججتم) ، وكذلك في آية النساء فقد كرر تنبيههم ولومهم ليتعظوا فلا يقفوا مثل هذا الموقف وأنت ترى أن الموقف يتطلب الزيادة في تنبيههم ووعظهم، بخلاف قوله تعالى مثلاً: (ها أنتم أولاء تحبونهم) فإن الموقف لا يحتاج إلى زيادة في التنبيه واللوم، فإنه خطاب للمؤمنين. قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 118-119] . فأنت ترى أن الموقف مختلف عما في الآيتين السابقتين، وهو ليس موقف تقريع ولوم كما كان ثَمّ. وقد لا يحتاج الموقف إلى التنبيه فلا يذكره، وذلك نحو قوله تعالى لى لسان موسى عليه السلام مخاطباً ربه: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى * قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 83-84] . فلم يأت بالتنبيه لأنهم غير حاضرين. فأنت ترى أن التنبيه أتى به في المكان المناسب بالقدر الذي يحتاج إليه. فقد كرر أو لا يكرر أو لا يذكر التنبيه بحسب الحاجة إليه. ومن ذكر التنبيه وعدمه قوله تعالى: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] . وقوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . فلم يجئ بـ (ها) التنبيه في الموطنين في حين قال: {أَمَّنْ هاذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمان إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20-21] . فجاء بـ (ها) التنبيه. وسبب ذلك - والله أعلم - أن التحدي في الآيتين الأخيرتين أشد وأقوى، وهو واضح من السياق. فالآية الأولى خطاب للمؤمين. قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين * إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [آل عمران: 159-160] . وآية سورة المُلْك في الكلام على الكافرين وهو في سياق التخويف من قدرة الله وبطشه قال تعالى: {أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ * ... * أَمَّنْ هاذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمان إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 16-21] . فالسياق والجو مختلف في الآييتين، فالأولى مقام رحمة ومسح على جراح المؤمنين ومقام عفو ومغفرة بعد معركة أُحد. وأما الثانية فمقام ترهيب وإنذار وتخويف وتحذير فجاء بـ (ها) التنبيه زيادة في التحذير والتنبيه وهو ما يقتضيه المقام. وقد تقول: ولم قال في آية الكرسي: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ... } [القرة: 255] من دون تنبيه في حين قال: {أَمَّنْ هاذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمان ... * أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ... } [الملك: 20-21] فذكر التنبيه، والمقامان متشابهان؟ والحق أن المقامين مختلفان وليسا متشابهين، وذلك أن آيات سورة الملك في خطاب الكافرين - كما ذكرنا - وليس كذلك سياق آية الكرسي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن مقام آية الكرسي مقام شفاعة، ومقام آية الملك مقام نصر ورزق، ومقام الشفيع يختلف عن موقف الناصر. فقد قال في آية الكرسي: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ... } [البقرة: 255] والشفيع طالبُ حاجةٍ مُرْتَجٍ قضاءها عالم بأن الأمر بيد مَنْ هو أعلى منه، فهو مُتلطِّفٌ بسؤاله في حين قال في سورة الملك {أَمَّنْ هاذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمان ... * أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20-21] وهذا كما ترى موقف ندّ وليس موقف شفيع. فالناصر من دون الرحمن والرازق إن أمسك الرحمن رزقه لا يكون إلاّ ندّاً لله سبحانه، تعالى الله عن الند، ولا يمكن أن يكون هذا لغير الله. ولذا سأل رب العزة قائلاً: من هذا الناصر الرازق من دوني؟ فزاد التنبيه. هذا علاوة على ما في هذا من السخرية من إلهٍ لا يعرفُه ربُّ العالمين!! فأنت ترى أن السياق في آية الملك يقتضي زيادة التنبيه، بخلاف آية البقرة. فما أعظم هذا الكلام وأجله! ومن هذا الباب قوله تعالى في سورة الصافات على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} [الصافات: 85-87] . وقوله في سورة الشعراء على لسانه أيضاً: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 69-71] . فقال في الآية الأولى: (ماذا تعبدون) وقال في الثانية: (ما تعبدون) . وهناك فرق بين (ما) و (ماذا) في الاستفهام، فإن في (ماذا) قوة ومبالغة في الاستفهام ليست في (ما) ، ففي قولك: (ماذا فعلت؟) قوة ليست في (ما فعلت؟) ولعل ذلك يعود إلى زيادة حروفها، ويدل على ذلك الاستعمال القرآني ومن ذلك ما جاء في الآيتين اللتين ذكرناهما. فإنه إنما جاء في الآية الأولى بـ (ماذا) وفي الثانية بـ (ما) لأن الأولى في موقف تحدٍّ ظاهر ومجابهة قوية، بخلاف الثانية، يدلك على ذلك السياق. فإن المقام في الأولى ليس مقام استفهام وإنما هو مقام تقريع، ولذلك لم يجيبوه عن سؤاله بل مضى يقرعهم بقوله: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} [لصافات: 86] . وأما في الثانية فهو في مقام استفهام المحاجَّة إذ قال لهم: ما تبعدون؟ فأجابوه: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين. فسألهم: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72-73] . فأجابوه قائلين: {قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] . فأنت ترى أن المقام محاجّة بخلاف الآية الأولى فإنه مقام تحدٍّ وتقريع ومجابهة. ويوضح ذلك نهاية القصتين. ففي آية الشعراء قال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعرء: 75-77 - وما بعدها] . وأما في آية الصافات فانتهى السياق بتحطيم الأصنام وتحريقه بالنار. {فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين * ... . * قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم ... وما بعدها} [الصافات: 91-97] . فثمة فرق كبير بين النهايتين وبين السياقين. فجاء في مقام المجابهة وشدة التحدي بـ (ماذا) دون المقام الآخر الذي جاء فيه بـ (ما) . جاء في (درة التنزيل) في هاتين الآيتين: "للسائل أن يسأل عن زيادة (ذا) في قوله في الصافات (ماذا تعبدون) وإخلاء (ما) في الشعراء منها. والجواب أن يقال: إنَّ قوله (ما تعبدون) معناه: أي شيء تعبدون؟ وقوله: (ماذا تعبدون) في كلام العرب على وجهين: أحدها: أن تكون (ما) وحدها اسماً و (ذا) بمعنى الذي، والمعنى: ما الذي تعبدون. و (تعبدون) صلة لها. والآخر أن تكون (ما) مع (ذا) اسماً واحداً بمعنى: أي شيء. وهو في الحالتين أبلغ من (ما) وحدها إذا قيل: ما تفعل؟ و (ما تعبدون) في سورة الشعراء إخبار عن تنبيهه لهم، لأنهم أجروا مقاله مجرى مقال المستفهم، فأجابوه وقالوا: {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] فنبه ثانياً بقوله: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72] . وأما (ماذا تعبدون) ؟ في سورة الصافات فإنها تقريع، وهو حال بعد التنبيه. ولعلمهم بأنه يقصد توبيخهم وتبكيتهم لم يجيبوا كإجابتهم في الأول. ثم أضاف تبكيتاً إلى تكبيت ولم يستدع منه جواباً فقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} [الصافات: 86-87] . فلما قصد في الأول التنبيه كانت (ما) كافية. ولما بالغ وقرّع واستعمل اللفظ الأبلغ وهو (ماذا) التي إن جعلت (ذا) منها بمعنى (الذي) فهو أبلغ من (ما) وحدها. وإن جُعلا اسماً كانت أيضاً أبلغ وأوكد مما إذا خلت من (ذا) . ومن ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 66-67] . فَمدَّ (السبيل) في حين قال في الأية الرابعة من السورة نفسها: {والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الأحزاب: 4] لم يمدّه. وذلك أن الأولى في كلام أهل النار وهم يصطرخون فيها ويمدون أصواتهم بالبكاء، فجاء بالمدّ، وهو المناسب لمدِّ الصوتِ بالبكاء ورفعه، بخلاف الآية الثانية. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هاذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] . وقوله: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 33] . فقد زاد (أن) بعد (لمّا) في سورة العنكبوت بخلاف سورة هود والقصة واحدة، وذلك أن سياق القصة في العنكبوت يقتضي هذه الزيادة من عدة أوجه، بخلاف سياقها في هود. فإنه أفاض في ذكر القصة في سورة العنكبوت أكثر مما هو في هود، فقد ذكر فيها من صفات قوم لوط السيئة ما لم يذكره في هود فقد قال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 28-29] . ولم يزد في هود على أن قال: {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} [هود: 78] . ففصّل في عمل السيئات ما لم يفصله في هود. فلما كان المقام مقام إطالة وتفصيل في سورة العنكبوت ذكر (أنْ) لمناسبة سياق الإطالة والتفصيل بخلاف سورة هود. ومن ناحية أخرى أنَّ بَرمَ لوط بقومهِ وضِيقه بهم في سورة العنكبوت كان أظهرَ وأشد مما في سورة هود. كما يبدو أن ترقب لوط للخلاص من قومه في سياق العنكبوت كان أظهر مما في هود. يدل على ذلك عدة مواضع في القصة: منها قوله في سورة العنكبوت: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 33] . في حين قال في هود: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هاذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] . فزاد في آية العنكبوت قوله: {وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ ... } [العنكبوت: 33] . ومنها دعاؤه ربه أن ينصره على قومه بعدما كذبوه وتَعجَّلُوا العذابَ قائلين: {ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [العنكبوت: 29] فقال: {قَالَ رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين} [العنكبوت: 30] وليس الأمر كذلك في هود، فإنهم لم يصرحوا بتكذيبه ولم يَدْعُ لنفسه بالنصر. ومنها التصريح بلفظ التنجية ومجيء الفرج في سورة العنكبوت مرتين، مرة مع سيدنا إبراهيم إذ قال ملائكة الله له في لوط: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 32] . ومرة مع لوط نفسه، إذ قالوا له: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امرأتك} [العنكبوت: 33] ولم يرد في مثل ذلك في هود. ولذا حَسُنَ ذِكْرُ (أنْ) في العنكبوت دون هود مراعاة للتبسُّطِ في ذكر القصة والإفاضة فيها، وللدلالة على استطالة الوقت وطول الترقب والانتظار، وهو تعبير في غاية الجمال. وشبيه بهذه الزيادة للانتظار قوله تعالى في سورة يوسف: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] . فزاد (أن) بعد (لم) وذلك لمناسبة حالة الانتظار والترقب التي كان يمر بها نبي الله يعقوب، فقد كان شديد اللهفة على رؤية ولده. ومن المعلوم أن الشخص في مثل هذه لحال يستطيل كل لحظة تمر به، ففصل بين (لما) ومجيء البشير وباعد بينهما إشارة إلى الشعور باستطالة الوقت وطول الانتظار. ولا يؤدي اتصال (لما) بالشرط ما يؤديه هذا الفصل الجميل. جاء في (معترك الأقران) : "فإن قلت: إن قوله تعالى: (فلما أن جاء البشير) لم يقع في تكرار فَلِمَ زِيدَ (أن) ولم يأت على لأصل؟ قلت: لما كان مجيء البشير إلى يعقوب عليه السلام بعد طول الزمن وتباعد المدة، ناسب ذلك زيادة (أن) لما في مقتضى وضعها من التراخي". وذكر مصطفى صادق الرافعي أن المراد بذلك: "تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف، وبين مجيئه لِبُعْدِ ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام، وأن ذلك كأنه كان منتظراً بقلق واضطراب، تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره عُنَّةُ هذه النون في الكلمة الفاصلة وهي: (أن) في قوله: أن جاء". ونحو ذلك قوله تعالى في موسى عليه السلام: {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس ... } [القصص: 19] فزاد (أن) بعد (لما) وذلك أن موسى لم يكن مندفعاً للبطش بالقبطي في هذه المرة فزاد (أن) للدلالة على التَّريُّثِ والتمهل، وفصل بين (لما) والفعل للدلالة على الفاصل في الزمن وعدم الاندفاع، بخلاف المرة الأولى التي اندفع فيها فجأة لنصرة صاحبه، ألا ترى كيف قال في المرة الأولى: {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ ... } [القصص: 15] فجاء بالفاء الدالّة على التعقيب وعدم المهلة بين الاستغاثة والطعنة (فاستغانه، فوكزه، فقضى عليه) . ومما يدلك على تمهله وعدم اندفاعه في المرة الثانية تعنيفه لصحابه قائلاً: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 18] حتى ظن صاحبه أنه ينوي البطش به بدلاً من عدوه فقال له: {ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} [القصص: 19] . فزاد (أن) للدلالة على ذلك. وهذا نظير ما قبله كما هو واضح. وقد يزيد كلمة أو أكثر في موضع، ولا يذكرها في موضع آخر، كل ذلك حسبما يقتضيه المعنى والسياق. فمن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} [النساء: 22] . وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] . فقد زاد قوله: (ومقتاً) في آية النساء وذلك أن "متزوج امراة أبيه فاعل رذيلة يمقت فاعلها ويشنأ وتَستخسُّه الطِّباعُ السليمة، فوصفت فِعْلَتهُ بالمقت، وساوت الزنى فيما وراء ذلك". ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [التغابن: 9] . وقوله: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الطلاق: 11] . فقد زاد في التغابن قوله: (ويكفر عنه سيئاته) دون الطلاق وذلك أن آية التغابن خطاب للكفارين وقد دعاه إلى الإيمان فقال: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن 7-8] . ثم قال: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن: 9] . وأما آية الطلاق فهي خطاب للمؤمنين وقد دعاهم إلى التقوى فقال: {فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً} [الطلاق: 10] . ثم قال: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ... } [الطلاق: 11] . فكن ذكر تكفير السيئات مع الكافرين الذين هم في معصية مستديمة وسيئاتهم غير منقطعة أولى من ذكرها مع المؤمنين. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِءَايَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] . وقوله: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7-8] . فقد زاد في آية لقمان قوله: (كأنّ في أذنيه وقراً) دون آية الجاثية، وذلك "أن آية الجاثية لَمَّا تقدم فيه قولُه: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ} [الجاثية: 7-8] فَوصْفُه بسماعٍ آياتِ لله لم يكن ليطابقه ذِكْرُ الوقر في الأذن لأنه قد ذكر سماعه الآيات. والوقر مانع من السماع فلم يناسب الإعلام بالسماع ذكر الوقر المانع منه.. ولما يقع ذكر سماع الآيات في آية لقمان وتقدم ذكر المشار إليه بقوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [لقمان 6] وهذه زيادةُ مرتكبٍ فناسبها ذكر زيادة الوقر، مع أنه لم يرد فيها ذكر سماعه الآيات كما ورد في آية الجاثية. فازداد ووضح التلاؤم". ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [المائدة: 92] . وقوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [التغابن: 12] . فزاد في الآية الأولى قوله: (واحذروا) وقوله: (فاعلموا) مع اتحاد ما تضمنته الآيتان فيما سوى ذلك. وسبب ذلك والله أعلم أن آية المائدة سبقها الأمر باجتناب الخمر وما ذكر معها من المحرمات وما تجرّه عليهم هذه المحرمات من شرور فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90-91] . فناسب ذلك ذكر هذه الزيادة لتأكيد التحذير. "وأما آية التغابن فلم يرد قبلها ما يستدعى هذا التأكيد، ألا ترى الوارد فيها من قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] فلما لم يَرِدْ هنا نَهيٌ عن محرّم متأكّد التحريم ... لم يرد هنا من الزيادة المحرزة لمعنى التأكيد ما ورد هناك. فجاء كل على ما يجب ويناسب. وليس عكس الوارد بمناسب". وقد يزيد الجار والمجرور في موضع ولا يذكر نحوه في موضع آخر، فمن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح: 11] . وقوله: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} [لمائدة: 17] . فزاد (لكم) في آية الفتح ولم يذكر مثل ذلك في المائدة. والسبب أن الخطاب في سورة الفتح مختص بالمخلّفين من الأعراب قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} [الفتح: 11] . فلما كان الخطاب مختصاً بهؤلاء زاد (لكم) لأن الخطاب موجه إليهم. أما في سورة المائدة فالخطاب عام، وليس خاصاً بجماعة معينين قال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} [المائدة: 17] . ألا ترى إلى قوله تعالى: (ومن في الأرض جميعاً) كيف عَمَّ أهل الأرض فلم يحسن أن يذكر (لكم) بل جاء الخطاب عاماً. جاء في (درة التنزيل) عن سبب ذلك (لكم) في (الفتح) وعدم ذكرها في (المائدة) وقوله: إن آية سورة الفتح "نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير عذر وتأخروا عن الجهاد وقالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ثم سألوه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم، يكتمون بذلك نفاقهم ويظهرون وفاقهم وقصدهم استمالته كيلا تضرهم عداوته فقال عز وجل: {فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} [الفتح: 11] فلما كان في قوم مخصوصين احتيج إلى (لكم) للتبيين. فأما في هذه السورة [يعني سورة المائدة] فإنها لم تنزل لفريق مخصوص دون فريق بل عَمَّ بها. دليه إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومَنْ في الأرض جميعاً. فلما سيقت الآية إلى العموم لم يَحتج إلى (لكم) التي للخصوص". ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [العنكبوت: 22] . وقوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [الشورى: 31] . زاد في آية (العنكبوت) : (ولا في السماء) وذلك أن الكلام فيها في سياق تكذيب الأمم لرسلها بدءاً من نوح إلى إبراهيم إلى لوط إلى شعيب وغيرهم، وما حاق بهذه الأمم من العذاب والعقوبات، بخلاف آية الشورى فإنها وردت في سياق ما يصيب الإنسان من مصائب قال تعالى: {وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [الشورى: 30-31] . فلمّا كان الكلام في العنكبوت في سياق تكذيب الأنبياء ومحاربة الرسل ومعاقبة الله لهؤلاء الأقوام، كان من المناسب أن يزيد لهم في القول ويبسط لهم في التحدي ويخبرهم أنهم ضعفاء حتى لو بلغوا السماء وصعدوا فيها. ومن ذلك قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ... } [المائدة: 6] . وقوله: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 43] . فزاد (منه) في آية المائدة، وذلك أن آية المادئة فيها تفصيل وتبيين لأحكام الوضوء كاملة، بخلاف آية النساء فإنها لم تذكر أحكام الوضوء تفصيلاً. فلما فصّل وبيّن في آية المائدة وزاد في ذِكْر الأحكام زاد الجار والمجرور (منه) للزيادة في التبيين. قال تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولاكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] . وقال في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 43] . فأنت ترى أنه حيث كان السياق مجملاً أجمل في الذكر، وحيث كان مفصّلاً مبيناً زاد وبيّن، فوضع كل تعبير في الموضع الذي هو أوفق له. جاء في (البرهان) للكرماني: أنه اد في آية المائدة (منه) "لأن المذكور في هذه السورة (يعني النساء) بعض أحكام الوضوء والتيمم فحسن الحذف. والمذكور في المائدة جميع أحكامها فحسن الإثبات والبيان". ومثل هذه الزيادة للتفصيل ما جاء في قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كتاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22] . وقوله: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] . فقد زاد قوله: (في الأرض ولا في أنفسكم) على ما في التغابن، وذلك لأنه فصل في سورة الحديد في أحوال الدنيا والآخرة ما لم يُفصِّله في التغابن، فكان المناسب أن يفصل ويزيد موافقة لما قبله. جاء في سورة الحديد قوله: {اعلموا أَنَّمَا الحياوة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فتراه مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حطاما وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله ورضوان وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ متاع الغرور * سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ... * مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ ... } [الحديد: 20-22] . ولم يرد مثل ذلك في سورة التغابن قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنآ أولائك أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير * مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [التغابن: 10-11] . فأنت ترى أنه فصّل وذكر في سورة الحديد ما لم يذكره في التغابن، ولذا زاد في التفصيل في الآية المذكرة موافقة لما قبلها. جاء في (البرهان) للكرماني أنه فصل في سورة الحديد وأجمل في سورة التغابن "موافقة لما قبلها في هذه السورة [يعني الحديد] فإنه فصل أحوال الدنيا والآخرة فيها بقوله: {اعلموا أَنَّمَا الحياوة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} [الحديد: 20] . وقد يكون الذكر والحذف مراعاة لواقع الحال، فيكون الكلام في غاية الدقة في التعبير عن الحقيقة. فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى ... } [الحج: 42-44] . فإنه قال: (وكُذِّبَ موسى) ولم يقل: (قوم موسى) كما قال في الأقوال الأخرى، وذلك لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما الذي كذبه فرعون وقومه. جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: لِمَ قيل: (وكُذِّب موسى) ولم يقل: قوم موسى؟ قلت: لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط". ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ ... } [الصف: 6] . وقوله: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ ... } [الصف: 5] . فإنه لم يقل في عيسى: (وإذ قال عيسى لقومه) كما قال في موسى: (وإذ قال موسى لقومه) بل قال: (يا بني إسرائيل) وذلك أن عيسى عليه السلام لم يكن له نَسبٌ فيهم فيكونوا قومه إذ لم يكن له فيهم أَبٌ بخلاف موسى. ومن ذلك قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 176-177] . ولم يقل: (أخوهم شعيب) كما قال فيمن قبله من الأنبياء: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الأنبياء: 106] [الشعراء] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 124] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 142] وغير أولئك من الرسل، إلا شعيباً فإنه لم يقل فيه: (أخوهم) وذلك أن شعيباً ليس من أصحاب الأيكة وإنما هو أخو مدين، ولذا قال تعال: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85] بخلاف أصحاب الأيكة. فهو قد أُرسلَ إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة. جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: هلا قيل: (أخوهم شعيب) كما في سائر المواضع؟ قلت: إِنَّ شعيباً لم يكن من أصحاب الأيكة. وفي الحديث: "إن شعيباً أخا مدين أُرسل إيهم وإلى أصحاب الأيكة" ومن ذلك ما رود في قصة نوح وهو قوله تعالى: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: 60] . وفي قصة هود قوله: {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} [الأعراف: 66] . فقد زاد (الذين كفروا) على ملأ قوم هود دون ملأ قوم نوح. قيل: لأنه كان في أشراف قوم هود مَنْ آمنَ به، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، فأخرج المؤمنين من أشراف قوم هود، لأن القائلين هم الذين كفروا منهم. جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: لِمَ وصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم: مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه، فأُريدت التفرقة بالوصف، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة} [المؤمنون: 33] ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذم لا غيره". وقد يكون الذكر والحذف لغير ذلك، فهناك أسباب مختلفة تدعو إلى الذكر والحذف، وكلها ترجع إلى مراعاة المقام وحسن الاختيار وذكر اللفظة في الوضع الذي يقتضيها وينادى عليها بأبلغ تعبير وأجمل صورة. فمن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعرء: 109] على لسان جميع الأنبياء الذين جرى ذكرهم في سورة الشعراء، فنزح قال لقومه: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] . وكذا قال هود لقومه (الشعرء: 127) ، وكذا قال صالح لقومه (الشعراء 164) وكذا قال شعيب (الشعراء: 180) إلا إبراهيم وموسى فإنهما لم يقولا ذاك. أما إبراهيم فلأن أباه كان من المخاطبين، قال تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 69-70] فاستحيا أن يخاطب أباه بذاك. وأما موسى فلأن فرعون رَبَّاه وقد ذكر ذلك له فقال تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] فلا يليق أن يقول له: (وما أسألك عليه من أجر) . ألا ترى أنه لا يليق أن يقول شخص لأبيه أو لمن رباه وأنفق عليه: (لا أسألك أجراً) فانظر إلى جمال الذوق وحسن الاختيار في التعبير. جاء في (البرهان) للكرماني أنه ليس في قصة موسى عليه السلام ذلك "لأنه رباه فرعون حيث قال: ألم نُرَبِّكَ فيها وليداً؟ ولا في قصة إبراهيم لأن أباه في المخاطبين حيث يقول: (إذ قال لأبيه وقومه) وهو رباه. واستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا: (ما أسألكم عليه من أجر) وإن كان مُنَزَّهين من طلب الأجرة". ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} [المائدة: 20] . وقوله: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6] . فزاد في آية المائدة: (يا قوم) ولم يذكر ذلك في آية إبراهيم وذلك أنه في آية المائدة عَدَّد عليهم النِّعَمَ الجِسام في أنْ جعل منهم أنبياء وجعل منهم ملوكاً، وأنه آتاهم ما لم يُؤْتِ أحداً من العالمين، فحسن نداؤهم بـ (يا قوم) وذلك أن الإنسان يحب أن ينتسب إلى قوم ذوي رفعة ومكانة عالية، بخلاف المستذلين والمستعبدين وهو سياق الآية الثانية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه طلب منهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم فقال: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] . فناداهم بـ (يا قوم) عطفاً لقلوبهم لتحميلهم مهمة دخول الأرض المقدسة وتكليفهم بهذا الأمر الشاق. أما آية إبراهيم فليس فيها طلب شيء ولا تكليفٌ بأمر، وإنما فيها تذكيرهم بما مر عليهم من محن وعذاب. وفرقٌ بين الحالتين. ومن جهة أخرى أن سياق قصة موسى في سورة المائدة أطول مما في سورة إبراهيم، فزاد (يا قوم) لمناسبة طول القصة في سورة المائدة. وهذا خط واضح في التعبير القرآني فاقتضى كل ذلك هذه الزيادة في سورة المائدة دون سورة إبراهيم والله أعلم. جاء في (البرهان) للكرماني أن "تصريح اسم المخاطب مع حرف الخطاب يدل على تعظيم المُخاطَبِ به. ولما كان ما في هذه السورة نِعَماً جِساماً ما عليها من مزيد وهو قوله: {جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} [المائدة: 20] صرح فقال: (يا قوم) . لموافقة ما قبله لما بعده من النداء وهو قوله: (يا قوم ادخلوا) (يا موسى إن فيها) (يا موسى إنّا) ولم يكن ما في إبراهيم بهذه المنزلة فاقتصر على حرف الخطاب". ومن لطيف الذكر والحذف قوله تعالى: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94] . فزاد في الآية الثانية قوله: (والمؤمنون) بخلاف الآية الأولى وذلك أن الآية الأولى في المنافقين، وهم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان ولا يعلم المؤمنون بهم إلا مَنْ أطلعه رسولُ الله عليه، فلم يقل: (والمؤمنون) لأن المؤمنين لا يرون أعمالهم بخلاف الآية الثانية فإنها في طاعات المؤمنين وهي ظاهرة للجميع ففرق بين الجماعتين. قال تعالى في الطائفة الأولى وهم المنافقون: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94] . وقال في الجماعة المؤمنة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم * وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} [التوبة: 103-105] . جاء في (البرهان) للكرماني في هاتين الآيتين أن "الآية الأولى في المنافقين ولا يطّلع على ما في ضمائرهم إلا الله تعالى، ثم رسوله بإطلاع الله إياه عليها لقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94] . والثانية في المؤمنين، وطاعات المؤمنين وعاداتهم ظاهرة لله ولرسوله وللمؤمنين. وختم آية المنافقين بقوله: (ثم تُردون) فقطعه عن الأول لأنه وعيد. وختم آية المؤمنين بقوله: (وسَتُردُّون) لأنه وعد فبناه على قوله: (فسيرى الله) . وجاء في (درة التنزيل) أن الآية الثانية: "فيمن أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوجب عليهم الصدقات بأن يقول لهم: اعملوا ما أمركم الله به من الطاعات كالصلوات والصدقات فإن الله ورسوله والمؤمنين يرون ذلك، وهذه الأعمال مما تُرى بالعين خِلافَ أعمال المنافقين التي تقتضي لهم النفاق لإضمارهم خلاف إظهارهم وهو مما لا يرى بالعين وإنما يعلمه عالم الغيب، فلذلك يُذكر المؤمنون في الأولى وذُكروا في الثانية". ومن ذلك قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120-121] . فقد قال في الآية الأولى: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] وقال في الثانية: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121] ، وذلك أن الآية الأولى فيها ما ليس عملاً لهم كالظمأ والنصب والمخمصة فهذه ليست من أعمالهم غير أنه تكتب لهم أعمالاً صالحة. أما الآية الثانية فما جاء فيها كله من أعمالهم فالنفقات وقطع الوديان هي أعمالٌ لهم ولذا لم يكن ثَمَّةَ داعٍ إلى القول: (كتب لهم به عمل صالح) لأنه عمل حقيقة. ثم انظر إلى خاتمة كل من الآيتين. فقد قال في ختام الآية الأولى: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [التوبة: 120] لأن ما تقدم ليس عملاً وإنما هو من الإحسان الذي تدخل فيه عموم العبادات. وقال في ختام الآية الثانية: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121] لأنه من أعمالهم. جاء في (البرهان) للكرماني أن "الآية الأولى مشتملة على ما هو من عملهم وهو قوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} [التوبة: 120] وعلى ما ليس من عملهم وهو الظمأ والنصب والمخمصة. والله سبحانه وتعالى بفضله أجرى ذلك مجرى عملهم في الثواب فقال: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] أي جزاء عملٍ صالح. والآية الثانية مشتملة على ماهو من عملهم وهو إنفاق المال في طاعة الله وتحمل المشاق فكتب لهم ذلك بعينه. وكذلك ختم الآية بقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121] لأن الكل من عملهم فوعدهم أحسن الجزاء عليه. وختم الآية الأولى بقوله: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [التوبة: 120] حين ألحق ما ليس من عملهم بما هو من عملهم. ثم جازاهم على الكل أحسن الجزاء". وجاء في (درة التنزيل) : "فلما كان ما في الثانية عملهم كُتب على جهته لم يحتج إلى أن يكتب به عمل صالح لأنه هو. والأول كان فيه ما ليس بعملهم فكتب به أجر مثل عملهم فلذلك كانت الزيادة في الأولى ولم يحتج إليها في الأخرى. والجواب عن المسألة الثانية وهي تعقيب الأولى بقوله: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [التوبة: 120] هو أن من أخبر عنه بأنه أصابه ظمأ ونصب وجوع فقد أخبر عنه بفعل غيره به ولم يخبر عنه بفعل فعله هو. إلا أنه يَجبُ له بم اوصل إليه من ألم العطش والجوع والتعب والنصب الأجرُ، فلذلك عقبه بقوله: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [التوبة: 120] أي: من أحسن طاعة الله وتعرض منها لما يلحقه فيه من هذه الشدائد. وأما الآية الثانية وتعقيبها بقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121] فلأن جميع ما ذكر كان عملاً لهم فوعدهم حسن الجزاء على عملهم. وذلك ظاهر والله أعلم". ومن لطيف الذكر الذي يقتضيه المعنى قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ... } [البقرة: 283] . ولم كتف بقوله: (إنه آثم) بل إسند الإثم إلى القلب وذلك لأنَّ الشهادة محلها القلب وكتمانها هو أن يبقيها في قلبه فنسب الإثم إلى القلب وهو تعبير بديع. جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (آثم) وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترناً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يُعمَلُ بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردتَ التوكيد: هذا مما أَبصرتهُ عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي. ولأن القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله فكأنه قيل: فقد تَمكَّنَ الإثمُ في أصل نفسه ومَلَكَ أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط". ومن الذكر الذي يقتضيه المعنى أيضاً قوله تعالى: {ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57، الأعراف: 160] . وقوله: {ولاكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] . فزاد في الآيتين الأوليين: (كانوا) بخلاف آل عمران وذلك أن آيتي البقرة والأعراف في أقوام قد مضوا وهم بنو إسرائيل، قال تعالى في البقرة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] . وقال في الأعراف: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 160] . وأما آية آل عمران فهي ليست في أقوام ماضين وإنما مثل ضربه الله لكل عصر قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هاذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولاكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] . فناسب ذكر (كان) في آيتي البقرة والأعراف دون آية آل عمران. جاء في (البرهان) للكرماني أن ما في السورتين يعني البقرة والأعراف "إخبارٌ عن قوم ماتوا وانقرضوا وما في آل عمران مَثَل". ومن الزيادة التي اقتضاها السياق قوله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا ... } [القصص: 60] . فقد ذكر الزينة بخلاف قوله تعالى: {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا ... } [الشورى: 36] . وقد ورد ذكر الزينة في القصص لورودها فيما بعد في قوله تعالى: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ... } [القصص: 79] بخلاف سورة الشورى فإنها لم يرد فيها مثل ذاك. جاء في (معترك الأقران) : "فإنْ قلت: ما وجه زيادة (الزينة) في هذه الآية على آية الشورى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا} [القصص: 60] ؟ والجواب لورود ذكرها في قوله تعالى: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79] فالتحمت الآية بتلك القصة. ولم يرد في سورة الشورى من أولها إلى آخرها حال دنيوي لأحد بل تضمنت حقارة الدنيا ونزارة رزقها وأنه مقدور غير مبسوط. وتلك حال الأكثر". ومن الزيادة التي اقتضاها السياق قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أولائك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولائك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] . فقد زاد في آل عمران: (ولا ينظر إليهم) بخلاف البقرة وذلك لسبيين: الأول: أن آية البقرة في الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون بكتمانهم هذا ثمناً قليلاً. وأما آية آل عمران فليست في الذين يكتمون بل في الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً وهو ذنب أكبر وأعظم من مجرد الكتمان. إذ هم لم يكتموا الحق فقط بل غيروه وأقسموا على ذلك واشتروا به ثمناً قليلاً. فهم لم يكتفوا بالكتمان بل تجاوزوه في دعم الباطل، فلما زادوا في الذنب زاد الله لهم في العقوبة فقال: (ولا ينظر إليهم) . والسبب الثاني: أن السياق في آل عمران في الوفاء بعهد الله فقد قال قبل هذه الآية: {بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] . وليس الأمر كذلك في البقرة فقد سبق هذه الآية الكلام على الميتة والدم ونحوها قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير} [البقرة: 173] . فلما كان المقام في آل عمران هو الكلام على عهد الله ناسب تشديد العقوبة على مضيعيه أكثر مما في البقرة لأن السياق يقتضيه. فما أجلّ هذا الكلام وأعظمه! ونكتفي بهذا القدر فإن فيه الكفاية وإلا فالاستقصاء بعيد المنال. التوكيد في القرآن الكريم 872631> الصفحة غير موجودة التشابه والاختلاف في القرآن الكريم آيات وتعبيرات تتشابه مع تعبيرات أخرى ولا تختلف عنها إلا في مواطن ضئيلة كأن يكن الاختلاف في حرف أو كلمة. أو نحو ذلك. وإذا تأملت هذا التشابه والاختلاف وجدته أمراً مقصوداً في كل جزئية من جزئياته قائماً على أعلى درجات الفن والبلاغة والإعجاز. وكلما تأملت في ذلك أزددت عجباً وانكشف لك سر مستور أو كنز مخبوء من كنوز هذا التعبير العظيم. فمن ذلك استعمال لفظ (مكة) و (بكة) لأم القرى. جاء في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 96-97] . فاستعمل اللفظ (بكة) بالباء في حين قال: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الفتح: 24] . فاستعمل لفظ (مكة) بالميم وهو الاسم المشهر لأم القرى. وسبب إيرادها بالباء في آل عمران أن الآية في سياق الحج: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] فجاء بالاسم (بكة) من لفظ (البَكِّ) الدال على الزحام لأنه في الحج بيكّ الناسُ بعضهم بعضاً، أي: يزحم بعضهم بعضاً، وسميت (بكة) لأنهم يزدحمون فيها. وليس السياق كذلك في آية الفتح، فجاء بالاسم المشهور لها أعني: (مكة) بالميم، فوضع كل لفظ في السياق الذي يقتضيه والله أعلم. ولا مانع أن يكون ذلك لكلا السببين. ومن ذلك قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء: 149] . وقوله: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 54] . فقد قال في آية النساء: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} [النساء: 149] وفي الأحزاب: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} [الأحزاب: 54] ، وذلك أن آية النساء وردت بعد قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ ... } [النساء: 148] فذكر أنّ الله لا يحب الجهر بالسوء، ولذا قال بعدها: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} [النساء: 149] أي: إن تُظهروا خيراً، هو عكس الجهر بالسوء. فالله سبحانه لا يحب السوء ولا الجهر به بخلاف الجهر بالخير. وأما في آية الأحزاب فالسياق يتعلق بعلم الله بالأشياء الخافية والظاهرة فقد قال قبلها: {والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ... } [الأحزاب: 51] . وقال: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب: 52] وختم الآية بقوله: {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 54] ومعنى الآية إنه يستوي عنده السر والجهر، فناسبَ أن يقول: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ} [الأحزاب: 54] لا أن يقول: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} [النساء: 149] هذه علاوة على مناسبة كلمة (شيء) الواقعة قبلها وبعدها، فوضع كل لفظة في مكانها المناسب لها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن الجو التعبيري لكل سورة في هاتين السورتين يقتضي وضع كل لفظة من هاتين اللفظتين في موضعها. ذلك أن كلمة (خير) ترددت في سورة النساء اثنتي عشرة مرة ولم ترد سورة الأحزاب إلا مرتين. ون كلمة (شيء) ترددت في سورة النساء اثنتي عشرة مرة وترددت في سورة الأحزاب ست مرات، فإذا كان الكلام يقتضي اختيار إحدى هاتين اللفظتين لكل آية فمن الواضح أن تختار كلمة (خير) لآية النساء وكلمة (شيء) لآية الأحزاب. فاقتضى التعبير اختيار كل لفظة من جهتين: جهة المعنى والسياق. وجهة اللفظ. فانظر أي تعبير هذا؟ ومن ذلك قوله تعالى: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} [البقرة: 191] . وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} [لبقرة: 217] . فقد قال في الآية الأولى: (أشد) وفي الآية الثانية: (أكبر) وذلك لأن الكلام في الآية الثانية على كبيرات الأمور فقد مر فيها قوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] وقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله} [البقرة: 217] فناسب ذكر (أكبر) فيها. وليس السياق كذلك في الآية الأولى، وإنما هي في سياق الشدة على الكافرين فقد قال فيها: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} [البقرة: 191] . وهذه شدة ظاهرة فناسب ذكر (أشد) فيها بخلاف الآية الثانية. ومن ذلك قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام في سورة هود: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ... } [هود: 29] . ووردت في غير هذا الموضع كلمة (أجر) بدل كلمة (مال) . فقد جاء في سورة يونس على لسان نوح عليه السلام: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ... } [يونس: 72] . وجاء على لسانه أيضاً في سورة الشعراء: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] . وكذا وردت كلمة (أجر) بدل كلمة (مال) على لسان غيره من الأنبياء - انظر: (سورة هود 51 وسورة الشعراء 127، 145، 164، 180 وسورة سبأ 47) . وسبب ذلك أنه في الموضع الذي وردت فيه كلمة (مال) وقعت بعدها كلمة (خزائن) "ولفظ المال بالخزائن أليق". فقد جاء على لسان نوح عليه السلام في هذا الموضع قوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ... } [هود: 31] فناسب ذلك المال ههنا بخلاف المواضع الأخرى. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] . وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21] . فقد قال في آية النحل: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] وقال في آية المؤمنون: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] . وسبب ذلك أن الكلام في آية النحل على إسقاء اللبن من بطون الأنعام. واللبن لا يخرج من جميع الأنعام بل يخرج من قسم من الإناث. وأما في آية (المؤمنون) فالكلام على منافع الأنعام من لبن وغيره، فقد قال بعد قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] : {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21] . وهذه المنافع تعم جميع الأنعام ذكورها وإناثها صغارها وكبارها. فجاء بضمير القِلَّة وهو ضمير الذكور للأنعام التي يُستخلص منها اللبن، وهي أقل من عموم الأنعام، وجاء بضمير الكثرة وهو ضمير الإناث لعموم الأنعام. فلما كانت الأنعام في الآية الثانية أكثر جاء بالضمير الدال على الكثرة. وهذا جارٍ على وفق قاعدة التعبير في العربية التي تفيد أن المؤنث يُؤتى به للدلالة على الكثرة بخلاف الذكور، وذلك في مواطن عدة كالضمير وأسماء الإشارة وغيرها، وذلك نحو قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] بتذكير الفعل (قال) ، وقوله: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} [لحجرات: 14] بتأنيث الفعل، فإن التذكير يدل على أن النسوة قلة بخلاف التأنيث، وهذه قاعدة معروفة لا نريد أن نطيل في شرحها وبيانها. جاء في (درة التنزيل) في هاتين الآيتين: "أن الأنعام في سورة النحل وإن أطلق لفظ جمعها فإن المراد به بعضها، ألا ترى أن الدَّرَّ لا يكون لجميعها وأن اللبن لبعض إناثها فكأنه قال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] . ولهذا ذهب من ذهب إلى أنه رد إلى النعم لأنه يؤدي ما تؤديه الأنعام من المعنى. والمراد والله أعلم ما ذكرنا بالدلالة التي بينا. وليس كذلك ذكرها في سورة المؤمنين لأنه قال: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 21-22] فأخبر عن النِّعم التي في أصناف النَّعَمِ إناثها وذكورها فلم يحتمل أن يراد بها البعض كما كان في الأول ذلك". ومن ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: 4] . وقوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 7] . فقد قال في الآية الأولى: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: 4] وقال في الآية الثانية: {عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 7] . قيل: وسبب ذلك أن الكلام الأول متصل بإنزال السكينة وازدياد المؤمنين. إيماناً فقد قال قبلها: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إيمانا مَّعَ إيمانهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض ... } [الفتح: 4] فهذا موضع عِلْمٍ وحكمة فقال: {عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: 4] . وأما الآية الثانية فهي في موضع عذاب وعقوبات فقد جاءت بعد قوله: {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض..} [الفتح: 6-7] فهذا موضع عِزَّةٍ وغَلَبة وحكم فقال: {عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 7] . وشبيه بهذا قوله تعالى: {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 18-19] . فهذا في مقام النصر وأخذ الأموال والغنائم فكان الموضع موضع عز وغلبة وحكم فقال: {عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 19] . ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37] . وقوله: {أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر: 52] . فقد قال في آية الروم: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} [الروم: 37] وفي آية الزمر {أَوَلَمْ يعلموا} [الزمر: 52] وذلك أن ألفاظ الرؤية والنظر في سورة الروم أكثر مما في سورة الزمر، وألفاظ العلم في الزمر أكثر مما في الروم، فقد وردت ألفاظ الرؤية والنظر في الروم سبع مرات. وفي الزمر ست مرات. ووردت ألفاظ العلم في الزمر إحدى عشرة مرة وفي الروم عشر مرات. فاستحقت الروم لفظ الرؤية والزمر لفظ العلم. ثم انظر إلى طريقة أخرى في التعبير فقد جاء بفاقدي البصر في سورة الروم فقال: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ ... } [الروم: 53] وجاء بفاقدي العلم في آية الزمر فقال: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} [الزمر: 64] . ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] . وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] . فقد قال في النمل: {فَفَزِعَ} [النمل: 87] وفي الزمر {فَصَعِقَ} [الزمر: 68] ، وإنما قال ذلك في الزمر لمناسبة ما بعده وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] فإن ذلك في مقابل الصعقة، في حين ختم آية النمل بقوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] ، وهو المناسب للفزع إذ معنى داخرين: صاغرون، فناسب كل لفظ مكانه الذي وضع فيه. ثم انظر كيف قال بعد آية النمل: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] فامنهم من الفزع الذي يصيب الخلائق يوم القيامة. ثم انظر مرة أخرى كيف ناسب ختام السورة أولها وما ورد فيها من فزع في قصة موسى وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [النمل: 10] . وكيف ناسب ذكر الصعقة في الزمر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [الزمر: 42] . جاء في (البرهان) للكرماني أن سورة النمل خصت بقوله: {فَفَزِعَ} [النمل: 87] "موافقة لقوله: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] . وخصت الزمر بقوله: {فَصَعِقَ} [الزمر: 68] ، موافقة لقوله: {وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] لأن معناه: مات". ومن ذلك قوله تعالى: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] . وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ باليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 37-39] . فقد قال في آية الحج: {هَامِدَةً} [الحج: 5] وفي آية فصلت: {خَاشِعَةً} [فصلت: 39] "وعند التأمل السريع في هذين السياقين يتبين وجه التناسق في {هَامِدَةً} [الحج: 5] و {خَاشِعَةً} [فصلت: 39] . إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج فمما يتسق معه تصوير الأرض بأنها (هامدة) ثم تهتز وتربوا وتُنبت من كل زوج بهيج. وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع يتسق معه تصوير الأرض بأنها خاشعة فإذا أُنزلَ عليها الماءُ اهتزت وربت. ثم لا يزيد على الاهتزام والإرباء هنا الإنبات والإخراج كما زاد هناك، لأنه لا محلَّ لهما في جو العبادة والسجود". ومن ذكل قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ ... } [آل عمران: 86] . وقوله: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ... } [التوبة: 74] . فقد عبر في آية آل عمران بالإيمان وفي آية التوبة بالإسلام، وذلك لاختلاف حال من عني بهما "وقد ذكر المفسرون أن آية آل عمران نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان قد أسلم ثم ارتد ولحق بالكفار ثم ندم، فأرسل إلى قومه ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل له من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية فكتبوا بها إليه فأسلم وحسن إسلامه. فكانت حاله حال إيمان ولم يكن في إسلامه أولاً ممن عرف بنفاق، ولا أنَّه أبطن خلاف ما ظهر منه من إسلامه، فكانت حاله حال إيمان وتصديق ولم يظهر خلافه وذلك هو الإيمان. فناسب وصفة بالإيمان وهو التصديق بالقلب. أما آية التوبة فنزلت في الجُلاَس حين قال في غزوة تبوك: لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شَرٌّ من الحُمر. فنُمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاه فحلف ما قال. وكان منافقاً معروف النفاق يتظاهر بالإسلام ويبطن خلافه. فأنزل الله في قضيته: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة: 74] فقيل هنا: (بعد إسلامهم) مناسبة للحال". ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 10-11] . وقوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف: 6-7] . فقال في آية الحجر: (من رسول) وقال في آية الزخرف: (من نبي) وذلك أنه: "لما قام تقدم في آية الزخرف لفظ (كم) الخبرية وهي للتكثير ناسب ذلك من يوحي إليه من نبي مرسل أو نبي غير مرسل. فورد هنا ما يعم الصنفين عليهم السلام. أما آية الحجر فلم يرد فيها ولا قبلها ما يطلب التكثير مع ما تضمنت من قصد تأنيسه عليه السلام وتسليته، فخصت بالتعيين باسم الرسالة تسلية له عن قولهم: (إنك لمجنون) وبما جرى للرسل قبله عليه السلام من مثل ذلك. ومن البيّن أن موقع (رسول) هنا أمكن في تسليته عليه السلام. فجاء كل على ما يجب من المناسبة". ومن ذلك قوله تعالى: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ... } [غافر: 7-8] . وقوله: {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} [الشورى: 5] . فقال في (غافر) {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7] وقال في الشورى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: 5] . وذلك لأسباب عدة منها: 1- أن آية غافر ذكر جماعة مخصوصة من الملائكة وهم حَمَلةُ العرش ومن حوله، وآية الشورى ذكرت عموم الملائكة. فناسب أن تستغفر خاصة الملائكة للخاصة من الناس وهم المؤمنون، وأن تستغفر عامة الملائكة لعموم أهل الأرض. 2- ثم لما ذكر في غافر صفة الإيمان في هؤلاء الملائكة فقال (ويؤمنون به) ناسب أن يذكر من اتصف بهذه الصفة من أهل الأرض. 3- ثم إنّ قوله: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] يفيد التخصيص ولا يفيد العموم، فناسب ذلك أن يخصوا المؤمنين بالذكر لا أن يذكروا عموم أهل الأرض، وأغلبهم لا تنطبق عليه هذه الأوصاف. 4- ثم إنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب الجحيم وأن يدخلهم جنات عدن، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا للمؤمنين، ناسب ذلك المؤمنين وإلا فليس من المناسب أن تسأل الجنة لكافر. وأما آية الشورى فلم يرد فيها مثل ذلك، بل ذكر فيها عموم الملائكة فناسب أن يذكر عموم أهل الأرض، ولم يذكر صفة أخرى تُقَيِّدُ هذا العموم. ثم إنه لما ختم الآية بقوله: {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} [الشورى: 5] ناسب ذكر هاتين الصفتين وقَصْرهما وتعريفهما وتأكديهما ذكر العموم. فانظر فخامة هذا التعبير وجلاله. ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ... } [آل عمران: 164] . وقوله: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ... } [الجمعة: 2] . فقيل في الأولى: (من أنفسهم) وفي الثانية: (منهم) وذلك "أن قولك: (فلان من أنفس القوم) أوقع في القرب والخصوص من قولك (فلان منهم) . فإن هذا قد يراد للنوعية فلا يختص لتقريب المنزلة والشرف إلا بقرينة. أما (من أنفسهم) فأخصُّ فلا يفتقر إلى قرينه. ولذلك حيث ورد قصد التعريف بعظم النعمة به صلى الله عليه وسلم وجليل إشفاقه وحرصه على نجاتهم ورأفته ورحمته بهم قال تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... } [التوبة: 128] وقال تعالى فيمن كان على الندّ من حال المؤمنين المستجيبين: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} [النحل: 113] فتأمل موقع قوله هنا: (منهم) لما قصد أنه إنعام عليم لم يوفقوا لمعرفة قدره ولا للاستجابة المثمرة للنجاة فقيل هنا: (منهم) ... ولما كان لفظ الأميين يتناول قريشاً وغيرهم من العرب ممن ليس من أهل الكتاب قيل: (منهم) فناسبت هذه الآية بما فيها من الشياع الذي مهدناه عموم الأميين من العرب ممن أسلم وممن لم يسلم. ولما قال في آية آل عمران: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} [آل عمران: 164] فَخَصَّ مَنْ أسلمَ ناسب ذلك قوله: (من أنفسهم) بخصوصه كما تقدم. ولم يكن العكس ليناسب". ومن هذا الباب قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ ... } [المائدة: 13] . وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ... } [المائدة: 41] . فقد قال في الآية الأولى: (عن مواضعه) وفي الثانية: (من بعد مواضعة) وذلك أن الكلام في الآية الأولى على أوائل اليهود الذين حرفوا التوراة، وفي الثانية على اليهود الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين حرفوها بعد أن وضعها الله مواضعها وعرفوها وعملوا بها زماناً. فقد قال في الآية الأولى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً ... * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ ... } [المائدة: 12-13] . وقال في الآية الثانية: {وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ... } [المائدة: 41] فجاء في الثانية بكلمة (بعد) لأنها "قد تكون لما تأخر عن زمانه بأزمنة كثيرة وبزمن واحد و (عن) لما جاوز الشيء إلى غيره ملاصقاً زمنه لزمنه". وجاء في الاولى بـ (عن) لأن الزمن ملاصق، فوضع كل لفظ في المكان الذي هو أليق به. ومن بديع ذلك وطريقه قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 5] . وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] . فقد ذكر (سوف) في آية الأنعام فقال: (فسوف يأتيهم أنباء ... ) وذكر السين في آية الشعراء فقال: (فسيأتيهم) . وذكر (الحق) في آية الأنعام فقال: (فقد كَذَّبوا بالحق) ، ولم يذكره في آية الشعراء. ولكلٍّ من ذلك سببٌ يدعو إليه. أما ذكر (الحق) في آية الأنعام فإنه تردّد في هذه السورة اثنتي عشر مرة ولم ترد هذه اللفظة في سورة الشعراء فناسب ذكرها في آية الأنعام دون آية الشعراء إذ هو المناسب للجو التعبيري في هذه السورة. وأما ذكر (سوف) في الأنعام فيفيد تأخير العقوبات إلى زمن أبعد مما في الشعراء وذلك أن (سوف) أبعد في الاستقبال من السين. ولوضع كل من سوف والسين موضعها عدة أسباب منها: 1- أن الَمْعنِيين في سورة الشعراء هم قوم الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة يدلك على ذلك قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4] . وأما ما ورد في سورة الأنعام فلعموم الكافرين {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] فناسب ذلك تعجيل الوعيد لمن هم أقرب إليه من الكفار الذين حاربوا الرسول وكذبوه قبل الأباعد الذين لم تبلغهم الدعوة بعد. علاوة على ما في السورة من تسلية للرسول فقد قال له: لعلك تقتل نفسك لعدم إيمانهم فَهَوِّنْ عليك الأمر، فناسب كل ذلك تعجيل التهديد والوعيد وليس الأمر كذلك في سورة الأنعام. 2- ذكر في سورة الشعراء الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم وعقوباتهم في الدنيا فناسب ذلك مجيء السين إشعاراً بتعجيل العقوبة لهؤلاء القوم كما عجل للأقوام البائدة بخلاف ما في الأنعام إذ ليس فيها شيء من ذلك. 3- ثم إن سورة الأنعام مبنية على تأخير الوعيد والعقوبات بخلاف سورة الشعراء: أ- فقد أمر الرسول في الأنعام أن يقول إنه ليس عنده ما يستعجلون به من العذاب {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 57] . {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ والله أَعْلَمُ بالظالمين} [الأنعام: 58] . فناسب عدم الاستعجال ذكر (سوف) هنا. ب- ورد في الأنعام قوله: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} [الأنعام: 135] فذكر (سوف) ولم يذكر السين وهو الملائم للجو العام للسورة. ج- ثم انظر كيف قال في موطن آخر في سورة الأنعام: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام: 12] فقد ذكر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا ينافي تعجيل العقوبة، ثم قال: (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) . وهذا يفيد تأخير العقوبة إلى يوم القيامة. فناسب ذلك كله وضع (سوف) دون السين في الأنعام. د- قال في ختام سورة الأنعام: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165] فلم يؤكد سرعة العقاب كما أكد المغفرة والرحمة، فقد أكدهما بإنّ واللام، وأكد سرعة العقاب بإنّ وحدها، كما أنه لم يؤكدها في سورة الأعراف مثلاً فقد قال هناك: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: 167] فأكد سرعة العقاب بإنّ واللام، وذلك لما كان المواطن في الأعراف تعجيل العقوبات في الدنيا أكد سرعة العقاب ولما لم يكن الأمر كذلك في الأنعام لم يؤكد سرعته وهذا ينافي تعجيل العقوبة. هـ- ثم انظر كيف قال تعالى في مكان آخر من سورة الأنعام: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} [الأنعام: 11] فقد جاء بـ (ثم) الدالة على التراخي والبعد بخلاف قوله تعالى في سورة أخرى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} [النمل: 69] فقد جاء فيها بالفاء الدالة على التعقيب. ووضع (ثم) في آية الأنعام هذه علاوة على أنه من المناسب للجو العام للسورة يقتضيها السياق أيضاً من عدة نواح، بخلاف سياق آيات النمل الذي يقتضي الفاء. فقد ختمت آية الأنعام بقوله تعالى: {ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} [الأنعام: 11] وختمت آية النمل بقوله: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} [النمل: 69] ، والمُكَذِّبُ قد تُعطى له مهلة أطول من مهلة المجرم فإن المجرم ينبغي أن يُؤخذَ بجرمه على وجه التعقيب، ولذا جاء في (المكذبين) بثم ومع المجرمين بالفاء. فاقتضى ختام كل آية الحرف الذي اختير لها. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن التكذيب والسخرية في النمل أكبر مما في الأنعام فقد جاءت آية النمل بعد قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هاذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [النمل: 67-68] . ثم جاء بالآية: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا ... } [النمل: 69] . ثم صبَّرَ الرسول بعدها بقوله: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: 70] فاقتضى كل ذلك التعجيل بالفاء لا الإمهال. ثم انظر من جهة أخرى إلى قوله تعالى بعد آية النمل: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] بخلاف قوله تعالى في الأنعام: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 57] . فناسب كل ذلك ذكر (ثم) في آية الأنعام وذكر الفاء في آية النمل. لقد تبين من كل ذلك أن سورة الأنعام مبنية على تأخير العقوبات والوعيد، فناسب ذلك ذكر (سوف) فيها بخلاف آية الشعراء. فانظر هداك الله أي تعبير هذا؟ ومن هذا الباب الاختلاف في التعريف والتنكير وذلك نحو قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61] . وقوله: { ... وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ... } [آل عمران: 112] . فَعرَّفَ (الحق) في الأولى ونَكَّرهُ في الثانية، وذلك أن كلمة (الحق) المعرّفة في آية البقرة تدل على أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق الذي يدعو إلى القتل، والحق الذي يدعو إلى القتل معروف معلوم. وأما النكرة فمعناها أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق أصلاً لا حَقَّ يدعو إلى قتل ولا غيره. أي: ليس هناك وجه من وجوه الحق الذي يدعو إلى إيذاء الأنبياء فضلاً عن قتلهم. فكلمة (حق) ههنا نكرة عامة، وكلمة (الحق) معرّفة معلومة. والقصد من التنكير الزيادة في ذمهم وتبشيع فعلهم أكثر مما في التعريف، وذلك لأن التنكير معناه أنهم قتلوا الأنبياء بغير سبب أصلاً لا سبب يدعو إلى القتل ولا غيره. فمقام التشنيع والذم ههنا أكبر منه ثَمَّ وكلاهما شنيع وذميم. فجاء بالتنكير في مقام الزيادة في ذمهم وإليك سياق كل من الآيتين: قال تعالى: { ... وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] . فعرّف (الحق) فيها. وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112] فَنَكَّرَ (الحق) . ومن الواضح أن موطن الذم والتشنيع عليهم والعيب على فعلهم في آية آل عمران أكبر منه في آية البقرة يدل على ذلك أمور منها: أنه في سورة البقرة جمع (الذلة) و (المسكنة) وأما في آي آل عمران فقد أكد وكرر وعمم فقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا} [آل عمران: 112] فجعلها عامة بقوله: (أينما ثقفوا) ثم قال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} [آل عمران: 112] فأعاد الفعل وحرف الجر للزيادة في التوكيد فإن قولك: (أنهاك عن الكبر وأنهاك عن الرياء) آكد مِنْ قولك (أنهاك عن الكبر والرياء) . ثم إنه ذكر الجمع في آية البقرة بصورة القلة فقال: (ويقتلون النبيين) وذكره في آية آل عمران بصورة الكثرة فقال: (ويقتلون الأنبياء) أي: يقتلون العدد الكثير من الأنبياء بغير حق. فالتشنيع عليهم والعيب على فعلهم وذمهم في سورة آل عمران أشد ومن هنا يتبين أن التعريف في آية البقرة أليق والتنكير في آية آل عمران أليق. ومن ذلك قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف ... } [البقرة: 234] فعرّف (المعروف) . وقال في أخرى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ... } [البقرة: 240] . فنكَّرَهُ. وذكر أن المقصود بـ (المعروف) ههنا الزواج خاصة، وأما غير المعرّف فيراد به ما لمي يُستنكر فِعْلُه من خروج أو تزيّن ونحوه. جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة التي أوجبت اختصاص المكان الأول بالتعريف بالباء فقال: (بالمعروف) والمكان الثاني بالتنكير ولفظة (من) . ولجواب عن ذلك أن يقال: إنَّ الأول تعلق بقوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف ... } [البقرة: 234] . أي: لا جناح عليكم في أن يفعلن في أنفسهم بأمر الله، وهو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة، فالمعروف ههنا أمر الله المشهور، وهو فعله وشرعه الذي بعث عليه عباده. والثاني: المراد به فلاح جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من جملة الأفعال التي لهن أن يفعلن من تزوج أو قعود. فالمعروف ههنا فعل من أفعالهن يُعرف في الدين جوازه وهوبعض ما لهن أن يفعلنه. ولهذا المعنى خُصَّ بلفظ (من) ونُكِّرَ، فجاء (المعروف) في الأول مُعَرَّفَ اللفظ لما أشرت إليه، وهو أن يفعلن في أنفسهن بالوجه المعروف المشهور الذي أباح الشرع من ذلك، وهو الوجه الذي دل الله عليه وأبانه، فعرف إذ كان معرفة مقصوداً نحوه وكذلك خُصَّ بالباء وهي للإلصاق. والثاني كان وجهاً من الوجوه التي لهن أن ياتينه فأُخرجَ مخرجَ النكرة لذلك". ومما يدل على ذلك أيضاً أمور منها أن الآية الأولى ذكر فيها قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فقوله: (يتربصن) معناه: يُصَبِّرن أنفسهن هذه المدة ليتسنى لهن الزواج، ثم ذكر العدة التي يحق لهن التزوج بعدها، ثم جاء بالباء الدالة على الإلصاق، والزواج إلصاق كما قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ... } [البقرة: 187] . وليس الأمر كذلك في الآية الأخرى، فإنه ليس هناك ذكر للتربص ولا للعدة التي يحق لهن التزوج بعدها. ومن ناحية أخرى أنه عَرَّفَ (المعروف) المقصود به الزواج لأن الزواج شيء واحد معروف، ونَكَّرَ الثاني لأنه لم يقصد به فعل معين. بل كل ما كان مباحاً لهن في الشرع فنكره لذلك. ومثل هذا استعماله للفظي (الكذب) و (كذب) بالتعريف والتنكير، فاستعمل (الكذب) بالتعريف لما هو خاص بأمر معين. و (كذباً) بالتنكير لما هو عام. قال تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الظالمون} [آل عمران: 93-94] . فجاء بالكذب ههنا مُعَرَّفاً لأنه مخصص بهذه المسألة أي: مسألة الطعام. ومثله قوله تعالى: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس: 68-69] . فعرف الكذب لأنه مخصص بمسألة معينة وهي زعمهم اتخاذ الله ولداً سبحانه. ونحوه قوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولاكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] . فاستعمال الكذب معرفاً لأنه مخصص بمسألة الأنعام. في حين قال: {وهاذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا والذين يُؤْمِنُونَ بالأخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} [الأنعام: 92-93] . فالكذب ههنا عام ولم يخصص بمسألة معينة. ونحوه قوله تعالى: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بآياته إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} [يونس: 16-17] . وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ الله الباطل ... } [الشورى: 24] . وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون: 38] . فأنت ترى أنه استعمال المعرف لأمر مخصص، في حين استعمل المنكّر لما هو عام. ومن هذا الباب قوله تعالى: { ... فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [المؤمنون: 41] . بتعريف (القوم) . وقوله: { ... فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] . بتنكر (قوم) . وذلك لأن الأولى في قوم معينين وهم قوم صالح فعرّفهم بدليل قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق ... } [المؤمنون: 41] . وأما الثانية فلم تكن في قوم معينين بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} [لمؤمنون: 42] وقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] . فخصهم بالنكرة. ومنه قوله تعالى: {وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] . وقوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [فصلت: 36] . فقد وردت الصفتان في الأعراف منكَّرتين (سميع عليم) ووردتا في (فصلت) معرّفتين وزيد قبلهما ضمير الفصل. وذلك أن ورد قبل آية الأعراف وصف آلهتهم بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تتحرك ولا تقدر على شيء مما يدل على أنها ليس فيها شيء من الحياة قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون * إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 191-195] . فوصف الله نفسه بالسمع والعلم في مقابل آلهتهم التي لا تمسع ولا تعي. وأما آية فصلت فقد تقدم قبلها قوله: {ولاكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] . فأثبتوا لله سبحانه قليلَ العلم ونفوا عنه كثيره، فاقتضى ذلك أن يبين لهم أنه هو المختص بالعلم الكامل والسمع الكامل، فجاء بالصفتين معرّفتين للدلالة على الكمال في الوصف، وجاء بضمير الفصل للدلالة على قصر هاتين الصفتين عليه سبحانه وبيان أن ما عداه لا يعلم ولا يسمع إذا ما قيس بعلمه وسمعه. ولو جاء بهما نكرتين لم يفيدا هذا المعنى، إذ كل مَنْ عنده سمع وعلم يصح أن يوصف بأنه سميع عليم. جاء في (ملاك التأويل) : "إن سورة الأعراف تقدم فيها قبل الآية وصف آلهتهم المنحوتة من الحجارة والخشب التي وُبِّخُوا بعبادتها في قوله في موضع آخر: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] فوصف هنا بأنها لا تخلق شيئاً ولا يستطيعون لهم نصراً {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] فنفى عنهم القدرة والسمع والبصر وآلة البطش بقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] . ولم يتقدم هنا ما يوهم أدنى شيء يلحقها بشبه الأحياء فضلاً عما فوق ذلك، فوردت الصفتان بقوله: (سميع عليم) مَوْرداً لم يتقدمه ما يوهم صلاحية شيء من ذلك لغيره تعالى مما عبدوه من دونه مما قصد هنا، ولا ذكر دعوى شيء من ذلك من مُدّعٍ، فيستدعي ذلك التهم مفهوماً بنفيه فجاء على ما يجب. أما آية السجدة فتقدم قبلها قوله تعالى: {ولاكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] وقوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25] وقوله تعالى: {أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس} [فصلت: 29] فحصل من هذا أن مُضِلّهم إنما كان من عالم الإنس والجن، وكلا الصنفين موصوف بالمسع والبصر ممن ينسب إليه علم، بخلاف المتقدم ذكره في الأعراف. فلما تقدم في سورة السجدة ما يظهر منه الغناء ويمكن أن يسمع ويبصر ويعلم، ناسبه التعريف في الصفة ليعطي بالمفهوم نفي ذلك من غير الموصوف بهما تعالى. ثم أكد ذلك بضمير الفصل المتقضي التخصيص ليَقوى المفهوم المسمى عند كثير من الأصوليين بـ (دليل الخطاب) ، فصار الكلام في قوة أن لو قيل: الله السميع العليم لا غير". ومنه الاختلاف في التعريف، فقد يُعَرِّف اللفظةَ مرة بأل ومرة بالإضافة وذلك نحو قوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] . وقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] . فقد عرف (الطغيان) بالإضافة وعن (الغيّ) بأل، وذلك أنه أسند المد في آية البقرة إلى الله تعالى فقال: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] فالله إنما يمدهم في طغيانهم هم، ولا يمدهم في طغيان جديد لم يفعلوه. في حين أسند المد في آية الأعراف إلى الشياطين فذكر أنهم يمدونهم في غيٍّ جديد لا في غيهم وحده، فهم يضيفون غيّاً إلى غيهم. جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: أي نكتة في إضافته إليهم؟ قلت: فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم وأن الله بريء منه.. ومصداق ذلك أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} [الأعراف: 202] . ومن ذلك الاختلاف في استعمال حروف العطف. فهو يستعمل حروف العطف في غاية الدقة والجمال، فمن المعلوم أن الواو تأتي لمطلق الجمع، وأن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، و (ثم) تفيد الترتيب والتراخي. ومعنى الترتيب أن المذكور أولاً هو الذي حدث أولاً والمذكور بعده هو الذي حدث بعده. ومعنى التعقيب أنه حصل بعده، بلا مهلة، فإذا قلت: (جاء محمد فخالد) كان معناه أن محمداً حضر قبل خالد وأن خالداً حضر بعده بلا مهلة. ومعنى التراخي أن بينهما مهلة فقولك: (حضر محمد ثم خالد) يفيد أن حضور محمد قبل حضور خالد وأن بينهما مهلة وليس كالفاء. ومهلة كل شيء بحسبه فإذا قلت: (تزوج أحمد فولد له) كان معناه أنه لم يكن بين الزواج والولادة إلا مدة الحمل أما إذا قلت: (تزوج أحمد ثم ولده له) كان معنى ذلك أن الحمل تراخى عن الزواج. وأما الواو فكما ذكرنا لمطلق الجمع، أي: ليست للتريب وإنما هي لمجرد الاشتراك في الحدث، فإذا قلت: (حضر أحمد وخالد) كان من الممكن أن يكون حضر أحمد قبل خالد أو خالد قبل أحمد أو حضرا معاً. وقد يكون بينهما مهلة أو لا يكون بينهم مهلة. وليس معنى ذلك أنها لا تأتي للتريب البتة، بل قد تأتي للترتيب وغيره، فهي ليست نصاً في الترتيب ولا في غيره. وقد استعمل القرآن ذلك ألطف استعمال وأدقه. فمن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 21-22] فجاء في (أقبره) بالفاء، لأن دفن الميت يكون بعد موته مباشرة وجاء بعده بـ (ثم) لأن النشور يتأخر عن الدفن. ومن ذلك قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] . فجاء بالإحياء الأول بالفاء، وما بعده بثم ذلك "لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بغير تراخي وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت". وشبيه بذاك قوله تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 78-82] . "فقد عطف في الآية الأولى بالفاء لتعقب بلا مهلة الهداية للخلق ... وكان العطف في الآية الرابعة بـ (ثم) لتراخي الإحياء عن الإماتة". وأما الفاء في قوله: (فهو يَشفينِ) فهي الرابطة للجواب وليست عاطفة. ونحو ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] . وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] . "قال ههنا: {إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] وقال في خقل الإنسان أولاً: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] فنقول: هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة لا يكون تدريج وتراخ بل يكون نداء وخروج فلم يقل ههنا: ثم". وبعد هذه المقدمة في معاني حروف العطف، نعود إلى التشابه والاختلاف فيها. فمن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} [طه: 128] . وقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] . فقال في آية (طه) : (أفلم) بالفاء، وقال في آية السجدة: (أولم) بالواو لأنه ذكر في سورة طه العقوبات في الدنيا علاوة على عقوبة الآخرة فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] . وقال: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى} [طه: 127] فذكر المعيشة الضنك في الدنيا ثم قال: (ونحشره يوم القيامة أعمى) . وقال: (وكذلك نجزي من أسرف ... ) والمقصود به في الدنيا، ثم قال بعده: (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) بخلاف ما في سورة السجدة فإنه أَخَّرَ الأمرَ إلى يوم القيامة، فقد قال قبل هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25] . فجاء بالفاء في (طه) لأنها تفيد التعقيب وجاء الواو في السجدة. ومن الاختلاف في هاتين الآيتين في غير العطف قوله تعالى في السجدة: (من قبلهم من القرون) وفي طه: (قبلهم من القرون) بدون (من) وذلك أنه ذكر في سورة السجدة هلاك ووفاة من هم في زمانه فقال: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 10-11] . فبدأ بهلاك من هو أقرب إليه فجاء بـ (من) الدالة على ابتداء الغاية، ولم يرد مثل ذلك في (طه) فإنه ذكر قوم موسى وأحوالهم، وهم قبل الرسول بمدة طويلة وليسوا من قبله. ثم انظر كيف ختم آية السجدة بقوله: (أفلا يسمعون) وذلك لأنهم يسمعون بماحصل للأقرب إليهم، فإنّ خاتمة الأقرب مما يؤخذ عن طريق السماع بخلاف الأقدمين.. وهذه إشارات تهديك إلى خاتمة آية (طه) لتنظر جلالة هذا الكلام وارتفاعه. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ... } [هود: 58] . وقوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ... } [هود: 94] . فجاء في هاتين القصتين بالواو في حين قال: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ... } [هود: 66] . وقال في قصة لوط: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ... .} [هود: 82] . بالفاء وسبب ذلك أن "العذاب في قصة هود وشعيب تأخر عن وقت الوعيد. فإن في قصة هود: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ... } [هود: 57] . وفي قصة شعيب: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود: 93] والتخويف قارنه التسويف فجاء بالواو المهملة. وفي قصة صالح ولوط وقع العذاب عقيب الوعيد، فإن في قصة صالح: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وفي قصة لوط: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . فجاء بالفاء للتعجيل والتعقيب". ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 57] . وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22] . قال في آية (الكهف) : {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: 57] وقال في آية السجدة: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ} [السجدة: 22] وذلك أن وقوع الإعراض في آية الكهف أسرع منه في آية السجدة، إذ هو واقع في عقب التذكير، يدل على ذلك قوله تعالى في آية الكهف: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57] وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً} [الكهف: 57] وهذا الوصف مما يسرع في إعراضهم ثم قال فيما بعد: {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 57] فذكر صَمَهم وبُعْدَهم عن الهدى. وليس الأمر كذلك في آية السجدة، فناسب ذلك ذكر الفاء في آية الكهف لدلالتها على الترتيب والتعقيب و (ثم) في آية السجدة لدلالتها على التراخي. من ناحية، ومن ناحية ثانية أن الفاء قد تدل على السبب فجاء بالفاء للدلالة على أن التذكير كأنه كان سبباً لإعراضهم وزيادة رجسهم كما قال تعالى: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] . فأنت ترى أن آية الكهف تقتضي الفاء من أكثر من جهة بخلاف آية السجدة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا} [الأعراف: 82] . وقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا} [النمل: 56] . وهاتان الآيتان في قوم لوط، فقد جاء في آية الأعراف بالواو فقال: (وما كان جواب قومه) ، وجاء في آية النمل بالفاء فقال: (فما كان جواب قومه) مما يدل على أن الجواب كان أسرع منه في آية الأعراف. وسياق كل من الآيتين يقتضي ما ذكر. فقد قال في الأعراف: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 80-82] . وقال في سورة النمل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 54-56] . فأنت ترى أن مقام الإنكار والتقريع في سورة النمل أشد منه في سورة الأعراف، يدل على ذلك أمور منها: 1- قوله تعالى في الأعراف: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} [الأعراف: 81] وفي النمل: (أإنكم) بإخال همزة الاستفهام الدالة على الإنكار والتوبيخ. 2- قوله في الأعراف: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] وفي النمل: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] والوصف بالجهل فيه زيادة تقريع، لأن نسبة الإنسان إلى الإسراف أهون من نسبته إلى الجهل، فإنك إذا قلت لشخص: (أنت مسرف في هذا الأمر) كان أهون عليه من قولك: (أنت جاهل) . ولذلك بادروا بالرد عليه بسرعة ولم يتريثوا لأنه أغاظهم في الكلام أكثر مما في الأعراف فجاء بالفاء. ومما يدل على شدة غيظهم ذكر اسمه صراحة في النمل {أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} [النمل: 56] بخلاف ما في الأعراف فقد جاؤوا بالضمير: {أَخْرِجُوهُمْ} [الأعراف: 82] . وقد تقول: وهل هناك تناقض بين القولين والقصة واحدة؟ والجواب: لا، وذلك لأن الواو لا تناقض الفاء، فإن الواو لمطلق الجمع كما ذكرنا، فقد يكون ما بعدها واقعاً في عقب ما قبلها وقد يكون متأخراً عنه وقد يكون متقدماً عليه. وأما الفاء فتفيد الترتيب فهي تفيد أحد معاني الواو. فذكر معنى الترتيب والتعقيب في النمل لأن الموطن يقتضيه، وأطلق ذلك في الأعراف لأن الموطن لا يقتضي التعقيب. وهذا من أعجب الكلام وأدقه. ويمكن أن يقال أيضاً: إن النصيحة تكررت من لوط في أزمنة مختلفة وبأساليب مختلفة، فيمكن أنه قال بعضها بصيغة أشد من الأخرى، وذلك أنه كلما تكررت الدعوة وتكررت النصيحة كان ذلك مدعاة إلى المبالغة في القول والنصيحة. وكل ذلك جائز والله أعلم. ومن ذلك التشابه والاختلاف في حروف النفي وذلك نحو قوله تعالى: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [الجمعة: 7] . وقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: 95] . فنفى التمني في الآية الأولى بـ (لا) فقال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} [الجمعة: 7] ونفاه في الثانية بـ (لن) فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95] وسياق كل من الآيتين يوضح ذلك. قال تعالى: {قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [الجمعة: 6-7] . وقال في البقرة: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: 94-95] . وأنت ترى الفرق وضاحاً بين السياقين، فإن الكلام في الآية الثانية على الآخرة {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة ... } [البقرة: 94] والدار الآخرة استقبال فنفى بـ (لن) إذ هو حرف خاص بالاستقبال. وأما الكلام في الآية الأولى فهو عام لا يختص بزمن دون زمن: {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} [الجمعة: 6] فها أمر مطلق فنفى بـ (لا) وهو حرف يفيد الإطلاق والعموم. ومن ناحية أخرى أنه لما كان الزمن في آية الجمعة عاماً مطلقاً غير مقيد بزمن نفاه بـ (لا) التي آخرها حرف إطلاق وهو الألف، ولما كان الزمن في الآية الثانية للاستقبال وهو زمن مقيد نفاه بـ (لن) التي آخرها حرف مقيد وهو النون الساكنة، وهو تناظر فني جميل. وقد مر في باب التوكيد في التشابه والاختلاف في حروف النفي نحو قوله تعالى: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] وقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] . وقوله: {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9] وقوله: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: 115] وغيره ما يغني عن إعادة ذكره. ومن ذلك استعمال حروف الجر فقد استعملها استعمالاً لطيفاً بديعاً. فقد يعدل من حرف إلى آخر، أو يستعمل حرفاً مرة ثم يستعمل حرفاً آخر في موضع يبدو شبيهاً بالأول، وغير ذلك من الفنون التعبيرية لسبب يدعو إلى وضع كل حرف الموضع الذي وضعه. فمن ذلك قوله تعالى في وصف المؤمنين: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} [المائدة: 54] فعدّى (أذلّة) جمع ذليل بـ (على) والأصل أن يعدى باللام لانه يقال: (هو ذليل له) ولا يقال: (ذليل عليه) وقد عدل عن التعدية باللام إلى التعدية بـ (على) لأن المعنى يقتضي ذاك، إذ لو عداه باللام لكان ذماً لا مدحاً. فقولك: (وهو ذليل له) يفيد الذم، وهو ههنا في مقام المدح، فجاء بـ (على) للإشعار بالذلة المستعلية وللدلالة على خفض الجناح كما قال تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] أي: هم يوطئون أكنافهم ويتواضعون مع علو جانبهم وارتفاع مكانتهم، فجاء بـ (على) للإشعار بالعلو بخلاف ما لو قال (أذلّة للمؤمنين) . جاء في (الكشاف) : "فإن قلت: هلا قيل: أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يُضَمِّنَ الذلَّ معنى الحُنُوِّ والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم". ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] فاستعمل مع الهداية حرف الاستعلاء (على) ومع الضلال (في) وذلك لأن من كان على الهدى كأنه مستعلٍ على الحق متمكن منه متثبت مما هو فيه، بخلاف من كان في الضلالة إذ هو كأنه ساقط فيها. والساقط في الشيء غير متمكن من نفسه، ألا ترى أن الواقف على الطريق ليس كالساقط في اللجة؟ فالأول متمكن من نفسه بخلاف الآخر، ولذا جاء مع الهدى بحرف الاستعلاء ومع الضلال بفي قال تعالى: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] وقال: {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} [النمل: 79] فاستعمل للهدى (على) في حين قال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: 54] وقال: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] وقال: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] وقال: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمان مَدّاً} [مريم: 75] أي: ساقطاً فيها. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] : "فإن قلت: كيف خولف بين حرفي الجر الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركضه حيث يشاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه". وجاء في التفسير القيم في قوله تعالى: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] : "قيل: في أداة (على) سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى. وهو حق. كما قال في حق المؤمنين: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} [النمل: 79] والله عز وجل هو الحق، وصراطه حق ودينه حق. فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى. فكان في أداة (على) على هذا المعنى ما ليس في أداة (إلى) فتأمله فإنه سر بديع. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر (على) في ذلك أيضاً؟ وكيف يكون المؤمن مستعلياً على الحق وعلى الهدى؟ قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه فكان الإتيان بأداة (على) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدال على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] وقوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات} [الأنعام: 39] وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: 54] وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] . وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] فإن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل السافلين". ومن طريف استعمال حرف الجر قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطفيين: 1-3] . قيل: إنّ (على) هنا بمعنى (من) . وقيل: بل هو متضمن معنى التسلط على الناس والتحكم، أي: تسلطوا عليهم بالاكتيال. والظاهر أنه هو الصواب لأن هناك فرقاً بين قولك: (اكتال منه) و (اكتال عليه) . فـ (اكتال منه) لا يفيد أنه ظلمه حقه وهضمه ماله بخلاف (اكتال عليه) ، فإن فيه معنى التسلط والاستعلاء وهذا من المطففين. والمطففون كما بَيَّنهم القرآن إذا أخذوا من الناس أخذوا أكثر من حقهم، وإذا أعطوهم أعطوهم أقل من حقهم، ففيه إذن معنى التحكم والجور والظلم، وهو أبلغ من (من) وليست بمعنى (من) ولا تفيد (من) هذا المعنى. ثم انظر إلى التعبير اللطيف الآخر بعده وهو قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] ولم يقل: (كالوا لهم) أو (وزنوا لهم) وكلاهما جائز، ولكن في حذف اللام معنى لا يؤديه ذكره، قالوا: وذلك أن اللام تفيد الاستحقاق وهم لم يعطوهم حقهم، فحذف اللام الدالة على الاستحقاق إشارة إلى أنهم منعوهم حقوقهم. ومن لطيف حذف حرف الجر قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] . فمن المعلوم أنه لا يجوز حذف حرف الجر إلا إذا أمن اللبس وتعين المقصود، فلا يقال: (رغبت زيداً) لأنه لا يدرى المقصود أهو (رغبت في زيد) أم (رغبت عنه) أم (رغبت إليه) ولكنه هنا حذف حرف الجر مع أنه لم يتعين أهو (في) أم (عن) وذلك لأنه يراد معنى الحرفين معاً. فالحكم واحد في الرغبة فيهن أو عنهن. وهذا في يتامى النساء إذ يحتمل أن يرغب فيهن لجمالهن أو يرغب عهن لدمامتهن، والحكم واحد في الحالتين فلو قال: (في) لظن أنه يراد في حالة الرغبة هذه فقط دون الأخرى. ولو قيل: (عن) لظن أنه يراد في حالة العزوف فقط، فلما حذف عرف أن المقصود جميع أنواع الرغبة عنهن أو فيهن فأطلق لإطلاق الرغبة، وهذا تعبير عظيم جليل جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "يحتمل في {أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] لجمالهن وعن {أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] لدمامتهن". وما جاء في التشابه والاختلاف في حروف الجر قوله تعالى: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] . وقوله: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] . فقال في آية البقرة: (وما أنزل إلينا) وقال في آل عمران: (وما أنزل علينا) . جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل عن موضعين من هاتين الآيتين: أحدهما قوله: (أنزل إلينا) في الأولى و (علينا) في الثانية. والموضع الثاني: تكرار (أوتي) في الأولى وتركها في الثانية ... وشرح ذلك أن (على) موضوعة لكون الشيء فوق الشيء ومجيئه من علو. و (إلى) المنتهى ... فقوله تعالى {قولوا آمَنَّا بالله} [البقرة: 136] اختيرت فيها (إلى) لأنها مصدرة بخطاب المسلمين فوجب أن يختار له (إلى) ... فالمؤمنون لم ينزل الوحي في الحقيقة عليهم من السماء، وإنما أنزل على الأنبياء ثم انتهى من عندهم إليهم. فلما كان (قولوا) خطاباً لغير الأنبياء وكان لأممهم كان اختيار (إلى) أولى من اختيار (على) . ولما كانت سورة آل عمران) قد صدرت الآية بما هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} [آل عمران: 84] كانت (على) أَحقَّ بهذا المكان لأن الوحي أنزل عليه ... وما الموضع الثاني الذي أعيد فيه لفظه (أوتي) من سورة البقرة ولم يعد فيها بإزائها من سورة آل عمران، فالجواب عنه أن يقال: إنما اختص هناك لأن العشر التي فيها مصدرة بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] فقدم ذكر إتياء الكتاب، واكتفى به عن التكرير في الموضع الذي كرر فيه من سورة البقرة على سبيل التوكيد". ونقول تعليقاً على تعليله تكرار لفظ (أوتي) في البقرة دون آل عمران. إنّ تكرار لفظ (أوتي) في البقرة يقتضيه التعبير لأكثر من سبب. من ذلك: أن الآية في سورة البقرة جاءت في سياق ذكر عدد من الأنبياء وأخبارهم مثل إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وبنيه وغيرهم من الأنبياء، فلما جرى ذكر الأنبياء السابقين ناسب ذلك تكرار الإيتاء لهم. بخلاف آل عمران فإنها ليست في مثل هذا السياق. ومنها: إن هذه الآية وردت في البقرة بعد قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} [البقرة: 135] فلما جرى ذكر هاتين الملتين ناسب ذلك تخصيص نبييهما بالإيتاء، فأفرد ذكر إيتاء موسى وعيسى عن إيتاء الأنبياء الآخرين، ثم جاء بعدهما ذكر الإيتاء للأنبياء الآخرين. ومن ناحية أخرى إن الآية في آل عمران وردت بعد ذكر أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان بسيدنا محمد ونصره إن هم أدكوره قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] . كما وردت في سياق التأكيد على الإسلام والإيمان به فقد قال قبلها: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] . وقال بعدها: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: 85] فناسب ذلك عدم تكرار الإيتاء للأنبياء فيها، وذلك لأن السياق فيما أوتي سيدنا محمد لا فيما أوتي الأنبياء الآخرون. فأنت ترى أنه لما كان السياق في البقرة في ذكر الأنبياء ذكر الإيتاء لهم، ولما كان السياق في آل عمران في الإيمان بمحمد ودينه وأخذ الميثاق من الأنبياء على الإيمان به ناسب عدم تكرار الإيتاء للأنبياء. هذا ومن ناحية أخرى إن الجو التعبيري للبقرة يقتضي تكرر الإيتاء فيها دون آل عمران، وذلك أن مشتقات الإيتاء من نحو آتى وآتينا وأوتي وغيرها وردت في سورة البقرة أكثر مما في آل عمران، فقد وردت في البقرة في أربعة وثلاثين موضعاً، ووردت في آل عمران في تسعة عشر موضعاً، فاقتضى الجو التعبيري في البقرة تكرار لفظ الإيتاء فيها علاوة على ما ذكرنا بخلاف آل عمران. وقد رأينا في مواضع عدة كيف يراعي القرآن الكريم الجو التعبيري لذكر لفظ في موضع دون آخر. وأظنك في غِنى عن بيان جلالة هذا التعبير وقدره. ومن ذلك قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2، الزمر: 5] . وقوله: {كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [لقمان: 29] . فقد جاء في آية الرعد باللام (لأجل وجاء في آية لقمان بـ (إلى) (إلى أجل مسمى) ، والفرق بينهما أن ما ورد باللام يفيد التعليل بمعنى: كُلٌّ يجري لبلوغ الأجل أي كل يجري لهذه الغاية كما تقول: كلهم يجري لوصول الهدف وبلوغه. وأما ما جاء بـ (إلى) فهو يفيد الانتهاء. جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان بقوله: {كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [لقمان: 29] وما سواه إنما هو {يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2، الزمر: 5] . والجواب أن يقال: إنَّ معنى قوله: {يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2، الزمر: 5] يجري لبلوغ أجل مسمى. وقوله: {يجري إلى أَجَلٍ} [لقمان: 29] معناه: لا يزال جارياً حتى ينتهي إلى آخر وقتِ جَريهِ المسمى له. وإنما خص ما في سورة لقمان بـ (إلى) التي للانتهاء واللام تؤدي نحو معناها لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى، لأن الآليات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة. فقبلها: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] وبعدها: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ} [لقمان: 33] فكان المعنى: كل يجري إلى ذلك الوقت، وهو الوقت الذي تكرر فيه الشمس وتنكدر فيه النجوم كما أخبر الله تعالى. وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق هوقوله: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار * خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 5-6] . فالآيات التي تكتنفها في ذكر ابتداء خلق السموات والأرض وابتداء جري الكواكب وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية، وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو ذكر النعم التي بدأ بها في البر والبحر إذ يقول: {وَمَا يَسْتَوِي البحران} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: 12-13] فاختص ما عند ذِكْرِ النهاية بحرفها - واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها". ومن لطيف ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان: 5-6] . فقال أولاً: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} [الإنسان: 5] بـ (من) وقال بعدها: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: 6] بالباء. وقد ذهب قسم من النحاة إلى أن الباء ههنا تفيد التبعيض بمعنى (من) أي: يشرب منها. وقيل: بل ضَمَّنَ شرب معنى (روي) أي: يرتوي بها وهو أولى. وفيها معنى آخر: وذلك أن قوله: {يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: 6] يدل على أنهم نازلون بالعين يشربون منها من قولك: (نزلت بالمكان) فهو يدل على القرب والشرب، فالتمتع حاصل بلذتي النظر والشراب بخلاف الأول. جاء في (البرهان) أن "العين ههنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه، نحو: (نزلت بعين) فصار كقوله: مكاناً يشرب به". قالوا: وذلك أنه ذكر صنفين من السعداء: الصنف الأول: هم الأبرار. والصنف الآخلا هم الذي سماهم {عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] وهم أعلى مرتبة ممن قبلهم وذلك أن القرآن يستعمل كلمة (عبد) على معنيين: المعنى الأول: العبودية القسرية وهي التي يشترك فيها كل الخلق كافرهم ومؤمنهم وذلك نحو قوله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمان عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم: 93-94] وهذه العبودية ليس فيها فضل لأحد على أحد. والمعنى الثاني: العبودية الاختيارية وهي أن يجعل الشخص نفسه عبداً خالصاً لله موطّناً نفسه على عبادته متحرياً مرضاته ساعياً في طاعته واضعاً نفسه ووقته في خدمة مولاه شأن المولى مع سيده في أقل تقدير. ويتفاضل الناس بمقدار هذه العبودية، فكلما كان الشخص أكمل في عبوديته هذه وأتم كان أقرب إلى سيده. وتطلق هذه الصفة أعني صفة العبودية على أعلى الخلق وهم الأنبياء في مقام التشريف قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19] وقال: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} [الإسراء: 1] وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] . من هنا يتبين أن مرتبة الذين سماهم {عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] أعلى من الأبرار. وقد فرق بين النعيمين كما فرق بين الصنفين. فقد قال في الأبرار: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5] وقال في الآخرين: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان: 6] . وأنت ترى الفرق واضحاً بين النعيمين. فقد قال في الأبرار: 1- إنهم يشربون من كأس. 2- وذكر أن هذه الكأس ليس خالصة بل ممتزجة {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5] . واما الصنف الآخر فهم لا يشربون من كأس يؤتى بها بل يشربون خالصة من العين وهي مرتبة أعلى. ثم قال: {يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: 6] ولم يقل (يشرب منها) أي: يرتوون بها، هذا علاوة على التمتع بلذبة النظر وهم نازلون بالعين. وهذا التعبير نظير قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون * إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطففين: 18-28] . فذكر الصنفين من السعداء: صنف الأبرار وصنف السابقين المقربين وهم أعلى الخلق. فانظر كيف قال في نعيم الأبرار: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ... وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين: 25-27] أي: إنهم يُسقون من رحيق ممزوج بالتسنيم، والتسنيم أعلى شرب في الجنة وهو يُمزج لهم بحسب أعمالهم. في حين قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطففين: 28] أي: إن المقربين يشربون من عين التسنيم خالصة، فإنهم كما أخلصوا أنفسهم وأعمالهم لله أخلص لهم الشراب، والجزاء من جنس العمل. وهم لا يشربون منها بل يشربون بها. فهذا - كما ترى - نظير ما مر في سورة الإنسان. ويجرنا هذا التعبير إلى التشابه والاختلاف في التعبير عن الجزاء، إذ هو مرتبط بما نحن فيه ارتباطاً وثيقاً. فهو يختار الألفاظ اخياراً دقيقاً عجيباً في التعبير عن كل صنف، فمن ذلك ما جاء في سورة الرحمن في وصف نوعين من الجنان قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجنتين دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 46-61] . ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 62-77] . فأنت ترى أنه ذكر نوعين من الجنان بعضهما أعلى من بعض، فذكر الجنان العليا أولاً ثم قال: (ومن دونهما جنتان) أي: أقل منزلة منهما. وإليك طرفاً من التفريق بين الصنفين: 1- قال وصف الجنتين العُلْييين: إنهما {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] في حين قال في الأخريين: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] أي: مائلتان للسواد من شدة الخضرة. والوصف الأول أعلى فإن الأفنان تطلق على ضروب عدة من النعم لا يفيدها قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] . 2- وقال في العُلْييين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] وقال في الأخريين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66] . وماء الجري أكثر من ماء النضخ. وقيل في الجري معان أخرى من صفات النعم لا يفيدها قوله نضاختان. 3- وقال في العُلْييين: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وقال في الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] . فانظر أين فاكهة الثانيتين من الأوليين؟ فقد ذكر أن في العليين. من كل فاكهة زوجين على سبيل الاستغراق والعموم، ولم يجعل الوصف كذلك في الأخريين. 4- وقال في العُلْييين: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] . وقال في الأخريين: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] . فقد ذكر بطائن الأولى فقال: إنها من استبرق ولم يذكر ظهائرها لِعُلُوِّها وللإشارة إلى أن الوصف لا يرقى إليها. قال في (الكشاف) : "وإذا كانت البطائن من إستبرق فما ظنك بالظهائر؟ ". في حين ذكر الأخرى فقال: هي رفرف خضر وعبقري حسان. وانظر أين هذا من ذاك؟ 5- وقال في العُلْييين: (فيهن قاصرت الطرف) في حين قال في الأخريين: (حور مقصورات في الخيام) . فانظر هداك الله وصف (القاصرات) بصيغة اسم الفاعل ووصف (المقصورات) بصيغة اسم المفعول ووزان بين الوصفين يتبين الفضل بين الصنفين. 6- وقال في صوف قاصرات الطرف: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: 58] ولم يقل مثل ذلك في المقصورات، وهذا الوصف مدعاة إلى التشويق لإحسان العمل و {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] ؟ وانظر إلى دقيقة أخرى عجيبة في وصف هاتين الجنتين ذكرها السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهي أن قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 61] تكرر في كل جنة ثماني مرات بعدد أبواب الجنة. وتكرر في جهنم بعد قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: 31] سبع مرات بعدد أبواب النار فإن أبواب الجنة ثمانية كما أخبر به الصادق المصدوق، وإن أبواب النار سبعة كما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44] . فانظر هداك الله مقام هذا الكلام ورفعته وعزته. ونظير هذا التفريق في الجزاء ما جاء في سورة الواقعة في التفريق بين نعيم السابقين المقربين وهم أعلى الخلق ونعيم أصحاب اليمين. قال تعالى في السابقين: {والسابقون السابقون * أولائك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين * على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون * جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 10-26] . وقال في أصحاب اليمين: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 27-38] . فانظر كيف فرق بين النعيمين: 1- ذكر أن السابقين على سُرُرٍ موضونة وهي المشبكة بالذهب، متكئين عليها متقابلين، ولم يذكر مثل ذلك في أصحاب اليمين بل قال: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] وأنت ترى الفرق واضحاً بين الحالتين. وقيل: إنَّ المراد بالفرش ههنا النساء. 2- وذكر أن السابقين يطوف علبيه ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين. ولم يذكر نحو ذلك في أصحاب اليمين. بل قال: {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} [الواقعة: 31] والفرق ظاهر. 3- وذكر نعيم السابقين فقال: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20-21] في حين قال في أصحاب اليمين: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: 28-29] إلى أن قال: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32-33] . فأين السدر المخضود والطلح المنضود من قوله: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20-21] ؟ 4- وذكر أزواج السابقين من الحور العين فقال: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 22-23] ولم يصرح بمثل ذلك لأصحاب اليمين بل قال: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 35-38] . وهذا نظير وصفهن في آيات الرحمن: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: 58] . ويقال ههنا ما قيل ثَمَّ. ونكتفي بهذا القدر لبيان التشابه والاختلاف وإن كان يحتمل المزيد من الكلام والأمثلة. لقد تبين مما مر أن القرآن يختار الألفاظ اختياراً دقيقاً، وبضعها وضعاً فيناً عجيباً. وأن التشابه والاختلاف في قسم من التعبيرات إنما يقتضيه المعنى والمقام. وأنه لم يترك وجهاً من وجوه الاقتضاء إلا راعاه، ليس في سياق الآية وحدها ولا في جو السورة وحدها، بل في عموم القرآن. {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} [الطور: 34] . فواصل الآي من المعلوم أن الآيات القرآنية الكريمة تنتهي بفواصل منسجمة موسيقياً بعضها مع بعض مثل: (تعلمون، تؤمنون، تتقون) ومثل (خبيراً، كبيراً، عليماً، حكيماً) . ومن الملاحظ أن القرآن الكريم يعنى بهذا الانسجام عناية واضحة لما لذلك من تأثير كبير على السمع ووقع مؤثر في النفس. فقد ترى أنه مرة يقدم كلمة ومرة يؤخرها انسجاماً مع فواصل الآيات، فمثلاً يقول مرة: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47-48] بتقديم موسى على هارون، فيجعل لكمة (هارون) نهاية الفاصلة انسجاماً مع الفواصل السابقة واللاحقة، ومرة يقول: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] بتقديم هارون وجعل (موسى) نهاية الفاصلة لأن الألف فيها هي التي تناسب فواصل الآي في سوة طه. وقد ترى أنه يحذف شيئاً من الكلم لتنسجم مع فواصل الآي، إذ لو أبقى المحذوف لم ينسجم، وذلك نحو قوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72-73] إذ الأصل: (أو يضرونكم) مقابل: (ينفعونكم) ولكنه حذف المفعول به من (يضرونكم) ، إذ لو أبقاه لم تنسجم فاصلة الآية مع بقية الآليات. وقد يزيد شيئاً في الكلمة للغرض نفسه وذلك نحو قوله تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] فقد مَدَّ فتحة (السبيل) لتنسجم الفاصلة مع فواصل الآية المتقدمة والمتأخرة. وقد نرى أنه يبدل كلمة بكلمة أخرى مع أن الآيتين متشابهتان، ذلك لأن فواصل الآي في كل من الموطنين مختلفة، فيجعل في نهاية كل آية ما ينسجم موسيقياً مع أخواتها وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] وقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] فأنت ترى أن الآيتين متشابهتان إلا في خواتم الآي، فإن فاصلة آية إبراهيم وهو قوله: (كفار) منسجمة مع فواصل الآيات قبلها وبعدها (الأنهار، النهار، كفار، الأصنام) . وفاصلةآية النحل: (رحيم) منسجمة مع فواصل الآيات قبلها وبعدها: (تشكرون، تهتدون، تذكّر ون) . وقد ترى أنه يضع كلمة في مكان ويضع غيرها في مكان آخر يبدو شبيهاً بالموضع الأول تجنباً للتكرار، وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] وقوله في مكان آخر من السورة نفسها: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116] . فأنت ترى أنه غاير بين الفاصلتين تجنباً للتكرار. ونحو ذلك مما يبدو فيه مراعاة الانسجام الموسيقي واضحاً. غير أن الذي نريد أن نؤكده هنا أن القرآن الكريم راعى في كل ذلك أيضاً ما يقتضيه التعبير والمعنى، ولم يفعل ذلك للانسجام الموسيقي وحده، فإنه لو لم يكن الجانب الموسيقي مراعىً في ذلك لاقتضاه الكلام من جهة أخرى. فهو لم يختم آية الشعراء بكلمة (هرون) وآية طه بكلمة (موسى) مراعاة للانسجام الموسيقي وحده، بل اقتضاه الكلام من جهة أخرى. فهو قد راعى الانسجام الموسيقي وما يقتضيه الكلام، فلم يَجُرْ موطن على آخر وهذا غاية الإعجاز ونهاية الحسن في الكلام. وقد تظن أن في كلامنا هذا غلواً ومبالغة دفعنا إليهما إحساس ديني وتقديس نُكِنّه للقرآن الكريم وليس نابعاً من روح علمية ولا من نفس بريئة من العصبية والهوى. ولا نريد أن ندفع من أنفسنا هذه التهمة أو نقرها وإنما ندع ذلك للبحث يدفعه أن يقره. غير أننا نود أن نذكر هنا أن كثيراً من علماء السلف ذكروا ذلك، فقد قال الآلوسي رحمه الله ردّاً على القاضي البيضاوي قوله في قوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143] : "ولعله قدم (الرؤوف) وهو أبلغ محافظة على الفواصل". "وقول القاضي بَيَّضَ الله تعالى غُرّة أحواله: لعل تقديم (الرؤوف) مع أنه أبلغ محافظة على الفواصل ليس بشيء، لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع، فالمراعاة حاصلة على كل حل، ولأن [الرأفة] حيث وردت في القرآن قُدِّمَتْ ولو في غير الفواصل، كما في قوله تعالى: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} [الحديد: 27] في وسط الآية". صحيح أن قسماً من الذين بحثوا في أسرار التعبير القرآني لم يوفقوا في اكتناه أسرار التأليف، بحيث تدرك أن تعليلاتهم متكلفة وتأويلاتهم بعيدة، وربما أدركت أيضاً أنه لو كان الكلام على غير هذه الصورة لأَوَّلُوه وعَلَّلوه تعليلاً آخر. ولكن هناك قسم آخر تمكن من أن يضع يده على أنفس الجواهر في التأليف وأن يستكنه أدق أسرار التعبير من غير تكلف ولا غموض. وأحسب أنه من الأولى أن نضرب أمثلة نوضح بها هذا الادعاء وأن لا نطيل في الكلام وتقرير الأحكام. فمن ذلك ما ذكرناه آنفاً وهوقوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72-73] . فقد ذكر مفعول النفع ولم يذكر مفعول الضر. وقد تظن أنه إنما فعل ذلك لفواصل الآي، ولا شك أنّه لو ذكر المفعول به لم تنسجم الفاصلة مع فواصل الآي، ولكن الحذف اقتضاه المعنى أيضاً فقد ذكر مفعول النفع فقال: (ينفعونكم) لأنهم يريدون النفع لأنفسهم. وأطلق الضر لسببين: الأول: أن الإنسان لا يريد الضرر لنفسه وإنما يريده لعدوه. والآخر: أن الإنسان يخشى من يستطعي أن يلحق به الضرر. فأنت ترى أن النفع موطن تخصيص والضَرَّ موضع إطلاق، فخص النفع وأطلق الضر. والمعنى أن هذه الآلهة لا تتمكن من الإضرار بعدوكم، كما أنها لا تستطيع أن تضركم فلماذا تعبدونها؟ ولو ذكر المفعول به فقال: (أو يضرونكم) لما أفاد هذين المعنيين: فانظر كيف أن الإطلاق في الضر اقتضاه المعنى علاوة على الفاصلة؟ ومثل ذلك قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} [طه: 79] . ولم يقل: (وما هداهم) وذلك أنه أخرج الفعلَ مخرج العموم، أي: إن فرعون لم يتصف بصفة الهداية البتة. ولو قال: (وما هداهم) لكان عدم الهداية مقيداً بقومه إذ يحتمل أنه هَدى غيرهم لكنه قال: (وما هدى) أي: ما هَدى أحداً. فهو قد أضل قومه ولم يهد أحداً لا من قومه ولا غيرهم. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] . وقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] . فقد تظن أنه ختم آية إبراهيم بقوله: (كفار) مراعاة لفواصل الآي في هذه السورة، وختم آية النحل بـ (رحيم) مراعاة لفواصل الآي فيها. ولا شك أن خاتمة كل من الآيتين تنسجم موسيقياً مع الآيات فيهما، ولكن السياق أيضاً يقتضي الفاصلة التي فصلت فيها كل آية من الآيتين، ذلك أن الآية في سورة إبراهيم في سياق وصف الإنسان وذكر صفاته فختم الآية بصفة الإنسان، وأ ن الآية في سورة النحل في سياق صفات الله تعالى فذكر صفاته. فقد قال في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار * وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار * قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم: 28-31] . فاقتضى ذلك ختم الآية بصفة الإنسان. وقال في سورة النحل: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 5-15] . فأنت ترى أن الكلام على صفات الله ونعمه على الإنسان فختمه بصفته. جاء في (معترك الأقران) أنه "إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعَم عليه وسورة النحل بصوف المنعِم، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته". وقال في (البرهان) : "ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف المنعِم وآية إبراهيم بوصف المنعَم عليه؟ والجواب: أن سياق الآية في سورة إبراهيم في صوف الإنسان وما جُبِلَ عليه، فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه. وأما آية النحل فسيقت في وصف الله تعالى وإثبات ألوهتيه وتحقيق صفاته، فناسب ذلك وصفه سبحانه". ومن ذلك قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] . وقوله: {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 46-48] . قدم في (طه) ذكر هرون وفي (الشعراء) ذكر موسى. وقد تظن أن ذلك ما يقتضيه أواخر الآي. ونقول: صحيح أن أواخر الآي في سورة (طه) تقتضي أن يكون (موسى) في آخر الآية، وفي (الشعراء) تقتضي أن تكون كلمة (هرون) هي الفاصلة، ولكن هناك ملحظ آخر يقتضي تقديمَ ما قدم وتأخيرَ ما أخر، ولو لم تكن أواخر الآي كذلك. وانظر إلى الفرق بين القصتين في السورتين. 1- إن ذكر (هرون) تكرر في سورة (طه) كثيراً وقد جعله الله شريكاً لموسى في تبليغ رسالته، في حين لم يرد في سورة الشعراء إلا قليلاً. من ذلك قوله في سورة طه: أ- {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشدد بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} [طه: 29-32] . ب- {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] . فقد أمر كلاً من موسى وهرون بالذهاب بآياته ولم يخص موسى بذاك. ج- وكرر ذلك فقال: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 43-44] . د- وكان الجواب صادراً منهما معاً: {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} [طه: 45] . هـ- وقد طمأنهما ربهما معاً فقال: {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] . و وأمرهما معاً فقال: {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [طه: 47] . ز- وكان خطاب فرعون لهما معاً: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: 49] . ولم يقل له: فمن ربك؟ ح- ونسبهما كليهما إلى السحر فقال: {إِنْ هاذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} [طه: 63] . ط- وقد ورد تخليف موسى لهرون في قومه فنصح لهم في غيبته. قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمان فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي} [طه: 90] . ي- ولقد عاتب موسى أخاه هرون بشدة: {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} [طه: 92-93] . في حين لم يرد هرون ف سورة الشعراء إلا قليلاً وهو قوله: أ- {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} [الشعراء: 13] . ب- {فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] . وفيما كن الخطاب في آيات طه موجهاً إلى موسى وهرون معاً، كان موجهاً إلى موسى وحده في الشعراء: {قَالَ لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29] . وقد نسب موسى وحده إلى السحر ولم ينسب معه هرون كما جاء في طه فقال: {إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} [الشعراء: 34-35] . ولم يرد ذكر لهرون بعد هذا. فأنت ترى أن القصة في طه مبنية على التثنية وأنها في الشعراء مبنية على الإفراد؟ 2- هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنه ذكر في آيات طه خوفَ موسى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67] ولم يذكر حالة الخوف هذه في الشعراء. فأنت ترى أنه ذكرت جوانب الكمال والقوة في موسى في الشعراء، ولم ت ذكر حالة الضعف البشري الذي اعتراه. فاقتضى كل ذلك المغايرة في التعبير بين القصتين، وأظنك في غنى عن أن أقول لك: لو قيل لك: قدّم وأخر بين الاسمين حسبما يقتضيه السياق لقدّمت هرون على موسى في طه، وموسى على هرون في الشعراء. وعلاوة على ذلك هناك طريقة أخرى، وهي أن سورة (طه) تبدأ بالحرفين: الطاء والهاء. وسورة الشعراء تبدأ بـ (طسم) . فكلتا السورتين تبدأ بالطاء غير أن الحرف الأخير من (طه) هو الهاء، وهو أول حروف هرون وليس فيها حرف من حروف موسى. والحرف الأخير من (طسم) هو الميم وهو أول حرف من حروف (موسى) وليس فيها حرف من حروف هرون. أفلا يزيد حسناً على حسن تقديم هرون على موسى في طه وتقديم موسى على هرون في الشعراء. وقد ترى ذلك إغراقاً في التعليل، وربما كان ذاك، إلا أن العجيب أن كل سورة تبدأ بالطاء ترد فيه قصة موسى في أوائلها مفصلة قبل سائر القصص، مثل: (طه، وطس، وطسم في القصص، وطسم في الشعراء) وليس في المواطن الأخرى مما يبدأ بالحروف المقطعة مثل ذلك. فالقاسم المشترك فيما يبدأ بالحروف (ط) قصة موسى مفصلة في أوائل السورة. والملاحظة الأخرى أن ما يبدأ بـ (طسم) تكون قصة موسى فيها أطول مما يبدأ بـ (طس) فكأن زيادة الميم إشعار بزيادة القصة فانظر يا رعاك الله أي سر من أسرار التعبير هذا؟ ومن بديع الفاصلة قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} [غافر: 78] . وقوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} [غافر: 85] . فقد ختم الآية الأولى بقوله: (المبطلون) وختم الآية الثانية بقوله: (الكافرون) وذلك لأن كل كلمة مناسبة للسياق الذي وردت فيه. فالأولى وردت في سياق الحق، ونقيضُ الحقِّ الباطل. والثانية في سياق الإيمان، ونقيض الإيمان الكفر. قال تعالى في الآية الأولى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} [غافر: 78] . وقال في الآية الثانية: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} [غافر: 84-85] ؟ جاء في (البرهان) للكرماني في اختيار هاتين الفاصلتين أن "الأول متصل بقوله: {قُضِيَ بالحق} [غافر: 78] ونقيض الحق الباطل. والثاني متصل بإيمان غير مُجْدٍ ونقيضُ الإيمان الكفر". ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 26-27] . "فانظر إلى قوله في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: 26] ولم يقل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} [السجدة: 27] . وقال بعد ذكر الموعظة: {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، او أخبار القرون وهو مما يُسمع. وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مَرْئية: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} [السجدة: 27] وقال بعدها: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] لأن سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئي". ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إلاه غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إلاه غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 71-72] . فانظر كيف ختم آية الليل بقوله: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] لأن الليل يصلح فيه السمع وختم آية النهار بقوله: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] لأنه صلح للإبصار؟ جاء في (البرهان) في هاتين الآيتين: فاقتضت البلاغة أن يقول: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي يصلح للاستماع ولا يصلح للإبصار. وكذلك قال في الآية التي تليها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إلاه غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] ... فاقتضت البلاغة أن يقول: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] إذ الظرف مضيء صالح للإبصار. وهذا من دقيق المناسبة المعنوية". ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] . وقوله أيضاً: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [فصلت: 36] . في حين قال: {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [غافر: 56] . فانظر كيف جاء بالاستعاذة من الشيطان الذي نعلمه ولا نراه بقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [فصلت: 36] وجاء فيمن يرى ويبصر من شياطين الإنس بقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [غافر: 56] فانظر دقة هذا التعبير وجماله. جاء في (التفسير القيم) : "وتأمل حكمة القرآن كيف جاء بالاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ: {السميع العليم} [فصلت: 36] في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويُرون بالإبصار بلفظ: {السميع البصير} [غافر: 56] في سورة حم المؤمن ... لأن أفعالَ هؤلاء معاينةٌ بالبصر. وأما نزغ الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم، فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يُرَى بالبصر ويُدْرَكُ بالرؤية والله أعلم". ومن ذلك قوله تعالى: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلىءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6] . وقوله: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هاذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] . فقدم العلم على الحكمة في سورة (يوسف) ، وقدم الحكمة على العلم في (الأنعام) ، وذلك لأنه في سورة يوسف تقدم قوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} [يوسف: 6] وهذا موطن علم فقدم العلم لذلك، وفي الأنعام موطن تشريع فقدم الحكم لذلك. جاء في (البرهان) : "وأما تقديم الحكيم على العليم في سورة الأنعام فلأنه مقام تشريع الأحكام. وأما في أول سورة يوسف فقدم العليم على الحكيم لقوله في آخرها: وعلمتني من تأويل الأحاديث". ومن الطريف أن نذكر هنا أنه حيث اجتمع الاسمان: (العليم والحكيم) في سورة الأنعام قُدِّمَ الحكيمُ على العليم وحيث اجتمعا في سورة يوسف قدم العليم على الحكيم وذلك لأن مواطن يوسف كلها مواطن علم أولاً فقدم (العليم) ومواطن الأنعام مواطن حكمة أو حُكم فقدم (الحكيم) ، مما يدل على أن كل كلمة إنما وضعت مقصودةً قصداً. فانظر أي تنسيق وأي دقة في هذا الكلام العزيز؟ ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32] . وقوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 42-44] . فقال في آية الرعد: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32] وقال في آية الحج: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] وذلك أنه ذكر في آية الرعد المستهزئين وذكر في آية الحج المكذِّبين. والمستهزئون أعظم جرماً من المكذبين، لأنهم يجمعون السخرية إلى الكذب فكان الوعيد لهم أشد. إذ رُبَّ نكير لا يصحبه عقاب، فجعل كل وعيد بإزاء جرمه الذي يناسبه. جاء في (ملاك التأويل) : "للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب الأولى بقوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32] والثانية بقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} مع تساوي الآيتين في مقصود الوعيد بمكذِّبي الرسل عليهم السلام. والجواب والله أعلم، أن العقاب أشد موقعاً من النكير، لأن الإنكار قد يقع على ما لا عقاب فيه بالفعل وعلى ما فيه العقاب بالفعل، أما مسمى العقاب فإنما يُراد به في الغالب أخذ بعذاب مناسب لحال لمجرم إثر معصيته وعقيب جريمته. وقد تقدم في آية الرعد قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} [الرعد: 32] والاستهزاء أمرٌ مرتكب زائد على التكذيب من التهاون، والاستخفاف بجريمة مرتكبة أشنع جريمة فناسبها الإفصاح بالعقاب. أما آية الحج فإن الوعيد فيها للمذكورين بالتكذيب، ولم يذكر منهم استهزاء قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... } [الحج: 42] فلم يخبر عن هؤلاء بغير التكذيب.. فناسب النظم تعقيب كل آية بما يناسب مرتكب من تقدم فيها، ولم يكن عكس الوارد ليناسب". ومنه قوله تعالى على لسان موسى للرجل الصالح عندما خرق السفينة: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] . وقوله له عندما قتل الغلام: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74] . فوصف خرق السفينة بأنه شيءٌ إِمْر، ووصف قتل الغلام بأنه شيء نُكْر. وذلك أن خرق السفينة دون قتل الغلام شناعة فإنه إنما خرق السفينة لتبقى لمالكيها. وهذا لا يبلغ مبلغ قتل الغلام بغير سبب ظاهر. والإمر دون النكر، فوضع التعبير في كل موضع بما يناسب كل فعل. وعن قتادة: النكر أشد من الإمر. فجاء كل على ما يلائم، ولم يكن ليحسن مجيء أحد الوصفين في موضع الآخر. ومنه قوله تعالى: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 15] . وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 27] . فقد قال في الأولى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 15] وفي الثانية: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 27] . "ووجه ذلك - ولله أعلم - أن الآية الأولى أعقب بها ما تقدمها متصلاً بها من الآي في كفار مكة وفعلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في التضييق والإخراج ... فأمر تعالى بقتالهم ووعد بتعذيبهم وخزيهم والنصر عليهم وشفاء صدور من آمن ... قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . ثم قال: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} [التوبة: 15] ... أي: من أسلم منهم بعدما صدر من اجتهاده في الأذية والصد عن سبيل الله ثم قال: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 15] أي: بما في القتال أو طيّ ما جرى من ذلك كله بتقديره السابق أولاً ... وما في ذلك من الحكمة ... وأما الآية الثانية فسببها والله أعلم ما جرى يوم حنين من تولِّي الناس مُدْبرين حين ابتلوا بإعجابهم بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم أحد، إذ لم يبرح عليه السلام من مكانه فلم يثبت معه إلا القليل ... فختمت هذه الآية بقوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 27] تأنسياً لمن فَرَّ من المسلمين في ذلك اليوم، وبشارة لهم بتوبة الله عليهم، وأن ما وقع منهم من الفرار مغفور لهم رحمة من الله، فجاء كلٌّ من هذا الباب على ما يناسب ويلائم ولا يلائم خلافه". ومن ذلك قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22] . وقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} [النحل: 109] . وسر هذا الاختلاف في آية هود فيمن صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم وضوعف لهم العذاب، وآية النحل فيمن صدّ هو ولم يصدّ غيره، فكان الأولون أخسر من الآخرين فجيء لهم باسم التفضيل. قال تعالى في (هود) : {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ * أولائك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أولائك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 19-22] . وقال في (النحل) : {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين * أولائك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وأولائك هُمُ الغافلون * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} [النحل: 107-109] . جاء في (البرهان) للكرماني أن قوله في هود: {هُمُ الأخسرون} [هود: 22] "لأن هؤلاء صدروا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فَضَلُّوا وأضلوا الأخسرون يُضاعَفُ لهم العذاب، وفي النحل صدوا فهم الأخسرون". ومن ذلك قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاوة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . وقوله: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153] . فقد أعاد الضمير في الآية الأولى على الصلاة وختم الآية بالكلام عليها. وختم الكلام في الآية الثانية على الصبر، وذلك أن الكلام في الآية الأولى على الصلاة فقد تقدم ذكر الصلاة والمطالبة بها. قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: 43] بخلاف قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153] فقد ختم الآية بالكلام على الصبر وذلك لأن الكلام عليه والسياق يقتضيه، فقد قال تعالى بعد هذه الآية: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين * الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 154-156] . فلما كان السياق في الموطن الأول عن الصلاة، أعاد الضمير عليها وختم الآية بها. ولما كان السياق في الموطن الثاني عن الصبر، ختم الآية بالكلام على الصابرين. ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] . وقوله مرة أخرى في السورة نفسها: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116] . فقد ختم الآية الأولى بقوله: {فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] وختم الآية الثانية بقوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116] . وسبب هذا الاختلاف أن الآية الأولى في سياق الكلام على افتراءات اليهود وكذبهم، فقد قال قبل هذه الآية: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46] وقال بعدها: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 50] فناسب ذلك قوله: {فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] . وأما الآية الأخرى فهي في المشركين من غير أهل الكتاب، وهم لم يفتروا على الله لأنهم ليسوا أصحاب كتاب أصلاً وإنما هم ضالون، فناسب ذلك قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116] ثم انظر كيف قال بعدها على لسان الشيطان: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: 119] . فالكلام في سياق الضلال والإضلال فناسب ذلك هدة الخاتمة. جاء في كتاب (من بلاغة القرآن) في سر هذا الاختلاف بين الآيتين: "ونستطيع أن نلمس سر هذا الاختلاف في أن الآية الأولى وردت في حديث عن اليهود الذين افتروا على الله الكذب، مما ناسب أن تختم الآية بالافتراء الذي اعتاده اليهود وهم أهل الكتاب. أما الآية الثانية فقد وردت في حديث عن المشركين، وهم في إشراكهم لا يفترون ولكنهم ضالون ضلالاً بعيداً". ومن ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 180-182] . ختم الآية الأولى بالسمع والعلم لما قال قبل: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] وختم الآية الثانية بالمغفرة والرحمة لما قال قبلها: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] وهذا نظير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] . فقد ختم الآية بقوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] لما قال قبلها: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . جاء في (البرهان) للكراماني: "قوله في آية الوصية: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181] ، خصّ السمع والعلم بالذكر لما في الآية من قوله: {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] ليكون مطابقاً. وقال في الآية الأخرى بعدها: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 182] لقوله: قبله: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] فهو مطابق معنى". ومن ذلك قوله تعالى: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] . وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . فقد ختم آية الأنعام بقوله: {وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] وختم آية هود بقوله: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] ذلك لأن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ. قال تعالى: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 130-131] . فأنت ترى أن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ وتبيان أن الله لم يُهلك أقواماً غافلين لم يُنذروا ولم يُكَلَّفُوا، فإن من لم ينذر فهو غافل. قال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] وما كان الله ليهلك مثل هؤلاء الأقوام، ولذا ختمها بقوله: {وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] . وأما آية هود فهي في الكلام على الإصلاح والنهي عن الفساد في الأرض ولذا ختمها بالإصلاح قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117] . فناسب ختام كل آية السياق الذي هي فيه. جاء في (درة التنزيل) في هاتين الآيتين: "للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى: {غافلون} [الأنعام: 131] وفي الثانية: {مُصْلِحُونَ} [هود: 117] ؟ والجواب: إن ذلك إشارة إلى ما تقدم من العقاب في قوله: {قَالَ النار مثواكم خالدين فِيهَآ} [الأنعام: 128] وبعد: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا} [الأنعام: 130] . يعني: العقاب في يوم القيامة، لأنه لم يكن ربك ليفعله من قبل أن يحتج عليهم برسل يهدونهم وينذرونهم ما وراءهم من محذورهم، ولا يتركونهم في غفلة من أمورهم. فاقتضى هذا المكان أن يقال لهم: لم يؤخذوا وهم غافلون بل كانوا مُنَبَّهين بالإعذار والإنذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وأما الموضع الثاني الذي ذكر فيه {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] فللبناء على ما تقدم وهو قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116] فدل على أن القوم كانوا مفسدين حتى نهاهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض. وكان نقيض الفساد في الأرض الصلاح فقال: لم يكن الله ليهلكهم وهم مصلحون. فاقتضى ما تقدم في كل آية ما اتبعت من الغافلين والمصلحين". ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] . وقوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] . وقوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] . ففي آية الأعراف وصف العذاب بالإيلام، وفي هود بالقرب، وفي الشعراء وصف اليوم بالعظمة، وذلك أنه في الأعراف ذكر قوم صالح وكثرة تحديهم واستهزائهم وعُتُوِّهِم ولم يذكر مثل ذلك في السور الأخرى. قال تعالى: {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 76-77] . فقد ذكر عنهم أنهم: 1- أعلنوا كفرهم (إنا بالذي آمنتم به كافرون) . 2- وأنهم عَتَوْا عن أمر ربهم. 3- وأنهم تحدوه وقالوا: ائتنا بما تَعِدُنا إنْ كنت من المرسلين. وليس الأمر كذلك في المكانين الآخرين. فقد قال في هود: {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هاذا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62] . فليس فيه مثل ذلك التحدي ولم يذكر أنهم عتوا عن أمر ربهم حتى أنهم لم يصرحوا بكفرهم، بل ذكروا أنهم في شك {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62] . فأنت ترى أن السياق في كل من الموطنين يختلف عن الآخر. وكذلك ما جاء في سورة الشعراء فإنه لم يذكر تحديهم ولا عتوهم واستكبارهم، فاستحقوا أن يذكر لهم العذاب الأليم في سورة الأعراف. وأما في سورة هود فقد وصف العذاب بالقرب لما ذكر قبله: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] . وأما في الشعراء فقد وصف اليوم لما ذكر قبلها: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] جاء في (البرهان) للكرماني في سر اختلاف هذه الآيات أنه في سورة الأعراف "بالغ في الوعظ فبالغ في الوعيد فقال: عذاب أليم. وفي هود لما اتصل بقوله: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) وصفه بالقرب فقال: {عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] . وزاد في الشعراء ذكر اليوم لأن قبله: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] والتقدير: لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، فختم الآية بذكر اليوم فقال: عذاب يوم عظيم". لقد تبين مما مر أن القرآن الكريم لا يعني بالفاصلة على حساب المعنى ولا على حساب مقتضى الحال والسياق، بل هو يحسب لكل ذلك حسابه، فهو يختار الفاصلة مراعىً فيها المعنى والسياق والجرس ومراعىً فيها خواتم الآي وجو السورة ومراعىً فيها كل الأمور التعبيرية والفنية الأخرى، بل مراعىً فيها إلى جانب ذلك كله عموم التعبير القرآني وفواصله، بحيث تدرك أنه اختار هذه الفاصلة في هذه السورة لسبب ما، واختار غيرها أو شبيهاً بها في سورة أخرى لسبب دعا إليه. وجمع بين كل ذلك ونَسَّقه بطريقة فنية في غاية الروعة والجمال حتى كأنك تحس أنها جاءت بصورة طبيعية غير مقصودة، مع أنها في أعلى درجات الفن والصياغة والجمال. فما أجله من كلام وما أعظمه من تعبير. السمة التعبيرية للسياق 872631> الصفحة غير موجودة الحشد الفني لقد مر بنا تبيين الناحية الفنية في موضع واحد من الآية غالباً، كأن يختار لفظة على لفظة أو يقدّم لفظة على أخرى، أو يزيد في المكان ويحذف من مكان آخر ونحو ذلك. وربما اقتضانا الحديث أن نعرض لأكثر من موضع في الآية الواحدة أو السياق الواحد، مما يدل دلالة واضحة على أن كل كلمة بل كل حرف وُضِعَ وضعاً فنياً مقصوداً في غاية الدقة والجمال. وليست هذه الآيات أو السياقات التي سنختارها وحدها موضع الحشد، بل إن القرآنَ كله حَشدٌ فني عظيم متكامل، غير أنه لا بد لبيان ذلك أن نختار أمثلة تعيننا على إيضاح ما ندّعيه. ونود قبل أن نشرع في ضرب الأمثلة أن نبين أنه قد يراعى في اختيار التعبير أمور عديدة وجوانب كثيرة، فقد يراعى السياق الذي ورد فيه التعبير. والسورة التي ورد فيها السياق، والسياقات الأخرى التي يرد فيها تعبير مقارب لهذا التعبير، والسور الأخرى التي فيها مواطن تعبيرية متشابهة أو مختلفة. فهو قد يراعي في تعبير السورة الواحدة وبنائها تعبير جميع السور الأخرى من القرآن الكريم وبناءها. ولنوضح ذلك بأمثلة من سورة واحدة ولتكن سورة الأنعام، ولا نريد أن نبين الجوانب البلاغية والفنية فيما نذكر، بل نقصر الكلام على بيان قسم من العلاقات الفنية التي يراعيها القرآن في السور نفسها أو السور الأخرى. لقد افتتحت السورة بقوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . وقال في خاتمة السورة: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} فناسب بين البدء والختام، فقد ذكر أن الذين كفروا بربهم يعدلون، أما هو فلا يعدل بربه شيئاً. فانظر هذه المناسبة والملاءمة في التعبير حتى كأن التعبيرين في البدء والختام آية واحدة. ثم انظر إلى التناظر بين التعبيرين فإنه قدّم في التعبير الأول متعلق (يعدلون) وهو قوله: (بربهم) ، وقدم في التعبير الآخر مفعول (أبغي) وهو قوله: {أَغَيْرَ الله} . ثم انظر كيف قال في الختام: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وقال في البدء: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} أليس الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور رب كل شيء؟ فانظر عُلُوَّ هذا الكلام ورفعته. ولا تحسبن أن هذه السورة هي السورة الوحيدة التي نُوسِبَ بين مُفْتَتَحِهَا وخاتمتها. فإن التناسب بين مفتتح السور وخواتيمها أمر معلوم ومشهور. ومن ذلك على سبيل المثال سورة النساء. فقد بدأت السورة بقوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 1-2] . وختمت بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ ... } [النساء: 176] . فقد بدأت بخلق الإنسان وبَثَّ ذريته في الأرض: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} [النساء: 1] وانتهت بهلاكه من دون عقب {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وهي صورة فنية عظيمة لبدء الحياة ونهايتها. كما ابتدأت بإيتاء الأموال للنشء الجديد من اليتامى من أنصبتهم من المواريث وهم يستقبلون الحياة، واختتمت بتقسيم تركات مَنْ وَدّعَ الحياة. وهذا من أعجب التناسب وأبدعه. ومن ذلك سورة الأعراف فقد بدأت بقوله تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] . وختمت بقوله: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} [الأعراف: 204] . وهل الكتاب المُنْزَلُ إليه غير القرآن؟ فانظر كيف بدأت السورة بذكر الكتاب وختمت به أيضاً. ومن ذلك سورة (هود) فقد ابتدأت بقوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2] وختمت بقوله: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . فانظر كيف ابتدأت السورة بالنهي عن عبادة غير الله وختمت بالأمر بعبادته. ومن ذلك سورة (المؤمنون) فقد "جعل فاتحة السورة: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] وأورد في خاتمتها: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [المؤمنون: 117] فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة". ومن ذلك سورة (يونس) فقد قال في أولها: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] . وقال في خواتيمها: {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108] . فبدأ بالإنذار والتبشير وختم بهما أيضاً، فبينت الآية الأخيرة كيفية تنفيذ ما طلب منه في الآية الأولى. فقد قال له في الآية الأولى: (أنذر وبشر) ثم علّمه في آيات الختام كيف يفعل ذاك فقال: {قُلْ ياأيها الناس} [يونس: 108] فكأنهما جزء من آية واحدة. ومن ذلك في سورة (ص) فقد بدأت بقوله: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] . وقال في خواتيمها: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [ص: 87] . فأقسم في بدء السورة بالقرآن ذي الذكر، وختمها بالكلام على القرآن أيضاً وقال: إنه ذكر للعالمين. فبيّن ما أجمله في الافتتاح. ومن ذلك سورة (ق) فقد بدأت بقوله تعالى: {ق والقرآن المجيد} [ق: 1] . وختمت بقوله: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] . والتناسب هنا أظهر من أن يشار إ ليه. وغير ذلك كثير. ولا نريد أن نطيل في ذلك، فإن فيما مر كفاية فيما أحسب. فاتضح أن التناسب بين مفتتح السور وخواتيمها ليس شيئاً عارضاً ولا موافقة عابرة، وإنما هو سِمَةٌ بارزة من سمات هذا الكتاب الكريم وأمرٌ مقصود في هذا الكلام الرفيع. ونعود إلى سورة الأنعام. فقد قال في هذه السورة: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقال في البقرة: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] فوضع كل لفظة منهما في سياقها الذي يقتضيها أولاً ثم راعى في الأنعام ما ورد في البقرة، وفي البقرة ما ورد في الأنعام من تردد لفظي (الرب) و (الله) كما سبق بيانه. وقال في الأنعام: {أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة} وقال في النساء والأعراف والزمر: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر: 6] وقد راعى في هذا الاختيار السياق الذي وردت فيه الآية كما راعى تردد لفظ (الإنشاء) في الأنعام والنساء والأعراف والزمر فراعى عدة سورة في آن واحد. وقال في الأنعام: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقال في الأعراف: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: 167] فزاد اللام في (سريع) ، وذلك أن سياق الأعراف يقتضي هذه الزيادة، إذ هو في مقام تعجيل العقوبات بخلاف الأنعام. وقال في الأنعام: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} . وقال في الشعراء: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] فقد زاد كلمة (الحق) في آية الأنعام وأخلاها منها في الشعراء، وقد راعى في ذلك الجانب اللفظي لبناء السورتين علاوة على الجانب المعنوي، فقد ترددت كلمة (الحق) في الأنعام اثنتي عشرة مرة، ولم ترد هذه اللفظة في سورة الشعراء، فوضع كل لفظة في المكان الذي هي أليقُ به. ثم انظر كيف ذكر (سوف) في الأنعام والسين في الشعراء، فإنه علاوة على السياق الخاص الذي وردت فيه كل آية من الآيتين، والذي يقتضي كل منهما ذكر ما ورد في سورة الأنعام على تأخير العقوبات بخلاف سورة الشعراء. وهذا واضح في بناء كل من السورتين ... وانظر علاقة ذاك بما ذكرناه في (سريع العقاب) و (لسريع العقاب) ، وقد سبق أن بينا ذلك بصورة مفصلة. فانظر كيف راعى في سورة واحدة سوراً متعددة، راعى ألفاظها وسياقها وَجوَّها وكل كلمة وردت فيها، فقد راعى البقرة والأعراف والشعراء والإسراء والنساء والزمر وغيرها، بل ربما راعى في الموطن الواحد جميع سور القرآن وجميع آياته من جميع العلائق والاحتمالات. فانظر الآن أي تعبير هذا الذي بين الدفتين واحكم بنفسك: أيقدر على مثله البشر أو أي مخلوق من مخلوقات الله؟ وهذا غيض من فيض وقطرة من بحر. ثم نشرع الآن في بيان أمثلة من الحشد الفني. 1- قال تعالى في سورة سبأ: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3] . وقال وفي سورة يونس: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] . لننظر الآن إلى الفروق في التعبير بين الآيتين: آية سبأ آية يونس   لا يعزب وما يعزب عنه عن ربك مثقال ذرة من مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض في الأرض ولا في السماء [بتقديم السماوات على الأرض وجمعها] [بتقديم الأرض على السماء وإفراد السماء] ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ (بالرفع) ولا أصغر من ذلك ولا أكبرَ (بالنصب) *** أما النفي بـ (لا) في سبأ فلأن الكلام على الساعة، والساعة استقبال فجاء فجاء بـ (لا) الدالة على الاستقبال في النفي. وأما النفي بـ (ما) في يونس فلأن الكلام على الحال، و (ما) مختصة بنفي الحال. فجاء بكل حرف في الموضع الذي يليق به. ألا ترى إلى بدء الآية كيف قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} [سبأ: 3] فنفى بـ (لا) لمَّا كان الكلامُ على الساعة ولم يقل: (ما تأتينا) لأن الساعة استبقال؟ وقال في آية سبأ: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} [سبأ: 3] ، وقال في آية يونس: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} [يونس: 61] فجاء بالضمير في سبأ لأنه تقدم ذكر الرب عالم الغيب فيها فأعاد الضمير عليه، فقد قال: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب} [سبأ: 3] . ولم يتقدم ذِكْرٌ له في يونس فلذلك ذكره صحيحاً. وأما زيادة (من) في آية يونس وعدم ذكرها في آية سبأ، فلأن سياق كل آية منهما يقتضي ذلك. وذلك أن الكلام في آية يونس على إحاطة علم الله بعلم الغيب وأنه يعلم كل شيء، وبدأ الآية بقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] . وأما في آية (سبأ) فالكلام على الساعة ابتداء، قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب ... } [سبأ: 3] فجاء بعلم الغيب تبعاً للساعة، أما في آية يونس فالكلام ابتداء على علم الغيب ومقدار علم الله وإحاطته بكل شيء بحيث لا يَندُّ عنه شيء، فناسب ذلك زيادة (من) الاستغراقية المؤكدة التي تستغرق كل مذكور. وأما تقديم السماوات على الأرض في آية سبأ (مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) فلأن الكلام على الساعة وأمرها يأتي من السماء وهي تبدأ بأهل السماء كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الزمر: 68] وما قال: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [النمل: 87] . في حين قد الأرض على السماء في آية يونس لأن الكلام على أهل الأرض وذلك أنه قال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] فناسب ذلك تقديم الأرض في آية يونس، وناسب تقديم السماوات على الأرض في آية سبأ. جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإنْ قلت: لِمَ قُدمت الأرضُ على السماء بخلاف قوله في سورة سبأ: {عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3] ؟ قلت: حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك قوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} [سبأ: 3] لاءم ذلك أنْ قَدَّمَ الأرضَ على السماء". ومثله قوله تعالى: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام * إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء * هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 4-6] . وقوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [إبراهيم: 38] . وقوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [العنكبوت: 20-22] . فإنه لما كان الكلام على أهل الأرض فيما مر من الآيات قدم الأرض على السماء. وأفرد السماء في آية يونس وجمعها في آية سبأ، وقد يبدو ذلك مخالفاً للسياق لأن السماوات أكثر من السماء، والمناسب لا ستغراق علم الله بالغيب الجمع. وبأدنى تأمل يتضح أن كل لفظة في مكانها أنسب وأليق. فقد بينا في موضع سابق أن (السماء) في القرآن تستعمل على معنيين، فهي إما أن تكون واحدة السماوات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5] وقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 14-15] . وإمّا أن تكون لكلِّ ما عَلاَكَ فتشملُ السماوات وغيرها كالسحاب والمطر والجو وغيره. ولا شك أن السماء بهذا المعنى الثاني أعم وأشمل من (السماوات) لأنها تشمل السماوات وغيرها مما علا وارتفع. وقد وردت في آية يونس بهذا المعنى الشامل العام: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [يونس: 61] وهو المناسب للدلالة على سعة علم الله وإحاطته بالغيب واستغراق علمه لكل شيء. فهو أوسع من أن يكون في السماوات السبع وأعم. وناسب ذلك أيضاً ذكر (من) الاستغراقية معها في هذه الآية. وجاء بها مجموعةً في آية سبأ لأنه ليس المقام مقام استغراق وإحاطة كما ذكرنا. ثم قال في آية سبأ، {وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ} [سبأ: 3] بالرفع. وقال في آية يونس: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] بالنصب، فجاء في آية يونس بلا النفاية للجنس الدالة على الاستغراق والتأكيد، ليناسب مقام إحاطة علم الله بالغيب واستغراقه لكل شيء، ويناسب الاستغراق الذي جاءت به (من) الاستغراقية والاستغراق الذي أفادته كلمة (السماء) ، لأن (لا) النافية للجنس تفيد الاستغراق كما هو معلوم. وجاء في آية سبأ بـ (لا) النافية التي لا تنص على الاستغراق، وهي أقل توكيداً من (لا) النافية للجنس، لأن المقام لا يقتضيه والسياق ليس عليه، بل ذُكر علم الغيب فيه تبعاً لذكر الساعة كما أوضحنا. فترى أن كل كلمة بل كل حرف وضع في مكانه اللائق المناسب. 2- وإليك مثلاً آخر: قال تعالى: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} [النحل: 35] . وقال: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} . وانظر الآن إلى الفروق بين التعبيرين: النحل الأنعام   ما عبدنا ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا آباؤنا (بدون نحن) حرمنا من دونه مِنْ شيء حرمنا من شيء فَعلَ الذين من قَبْلِهم كَذَّبَ الذين من قبلهم *** إنّ سياق النحل في الرد على الشرك والنعي على المعبودات الباطلة من دون الله، فالسورة تبدأ بتزيه الله عن الشرك: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] {تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3] . وتبين أن الذين اتخذوهم شركاء ليسوا إلا مخلوقات مثلهم؛ بل هي أحط منهم فيه لا تعي ولا تشعر {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إلهكم إله وَاحِدٌ فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} [النحل: 20-22] . وتستمر السورة في الكلام على العبادات وبيانأن كل شيء إنما هو خاضع لله عابد له. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 48-49] . وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] . بينما سياق سورة الأنعام في الكلام على ما زعموه من محرمات الأطعمة، وما يعتقدونه من أمور باطلة في أنصبة الحرث والأنعام، وما افتروه على الله من تحليل تحريم بغير علم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هاذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهاذا لِشُرَكَآئِنَا} . {وَقَالُواْ هاذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هاذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ} . {ثمانية أزواج مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله بهاذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين * قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لصادقون * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين * سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ... } . فلما كان السياق في آيات النحل على الشرك في العبادات وعبادة غير الله ونحو ذلك ما يتعلق بالعبادة قال: (ما عبدنا من دونه) . ومما حسّن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] . فناسب ذلك ذكر العبادة. ولما كان السياق في الأنعام على الشرك في التحليل والتحريم، ولا سيما في الأطعمة وليس المقصود بالشرك هنا الشرك الخاص بعبادة غير الله لم يُصَرَّحْ بالعبادة. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ ليجادلوكم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} . فسماهم مشركين لإطاعتهم أولياء الشيطان. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن لفظ (الشرك) وما تفرع عنه تردد في الأنعام أكثر مما في النحل. ولفظ العبادة تردد في النحل أكثر مما في الأنعام. فقد تردد لفظ (الشرك) ومشتقاته ثمانياً وعشرين مرة في الأنعام، وتردد في النحل تسع مرات، وترددت العبادة في النحل أربع مرات، وفي الأنعام مرتين، فوضعَ لفظَ العبادة في النحل والشرك في الأنعام جاعلاً كل لفظ في المكان الذي هو أليق به. ولما كان السياق في النحل في العبادة والتوحيد وهي أهم من الأطعمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] زاد (نحن) توكيداً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الكلام في النحل موجه إلى المخاطبين أكثر مما في الأنعام، لذا كان من المناسب زيادة (نحن) في النحل دون الأنعام لأنه جواب منهم. وقد تردد ذكر مَنْ هم دُونَ الله من المعبودات في النحل أكثر مما في الأنعام، وذلك نحو قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض} [النحل: 73] . وقوله: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] لذا زاد: (من دونه) فيها. هذا علاوة على أن ذكر (من دونه) بعد قوله: (ما عبدنا) يقتضيه المعنى، بخلاف (ما أشكرنا) وذلك أنه لو قال: (لو شاء الله ما عبدنا) لم يكن المعنى مستقيماً. وكذلك لو قال: (لو شاء الله ما عبدنا من شيء) . فإنه لم يَنْعَ عليهم أصل العبادة فإن العبادة مطلوبة، ولكن نعى عليم عبادةَ غي الله. فلو قال: (لو شاء الله ما عبدنا) لكانت العبادة مرفوضة أصلاً، ولو ق ل: (ما عبدنا من شيء) لكان الله سبحانه يدخل في جملة المعبودات المرفوضة، وسيكون المعنى أنه لا شيء يصلح للعبادة حتى الله سبحانه. ولذا كان لا بد من ذكر (من دونه من شيء) ليصحَّ المعنى المراد. وأما قوله: (لو شاء الله أشركنا) فإنه واضحُ القصدِ تَامُّ المعنى، فإن مفهوم الشرك واضح معلوم وهو مذموم بكل صورة وأشكاله. فقوله: (ما أشركنا) معناه: ما أشركنا مع الله أحداً. ولا يقتضي هذا التعبير زيادة شيء لتوضيحه. جاء في (درة التنزيل) في ذكر (من دونه من شيء) بعد قوله: (ما عبدنا) دون (ما أشركنا) . "قوله: (ما أشركنا) مُستغنٍ عن ذكر المفعول به وإنْ كان في الأصل متعدياً لقوله: (أن تشركوا به شيئاً) وإنما لم يحتج إلى ذكر المفعول به كما احتاج إليه (عبدنا) لأن الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته. والعبادة لا تدل على إثبات معبود لا يجوز إثباته، لأنها تدل على معبود هو مُثبت لا يصح نفيه. فقوله: (ما عبدنا) غير مستنكر أن يعبدوا، وإنما المستنكر أن يعبدوا غير الله شيئاً فكان تمام المعنى بذكر قوله: (من دونه من شيء) . وكذلك (ولا حرمنا من دونه من شيء) لا بد مع (حَرَّمنا) من قوله: (من دونه من شيء) . ولم يحتج إليه بعد قوله: (ما أشركنا) لأن الإشراك دالٌّ على أن صاحبه يحرم شيئاً من دون الله، ولا بدل على (عبدنا) على ذلك. فوفى اللفظان في سورة النحل حقهما من التمام". قال في (الأنعام) : {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم} وفي النحل: {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النحل: 33] . ولذلك لما تردد في الأنعام افتراؤهم وكذبهم على الله فقد قال عنهم أنهم: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هاذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهاذا لِشُرَكَآئِنَا} وهذا كذب وافتراء على الله. وقال بعدها: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وقال بعدها: {وَقَالُواْ هاذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . وقد ذكر من كَذِبِهم الشيءَ الكثير - انظر الآية 139. وقد قالوا: إن الله حرم ثمانية أزواج من الأنعام فقال لهم: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله بهاذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} . أما السياق في النحل فيقتضي لفظ (فعل) دون (كذب) وذلك أن الآية وقعت في سياق الفعل العمل دون سياق الافتراء والتكذيب، فقد قال قبلها: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وقال: {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولاكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33] . فقد ذكر فعل الذين من قبلهم وذكر ظلمهم لأنفسهم. والظلم فعل. وقال: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [النحل: 34] ذكر عملهم واستهزائهم وهذا كله فعل ثم جاء بالآية بعدها. فأنت ترى أن (الفعل) هو المناسب لسياق النحل، وأن التكذيب هو المناسب لسياق الأنعام. هذا علاوة على تردد (الكذب) في الأنعام أكثر مما في النحل. فقد تردد ذِكْرُ الكذبِ في الأنعام إحدى وعشرين مرة، في حين تردد في النحل عشر مرات فكان ذكر (كَذَّبَ) أليق في الأنعام. وتردد (الفعل) في النحل أكثر مما في الأنعام فقد تردد فيها أربع مرات، وفي الأنعام ثلاث مرات فكان لفظ (فعل) أليق في النحل. وهكذا وضع كل لفظة في المكان الذي هو أليق بها. ثم إن خاتمة كل آية أليق بها من صاحبتها. فقد ختم آية الكذب والافتراء والقول على الله بغير علم بقوله: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} . فإذا لم يكن عندهم علم لم يكونوا إلا ظانين متخرصين. وختم آية التبليغ الواقعة في سياق التبليغ بقوله: {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} ويأتي بعدها تبليغ الرسل لأممهم دعوة الله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] . 3- وإليك مثلاً آخر وهو قوله تعالى في سورة التوبة: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} [التوبة: 55] . وقوله في هذه السورة أيضاً: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} [التوبة: 85] . والآن انظر إلى الفروق التعبيرية بين الآيتين: الآية 55 الآية 85   أموالهم ولا أولادهم أموالهم وأولادهم (بدون لا) ليعذبهم أن يعذبهم في الحياة الدينا في الدنيا وسبب ذلك والله أعلم أن السياق في الآية ذات الرقم 55 يختلف عن السياق في الآية الثانية. إن الآية الأولى في سياق إنفاق الأموال والخطاب للمنافقين. قال تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم ... } [التوبة: 53-55] . وبعدها: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] . وبعدها: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين} [التوبة: 60] . فالسياق في إنفاق الأموال والكلام على المنافقين وأموالهم، ثم وجه الخطاب إلى الرسول قائلاً: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة: 55] فزاد (لا) النافية توكيداً {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم} [التوبة: 55] وزاد اللام في (ليعذبهم) لزيادة الاختصاص وتوكيده. في حين أن السياق مختلف في الآية الأخرى. قال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين * وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا ... } [التوبة: 83-85] . فسياق الآيات الأولى في إنفاق الأموال، فأكد ذلك بزيادة (لا) واللام. ولما اختلف السياق في الآيات الأخرى خالف في التعبير فلم يذكر (لا) ولا اللام، لأن المقام لا يقتضي التوكيد هنا. ولما طال الكلام على الإنفاق والأموال في الآيات الأولى، زاد الكلام في هذه الآية دون الأخرى فقد زاد (لا) و (اللام) و (الحياة) . لما كان المالُ عصبَ الحياة كما يقال ومظنّة الوصول إلى الرفاهية والسعادة زاد كلمة (الحياة) ههنا، بخلاف الآية الأخرى فإنها في سياق الجهاد والقتال. والقتال والجهاد مظنّة القتل وفقد الحياة، ولذا لم يأت بالحياة في سياق الجهاد، بخلاف سياق المال، لأن الحربَ سبيلُ فَقْدِ الحياة بخلاف لمال والله أعلم. 4- ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ هاذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون * وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 92-93] . وقوله: {وَإِنَّ هاذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون * فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 52-53] . الأنبياء المؤمنون   فاعبدون فاتقون وتقطعوا فتقطعوا - زبراً كل إلينا راجعون كل حزب بما لديهم فرحون *** أما قوله تعالى في سورة الأنبياء: (فاعبدون) وفي سورة المؤمنون: (فاتقون) فإن كل سياق يقتضي ذلك من أكثر من وجه. فإن آية المؤمنين جاءت في عقب ذكر عقوبات طوائف كثيرة من الأمم ممن عصوا الرسل وأهلاكهم وذلك نحو قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [المؤمنون: 41] وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] . ويستمر التحذير والتهديد بعد هذه الآية وذلك نحو قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: 54] وقوله: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 77] وغير ذلك وغيره. فأنت ترى أن التحذير والتهديد اكتنف هذه الآية اكتنافاً، بل إن جو السورة مشحون بالتحذير والتهديد. وأما آية الأنبياء فإنها جاءت بعد ما يدل على الإحسان والتفضل واللطف التام كما في قصة أيوب وزكريا ومريم. فناسب أن يوضع لفظ: (فاتقون) في آية (المؤمنون) لما فيه من التحذير والتخويف المناسب للعقوبات والإهلاك، ولفظ: (فاعبدون) في آية (الأنبياء) بعد ذكر الإحسان واللطف "فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته". ثم انظر من ناحية أخرى إلى خاتمة السورتين، فقد ختم سورة الأنبياء فيمن سبقت لهم الحسنى وختم لهم بالسعادة، وختم سورة المؤمنين فيمن كان من أصحاب الشقاء وكان من أصحابهم الجحيم. فناسب من هذا الوجه أن تختم آية المؤمنين بالأمر بالاتقاء ليتقوا عذاب النار ويحذروا هذا المصير الوبيل، كما ناسب أن تختم آية الأنبياء بالأمر بالعبادة لينالوا هذه السعادة ويحظوا بهذا الإحسان والفضل الكبير. وهذا كما ترى مناسب لما تقدم كلاًّ من الآيتين من عقوبات وتحذير في سورة (المؤمنين) ولطف وتفضل في سورة الأنبياء. ثم انظر من الناحية التعبيرية، فإن لفظ الاتقاء والتقوى ومشتقاتها لم ترد في سورة الأنبياء البتة لأن السياق لا يقتضيها، بخلاف سورة (المؤمنون) فإنه ورد فيها ذلك أربع مرات وذلك نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 23] وقوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 32] وقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 87] . وأما لفظ العبادة ومشتقاتها فقد وردت في سورة الأنبياء ثماني مرات، ووردت في سورة (المؤمنون) مرتين فقط. فيكون على هذا الأمر بالتقوى في آية (المؤمنون) في موطنه ومعدنه، والأمر بالعبادة في آية الأنبياء كذلك. فناسب من كل وجه الأمر بالعبادة في آية الأنبياء والأمر بالاتقاء في آية (المؤمنون) . وأما قوله في الأنبياء: (وتقطعوا) بالواو، وفي سورة (المؤمنون) : (فتقطعوا) بالفاء فيتقضي كل سياق ما ورد فيه. فقد جاء في آية (المؤمنون) بالفاء للدلالة على أن التقطّع والافتراق وقع في عقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته، مما يدل على شدة كفرهم وعنادهم، جاء في (روح المعاني) : "والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم". وجاء في الأنبياء بالواو مما يحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة لأن الواو لمطلق الجمع وليست كالفاء التي تفيد التعقيب والترتيب. فنص على الأولين بأنهم افترقوا وأنكرو في عقب أمرهم بالتقوى، ولم ينص على هؤلاء بذلك. فورود الفاء في سياق آية (المؤمنون) أنسب لما فيه من عقوبات وإهلاك وتحذير، وورود الواو في سياق الآية الأنبياء أنسب. وقال في آية (المؤمنون) : (زُبُراً) توكيداً للتفرق الذي حصل، ومعنى زُبُر: فِرَق جمع فرقة. وهذا التوكيد هو المناسب لهؤلاء الأقوام المبالغين في العناد والكفر، بخلاف آية الأنبياء. وقال في آية (المؤمنون) : {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وهو المناسب لقوله (زبراً) والزبر: هي الجماعات والأحزاب والفرق كما ذكرنا، فلما أكد التفرق ناسب ذكر الأحزاب لذلك. وقال في ختام آية الأنبياء: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93] وذلك لقوله بعد هذه الآية: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] وعلاوة على ذلك تردد الرجوع ومشتقاته في هذه السورة ست مرات، في حين لم يرد في سورة (المؤمنون) إلا ثلاث مرات. فناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه أحسن مناسبة ولاءمه أتم ملاءمة. 5- ومن ذلك قوله تعالى: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: 22] . وقوله: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] . ولننظر إلى الفروق التعبيرية بين الآيتين. الحج السجدة   من غمٍّ - - وقيل لهم عذاب الحريق عذاب النار - الذي كنتم فيه تكذبون **** أما زيادة قوله (من غمٍّ) في آية الحج فهو المناسب، وذلك أنه ذكر الجزاء مفصلاً في سياق الحج بالنسبة للمؤمنين والكافرين. قال تعالى: {هاذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} [الحج: 19-24] . أما في سورة السجدة فقد ذكر الجزاء موجزاً بالنسبة إلى الطرفين: قال تعالى: {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 19-20] . فناسب قوله: (من غمٍّ) ذكر التفصيل الوارد في سورة الحج دون السجدة، ثم إنّ العذاب المذكور في آيات الحج أشد مما ورد في السجدة، والعذاب الشديد مَدْعاة إلى الغمِّ كما لا يخفى فناسب ذكر الغمِّ لذلك. وأما ذكر: (وقيل لهم) في آية السجدة دون أية الحج، فقد يظن ظانّ أنه كان ينبغي ذكر هذه العبارة في آية الحج دون آية السجدة، لما في آيات الحج من تفصيل، وفي آية السجدة من إيجاز، ولكن بأدنى تأمل يتضح أنها وقعت في المكان المناسب لها تماماً وأن المقام يقتضيها من أكثر من وجه. ذلك أن مشهد العذاب في آيات السجدة مشهدٌ غائب مُخْبَرٌ عنه وأن التعبير فيها بُنيَ على الغيبة. والسياق في كل من الموطنين يوضح هذا الأمر أبين توضيح. قال تعالى في سورة الحج: {هاذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ... } [الحج: 19] . فقد بدأ المشهد بقوله: {هاذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] فأشار إلى هذه الخصمين باسم الإشارة الدال على المشاهدة والحضور والقرب. فناسب ذلك عدم ذكر: (وقيل لهم) الدال على الغيبة. وأما في السجدة فالمشهد غائب كما ذكرت، قال تعالى: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] . فناسب ذلك أن يقال: (وقيل لهم) بخلاف آية الحج. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: إن القول ومشتقاته تردد في سورة الحج أكثر مما تردد في سورة الحج، فقد ورد في سورة السجدة سبع مرات، وورد في سورة الحج ست مرات، مع أن سورة الحج أطول من سورة السجدة بكثير، فإن آيات سورة الحج تبلغ ثمانياً وسبعين آية، في حين تبلغ آيات سورة السجدة ثلاثين آية. فناسب من هذا الوجه أيضاً أن يذكر القول في السجدة دون الحج. وأما قوله في آية الحج: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: 22] . وقوله في آية السجدة: {ذُوقُواْ عَذَابَ النار} [السجدة: 20] فإن كل تغيير مناسب لموطنه الذي ورد فيه. فإن آية الحج قيلت في الكفارين. قال تعالى: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ... } [الحج: 19] . وآية السجدة قيلت في الفاسقين، قال تعالى: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار} [السجدة: 20] والفسق قد يطلق على ما دون الكفر وقد يطلق على الكفر، فلما صرح بالكفر في سورة الحج كان ذكر العذاب أشد فقال: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: 22] . والحريق هو النار البالغة في الإحراق. فذكر أن للفاسقين النار وللكافر النار البالغة في الإحراق. وهذا يناسب من ناحية أخرى ذكر الغم في آية الحج دون السجدة. فناسب كل صنف عذابه الذي ذكر معه. وأما ذكره في آية السجدة التكذيب بعذاب النار وهو قوله: {عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ولم يقل مثل ذلك في آية الحج، فذلك لأن آية السجدة في الفاسين، والفسق قد يقال لما دون الكفر، فَبَيَّنَ أن هذا الصنف هم من الكفرة المكذبين بالوعيد لئلا يظن ظَانٌّ أنهم من عصاة المؤمنين. وأما في سورة الحج فقد أفصح بكفرهم فلا حاجة لذلك. جاء في (ملاك التأويل) : "أن آية السجدة لما قيل فيها: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} [السجدة: 20] والفسق: الخروج، وقد يكون إلى معصية دون الكفر، ويكون إلى الكفر وهو المراد هنا، فأعقبت الآية بما يرفع الاحتمال ويوضح أنت فسقهم إلى الكفر وهو المراد هنا، فأعقبت الآية بما يرفع الاحتمال ويوضح أن فسقهم إلى الكفر حين كذبوا بالوعد والوعيد الأخروي فقيل لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] . أما آية الحج فتقدم قبلُ ذكرُ الإفصاح بفكرهم في قوله: {فالذين كَفَرُواْ} [الحج: 19] فلم يحتج إلى التعريف الوارد في سورة السجدة، فجاء كلٌّ على ما يجب ويناسب" فأنت ترى أن كل لفظ إنما وضع في مكانه الذي هو أليق به. 6- ونحو ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . وقوله في سورة الإسراء: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلاها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً * وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولائك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} [الإسراء: 22-37] . *** هاتان الموعظتان متشابهتان تقريباً إلا في الإيجاز أو التفصيل. فقد بنيت آيات الأنعام على الاختصار والإيجاز، وبنيت آيات الإسراء على التوضيح والتفصيل. إن الأمور المشتركة التي تشتمل عليها كلتا هاتين المجموعتين من الآيات هي: 1- النهي عن الإشراك بالله. 2- الأمر بالإحسان إلى الوالدين. 3- النهي عن قتل الأولاد بسبب الفقر. 4- النهي عن الاقتراب من الفاحشة. 5- النهي عن قتل النفس. 6- النهي عن التصرف بمال اليتيم. 7- الأمر بإيقاء الكيل والميزان. 8- الأمر بالإيفاء بالعهد. إن هذه الآيات وردت في السورتين على نسق واحد مع اختلاف يسير بينهما. وإليك طرفاً من هذا الاختلاف. 1- قال في الأنعام: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} وقال في الإسراء: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] . 2- قدّم ضمير الآباء على الأبناء في الأنعام: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، وقدّم ضمير الأبناء في الإسراء: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] . 3- نهى عن الفواحش عموماً في الأنعام فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . ونهى عن الزنى خاصة في الإسراء فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] . 4- قدّم الإيفاء بالكيل والميزان على الوفاء بالعهد في الأنعام، وقدّم الوفاء بالعهد عليهما في الإسراء. 5- زاد الأمر بقول العدل في الأنعام فقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} . ولم يذكر ذلك في الإسراء. وزاد في الإسراء إيتاء ذوي القربى والنهي عن التقتير. 6- قدّم الجار والمجرور على فعل الإيفاء في الأنعام فقال: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} . وقدّم الفعل على الجار والمجرور في الإسراء فقال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] . 7- زاد عبارة {إِذا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] بعد قوله: {وَأَوْفُوا الكيل} [الإسراء: 35] في الإسراء، ولم يذكر ذلك في الأنعام. هذه أهم الاختلافات بين الآيتين في السورتين علاوة على الاختلاف في التفصيل أو الإجمال كما ذكرنا. وسنبين أسباب هذه الاختلافات بصورة موجزة. 1- قال في الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} فنهى عن الشرك. وقال في الإسراء: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلاها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} [الإسراء: 22] فنهى عن الشرك، ثم قال: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] فأمر بتخصيص الله بالعبادة. ففصَّلَ في الإسراء ما لم يفصل في الأنعام، وذلك متناسب مع سياق كل منهما من حيث التفصيل أو الإيجاز. 2- قال في الإسراء والأنعام بعد النهي عن الشرك بالله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وذلك لعظم منزلة الإحسان على الأبوين عند الله. ولما قال في الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} كان المظنون أن يقول: (ولا تسيئوا إلى الوالدين) لأنه بسبيل ذكر المحرمات، والإساءة إلى الوالدين من المحرمات، إلا أنه عدل عن ذلك إلى قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} لأن عدم الإساءة لا يفي بحق الوالدين. فالمطلوب هو الإحسان إليهما وليس عدم الإساءة إليهما. ولو قال: (ولا تسيئوا إليهما) لَفُهِمَ من ذلك أن عدم الإساءة كافٍ بحقهما والإحسان تَفضُّلٌ منك عليهما. جاء في تفسير البيضاوي في قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} "أي: وأحسنوا بهما إحساناً وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما". وقد زاد على ذلك في سورة الإسراء فتبسط في ذكر أحسان معاملتهما وعدم الإساءة إليهما فقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 23-24] . وهو المناسب لسياق التفصيل فيها بخلاف سياق آيات الأنعام المبنيّ على الإيجاز والاختصار. 3- قال في الأنعام: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . وقال في الإسراء: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] . قدّم في الأنعام رزق الآباء على الأبناء فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقدّم في الإسراء رزق الأبناء على الآباء فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] وذلك لأنهم في الأنعام يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم {مِّنْ إمْلاَقٍ} فهم محتاجون إلى الرزق العاجل للقيام بتكلفة الأبناء. وأما في الإسراء فهم يقتلون أبناءهم خشية الفقر في المستقبل لا أنهم مفتقرون في الحال، ولذلك قدّم رزق الأبناء على الآباء لإخبارهم أن رزقهم معهم وأنهم لا يشاركونهم في رزقهم. فآية الأنعام في الفقراء، وآية الإسراء ف الموسرين. جاء في (البحر المحيط) أن قوله: {مِّنْ إمْلاَقٍ} ظاهره "حصول الإملاق للوالد لا تَوقُّعه وخشيته، وإن كان واحداً للمال فبدأ أولاً بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ} خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاق الرازق ثم عطف عليهم الأولاد. وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون، وأن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه، فبدئ فيه بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ} [الإسراء: 31] إخباراً بتكفُّلهِ تعالى برزقهم، فلستم أنتم رازقيهم، وعطف عليهم الآباء، وصارت الآيتان مفيدتين معنيين: أحدهما: أن الآباء نُهوا عن قتلِ الأولاد مع وجود إملاقهم. والآخر: أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشيته". وقد سبق أن ذكرنا ذلك في موطن سابق. ثم إنه وضع كل آية في سياقها المناسب فقد وضع قوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] في سياق الموسرين في آيات الإسراء فقد قال قبلها {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل} [الإسراء: 26] ، والمأمور بإعطاء حقوق هؤلاء هم الأغنياء الموسرون لا الفقراء. ثم قال: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] والمأمور بعدم التبذير هو الموسر في الأكثر، لأن الفقير ليس عنده شيء في الغالب فيبذّره. ثم قال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] وهذا يقال لمن كان عنده مال ولا يقال للفقير المعدم، فإن الفقير لا يتمكن من بسط يده كل البسط وإنفاق ما عنده. فناسب ذلك أن يقول مخاطباً الموسرين: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] . فوضع كل آية في مكانها الذي هو أليق بها. وقد تقدم آية الأنعام قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أولادهم سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} ذلك أن الداعي لقتل المفتقرين أبناءهم أقوى من داعي الموسرين فوضعها في سياقها المناسب. ثم بيّن أن هؤلاء خسروا ولم يربحوا كما كانوا يظنون. وقال في الإسراء: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: 31] ولم يقل مثل ذلك في الأنعام، ذلك أن قتل الآباء الموسرين أولادهم خشية الافتقار أعظم جرماً من قتل الآباء المفترقين الذين ليس عندهم ما يقوم بإعالة أولادهم. ولا شك أن كليهما مرتكب لكبير إلا أن هذا أكبر وأعظم جرماً. 4- قال في الأنعام: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . وقد مرّ في السورة نحو هذا فقال: {وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} . وقال في الإسراء: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] . فقد عَمَّمَ في الأنعام فذكر الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وخَصَّ الزنى بالذّكر من بين الفواحش في الإسراء. وسبب ذلك والله علم أن المفتقر الذي لا يجد شيئاً قد يرتكب سيئات كثيرة ليسدّ خلته، فهو قد يسرق وقد يزني وقد يقتل وقد يفعلُ وقد يفعل وقد نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كاد الفقر أن يكون كفراً". وجاء في الأثر: "عجبتُ لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه". وقد أسقط عمر بن الخطاب حد السرقة عام الرمادة لأن الناس جياع. وحتى إنَّ الاشتراكية الحديثة جعلت الفساد كله مسبباً عن الفقر. فوضع في سياق المفتقرين النهي عن عموم الفواحش، لأن الفقر مدعاة إلى ارتكابها. وقد خص الزنى بالذّكر في الإسراء لأنه أكبر أو من أكبر ما يبغيه الموسرون، فهم يبذلون له المال الكثير ويلهثون وراءه. فانظر كيف جمع الفواحش مع المفتقرين وذكر الزنى خصوصاً مع الموسرين، ولم يكتف بذاك بل علل النهي عنه بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] فنهى بذلك عن سائر الفواحش. ثم انظر كيف نهى عن ذلك بقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ} [الإسراء: 32] . والنهي بـ (لا تقربوا) أشد من النهي بـ (لا تزنوا) أو (لا تفعلوا فاحشة) ونحوها، ذلك أنه نهيٌ عن الاقتراب منه فضلاً عن مباشرته وفعله. جاء في (روح المعاني) : "ولا تقربوا الزنى بمباشرة مبادية القريبة أو البعيدة فضلاً عن مباشرته، والنهي عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داعٍ إلى مباشرته". وقد وسط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرّمة، ذلك لأن الزنى مدعاة إلى قتل الأولاد غير الشرعيين أو جعلهم في حكم المقتولين برميهم للتخلص منهم. فيكون التعبير قد تدرج من قتل الأولاد بسبب الفقر إلى قتل الأولاد بسبب الفاحشة إلى قتل النفس عموماً. جاء في (روح المعاني) : "وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرّمة مطلقاً ... باعتبار أنه قتل للأولاد، لما أنه تضييع للأنساب فإن مَنْ لم يثبت نسبه ميت حكماً". 5- قال في الأنعام: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} . وقال في الإسراء: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33] . والنهي عن الإسراف ههنا متناسق مع النهي عن التبذير في الأموال، ثم إن هذا التبسط والإضافة ملائمان لسياق الإسراء، كما أن ذلك الإيجاز والاختصار ملائمان لسياق الأنعام. 6- قال في الأنعام والإسراء: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] فقد نهاهم عن الاقتراب منه إلا بالتي هي أحسن فكيف بالتصرف فيه؟ وهذا النهي أبلغ من القول: (ولا تتصرفوا بمال اليتيم) أو نحو ذلك، فقد "نهى عن قربانه لما ذكر سابقاً من المبالغة في التعرض له". 7- قدّم الإيفاء بالكيل والميزان على الإيفاء بالعهد في الأنعام، وقدّم الإيفاء بالعهد على الإيفاء بالكيل والميزان في الإسراء، ذلك لأنه مر ذكر المفتقرين في الأنعام: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} ، وقد ذكر الموسرين في الإسراء، والفقراء أدعى إلى التطفيف وعدم الإيفاء بالكيل لحاجة المفتقر إلى المال، فكان وضع كل تعبير في مكانه الذي هو أليق به. 8- قال في الأنعام: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} . وقال في الإسراء: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 35] . فزاد (إذا كلتم) . وهذه الزيادة متناسبة مع سياق التفصيل في الإسراء. ومعنى: (إذا كلتم) وقت الكيل، فقد أمر بالإيفاء وقت الكيل وعدم تأخير بعض الحق. جاء في (البحر المحيط) : "والتقييد بقوله: (إذا كلتم) أي: وقت كَيْلِكم على سبيل التأكيد وأن لا يتأخر الإيفاء بأن يكيل بنقصان ما، ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل". وفي هذا التقييد فائدة أخرى بمعنى (إذا كلتم) : إذا بعتم، والتطفيف يكون في هذا الموطن فإن البائع هو الذي يطفف وينقص في الكيل أما الذي يكتال فلا حاجة إلى أمره بالإيفاء. 9- قال في الأنعام بعد الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} . ومناسبته مع ما قبله أن ما قبله أمر بالعدل في الأمور المادية، وهذا أمر بالعدل في القول. 10- قال في الأنعام: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} بتقديم الجار والمجرور على الفعل. وقال في الإسراء: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] بتقديم الفعل على الجار والمجرور. وهذا التقديم في آية الأنعام للاهتمام والعناية، ذلك أنه أضاف العهد إلى الله فازداد تفخيماً وكان ذلك أدعى إلى تقديمه. وقد تقول: ولكن الله سبحانه قال في مكان آخر: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91] فقدم الفعل على عهد الله. وأحسب أن الفرق واضح بينهما ففي آية النحل خصص عهد الله بقوله: (إذا عاهدتهم) وأطلقه في آية الأنعام. والفرق بينهما أن العهد الذي في النحل يعني به العهد الذي يقعده الشخص باخيتاره بدليل قوله: (إذا عادتم) . جاء في (التفسير الكبير) : "ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91] فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود الذي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله: (إذا عاهدتم) يدل على هذا المعنى". وأمّا ما في آية الأنعام فهو عام يشمل جميع العهود ما عهده الله إلى عباده وما تعاهد عليه الخلق فيما بينهم. ولا شك أن عهد الله بالمعنى أعظم من عهود العباد فيما بينهم. فقدم المجرور في الأنعام للاهتمام والعناية، وقدّم الفعل في النحل. وهناك أمور أخرى طريفة في هاتين المجموعتين من الآيات، غير أننا نكتفي بهذا القدر فإن الكفاية فيما أحسب. الحشد الفني في القصص القرآني إن القصة الواحدة قد يكون فيها أكثر من موطن عبرة وأكبر من جانب استشهاد، فلا غرو إذن أن تذكر في المناسبة التي يُرادُ الاستشهادُ لها أو الموطن الذي يراد الاتعاظ به، وأن يبرز منها ما يراد الاعتبار أو الاستشهاد به ويسلط الضوء عليه. وهذا شأن القصص القرآني، فأنت ترى أن القصة في القرآن كأنها تتكرر في أكثر من موطن، والحقيقة أنها لا تتكرر ولكن يعرض في كل موطن جانب منها بحسب ما يقتضيه السياق، وبحسب ما يراد من موطن العبرة والاستشهاد. إن قصة موسى مثلاً فيها مواطن عبر كثيرة ومواطن استشهاد متعددة: منها: بيان أن قدر الله ماضٍ لا محالة وأنه لا يستطيع أحد أن يغيره أو يرجئه مهما حاول واتخذ من أسباب ووسائل، ويتجلى ذلك في قتل فرعون أبناء بني إسرائيل حذراً من ظهور الشخص الذي يزيل ملكه منهم، إلا أنه ربى في حجره الشخص الذي كان مُقَدَّراً له أن يُزيلَ مُلْكَهُ. ومنها: بيان عاقبة الظُلم والظالمين، ويتجلى ذلك في نهاية فرعون النهاية الوبيلة. ومنها: بيان لنفسية الشعوب المستضعفة المُستذَلَّة ولِتَكوُّنِها والسبل التي ينبغي أن تسلكها لتتحرر. ويتجلى ذلك في ذكر نفسية وتكوين بني إسرائيل الذين تربوا على الذلة والجبن والخنوع وذكر عنادهم وصَلَفِهم وجُبنهم وحبهم للدنيا، ومحاولة سيدنا موسى إعدادهم إعداداً آخر يرفعهم من وهدة الوحل الذي يتمرغون فيه، فلم يستجيبوا له حتى قضى الله عليهم بالتيه أربعين سنة أهلك فيها هذا الجيل وأخرج جيلاً آخر لم يتكون مثل هذا التكوين الذليل ولم نشَأ تلك النشأة المهينة. ومنها: بيان أن الحق له السطان الأعظم على النفوس إذا ما عرفته وآمنت به، وأنه ليس بوسع أيّ أحد أن يحول بينها وبينه منهما اتخذ من وسائل إغراء أو تهديد، ويبدو ذلك في إيمان السحرة بموسى وفي دخول الحق بيت فرعون أعني إيمان امرأة فرعون. وفيها وفيها، فذكر في كل موطن ما يقتضيه السياق منها. ولذا نراه لا يذكر القصة على صورة واحدة بل نراه يذكر في موطن ما يطوي ذكره في موطن آخر، ويفصل في موطن ما يوجزه في موطن آخر، ويقدم في موطن ما يؤخره في موطن آخر. بل تراه أحياناً يغير في التعبيرات ونظم الكلام تغييراً لا يخل بالمعنى. كل ذلك يفعله بحسب ما يقتضيه السياق وما يتطلبه المقام وذلك في حشد فني عظيم. وحتى لا نطيل في سرد هذه الأحكام نذكر أمثلة على ذلك في اختيار طرف من القصص القرآني ولنبدأ ب قصة سيدنا آدم عليه السلام . قصة سيدنا آدم عليه السلام قصة سيدنا آدم في سورتي البقرة والاعراف قال تعالى في سورة البقرة: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فسواهن سَبْعَ سماوات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هاؤلاء إِن كُنْتُمْ صادقين * قَالُواْ سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم * قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين * وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين * فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ * فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم * قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنآ أولائك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} . **** وقال في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هاذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين * قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} . *** تبدأ هذه القصة في البقرة من أقدم حدث فيها حين أبلغ الرب ملائكته بقراره في أن يجعل في الأرض خليفة وذلك قبل خلق آدم. وفيها ذكر مراجعة الملائكة لربهم في هذا القرار مُبدينَ عدم رغبتهم في هذا الاستخلاف لأسباب ذكروها. فقطع عليهم تَخَوُّفَهم وظنونهم بعلمه الذي لا يُحَدُّ. ثم ذكر اختبار المفاضلة الذي أجراه بين آدم والملائكة ففضلهم فيه آدم، وثبت لهم فيه أنهم ليسوا أهلاً للاستخلاف في الأرض بخلاف آدم. لقد ذكر هذه الأوليات في أول سورة في القرآن تذكر فيها القصة ولم يذكرها في موطن آخر، وذكرُ هذه الأوليات في هذا الموطن بالذات له أكثر من دلالة، فنية وغير فنية. ومن بين جوانبها أنها وردت في المكان المناسب لها تماماً، فقد وردت أوليات القصة عند أول ذِكْرٍ لها في أول سورة من سور القرآن، كما أنها أول قصة افتتح فيها القصص القرآني. في حين ذكرت القصة في سورة الأعراف من مرحلة الخلق والتصوير فهي تبدأ بقوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) فكأنها كانت استكمالاً لما ورد في البقرة. ذكر الله قصة آدم في البقرة بعد قوله تعالى: {وَالذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فسواهن سَبْعَ سماوات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وهذه الآية التي سبقت بها قصة آدم بدأت بتكريم الإنسان: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} وختمت بالعلم: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وجاءت القصة بعدها مبنية على هذين الركنين: تكريم آدم وتكريم العلم. أما تكريم آدم فيظهر فيما يأتي: 1- ذكر استخلاف آدم في الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} فهذا تكريم، إذا المستخلف ذو منزلة رفيعة ولا شك. 2- تفضيل آدم على الملائكة بتعليمه الأسماء كلها مما لا يعلمه الملائكة. 3- إسجاد الملائكة له. وأما العلم في هذه القصة فقد تركز ذكره في ثلاث مجالات: 1- إثبات العلم الشامل لله. 2- نفي العلم عن الملائكة إلا ما عَلَّمهم إياه ربُّ العزة. 3- إثبات التعليم لآدم بما يصلح أن يقوم به أمرُ الخلافة ويستقيم. ومن هذا يتبين أن القصة وقعت في سياقها أحسن موقع وأجمله. فكأنها جاءت تفصيلاً لما أجمل في الآية قبلها. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إن ذكر استخلاف آدم في الأرض لم يرد إلا في هذا المكان، ولم يرد في أي مكان آخر من القرآن الكريم. وهو أنسب مكان له أيضاً إذ الاستخلاف الناجح لا بد أن يتم له أمران: الأول: أن يكون للخليفة حَقُّ التصرف والتدبير فيما استُخلِفَ فيه. والثاني: أن تكون له القدرة على هذا التصرف، وأن يكون اختياره قائماً على العلم بإمكانيته وقدراته على هذا الاستخلاف. أما الجانب الأول وهو جانب التدبير والتصرف فقد فوضه به ربه بأوسع نطاق بقوله: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} فلو لم يخلق له ما في الأرض جميعاً ما صَحَّ أن يكون خليفة الله فيها. وأما من حيث إمكانياته وقدراته فقد تبين بالاختبار أنه أصلح المخلوقات لهذه المهمة، هذا علاوة على أن الذي اختاره عالم الغيب والشهادة. وقد ذكرت الآية التي وردت في مقدمة القصة هذين الركنين وهما قوله: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فتكون الآية أجملت ركني الاستخلاف أيضاً، وبهذا تقع مسألة الاستخلاف هذه في أنسب مكان لها أيضاً. ويتبين مما مر: أنَّ الآية التي وقعت في مقدمة القصة أجملت قصة آدم من ناحية، وأجملت ركني الاستخلاف المذكور فيها من ناحية أخرى. فتكون قصة آدم بصورتها هذه وقعت في أنسب سياق لها وأعجبه. هذا من حيث التفصيل السياقي للقصة، وأما من حيث الإجمال فإننا يمكننا القول: إنّ القصة في هذا الموطن في كل حلقاتها ومجالاتها مبنية في الحقيقة على تكريم آدم، وكل الجوانب الأخرى المذكورة فيها إنما تخدم هذا التكريم. فتكريم العلم إنما ظهر في العلم الذي يحمله آدم، ومسألة الاستخلاف إنما تدور على استخلاف آدم. فهي تدور أساساً على تكريم آدم. وكل ما فيها من ألفاظ ومواقف إنما هي مبنية على هذا التكريم. في حين أن القصة في الأعراف ليست مبنية على هذا الأمر بل لها غرض آخر، وقد وقع فيها التكريم ثانوياً. ونظرة واحدة إلى السياق الذي وقعت فيه القصة والتعبيرات التي وردت فيها تُريك مصداق هذه الأمر. لقد بدأت القصة في الأعراف بعد قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} . وأنت ترى الفرق واضحاً من حيث التكريم بين قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} وقوله: {مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} . وغَنيٌّ عن القول إنّ التعبير الأول يدل على تكريم أكبر من الثاني. ثم انظر كيف ختم الآية بقوله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فهي في مقام العتاب على بني آدم ومؤاخذتهم على قلة شكرهم وليست في مقام تكريمهم. وقبلها قال: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} فأنت ترى أن المقدمتين تختلفان، وكل قصة إنما جاءت منسجمة مع مقدمتها. أما من حيث السياق فإن القصة وقعت في الأعراف في سياق العقوبات وإهلاك الأمم الظالمة من بني آدم، وفي سياق غضب الرب سبحانه فقد قال قبلها: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . فقد ذكر أنه عاقب قسماً كثيراً من بني آدم وأنزل عليم بأسه لظلمهم، فالفرق واضح بين السياقين. ولذا بنيت كل قصة على ما جاء في سياقها. وإليك إيضاح ذلك: 1- لقد ذكر معصية إبليس في البقرة بقوله: {أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} فقد جمع لإبليس الإباء والاستكبار والكفر للدلالة على شناعة معصيته بحق آدم الذي أكرمه الله وعلّمه. ولم يقل مثل ذلك في أي مكان آخر من القرآن بل هو إما أن يقول: (أبى) وإما أن يقول: (استكبر) كما سنرى ذاك، ولم يجمعهما إلا في هذا الموطن. وأما في الأعراف فقد قال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} وأنت ترى الفرق واضحاً بين التعبيرين. فقد ذكرت كل عبارة بحسب موقف التكريم. 2- قال في البقرة: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة} . وقال في الأعراف: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة} . وأنت تلاحظ الفروق بين التعبيرين في هاتين الآيتين. فقد قال: في البقرة في الأعراف   وقلنا يا آدم اسكن ويا آدم اسكن وكلا منها فكلا رغداً - حيثُ شئتما من حيث شتما فقد أسند القولَ في البقرة إلى نفسه (وقلنا يا آدم) وهذا يقوله القرآن في مقام التكريم والتعظيم، فإن الله سبحانه يظهر نفسه في مقام التفضل والتكريم، في حين جمع بين طرد إبليس وإسكان آدم بقول واحد في الأعراف وهو لفظ (قال) بإسناد القول إلى الغالب: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً ... * وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} فلم يُفْرد آدم بقول. وناسب التكريم والتعظيم أن يذكر (رغداً) في البقرة دون الأعراف لأن المقامين مختلفان. جاء في (البرهان) للكرماني: "وزاد في البقرة (رغداً) لما زاد في الخبر تعظيماً بقوله: (وقلنا) بخلاف سورة الأعراف فإن فيها: قال". وقال في البقرة: (وكلا) وقال في الأعراف: (فكلا) فجاء بالواو في البقرة وجاء بالفاء في الأعراف. والواو لمطلق الجمع والفاء تفيد التعقيب والترتيب. فالواو أوسع من الفاء لأن من جملة معانيها معنى الفاء، فيصح أن يكون معطوفها مفيداً للتعقيب ولغيره. جاء في (التفسير الكبير) : "قال في سورة البقرة: (وكلا منها رغداً) بالواو وقال ههنا: (فكلا) فما السبب فيه؟ وجوابه من وجهين: الأول: أن الواو تفيد الجمع المطلق، والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو. ولا منافاة بين النوع والجنس". فالواو صالحة لجميع الأزمان بما فيها معنى الفاء. أما الفاء فتفيد التعقيب، أي: أن يعق المعطوف بعد المعطوف عليه مباشرة. فجاء بالواو في سورة البقرة للدلالة على السعة في الاختيار، وهو المناسب لمقام التكريم. ألا ترى لو قلت لشخص ما: (ادخل وكل) كان له الحق في أن يأكل متى شاء عل حسب رغبته، فمتى أكل كان موافقاً للأمر. ولو قلت: (ادخل فكل) كان عليه أن يأكل في عقب الدخول ولو تأخر لكان مخالفاً للأمر ويحق لك أن تمنعه منه. فالواو أوجب زمناً من الفاء. فذكر كل حرف من المكان الذي هو أليق به. وقال في البقرة: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} . وقال في الأعرف: {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} . فقد أعاد ضمير الجنة في البقرة مع الأكل فقال: (منها) ولم يُعِدْهُ في الأعراف. فأنت ترى أنه ذكر الجنة وضميرها في البقرة. وهو المناسب لمقام التكريم فيها، ولم يفعل مثل ذلك في الأعراف. ثم إنّ الظرف (حيث شئتما) في البقرة يحتمل أن يكون للسكن والأكل جميعاً والمعنى: (اسكنا حيث شئتما وكلا حيث شئتما) فالسكن حيث يشاءان والأكل حيث يشاءان أيضاً. وأما التعبير في الأعراف فلا يحتمل إلا أن يكون للأكل (فكلا من حيث شئتما) ولا يصح تعليقه بالسكن، فلا يصح أن يقال: (اسكنا من حيث شئتما) فالمشيئة والتخيير في البقرة أوسع لأنها تشمل السكن والأكل بخلاف الأعراف، وهو المناسب لمقام التكريم في البقرة كما هو ظاهر. 3- قال في البقرة: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} . وقال في الأعراف: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} . والإزلال غير التَدْلِيَةِ فإن الزلة قد تكون في الموضع نفسه، وأما التدلية فلا تكون إلا إلى أسفل، ذلك أنها من التدلية في البئر فإذا دلّيت أحداً فقد أنزلته إلى أسفل، بخلاف الزلة فقد لا تكون إلى أسفل. ومعنى (دلاّهما) : أنزلهما من مكان إلى مكان أَحطّ منه. فخفف المعصية في البقرة وسماها زلة مراعاة لمقام التكريم بخلاف الأعراف. فاستعمل كل تعبير في المكان الذي هو أليق به. 4- لم يذكر في البقرة معاتبة الرب أو توبيخه لآدم وزوجه على معصيتهما مراعاة لمقام التكريم بخلاف الأعراف فقد ذكر أنه عتبهما عليها فقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} . ولا شك أن مرتبة العتاب آدنى من عدمه. ثم انظر كيف ناسب هذا العتاب لأبوي البشر في الجنة عتاب أبنائهما في الدنيا في الآية التي سبقت هذه القصة: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} وكيف وقعا موقعاً تناسقاً واحدا"؟ 5- طوى في البقرة تصريح آدم عن نفسه بالمعصية ولم يذكرها إكراماً له في حين ذكرها في الأعراف فقال: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} . وانظر بعد هذا كيف يتسق ندم آدم ههنا مع ما ذكره قبل القصة من ندم المعاقبين من بني آدم {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . ثم انظر كيف اتفق الندمان على أمر واحد وهو الظلم فقال آدم: {ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} وقال أبناؤه: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . ثم ارجع النظر مرة أخرى وانظر كيف كانت العقوبة على قدر الظلم، فقد قال آدم: (ظلمنا) بالصيغة الفعلية الدالة على الحدوث والطروء للدلالة على أنها زلَّةٌ طارئة وليست معصية إصرار. وقال أبناؤه: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بالصيغة الاسمية الدالة على الثبات على الظلم والإصرار فتاب على الأولين وأهلك الآخرين. فانظر يا رعاك الله أيّ كلام هذا وأية لوحة فنية هذه! 6- ذكر في البقرة أن آدم تلقّى من ربه كلمات فتاب عليه ولم يذكر ذلك في الأعراف، وإنما ذكر فيها أنّ آدم طلب من ربه المغفرة والرحمة ولم يذكر أنه تاب عليه. فانظر الفرق بين المقامين: مقام البقرة الذي لم يذكر فيه أن آدم طلب من ربه المغفرة وذكر أنه تاب عليه مع ذلك. ومقام الأعراف الذي ذكر فيه أن آدم طلب من ربه المغفرة ولم يذكر أنه تاب عليه. وانظر تناسب سياق البقرة مع مقام التكريم وسياق الأعراف مع مقام العتاب والمؤاخذة وقل: جَلَّ قائلُ هذا الكلام. 7- قال في البقرة: {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . ولم يقل مثل ذلك في الأعراف. والتكريم واضح في هذه الآية إذ فيها وعد لمن تبع الهدى بالعودة إلى الجنة حيث لا خوف ولا حزن. ثم انظر كيف قال: (تَبِعَ) بالتخفيف ولم يقل: (اتّبع) بالتشديد كما فعل في (طه) فقد قال فيها: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] ذلك أن الفعل المشدد يفيد المبالغة فاكتفى في البقرة بالأخفِّ من الحدث ولم يشدّد عليهم تخفيفاً على البشر مراعاة لمقام التكريم. هذا علاوة على أن في وضع كل فعل من هذين الفعلين في موضعه أسرار وأسرار. منها: أن الفعل (تبع) تردد في سورة البقرة أكثر من أية سورة آخرى في القرآن الكريم، فوضعه في مكانه الذي هو أليق به. وقد مر بنا نظائر هذا الاستعمال. ومنها: أن التخفيف الذي يفيد التلطف بالعباد جاء مع إسناد القول إلى نفسه وأن التشديد جاء مع إسناد القول إلى الغائب (قال) وقد ذكرنا أن الله سبحانه يظهر نفسه في موقف التلطف والتكريم. فوضعَ كلَّ فِعْلٍ في موضعه الذي هو أليق به. ومنها: أن نهاية الآية في البقرة تتعلق بالآخرة وهو قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: في الآخرة. ونهاية الآية في (طه) تتعلق بالدنيا والآخرة وهو قوله: {فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] فقوله: (فلا يضل) متعلق بالدنيا لأن الضلال إنما يكون فيها: وأما في الآخرة فينكشف الغطاء ويصبح الناس كلهم على بصيرة. وقوله: (ولا يشقى) متعلق بالآخرة لأن الدنيا لا تخلو من الشقاء بدليل قوله تعالى لآدم قبيل الآية: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117] أي: إذا خرجت من الجنة شقيت، وقد أخرجهما من الجنة فلا بد من الشقاء إذن. ولما كانت آية (طه) تتعلق بالدنيا والآخرة بخلاف آية البقرة زاد في بناء الفعل إشارة إلى زيادة متعلقه. ثم إن كل آية من الآيتين تقتضي الفعل الذي اختير لها من جهة أخرى، ذلك أن آية (طه) تتضمن أمرين: مجاهدة الضلال في الدنيا والفوز في الآخرة. وآية البقرة تتضمن الفوز في الآخرة. والحالة الأولى تتطلب عملاً أكثر وأشق فجاء الفعل الدال على المبالغة والتكلف للأمر الشاق، وجاء بالفعل الخفيف للعمل الخفيف. وقد تقول: أفلا يتطلب الفوز في الآخرة مجاهدة الضلال في الدنيا؟ فأقول: إنَّ الفوز في الآخرة على مراتب بعضها أعلى من بعض. وليس كل الناجين في الآخرة ممن كانوا يجاهدون الضلال في الدنيا أم لم يضلوا في أمر من الأمور. فمجاهدة الضلال والتحري لعدم الوقوع فيه مرتبة عالية تتطلب جهداً كبيراً ومشقة في العمل. فوضع كل فعل في المكان الذي يقتضيه تماماً. فانظر كيف يراعي في اختيار اللفظة أوجهاً متعددة، كل وجه يقتضيها من ناحية وينادي عليها بحيث تكون اللفظة كأنها مصوغة لهذا الموضع، أو أن الموضع كأنما أُعد إعداداً لتحل فيه. ثم انظر هداك الله أيمكن أن يكون هذا من كلام البشر؟! 8- قال: في الأعراف: {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} وقال فيها أيضاً: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} . وقال في خاتمة السورة: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] فناسب بين القصة وخاتمة السورة، ذلك أنه نفى عن ملائكة التكبر وأثبت لهم السجود، بخلاف إبليس الذي أثبت له لتكبر ونفى عنه السجود. وقال في البقرة في إبليس: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} وقال في خاتمة السورة: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فلاءم بين القصة وخاتمة القصة كما فعل في الأعراف. ونحو ذلك قوله تعالى على لسان إبليس في قصة الأعراف: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} وقوله تعالى في مقدمة القصة: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فقد لاءم بين الآيتين أجمل ملاءمة، فقد قطع إبليس عهداً على نفسه بأنه سيحول بين بني آدم والشكر. وظاهر أن بني آدم وقعوا في شَرَك إبليس الذي نصبه لهم لئلا يشكروا فكانوا كما أراد (قليلاً ما يشكرون) . وصدق قول الله فيهم: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين} [سبأ: 20] . فقد استجابوا لوسوسته كما استجاب أبوهم لها من قبل ولا حول ولا قوة إلا بالله. 9- قال تعالى في الأعراف: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} فذكر أن الغرض من الوسوسة هو أن يبدي لهما السوءات المخيفة. وقد وقع ذلك فعلاً: {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} بُغيةَ سَتْرها. وعقب على ذلك بقوله: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك} . وهذا التعقيب هو المناسب لظهور السوءات وانكشافها في الجنة. ثم انظر كيف ذكر ههنا كلمة (لباس) مع التقوى فقال: {وَلِبَاسُ التقوى} مناسبة لما مر من السياق. فالتقوى لبس يواري السوءات الباطنة، واللباس والرياش يواري السوءات الظاهرة. فانظر هذا التناسب الجميل. جاء في (التفسير الكبير) : "إنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها أَتبعه بأن بيّن أنه خلق اللباس للخَلْقِ ليستروا بها عوراتهم، ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر". ثم انظر إلى تحذير الله لذرية آدم وكيف يتناسب وما مر فقال: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} . وانظر بعد ذلك كيف أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد فقال: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . والزينة هي الرياش واللباس. وعقب بعد ذلك بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} . ثم انظر بعد ذلك كيف قال في عذاب أهل جهنم: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} وكيف ناسب كل ذلك ما مر في قصة آدم. فأنت ترى أن الشيطان نزع عن أبوينا اللباس في الجنة، وهو في هذه الدار حريص على أن يفتتنا لنتعرى من اللباس الظاهر والباطن، ولا يرضى في الآخرة إلا بأن نتسربل من سراسبيل جهنم أعاذنا الله منها وأن يكون لنا منها مهاد وغواشٍ نسأل الله العافية. فانظر أي تناسق هذا وأي فن عجيب. قصة سيدنا آدم في سورتي الاعراف و (ص) قال تعالى في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هاذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين * قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} . وقال في سورة ص: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين * قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين * قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين * قَالَ فالحق والحق أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} . بيّنا في موطن سابق علاقة قصة آدم بالآية التي تقدمتها في سورة الأعراف مما يغني عن إعادة ذكره. أما القصة في سورة (ص) فقد وردت بعد ذكر الخصومة في الملأ الأعلى {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} . وهذا هو الموطن الوحيد الذي ورد فيه ذكر لهذه الخصومة، ولم يرد مثل ذلك في أي موطن آخر من القرآن الكريم. وهذا هو المقام المناسب لذكرها، ذلك أن جو السورة مشحون بالخصومات فقد افتتحت السورة بالخصومة والشقاق: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} وهل الشِّقاقُ إلا خصومة؟ ووردت فيها قصة الخصومة التي فصل فيها نبي الله داود قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} . وخصومة نبيِّ الله أيوب مع زوجه حتى إنه حلف لَيَضْرِبَنَّها مائة جلدة، فأفتاه الله بقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} . وخصومة أهل النار وتبادل الشتائم فيما بينهم: {هاذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار} . ثم ختم هذه الخصومة بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} . وخصومة الملأ الأعلى في أمر آدم: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} . فانظر كيف جاء ذكر الخصومة ههنا مناسباً لجو السورة تماماً. مما مر يتبين أنَّ القصة وقعت ههُنا في سياق الخصومات وما تقتضيه من أخذ ورد ومحاجّة، بخلاف القصة في سورة الأعراف. فقد ذكرنا فيما سبق أن القصة فيها وقعت في سياق العقوبات وإهلاك الأمم الظالمة من بني آدم وفي سياق غضب الرب سبحانه فقد قال قبلها: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . فقد ذكر أنه عاقب قسماً من بني آدم وأنزل عليهم بأسه لظلمهم. فمقام السخط والغضب في قصة الأعراف أكبر مما هو في (ص) . وقد بُنيت كلّ قصة على ما جاء في سياقها، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى في الأعراف: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} . وقال في (ص) : {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . فقد زاد (لا) في الأعراف لتوكيد السجود وهو قوله: (ألاّ تسجد) دون ما ورد في (ص) وذلك لأسباب عدة أقتضت الزيادة فيها. منها: أن التوكيد في قصة الأعراف أشد فاقتضى ذلك أن يؤتى بـ (لا) الزائدة المؤكدة. يدل على ذلك بدؤه القصة في الأعراف بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} . و (لقد) مؤكّدان هما اللام وقد. وهي - أعني لقد - قَسَمٌ مقدر عند النحاة. والقسم توكيد بخلاف القصة في (ص) فإنها تبدأ بقوله: {وَإِذْ قُلْنَا} . وأن المؤكدات فيها أكثر (لقد، زيادة (لا) ، إنك من الصاغرين، لأقعدنّ، لآتينهم، لأملأنّ جهنم منكم أجمعين، وقاسمهما إني لكما لمن النصاحين) فناسب ذلك المجيء بـ (لا) الزائدة المؤكدة. مما حسّن التأكيد واقتضاه في الأعراف قوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} ومخالفة هذا الأمر كبيرة ولم يقل مثل ذلك في (ص) بل قال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فكان الحساب على مخالفة الأمر أشد واللفظ أعنف وأغلظ. وهناك جانب فنيّ آخر حسّن زيادة (لا) في الأعراف دون (ص) وهو أن سورة الأعراف تبدأ بـ {المص} وقد انتبه القدامى إلى أن الحروف المقطعة التي تبدأ بها السور يكثر ترددها في السورة بصورة أكثر وأوضح من غيرها. فناسب ذلك زيادة (لا) وهي لام وألف في السورة التي تبدأ بألف ولام دون التي لم تبدأ بهما. ثم إن جو السورة في الأعراف يختلف عنه في (ص) مما حسّن تأكيد السجود في الأعراف دون (ص) ، ذلك أن مشتقات السجود كالسجود والساجدين ونحوها ترددت في سورة الأعراف تسع مرات بخلاف سورة (ص) فإنها لم تذكر فيها إلا ثلاث مرات. وختم السورة بقوله: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} في حين لم ترد مشتقات السجود في سورة (ص) إلا في هذه القصة في الأيات 72، 73، 75. لقد ترددت مشتقات السجود في الأعراف في هذه القصة وحدها أربع مرات، وفي سورة (ص) جميعها ثلاث مرات، فناسب ذلك أن يؤكد السجود في الأعراف دون (ص) والله أعلم. ثم إن مقام السخط والغضب في قصة الأعراف أكبر كما ذكرنا، فناسب ذلك الزيادة في التوكيد والغلظة في القول، ويدل على ذلك أمور منها: أنه طوى اسم إبليس فلم يذكره في الأعراف فقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} في حين ذكر اسمه في (ص) فقال: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} . ويدل على ذلك صيغة الطرد في الأعراف قال: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} فقد كرر الطرد مرتين وهما قوله: (فاهبط) وقوله: {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} . وكرر الطرد مرة أخرى في الآية الثامنة عشرة قائلاً: {اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} . وليس الأمر كذلك في سورة (ص) فإنه قال: {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ولم يكرر الطرد مرة أخرى. لقد طرده في الأعراف كما طرده في (ص) ثم زاد عليه فقال في الأعراف: {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} وقال أيضاً: {اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} ، وقال في (ص) : {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} فكرر الطرد بصيغة الخروج مرتين في الأعراف ومرة في (ص) . وزاد على ذلك في الأعراف فقال: {قَالَ فاهبط مِنْهَا} والهبوط أشد طرداً من الخروج إذ الهبوط لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، بخلاف الخروج فقد لا يكون كذلك. فهو أخرجه أولاً ثم أهبطه مما يدل على شدة الغضب في الأعراف. ومما يدل على أن مقام السخط في قصة الأعراف أكبر: عدم التبسط مع إبليس في الكلام بخلاف ما ورد في (ص) . وأن عدم التبسط في الكلام مما يَدُلُّ علكى السخطِ الكبير يدل على ذلك أنه قال في (الأعراف) : {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} . في حين قال في (ص) : {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} والتسط واضح في القول الأخير. وقال في الأعراف: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . في حين قال في (ص) : {قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فزاد (ربِّ) والفاء. وقال في الأعراف: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} . في حين قال في (ص) : {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} . فزاد الفاء وزاد {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} . ثم انظر من الناحية الفنية كيف أنه في (ص) لما ذكر الفاء في قوله: {قَالَ رَبِّ فأنظرني} كان الجواب بالفاء كذلك {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ، ولما لم يذكر الفاء في قوله: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} كان الجواب بدون فاء كذلك: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} . فانظر كيف أنه لما رأى أن الله يبسّط معه في الكلام تبسّط هو أيضاً، بخلاف ما في الأعراف فإنه لما رأى السخط الكبير لم يجرؤ أن يتسبّط في الكلام بل جعله على أوجز صورة وأقصر تعبير، ولكل مقام مقال. فانظر يا رعاك الله علو هذا الكلام وفخامته والبصير يرى. قصة سيدنا آدم في سورة الحجر و (ص) قال تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين * قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} . *** وقال في سورة ص: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين * قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين * قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين * قَالَ فالحق والحق أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} . *** عرض القرآن الكريم في سورتي الحجر و (ص) جانباً من القصة وهو ذِكْرُ معصيةِ إبليس وعداوته للإنسان، ولم يذكر فيهما ما يتعلق بآدم، بل لم يرد فيهما اسم آدم أصلاً، بخلاف ما مر في سورتي البقرة والأعراف فإنه ورد فيهما ذكر جانبي القصة: ما يتعلق بآدم وما يتعلق بإبليس. فكأن الغرض من ذكر القصة في الحجر و (ص) تحذير الجنس البشري من عداوة إبليس الأبدية. ومع أن الجانب المذكور من القصة يكاد يكون واحداً في السورتين غير أنهما لم تتطابقا. فثمة أمور عرضت لها القصة في الحجر تختلف عما في (ص) ، وهذا نظير ما مر بنا من اختلاف القصتين، في البقرة والأعراف. إن كثيراً من الألفاظ والعبارات متطابقة في القصتين غير أن هناك اختلافاً بينهما أيضاً يتناسب وسياق كل قصة. وإليك بيان ذلك وإيضاح طرف من الأسباب الداعية لهذا الاختلاف: في (الحجر) في (ص)   خالق بشراً من صلصال من خالق بشراً من طين من حمأ مسنون إلا إبليس أبى أن يكون مع إلا أبليس استكبر وكان من الساجدين من الكافرين مالك ألاّ تكون من الساجدين ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالمين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته قال أنا خير منه خلقتني من نار من صلصان من حمأ مسنون وخلقته من طين (ذكر إبليس أصل آدم ولم يذكر (ذكر إبليس أصلح وأصل آدم وذكر أصله هو) أنه خير منه) وإن عليك اللعنة وأن عليك لعنتي قال ربِّ بما أغويتني قال فبعزتك لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم لأغوينهم أجمعين (من دون ذكر أجمعين التزيين) إلا من اتبعك وممن تبعك 1- ذكر في سورة الحجر أنه خلق آدم من صلصال من حمأ مسنون، وذكر في (ص) أنه خلقه من طين. قال تعالى في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} . وقال في (ص) : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} . وكلمة (صلصال) متكونة من (صاد) وهو مفتتح سورة (ص) ومن (ألف ولام) وهما في مفتتح سورة الحجر، وقد تكررت هذه الكلمة في القصة مرتين، فتكون اللام تكررت أربع مرات والألف مرتين والصاد أربع مرات. وعلى هذا يكون وضع الكلمة في السورة المبدوءة بالألف واللام أنسب، لأن مجمع ترددهما أكثر من الصاد. ومن ناحية أخرى إن القصة في سورة الحجر وردت بعد قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فكان المناسب أن ترد هذه اللفظة في صلب القصة أيضاً. 2- ذكر في الحجر أن إبليس (أبى) . وذكر في (ص) أنه استكبر. قال تعالى في الحجر: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} . وقال في ص: {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} . ومعنى (أبى) غير معنى (استكبر) فإن معنى (أبى) : رفض وامتنع. ومعنى (استكبر) : رأى نفسه خيراً من الآخرين. والرفض والامتناع قد يكونان لغير الاستكبار. وقد بينت كلُّ قصة على ما ذُكِرَ فيها. فقد بُنيت قصة الحجر على الإباء والرفض، وبينت قصة (ص) على الاستكبار، يدلك على ذلك أمور منها: أنه لما قال في (ص) : (استكبر) كان سؤال رب العزة له: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} وهذا هو المناسب للاستكبار. ولم يقل مثل ذلك في الحجر. ثم انظر إلى جواب إبليس في (ص) كيف كان مناسباً للاستبكار، ذلك أنه قال: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وهو تكبر واضح يدلك على ذلك أنه لما قال ذلك في قصة الأعراف قال له رب لعزة: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] . ولم يقل مثل ذلك في الحجر ولكن قال: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وهذا هو المناسب لكلمة (أبى) ذلك أن هذا القول يدل على الرفض والامتناع لا على الاستكبار. فإنك إذا قلت: (لم أكن لأفعل هذا) لم يُفِدْ قولكَ الاستكبار عن فعله، ولكن يفيد الامتناع عنه. هذا علاوة على أن جوّ سورة الحجر عموماً هو الامتناع والرفض، وجوّ سورة (ص) هو الاستكبار والعلو. فقد ذكر في الحجر أن قسماً من الكفار يرفضون الهداية ولو جئتهم بكل أسبابها قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} . وذكر فيها أن قوم لوط رفضوا عرض نبيهم لهم حين طلب منهم الكَفَّ عن التعرض لضيفه، قال تعالى على لسان نبيه لوط: {قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ} فأجابوه قائلين: {أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} . وذكر فيها أن أصحاب الحجر رفضوا الآيات التي جاء بها نبيهم وأعرضوا عنها، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . في حين أن جوّ سورة (ص) يشيع فيه الاستكبار والعلو - كما أسلفنا -. فقد ذكر في أول السورة أن الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاق. والمراد بالعزة ههنا "الاستكبار عن الحق" وعدم الانقياد له. وهذا كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: 206] . ثم ذكر قصة الخصمين اللذين بغى أحدهما على صاحبه واستكبر عليه. والباغي مُسْتعلٍ ظالم مستكبر. وذكر الطاغين وعذابهم قال تعالى: {هاذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد} . والطاغية: هو الأحمق المستكبر الظالم الذي لا يبالي ما أتى. وذكر الذين اتخذوا غيرهم سخرياً، والذي يسخر من الناس مستكبر عليهم يراهم دونه. قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} . ومن هذا نرى أن كل قصة وضعت في مكانها أحسن موضع وأجمله، وأن الجانب الذي عرضت له متلائم أحسن ملاءمة مع جوّ السورة الذي وردت فيه. ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما جاء في البقرة بالقصة كاملة ما يتعلق منها بآدم وما يتعلق بإبليس جمع فيها ما تفرق في الحجر و (ص) فقال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] . في حين قال في الحجر (أبى) وقال في (ص) {استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} . 3- قال في الحجر: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} . وقال في (ص) : {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} . فذكر السجود في الحجر ولم يذكره في (ص) ذلك أن جو السجود شائع في قصة الحجر وسورتها أكثر مما في (ص) . فقد ورد السجود في قصة الحجر ست مرات، في حين ورد في قصة (ص) ثلاث مرات. وقد ختمت السورة بالسجود أيضاً فقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} . وهذا بخلاف ما في (ص) فإنه حتى إنَّ نبي الله داود لما كتاب لم يذكر أنه سجد بل قال: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} . فوضع كل تعبير في المكان الذي هو أليق به. ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما قال في إ بليس: {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} أمر رسوله بأن يكون من الساجدين فقال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} . وهذا تناسق في التعبير جميل ومخالفة أصيلة لإبليس. 4- أضاف اللعنة إلى نفسه في قصة (ص) فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} . ولم يفعل مثل ذلك في الحجر بل قال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} . وذلك أنه لما قال في (ص) : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فأضاف الخلق إلى ذاته وإلى يديه العليتين قال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} فأضاف اللعنة إلى نفسه. ولما لم يكن كذلك في الحجر قال: (اللعنة) . ثم إنه في قصة (ص) ذكر نفسه أكثر مما في الحجر، فإنه ذكر نفسه في (ص) ست مرات وفي الحجر ثلاث مرات. قال في الحجر: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} . وقال في (ص) مثل ذلك وزاد عليه قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} فكان كل تعبير مناسباً لجو القصة التي ورد فيها. جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان المراد باللعنة وبلعنتي شيئاً واحداً فما بال اللفظين اختلفا فجاء في سورة الحجر بالألف واللام وفي سورة (ص) مضافاً؟ وهل يصح في الاختيار أحدهما مكان الآخر؟ الجواب أن يقال: إنَّ القصة في سورة الحجر ابتدئت في المعتمد بالذكر وهو خلق الإنسان والجن باسم الجنس المُعَرَّف بالألف واللام بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ثم قال: {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} وكان ما استحقه إبليس بترك السجود من الجزاء ما أطلق عليه اللفظ الذي ابتدئت بمثله القصة، وهو اسم الجنس المعرف بالألف واللام. وكان الأمر في سورة (ص) بخلاف ذلك لأن أول الآية: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين * قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} . فلم تفتتح بذكر الصنفين من الجن والإنس باللفظ المعرف بالألف واللام كما كان في سورة الحجر. ولما كان موضع {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} جاء بدلالة {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} ثم قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} فجعل بدل (الساجدين) : {أَن تَسْجُدَ} ثم قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فخصصه بالإضافة إليه دون واسطة يأمره بفعله، أجرى لفظ ما استحقه من العقاب على لفظ الإضافة كما قال: (بيديّ) فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} فكان الاختيار في التوفقة بين الألفاظ الذي افتتحت به الآية واستمرت إلى آخرها هذا". 5- قال في (ص) : {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . وقال في الحجر: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} . فأقسم في (ص) بعزته، وأقسم في الحجر بإغوائه، وذلك لما تقم في (ص) ذكر اسمه العزيز قال تعالى: {العزيز الوهاب} وقال: {العزيز الغفار} . وقد بدئت السورة بالعزة أيضاً فقال: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} فناسب أن يقسم بعزته سبحانه. في حين أقسم في الحجر بإغوائه لما تردد من ذكر الإغواء، قال تعالى: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقال: {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} . فناسب أن يضع كل تعبير في مكانه الذي هو أنسب له. 6- قال في الحجر: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقال في (ص) : {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . فذكر التزيين في الحجر ولم يذكره في (ص) ذلك أنه ورد ذكر الزينة في الحجر ولم يرد في (ص) ، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} . وقال في موطن آخر من السورة: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} . وهذا من التزيين في الأرض. فناسب ذلك ذكر التزيين في قصة الحجر دون (ص) . 7- قال في الحجر: {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} . وقال في (ص) : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} . فذكر الاتّباع بالتشديد في الحجر وذكر اتِّباعه بالتخفيف في (ص) وذلك أنه لما جاء بعد القصة في الحجر قوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} ناسب ذلك أن يخفف على عباده ويرحمهم بأن لا يدخل النار إلا من بالغ في اتباع إبليس، ولما لم يرد مثل ذلك في (ص) كان التحذير أشد. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن قصة آدم في الحجر وردت بعد ذكر نعم الله على البشر: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} . في حين وردت قصة آدم في (ص) بعد ذكر عقوبات أهل النار في النار فناسب السياق في الحجر التخفيف على عباده والتفضل عليهم، بخلاف السياق في (ص) . وبهذا ناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه. وهذا التعبير مشابه لما سبق أن ذكرناه من قوله تعالى في البقرة: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] وقوله في طه: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] غير أن هذا في التحذير والترهيب وذلك في الإطماع والترغيب، فجمع الترغيب والترهيب في هذه القصة على أتم وأكمل صورة، والحمد لله رب العالمين. قصة سيدنا موسى عليه السلام في البقرة والأعراف إن قصة سيدنا موسى في البقرة والأعراف تشتركان في قسم من المواطن وتختلفان في الكثير. ففي سورة الأعراف يذكر أموراً لا يذكرها في البقرة، كما يذكر أموراً في البقرة لا يذكرها في الأعراف. وقد اخترنا نموذجاً من المواقف المتشابهة لنبين الحشد الفني فيه. قال تعالى في سورة البقرة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم وَسَنَزِيدُ المحسنين * فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} . *** وقال في سرة الأعراف: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هاذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين * فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} . والآن انظر الفروق التعبيرية بين الموطنين في البقرة في الأعراف   وإذ قلنا وإذ قيل لهم. ادخلوا اسكنوا فكلوا وكلوا رغداً - وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم نغفر لكم خطيئاتكم وسنزيد سنزيد الذين ظلموا الذين ظلموا منهم فأنزلنا فأرسلنا على الذين ظلموا عليهم يفسقون يظلمون وإذا استسقى موسى لقومه إذ استسقاه قومه فقلنا اضرب وأوحينا إلى موسى.. أن اضرب فانفجرت فانبجست. كلوا وشربوا من رزق الله - فما سر هذا الاختلاف؟ إن سر الاختلاف يتضح من الاطلاع على سياق الآيات في السورتين، فسياق هذه الآيات في سورة البقرة هو تعداد النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل، ويبدأ الكلام معهم بقوله: {يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} . ثم يأخذ بسرد النعم عليم ويذكرهم. أما في سورة الأعراف فالمقام مقام تقريع وتأنيب فإن بني إسرائيل قوم لا يتعظون فإنهم بعدما أنجاهم من البحر وأغرق آل فرعون طلبوا من موسى أن يجعل لهم أصناماً يعبدونها. وعندما ذهب موسى لميقات ربه عبدوا العجل. وإنهم كانوا ينتهكون محارم الله فقد طلب الله منهم أن يعظموا حرمة السبت فانتهكوها وأخذوا يصطادون الحيتان فيه إلى غير ذلك. فالفرق واضح بين السياقين فناسب يبن كل تعبير والمقام الذي ورد فيه وانظر إلى توضيح ذلك. قال تعالى في سورة البقرة: (وإذ قلنا) فأسند الرب القول إلى نفسه وقال في سورة الأعراف: (وإذ قيل لهم) ببناء الفعل للمجهول. والقرآن الكريم يسند الفعل إلى الله سبحانه في مقام التشريف والتكريم ومقام الخير العام والتفضل بخلاف الشر والسوء فإنه لا يذكر فيه نفسه تنزيهاً له عن فعل الشر وإرادة السوء. فإنه مثلاً عندما يذكر النعم ينسبها إليه لأن النعمة خير وتفضل منه. قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] . وقال {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ} [النساء: 72] وقال: {فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} [النساء: 69] وقال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} [الإسراء: 83] . ففي النعمة أظهر نفسه فقال: (أنعمنا) وفي الشر قال: (وإذ مسه الشر) ولم يقل (مسسناه بالشر) أو (أصبناه بالشر) . قوال: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] وقال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] وقال على لسان سيدنا إبراهيم: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78-80] . فأنت ترى أنه نسب الخير إلى ربه فقال: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] ونسب السوء إلى نفسه فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ولم يقل (وإذا أمرضني) فنسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى. وقال: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] فبنى إرادة الشر للمجهول (أَشَرٌّ أُريدَ) ونسب الخير والرشد إلى الرب (أراد بم ربهم رشداً) . ومن ذلك ما جاء فيه في قصة موسى والرجل الصالح، قال: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 79-82] . فقال في خرق السفينة: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وقال في قتل الغلام: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] وقال في إقامة الجدار: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82] . فإنه في خرق السفينة نسب العيب إلى نفسه ولم ينسبه إلى الله تعالى تنزيهاً له فقال: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] . أما في قتل الغلام فجاء بالضمير مشتركاً لأن العمل مشترك، فإن فيه قتل غلام وهو في ظاهر الأمر سوء، وإبدال خير منه وهو خير، فجاء بالضمير المشترك للعمل المشترك ثم قال: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ} [الكهف: 81] فأسند الإبدال إلى الله وحده. وأما إقامة الجدار فَعملٌ كله خير فأسنده إلى الله سبحانه فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82] . ومن ذلك قوله تعالى: {ولاكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] فأسند تزيين الإيمان في القلوب إلى ذاته سبحانه. وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} [آل عمران: 14] فبنى تزيين حب الشهوات للمجهول ولم ينسبه إلى نفسه. وقال: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [لصافات: 6] وقال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5] وقال: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16] فأسند هذا التزيين الحسن إلى ذاته. وقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} . وقال: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} [الرعد: 33] . وقال: {كَذَلِكَ زُيِّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] . وقال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] . وقال: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل} [غافر: 37] وقال: {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37] . وقال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} [الفتح: 12] . فأنت ترى أنه ينسب تزيين الخير إلى نفسه بخلاف تزيين السوء. إنك قد تجد مثل قوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] ولكن لا تجد: (زينا لهم سوء أعمالهم) فإن الله لا ينسب السوء إلى نفسه. ومن هذا الباب ما تراه في القرآن الكريم في الكلام على الذين أوتوا الكتاب، فإنه على العموم إذا كان المقام مقامَ مدح وثناء، أظهر ذاته ونسب إيتاء الكتاب إلى نفسه: {آتَيْنَاهُمُ الكتاب} وإذا كان المقام مقام ذم وتقريع قال: (أوتوا الكتاب) . ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين} [الجاثية: 16] وقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} وقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} [الأنعام: 20] وقوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق} [الأنعام: 114] وقوله: {أولائك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89] وقوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36] وقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ} [القصص: 52-53] وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت: 47] وقوله: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إبراهيم الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] . فأنت ترى أنه أسند الإيتاء إلى نفسه في مقام المدح والثناء في حين قال: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} وقال: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} . فهو في مقام ذم لهم لأنهم يعلمون الحق ثم يروغون عنه. وقال: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] . وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] . وقال: {ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] . وقال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} [آل عمران: 186] . وقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 187] . وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} [النساء: 44] . وقال: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أصحاب السبت} [النساء: 47] . وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] . وقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 57] . وقال: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وقال: {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] . وغير ذلك من الآيات. فأنت ترى أنه في مقام الذم يبني فِعْلَ الإيتاء للمجهول. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} . وقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] . وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب * هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} [غافر: 53-54] . بإسناد الفعل إلى ذاته في مقام المدح. في حين قال: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14] . وقال: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] في مقام الذم. فأنت ترى أن الله سبحانه يذكر ذاته في الخير العام وينسبه إلى نفسه، بخلاف الشر والسوء. فبنى القول للمجهول في الأعراف ولم يظهر الرب نفسه لأنهم هنا لا يستحقون هذا التشريف، وهو نحو قوله تعالى: (آتيناهم الكتاب) و (أوتوا الكتاب) . وقال في سورة البقرة: {ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ} أي: أن الأكل يكون عقب الدخول، لأن الفاء تفيد التعقيب، أي: بمجرد دخولكم تأكلون توّاً. وأما في سورة الأعراف فقال: {اسكنوا هاذه القرية وَكُلُواْ} فالأكل لا يكون إلا بعد السكن والاستقرار وليس بعد الدخول. ثم لاحظ الفرق أيضاً فقد قال في سورة البقرة: (فكلوا) أي: أن الأكل يكون بعد الدخول توّاً ولم يأت بالفاء في الأعراف وإنما جاء بالواو ليفيد أنه ليس هناك من تعقيب، وأن الأكل سيحصل مع السكن ليس موقوتاً بزمن. وفرق كبير بين الأمرين فهماكما تقول لشخص: أنت بمجرد دخولك يجيئك الأكل، أو تقول له: اذهب واسكن وإن الأكل يأتيك (غير محدد بزمن) . وقد تقول: إنك جعلت الواو مع السكن أكرم من الفاء في قصة آدم في البقرة والأعراف، فلماذا جعلت الفاء ههنا أكرم؟ والجواب: أن الأمر مختلف، ذلك أن قصة آدم ذكرت السكن في السورتين. قال تعالى في البقرة: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ} . وقال في الأعراف: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ} . أما في قصة موسى فقد ذكرت الفاء مع الدخول والواو مع السكن. قال تعالى في البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا} . وقال في الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هاذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا} . فالأمر مختلف وذلك أن الأكل في الأولى بعد الدخول، وفي الثانية مع السكن، فقال في البقرة: إنّ الأكل واقع في عقب الدخول، فإذا دختلم أكلتم فوراً من كل مكان شئتم رغداً. وقد جعله في الأعراف مع السكن والاستقرار ولم يحدد لهم الوقت. والدخول غير السكن لأن السكن لا يكون إلا بعد الدخول، فجعل الطعام في البقرة مُهَيَّأ قبل السكن والاستقرار. وفي الأعراف مع السكن بلا تعقيب، فقد يطول الزمن وقد يقصر، فكان الموقف في البقرة أكرم وأفضل. وقال في سورة البقرة: (رغداً) لأنه مناسب لتعداد النعم ولم يقل: (رغداً) في سورة الأعراف لأن المقام تقريع وتأنيب وأنهم لا يستحقون رغد العيش. ثم انظر إلى تناظر هذه القصة مع قصة آدم فقد قال في قصة آدم: (رغداً) في البقرة دون الأعراف، نظير ما فعل في قصة موسى، لأن جو البقرة جو تكريم لآدم وتكريم لذريته من بني إسرائيل، في حين كان الجو في الأعراف جو عقوبات وتأنيب فلم يذكر الرغد في القصتين. فانظر هذه الدقة في مراعاة جو السورة. ثم انظر من ناحية أخرى كيف قدّم (الرغد) في الجنة وأَخَّره في الدنيا، فقال في الجنة: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} وقال في الدنيا: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} لأن الرغد في الدنيا قليل. ومن ناحية أخرى إنه لو وضعهما موضعاً واحداً لكان المعنى أنهما متساويان في الرغد، وهذا بعيد فإنه ليس من المقعول أن تتساوى الجنة والدنيا الدنيّة في الرغد. كما أن فيه إشارة أن رغد الجنة مقدم على رغد الدنيا، فليعمل العاملون لنيل ذلك الرغد أولاً. فانظر هذا التأليف العجيب. وقدّم السجود في سورة البقرة على القول فقال: {وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ} لسبيين والله أعلم: الأول: لأن السجود أشرف من القول لأنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فناسب مقام التكريم. الثاني: لأن السياق يقتضي ذلك، فقد جاءت هذه القصة في عقب الأمر بالصلاة قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين * أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *واستعينوا بالصبر والصلاوة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين * الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون * يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} . فناسب ههنا تقديم السجود لاتصاله بالصلاة والركوع، وكلا الأمرين مرفوع في سورة الأعراف فأخّر السجود. وقال في سورة البقرة: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم} بجمع الكثرة لأن الخطايا جمع كثرة، وهو مناسب لمقام تعداد النعم والتكريم، أي: مهما كانت خطاياكم كثيرة فإن نغفرها لكم. وقال في سورة الأعراف: (خطيئاتكم) بجمع القلة لأن الجمع السالم يفيد القلة، أي: يغفر لهم خطيئاتٍ قليلة، وهو مناسب لمقام التقريع والتأنيب. وقال في سورة البقرة: (وسنزيد) فجاء بالواو الدالة على الاهتمام والتنويع، ولم يجىء بها في سورة الأعراف والسبب واضح. وقال في سورة البقرة: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} . وقال في سورة الأعراف: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} وذلك لأنه سبق هذا القول في هذه السورة قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . أي: ليسوا جميعاً على هذه الشاكلة من السوء، فناسب هذا التبعيض التبعيض في الآية السابقة. جاء في (التفسير الكبير) : "قال الله تعالى في سور البقرة: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} وفي الأعراف: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فما الفائدة في زيادة كلمة (منهم) في الأعراف؟ الجواب: سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ (من) لأنه تعالى قال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عَدَّدَ صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم. فلما انتهت القصة قال الله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فذكر لفظة (منهم) في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله، فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم، فهناك ذكرَ أمةً عادلة وههنا ذكر أمة جائرة ... وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر التخصيص فظهر الفرق". ومن ناحية أخرى إن في ذكر (منهم) تصريحاً بأن الظالمين كانوا من بني إسرائيل، ولم يذكر في البقرة (منهم) فلم يصرح بأنهم منهم تكريماً لهم. وكل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه كما هو ظاهر. وقال في سورة البقرة: (فأنزلنا) . وقال في سورة الأعراف: (فأرسلنا) . ذلك لأن الإرسال أشد في العقوبة من الإنزال، قال تعالى في أصحاب الفيل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 3-5] . وكل منهما يناسب موطنه. جاء في (التفسير الكبير) "لِمَ قال في البقرة: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً} وقال في الأعراف: (فأرسلنا) ؟ الجواب: الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية وذلك إنما يحدث بالآخرة". هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن لفظ الإرسال كثر في الأعراف دون البقرة. فقد ورد لفظ الإرسال ومشتقاته في الأعراف ثلاثين مرة، وفي البقرة سبع عشرة مرة، فوضع كل لفظة في المكان الذي هو أليق بها. جاء في (البرهان) للكرماني أنه عبر بالإرسال في الأعراف دون البقرة "لأن الرسول والرسالة كثرت في الأعراف، فجاء ذلك وفقاً لما قبله، وليس كذلك في سورة البقرة". وقال في سورة البقرة: {عَلَى الذين ظَلَمُواْ} . وقال في سورة الأعراف: (عليهم) وهو أعم من الأول. أي: أن العقوبة أعم وأشمل وهو المناسب لمقام التقريع. وقال في في سورة البقرة: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} . وقال في الأعراف: {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} لأن الظلم أشد من الفسق، وهو المناسب لـ (إرسال) العذاب فذكر في كل سياق ما يناسبه. وقال في سورة البقرة: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} فموسى ههنا هو الذي استسقى رَبَّهُ لقومِه. وقال في سورة الأعراف: {إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} : أي أن قوم موسى استسقوا موسى، والحالة الأولى أكمل وأبلغ في النعمة. وقال في سورة البقرة: {فَقُلْنَا اضرب} . وقال في سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى ... أَنِ اضرب} . فإن القول المباشر من الله أكمل وأشرف من الإيحاء. وقال في سورة البقرة: {فانفجرت} . وقال في سورة الأعراف: {فانبجست} . وثمة فرق بين الانفجار والانبجاس فإن الانفجار للماء الكثير، والانبجاس للماء القليل. ول تعبير يناسب موطنه. فإن المقام في سورة البقرة مقام تعداد النعم كما ذكرنا. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: إن موسى هو الذي استسقى ربه فناسب إجابته بانفجار الماء. ومن ناحية ثالثة: إن الله قال لموسى: اضرب بعصاك الحجر ولم يوح إليه وحياً، فناسب ذلك انفجار الماء الكثير الغزير، بخلاف ما ورد في سورة الأعراف فجاء بالانبجاس والله أعلم. وثمة سبب آخر دعا إلى ذكر الانفجار في البقرة والانبجاس في الأعراف علاوة على ما سبق، ذلك أنه قال في البقرة: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله} فجمع لهم بين الأكل والشرب، ولم يرد في الأعراف ذكر الشرب فناسب ذلك أن يبالغ في ذكر الماء في البقرة. جاء في (البرهان) للكرماني: "قوله: (فانفجرت) وفي الأعراف: (فانبجست) لأن الانفجار انصباب الماء بكثرة، والانبجاس ظهور الماء وكان في هذه السورة: {كُلُواْ واشربوا} فذكر بلفظ بليغ. وفي الأعراف: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وليس فيه: (واشربوا) فلم يبالغ فيه. وقيل: إن الماء أول ما انفجر كان كثيراً ثم قلّ بعصيانهم، فعبر في مقام المدح بالانفجار وفي حالة الذم بالانبجاس. ومن مقام التكريم في البقرة أنه جمع لهم بين الأكل والشرب فقال: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله} ولم يقل مثل ذلك في الأعراف بل قال: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . وقد قال مثل هذا القول في البقرة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وزاد عليه الجمع بين الأكل والشرب. ومقام التكريم واضح بيّن، جاء في (معترك الأقران) : "إن آية البقرة في معرض ذكر النعم علهيم حيث قال: {يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} فناسب نسبة القول إليه تعالى، وناسب قوله: (رغداً) لأن النعم به أتم. وناسب تقديم: {وادخلوا الباب سُجَّداً} وناسب: (خطاياكم) لأنه جمع كثرة. وناسب الواو في: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} لدلالتها على الجمع بينهما، وناسب الفاء في (فكلوا) لأن الأكل قريب من الدخول. وآية الأعراف افتتحت بما به توبيخهم وهو قوله: {اجعل لَّنَآ إلاها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ثم اتخاذهم العجل فناسب ذلك: (وإذ قيل لهم) وناسب ترك (رغداً) والسكن يجامع الأكل فقال: (وكلوا) وناسب تقديم مغفرة الخطايا وترك الواو في (سنزيد) . ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله: {الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ولم يتقدم في البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا، لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم. والإرسال أشد وقعاً من الإنزال، فناسب سياق ذكر النعمة في البقرة. وختم آية البقرة بـ (يفسقون) ، لأن الفسق لا يلزم منه الظالم، والظلم يلزم منه الفسق فناسب كل لفظ ... كذا في البقرة: (فانفجرت) وفي الأعراف: (انبجست) لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء". فانظر جمال هذا التعبير وقدّر أيكون هذا من كلام البشر؟ في الأعراف والشعراء قال تعالى في الأعراف: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين * وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ على أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين * قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين * قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ * قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هاذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قالوا إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} . *** وقال في سورة الشعراء: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى أَنِ ائت القوم الظالمين * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين * قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين * قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين * فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين * قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون * فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} . *** إن موضوع القصة في سورة الأعراف هو تاريخ من بني إسرائيل، بدءاً من قصة موسى مع فرعون إلى ما بعد ذلك من أحداث. أما موضوعها في الشعراء فهو في ذكر قصة موسى مع فرعون بالتفصيل إلى غرق فرعون وقومه. ومعنى ذلك أن ما سورة الشعراء إنا هو جانب مما في الأعراف. ونحن يعنينا هنا ذكر الجانبين المتشابهين اللذين يتضح فيهما الحشد الفني من النظر في أوجه التشابة والاختلاف بين النصوص في الموطنين. إن القصة في سورة الشعراء تتسم بسمتين بارزتين هما: 1- التفصيل في سرد الأحداث. 2- قوة المواجهة والتحدي. وقد بنيت القصة على هذين الركنين، وجاءت كل ألفاظها وعباراتها لتحقيق هذه الأمرين. أم القصة في سورة الأعراف فقد بنيت على الاختصار من ناحية، كما أنها ليس فيها قوة المواجهة التي في الشعراء. وبملاحظة النصوص الواردة في كل الموطنين يتجلى ما ذكرناه واضحاً. تبدأ القصة في الأعراف بدعوة موسى فرعون إلى الهدى بأقصر كلام: {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ على أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} . أما في الشعراء فقد بدأت بالأحداث السابقة لذلك، فقد بدأت بأمر الرب لموسى أن يذهب إلى فرعون ليبلغه دعوة ربه وليرسل معه بني إسرائيل. فأظهر موسى خوفه من أن يكذبه وأن لا ينطلق لسانه. وذكر أن لهم عليه ذنباً خاف أن يقتلوه به وطلب أن يُعينه بهارون. فطمأنه ربه بأنه معهما. ثم ذكر المحاورة بينه وبين فرعون، وقد ذكر فرعون منّته عليه بتربيته في بيته وأنه فعل ما فعل من قتل المصري، فأقرّ بذلك موسى وذكر من أمر فراره منهم ما ذكر. ثم ذكر المحاجّة بينهما في أمر الألوهية والربوبية. فقد سأل فرعون مومسى قائلا: {وَمَا رَبُّ العالمين} . فأجابه موسى: {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} . فلا يرد عليه فرعون بالحجة ولكن حاول أن يُؤلّب عليه من حوله ليسخروا منه. {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} فيمضي موسى قائلاً: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} فيضيق فرعون بموسى ويرميه بالجنون قائلاً: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} . فيمضي موسى يعرض دعوته من دون أن يلتفت إلى ما رماه به من الجنون. فقد أدرك موسى أن فرعون حاول أن يصرفه عن الكلام في العقيدة إلى الانتصار لنفسه، ففوّت الفرصة عليه ومضى فيما هو فيه فقال مُعَرِّضاً بعقولهم: {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} ، فما مُلْكُكَ من هذا؟ فانظر كيف ناسب قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} ما رماه به من الجنون وعدم العقل. ولما أَعْيَتهُ الحيلةُ وأعوزه المنطق تَوعَّدهُ وتَهدَّده بالسجن قائلاً: {لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} . ولم يشر إلى هذه المحاجّة في الأعراف لأن القصة بنيت هناك على الاختصار وعدم التفصيل كما ذكرنا. كما أنها ليس فيها مثل هذه القوة في المواجهة. ولننظر إلى الفروق التعبيرية بين القصة في السورتين لنتبيّن كيف بنيت كل قصة بحسب السياق الذي وردت فيه: في الأعراف في الشعراء   قال الملأ من قوم فرعون فقال للملأ حوله يريد أن يخرجكم من أرضكم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره وأرسل في المدائن وابعث في المدائن بكل ساحر بكل سحار قالوا قالوا فرعون إن لنا لأجراً إن لنا لأجراً وإنكم لمن المقربين وإنكم إذن لمن المقربين. وألقى السحرة ساجدين فألقى السحرة ساجدين قال فرعون آمنتم به قال آمنتم به. فسوف تعلمون فلسوف تعلمون ثم لأصبلنكم أجمعين ولأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون قالوا لا ضير أنا إلى ربنا منقلبون وإليك إيضاح ذلك: 1- قال في الأعراف: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . وقال في الشعراء: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . فالقائلون في آية الأعراف هم ملأ فرعون. في حين أن الذي قال في آية الشعراء هو فرعون نفسه. وذلك أن المحاجّة كانت معه. ففي الآية الأولى كان فرعون في مقام غطرسة الملك والترفع عن الكلام. وأما في آية الشعراء فإن انقطاعه أمام موسى أنساه غطرسة الملك وكبرياءه ودفعه إلى أن يقول هو وأن يتكلم هو وأن يستعين بِمَلَئِه. وزاد كلمة (بسحره) لمناسبة مقام التفصيل في الشعراء وللتأكيد على السحر فيها. 2- جاء في الأعراف: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} وجاء في الشعراء: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} فقال في الأعراف: (وأرسل) وقال في الشعراء: (وابعث) وذلك لكثرة تردد فعل الإرسال في الأعراف كما سبق أن ذكرنا، فقد تردد فعل الإرسال ومشتقاته ثلاثين مرة في الأعراف، وتردد في الشعراء سبع عشرة مرة، فناسب ذلك ذكر الإرسال في الأعراف دون الشعراء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المقام في الشعراء يقتضي ذكر الفعل (ابعث) دون (أرسل) ذلك أن البعث فيه معنى الإرسال وزيادة، فإن فيه معنى الإثارة والإنهاض والتهييج. جاء في (لسان العرب) أن "البعث في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإرسال كقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} معناه: أرسلنا. والبعث إثارة باركٍ أو قاعد تقول ... بعث البعير فانبعث، حل عقاله فأرسله أو كان باركاً فهاجه. وفي حديث حذيفة: أن للفتنة بَعَثات.. قوله: (بعثات) أي: إثارات وتهييجات". وفي (مفردات الراغب) أي: إثارات أن "أصل البعث أثارة الشيء وتوجيهه يقال: بعثته فانبعث". والبعث قد لا يكون بأرسال شخص من مكان إلى آخر بل يكون بإنهاض شخص من المجتمع، وذلك نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84] وهذا إنما يكون يوم القيامة، ومعناه: يوم ننهض ونقيم، وليس معناه: يوم نرسل ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] . ومعناه: "أَنهِض للقتال منا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره". فأجاب الله طلبهم قائلاً: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة: 247] ومعناه: أنهضه فيهم، وليس معناه: أنه أرسله إليهم. فالبعث قد يكون فيه معنى الإرسال وقد يكون فيه معنى الإنهاض. فلما كان المقام في الشعراء مقام زيادة تحدٍّ وقوة مواجهة قال ملأ فرعون: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} فلم يكتفوا بالإرسال بل أرادوا أن يُنهضوا من المجتمع حاشرين علاوة على الرسل، وهؤلاء من مهمتهم الإثارة وتهييج الناس على موسى. وهذا المعنى لا يؤديه لفظ (أرسل) . فاقتضى كل مقام اللفظة التي وردت فيه. 3- قال في الأعراف: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} وقال في الشعراء: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} . فقد جاء في الأعراف بضيغة اسم الفاعل (ساحر) ، وجاء في الشعراء بصيغة المبالغة (سحّار) ، وهذه الصيغة في الشعراء تتناسب مع المبالغة في قوة التحدي وشدة المواجهة بين فرعون وموسى، وتتناسب مع غضب فرعون البليغ واندفاعه للنيل من موسى. فهم أرادوا سحاراً بليغاً في السحر لا مجرد ساحر. وهذا يتناسب أيضاً مع مقام التأكيد على السحر، فإن السحر أكد وكرر في الشعراء أكثر مما في الأعراف، فقد ذكر في الأعراف سبع مرات وفي الشعراء عشر مرات. فانظر كيف اقتضى كل مقام اللفظة التي وردت فيه. 4- زاد في الشعراء قوله: {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} وهو المناسب لمقام التفصيل ومقام التأكيد على السحر. 5- جاء في الأعراف: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} . وجاء في الشعراء: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} . فانظر إلى الفرق بين التعبيرين، وكيف أن كل تعبير يتناسب مع السياق الذي ورد فيه. أ- قال في الأعراف: (قالوا) وقال في الشعراء: (قالوا لفرعون) . فذكر في الشعراء أنهم قالوا لفرعون، ولم يذكر في آية الأعراف أنهم قالوا له، وكل تعبير يتناسب مع السياق الذي ورد فيه، وذلك أنه ذكر في الأعراف أن ملأ فرعون هم الذين قالوا: {إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} . وذكر في الشعراء أن فرعون هو الذي قال ذلك وأنه هو الذي تولى هذه المهمة بنفسه، فناسب ذلك أن يواجهوا فرعون بالقول، بخلاف ما في الأعراف. ولا يفهم من هذا أن ثمة تناقضاً بين الموقفين، فقد قال فرعون هذا القول ورَدَّدهُ مَلَؤُه، فذكر القول عنه مرة وذكره عن الملأ مرة أخرى بحسب ما يقتضيه السياق. ب- قال في الأعراف: {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} . وقال في الشعراء: {قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} . فقد حذف همزة الاستفهام في الأعراف وذكرها في الشعراء، وذلك أنه لما كان المقام مقام إطالة ومبالغة في المحاجّة جيء بهمزة الاستفهام لتشترك في الدلالة على قوة الاستفهام والتصريح به. ففي الآية الأولى أضمر المقول له وأضمر همزة الاستفهام، وفي الثانية صرح بالمقولِ له وبهمزة لاستفهام. ج- قال في الأعراف: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} . وقال في الشعراء: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} . فزاد كلمة (إذن) في الشعراء لتدل على قوة الوعد وتوكيده وربط تقريبهم بالغلبة، وذلك أن (إذن) حرف جواب وجزاء، وذِكْرُها يدل على أن ما بعدها مشروطٌ حصولُه بحصول ما قبلها. وذلك نحو أن يقول لك شخص: (سأزورك) فتقول له: إذن أكرمك. فـ (إذن) تدل على أن إكرامك له مشروط بالزيارة. المعنى: إن زرتني أكرمتك وإلا فلا. ونحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلاه بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] . والمعنى: إنه لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق. فـ (إذن) أفادت معنى الشرط. والمجيء بها في آية الشعراء أكد اشتراط تقريب السحرة بالغلبة. وذلك أنهم سألوا فرعون: أَإِنْ غَلبنا أُعطينا أجراً؟ فقال لهم: نعم وإنكم إذن لمن المقربين؟ فذكر الشرط في السؤال وفي الجواب. وأما في الأعراف فكان الجواب ما يأتي: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} . فلم يُعد الشرط في الجواب، وإنما اكتفى بالشرط الذي في السؤال. ولا شك أن إعادة الشرط في الجوب تفيد التوكيد وزيادة الاهتمام. وهذا نظير أن يقول لك شخص: أَإِنْ فعلت ذاك أكرمتني؟ فتقول له: نعم أو تقول له: نعم إن فعلت ذاك. فأنت كررت الشرط في جوابك الثاني للاهتمام به وتوكيده، بخلاف الجواب الأول. وهذا التكرار يدل على لهفة فرعون على غلبة موسى من ناحية، ومن ناحية أخرى إن مقام التحدي وقوة المواجهة في الشعراء اقتضى ذكرها فيها بخلاف الأعراف. ثم إنهم لما أكدوا السؤال بزيادة الهمزة في الشعراء أكد لهم الجواب في بذكر (إذن) . وعلاوة على ذلك كله فإن ذكرها مناسب لمقام التفصيل في الشعراء دون مقام الأعراف المبني على الإيجاز والاختصار. 6- أقسم السحرة بعزة فرعون في الشعراء. قال تعالى: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} . ولم يقل مثل ذلك في الأعراف، ذلك أن المقام ههنا مقام الانتصار لعزة فرعون التي نال منها موسى في مواجهته ومحاجّته له. وهم في مقام التزلف إليه والحظوة برضاه. ثم انظر كيف ذكر الحبال والعصيّ في الشعراء وهو المناسب لمقام التفصيل فيها، ولم يذكر ذلك في الأعراف لأن المقام مقام إجمال. 7- ثم انظر بعد تأكيد الوعود وتمنيته السحرة. بالقربى منه والقسم بعزته كيف انقلب الأمر فجأة من دون مهلة: {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} . هكذا بالترتيب والتعقيب من دون فاصل زمني بين اللقف والسجود: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} . وهذا المشهد هو المناسب لقوة التحدي، فإن سرعة النصر الحاسم بعد قوة التحدي هو المناسب لمثل هذا المقام. في حين لا تجد مثل هذا التعقيب في الأعراف: قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} . ولا ندري كم مضى من الوقت بين انقلابهم صاغرين وسجودهم، فإنه جاء بالواو، والواو لا تفيد التعقيب كما هو معلوم، ولم يأت بالفاء كما فعل في الشعراء، وذلك لأن الموقف ليس فيه تلك المواجهة وذلك التحدي، فجعل كل تعبير في الموطن اللائق به. وليس ثمة تناقض بين القولين فإن الفاء لا تناقض الواو وإنما هي واقعة في أحد أزمنتها المحتملة. فانظر هذا الاختيار العجيب في استعمال الألفاظ والحروف. 8- قال في الأعراف: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} وقال في الشعراء: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ومعنى (آمنتم به) : آمنتم بالله. ومعنى (آمنتم له) : انقدتم لموسى وصدّقتم به. فالضمير في (به) يعود على الله وفي (له) يعود على موسى. وذلك أن موسى أغضبه في الشعراء أكثر مما في الأعراف، فقد نال منه بالقول وأفحمه بالحجة، ولذا تصديقهم به أكثر إغاظة له، فذكره في الشعراء ولم يذكره في الأعراف. 9- قال في الشعراء: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} ولم يقل مثل ذلك في الأعراف، ذلك لأن في الشعراء كان على موسى فإنه قال: (آمنتم له) . أي لموسى، والكلام في الأعراف كان على الله، فإنه قال: (آمنتم به) وواضح أنه لا يصح أن يقال مثل هذا القول في الأعراف، فإنه لا يصح أن يقال في الله تعالى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} . وهو يدل أيضاً على شدة غضبه من موسى. 10- قال في الأعراف: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . وقال في الشعراء: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأكد تهديده باللام، وذلك لأن الموقف موقف غضب زائد وتميز من الغيظ. 11- قال في الأعراف: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} وقال في الشعراء: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} فأعطاهم مهلة في الأعراف ذلك أنه قال: {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} . و (ثم) تفيد التراخي، ولم يُعطهم مهلة في الشعراء وذلك لزيادة غضبه واحتراق قلبه من الغيظ. 12- قال في الأعراف: {قالوا إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} وقال في الشعراء: {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} . فزاد (لا ضير) في الشعراء وهو المناسب لمقام التفصيل من ناحية، ثم إنه المناسب لمقام التهديد الشديد والوعيد المؤكدة. فإن تهديده في الشعراء أشد وآكد مما في لأعراف، فلو أنهم قالوا في الأعراف: (لاضير) دون الشعراء لظن أنهم هابوا التهديد الشديد فلم ينطقوا بما يدل على عدم الاكتراث، إذ من المعتاد أن يرهب الإنسان التهديد الكبير دون الصغير، أما إذا استهانوا بالتهديد الكبير ولم يكترثوا به فإن ذلك يدل - ولا شك - على أنهم أقل اكتراثاً بالتهديد الأدنى وأقل ربهة له. فناسب هذا أن يقولوه في موطن التهديد الشديد دون الأدنى. وقد تقول: ولماذا لم يذكروه في المواطنين؟ والجواب: إن ذكره في موطن التهديد الكبير يغني عن ذكره في الموطن الأدنى، وذلك من باب الأولى فيكون كأنهم ذكروه في الموطنين. ثم إن ذكره في الموطنين مُخِلٌّ بالإيجاز، إذ إن ذلك مفهوم من الموطن الأول. ثم إن بناء القصة في الشعراء قائم على التفصيل، وبناءها في الأعراف قائم على الاختصار، وذلك يقتضي أن يفصّل ما يقتضي التفصيل، ويختصر ما هو معلوم وما لا حاجة لذكره؟ فاقتضى ذلك أن يذكر القول من الشعراء الذي هو مقام الرهبة الشديدة ومقام التفصيل دون الأعراف الذي هو مقام التهديد الأدنى ومقام الاختصار. ثم إن ذكره في المواطنين على السواء معناه أن المقامين متشابهان ولا فرق بينهما، ومن المعلوم أنهما ليسا متشابهين، فاقتضى أن يذكر في كل موطن ما تناسب معه من الأمور، فوضع كل تعبير في مكانه اللائق به تماماً. ثم يمضي في الشعراء في غير الوجهة التي يمضي بها في الأعراف، فيمضي في الأعراف لذكره أحوال بني إسرائيل وتاريخهم والآليات التي أُروها ومعاصيهم واستهانتهم بالنعم والآليات. ويمضي في الشعراء لنهاية فرعون ونجاة بني إسرائيل. وغني عن القول أن اختيار الألفاظ والعبارات كان مقصوداً لخدمة الناحية الفنية في أدق معانيها وأكمل صورها. تفسير سورة التين ونضرب مثلاً في تفسير سورة من قصار السور ونبين طرفاً مما فيها من أمور فنية ولتكن هذه السورة سوة التين. سورة التين بسم الله الرحمن الرحيم {والتين والزيتون * وَطُورِ سِينِينَ * وهاذا البلد الأمين * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين * أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} . ابتدأت السورة بالقَسَمِ بالتين والزيتون. والتين والزيتون قد يكون قصد بهما الشجران المعروفان، وقد ذكر المفسرون لاختيار هذين الشجرين للقسم بهام أسبابا عدة، فقد ذكروا أنه أقسم بنوعين من الشجر، نوع ثمره ليس في عجم، ونوع فيه عجم، وأنه ورد في الأثر أن التين من شجر الجنة، فقد روي أنه أُهديَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: "كلوا فلو قلتُ إنَّ فاكهة نزلت من الجنة لقلتُ هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم".. وقد ذكر أن آدم خصف من ورقه ليستر عورته حين انكشفت في الجنة. وأما الزيتون فإنه شجرة مباركة كما جاء في التنزيل العزيز. وقد ذكروا أموراً أخرى لا داعي لسردها ههنا. ولا ندري هل لبدء السورة بالقسم بالشجر الذي يذكر أن له أصلاً في الجنة أعني التين له علاقة بعدد آيات هذه السورة أو لا؟ فإن عدد آيات هذه السورة ثمانية وهُنَّ بعددِ أبواب الجنة. قد يكون هذا القول خَرْصاً محِضاً وأنا أميلُ إلى ذلك، ولكنا قد وجدنا شيئاً من أنواع هذه العلاقات في القرآن. فقد تكرر - كما سبق أن ذكرنا - قوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] عند الكلام في وصف الجنة ثماني مرات بعدد أبواب الجنة، وحصل ذلك مرتين في السورة، وتكرر في الوعيد سبع مرات بعدد أبواب جهنم ابتداء من قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحن: 31] . وقالوا: إن سورة القدر ثلاثون كلمة بعدد أيام شهر رمضان، وإن قوله: (هي) في قوله تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: 5] هي الكلمة السابعة والعشرون، وهي إشارة إلى أن هذه الليلة هي الليلةُ السابعة والعشرون من رمضان. وعلى أي حال فإن كثيراً من هذه العلاقات ربما كانت موافقات والله أعلم. وقيل: إن المقصود بالتين والزيتون جبلان من الأرض المقدسة يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا اليتن والزيتون. والعلاقة بين التبين والزيتون وما بعدهما ليس ظاهرة على هذا إلا بتكلُّف. وقيل: "هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم عليه السلام. والثاني: طور سينين وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذي مَنْ دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً صلى الله عليه وسلم". وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "فأقسم سبحانه بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله، أصحاب الشرائع العظام والأمم الكثيرة. فالتين والزيتون المراد به نفس الشجرتين المعروفتين ومنبتهما وهو أرض بيته المقدس ... وهو مظهر عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى بن مريم. كما أن طور سينين مظهر عبده ورسوله وكليمه موسى، فإنه الجبل الذي كلمه عليه وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه. ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيد ولد آدم. وترقى في هذا القسم من الفاضل إلى الأفضل، فبدأ بموضع مظهر المسيح، ثم ثنى بموضع مظهر الكليم، ثم ختمه بموضع مظهر عبده ورسوله وأكرم الخلق عليه. ونظير هذا بعينه من التوراة التي أنزلها الله على كليمه موسى: (جاء من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران) . فمجيئه من طور سنياء بِعْثَتُه لموسى بن عمران، وبدأ به على حكم الترتيب الواقع، ثم ثنى بنبوة المسيح، ثم ختمه بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم". وهذا هو الراجح فيما أرى لأن المناسبة بين هذه المحالّ المُقْسَمِ بها ظاهرة على هذا. ثم لننظر إلى ترتيب هذه الأشياء المقسم بها. فقد بدأ بالتين فالزيتون. والزيتون أشرف وأفضل من التين فقد شهد الله له أنه شجرة مباركة قال: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [النور: 35] وهي فاكهة من وجه وإدامٌ من وجه وزيتها يُستعمَلُ في إنارة المصابيح والسُّرُج. ثم أقسم بطور سينين وهو أفضل مما ذكر قبله، فإنه الجبل الذي كَلَّم الربُّ عليه موسى وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه. ثم انظر من ناحية أخرى كيف وضع طور سينين بجوار الزيتون لا بجوار التين، وقد ورد ذكر الزيتون بجوار الطور في موطن آخر من التنزيل العزيز. قال تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [المؤمنون: 20] وهذه الشجرة هي شجرة الزيتون بإجماع المفسرين. قال الواحدي: "والمفسرون كلهم يقولون إن المراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون". ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة المكرمة: مكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين. وهو أفضل البقاع عند الله وأحبها إليه كما جاء في الحديث الشريف، فتدرَّجَ من الفاضل إلى الأفضل ومن الشريف إلى الأشرف. فأنت ترى أنه تدرّج من التين إلى الزيتون إلى طور سينين إلى بلد الله الأمين. فختم بموطن الرسالة الخاتمة أشرف الرسالات. وقد وصف الله هذا البلد بصفة (الأمين) وهي فصفة اختيرت هنا اختياراً مقصوداً لا يَسدُّ مَسدَّها وصفٌ آخر. فالأمين وصف يحتمل أن يكون من الأمانة، كما يحتمل أن يكون من الأمن. وكلا المعنيين مراد. فمن حيث الأمانة وُصِفَ بالأمين لأنه مكانُ أداء الأمانة وهي الرسالة، والأمانة ينبغي أن تؤدى في مكان أمين. فالرسالة أمانة نزل بها الروح الأمين وهو جبريل، وأداها إلى الصادق الأمين وهو محمد، في البلد الأمين وهو مكة. فانظر كيف اختير الوصف هنا أحسنَ اختيار وأنسبه. فالأمانة حملها رسولٌ موصوف بالأمانة فأداها إلى شخص موصوف بالأمانة في بلد موصوف بالأمانة. جاء في (روح المعاني) : "وأمانته أن يحفظ مَنْ دخله كما يحفظ الأمين ما يُؤتَمَنُ عليه". وأما من حيث ألامن فهو البلد الآمن قبل الإسلام وبعده، دعا له سيدنا إبراهيم عليه السلام بالأمن قبل أن يكون بلداً وبعد أن صار بلداً فقال أولاً: {رَبِّ اجعل هاذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] وقال فيما بعد: {رَبِّ اجعل هاذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] فهو مدعو له بالأمن من أبي الأنبياء. وقد استجاب الله سبحانه هذه الدعوة قال تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] . وقال: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] . فـ (الأمين) على هذا (فعيل) للمبالغة بمعنى الآمن. ويحتمل أن تكون (الأمين) فعيلاً بمعنى مفعول، مثل: جريح بمعنى مجروح وأسير بمعنى مأسور، أي: المأمون، وذلك لأنه مأمون الغوائل. جاء في (روح المعاني) : "الأمين فعيل بمعنى فاعل أي الآمن من أمُن الرجل بضم الميم أمانةً فهو أمين ... وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ... وأما بمعنى مفعول أي: المأمون من (أمنه) أي: لم يَخَفْهُ، ونسبته إلى البلد مجازية. والمأمون حقيقةً الناسُ، أي: لا تخاف غوائلهم فيه، أو الكلام على الحذف والإيصال أي: المأمون فيه من الغوائل". وجاء في (البحر المحيط) : "وأمين للمبالغة أي: آمنٌ مَنْ فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو من أمُن الرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين كما يحفظ الأمين ما يُؤتَمنُ عليه. ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل". وقد تقول: ولم اختار لفظ (الأمين) على (الآمن) الذي تردد في مواطن آخرى من القرآن الكريم؟ قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] . والجواب: أنه باختياره لفظ (الأمين) جمع معنيي الأمن والأمانة، وجمع معنى اسم الفاعل واسم المفعول، وجمع الحقيقة والمجاز، فهو أمينٌ وآمن ومأمون، وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة. ثم انظر إلى جواب القسم وهو قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} كيف تناسب مع المُقْسَمِ به تناسباً لطيفاً ولاءمه ملاءمة بديعة. فإنه أقسم بالراسالات على بداية الإنسان ونهايته فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وهذه بدايته، ثم قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وهذه نهايته. "ثم لما كان الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين منهم مَنْ أجاب ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين. فذكر حال الأكثرين وهم المردودون إلى أسفل سافلين" والآخرين وهم المؤمنون الذين لهم أجر غير ممنون. ولما كانت الرسالات إنما هي منهج للإنسان وشريعة له، كان الجواب يتعلق بالإنسان طبيعة ومنهجاً، فذكر طبيعة الإنسان في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وذكر المنهج في قوله: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} . وفي هذه إشارة إلى أن المنهج لا بد أن يكون متلائماً مع الطبيعة البشرية غير مناقض لها وإلا فشل. فكان الجواب كما ترى أوفى جوابٍ وأكمله وأنسب شيء لما قبله وما بعده. ثم انظر من ناحية أخرى إلى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فإنه أسند الخلق إلى نفسه ولم يَبْنِه للمجهول، وذلك أنه في موطن بيانِ عظيمِ قدرتهِ وحسن فعله وبديع صنعه فأسند ذلك إلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثلِ هذه المقام وفي مقام النعمة والتفضل بسند الأمر إلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثل هذا المقام وفي مقام النعمة والتفضل يسند الأمر إلى نفسه قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] . وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71-72] . فانظر كيف أسند الخلق في مقام النعمة والتفضّل إلى ذاته في حين قال: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28] ببناء الفعل للمجهول لما كان القصد بيان نقص الإنسان وضعفه. وقال: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] وق: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: 19-21] . فانظر إلى الفرفق بين المقامين. وقد مر شيء من هذا في موطن سابق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه أسند الخلق إلى نفسه لأن المقام مقام بيان منهج للإنسان، فأراد أن يبين أن واضع المنهج للإنسان هو خالق الإنسان ولا أحد غيره أعلم بما يَصلحُ له وما هو أنسب له، ولو بني الفعل للمجهول لم يفهم ذلك صراحة. فأنت ترى أن إسناد الخلق إلى ذات الله العالية أنسب شيء في هذا المقام. وقد تقول: ولِمَ أسند الرد أسفل سافلين إلى نفسه فقال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وهذا ليس مقام تفضّل ولا بيان نعمة؟ فتقول: إن هذا الإسناد أنسب شيء ههنا ولا يليق غيره، وذلك أنه أراد أن يذكر أن بيده البداية والنهاية، وأنه القادر أولاً وأخيراً لا معقب لحكمه يفعل ما يشاء في البداية والختام، وهذا لا يكون إلا بإسناد الأمر إلى ذاته العلية. ألا ترى أنه لو قال: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رُدّ أسفل سافلين) لكان يفهم ذاك أن هناك ردّاً غيره يفسدُ خلقته ويهدم ما بناه؟ ومعنى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أنه صيَّرهُ على أحسن ما يكون في الصورة والمعنى والإدراك وفي كل ما هو أحسن من الأمور المادية والمعنوية. وقال بعدها: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فجاء بـ (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي، لأن كونه أسفل سافلين لا يعاقب خلقه بل يتراخى عنه في الزمن، فهي من حيث الوقت تفيد التراخي، كما أنها من حيث الرتبة تفيد التراخي، فرتبة كونه في أحسن تقويم تتراخى وتبعد عن رتبة كونه في أسفل سافلين، فثمة بَوْنٌ بعيد بين الرتبتين فأفادت (ثم) ههنا التراخي الزماني والتراخي في الرتبة. واختلف في معنى {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فذهب قسم من المفسرين إلى أن المقصود به أرذل العمر، والمراد بذلك: الهرم وضَعْف القُوى الظاهرة والباطنة وذهول العقل حتى يصير لا يعلم شيئاً. ومعنى الاستثناء على هذا أن الصالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع يُكْتَبُ لهم في وقت شيخوختهم كما كان يكتب لهم في وقت صِحَّتِهم وقوتهم. وفي الحديث: "إنَّ المؤمن إذا رُدّ لأرذل العمر كُتِبَ له ما كان يعمل في قوته" وذلك أجر غير ممنون أي: غير منقطع. وذهب آخرون إلى أن المقصود به أسفل الأماكن السافلة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار. ومعنى الاستثناء على هذا ظاهرٌ، فالصالحون مستثنون من الرد إلى ذلك. وركز بعضهم على الخصائص الروحية. جاء (ظلال القرآن) : "والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية. فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرفُ عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها. فهو مهيأ لأن يبلغ من الرِّفعةِ مدى يفوق مقام الملائكة المقربين ... بينما هذا الإنسان مهيأ حين ينتكس لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} . حيث تصبح البهائمُ أرفعَ وأقوم لاستقامتها على فطرتها ... {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ، فهؤلاء الذين يبقون على سوء الفطرة ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح. ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها". وظاهر أن معنى الآية يتسع لكل ما ذكروه، وهي تفيد أيضاً أن حياة غير المؤمن نكد وغم، وعيشة ضنك وشقاء قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . فحياة هؤلاء هابطة سافلة بل هم في أسفل سافلين. ثم لننظر إلى الاستثناءء وهو قوله تعالى: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنه استثنى من الرد أسفل السافلين مَنْ آمن وعمل صالحاً ولم يزد على ذلك، فلم يقل مثل ما قال في سورة العصر: {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3] فبين لنا أالإيمان والعمل الصالح يمنعه من الرد أسفل السافلين. ولكن لا يمنعه من الخسران الذي يفوته فيما لم تواصى بالحق وبالصبر فإنَّ كل من ترك شيئاً من ذلك خسر شيئاً من الأجر الذي كان يربحه فيما لو فعله، فانظر الفرق بين الموطنين وبين الاستثناءين. جاء في (التبيان) : "وتأمل حكمة القرآن لما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] فإنه ضَيَّقَ الاستثناء وخصصه فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 3] ولما قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وَسَّعَ الاستثناء وعَمَّمهُ فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 3] ولم يقل: (وتواصوا) فإن التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله. فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح فصار في خسر، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين. فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة. وقد تكون فرضاً على الأعيان. وقد تكون فرضاً على الكفاية وقد تكون مستحبة. والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب، والحق الذي يُستحب، والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب والصبر الذي يُستحب. فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمرو غيرهم به. وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم. فمطلق الخسارة شيء والخسار المطلق شيء". ثم قال {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قيل: ومعنى غير ممنون غير منقوص ولا منقطع، وقيل: معناه غير مكدر بالمنّ عليهم. والحق أن كل ذلك مراد وهو من صفات الثواب، لأنه يجب أن يكون غير منطقع ولا مُنَغَّصاً بالمِنَّة. فقال: (غير ممنون) ليجمع هذه المعاني كلها، ولم يقل: غير مقطوع ولا نحو ذل فيفيد معنى دون آخر. ثم انظر كيف زاد الفداء في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ولم يفعل مثل في آية شبيهة بها وهي قوله: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الإنشقاق: 25] بدون فاء. وذلك لأن السياقين مختلفان. فسياق سورة الانشقاق أكثره في ذكر الكافرين، وقد أطال في ذكره ووصف عذابهم فقال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً * ويصلى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً * فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق * والليل وَمَا وَسَقَ * والقمر إِذَا اتسق * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ * فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ * بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 10-25] . في حين لم يزد في الكلام على المؤمنين عن قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الإنشقاق: 7-9] . فانظر كيف أطال في وصف الكافرين وأعمالهم وعقابهم، وأوجز في الكلام على المؤمنين، ولذا حذف الفاء من جزاء المؤمنين في سورة الانشقاق مناسبة للإيجاز، في حين لم يذكر الكافرين في سورة التين ولم يزد على أن قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} يعني الإنسان، وهو غير صريح في أن المقصود به الكافرون أو غيرهم كما أسلفنا. ثم انظر إلى كل من السورتين كيف تناولت الكلام على الإنسان. فقد بدأت سورة الانشقاق بذكر كدح الإنسان ومشقته ونصبه: {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق: 6] وتَوعَّده رَبُّه بركوب الأهوال والشدائد المتتابعة التي يفوق بعضها بعضاً في الشدة فقال: {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق * والليل وَمَا وَسَقَ * والقمر إِذَا اتسق * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الإنشقاق: 16-19] . في حين بدأ في سورة الين بتكريم الإنسان فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فناسب ذلك تأكيد استمرار أجره وعدم تنغيصه، وذلك بزيادة الفاء في التين دون الانشقاق. ثم قال بعدها: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} . والمعنى: أي شيء يجعلك أيها الإنسان مكذّباً بالجزاء بعد هذه الدليل الواضح؟ والمعنى: أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي مع تحويله من حال إلى حال، أوضح دليل على قدرة الخالق على الحشر والنشر فإن الذي خلقك أقدر على أن يعيدك بعد موتك وينشئك خلقاً جديداً، وأن ذلك لو أعجزه لأعجزه خلقك الأول. فانظر جلالة ارتباط هذا الكلام بما قبله. ثم انظر كيف استدل على الجزاء بالأدلة النقلية والعقلية. فالدليل النقلي هو ما أخبرت به الرسالات السماوية، وقد ذكر من هذه الرسالات كبراها وهي رسالات موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. والدليل العقلي هو الاستدلال بخلق الإنسان في أحسن تقويم وتدريجه في مراتب الزيادة والنقص. ثم انظر كيف اختار كلمة (الدين) ولم يختر كلمة الجزاء أو الحساب أو النشور ونحوها، وذلك لما تقدم ذكر مواطن الرسالات ناسب ذلك ذكر الدين، لأن هذه أديان، ولأنه قد يراد بذلك معنى (الدين) علاوة على معنى الجزاء. والمعنى أي شيء يجعلك مكذباً بصحة الدين بعد هذه الأدلة المتقدمة؟ فالذي خلقك في أحسن تقويم يرسم لك أحسن منهج تسعد به في الدنيا وفي الآخرة. فجمعت كلمة (الدين) معنى الدين ومعنى الجزاء في آن واحد، ولو قالك فما الذي يكذبك بالجزاء لم يجمع هذين المعنيين. فأنت ترى أنه اختار كلمة (الدين) لتقع في موقعها المناسب لها تماماً. ثم قال بعدها: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} . و (أحكم الحاكمين) يحتمل أن يكون معناه أعظم ذوي الحكمة وأحسنهم تدبيراً، ويحتمل أن يكون معناه، أقضى القاضين، لأن (حكم) يحتمل أن يكون من الحكمة، ويحتمل أن يكون من القضاء وهو الفصل في المحاكم. وعلى الوجه الأول يكون المعنى: أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صُنعاً وتدبيراً وأن حكمته بالغة لا حدود لها. وإذا تبين أن الله سبحانه أحكم الحاكمين - وهو بَيِّنٌ - تعَيَّنت الإعادة والجزاء لأن حكمته تأبى أن يُتركَ الإنسان سدى ولا يحاسب على أعماله، فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ وهل ذلك إلا قَدْحٌ في حكمه وحكمته؟ وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: أليس الله بأقضى القاضين فيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، كما قال تعالى: {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] . فانظر قوة ارتباط هذه الآية بما قبلها على كلا الوجهين، فإن حكمته تقتضي الإعادة والجزاء. والجزاء والفصل بين الخلائق يقتضي وجود قاضٍ، بل يقتضي وجود أقضى القاضين. فجمع بهذه العبارة معنيين: القضاء والحكمة، بل لقد جمع معاني عدة بهذا التعبير، إذ كل لفظ من (أحكم الحاكمين) يحتمل أن يكون بمعنى القضاء والحكمة فيكون قد جمع أربعة معان كلها مرادة وهي (أحكم الحاكمين) بمعنى: أكثرهم حكمة و (أقضى الحكماء) و (أقضى القضاة) (وأحكم القضاة) . فاظر كيف جمع أربعة معان تؤدى بأربع عبارات في عبارة واحدة موجزة. ولو قال: (أقضى القاضين) لدلت على معنى واحد. ثم انظر كيف جعل ذلك بأسلوب الاستفهام التقريري ولم يجعله بالأسلوب الخبري فهو لم يقل: (إن الله أحكم الحاكمين) ولا نحو ذلك، وإنما قرر المخاطب ليقوله بنفسه وليشترك في إصدار الحكم فيقول: بلى {وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} [الأنبياء: 56] . ثم انظر إلى ارتباط خاتمة السورة بفاتحتها، فإن فاتحة السورة في ذكر مواطن الراسالات العظمى وارتباطها بخاتمتها واضحٌ بيّن، فإن الذي أنزل هذه الشرائع العظيمة وما تضمنته من أحكام سامية هو أحكم الحاكمين. ثم انظر إلى التنسيق الجميل في اختيار خواتم الآي، فإن خاتمة كل آية اختيرت لتجمع عدة معان في آن واحد. فاختيرت (الأمين) لتجمع معنيي الأمن والأمانة، (وأسفل سافلين) لتجمع معنى أرذل العمر ودركات جهنم السفلى. و (غير ممنون) لتجمع معنى غير مُنْقَطعٍ ولا مُنَغَّصٍ بالمِنَّة عليهم، وكلمة (الدين) لتجمع الجزاء والدين، و (أحكم الحاكمين) لتجمع الحكمة والقضاء. فانظر هذه الدقة في الاختيار وهذا الحُسْنَ في التنسيق. أليس الذي قال ذلك بأحكم الحاكمين؟ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. المراجع - الإتقان في علوم القرآن للسّيوطي، ط3، 1370هـ، 1951م. - الإعجاز العددي للقرآن الكريم، عبد الرزاق نوفل، ط3. - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، ط6، 1375هـ، 1956م، مطبعة الاستقامة في القاهرة. - أنوار التنزيل، القاضي البيضاوي، المطبعة العثمانية، 1305هـ. - الإيضاح للقزويني، تحقيق وتعليق لجنة من أستاذة كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر، مطبعة السنة المحمدية. - البحر المحيط لأبي حيان، ط1 سنة 1328هـ، مطبعة السعادة بمصر. - بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية، الطباعة المنيرية. - بديع القرآن لابن أبي الأصبع المصري، تحقيق حفني شرف، ط1، مكتبة نهضة مصر. - البرهان في علوم القرآن لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، ط1، 1376هـ، 1957م، دار إحياء الكتب العربية. - البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان، محمد بن حمزة الكرماني، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حققها الطالب ناصر بن سليمان العمر، مكتوب بالآلة الكاتبة. - البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن، الزملكاني. تحقيق الدكتورة خديجة الحديثي والدكتور أحمد مطلوب، مطبعة العاني، بغداد، ط1، 1394هـ -1974م. - البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هرون، ط2، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة ومكتب الهلال ببيروت. - تاج العروس شرح القاموس لمحمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، تصوير، الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية بمصر، سنة 1306هـ. - التبيان في أقسام القرآن لابن القيم، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1994م بتحقيق عصام فارس الحرستاني. - تحرير التحبير لابن أبي الإصبع المصري، تحقيق حفني شرف، نشر لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة. - تسهيل السبيل في فهم معاني التنزيل لمحمد تاج الدين أبي الحسن البكري، مخطوطة بمكتبة الأوقاف ببغداد برقم 2320. - التصوير الفني في القرآن، سيد قطب. - التعبير الفني في القرآن، الدكتور بكري شيخ أمين، دار الشروق، 1393هـ - 1973م. - التفسير القيم لابن القيم، جمع محمد أويس الندوي، مطبعة السنة المحمدية، 1386هـ - 1973م. - التفسير الكبير لفخر الدين الرازي، المطبعة البهية، مصر. - تفسير ابن كثير، طبع بدار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه. - حاشية الصبان على شرح الأشموني، دار إحياء الكتب العربية. - حاشية يس على شرح التصريح للشيخ يس بن زيد الدين العليمي الحمصي، طبعت مع شرح التصريح، دار إحياء الكتب العربية. - حاشية ابن المنير على الكشاف، طبعت مع الكشاف. - دراسات في اللغة للدكتور إبراهيم السامرائي، مطبعة العاني، بغداد، سنة 1961م. - درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب الإسكافي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1393هـ - 1973م. - روح المعاني في تفسير القرآن الكريم لشهاب الدين السيد محمود الآلوسي، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي. - سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن إسحاق، هذبها ابن هشام، تحقيق ممحد محيي الدين عبد الحميد، نشر محمد علي صبيح وأولاده، مطبعة المدني، 1383هـ - 1963م. - شرح التصريح على التوضيح لخالد بن عبد الله الأزهري، دار إحياء الكتب العربية. - شرح الدماميني على مغني اللبيب، طبع بهامش حاشية الشمني على معني اللبيب، المطعبة البهية بمصر. - الطراز ليحيى بن حمزة العلوي، مطبعة المقتطف بمصر سنة 1232هـ - 1914م. - فتح القدير لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ط1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، سنة 1349هـ. - في ظلال القرآن لسيد قطب، الطبعة الأولى. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل لجار الله الزمخشري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1367هـ - 1948م. - لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري، مصور على طبعة بولاق. - مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي، كتا بفروشي إسلامية، طهران. - معاني الأبنية في العربية للدكتور فاضل صالح السامرائي، ط1، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان، الأردن 2004م. - معاني النحون، الدكتور فاضل صالح السامرائي، مطبعة التعليم العالي في الموصل، العراق. - معتكر الأقران في إعجاز القرآن لجلال الدين السّيوطي، تحقيق محمد علي البجاوي، دار الثقافة العربية للطباعة. - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. - المفردات في غريب القرآن لأبي القام الحسيني بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، طهران. - ملاك التأويل القاطع بذي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل لأبي جعفر أحمد بن الزبير الغرناطي، تحقيق الدكتور محمود كامل أحمد، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1405 هـ - 1985م. - من بلاغة القرآن، أحمد أحمد بدوي، مطبعة لجنة البيان العربي. - همع الهوامع شرح جمع الجوامع لجلال الدين السّيوطي، ط1، سنة 1327هـ، مطبعة السعادة بمصر.